ابو راشد اعضاء منتدانا تعالو نشوف اللغة ظاهرة اقتصادية !
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
د. مشاري عبدالله النعيم
كنا مجموعة من الأكاديميين نتحدث عن التعليم باللغة الانجليزية الذي صارت تتفاخر به الجامعات والكليات الخاصة، بل حتى المدارس الخاصة صارت تسوق لنفسها من خلال التركيز على هذه اللغة، وكان تعليق احد عشاق العربية هو انه يجب ان نشجع التعليم بالعربية مهما كانت الأسباب، فدونها لن يبقى لنا كيان أو وجود، وتحولنا إلى التعليم باللغة الانجليزية يعني بشكل أو بآخر ذوباننا في الآخر وضياع لهويتنا.
(1)
لقد أعادني هذا الحديث لحوار ساخن جرى في لقاء مؤسسة الفكر العربي العام الفائت في بيروت فقد كان الحديث حول العربية مؤثرا ويدق ناقوس الخطر، وقد وجه لنا على وجه التحديد (اقصد السعوديين) نقدا حادا كوننا بلد الحرمين ومهد العربية ونحن من اشد المناصرين للتعليم باللغة الانجليزية. في ذلك اللقاء حاولت على المستوى الشخصي ان أبين اننا في السعودية نناصر العربية ولا نجد لها بديلا وأن التعليم هو حالة "اقتصادية" بحتة تتطلب إتقان اللغة الانجليزية، ففي وقتنا الحاضر اصبح العالم كله يتحدث هذه اللغة، ولا يعني هذا اننا سنستبدل العربية ابدا. على أن الحديث لايخرج عن العاطفة حقيقة فالمسألة ابعد من ذلك بكثير، فاللغة في جوهرها ظاهرة اقتصادية بحتة، ولا تتطور إلا في ظل نمو وازدهار اقتصاديين، وهو الأمر الذي يعني بشكل أو بآخر أهمية ان تنمو المجتمعات العربية إذا ما أردنا للعربية التطور. قبل فترة وجيزة نشرت الصحف تحذيرا من دخول المصطلحات الأجنبية للعربية واكد بعض المتخصصين ان هذا قد يهدم العربية، ورغم انني لم اقتنع بهذا التحذير مطلقا، لأن العربية أساسا منفتحة على اللغات الأخرى حتى قبل الإسلام والدليل وجود كلمات أعجمية في القرآن، وهو الأمر ان لغتنا قادرة على التزاوج وعلى استيعاب الألفاظ الجديدة لكنها بحاجة إلى من يعمل ومن يرى ان هذا العمل جزء من الحياة. المصطلحات لا تنمو إلا مع العمل والابتكار، وهو الأمر الذي يجب ان نخاف على العربية منه، فلا يوجد عمل وليس هناك ابتكار في المنطقة العربية فكيف يمكن للغتهم ان تتطور وان تصبح لغة حضارة، فعندما كانوا كانت.
(2)
وصلني على سبيل المداعبة بريد الكتروني يبين ان الاتحاد الأوربي تبني اللغة الانجليزية كلغة لأوربا بدلا من الألمانية وسوف تسمى اللغة الجديدة (يرو - إنجلش) وستمر هذه اللغة الانجليزية بخمس مراحل حتى يمكن للأوربيين قراءتها وفهمها بحيث سيتم تطوير أسلوب الكتابة وستغير فيها كل الحروف التي تنطق بطريقة مختلفة مثل C. W. TH وغيرها بحروف اقرب لنطقها واحتوى البريد على أمثلة كثيرة تبدو مضحكة للوهلة الأولى إلا أنها من وجهة نظري تبين مرونة اللغة الانجليزية ومقدرتها على التكيف واستيعاب كل جديد. اللغة يجب ان تكون كائنا حيا وإلا سوف تموت أو سوف تتحول إلى صورة متحفية ولا اعتقد ان أحدا يرضى للعربية هذا المصير. منذ فترة طويلة يردد بعض المهتمين ان العربية بحاجة الى أن تتطور على المستوى "الكتابي" ويعتقدون أنها يجب ان تكتب كما تنطق بحيث تدمج النقاط الحركات في الكتاب فتصبح قواعد اللغة سهلة ويمكن تعليمها بطريقة أفضل. على ان هناك من يرى ان في هذا مساسا بحرمة العربية، ولا اعلم من أين أتونا بهذه الحرمة، ويعتقدون ان شكلها مقدس رغم انه تطور في القرون الأولى فلم تكن هناك نقاط وكلنا نعلم ان أبا الأسود الدؤلي هو من وضع النقاط على الحروف، إذن لماذا لا نتطور ولم لانفتح الباب لهذا التطور؟
(3)
عندما كان العرب قادة للعالم كانت لغتهم هي مصدر المصطلحات وكانت لغة العلوم وعندما كانوا يملكون مفتاح النمو الاقتصادي كانت لغتهم هي السائدة وهي المرجع الذي لا غنى لأحد عنه. اللغة لا تتطور دون اقتصاد ومن يقول غير هذا فهو واهم. كنا قبل عدة أيام في مدينة دبي في اللقاء الثاني لمجموعة من المهتمين بالتعليم المعماري في العالم الاسلامي، وكان الحديث هذه المرة مركزا على البيئة الثقافية للتعليم، لأنها المساحة التي تلتقي فيها العوامل السياسية بالمجتمع بالاقتصاد، وهي عوامل أساسية في التعليم بشكل عام والمعماري على وجه الخصوص. لقد تحدثت واحدة من طاجيكستان (وهي مكلفة بدراسة وسط اسيا) وقالت انه عندما تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991م عادت طاجيكستان، إلى اللغة الطاجيكية وظهر مجموعة من المفكرين ينادون بتعليم العربية كونها لغة القرآن، إلا انه مع الوقت عادت طاجيكستان للروسية فقد وجد اغلب الطاجيك أنفسهم دون غطاء اقتصادي وإذا لم يتعلموا الروسية فلن يجدوا عملا ذا قيمة في بلادهم. بالنسبة لي كان الأمر محزنا لأننا لا نستطيع مساعدة احد حتى أولئك الذي يرغبون في تعلم العربية، فقد فقدنا دورنا الأساسي حتى مع من يجب ان نقف بجانبهم، لكني عندما فكرت أننا لا نستطيع حماية العربية في ديارنا، قلت اننا نمر بفترة تاريخية عصيبة يجب ان نراجعها بشفافية وأن نضع حلولا لها ليس عبر مجمعات العربية المحنطة التي لا تغني ولا تسمن من جوع بل من خلال "التنمية" واقولها صراحة ان بقاء العربية وتطورها لن يكون إلا من خلال النمو الاقتصادي. فنحن لا نتوقع من الشباب ان يتعلم العربية ويتقنها وهي غير مطلوبة اقتصاديا فنحن لم نسمع عن وظيفة طلب فيها اتقان اللغة العربية إلا إذا كانت تنتمى للتاريخ فكيف بربكم نتوق ان العربية تبقى وتتطور وتكون لغة العلوم وهي ليست ذات تأثير على الحياة اليومية وعلى رفاهية من يتحدثها. وما اعتقده هو اننا يجب ان نتخلص من العاطفة، ومن التواكل فالقناعة هي ان العربية محفوظة فالله الذي نزل الذكر وهو من سيحفظه، وهي قناعة غريبة لأن الله أمرنا بالعمل وقد ذكر ذات مرة احد علماء العربية وهو من جامعة الملك سعود لكن لا يحضرني اسمه وكان ذلك في احد المؤتمرات المهمة حول العربية ان الآية الكريمة لا تعني ابدا ان العربية محفوظة وخالدة دون عمل، فالأمر مسبب، وسواء كان رأيه صحيحا او انه يريد ان يحذر متحدثي العربية بأن عليهم ان يعملوا اكثر من اجل هذه اللغة الجميلة فإن الأمر بالنسبة لنا سيان.
(4)
علينا ان نتخيل ماذا يجري في عالم اليوم، فالثقافات تتقارب بصورة لا يمكن تخيلها، ولن يكون هذا التقارب دون تأثير فبالتأكيد أن الثقافة الأقوى هي من ستملك ناصية العالم، والثقافة العربية في حالتها الحالية تبدو للكثير كصورة يمكن التفرج عليها والاستمتاع بها لوهلة فهي تنتمي للماضي أكثر من الحاضر والمستقبل، وكل ما هو تابع للماضي قد يكون مغريا للمشاهدة لكنه ليس بالضرورة ان يكون له مكان في عالم اليوم. عندما كنا نتحدث عن التعليم باللغة الانجليزية في الجامعات الخاصة نهاية الأسبوع الفائت وكان بمشاركة من بعض الأكاديميين السعوديين قلت كيف نتحدث عن العربية ونحن لا تقبل ترقياتنا الأكاديمية إلا إذا كانت بحوثنا باللغة الانجليزية. كيف بربكم يمكن ان تتطور العربية ونحن نقصيها عمدا عن مجالات البحث العلمي وننظر لمن يكتب بالعربية على انه "درجة ثانية"، وانا اذكر على المستوى الشخصي انه قد واجهتني مشكلة عندما قدمت للترقية إلى استاذ مشارك فمن الملاحظات اني اكتب العربية اكثر من الانجليزية، فقد أصبح من "العيب" ان انشر باللغة العربية في المجال العلمي، فهذه اللغة لم تعد لغة العلوم. الأمر المضحك هو ان اغلب مراكز الدراسات العربية، والتي تهتم بثقافة وعمارة العرب تفضل النشر بالانجليزية، فجمعية الدراسات العربية وندوة الدراسات العربية وكلها في لندن لغتها انجليزية كما ان مركز الدراسات المعمارية العربية وهو مركز وليد مقره الأردن ويقوم عليه بعض الزملاء يفضل الانجليزية ومؤتمراته غالبا ما تكون بهذه اللغة. العربية غريبة بين أهلها فكيف يمكن ان يكون لها مستقبل.
(5)
المعرض الدولي للكتاب الذي يقام حاليا في مدينة الرياض مناسبة للتذكير بأهمية العربية، والكتاب احد القنوات التي يجب ان توظف لإعادة الاهتمام بهذه اللغة، على ان الامر اكبر من هذا فتقنيات التعليم أصبحت اكثر ارتباطا باللغة فقد كان هناك وفد من وزارة التعليم العالي يزور جامعة الأمير محمد بن فهد بالخبر وقامت الجامعة بعرض تقنيات تعليم اللغة الانجليزية المتطورة جدا حتى ان التفاعل المباشر بين الاستاذ والطالب يكاد يكون شاملا فالسبورات الذكية وارتباطها بالحاسوب عند الطالب والأستاذ بشكل آني ووجود برامج لا عد لها ولا حصر على الشبكة العنكبوتية المجانية التي تدعم تعليم اللغة الانجليزية هو ما يجعلها لغة العالم اليوم. العربية تحتاج مثل هذه التقنيات حتى تستطيع مواكبة العصر (وهي تقنيات ذات مردود اقتصادي ولم تتطور إلا لكونها حاجة اقتصادية ضرورية وهو ما يفسر بدائية تقنيات تعليم العربية). ولعل معرض تقنيات التعليم العالي الذي سيقام في الرياض الأسبوع القادم يهتم بالعربية كلغة للعلوم بدلا من الاندفاع نحو اللغة الانجليزية التي حتى وإن كانت مهمة إلا انها يجب ان لا تكون هي الأساس الذي ننشئ عليه أبناءنا وبناتنا. من الضروري ان نستفيد من التقنيات التي طورت لتعليم اللغة الانجليزية فهي ملك للإنسانية ويمكن ان نتعلم منها الكثير لتطوير تعليم العربية.
(6)
وانا قادم من دبي قررت ان اشتري كتاب "رؤيتي" للشيخ محمد بن راشد، حاكم دبي، فقد سمعت انه كتاب مهم، ولم اكن قرأته، وفعلا فقد كان معروضا في مطار دبي وقرأت جزءا كبيرا منه في الطريق، فالكتاب مهم فعلا وسهل القراءة، على ان ما لفت نظري هو عمق الأفكار المطروحة فالشيخ محمد يرى ان اللغة ظاهرة اقتصادية وان تطور اللغة هو نتيجة لتطور الاقتصاد، وقد لفت نظري هذا القول لأني عندما سمعت الفتاة الطاجيكية تتحدث عن عودة الطاجيك للغة الروسية أخذت ورقة وكتبت عليها "اللغة: ظاهرة اقتصادية" ووضعتها بين الأوراق كي تكون موضوع مقال جريدة "الرياض". اللغة دون اقتصاد تظل حالة محلية كأي لغة محلية على ان العربية وجدت لتكون لغة عالمية فرسالتنا عالمية ودورنا عالمي وما لم يكن هناك حافز يجعل من العربية ذات قيمة اقتصادية ستتحول هذه اللغة إلى مجرد لغة لا تخرج عن نطاقها المكاني بل وستكون مشوهة جدا وهي في محليتها كونها تقبل المستورد ولا تنتج أي مصطلح أصيل.
(7)
الدفاع عن العربية ذكرني بمن يضرب رأسه في الجدار يريد ان يكسره، بينما سينكسر رأسه في النهاية. أحيانا اشعر ان الحديث عن العربية هو نفخ في قربة مقطوعة لأن لا حياة لمن تنادي، فوضعنا قبل عشرة أعوام افضل من الان بكثير واخشى ان يكون وضع العربية الآن افضل منه في المستقبل لأن الشعور بالمسؤولية ضعيف بل قد يكون من كان متمسكا بالعربية قد شعر بخطئه الفادح وقرر التغيير فقد سمعت ان الجامعات الخاصة في سوريا وهي بلد محافظة على العربية وتشد عليها بالنواجذ، اقول ان الجامعات الخاصة هناك قررت التعليم باللغة الانجليزية وعدم السماح للعربية بالدخول. العربية تحارب في معاقلها وتقتحم في حصونها ولا احد يتحرك، ونقول بعد ذلك إننا امة رائدة وتستحق الحياة؟ اتذكر ببعض الأسى عندما كنت في بداية دراستي الجامعية وكنا ندرس باللغة الانجليزية كيف اني واحد الزملاء من جامعة الملك فهد قررنا ان نؤسس جمعية للدفاع عن العربية ولم نعرف كيف نفعل ذلك ومرت السنوات وغاب الحلم وبقيت الحسرة، فالعربية تستحق منا أكثر من مجرد الأحلام.
___________
منقـــــــــــــول
رد مع اقتباس
مواقع النشر (المفضلة)