الحمد لله الذي سهل لعباده المتقين إلى مرضاته سبيلا، وأوضح طريق الهداية وجعل أتباع الرسول عليها دليلا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أدخرها عند الله عدّة ليوم الدين، وأشهد أن محمدا عبده المصطفى، ونبيه المرتضى، ورسوله الصادق الأمين.


أما بعد: فهذه نتف قطفتها من حديقة علماء الأثر، أحببت أن أنشرها في شبكة سحاب الشرف، فيها بعض آداب طالب العلم التي بعضها واجب، والآخر يحسن أن يتحلى بها سالك طريق السلف، ولا يخفى على العروف منزلة الأدب من الإسلام، وحاجة الطالب إليه في كل حين وآن، ومن الآداب ما يؤخذ بقراءة الكتب المصنفة في هذا الباب، ومنه ما يؤخذ من مجالس أهل العلم كما قال مهنا: صاحبت أبا عبد الله[أي الإمام أحمد] فتعلمت منه العلم والأدب. وجاء في السير للذهبي عن عبد الله بن وهب قال: ما نقلنا من أدب مالك أكثر مما تعلمنا من علمه. ولقد كان أئمة السلف يوجهون طلابهم إلى تعلم الأدب قبل الخوض في غوالي العلم والخلاف، فهذا إمام دار الهجرة يقول لفتى من قريش: يا ابن أخي تعلم الأدب قبل أن تتعلم العلم. بل لا يمكن لطالب العلم الذي لم يدرس أو يأخذ عن العلماء بالمجالسة آداب الطلب أن يفهم جيدا المسائل، أو أن يحسن التصرف عند ورود المشاكل، فهذا يوسف بن الحسين يقول: بالأدب تفهم العلم. ها نحن لو رأرأنا بصرنا في بعض الشباكات العنكبوتية لوجدنا تصرفا مشينا من بعض الكتاب مع علمائهم وإخوانهم طلبة العلم الذين لهم جهود مشكورة في نصرة السنة والذبّ عنها، ونجدهم بلا حياء ولا خجل يرمونهم بكل محنة وإحنة، ويفترون عليهم الكذب البواح الصراح، بل وأحيانا نجد التنابز بالألقاب القبيحة بين الزميل وزميله. ولو سألنا أنفسنا من أين جاءنا الداء، وكيف وصلنا إلى نهاية الوذأ والعياذ بالله من سخطه، لأدركنا أن العاهة تكمن في النقص من تحلينا بالآداب التي جاءت بها الشريعة الربانية، وتقديمنا لما عهدناه من أخلاقنا الموروثة التي نظن أنها حسنة، انطلاقا من عقولنا القاصرة والله المستعان، فمن هذه الحقائق وأخرى أحجمت عن التصريح بها أحببت أن أذكر نفسي وما أبرأها من السوء وباقي إخواني وأخواتي من أهل السنة ببعض الآداب على عجالة عسى أن ينفعنا الله بها كما قال الليث بن سعد وقد أشرف على بعض أصحاب الحديث ورأى منهم شيئا: (ما هذا؟ أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم). 1- الإخلاص: اعلم ياطالب العلم أن العلم عبادة فيحتاج إلى قصد ونية وإخلاص. قال الله تعالى: (وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين). وأخرج البخاري ومسلم من حديث عمر بن الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى). فمتى حسنت النية، وتحقق الإخلاص لله عزوجل كان التوفيق حليف الطالب، والسداد دثاره، والأجر نصيبه، ومتى فقدت أو صرفت في غير وجهها لم ينل الطالب في الدنيا إلا الخسران، ويوم القيامة الهوان. فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنّ أوّل الناس يقضى يوم القيامة عليه....-فذكر- ورجل تعلم العلم وعلمه، وقرأ القرآن، فأتي به فعرّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملت فيها؟ قال: تعلمت العلم وعلمته، وقرأت فيك القرآن؟ قال: كذبت تعلمت العلم ليقال عالم، وقرأت القرآن ليقال قارئ، فقد قيل، ثم أمر فسحب على وجهه حتى ألقي في النار) أخرجه مسلم، والنسائي. يا ربا يا إلهنا، يا عالم السر وأخفى استر علينا وعلى المسلمين فإنّ من أسمائك الستير. وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (من تعلم علما مما يبتغي به وجه الله عزوجل، لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عَرْفَ الجنة يوم القيامة) أخرجه وابن ماحه وأحمد وأخرجه ابن أبي شيبة ومن طريقه أبوداود، وابن عبد البر في الجامع والسهمي في تاريخ جرجان، والخطيب في إقتضاء العلم و الحاكم من طرق عن: فليح بن سليمان، عن عبد الله بن عبد الرحمن أبي طُوَالَة عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة. ولكن في سنده فليحا بن أبي سليمان بن أبي المغيرة الخزاعي قال فيه الحافظ ابن حجر في التقريب: صدوق كثير الخطأ. وقد احتج الإمام البخاري بفليح في أحاديث، وأكثر عنه في الرقائق والمناقب، ولعله انتقى من حديثه، وروى له مسلم في صحيحه حديثا واحدا وهو حيث الإفك. وهناك كلام طويل ليس هذا محله وملخصه أن فليحا أتقن هذا الحديث ورواه عنه جمع ولم يختلفوا عليه فهو حسن إن شاء الله. قال الإمام الحسن ابن أبي الحسن البصري: من طلب شيئا من هذا العلم، فأراد به ما عند الله يدرك إن شاء الله، ومن أراد به الدنيا فذاك والله حظه منه. أخرجه الدارمي بإسناد صحيح. وقال إبراهيم النخعي: من ابتغى شيئا من العلم يبتغي به وجه الله آتاه الله من ما يكفيه. أخرجه الدارمي بإسناد صحيح. فاحرص يا طالب العلم على صفاء نيتك، وحسن سريرتك، وسلامة مقصدك في الطلب. 2- التدرج في أخذ العلم: قال الله تعالى: (ولكن كونوا ربانيّين بما كنتم تعلِّمون الكتاب وبما كنتم تدرسون). قال ابن عباس: حلماء فقهاء، الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره. قال الإمام الزهري ليونس بن يزيد فيما صح عنه: يا يونس! لا تكابر العلم، فإن العلم أودية، فأيها أخذت فيه قطع بك قبل أن تبلغه، ولكن خذه مع الأيام والليالي، ولا تأخذ العلم جملة، فإن من رام أخذه جملة ذهب عنه حملة. -و أول ما يبدأ به طالب العلم حفظ كتاب الله. روى البخاري في صحيحه بسنده عن حذيفة رضي الله عنه قال: حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين؛ رأيت أحدهما وأنا أنتظر الآخر، حدثنا: أن الأمانة نزلت في جذر قلوب الرجال، ثم علموا من القرآن، ثم علموا من السنة...) قال الحافظ ابن حجر في الفتح: (قوله: ثم علموا من القرآن ثم من السنة) كذا في هذه الرواية بإعادة (ثم) وفيه إشارة إلى أنهم كانوا يتعلمون القرآن قبل أن يتعلموا السنن...) قال الميموني كما في الآداب الشرعية لابن مفلح: سألت أبا عبد الله أيهما أحب إليك، أبدأ ابني بالقرآن أو الحديث؟ قال: لا؛ بالقرآن، قلت: أعلمه كله، قال: إلا أن يعسر، فتعلمه منه، ثم قال لي: إذا قرأ أولا تعلم القراءة ولزمها). قال ابن مفلح رحمه الله: وعلى هذا أتباع الإمام أحمد إلى زماننا هذا. قال الخطيب البغدادي في الجامع لأخلاق الراوي والسامع: ينبغي للطالب أن يبدأ بحفظ كتاب الله عزوجل، إذ كان أجل العلوم وأولاها بالسبق والتقديم. قال ابن عبد البر في الجامع: (طلب العلم درجات ومناقل ورتب لا ينبغي تعديها، ومن تعداها جملة فقد تعدى سبيل السلف رحمهم الله، ومن تعدى سبيلهم عامدا ضل، ومن تعداه مجتهدا زل، فأول العلم حفظ كتاب الله جل وعز وتفهمه، وكل ما يعين على فهمه فواجب طلبه معه، ولا أقول: إن حفظه كله فرض، ولكن أقول: إن ذلك واجب لازم على من أحب أن يكون عالما ليس من باب الفرض) قال شيخ الإسلام رحمه الله في الفتاوى الكبرى: (وأما طلب حفظ القرآن فهو مقدم على كثير مما تسميه الناس علما، وهو إما باطل أو قليل النفع، وهو أيضا مقدم في التعلم في حق من يريد أن يتعلم علم الدين من الأصول والفروع، فإن المشروع في حق مثل هذا في هذه الأوقات أن يبدأ بحفظ القرآن، فإنه أصل علوم الدين، بخلاف ما يفعله كثير من أهل البدع من الأعاجم وغيرهم حيث يشتغل أحدهم بشيء من فضول العلم، من الكلام والجدال، والخلاف، أو الفروع النادرة والتقليد الذي لا يحتاج إليه، أو غرائب الحديث التي لا تثبت ولا ينتفع بها، وكثير من الرياضيات التي لا تقوم بها حجة، ويترك حفظ القرآن الذي هو أهم من ذلك كله))
وكلام شيخ الإسلام لا يحتاج إلى شرح فهو يعبر عن حالنا والله المستعان