بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


فصل الخطاب في حكم التلاقي والخطاب

( الرجل والمرأة )


الحمد لله وكفى ، وسلام على عباده الذين اصطفى ، وبعد :

فإن السؤال يكثر عن قضايا تلاقي أفراد المجتمع فيما بينهم ، وآكد مسألة يدخل فيها الخطأ والخلط ؛ مسألة لقاء الرجل والمرأة ، هل يحل للمرأة لقاء الرجل ؟ وكيف يكون ذلك ؟ فالناس في هذا بين مُفْرِطٍ في الورع ووجوبه على الناس ،فخلط كثراً كما سيظهر من حلال البحث بين مسألة الخلوة وبين ما عداها ، ومُفَرِّطٍ ضَيَّع الأحكام ، وسيب الأمور ، وجعل من هواه القدوة والمثل ، فالكلام في هذا الخطاب الوجيز يسعى إلى تجنب كلا الفريقين ، وذلك بتبيان الحدود المشروعة ، وأما من أحب الزيادة على ذلك على أنه ورع فلا بأس ، مع تجنب الغلو حتى في جانب الورع ، لأن ما زاد عن حده انقلب إلى ضده ، أقول وبالله التوفيق :

العلاقة بين الناس في المجتمع ، واللقاء فيما بينهم أمر جائز مطلقاً ، وهذا الجواز ينطبق على الرجل والمرأة ؛ على أن يكون لقاءً منضبطاً بأحكام الشريعة التي تحكم هذا اللقاء، وأهم هذه الأحكام التي ينبغي التنبه إليها :

أ ـ الحجاب ( بالنسبة للمرأة ) : والحجاب هو ما ينبغي إسداله على عورة المرأة لمنع ظهور تلك العورة .

وقبل الحديث عن الحجاب لا بد من ذكر المعتمد في بيان عورة المرأة وهذي بعض النقول مما قاله الفقهاء عن العورة :

قال الشافعي ـ في كتابه الأم 1/ 89 :

كل المرأة عورة إلا كفيها ووجهها وظهر قدميها .

وقال النووي (محقق المذهب الشافعي) ـ المجموع : 3/170 ـ :

وأما الحرة فجميع بدنها عورة إلا الوجه والكفين لقوله تعالى : ( ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها ) [سورة النور ] قال ابن عباس : «وجهها وكفيها» ولأن النبي صلى الله عليه وسلم «نهى المرأة الحرام عن لبس القفازين والنقاب» ولو كان الوجه والكف عورة لحرم سترهما ولأن الحاجة تدعو إلى إبراز الوجه للبيع والشراء، وإلى إبراز الكف للأخذ والعطاء فلم يجعل ذلك عورة ، وكذا في المهذب : 1/ 64


ويقول ابن حجر الهيتمي (في شرح المقدمة الحضرمية) المنهاج القويم ص: 233 :

عورة الحرة الصغيرة والكبيرة في صلاتها وعند الأجانب ولو خارجها جميع بدنها إلا الوجه والكفين ظهراً وبطناً إلى الكوعين لقوله تعالى : (ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها) وما ظهر منها أي وجهها وكفاها وإنما لم يكونا عورة حتى يجب سترهما لأن الحاجة تدعوه إلى إبرازهما وحرمة نظرهما .

وكذا يقول الرازي ( من الحنفية ) في تحفة الملوك ص: 63 :

عورة الحرة البالغ جميع بدنها وشعرها عورة إلا الوجه والكفين والقدمين

ويُكتفى بهذه النقول رغبة عن الإطالة، فما تقدم يدل على المقصود في الدلالة على العورة.

ومنه يُؤخذ أن بدن المرأة عورة كله إلا الوجه والكفين ، والقدمين على ما قرره الحنفية .

أما صوتها فالراجح من النقول أنه ليس بعورة ، أما الفقهاء الذين ورد في كتبهم وصف الصوت بأنه عورة فذلك من قبيل الخلط بين لفظة الفتنة ولفظة العورة ، وسيأتي الحديث مفصلاً .

أما الساتر للعورةفهو كل ما يحول بين الناظر ولون البشرة ، فلا يكفي الثوب الرقيق الحاكي للون البشرة، ولا الماء الصافي ولا الزجاج . (الوسيط لأبي حامد الغزالي 2/175)

قال النووي (روضة الطالبين) ـ 1/284 ـ :

فرع في صفة السترة والستر : ويجب ستر العورة بما يحول بين البشرة ـ أي والنظر ـ فلا يكفي الثوب الرقيق ؛ الذي يشاهد من ورائه سواد البشرة وبياضها ، ولا الغليظ المهلهل النسج ؛ الذي يظهر بعض العورة من فُرَجه ، ولو ستر اللون ووصف حجم البشرة فلا بأس ( هذا فيما لم يجد غيره ) .

مع الانتباه إلى أن هذا كله في حال أُمنت الفتنة ( والفتنة : من الابتلاء والاختبار ) والمراد حصول مسبباتها، وإن لم تُؤمن الفتنة فحينها يجب حتى ستر ما يحل كشفه من الوجه والكفين .

ب ـ عدم الخلوة :

وذلك لأن صلى الله عليه وسلم قال: ((لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما)) رواه الترمذي : 3/474 ، وفي الحديث أيضاً : ((لا يخلون رجل بامرأة إلا مع ذي محرم )) رواه مسلم : 1341 ، 2/978.

وهذا ينطبق على كل أجنبي ، كذا الخاطب أيضاً .

أما الخلوة التي قصدها رسول الله صلى الله عليه وسلم ـ كما بين ذلك الفقهاء هي : إسدال الستور وإغلاق الأبواب بحيث يؤمن دخول أحد إلى المكان إلا بإذن مع أمن النظر إليهما ، والأمر سواء بين كون المكان خاصاً أو عاماً. انظر المغني لابن قدامة : 7/74، إعانة الطالبين للدمياطي : 2/257 .

أما أن يكون المكان مفتوحاً للداخلين أو الطريق للمارة ، فلا تعتبر خلوة عند ذاك . جاء في حديث رواه البخاري ومسلم ، واللفظ هنا لمسلم ، عن أنس رضي الله عنه ، أن امرأة كان في عقلها شيء فقالت : يا رسول الله إن لي إليك حاجة ، فقال : ((يا أم فلان، انظري أي السكك شئتي حتى أقضي لك حاجتك ، فخلا بها في بعض الطرق حتى فرغ من حاجتها )) مسلم :5998 ، 15/82 ،

قال النووي ـ في شرح الحديث ـ : أي وقف معها في طريق مسلوك ليقضي حاجتها ويُفْتِهَا في الخلوة ، ولم يكن ذلك من الخلوة بالأجنبية ، فإن هذا كان في ممر الناس ومشاهدتهم إياه وإياها ، لكن لا يسمعون كلامها لأن مسألتها مما لا يظهر . والله أعلم .

ومثل ذلك جاء في شرح ابن حجر على صحيح البخاري ـ فتح الباري 9/413 ، 414 ـ باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس .

قال : أي لا يخلو بها بحيث تـحتجب أشخاصهما عنهم ، بل بحيث لا يسمعون كلامهما إذا كان مما يخافت به ، كالشيء الذي تستحي المرأة من ذكره بين الناس ، وقد سمع أنس ـ كما في رواية البخاري ـ آخر الكلام (( والله إنكم لأحب الناس إلي ـ أي الأنصار ))

ثم يقول ابن حجر : وفيه أن مفاوضة المرأة الأجنبية سراً لا يقدح في الدين عند أمن الفتنة ، ولكن كما قالت السيدة عائشة رضي الله عنها : ( وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله يملك إربه ) رواه البخاري : 296 ، 1/115 .

ويتضح مما سبق بيانه أن الخلوة غير جائزة ، أما إذا كان اللقاء لحاجة أمام الناس أو في ممر الناس فلا بأس