وحيدا في مواجهة أصحاب المعاطف البيضاء
تورطت في قبول دعوة كريمة بأن أكتب مقالا في مجلة طبية متخصصة تصدر تحت إشراف أحد أكبر الصروح الطبية في منطقة الشرق الأوسط، هو مستشفى الملك فيصل التخصصي ومركز الأبحاث بمدينة جدة، وقد وجدت نفسي في تلك المجلة غريبا وسط أصحاب المعاطف البيضاء، الذين كتبوا عن السرطان والصرع وسلس البول وزراعة الأعضاء وسوء التغذية، بينما انتحيت أنا جانبا قصيا عنهم أكتب عن صولات وجولات المعلم «أبو سداح» الطبية، كرمز من رموز العلاج البدائي في مدينة جدة قبل أن تغدو واحدة من أبرز المدن في مجال السياحة العلاجية.
في ذلك المقال اضطررت أن اتبع المثل: «دارهم ما دمت في دارهم» فتجنبت الإسهاب في الحديث عن العم «أبو سداح»، الذي كان طبيب المدينة وحلاقها و«مجبرا» خواطرها وكسورها، خاصة ما يتصل بموقفه العدائي من الأطباء، الذين أحدثوا انقلابا ضده، بعد أن كان ملء سمع تلك المدينة وبصرها وأوجاعها وأنينها..
كان أبو سداح ـ رحمه الله ـ حلاقا شعبيا له صالونه المتواضع في قلب مدينة جدة حتى منتصف القرن العشرين تقريبا، يلجأ إليه الناس ـ قبل عصر المستشفيات ـ لعلاج أمراضهم المتفشية آنذاك كالحصبة والجدري والرمد والصدفية وغيرها، كما اعتاد أن يخصص يوما في الأسبوع لختان الأطفال تجري فيه الدماء على أرضية الصالون أنهارا.. لكن تكالبت على الرجل المحن والحظوظ العواثر حينما شهدت تلك المدينة ظهور أول طبيب هندي يتبع قنصلية بلاده، يتجول في الطرقات على صهوة جواد أبيض، وبجواره حقيبة الأدوية، يعالج الناس في دورهم بأدوية حديثة غير «الشمر»، و«الزنجبيل»، و«الكمون» التي شكلت مفردات «أبو سداح» العلاجية.. فنشأت على أثر قدوم ذلك الطبيب الهندي أول معركة ضارية قادها أبو سداح والعطارون في المدينة ضد ذلك الطبيب، الذي عطل مصالحهم، وهدد وجودهم، فقاطعوا كل من تسول له نفسه من الأهالي التعامل مع ذلك الطبيب الهندي.
ولم يكد أبو سداح يشفى من تلك الضربة، حتى تلقى ضربة أخرى بطلها مركب أسنان لقبه «الشرقاوي»، سلم له سكان المدينة أضراسهم، فبدت على ثغورهم تلك الأسنان الذهبية اللامعة، فثار أبو سداح ـ وهو الذي كان معنيا بخلع الأضراس ـ ضد الميوعة التي جعلت الناس يغطون أسنانهم التي ضربها السوس بالمعادن البراقة بدلا من خلعها، أو يطلقون شعورهم تنسدل إلى خارج «الطواقي» بعد أن كانوا يحلقونها في صالونه بالموسى أسبوعيا.
وقد مات أبو سداح واقفا كما تموت الأشجار، بعد أن عاش وحيدا في مواجهة أصحاب المعاطف البيضاء، من دون أن يظفر خصومه ـ من الأطباء ـ بفرصة الكشف عليه.. فلقد تحمل الرجل بصلابة آلام شيخوخته، ورحل عن الدنيا، وهولا يزال متمسكا بحقه في عرش هذه المدينة الطبي الذي حاول أصحاب المعاطف البيضاء إنزاله منه.. رحمه الله.
----------
منقـــول
مواقع النشر (المفضلة)