بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أجل
التّعريف
1 - أجل الشّيء لغةً : مدّته ووقته الّذي يحلّ فيه ، وهو مصدر أجل الشّيء أجلاً من باب تعب ، وأجّلته تأجيلاً جعلت له أجلاً ، والآجل - على وزن فاعل - خلاف العاجل . إطلاقات الأجل في كتاب اللّه تعالى :
2 - ورد إطلاق الأجل على أمور :
أ - على نهاية الحياة : قال اللّه تعالى : { ولكلّ أمّة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون } .
ب - وعلى نهاية المدّة المضروبة أجلاً لانتهاء التزام أو لأدائه . قال اللّه تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمًّى فاكتبوه } .
ج - وعلى المدّة أو الزّمن . قال جلّ شأنه : { ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمًّى } .
الأجل في اصطلاح الفقهاء
3 - الأجل هو المدّة المستقبلة الّتي يضاف إليها أمر من الأمور ، سواء كانت هذه الإضافة أجلاً للوفاء بالتزام ، أو أجلاً لإنهاء التزام ، وسواء كانت هذه المدّة مقرّرةً بالشّرع ، أو بالقضاء ، أو بإرادة الملتزم فرداً أو أكثر . وهذا التّعريف يشمل : أوّلاً : الأجل الشّرعيّ ، وهو المدّة المستقبلة الّتي حدّدها المشرّع الحكيم سبباً لحكم شرعيّ ، كالعدّة . ثانياً : الأجل القضائيّ : وهو المدّة المستقبلة الّتي يحدّدها القضاء أجلاً لأمر من الأمور كإحضار الخصم ، أو البيّنة . ثالثاً : الأجل الاتّفاقيّ ، وهو المدّة المستقبلة الّتي يحدّدها الملتزم موعداً للوفاء بالتزامه ( أجل الإضافة ) ، أو لإنهاء تنفيذ هذا الالتزام ( أجل التّوقيت ) سواء كان ذلك فيما يتمّ من التّصرّفات بإرادة منفردة أو بإرادتين . خصائص الأجل :
4 - أ - ( الأجل هو زمن مستقبل ) ب - الأجل هو أمر محقّق الوقوع . وتلك خاصّيّة الزّمن ، وفي تحقيق ذلك يقول الكمال بن الهمام : « إنّه يترتّب على الإضافة تأخير الحكم المسبّب إلى وجود الوقت المعيّن الّذي هو كائن لا محالة ، إذ الزّمان من لوازم الوجود الخارجيّ ، فالإضافة إليه إضافة إلى ما قطع بوجوده » .
ج - الأجل أمر زائد على أصل التّصرّف . وذلك يحقّقه أنّ التّصرّفات قد تتمّ منجّزةً ، وتترتّب أحكامها عليها فور صدور التّصرّف ، ولا يلحقها تأجيل ، وقد يلحقها الأجل ، كتأجيل الدّين ، أو العين أو تأجيل تنفيذ آثار العقد ( فيما يصحّ فيه ذلك ) قال السّرخسيّ والكاسانيّ ما حاصله : إنّ الأجل يعتبر أمراً لا يقتضيه العقد ، وإنّما شرع رعايةً للمدين على خلاف القياس .
( الألفاظ ذات الصّلة )
التّعليق
5 - هو لغةً : ربط أمر بآخر . واصطلاحاً : أن يربط أثر تصرّف بوجود أمر معدوم . والفرق بين التّعليق والأجل أنّ التّعليق يمنع المعلّق عن أن يكون سبباً للحكم في الحال ، أمّا الأجل فلا صلة له بالسّبب وإنّما هو لبيان زمن فعل التّصرّف .
( الإضافة )
6 - هي لغةً : نسبة الشّيء إلى الشّيء مطلقاً . واصطلاحاً : تأخير أمر التّصرّف عن وقت التّكلّم إلى زمن مستقبل يحدّده المتصرّف بغير أداة شرط . والفرق بين الإضافة والأجل أنّ الإضافة فيها تصرّف وأجل ، في حين أنّ الأجل قد يخلو من إيقاع تصرّف . ففي كلّ إضافة أجل . التّوقيت :
7 - هو لغةً : تقدير زمن الشّيء . واصطلاحاً ثبوت الشّيء في الحال وانتهاؤه في وقت معيّن . فالفرق بينه وبين الأجل أنّ الأجل وقت مضروب محدود في المستقبل .
( المدّة ) :
8 - باستقصاء ما يوجد في الفقه الإسلاميّ نجد أنّ للمدّة المستقبلة استعمالات أربعةً : هي مدّة الإضافة ، ومدّة التّوقيت ، ومدّة التّنجيم ، ومدّة الاستعجال . وبيانها فيما يلي : مدّة الإضافة :
9 - وهي المدّة المستقبلة الّتي يضاف إليها ابتداءً تنفيذ آثار العقد ، أو تسليم العين ، أو تسليم الثّمن ( للدّين ) .
فمثال الأوّل : ما إذا قال : « إذا جاء عيد الأضحى فقد وكّلتك في شراء أضحيّة لي " فقد أضاف عقد الوكالة إلى زمن مستقبل ، وقد صرّح جمهور الفقهاء بصحّة ذلك .
ومثال الثّاني : ما جاء في السّلم ، من إضافة العين المسلم فيها إلى زمن معلوم لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم » .
ومثال الثّالث : ما إذا باع بثمن مؤجّل فإنّه يصحّ ؛ لقوله تعالى : « يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمًّى فاكتبوه » .
( مدّة التّوقيت )
10 - وهي المدّة المستقبلة الّتي يستمرّ فيها تنفيذ الالتزام حتّى انقضائها ، وذلك كما في العقود المؤقّتة ، كما في الإجارة ، فإنّها لا تصحّ إلاّ على مدّة معلومة ، أو على عمل معيّن يتمّ في زمن ، وبانتهائها ينتهي عقد الإجارة ومدّة عقد الإجارة تعتبر أجلاً . مصداق ذلك قوله تعالى { قال إنّي أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشقّ عليك ستجدني إن شاء اللّه من الصّالحين . قال ذلك بيني وبينك أيّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ واللّه على ما نقول وكيل . } كما أنّ اللّغة العربيّة تجعل " التّأجيل تحديد الوقت " " والتّوقيت تحديد الأوقات ، يقال : وقّته ليوم كذا توقيتاً مثل أجّل » . مدّة التّنجيم :
11 - جاء في مختار الصّحّاح : النّجم لغةً الوقت المضروب ، ومنه سمّي المنجّم ، ويقال : نجّم المال تنجيماً إذا أدّاه نجوماً ( أقساطاً ) ، والتّنجيم اصطلاحاً هو " التّأخير لأجل معلوم ، نجماً أو نجمين " أو هو " المال المؤجّل بأجلين فصاعداً ، يعلم قسط كلّ نجم ومدّته من شهر أو سنة أو نحوهما " فالتّنجيم نوع من الأجل يرد على الدّين المؤجّل فيوجب استحقاق بعضه عند زمن مستقبل معيّن ، ثمّ يليه البعض الآخر لزمن آخر معلوم يلي الزّمن الأوّل وهكذا . ومن بين ما برز فيه التّنجيم : أ - دين الكتابة : فقد اتّفق الفقهاء على جواز تنجيم مال الكتابة . ( والمراد بالكتابة اتّفاق السّيّد وعبده على مال ينال العبد نظيره حرّيّة التّصرّف في الحال ، والرّقبة في المال ، بعد أداء المال ) ، واختلفوا في لزوم ذلك ، فيرى المالكيّة على الرّاجح ، والشّافعيّة والحنابلة أنّ الكتابة لا تكون إلاّ بمال مؤجّل منجّم ، وسيأتي التّعرّض لذلك في الدّيون المؤجّلة . والفقه الإسلاميّ يجعل التّنجيم نوعاً من الأجل .
ب - الدّية في القتل شبه العمد والخطأ : تجب الدّية في القتل شبه العمد والخطأ على العاقلة مؤجّلةً منجّمةً على ثلاث سنوات في كلّ سنة ثلث الدّية ، وهذا ما صرّح به فقهاء الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
ج - الأجرة : جاء في المغني أنّه " إذا شرط تأجيل الأجر فهو إلى أجله ، وإن شرطه منجّماً يوماً يوماً ، أو شهراً شهراً ، أو أقلّ من ذلك أو أكثر ، فهو على ما اتّفقا عليه ؛ لأنّ إجارة العين كبيعها ، وبيعها يصحّ بثمن حالّ أو مؤجّل ، فكذلك إجارتها » .
( مدّة الاستعجال ) :
12 - المراد بها : الوقت الّذي يقصد بذكره في العقد استعجال آثار العقد ، وذكر الوقت للاستعجال تعرّض له الفقهاء في الإجارة ، فقالوا إنّ الإجارة على ضربين . أحدهما : أن يعقدها على مدّة . والثّاني : أن يعقدها على عمل معلوم ، ومتى تقدّرت المدّة لم يجز تقدير العمل عند أبي حنيفة والشّافعيّة والحنابلة ؛ لأنّ الجمع بينهما يزيد الإجارة غرراً ؛ لأنّه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدّة . فإن استعمل في بقيّة المدّة فقد زاد على ما وقع عليه العقد ، وإن لم يعمل كان تاركاً للعمل في بعض المدّة ، وقد لا يفرغ من العمل في المدّة ، فإن أتمّه عمل في غير المدّة ، وإن لم يعمله لم يأت بما وقع عليه العقد ، وهذا غرر ، أمكن التّحرّز عنه ، ولم يوجد مثله في محلّ الوفاق ، فلم يجز العقد معه . ويرى أبو يوسف ومحمّد ، وهو مرويّ عن الإمام أحمد أنّه تجوز الإجارة هنا ؛ لأنّ الإجارة معقودة على العمل ، والمدّة مذكورة للتّعجيل فلا يمتنع ذلك . فعلى هذا إذا فرغ من العمل قبل انقضاء المدّة لم يلزمه شيء آخر ، كما لو قضى الدّين قبل أجله ، وإن مضت المدّة قبل العمل فللمستأجر فسخ الإجارة ؛ لأنّ الأجير لم يف له بشرطه ، وإن رضي بالبقاء عليه لم يملك الأجير الفسخ ؛ لأنّ الإخلال بالشّرط منه ، فلا يكون ذلك وسيلةً إلى الفسخ ، كما لو تعذّر أداء المسلم فيه في وقته فيملك المسلم إليه الفسخ . ويملكه المسلم ، فإن اختار إمضاء العقد طالبه بالعمل لا غير ، كالمسلم إذا صبر عند تعذّر المسلم فيه إلى حين وجوده لم يكن له أكثر من المسلم فيه ، وإن فسخ العقد قبل عمل شيء من العمل سقط الأجر والعمل ، وإن كان بعد عمل شيء منه فله أجر مثله ؛ لأنّ العقد قد انفسخ فسقط المسمّى ، ورجع إلى أجل المثل .
تقسيمات الأجل باعتبار مصدره
ينقسم الأجل باعتبار مصدره إلى ثلاثة أقسام : أجل شرعيّ ، وأجل قضائيّ ، وأجل اتّفاقيّ . ونتناول فيما يلي التّعريف بكلّ قسم ، وذكر ما يندرج تحته من أنواع . جاعلين لكلّ قسم فصلاً مستقلّاً . الفصل الأوّل الأجل الشّرعيّ الأجل الشّرعيّ : هو المدّة الّتي حدّدها الشّرع الحكيم سبباً لحكم شرعيّ .
ويندرج تحت هذا النّوع الآجال الآتية :
( مدّة الحمل )
13 - مدّة الحمل هي الزّمن الّذي يمكثه الجنين في بطن أمّه ، وقد بيّن الفقه الإسلاميّ أقلّ مدّة الحمل وأكثره ، وقد استنبطت هذه المدّة ممّا ورد في القرآن الكريم ، وذلك لما روى الأثرم بإسناده عن أبي الأسود أنّه : رفع إلى عمر أنّ امرأةً ولدت لستّة أشهر ، فهمّ عمر برجمها ، فقال له عليّ : ليس لك ذلك ، قال اللّه تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين } وقال تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } فحولان وستّة أشهر ثلاثون شهراً ، لا رجم عليها . فخلّى عمر سبيلها ، وولدت مرّةً أخرى لذلك الحدّ . كما بيّن الفقه الإسلاميّ أكثر مدّة الحمل ، فيرى جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في أصحّ الرّوايتين ) أنّها أربع سنوات . وفي رأي للمالكيّة أنّها خمس سنوات ، ويرى الحنفيّة ، وهو رواية في مذهب الحنابلة ، أنّها سنتان . وقد جاء في مغني المحتاج أنّ أكثر مدّة الحمل دليله الاستقراء ، وحكي عن مالك أنّه قال : « جارتنا امرأة محمّد بن عجلان ، امرأة صدق ، وزوجها رجل صدق ، حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنةً ، تحمل كلّ بطن أربع سنين » . وقد روي هذا عن غير المرأة المذكورة ، وقيل إنّ أبا حنيفة حملت أمّه به ثلاث سنين وفي صحّته كما قال ابن شيبة نظر ؛ لأنّ مذهبه أنّ أكثر مدّة الحمل سنتان ، فكيف يخالف ما وقع في نفسه ؟ " قال ابن عبد السّلام : وهذا مشكل مع كثرة الفساد في هذا الزّمان » .
مدّة الهدنة :
14 - يرى الحنفيّة والمالكيّة وهو ظاهر الرّواية عن الإمام أحمد أنّه يجوز موادعة أهل الحرب عشر سنين ، كما « وادع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أهل مكّة » . ويجوز أن تكون المدّة أقلّ من ذلك أو أكثر أو دون تحديد ، ما دامت مصلحة المسلمين في ذلك . أمّا إذا لم تكن مصلحة المسلمين في ذلك فلا يجوز ، لقوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السّلم وأنتم الأعلون } . ويرى الإمام الشّافعيّ وهو رواية أخرى عند الحنابلة أنّه لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين ، استناداً إلى ما يروى عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية . فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فالهدنة منتقضة ؛ لأنّ الأصل فرض قتال المشركين حتّى يؤمنوا أو يعطوا الجزية . والتّفصيلات في مصطلح ( هدنة ) .
مدّة تعريف اللّقطة :
15 - مدّة تعريفها ثبتت بالشّرع ، والأصل فيها ما روي عن زيد بن خالد بن زيد الجهنيّ صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن اللّقطة الذّهب أو الورق فقال : اعرف وكاءها وعفاصها ، ثمّ عرّفها سنةً . فإن جاء طالبها يوماً من الدّهر فأدّها إليه . وسأله عن ضالّة الإبل ، فقال : مالك ولها ؟ دعها ، فإنّ معها حذاءها وسقاءها ، ترد الماء وتأكل الشّجر ، حتّى يجدها ربّها . وسأله عن الشّاة فقال : خذها فإنّما هي لك ، أو لأخيك أو للذّئب » . رواه مسلم . وللفقهاء في الزّيادة عن هذه المدّة أو النّقص منها حسب أهمّيّة المال أقوال يرجع إليها في مصطلح ( لقطة ) .
مدّة وجوب الزّكاة :
16 - روى أبو عبد اللّه بن ماجه في السّنن بإسناده عن عمر عن عائشة قالت : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لا زكاة في مال حتّى يحول عليه الحول » وقد اعتبر الحول في زكاة السّوائم ، والأثمان ( الذّهب والفضّة ) وقيم عروض التّجارة . وأمّا الزّروع والثّمار والمعدن فإنّه لا يعتبر فيها الحول .
( مدّة تأجيل العنّين ) :
17 - إذا ثبتت عنّة الزّوج ضرب القاضي له سنةً كما فعل عمر رضي الله عنه ، رواه الشّافعيّ والبيهقيّ وغيرهما ، وروي أيضاً عن عليّ وابن مسعود وعثمان والمغيرة بن شعبة ، وقال في النّهاية : أجمع المسلمون على اتّباع قضاء عمر رضي الله عنه في قاعدة الباب . والمعنى فيه مضيّ الفصول الأربعة ؛ لأنّ تعذّر الجماع قد يكون لعارض حرارة فتزول في الشّتاء . أو برودة فتزول في الصّيف ، أو يبوسة فتزول في الرّبيع ، أو رطوبة فتزول في الخريف . فإذا مضت السّنة ، ولا إصابة ، علمنا أنّه عجز خلقيّ .
مدّة الإمهال في الإيلاء :
18 - إذا آلى الرّجل من زوجته أمهل وجوباً أربعة أشهر ، لقوله تعالى { للّذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهر فإن فاءوا فإنّ اللّه غفور رحيم } . فإن وطئها في الأربعة الأشهر حنث في يمينه ولزمته الكفّارة ، وسقط الإيلاء بالإجماع ، وإن لم يقربها حتّى مضت الأربعة أشهر بانت منه بتطليقة عند الحنفيّة ، وهو قول ابن مسعود ، ويرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو ثور أنّه إذا انقضت هذه المدّة يخيّر المولى بين الفيئة والتّكفير ، وبين الطّلاق للمحلوف عليها ، وهو قول عليّ وابن عمر .
مدّة الرّضاع
19 - يرى جمهور الفقهاء : المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة ، أنّ مدّة الرّضاع الّتي إذا وقع الرّضاع فيها تعلّق به التّحريم سنتان ، لقوله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } ومدّة الحمل أدناها ستّة أشهر ، فبقي للفصال حولان . وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عبّاس : قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا رضاع إلاّ ما كان في الحولين » رواه الدّارقطنيّ ، وظاهر " أنّ المراد نفي الأحكام ، وقال : لم يسنده عن ابن عيينة إلاّ الهيثم بن جميل ، وهو ثقة حافظ " ويرى أبو حنيفة أنّ مدّة الرّضاع ثلاثون شهراً ؛ لقوله تعالى { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } ووجهه أنّ اللّه سبحانه وتعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدّةً ، فكانت تلك المدّة لكلّ واحد منهما بكمالها ، كالأجل المضروب للدّينين على شخصين ، بأن قال أجّلت الدّين الّذي لي على فلان ، والدّين الّذي لي على فلان سنةً ، فإنّه يفهم منه أنّ السّنة بكمالها لكلّ ، وكالأجل المضروب للدّينين على شخص ، مثل أن يقول : لفلان عليّ ألف درهم وعشرة أقفزة إلى سنة ، فصدّقه المقرّ له في الأجل ، فإذا مضت السّنة يتمّ أجلهما جميعاً ، إلاّ أنّه قام المنقّص في أحدهما ، يعني في مدّة الحمل ، وهو قول عائشة رضي الله عنها الولد لا يبقى في بطن أمّه أكثر من سنتين ولو بقدر فلكة مغزل " وفي رواية " ولو بقدر ظلّ مغزل ومثله ممّا لا يقال إلاّ سماعاً ؛ لأنّ المقدّرات لا يهتدي إليها العقل . وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الولد لا يبقى في بطن أمّه أكثر من سنتين » فتبقى مدّة الفصال على ظاهرها . ويرى زفر أنّ مدّة الرّضاع ثلاثة أحوال ، وذلك لأنّه لا بدّ للصّبيّ من مدّة يتعوّد فيها غذاءً آخر غير اللّبن ، لينقطع الإنبات باللّبن ، وذلك بزيادة مدّة يتعوّد فيها الصّبيّ تغيّر الغذاء ، والحول حسن للتّحوّل من حال إلى حال ، لاشتماله على الفصول الأربعة ، فقدّر بثلاثة أحوال .
أجل العدّة
20 - العدّة أجل ضربه الشّرع للمطلّقة أو المتوفّى عنها زوجها أو من فسخ نكاحها . فالحامل في كلّ ما ذكر عدّتها وضع الحمل . والمتوفّى عنها زوجها - ما لم تكن حاملاً - عدّتها أربعة أشهر وعشر ، سواء كانت مدخولاً بها أم لا . والمطلّقة المدخول بها غير الحامل والآيسة والصّغيرة ثلاثة أقراء ، على الخلاف بين الفقهاء في تفسير القرء أهو الطّهر أم الحيض ، وعدّة الصّغيرة الّتي لم تحض والآيسة ثلاثة أشهر . وتفصيل ذلك في مصطلح ( عدّة ) .
مدّة خيار الشّرط ) :
21 - يرى جمهور الفقهاء جواز خيار الشّرط واختلفوا في تحديد هذه المدّة ، فيرى أبو حنيفة وزفر والشّافعيّة أنّه يجوز خيار الشّرط في البيع للبائع أو المشتري ، أو لهما ، ثلاثة أيّام فما دونها ، والأصل فيه ما روي « أنّ حبّان بن منقذ بن عمرو الأنصاريّ رضي الله عنه كان يغبن في البياعات ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إذا بايعت فقل : لا خلابة ، ولي الخيار ثلاثة أيّام . » ويرى أبو يوسف ومحمّد وابن المنذر والحنابلة أنّه يجوز إذا سمّى مدّةً معلومةً وإن طالت . وحكي ذلك عن الحسن بن صالح وابن أبي ليلى وإسحاق وأبي ثور . واستدلّوا بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه أجاز البيع إلى شهرين ، وأنّ الخيار حقّ يعتمد على الشّرط ، فرجع في تقديره إلى مشترطه ، كالأجل ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « المسلمون عند شروطهم » . ولأنّ الخيار إنّما شرع للحاجة إلى التّروّي ليندفع الغبن ، وقد تمسّ الحاجة إلى أكثر من ثلاثة أيّام ، كالتّأجيل في الثّمن ، فإنّ الأجل شرع للحاجة إلى التّأخير ، مخالفاً لمقتضى العقد ، ثمّ جاز أيّ مقدار تراضيا عليه . ويرى المالكيّة أنّ مدّة الخيار تختلف باختلاف السّلع ، فإنّ القصد ما تختبر فيه تلك السّلعة ، وذلك يختلف باختلاف السّلع بقدر الحاجة ، ويضرب من الأجل أقلّ ما يمكن ؛ تقليلاً للغرر ، كشهر في دار ، وكثلاث في دابّة . وإذا كانت المدّة المشترطة مجهولةً ، كما إذا شرط الخيار أبداً ، أو متى شاء ، أو قال أحدهما : ولي الخيار ، ولم يذكر مدّته ، أو شرطاه إلى مدّة مجهولة كقدوم زيد ، أو نزول المطر ، أو مشاورة إنسان ، ونحو ذلك ، لم يصحّ في الصّحيح من مذهب الحنابلة ومذهب الشّافعيّة . وروي عن أحمد أنّه يصحّ ، وهما على خيارهما أبداً أو يقطعاه ، أو تنتهي مدّته إن كان مشروطاً إلى مدّة ، وهو قول ابن شبرمة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المسلمون عند شروطهم » . وقال مالك : يصحّ ، ويضرب لهما مدّة يختبر المبيع في مثلها في العادة ، لأنّ ذلك مقرّر في العادة " ، وقال أبو حنيفة : إن أسقطا الشّرط قبل مضيّ الثّلاث ، أو حذف الزّائد عليها وبيّنّا مدّته ، صحّ ؛ لأنّهما حذفا المفسد قبل اتّصاله بالعقد ، فوجب أن يصحّ كما لو لم يشترطاه .
مدّة الحيض :
22 - أقلّ مدّة الحيض يوم وليلة عند الشّافعيّة والحنابلة ، وأكثرها خمسة عشر يوماً بلياليها ، وذلك لأنّه ورد في الشّرع مطلقاً دون تحديد ، ولا حدّ له في اللّغة ولا في الشّريعة ، فيجب الرّجوع فيه إلى العرف والعادة ، كما في القبض والإحراز والتّفرّق وأشباهها . وقد وجد حيض معتاد يوماً . قال عطاء : رأيت من النّساء من تحيض يوماً وتحيض خمسة عشر . ويرى الحنفيّة أنّ أقلّ الحيض ثلاثة أيّام ولياليها ، وما نقص عن ذلك فهو استحاضة ، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : « أقلّ حيض الجارية البكر والثّيّب ثلاثة أيّام ، وأكثر ما يكون عشرة أيّام ، فإذا زاد فهي مستحاضة » ، وعن أبي يوسف أنّه يومان والأكثر من الثّالث ، إقامةً للأكثر مقام الكلّ ، وأكثر الحيض عشرة أيّام ولياليها ، والزّائد استحاضة . ويرى المالكيّة أنّه لا حدّ لأقلّ الحيض بالزّمان ، وأكثره لمبتدأة غير حامل تمادى بها نصف شهر ، وأكثره لمعتادة غير حامل سبق لها حيض ولو مرّةً ثلاثة أيّام زيادةً على أكثر عادتها أيّاماً لا وقوعاً . وفي ذلك تفصيل موطنه مصطلح ( حيض ) .
مدّة الطّهر
23 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والثّوريّ أنّ أقلّ الطّهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً ، واستدلّ الحنفيّة على ذلك بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أقلّ الحيض ثلاثة ، وأكثره عشرة أيّام ، وأقلّ ما بين الحيضتين خمسة عشر يوماً » منقول عن إبراهيم النّخعيّ ، وقد قيل : أجمعت الصّحابة عليه ؛ ولأنّه مدّة اللّزوم ، فكان كمدّة الإقامة . واستدلّ الشّافعيّة على ذلك بأنّ الشّهر غالباً لا يخلو عن حيض وطهر ، وإذا كان أكثر الحيض - على رأيهم - خمسة عشر يوماً لزم أن يكون أقلّ الطّهر كذلك ، ولا حدّ لأكثر الطّهر بالإجماع ، فقد لا تحيض المرأة في عمرها إلاّ مرّةً ، وقد لا تحيض أصلاً . ويرى الحنابلة أنّ أقلّ الطّهر بين الحيضتين ثلاثة عشر ، لما روي عن عليّ : « أنّ امرأةً جاءته ، وقد طلّقها زوجها ، فزعمت أنّها حاضت في شهر ثلاث حيض ، طهرت عند كلّ قرء وصلّت . فقال عليّ لشريح : قل فيها . فقال شريح : إن جاءت ببيّنة من بطانة أهلها ، ممّن يرضى دينه وأمانته ، فشهدت بذلك ، وإلاّ فهي كاذبة . فقال عليّ : قالون " أي جيّد ، بالرّوميّة . رواه الإمام أحمد بإسناده . وهذا لا يقوله إلاّ توقيفاً ، ولأنّه قول صحابيّ انتشر ، ولم يعلم خلافه .
سنّ الإياس :
24 - اختلف الفقهاء في تقدير سنّ الإياس اختلافاً كبيراً : فيرى بعضهم أنّه لا تقدير لسنّ الإياس ، وإياس المرأة على هذا أن تبلغ من السّنّ ما لا يحيض فيه مثلها . فإذا بلغت هذا المبلغ ، وانقطع الدّم ، حكم بإياسها ، ويمكن أن يراد بمثلها فيما ذكر المماثلة في تركيب البدن ، والسّمن ، والهزال ، وهو رأي في مذهب الحنفيّة . ويرى بعض الفقهاء تقديره بخمسين سنةً ، وهو قول للشّافعيّة ، ورواية عن الإمام أحمد . وقال إسحاق بن راهويه : لا يكون حيض بعد الخمسين ، ويكون حكمها فيما تراه من الدّم حكم المستحاضة ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : إذا بلغت المرأة خمسين سنةً خرجت من حدّ الحيض " وروي عنها أنّها قالت : « لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين . ويرى بعض الشّافعيّة ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، أنّها لا تيأس من المحيض يقيناً إلى ستّين سنةً . ويرى الشّافعيّة - على أشهر الأقوال - أنّ سنّ الإياس اثنتان وستّون سنةً . ويرى المالكيّة أنّه يتحقّق في سنّ السّبعين ، ومثله عن بعض الشّافعيّة ، وأنّها بعد الخامسة والخمسين مشكوك في يأسها ، فيرجع فيما تراه إلى النّساء لمعرفة هل هو حيض ، أو ليس بحيض ، أمّا من بلغت سنّ السّبعين فلا يسأل عنها .
( مدّة النّفاس ) :
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا حدّ لأقلّ النّفاس ، فأيّ وقت رأت المرأة الطّهر اغتسلت ، وهي طاهر ، واختلفوا في أكثره : فيرى جمع من العلماء أنّ أكثر النّفاس أربعون يوماً . قال أبو عيسى التّرمذيّ : أجمع أهل العلم من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على أنّ النّفساء تدع الصّلاة أربعين يوماً ، إلاّ أن ترى الطّهر قبل ذلك ، فتغتسل وتصلّي . وقال أبو عبيد : وعلى هذا جماعة النّاس ، وروي هذا عن عمر وابن عبّاس وعثمان بن أبي العاص وعبد اللّه بن عمر وأنس وأمّ سلمة رضي الله عنهم ، وبه قال الثّوريّ وإسحاق والحنفيّة والحنابلة . واستدلّوا بما روى أبو سهل كثير بن زياد عن مسّة الأزديّة عن أمّ سلمة قالت : « كانت النّفساء تجلس على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً وأربعين ليلةً . » وروى الحكم بن عتيبة عن مسّة الأزديّة عن « أمّ سلمة أنّها سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم : كم تجلس المرأة إذا ولدت ؟ قال : أربعين يوماً ، إلاّ أن ترى الطّهر قبل ذلك » رواه الدّارقطنيّ ، قال ابن قدامة : ولأنّه قول من سمّينا من الصّحابة ، ولم نعرف لهم مخالفاً في عصرهم فكان إجماعاً ، وقد حكاه التّرمذيّ إجماعاً ، ونحوه حكى أبو عبيد . ويرى المالكيّة والشّافعيّة أنّ أكثره ستّون يوماً ، وحكى ابن عقيل عن أحمد بن حنبل روايةً مثل قولهما ، لأنّه روي عن الأوزاعيّ أنّه قال : عندنا امرأة ترى النّفاس شهرين ، وروي مثل ذلك عن عطاء أنّه وجده ، والمرجع في ذلك إلى الوجود ، وقال الشّافعيّة : إنّ غالبه أربعون يوماً .
سنّ البلوغ :
26 - لقد جعل الشّارع البلوغ أمارةً على تكامل العقل ؛ لأنّ الاطّلاع على تكامل العقل متعذّر ، فأقيم البلوغ مقامه . وقد اختلف في سنّ البلوغ : فيرى الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة ، وبرأيهما يفتى في المذهب ، والأوزاعيّ ، أنّ البلوغ بالسّنّ يكون بتمام خمس عشرة سنةً قمريّةً للذّكر والأنثى ( تحديديّة كما صرّح الشّافعيّة ) ، لخبر « ابن عمر . عرضت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنةً ، فلم يجزني ولم يرني بلغت ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنةً ، فأجازني ، ورآني بلغت » . رواه ابن حبّان ، وأصله في الصّحيحين قال الشّافعيّ : « ردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سبعة عشر من الصّحابة وهم أبناء أربع عشرة سنةً ، لأنّه لم يرهم بلغوا ، ثمّ عرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة ، فأجازهم ، منهم زيد بن ثابت ، ورافع بن خديج ، وابن عمر » . وروي عن أنس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا استكمل المولود خمس عشرة سنةً كتب ما له وما عليه ، وأخذت منه الحدود » . ويرى المالكيّة أنّ البلوغ يكون بتمام ثماني عشرة سنةً ، وقيل بالدّخول فيها ، أو الحلم أي الإنزال ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاث : عن الصّبيّ حتّى يحتلم . . . » ، أو الحيض لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل اللّه صلاة حائض إلاّ بخمار » ، أو الحبل للأنثى ، أو الإنبات الخشن للعانة . وقد أورد الحطّاب خمسة أقوال في المذهب ، ففي رواية ثمانية عشر وقيل سبعة عشر ، وزاد بعض شرّاح الرّسالة ستّة عشر ، وتسعة عشر ، وروى ابن وهب خمسة عشر لحديث ابن عمر . ويرى أبو حنيفة أنّ بلوغ الغلام بالسّنّ هو بلوغه ثماني عشرة سنةً ، والجارية سبع عشر سنةً . وذلك لقوله تعالى « ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالّتي هي أحسن حتّى يبلغ أشدّه » قال ابن عبّاس رضي الله عنه : ثماني عشرة سنةً وهي أقلّ ما قيل فيه ، فأخذ به احتياطاً . هذا أشدّ الصّبيّ ، والأنثى أسرع بلوغاً من الغلام فنقصناها سنةً ، ويرجع في تفصيل الأحكام إلى مصطلحي ( احتلام ) ( وبلوغ ) .
مدّة المسح على الخفّ
27 - يرى الجمهور جواز المسح على الخفّ مدّة يوم وليلة للمقيم ، وثلاثة أيّام ولياليها للمسافر ، وهو رأي الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة والثّوريّ والأوزاعيّ والحسن بن صالح بن حيّ وإسحاق بن راهويه ومحمّد بن جرير الطّبريّ . قال ابن سيّد النّاس في شرح التّرمذيّ : وثبت التّوقيت عن عمر بن الخطّاب ، وعليّ بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وابن عبّاس ، وحذيفة ، والمغيرة ، وأبي زيد الأنصاريّ . هؤلاء من الصّحابة ، وروي عن جماعة من التّابعين منهم شريح القاضي ، وعطاء بن أبي رباح ، والشّعبيّ ، وعمر بن عبد العزيز . قال أبو عمر بن عبد البرّ : وأكثر التّابعين والفقهاء على ذلك . واستدلّوا بأحاديث وآثار كثيرة ، منها ما روى صفوان بن عسّال ، قال : « أمرنا - يعني النّبيّ صلى الله عليه وسلم - أن نمسح على الخفّين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثةً إذا سافرنا ، ويوماً وليلةً إذا أقمنا ، ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم ، ولا نخلعهما إلاّ من جنابة » . رواه أحمد وابن خزيمة . وقال الخطّابيّ : هو صحيح الإسناد ، وعن عوف بن مالك الأشجعيّ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفّين في غزوة تبوك ثلاثة أيّام ولياليهنّ للمسافر ، ويوماً وليلةً للمقيم . » رواه أحمد ، وقال : هو أجود حديث في المسح على الخفّين ؛ لأنّه في غزوة تبوك ، وهي آخر غزاة غزاها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وهو آخر فعله . ويرى المالكيّة أنّ المسح على الخفّين غير مؤقّت ، وأنّ لابس الخفّين وهو طاهر يمسح عليهما ما بدا له ، والمسافر والمقيم في ذلك سواء ، ما لم ينزعهما ، أو تصبه جنابة . إلاّ أنّه يندب نزعه كلّ يوم جمعة ، ويستحبّ كلّ أسبوع أيضاً ، وقد استدلّ لهذا الرّأي بما روي عن أبيّ بن عمارة « أنّه قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أمسح على الخفّين ؟ قال : نعم قال : يوماً ، قال : ويومين ؟ قال : وثلاثة أيّام ؟ قال : نعم وما شئت » . وفي رواية « حتّى بلغ سبعاً ، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : نعم ، وما بدا لك » رواه أبو داود ، وروي ذلك عن عمر بن الخطّاب ، وعقبة بن عامر ، وعبد اللّه بن عمر ، والحسن البصريّ ، واللّيث بن سعد . كما أنّهم قاسوه على مسح الرّأس والجبيرة ، فكما أنّ المسح عليهما لا يتوقّت ، فكذلك المسح على الخفّين .
مدّة السّفر
28 - السّفر لغةً قطع المسافة ، وليس كلّ سفر تتغيّر به الأحكام ، من جواز الإفطار ، وقصر الصّلاة الرّباعيّة ، ومسح الخفّ ، وإنّما سفر خاصّ ، حدّده الفقهاء ، وإن اختلفوا في هذا التّحديد : فيرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ طويل السّفر هو المجيز لقصر الصّلاة ، وقالوا : إنّ السّفر الطّويل هو أربعة برد فأكثر برّاً أو بحراً . وقد استدلّ أصحاب هذا الرّأي بما روي أنّ ابن عمر وابن عبّاس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد فما فوقها . ولا يعرف لهما مخالف ، وأسنده البيهقيّ بسند صحيح ، قال الخطّابيّ : ومثل هذا لا يكون إلاّ عن توقيف . وروي عن جماعة من السّلف ما يدلّ على جواز القصر في أقلّ من يوم . فقال الأوزاعيّ : كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ . وروي عن عليّ رضي الله عنه أنّه خرج من قصره بالكوفة حتّى أتى النّخيلة فصلّى بها كلّاً من الظّهر والعصر ركعتين ، ثمّ رجع من يومه ، فقال : أردت أن أعلّمكم سنّتكم . ويرى الحنفيّة أنّ السّفر الّذي تتغيّر به الأحكام أن يقصد الإنسان مسيرة ثلاثة أيّام ولياليها ، بسير الإبل ، ومشي الأقدام ، لقوله عليه السلام : « يمسح المقيم كمال يوم وليلة ، والمسافر ثلاثة أيّام ولياليها » عمّ الجنس ، ومن ضرورته عموم التّقدير ؛ ولأنّ الثّلاثة الأيّام متّفق عليها ، وليس فيما دونها توقيف ولا اتّفاق . وقدّره أبو يوسف رحمه الله بيومين وأكثر الثّالث . والسّير المذكور هو الوسط ، ويعتبر في الجبل ما يليق به ، وفي البحر اعتدال الرّياح . فينظر كم يسير في مثله ثلاثة أيّام فيجعل أصلاً » .
الفصل الثّاني الأجل القضائي
29 - المراد بالأجل القضائيّ : الأجل الّذي يضربه القاضي لحضور الخصوم ، أو إحضار البيّنة ، أو إحضار الكفيل ، أو تأجيل المعسر إلى ميسرة . الحضور للتّقاضي :
30 - إنّ الأجل الّذي يضربه القاضي لحضور المتخاصمين موكول إلى تقديره وطبيعة موضوع النّزاع . وللفقهاء تفصيلات كثيرة في هذا ، هي من قبيل الأوضاع الزّمنيّة الّتي تتغيّر ، وتفصيلها في أبواب الدّعوى والقضاء من كتب الفقه .
( إحضار البيّنة ) :
31 - يرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ للقاضي أن يمهل المدّعي ثلاثة أيّام لإحضار البيّنة ، بينما يرى المالكيّة والحنابلة أنّ ذلك موكول لاجتهاد القاضي .
الفصل الثّالث
الأجل الاتّفاقيّ
32 - يقصد به المدّة المستقلّة الّتي يحدّدها الملتزم للوفاء بالتزامه ، سواء أكان هذا الالتزام يقابله التزام من آخر أو لا يقابله ، أو يحدّدها لإنهاء هذا الالتزام . وينقسم هذا النّوع من الأجل إلى قسمين : أجل إضافة ، ومحلّ بيان أحكامه مصطلح ( إضافة ) وأجل توقيت ، وفيما يلي آراء الفقهاء في حكمه :
اشتراط تأجيل تسليم العين في التّصرّفات النّاقلة للملكيّة :
33 - اختلف الفقهاء في صحّة اشتراط تأجيل تسليم ( العين ) إلى المنقول إليه ملكيّتها مدّةً معلومةً للانتفاع بها على رأيين : الأوّل : يرى المالكيّة والحنابلة وهو رأي مرجوح في مذهب الشّافعيّة : أنّه يجوز أن يشترط تأجيل تسليم العين إلى المدّة الّتي يحدّدها المتعاقدان ، وأن يكون المنتفع بها هو النّاقل للملكيّة ، وهذا الرّأي منقول عن الأوزاعيّ ، وابن شبرمة ، وإسحاق ، وأبي ثور . ومن أمثلته : إذا باع داراً على أن يسكنها البائع شهراً ، ثمّ يسلّمها إليه ، أو أرضاً على أن يزرعها سنةً ، أو دابّةً على أن يركبها شهراً ، أو ثوباً على أن يلبسه أسبوعاً . واستدلّ لهذا الرّأي بأنّ عموم الآيات والأحاديث تأمر بالوفاء بالعقود . قال اللّه تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود . . . } وقال تعالى : { وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسئولاً } وقال عليه الصلاة والسلام : « المسلمون على شروطهم إلاّ شرطاً حرّم حلالاً ، أو أحلّ حراماً » ، فالآيات والأحاديث تأمر بالوفاء بكلّ عقد وشرط لا يخالف كتاب اللّه ، ولا سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم . وبخصوص ما روي عن جابر رضي الله عنه : « أنّه كان يسير على جمل قد أعيا ، فضربه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسار سيراً لم يسر مثله . فقال : بعنيه . فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي » . متّفق عليه . فهذا الحديث يدلّ على جواز اشتراط تأجيل تسليم المبيع فترةً ينتفع فيها البائع به ، ثمّ يسلّمه إلى المشتري . ويؤيّده أنّه صلى الله عليه وسلم « نهى عن الثّنيا أي الاستثناء إلاّ أن تعلم » وهذه معلومة ، وأكثر ما فيه تأخير تسليم المبيع مدّة معلومة ، فصحّ . الثّاني : يرى الحنفيّة ، وهو الرّاجح عند الشّافعيّة ، عدم صحّة اشتراط تأجيل تسليم العين . واستدلّوا بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه « نهى عن بيع وشرط » ، وروي أنّ عبد اللّه بن مسعود اشترى جاريةً من امرأته زينب الثّقفيّة . وشرطت عليه أنّك إن بعتها فهي لي بالثّمن . فاستفتى عمر رضي الله عنه ، فقال : « لا تقربها » ، وفيها شرط لأحد وروي أنّ عبد اللّه بن مسعود اشترى جاريةً واشترط خدمتها ، فقال له عمر لا تقربها وفيها مثنويّة . وأمّا إذا جعل تأجيل تسليم العين لمصلحة أجنبيّ عن العقد ، كما إذا باعه بشرط أن ينتفع بها فلان « الأجنبيّ عن العقد » شهراً ، فلم ير صحّة هذا أحد من الفقهاء غير الحنابلة .
المبحث الثّالث
تأجيل الدّين الدّين : هو مال حكميّ يحدث في الذّمّة ببيع أو استهلاك أو غيرهما .
مشروعيّة تأجيل الدّيون
34 - لقد شرع جواز تأجيل الدّيون بالكتاب والسّنّة والإجماع . أمّا الكتاب فقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمًّى فاكتبوه . . . } فهذه الآية ، وإن كانت لا تدلّ على جواز تأجيل سائر الدّيون ، إلاّ أنّها تدلّ على أنّ من الدّيون ما يكون مؤجّلاً ، وهو ما نقصده هنا من الاستدلال بها على مشروعيّة الأجل . وأمّا السّنّة فما روي عن السّيّدة عائشة رضي الله عنها : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اشترى من يهوديّ طعاماً إلى أجل ، ورهنه درعاً له من حديد » . رواه مسلم واللّفظ له . فهو يدلّ على مشروعيّة تأجيل الأثمان ، وقد أجمعت الأمّة على ذلك . حكمة قبول الدّين التّأجيل دون العين :
35 - نصّ الفقهاء على أنّ الفرق بين الأعيان والدّيون من حيث جواز التّأجيل في الثّانية دون الأولى : أنّ الأعيان معيّنة ومشاهدة ، والمعيّن حاصل وموجود ، والحاصل والموجود ليس هناك مدعاة لجواز ورود الأجل عليه . أمّا الدّيون : فهي مال حكميّ يثبت في الذّمّة ، فهي غير حاصلة ولا موجودة ، ومن ثمّ شرع جواز تأجيلها ، رفقاً بالمدين ، وتمكيناً له من اكتسابها وتحصيلها في المدّة المضروبة ، حتّى إنّ المشتري لو عيّن النّقود الّتي اشترى بها لم يصحّ تأجيلها . الدّيون من حيث جواز التّأجيل وعدمه :
36 - أوضح الفقهاء أنّ الدّيون تكون حالّةً ، وأنّه يجوز تأجيلها إذا قبل الدّائن ، واستثنى جمهور الفقهاء من هذا الأصل عدّة ديون : أ - ( رأس مال السّلم ) :
37 - وذلك لأنّ حقيقته شراء آجل ، وهو المسلم فيه ( وهو السّلعة ) ، بعاجل ، وهو رأس المال ( وهو الثّمن ) فرأس مال السّلم لا بدّ من كونه حالّاً ، عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ؛ لأنّ من شرط صحّة هذا العقد قبض رأس المال قبل انتهاء مجلس العقد ولأنّه لو تأخّر لكان في معنى بيع الدّين بالدّين ، ( إن كان رأس المال في الذّمّة ) وهو منهيّ عنه ، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « نهى عن بيع الكالئ بالكالئ » أي النّسيئة بالنّسيئة ؛ ولأنّ في السّلم غرراً ، فلا يضمّ إليه غرر تأخير تسليم رأس المال ، فلا بدّ من حلول رأس المال ، كالصّرف ، فلو تفرّقا قبل قبض رأس المال بطل العقد . ويرى المالكيّة أنّ من شروط صحّة عقد السّلم قبض رأس المال كلّه في مجلس العقد ، ويجوز تأخير قبضه بعد العقد لمدّة لا تزيد على ثلاثة أيّام ، ولو بشرط ذلك في العقد ؛ لأنّ ما قارب الشّيء يعطى حكمه ، وهذا إذا لم يكن أجل السّلم قريباً كيومين ، وذلك فيما شرط قبضه في بلد آخر ، وإلاّ فلا يجوز تأخير هذه المدّة ؛ لأنّه عين الكالئ بالكالئ ، فيجب أن يقبض رأس المال بالمجلس أو ما يقرب منه . وفي فساد السّلم بالزّيادة على الثّلاث ( بلا شرط إن لم تكثر جدّاً - بألاّ يحلّ أجل المسلم فيه - ) وعدم فساده قولان لمالك .
ب - ( بدل الصّرف ) :
38 - من شروط صحّة الصّرف تقابض الثّمنين في مجلس العقد ، أي قبل افتراق المتعاقدين بأبدانهما ، فلو اشترط الأجل فيه فسد ؛ لأنّ الأجل يمنع القبض ، وإذا لم يتحقّق القبض لم يتحقّق شرط صحّته ، وهذا ما صرّح به الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد . فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد » ، أي مقابضةً . قال الرّافعيّ : ومن لوازمه الحلول . وقال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أنّ الصّرف فاسد ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الذّهب بالورق رباً إلاّ هاء وهاء » ، وقوله عليه الصلاة والسلام : « بيعوا الذّهب بالفضّة كيف شئتم يداً بيد » .
ج - ( الثّمن بعد الإقالة ) :
39 - الإقالة جائزة في البيع بمثل الثّمن الأوّل ، عليه إجماع المسلمين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أقال نادماً بيعته أقال اللّه عثرته يوم القيامة » . أخرجه أبو داود وابن ماجه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من أقال مسلماً بيعته أقال اللّه عثرته » زاد ابن ماجه : « يوم القيامة » . ورواه ابن حبّان في صحيحه والحاكم ، وقال على شرط الشّيخين ، وأمّا لفظ « نادماً " فعند البيهقيّ . والإقالة عند الجمهور عود المتعاقدين إلى الحال الأوّل ، بحيث يأخذ البائع المبيع والمشتري الثّمن . فإن شرط غير جنس الثّمن ، أو أكثر منه ، أو أجله ، بأن كان الثّمن حالّاً فأجّله المشتري عند الإقالة ، فإنّ التّأجيل يبطل ، وتصحّ الإقالة . وذهب المالكيّة إلى أنّ الإقالة بيع فتجري عليها أحكامه من التّأجيل وغيره .
د - ( بدل القرض ) :
40 - اختلف العلماء في جواز اشتراط تأجيل القرض : فيرى جمهور الفقهاء أنّه يجوز للمقرض المطالبة ببدله في الحال ، وأنّه لو اشترط فيه التّأجيل لم يتأجّل ، وكان حالّاً ، وبهذا قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة والحارث العكليّ والأوزاعيّ وابن المنذر . وذلك لأنّه سبب يوجب ردّ المثل في المثليّات ، فأوجبه حالّاً ، كالإتلاف ، ولو أقرضه بتفاريق ، ثمّ طالبه بها جملةً فله ذلك ؛ لأنّ الجميع حالّ ، فأشبه ما لو باعه بيوعاً حالّةً ، ثمّ طالبه بثمنها جملةً ؛ ولأنّ الحقّ يثبت حالّاً ، والتّأجيل تبرّع منه ووعد ، فلا يلزم الوفاء به ، كما لو أعاره شيئاً ، وهذا لا يقع عليه اسم الشّرط ، ولو سمّي شرطاً ، فلا يدخل في حديث : « المؤمنون عند شروطهم » .
هـ - ( ثمن المشفوع فيه ) :
41 - اختلف الفقهاء في كون ثمن المشفوع فيه هل يجب حالّاً ، أو يجوز فيه التّأجيل ، فيرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّه يجب حالّاً ولو كان الثّمن مؤجّلاً على المشتري ، ويرى المالكيّة والحنابلة أنّه إذا بيع العقار مؤجّلاً أخذه الشّفيع إلى أجله .
الدّيون المؤجّلة بحكم الشّرع
أ - ( الدّية ) :
42 - لمّا كانت الدّية قد تجب في القتل العمد ( إذا عفي عن القاتل ، وطلبها أولياء المقتول ، كما هو رأي الشّافعيّة والحنابلة - أو رضي أولياء الدّم ورضي القاتل بدفعها كما هو رأي الحنفيّة والمالكيّة ) ، وفي شبه العمد ، وفي الخطأ ، ولمّا كان الفقهاء قد اختلفوا في كيفيّة أدائها في كلّ نوع من أنواع القتل الّذي وجبت فيه ، كان لا بدّ من بيان آرائهم فيما يكون منها حالّاً أو مؤجّلاً . الدّية في القتل العمد :
43 - يرى جمهور الفقهاء ( المالكيّة ، والشّافعيّة والحنابلة ) أنّها تجب في مال القاتل حالّةً غير مؤجّلة ولا منجّمة ، وذلك لأنّ ما وجب بالقتل العمد كان حالّاً ، كالقصاص ، فإنّه يجب حالّاً ، ويرى الحنفيّة التّفريق بين الدّية الّتي تجب بالصّلح ، فيجعلونها حالّةً في مال القاتل ، وبين الّتي تجب بسقوط القصاص بشبهة ، كما إذا قتل الأب ابنه عمداً ، فإنّها تجب في مال القاتل في ثلاث سنين ، وذلك قياساً على القتل الخطأ .
الدّية في القتل شبه العمد :
44 - تجب الدّية في هذا النّوع من القتل على العاقلة في ثلاث سنين ، وهو رأي الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ( وهو المرويّ عن عمر وعليّ وابن عبّاس رضي الله عنهم ، وبه قال الشّعبيّ والنّخعيّ وقتادة وعبد اللّه بن عمر وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر ) . واستدلّوا بما روي أنّ عمر وعليّاً قضيا بالدّية على العاقلة في ثلاث سنين ، ولا مخالف لهما في عصرهما فكان إجماعاً ، ولأنّ المرويّ عنهما كالمرويّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّه ممّا لا يعرف بالرّأي .
الدّية في القتل الخطأ :
45 - يرى جمهور الفقهاء أنّ الدّية في القتل الخطأ تكون مؤجّلةً لمدّة ثلاث سنوات ، يؤخذ في كلّ سنة ثلث الدّية ، ويجب في آخر كلّ سنة ، وهو رأي الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . واستدلّوا بما روي عن عمر بن الخطّاب أنّه قضى بالدّية على العاقلة في ثلاث سنين ، وقد قال هذا أيضاً عليّ وعبد اللّه بن عبّاس ، وقد عزاه الإمام الشّافعيّ في المختصر إلى قضاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد نقل الرّافعيّ والتّرمذيّ في جامعه وابن المنذر الإجماع على ذلك .
ب - المسلم فيه :
46 - لمّا كان السّلم هو شراء آجل بعاجل ، والآجل هو المسلم فيه ، فقد اشترط الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والأوزاعيّ لصحّة السّلم أن يكون المسلم فيه مؤجّلاً إلى أجل معلوم ، ولا يصحّ السّلم الحالّ لقول النّبيّ عليه الصلاة والسلام : « من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ، أو وزن معلوم ، إلى أجل معلوم » . فأمر بالأجل ، وأمره يقتضي الوجوب ؛ ولأنّه أمر بهذه الأمور تبييناً لشروط السّلم ، ومنعاً منه بدونها ، وكذلك لا يصحّ إذا انتفى الكيل والوزن ، فكذلك الأجل ؛ ولأنّ السّلم إنّما جاز رخصةً للرّفق ، ولا يحصل الرّفق إلاّ بالأجل ، فإذا انتفى الأجل انتفى الرّفق ، فلا يصحّ ، كالكتابة ؛ ولأنّ الحلول يخرجه عن اسمه ومعناه . ويرى الشّافعيّة وأبو ثور وابن المنذر أنّه يجوز أن يكون السّلم في الحالّ ؛ لأنّه عقد يصحّ مؤجّلاً فصحّ حالّاً ، كبيوع الأعيان ؛ ولأنّه إذا جاز مؤجّلاً ، فحالّاً أجوز ، ومن الغرر أبعد .
ج - ( مال الكتابة ) :
47 - اختلف الفقهاء في وجوب تأجيل العوض المكاتب به إلى أجل معيّن : فيرى الحنفيّة ، وابن رشد من المالكيّة ، وابن عبد السّلام والرّويانيّ من الشّافعيّة ، أنّه لا يشترط ذلك ، بل تصحّ بمال مؤجّل وبمال حالّ ، ويرى المالكيّة - على الرّاجح عندهم - والشّافعيّة والحنابلة : أنّها لا تكون إلاّ بمال مؤجّل منجّم تيسيراً على المكاتب في الجملة .
د - توقيت القرض :
48 - سبق بيان آراء الفقهاء في جواز تأجيل بدل القرض وعدمه . أمّا عقد القرض فهو عقد لا يصدر إلاّ مؤقّتاً ، وذلك لأنّه عقد تبرّع ابتداءً ، ومعاوضة انتهاءً ، أو دفع مال إرفاقاً لمن ينتفع به ويردّ بدله . والانتفاع به يكون بمضيّ فترة ينتفع فيها المقترض بمال القرض ، وذلك باستهلاك عينه ؛ لأنّه لو كان الانتفاع به مع بقاء عينه كان إعارةً لا قرضاً ، ثمّ يردّ مثله إذا كان مثليّاً وقيمته إذا كان قيميّاً ، وقد اختلف الفقهاء في المدّة الّتي يلزم فيها هذا العقد : فيرى المالكيّة أنّه عقد لازم في حقّ الطّرفين طوال المدّة المشترطة في العقد ، فإن لم يكن اشتراط فللمدّة الّتي اعتيد اقتراض مثله لها ، ويرى الحنابلة أنّ عقد القرض عقد لازم بالقبض في حقّ المقرض ، جائز في حقّ المقترض ، ويثبت العوض عن القرض في ذمّة المقترض حالّاً ، وإن أجّله ؛ لأنّه عقد منع فيه من التّفاضل ، فمنع الأجل فيه ، كالصّرف ، إذ الحالّ لا يتأجّل بالتّأجيل ، وهو عدة تبرّع لا يلزم الوفاء به . قال أحمد : القرض حالّ ، وينبغي أن يفي بوعده ، ويحرم الإلزام بتأجيل القرض ؛ لأنّه إلزام بما لا يلزم . ويرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ القرض عقد إرفاق جائز في حقّ الطّرفين ، وذلك لأنّ الملك في القرض غير تامّ ؛ لأنّه يجوز لكلّ واحد منهما أن ينفرد بالفسخ .
القسم الثّاني أجل التّوقيت
49 - يقصد بأجل التّوقيت : الزّمن الّذي يترتّب على انقضائه زوال التّصرّف ، أو انتهاء الحقّ الّذي اكتسب خلال هذه المدّة المتّفق عليها ، والعقود والتّصرّفات من حيث قبولها للتّوقيت تنقسم إلى : أ - ( عقود لا تصلح إلاّ ممتدّةً لأجل ) ( مؤقّتة ) .
ب - عقود تصحّ حالّةً ومؤقّتةً . كما أنّ هذه العقود منها ما لا يصحّ إلاّ بأجل معلوم ، ومنها ما لا يصحّ إلاّ بأجل مجهول ، ومنها ما يصحّ بأجل معلوم أو مجهول ، وفيما يلي بيان ذلك . المبحث الأوّل عقود لا تصحّ إلاّ ممتدّةً لأجل ( مؤقّتة ) .
وهذا القسم يشمل عقود : الإجارة ، والكتابة والقراض :
أ - ( عقد الإجارة ) :
50 - إنّ الإجارة مؤقّتة إمّا بمدّة ، وإمّا بعمل معيّن ، والعمل يتمّ في زمن عادةً ، وبانتهاء العمل ينتهي عقد الإجارة ، فهو عقد مؤقّت . ومثل عقد الإجارة : المساقاة والمزارعة .
عقد المساقاة :
51 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة أنّ المساقاة تكون مؤقّتةً ، فإن لم يبيّنا مدّةً وقع على أوّل ثمر يخرج ، ويرى الحنابلة أنّها يصحّ توقيتها ؛ لأنّه لا ضرر في تقدير مدّتها ، ولا يشترط توقيتها .
( تأقيت المزارعة ) :
52 - المزارعة لا يجيزها الإمام أبو حنيفة ، ويجيزها الصّاحبان أبو يوسف ومحمّد وبقولهما يفتى في المذهب . كما لا يجيزها الشّافعيّة إلاّ إذا كان بين النّخل أو العنب بياض ( أي أرض لا زرع فيها ) صحّت المزارعة عليه مع المساقاة على النّخل أو العنب تبعاً للمساقاة ، ويرى المالكيّة ومحمّد بن الحسن والحنابلة أنّ عقد المزارعة يجوز بلا بيان مدّة ، وتقع على أوّل زرع يخرج ، ويرى جمهور الحنفيّة أنّ من شروط صحّة عقد المزارعة ذكر مدّة متعارفة ، فتفسد بما لا يتمكّن فيها من المزارعة ، وبما لا يعيش إليها أحدهما غالباً .
ب - ( عقد الكتابة ) :
53 - هو عقد بين السّيّد ومملوكه على مال يوجب تحرير يد المملوك ( أي تصرّفه ) في الحال ورقبته في المآل وهو من محاسن الإسلام ، إذ فيه فتح باب الحرّيّة للأرقّاء ، وعقد الكتابة يوجب تأجيل العوض المكاتب به إلى أجل معيّن عند جمهور الفقهاء ، فإذا أدّاه المكاتب عتق ، فيكون هذا العقد مؤقّتاً بتأقيت العوض فيه . فإذا وفّى بما التزمه انتهى عقد الكتابة ، وعتق ، وإن لم يوفّ أو عجز نفسه ، انتهى عقد الكتابة وعاد رقيقاً ، على تفصيل في ذلك .
المبحث الثّاني
عقود تصحّ مطلقةً ومقيّدةً تأقيت عقد العاريّة لأجل :
54 - لمّا كانت حقيقة العاريّة أنّها إباحة نفع عين يحلّ الانتفاع بها مع بقاء العين ، ليردّها على مالكها ، لذلك لم يختلف الفقهاء في أنّ هذه الإباحة موقوتة ، غير أنّ هذا الوقت قد يكون محدّداً ، وتسمّى عاريّة مقيّدة - وقد لا يكون ، وتسمّى العاريّة المطلقة ، ويرى جمهور الفقهاء أنّ العاريّة عقد غير لازم فلكلّ واحد من المتعاقدين الرّجوع متى شاء ، خلافاً للمالكيّة في المقيّدة ، وفي المطلقة إلى مدّة ينتفع فيها بمثلها عادةً .
تأقيت الوكالة لأجل :
55 - يجوز تأقيت الوكالة بأجل عند جميع الفقهاء ، كقوله " وكّلتك شهراً ، فإذا مضى الشّهر امتنع الوكيل عن التّصرّف " " ولو قال وكّلتك في شراء كذا في وقت كذا صحّ بلا خلاف " لأنّ الوكيل لا يملك من التّصرّف إلاّ ما يقتضيه إذن الموكّل ، وعلى الوجه الّذي أراده ، وفي الزّمن والمكان الّذي حدّده . والأصل في الوكالة أنّها عقد جائز من الطّرفين ، لكلّ واحد منهما فسخها متى شاء ، إلاّ إذا تعلّق بها حقّ للغير ؛ لأنّه إذن في التّصرّف ، فكان لكلّ واحد منها إبطاله ، كالإذن في أكل طعامه . وهذا ما صرّح به جمهور الفقهاء في الجملة . وللمالكيّة تفصيل في هذا تبعاً للعوض وعدمه ، يرجع فيه وفي التّفصيلات الأخرى إلى الوكالة .
توقيت المضاربة ( القراض ) :
56 - اختلف الفقهاء في جواز تأقيت المضاربة : فيرى الحنفيّة والحنابلة أنّه يجوز توقيت المضاربة ، مثل أن يقول : ضاربتك على هذه الدّراهم سنةً ، فإذا انقضت فلا تبع ولا تشتر . فإذا وقّت لها وقتاً انتهت بمضيّه ؛ لأنّ التّوقيت مقيّد ، وهو وكيل ، فيتقيّد بما وقّته ، كالتّقييد بالنّوع والمكان . ولأنّه تصرّف يتوقّت بنوع من المتاع ، فجاز توقيته في الزّمان ، كالوكالة ؛ ولأنّ لربّ المال منعه من البيع والشّراء في كلّ وقت إذا رضي أن يأخذ بماله عرضاً ، فإذا شرط ذلك فقد شرط ما هو من مقتضى العقد ، فصحّ ، كما لو قال : إذا انقضت السّنة فلا تشتر شيئاً . ويرى المالكيّة ، والشّافعيّة ، أنّه لا يجوز توقيت المضاربة .
تأقيت الكفالة بأجل :
57 - اختلف الفقهاء في جواز تأقيت الكفالة ، كما لو قال : « أنا كفيل بزيد إلى شهر وبعده أنا بريء » . فيرى الحنفيّة والشّافعيّة ( على الصّحيح عندهم ) والحنابلة أنّه يجوز توقيتها ، وكذلك المالكيّة بشروط تفصيلها في باب الضّمان من كتبهم ؛ لأنّه قد يكون له غرض في التّقيّد بهذه المدّة ، وقد أورد الحنفيّة بعض صور التّوقيت . واختلف المذهب في صحّة التّوقيت فيها يرجع إليها في الكفالة . ويرى الشّافعيّة ( على الأصحّ عندهم ) أنّه لا يجوز توقيت الكفالة .
( تأقيت الوقف بأجل ) :
58 - إذا صدر الوقف مؤقّتاً ، وذلك بأن علّق فسخه على مجيء زمن معيّن ، كما لو قال : « داري وقف إلى سنة ، أو إلى أن يقدم الحاجّ » . فقد اختلف الفقهاء في حكمه ، فيرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يصحّ ؛ لأنّ الوقف مقتضاه التّأبيد . ويرى المالكيّة ، وهو قول للحنابلة ، أنّه لا يشترط في صحّة الوقف التّأبيد ، فيصحّ مدّةً معيّنةً ، ثمّ يرجع ملكاً كما كان .
تأقيت البيع :
59 - لمّا كان البيع هو مبادلة المال بالمال بالتّراضي ، وكان حكمه هو ثبوت الملك للمشتري في المبيع ، وللبائع في الثّمن للحالّ ولمّا كان هذا الملك يثبت له على التّأبيد ، فإنّه لا يحتمل التّأقيت جاء في الأشباه والنّظائر للسّيوطيّ : « أنّ ممّا لا يقبل التّأقيت بحال ، ومتى أقّت بطل ، البيع بأنواعه » ... وذلك كما قال الكاسانيّ : « لأنّ عقود تمليك الأعيان لا تصحّ مؤقّتةً » . وقد أبطل الفقهاء كلّ شرط يؤدّي إلى تأقيت البيع ، أي إلى عودة المبيع إلى بائعه الأوّل ، سواء كان هذا التّأقيت ناتجاً عن الصّيغة ، كبعتك هذا سنةً ، أو عن شرط يؤدّي إلى توقيت البيع ، كبعتك هذا بشرط أن تردّه لي بعد مدّة كذا .
بيوع الآجال عند المالكيّة
60 - وهي بيوع دخل فيها الأجل ، واتّحدت فيها السّلعة ، واتّحد فيها المتعاقدان ، وقد أبرزها فقهاء المالكيّة ، وبيّنوا أنّ هذه البيوع ظاهرها الجواز ، لكنّها قد تؤدّي إلى ممنوع ، وذلك لأنّها قد تؤدّي إلى بيع وسلف ، أو سلف جرّ منفعةً ، وكلاهما ممنوع ، كما وضعوا ضابطاً لما يمنع من هذه البيوع . فقالوا : يمنع من هذه البيوع ما اشتمل على بيع وسلف ، وما اشتمل على سلف جرّ منفعةً ، أو يمنع منها ما كثر قصد النّاس إليه للتّوصّل إلى الرّبا الممنوع ، كبيع وسلف ، وسلف بمنفعة ، ولا يمنع ما قلّ قصده ، كضمان بجعل ، أي كبيع جائز أدّى إلى ضمان بجعل .
( صور بيوع الآجال ) :
61 - وصورها كما ذكرها المالكيّة متعدّدة ، وتشمل الصّور التّالية : إذا باع شيئاً لأجل ، ثمّ اشتراه بجنس ثمنه فهذا إمّا أن يكون :
1 - نقداً .
2 - أو لأجل أقلّ .
3 - أو لأجل أكثر .
4 - أو لأجل مساو للأجل الأوّل .
وكلّ ذلك إمّا أن يكون :
1 - بمثل الثّمن الأوّل .
2 - أو أقلّ من الثّمن الأوّل .
3 - أو أكثر من الثّمن الأوّل . فتكون هذه الصّور اثنتي عشرة صورةً ، يمنع من هذه الصّور ثلاث فقط وهي ما تعجّل فيه الأقلّ ، وهي :
1 - ما إذا باع سلعةً لأجل ، ثمّ اشتراها بأقلّ نقداً ( بيع العينة ) .
2 - وما إذا باع سلعةً لأجل ثمّ اشتراها لأجل دون الأجل الأوّل .
3 - وما إذا باع سلعةً لأجل ثمّ اشتراها لأجل أبعد من الأجل الأوّل ، وعلّة المنع في هذه الصّور هي دفع قليل في كثير ، وهو سلف بمنفعة ، إلاّ أنّه في الصّورتين الأوليين من البائع ، وفي الأخيرة من المشتري ، وأمّا الصّور التّسع الباقية فجائزة . والضّابط أنّه إذا تساوى الأجلان أو الثّمنان فالجواز ، وإن اختلف الأجلان والثّمنان فينظر إلى اليد السّابقة بالعطاء ، فإن دفعت قليلاً عاد إليها كثيراً فالمنع ، وإلاّ فالجواز :
62 - فمن صور « بيوع الآجال » بيع العينة . وبيع العينة قال الرّافعيّ : هو أن يبيع شيئاً من غيره بثمن مؤجّل ، ويسلّمه إلى المشتري ، ثمّ يشتريه قبل قبض الثّمن بثمن نقد أقلّ من ذلك القدر وقال ابن رسلان في شرح السّنن : وسمّيت هذه المبايعة عينةً لحصول النّقد لصاحب العينة ؛ لأنّ العين هو المال الحاضر ، والمشتري إنّما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ، ليصل به إلى مقصوده ، وقد روي عدم جواز بيع العينة عن ابن عبّاس وعائشة وابن سيرين والشّعبيّ والنّخعيّ ، وبه قال الثّوريّ والأوزاعيّ وأبو حنيفة ومالك وإسحاق وأحمد . وقد استدلّوا بأحاديث ، منها : ما روي عن ابن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا ضنّ النّاس بالدّينار والدّرهم وتبايعوا بالعينة ، واتّبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل اللّه ، أنزل اللّه بهم بلاءً ، فلا يرفعه حتّى يراجعوا دينهم » . رواه أحمد وأبو داود ، ولفظه : « إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزّرع ، وتركتم الجهاد ، سلّط اللّه عليكم ذلّاً لا ينزعه حتّى ترجعوا إلى دينكم » . واستدلّ ابن القيّم على عدم جواز بيع العينة بما روي عن الأوزاعيّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « يأتي على النّاس زمان يستحلّون الرّبا بالبيع » . قال : وهذا الحديث وإن كان مرسلاً فإنّه صالح للاعتضاد به بالاتّفاق ، وله من المسندات ما يشهد له ، وهي الأحاديث الدّالّة على تحريم العينة ، فإنّه من المعلوم أنّ العينة عند من يستعملها إنّما يسمّيها بيعاً ، وقد اتّفقا على حقيقة الرّبا الصّريح قبل العقد ، ثمّ غيّر اسمها إلى المعاملة ، وصورتها إلى التّبايع الّذي لا قصد لهما فيه ألبتّة ، وإنّما هو حيلة ومكر وخديعة للّه تعالى . وأجاز الشّافعيّة هذا البيع مستدلّين على الجواز بما وقع من ألفاظ البيع ، ولأنّه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها ، فجاز من بائعها ، كما لو باعها بثمن المثل ، ولم يأخذوا بالأحاديث المتقدّمة .
تأقيت الهبة :
63 - اتّفق الفقهاء على أنّ الهبة لا يجوز توقيتها لأنّها عقد تمليك لعين في الحال ، وتمليك الأعيان لا يصحّ مؤقّتاً ، كالبيع . فلو قال : وهبتك هذا سنةً ثمّ يعود إليّ ، لم يصحّ . وقد استثنى بعض الفقهاء من ذلك العمرى والرّقبى على خلاف وتفصيل موطنه في مصطلحيهما .
( تأقيت النّكاح )
تأقيت النّكاح له صور نبيّنها ونبيّن آراء الفقهاء في كلّ صورة منها :
أ - ( نكاح المتعة ) :
64 - وهو أن يقول لامرأة خالية من الموانع : أتمتّع بك مدّة كذا وقد ذهب إلى حرمته الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وكثير من السّلف . وتفصيله في نكاح المتعة
ب - ( النّكاح المؤقّت أو النّكاح لأجل ) :
65 - وهو أن يتزوّج امرأة بشهادة شاهدين إلى عشرة أيّام مثلاً . وهذا النّكاح أيضاً باطل عند الحنفيّة ( عدا زفر فإنّه قال بصحّة العقد وبطلان الشّرط ) والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لأنّه في معنى المتعة . وتفصيل أحكامه في موضع آخر ( ر : نكاح ) .
ج - النّكاح المؤقّت بمدّة عمره أو عمرها ، أو إلى مدّة لا يعيشان إليها :
66 - اختلف الفقهاء في حكم النّكاح المؤقّت إلى مدّة عمر الزّوج أو الزّوجة أو إلى مدّة لا يعيشان أو أحدهما إليها : فيرى الحنفيّة غير الحسن بن زياد والمالكيّة غير أبي الحسن والشّافعيّة غير البلقينيّ والحنابلة أنّه باطل ، لأنّه في معنى نكاح المتعة ، ويرى الحسن بن زياد أنّهما إذا ذكرا من الوقت ما يعلم أنّهما لا يعيشان إليه ، كمائة سنة أو أكثر ، كان النّكاح صحيحاً ؛ لأنّه في معنى التّأبيد ، وهو رواية عن أبي حنيفة . ويرى البلقينيّ أنّه يستثنى من بطلان النّكاح ما إذا نكحها مدّة عمره ، أو مدّة عمرها ، قال : فإنّ النّكاح المطلق لا يزيد على ذلك ، والتّصريح بمقتضى الإطلاق لا يضرّ ، فينبغي أن يصحّ النّكاح في هاتين الصّورتين ، قال : وفي نصّ الأمّ ما يشهد له ، وتبعه على ذلك بعض المتأخّرين . وجاء في حاشية الدّسوقيّ أنّ « ظاهر كلام أبي الحسن أنّ الأجل البعيد الّذي لا يبلغه عمرهما لا يضرّ بخلاف ما يبلغه عمر أحدهما فيضرّ » .
د - ( إضمار الزّوج تأقيت النّكاح ) :
67 - صرّح الحنفيّة والشّافعيّة بأنّه لو تزوّج وفي نيّته أن يطلّقها بعد مدّة نواها صحّ زواجه ، لكن الشّافعيّة قالوا بكراهة النّكاح ، إذ كلّ ما صرّح به أبطل يكون إضماره مكروهاً عندهم كما قال المالكيّة إنّ الأجل إذا لم يقع في العقد ، ولم يعلمها الزّوج بذلك ، وإنّما قصده في نفسه ، وفهمت المرأة أو وليّها المفارقة بعد مدّة ، فإنّه لا يضرّ وهذا هو الرّاجح ، وإن كان بهرام صدّر في « شرحه » وفي « شامله » بالفساد إذا فهمت منه ذلك الأمر الّذي قصده في نفسه فإن لم يصرّح للمرأة ولا لوليّها بذلك ولم تفهم المرأة ما قصده في نفسه فليس نكاح متعة . أمّا الحنابلة فقد صرّحوا بأنّه لو تزوّج الغريب بنيّة طلاقها إذا خرج ، فإنّ النّكاح يبطل ؛ لأنّه نكاح متعة ، وهو باطل . ولكن جاء في المغني : « وإن تزوّجها بغير شرط إلاّ أنّ في نيّته طلاقها بعد شهر ، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد ، فالنّكاح صحيح في قول عامّة أهل العلم إلاّ الأوزاعيّ ، قال : هو نكاح متعة . والصّحيح أنّه لا بأس به ، ولا تضرّ نيّته ، وليس على الرّجل أن ينوي حبس امرأته ، وحسبه إن وافقته وإلاّ طلّقها .
هـ - ( احتواء النّكاح على وقت يقع فيه الطّلاق ) :
68 - إذا تزوّج امرأةً بشرط أن يطلّقها في وقت معيّن ، لم يصحّ النّكاح ، وسواء كان معلوماً أو مجهولاً ، مثل أن يشترط عليه طلاقها إن قدم أبوها أو أخوها ، وقال أبو حنيفة : يصحّ النّكاح ، ويبطل الشّرط ، وهو أظهر قولي الشّافعيّ ، قاله في عامّة كتبه ؛ لأنّ النّكاح وقع مطلقاً ، وإنّما شرط على نفسه شرطاً ، وذلك لا يؤثّر فيه ، كما لو شرط ألاّ يتزوّج عليها أو لا يسافر بها . واستدلّ القائلون بالبطلان بأنّ هذا الشّرط مانع من بقاء النّكاح فأشبه نكاح المتعة ، ويفارق ما قاسوا عليها فإنّه لم يشترط قطع النّكاح .
تأقيت الرّهن بأجل :
69 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يجوز تأقيت الرّهن بأجل ، كأن يقول : رهنتك هذا الشّيء شهراً ، في الدّين الّذي لك عليّ .
تقسيم الأجل باعتبار ضبطه وتحديده :
70 - ينقسم الأجل من حيث ضبطه وتحديده إلى أجل معلوم وأجل مجهول . ومعلوميّة الأجل وجهالته لها أثر على صحّة العقد ، وعدم صحّته ، لما تورثه الجهالة من الغرر ، إلاّ أنّ من الجهالة ما كان متقارباً ، ومنها ما كان متفاوتاً ، وفيما يلي آراء المذاهب في ذلك .
( المبحث الأوّل الأجل المعلوم )
71 - اتّفق الفقهاء على صحّة الأجل ( فيما يقبل التّأجيل ) إذا كان الأجل معلوماً فأمّا كيفيّة العلم به فإنّه يحتاج فيها إلى أن يعلم بزمان بعينه لا يختلف من شخص إلى شخص ومن جماعة إلى جماعة ، وذلك إنّما يكون إذا كان محدّداً باليوم والشّهر والسّنة . والدّليل على اشتراط معلوميّة الأجل : قوله تعالى { يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمًّى فاكتبوه } . ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في موضع شرط الأجل : « من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » وقد انعقد الإجماع على صحّة التّأجيل إلى أجل معلوم . ولأنّ جهالة الأجل تفضي إلى المنازعة في التّسلّم والتّسليم ، فهذا يطالبه في قريب المدّة ، وذاك في بعيدها ، وكلّ ما يفضي إلى المنازعة يجب إغلاق بابه . ولأنّه . سيؤدّي إلى عدم الوفاء بالعقود ، وقد أمرنا بالوفاء بها . 72 - وقد اختلف الفقهاء في حقيقة العلم بالأجل ، أو معلوميّة الأجل : فصرّح بعضهم بأنّ الأجل المعلوم هو ما يعرفه النّاس ، كشهور العرب . وبعضهم جعله " ما يكون معلوماً للمتعاقدين ولو حكماً ، وأنّ الأيّام المعلومة للمتعاقدين كالمنصوصة ، وأنّ التّأجيل بالفعل الّذي يفعل في الأيّام المعتادة كالتّأجيل بالأيّام » . وإزاء هذين الاتّجاهين لا بدّ من بيان آراء الفقهاء في التّأجيل إلى أزمنة معلومة حقيقةً أو حكماً ، أو إلى فصول أو مناسبات ، أو إلى فعل يقع في أزمنة معتادة .
التّأجيل إلى أزمنة منصوصة
73 - اتّفق الفقهاء على صحّة التّأجيل إلى أزمنة منصوصة ، كما لو قال " خذ هذا الدّينار سلماً في إردبّ قمح إلى أوّل شهر رجب من هذا العام ، أو آخذه منك بعد عشرين يوماً » . والأصل في التّأجيل إلى الشّهور والسّنين عند الإطلاق أن تكون هلاليّةً ، فإذا ضرب أجلاً مدّته شهر أو شهران ، أو سنة أو سنتان ، مثلاً ، انصرف عند الإطلاق إلى الأشهر والسّنين الهلاليّة ، وذلك لأنّه عرف الشّرع ، قال تعالى : { يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس والحجّ } وقال تعالى : { إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض منها أربعة حرم } وقد صرّح بهذا الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
التّأجيل بغير الشّهور العربيّة
74 - إذا جعل الأجل مقدّراً بغير الشّهور الهلاليّة فذلك قسمان : القسم الأوّل : ما يعرفه المسلمون ، وهو بينهم مشهور ، ككانون وشباط . فقد جاز ذلك عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) لأنّه أجل معلوم لا يختلف ، فصار كالتّأجيل بالشّهور الهلاليّة . القسم الثّاني : ما قد لا يعرفه المسلمون كالتّأجيل إلى النّيروز والمهرجان ونحوهما فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التّأجيل إليه .
التّأجيل بالأشهر بإطلاق :
75 - إذا جعل التّأجيل بالأشهر ، دون النّصّ على أنّها هلاليّة أو روميّة أو فارسيّة ، فإنّ الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) قد اتّفقوا على أنّه عند التّأجيل بالأشهر بإطلاق تنصرف إلى الهلاليّة ، وذلك لأنّ الشّهور في عرف الشّرع شهور الأهلّة ، بدليل قوله تعالى : { إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض منها أربعة حرم } وأراد الهلاليّة ، فعند الإطلاق يحمل العقد عليها ، واحتساب هذه المدّة إذا وقع العقد في أوّل الشّهر من أوّله . أمّا إذا لم يقع في أوّله ، فإمّا أن يكون لشهر أو أكثر ، أو سنة . فإن كان لشهر ، فإن وقع العقد في غرّة الشّهر ، يقع على الأهلّة بلا خلاف ، حتّى لو نقص الشّهر يوماً كان عليه كمال الأجرة ؛ لأنّ الشّهر اسم للهلال ، وإن وقع بعدما مضى بعض الشّهر ، ففي إجارة الشّهر يقع على ثلاثين يوماً بالإجماع ، لتعذّر اعتبار الأهلّة ، فتعتبر الأيّام . وأمّا في إجارة ثلاثة أشهر مثلاً فإنّهم قد اختلفوا ، فقد قيل : تكمل شهرين بالهلال ، وشهراً بالعدد ثلاثين يوماً ، وهو رأي للحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وقيل تكون الثّلاثة كلّها عدديّةً ، وهو رأي لأبي حنيفة ، ورأي عند الحنابلة ، ومثل ذلك في إجارة السّنة مثلاً .
بدء احتساب مدّة الأجل :
76 - يبدأ احتساب مدّة الأجل من الوقت الّذي حدّده المتعاقدان فإن لم يحدّدا كان من وقت العقد .
التّأجيل بأعياد المسلمين :
77 - إذا وقع التّأجيل إلى الأعياد جاز إذا كان العيد محدّداً معلوماً ، كعيد الفطر ، وعيد الأضحى ، فهذا يصحّ التّأجيل إليه .
التّأجيل إلى ما يحتمل أحد أمرين :
78 - إذا وقع الأجل بما يحتمل أمرين صرف إلى أوّلهما ، كما صرّح الشّافعيّة ( على الأصحّ عندهم ) والحنابلة ، كتأجيله بالعيد ، أو جمادى ، أو ربيع ، أو نفر الحجّ ؛ لأنّ العيد عيد الفطر وعيد الأضحى ، وجمادى الأولى والثّانية ، وربيع الأوّل والثّاني ، ونفر الحجّ ثاني أيّام التّشريق وثالثها ، فيحمل على الأوّل من ذلك ، لتحقّق الاسم به . والثّاني : لا ، بل يفسده ، لتردّده بين الأوّل والثّاني .
التّأجيل إلى مواسم معتادة :
79 - اختلف الفقهاء في جوازه ، كالحصاد ، والدّياس ، والجذاذ ، وقدوم الحاجّ ، إلى رأيين : يرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وابن المنذر أنّه لا يجوز التّأجيل إلى هذه الأشياء . واستدلّوا بما روي عن ابن عبّاس أنّه قال : لا تتبايعوا إلى الحصاد والدّياس ، ولا تتبايعوا إلاّ إلى شهر معلوم . ولأنّ التّأجيل بذلك يختلف ، ويقرب ويبعد ، فالحصاد والجذاذ يتأخّران أيّاماً إن كان المطر متواتراً ، ويتقدّمان بحرّ الهواء وعدم المطر ، وأمّا العطاء فقد ينقطع جملةً .
80 - وقد اختلف هؤلاء الفقهاء في أثر اشتراط التّأجيل إلى أجل مجهول جهالةً متقاربةً . فيرى الحنفيّة أنّه لا يجوز البيع إلى أجل مجهول سواء كانت الجهالة متقاربةً كالحصاد والدّياس مثلاً ، أو متفاوتةً ، كهبوب الرّيح وقدوم واحد من سفر ، فإن أبطل المشتري الأجل المجهول التّقارب قبل محلّه ، وقبل فسخ العقد بالفساد ، انقلب البيع جائزاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد ، وعند زفر لا ينقلب ، ولو مضت المدّة قبل إبطال الأجل تأكّد الفساد ، ولا ينقلب جائزاً بإجماع علماء الحنفيّة ، ويرى الشّافعيّة فساد العقد ، وذلك لأنّه يشترط عندهم في المؤجّل العلم بالأجل ، بأن يكون معلوماً مضبوطاً ، فلا يجوز بما يختلف ، كالحصاد وقدوم الحاجّ ، للحديث « من أسلم في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » . ( متّفق عليه ) ولأنّ ذلك غير معلوم ، لأنّه يتقدّم ويتأخّر . ويرى الحنابلة أنّه يلغو التّأجيل ويصحّ العقد ، وذلك لأنّهم يشترطون أن يكون الأجل مقدّراً بزمن معلوم ، فإن شرط خياراً أو أجلاً مجهولين - بأن باعه بشرط الخيار وأطلق ، أو إلى الحصاد ونحوه ، أو بثمن مؤجّل إلى الحصاد ونحوه - لم يصحّ الشّرط وصحّ البيع ، وللّذي فات غرضه بفساد الشّرط من بائع ومشتر - سواء علم بفساد الشّرط أو لا - أحد أمرين : فسخ البيع ؛ لأنّه لم يسلّم له ما دخل عليه من الشّرط ، أو أرش ، ( أي تعويض ) ما نقص من الثّمن بإلغاء الشّرط إن كان المشترط بائعاً ، أو ما زاد إن كان مشترياً - يعني إذا اشترى بزيادة على الثّمن . أمّا في السّلم فإنّه لا يصحّ العقد إذا وقع التّأجيل بذلك ، وذلك لفوات شرط صحّته ، وهو الأجل المعلوم ، لاختلاف هذه الأشياء . ويرى المالكيّة أنّه يجوز التّأجيل إليه ، ويعتبر في الحصاد والدّياس ونحوهما ميقات معظمه ، أي الوقت الّذي يحصل فيه غالب ما ذكر ، وهو وسط الوقت المعدّ لذلك ، وسواء وجدت الأفعال في بلد العقد ، أو عدمت - أي لم توجد - فالمراد وجود الوقت الّذي يغلب فيه الوقوع . ونحوه ما ذكره ابن قدامة في رواية أخرى عن الإمام أحمد أنّه قال : أرجو ألاّ يكون به بأس . وبه قال أبو ثور ، وعن ابن عمر أنّه كان يبتاع إلى العطاء ، وبه قال ابن أبي ليلى . وقال أحمد : إن كان شيء يعرف فأرجو ، وكذلك إن قال إلى قدوم الغزاة ، وهذا محمول على أنّه أراد وقت العطاء ، لأنّ ذلك معلوم . فأمّا نفس العطاء فهو في نفسه مجهول ، يختلف ، ويتقدّم ويتأخّر ، ويحتمل أنّه أراد نفس العطاء ، لكونه يتفاوت أيضاً ، فأشبه الحصاد . واحتجّ من أجاز ذلك بأنّه أجل يتعلّق بوقت من الزّمن يعرف في العادة ، لا يتفاوت فيه تفاوتاً كبيراً ، فأشبه ما إذا قال رأس السّنة .
الأجل المجهول التّأجيل إلى فعل غير منضبط الوقوع :
81 - اتّفق الفقهاء على عدم جواز التّأجيل إلى ما لا يعلم وقت وقوعه - حقيقةً أو حكماً - ولا ينضبط ، وهو الأجل المجهول ، وذلك كما لو باعه بثمن مؤجّل إلى قدوم زيد من سفره ، أو نزول مطر ، أو هبوب ريح . وكذا إذا باعه إلى ميسرة ، وقد استدلّوا على عدم جواز هذا النّوع من الأجل بالآثار الّتي استدلّ بها على عدم جواز التّأجيل بالفعل الّذي يقع في زمان معتاد ، كالحصاد والدّياس ، بل هذا النّوع أولى ؛ لأنّ الجهالة هناك متقاربة ، وهنا الجهالة فيها متفاوتة . ولأنّ التّأجيل بمثل ذلك غير معلوم ؛ لأنّ ذلك يختلف : يقرب ويبعد ، يتقدّم ويتأخّر ، ولأنّ جهالته تفضي إلى المنازعة في التّسليم والتّسلّم ، فهذا يطالبه في قريب المدّة ، وذاك في بعيدها ؛ ولأنّ الأجل المجهول لا يفيد ؛ لأنّه يؤدّي إلى الغرر .
أثر التّأجيل إلى أجل مجهول جهالةً مطلقةً :
82 - سبق بيان اتّفاق الفقهاء على عدم جواز التّأجيل إلى أجل مجهول جهالةً مطلقةً . واختلفوا في أثر هذا التّأجيل على التّصرّف فيرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رأي للحنابلة ، أنّه لا يصحّ العقد أيضاً ، وذلك لأنّه أجل فاسد فأفسد العقد ؛ لأنّ المتعاقدين رضيا به مؤجّلاً إلى هذا الأجل ، وإذا لم يصحّ الأجل ، فالقول بصحّته حالّاً يخالف إرادتهما وما تراضيا عليه ، والبيع - ونحوه - يقوم على التّراضي ، فأفسد العقد . غير أنّ الحنفيّة يرون أنّه إن أبطل المشتري الأجل المجهول المتفاوت قبل التّفرّق ، ونقد الثّمن ، انقلب جائزاً ، وعند زفر لا ينقلب جائزاً ، ولو تفرّقا قبل الإبطال تأكّد الفساد ، ولا ينقلب جائزاً بإجماع الحنفيّة . ويرى الحنابلة أنّ الأجل المجهول في البيع يفسد ، ويصحّ البيع ، وفي السّلم يفسد الأجل والسّلم ، وقد استدلّوا على صحّة البيع وبطلان الأجل المجهول بما روي عن « عائشة أنّها قالت : جاءتني بريرة ، فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كلّ عام أوقيّة ، فأعينيني . فقلت : إن أحبّ أهلك أن أعدّها لهم عدّةً واحدةً ، ويكون ولاؤك لي فعلت . فذهبت بريرة إلى أهلها ، فقالت لهم ، فأبوا عليها . فجاءت من عندهم ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم جالس ، فقالت : إنّي عرضت عليهم فأبوا إلاّ أن يكون الولاء لهم . فسمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم . فأخبرت عائشة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : خذيها واشترطي لهم الولاء ، فإنّما الولاء لمن أعتق ففعلت عائشة ، فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في النّاس فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد فما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب اللّه تعالى ؟ ما كان من شرط ليس في كتاب اللّه فهو باطل ، وإن كان مائة شرط . قضاء اللّه أحقّ . وشرط اللّه أوثق . وإنّما الولاء لمن أعتق » متّفق عليه ، فأبطل الشّرط ولم يبطل العقد . قال ابن المنذر : خبر بريرة ثابت ، ولا نعلم خبراً يعارضه . فالقول به يجب .
الاعتياض عن الأجل بالمال
يرد الاعتياض عن الأجل بالمال في صور منها ما يلي :
الصّورة الأولى :
83 - صدور إيجاب مشتمل على صفقتين ، إحداهما بالنّقد ، والأخرى بالنّسيئة ، مثل أن يقول بعتك هذا نقداً بعشرة ، وبالنّسيئة بخمسة عشر . يرى جمهور العلماء أنّ هذا البيع إذا صدر بهذه الصّيغة لا يصحّ ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة ، » جاء في الشّرح الكبير : « كذلك فسّره مالك والثّوريّ ، وإسحاق ، وهذا قول أكثر أهل العلم ؛ لأنّه لم يجزم له ببيع واحد ، أشبه ما لو قال بعتك أحد هذين ؛ ولأنّ الثّمن مجهول فلم يصحّ ، كالبيع بالرّقم المجهول " ، وقد روي عن طاوس والحكم وحمّاد أنّهم قالوا : لا بأس أن يقول : أبيعك بالنّقد بكذا ، وبالنّسيئة بكذا ، فيذهب إلى أحدهما . فيحتمل أنّه جرى بينهما بعدما يجري في العقد ، فكأنّ المشتري قال : أنا آخذه بالنّسيئة بكذا ، فقال : خذه ، أو قال : قد رضيت ، ونحو ذلك ، فيكون عقداً كافياً ، فيكون قولهم كقول الجمهور ، فعلى هذا : إن لم يوجد ما يدلّ على الإيجاب أو ما يقوم مقامه لم يصحّ ؛ لأنّ ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجاباً ، فهذا الخلاف الوارد في صحّة هذا البيع مصدره الصّيغة الصّادرة مشتملة على صيغتين في آن واحد ، فلم يجزم البائع ببيع واحد ؛ ولأنّ الثّمن مجهول هل هو عشرة أو خمسة عشر . وإذا كان الإيجاب غير جازم لا يصلح ، ويكون عرضاً ، فإذا قبل الموجّه إليه العرض إحدى الصّفقتين كان إيجاباً موجّهاً إلى الطّرف الأوّل ، فإن قبل تمّ العقد ، وإلاّ لم يتمّ .
( الصّورة الثّانية ) :
84 - وهي بيع الشّيء بأكثر من سعر يومه لأجل النّساء . يرى جمهور الفقهاء جواز بيع الشّيء بأكثر من سعر يومه لأجل النّساء ، وذلك لعموم الأدلّة القاضية بجواز البيع . قال اللّه تعالى : { وأحلّ اللّه البيع } وهو عامّ في إباحة سائر البياعات إلاّ ما خصّ بدليل ، ولا يوجد دليل يخصّص هذا العموم .
( الصّورة الثّالثة ) :
وهي تأجيل الدّين الحالّ في مقابل زيادة :
85 - وهذه الصّورة تدخل في باب الرّبا " إذ الرّبا المحرّم شرعاً شيئان : ربا النّساء ، وربا التّفاضل . وغالب ما كانت العرب تفعله ، من قولها للغريم : أتقضي أم تربي ؟ فكان الغريم يزيد في المال ، ويصبر الطّالب عليه ، وهذا كلّه محرّم باتّفاق الأمّة » . قال الجصّاص : معلوم أنّ ربا الجاهليّة إنّما كان قرضاً مؤجّلاً بزيادة مشروطة ، فكانت الزّيادة بدلاً من الأجل ، فأبطله اللّه تعالى وحرّمه ، وقال : { وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم } وقال تعالى : { وذروا ما بقي من الرّبا } حظر أن يؤخذ للأجل عوض ، ولا خلاف أنّه لو كان عليه ألف درهم حالّةً ، فقال له : أجّلني وأزيدك فيها مائة درهم ، لا يجوز ؛ لأنّ المائة عوض من الأجل » .
الصّورة الرّابعة :
وهي تعجيل الدّين المؤجّل في مقابل التّنازل عن بعضه « ضع وتعجّل » . 86 - يرى جمهور الفقهاء أنّه إذا كان لرجل على آخر دين مؤجّل ، فقال المدين لغريمه : ضع عنّي بعضه وأعجّل لك بقيّته ، فإنّ ذلك لا يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . وكرهه زيد بن ثابت ، وابن عمر ، والمقداد ، وسعيد بن المسيّب ، وسالم ، والحسن ، وحمّاد ، والحكم ، والثّوريّ ، وهشيم ، وابن عليّة ، وإسحاق . فقد روي أنّ رجلاً سأل ابن عمر فنهاه عن ذلك . ثمّ سأله ، فقال : إنّ هذا يريد أن أطعمه الرّبا . وروي عن زيد بن ثابت أيضاً النّهي عن ذلك . وروي أنّ المقداد قال لرجلين فعلا ذلك : كلاكما قد أذن بحرب من اللّه ورسوله . واستدلّ جمهور الفقهاء على بطلان ذلك بشيئين : أحدهما : تسمية ابن عمر إيّاه ربا ، ومثل ذلك لا يقال بالرّأي وأسماء الشّرع توقيف . والثّاني : أنّه معلوم أنّ ربا الجاهليّة إنّما كان قرضاً مؤجّلاً بزيادة مشروطة ، فكانت الزّيادة بدلاً من الأجل ، فأبطله اللّه تعالى ، وحرّمه ، وقال : { وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم } وقال تعالى : { وذروا ما بقي من الرّبا } حظر أن يؤخذ للأجل عوض . فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجّلة ، فوضع عنه على أن يعجّله ، فإنّما جعل الحطّ مقابل الأجل ، فكان هذا هو معنى الرّبا الّذي نصّ اللّه تعالى على تحريمه . ولا خلاف أنّه لو كان عليه ألف درهم حالّة ، فقال له : أجّلني وأزيدك فيها مائة درهم ، لا يجوز ؛ لأنّ المائة عوض من الأجل ، كذلك الحطّ في معنى الزّيادة ، إذ جعله عوضاً من الأجل ، وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الأبدال عن الآجال . فحرمة ربا النّساء ليست إلاّ لشبهة مبادلة المال بالأجل وإذا كانت شبهة الرّبا موجبةً للحرمة فحقيقته أولى بذلك . وأيضاً فإنّه لا يمكن حمل هذا على إسقاط الدّائن لبعض حقّه ؛ لأنّ المعجّل لم يكن مستحقّاً بالعقد ، حتّى يكون استيفاؤه استيفاءً لبعض حقّه ، والمعجّل خير من المؤجّل لا محالة ، فيكون ( فيما لو كانت له عليه ألف مؤجّلة فصالحه على خمسمائة حالّة ) خمسمائة في مقابل مثله من الدّين ، وصفة التّعجيل في مقابلة الباقي - وهو الخمسمائة - وذلك اعتياض عن الأجل ، وهو حرام . وأيضاً لأنّ الأجل صفة ، كالجودة ، والاعتياض عن الجودة لا يجوز ، فكذا عن الأجل . ويقول ابن قدامة : إنّه بيع الحلول ، فلم يجز ، كما لو زاده الّذي له الدّين ، فقال له : أعطيك عشرة دراهم وتعجّل لي المائة الّتي عليك ، ويقول صاحب الكفاية : والأصل فيه أنّ الإحسان متى وجد من الطّرفين يكون محمولاً على المعاوضة - كهذه المسألة - فإنّ الدّائن أسقط من حقّه خمسمائة ، والمديون أسقط حقّه في الأجل في الخمسمائة الباقية ، فيكون معاوضةً بخلاف ما إذا صالح من ألف على خمسمائة ، فإنّه يكون محمولاً على إسقاط بعض الحقّ ، دون المعاوضة ؛ لأنّ الإحسان لم يوجد إلاّ من طرف ربّ الدّين . وروي عن ابن عبّاس أنّه لم ير بأساً بهذا « ضع عنّي وتعجّل » ، وروي ذلك عن النّخعيّ ، وأبي ثور ؛ لأنّه آخذ لبعض حقّه ، تارك لبعضه ، فجاز كما لو كان الدّين حالّاً ، واستثنى من ذلك الحنفيّة والحنابلة ( وهو قول الخرقيّ من علمائهم ) أنّه يجوز أن يصالح المولى مكاتبه على تعجيل بدل الكتابة في مقابل الحطّ منه ، وذلك لأنّ معنى الإرفاق فيما بينهما أظهر من معنى المعاوضة ، فلا يكون هذا في مقابلة الأجل ببعض المال ، ولكن إرفاق من المولى بحطّ بعض المال ، ومساهلة من المكاتب فيما بقي قبل حلول الأجل ليتوصّل إلى شرف الحرّيّة ؛ ولأنّ المعاملة هنا هي معاملة المكاتب مع سيّده ، وهو يبيع بعض ماله ببعض ، فدخلت المسامحة فيه ، بخلاف غيره .
اختلاف المتعاقدين في الأجل
87 - اختلاف المتعاقدين في الأجل إمّا أن يكون في أصل الأجل ، أو في مقداره ، أو في حلوله ، أو في مضيّه وفيما يلي آراء الفقهاء في ذلك :
الاختلاف في أصل الأجل في البيع :
88 - إذا اختلف المتعاقدان في أصل الأجل ، بأن قال المشتري : اشتريته بدينار مؤجّل ، وأنكره البائع - فإنّ الفقهاء قد اختلفوا : فيرى الحنفيّة والحنابلة أنّ القول لمن ينفي الأجل ، وهو البائع ، مع يمينه ، وذلك لأنّ الأصل الحلول . والبيّنة على المشتري ؛ لأنّه يثبت خلاف الظّاهر ، والبيّنات للإثبات ، ويرى المالكيّة أنّه يعمل بالعرف باليمين ، سواء أكانت السّلعة قائمةً أو فاتت . فإن لم يكن عرف تحالفا وتفاسخا إن كانت قائمةً ، فتردّ السّلعة لبائعها ، وإن لم تكن قائمةً صدّق المشتري بيمين إن ادّعى أجلاً قريباً لا يتّهم فيه ، وإلاّ فالقول للبائع إن حلف . ويرى الشّافعيّة ، وهو رواية في مذهب الحنابلة ، أنّهما يتحالفان ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدّعى عليه » . رواه مسلم ، وكلّ منهما مدّعًى عليه ، كما أنّه مدّع . ولأنّهما اختلفا في صفة العقد ، فوجب أن يتحالفا ، قياساً على الاختلاف في الثّمن .
( الاختلاف في مقدار الأجل )
89 - إذا اختلف المتعاقدان في مقدار الأجل ، كما إذا قال البائع بعتكه بثمن مؤجّل إلى شهر ، ويدّعي المشتري أكثر من ذلك ، فإنّ الفقهاء اختلفوا فيه : فيرى الحنفيّة والحنابلة أنّ القول قول مدّعي الأقلّ ، لإنكاره الزّيادة ، والبيّنة للمشتري ، لأنّه يثبت خلاف الظّاهر ، والبيّنات لإثبات خلاف الظّاهر . ويرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ( في رواية أخرى ) أنّهما يتحالفان ، للحديث المتقدّم ؛ ولأنّ كلّاً منهما مدّعًى عليه ، كما أنّه مدّع ، فإذا تحالفا فعند المالكيّة فسخ العقد إن كانت السّلعة قائمةً - على المشهور - إن حكم بالفسخ حاكم ، أو تراضيا عليه ، وتعود السّلعة على ملك البائع حقيقةً ، ظالماً أو مظلوماً . وقيل يحصل الفسخ بمجرّد التّحالف ، كاللّعان ، ولا يتوقّف على حكم . وحلف المشتري إن فات المبيع كلّه ، فإن فات البعض فلكلّ حكمه . ويرى الشّافعيّة أنّهما إذا تحالفا فالصّحيح أنّ العقد لا ينفسخ بنفس التّحالف ؛ لأنّ البيّنة أقوى من اليمين ، ولو أقام كلّ منهما بيّنةً لم ينفسخ فبالتّحالف أولى ، بل إن تراضيا على ما قال أحدهما أقرّ العقد وإن لم يتراضيا بأن استمرّ نزاعهما فيفسخانه ، أو أحدهما ، أو الحاكم لقطع النّزاع ، وحقّ الفسخ بعد التّحالف ليس على الفور ، فلو لم يفسخا في الحال كان لهما بعد ذلك لبقاء الضّرر المحوج للفسخ . وقيل إنّما يفسخه الحاكم ؛ لأنّه فسخ مجتهد فيه فلا يفسخ أحدهما . ومقابل الصّحيح أنّه ينفسخ بالتّحالف وتعود الحال إلى ما كانت عليه قبل العقد .
( الاختلاف في انتهاء الأجل ) :
90 - إذا اختلف المتعاقدان في مضيّ الأجل ، مع اتّفاقهما على التّأجيل - كما إذا قال البائع بعتكه بثمن مؤجّل إلى شهر أوّله هلال رمضان ، وقد انقضى ، ويقول المشتري بل أوّله نصف رمضان فانتهاء الأجل نصف شوّال - فقد اختلف الفقهاء في حكمه : فيرى الحنفيّة أنّ القول والبيّنة للمشتري ؛ لأنّهما لمّا اتّفقا على الأجل ، فالأصل بقاؤه ، فكان القول للمشتري في عدم مضيّه ؛ ولأنّه منكر توجّه المطالبة ، وأمّا تقديم بيّنته على بيّنة البائع فلكونها أكثر إثباتاً . ويرى المالكيّة أنّ القول لمنكر التّقضّي بيمينه ؛ لأنّ الأصل بقاء الأجل ، " أي أنّ القول لمن ادّعى بقاء الأجل ، وأنكر انقضاءه ، سواء كان بائعاً أو مشترياً ، كان مكرياً أو مكترياً ، إذا لم توجد بيّنة ، فإن كان لأحدهما بيّنة عمل بها ، وهذا إن أشبه قوله عادة النّاس في الأجل - أشبه الآخر أم لا - فإن لم يشبها معاً عادة النّاس حلفا ، وفسخ إن كانت السّلعة قائمةً ، وإلاّ فالقيمة ، ويقضى للحالف على النّاكل . . . » .
مسقطات الأجل
91 - الأجل إمّا أن يكون أجل إضافة ، وهو ما يترتّب على تحقّقه ترتّب أحكام التّصرّف . أو يترتّب على تحقّقه حلول الدّين أو حلول العين فيما يصحّ إضافته من الأعيان إلى أجل ، أو يكون أجل توقيت وهو الّذي يترتّب على تحقّقه انتهاء الحقّ الّذي كان له .
والمسقطات - بوجه عامّ - إمّا بطريق الإسقاط ، وإمّا بطريق السّقوط .
وفيما يلي بيان ذلك :
أوّلاً : إسقاط الأجل :
أ - إسقاط الأجل من قبل المدين :
92 - لمّا كان الأجل قد شرع رفقاً بالمدين وتمكيناً له من وفاء الدّين في الوقت المناسب له ، ورعايةً لحالة العدم الّتي يتعرّض لها ، كان من حقّه أن يسقط أجل الدّين ، ويصبح الدّين حالّاً ، وعلى الدّائن قبض الدّين . وهذا هو رأي جمهور الفقهاء : ( الحنفيّة مطلقاً وكذا المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إذا لم يؤدّ ذلك إلى الإضرار بالدّائن كأن كان الأداء في مكان مخوف ، أو كان له حمل ومؤنة أو كان في وقت كساد ) على تفصيل في هذه المذاهب الثّلاثة يرجع إليه في مواطنه .
ب - إسقاط الأجل من قبل الدّائن :
93 - تبيّن ممّا تقدّم أنّ الأجل حقّ لمن عليه الدّين ، وإذا كان حقّاً له فإنّه يستبدّ بإسقاطه ، طالما أنّه لا يؤدّي هذا الإسقاط إلى ضرر بالدّائن . أمّا الدّائن فإنّ إسقاطه الأجل يجب أن يفرّق فيه بين أجل لحق العقد وقت صدوره - كما لو باع بثمن مؤجّل - ففي هذه الحالة يكون الأجل لازماً للدّائن لأنّه التحق بصلب العقد باتّفاق الفقهاء ، وبين أجل أراده الدّائن والمدين بعد صدور العقد بثمن حالّ ، وهذا النّوع قد اختلف الفقهاء في لزومه للدّائن ، أي أنّه لا يمكنه أن يستبدّ بإسقاطه دون الرّجوع إلى المدين . فذهب الحنفيّة ( غير زفر ) والمالكيّة إلى أنّ من باع بثمن حالّ ، ثمّ أجّله إلى أجل معلوم أنّ الثّمن يصير مؤجّلاً ، كما لو باعه بثمن مؤجّل ابتداءً ، ويصبح الأجل لازماً للدّائن لا يصحّ رجوعه عنه دون رضا المدين . أمّا التّأجيل فلأنّ الثّمن حقّه ، فله أن يؤخّره تيسيراً على من عليه ؛ ولأنّ التّأجيل إثبات براءة مؤقّتة إلى حلول الأجل ، وهو يملك البراءة المطلقة بالإبراء عن الثّمن فلأن يملك البراءة المؤقّتة أولى ، وأمّا كونه لازماً له فذلك لأنّ الشّرع أثبت عن إسقاطه بالبراءة المطلقة السّقوط ، والتّأجيل التزام الإسقاط إلى وقت معيّن ، فيثبت شرعاً السّقوط إلى ذلك الوقت ، كما ثبت شرعاً سقوطه بإسقاطه مطلقاً . وقال زفر ( من علماء الحنفيّة ) والشّافعيّة والحنابلة : إنّ كلّ دين حالّ لا يصير مؤجّلاً بالتّأجيل ؛ لأنّه بعد أن كان حالّاً ليس إلاّ وعداً بالتّأخير ، وحينئذ يكون له الحقّ في الرّجوع عنه ، وكذلك اختلفوا في لزوم شرط تأجيل القرض ، وقد سبق أنّ جمهور الفقهاء لا يرون تأجيله ، حتّى لو اشترط فيه التّأجيل ، خلافاً للمالكيّة واللّيث الّذين يرون لزومه حسب التّفصيل الّذي سبق بيانه .
ج - إسقاط الأجل بتراضي الدّائن والمدين :
94 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه إذا تراضى الدّائن والمدين على إسقاط شرط التّأجيل أنّ ذلك جائز وصحيح .
ثانياً : سقوط الأجل
تناول الفقهاء عدّة أسباب إذا وقعت أدّت إلى سقوط شرط التّأجيل ، ومنها الموت والتّفليس والإعسار ، والجنون والأسر .
أ - سقوط الأجل بالموت :
95 - اختلف الفقهاء في سقوط الأجل بموت المدين أو الدّائن : فيرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ الأجل يبطل بموت المدين لخراب ذمّته ، ولا يبطل بموت الدّائن ، سواء أكان موتاً حقيقيّاً ، أم حكميّاً ، وذلك لأنّ فائدة التّأجيل أن يتّجر فيؤدّي الثّمن من نماء المال ، فإذا مات من له الأجل تعيّن المتروك لقضاء الدّين ، فلا يفيد التّأجيل ؛ ولأنّ الأجل حقّ المدين ، لا حقّ صاحب الدّين ، فتعتبر حياته وموته في الأجل وبطلانه . ومثل الموت الحقيقيّ الموت الحكميّ ، وذلك كما . لو لحق مرتدّاً بدار الحرب - كما صرّح الحنفيّة - أو كالرّدّة المتّصلة بالموت أو استرقاق الحربيّ - كما صرّح الشّافعيّة . ويرى المالكيّة ذلك ، إلاّ أنّهم يستثنون ثلاث حالات . جاء في شرح الخرشيّ : إنّ الدّين المؤجّل على الشّخص يحلّ بفلسه أو موته على المشهور ، لأنّ الذّمّة في الحالتين قد خربت ، والشّرع قد حكم بحلوله ؛ ولأنّه لو لم يحلّ للزم إمّا تمكين الوارث من القسم ، أو عدمه ، وكلاهما باطل ، لقوله تعالى : { من بعد وصيّة يوصي بها أو دين } ، وللضّرورة الحاصلة بوقفه . وعلى المشهور : لو طلب بعض الغرماء بقاءه مؤجّلاً منع من ذلك " وأمّا لو طلب الكلّ لكان لهم ذلك » . ويستثنى من الموت من قتل مدينه ( عمداً ) فإنّ دينه المؤجّل لا يحلّ ، لحمله على استعجال ما أجّل . وأمّا الدّين الّذي له فلا يحلّ بفلسه ولا بموته ، ولغرمائه تأخيره إلى أجله ، أو بيعه الآن ، ومحلّ حلول الدّين المؤجّل بالموت أو الفلس ما لم يشترط من عليه أنّه لا يحلّ عليه الدّين بذلك ، وإلاّ عمل بشرطه . قد ذكر ذلك ابن الهنديّ في الموت ، وإمّا إن شرط من له أنّه يحلّ بموته على المدين فهل يعمل بشرطه ، أو لا ؟ والظّاهر الأوّل ( أي أنّه يعمل بشرطه ) حيث كان الشّرط غير واقع في صلب عقد البيع ، فإن وقع في صلب عقد البيع فالظّاهر فساد البيع ؛ لأنّه آل أمره إلى البيع بأجل مجهول ، ويرى الحنابلة أنّه لا يحلّ الدّين المؤجّل بموت الدّائن ، وأمّا موت المدين فلهم رأيان : أحدهما : أنّه يحلّ بموت المدين كما هو رأي من ذكر من الفقهاء . والثّاني : أنّه لا يحلّ بموته إذا وثق الورثة ، فقد جاء في كشّاف القناع : « أنّه إذا مات شخص وعليه دين مؤجّل لم يحلّ الدّين بموته إذا وثق الورثة ، أو وثق غيرهم برهن أو كفيل مليء ، على أقلّ الأمرين : من قيمة التّركة أو الدّين " ، وهو قول ابن سيرين ، وعبيد اللّه بن الحسن ، وإسحاق ، وأبي عبيد لأنّ الأجل حقّ للميّت ، فورث عنه كسائر حقوقه ، وكما لا تحلّ الدّيون الّتي له بموته ، فتختصّ أرباب الدّيون الحالّة بالمال ، ويتقاسمونه بالمحاصّة ، ولا يترك منه للمؤجّل شيء ، ولا يرجع ربّه عليه بعد حلوله بل على من وثّقه ، فإن تعذّر التّوثّق لعدم وارث ، بأن مات عن غير وارث ، حلّ ، ولو ضمنه الإمام ، أو " تعذّر التّوثّق " لغير عدم وارث ، بأن خلف وارثاً لكنّه لم يوثق ، حلّ الدّين لغلبة الضّرر ، فيأخذه ربّه كلّه إن اتّسعت التّركة أو يحاصص به الغرماء ، ولا يسقط منه شيء في مقابلة الأجل . وإن ضمنه ضامن وحلّ على أحدهما لم يحلّ على الآخر . وقد استدلّ الحنابلة على قولهم بأنّ الدّين المؤجّل لا يحلّ بالموت إذا وثّق الورثة ، فقالوا : إنّ الأجل حقّ للمدين فلا يسقط بموته ، كسائر حقوقه ؛ ولأنّ الموت ما جعل مبطلاً للحقوق ، وإنّما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ترك حقّاً أو مالاً فلورثته » وما قيل بسقوطه بالموت هو حكم مبنيّ على المصلحة ، ولا يشهد لها شاهد الشّرع باعتبار ، ولا خلاف في فساد هذا ، فعلى هذا يبقى الدّين في ذمّة الميّت كما كان ويتعلّق بعين ماله كتعلّق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه ، فإن أحبّ الورثة أداء الدّين ، والتزامه للغريم ، على أن يتصرّفوا في المال ، لم يكن لهم ذلك إلاّ أن يرضى الغريم ، أو يوثّقوا الحقّ بضمين مليء ، أو رهن يثق به لوفاء حقّه ، فإنّهم قد لا يكونون أملياء ، ولم يرض بهم الغريم ، فيؤدّي إلى فوات الحقّ . ويرى طاوس وأبو بكر بن محمّد ، والزّهريّ وسعد بن إبراهيم أنّ الدّين المؤجّل لا يحلّ بموت المدين ، ويبقى إلى أجله ، وحكي ذلك عن الحسن .
ب - سقوط الأجل بالتّفليس :
96 - إذا حكم الحاكم بالحجر على المدين للإفلاس ، فهل تحلّ ديون المفلس المؤجّلة ؟ يرى الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة ( في الأظهر ) وهو قول للمالكيّة أنّه لا تحلّ ديون المفلس المؤجّلة ؛ لأنّ الأجل حقّ للمفلس ، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه ، ولأنّه لا يوجب حلول ماله ، فلا يوجب حلول ما عليه - كالجنون والإغماء - ولأنّه دين مؤجّل على حيّ ، فلم يحلّ قبل أجله ، كغير المفلس ، والفرق بين الفلس والموت أنّ ذمّة الميّت خربت وبطلت بخلاف المفلس . والمشهور عند المالكيّة ورأي للشّافعيّة أنّ الدّين المؤجّل يحلّ بالإفلاس الأخصّ ( أي الشّخص الّذي حكم الحاكم بخلع ماله للغرماء ) لخراب ذمّة المفلس ، ما لم يشترط المدين عدم حلوله بالتّفليس ، وما لم يتّفق الغرماء جميعاً على بقاء ديونهم مؤجّلةً . أمّا حقوق المفلس المؤجّلة قبل الغير فباتّفاق الفقهاء تبقى على حالها ؛ لأنّ الأجل حقّ للغير ، فليس لغير صاحبه الحقّ في إسقاطه .
ج - سقوط الأجل بالجنون :
97 - إذا جنّ من عليه الدّين المؤجّل أو من له الدّين ، فهل يسقط الأجل بجنونه ؟ يرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة جنون المدين لا يوجب حلول الدّين عليه لإمكان التّحصيل عند حلول الأجل بواسطة وليّه ، فالأجل باق ، ولصاحب الحقّ عند حلول الأجل مطالبة وليّه بماله . ولأنّ الأجل حقّ للمجنون فلا يسقط بجنونه كسائر حقوقه ؛ ولأنّه لا يوجب حلول ما له قبل الغير ، فلا يوجب حلول ما عليه ، وأمّا المالكيّة فقد نصّوا على أنّ الدّين المؤجّل يحلّ بالفلس والموت ما لم يشترط المدين عدم حلوله بهما وما لم يقتل الدّائن المدين عمداً ، ولم ينصّوا على الجنون معهما ممّا يدلّ على أنّ الجنون عندهم لا يحلّ الدّين المؤجّل .
د - سقوط الأجل بالأسر أو الفقد :
98 - يرى الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الأسير في أرض العدوّ إذا علم خبره ومكانه ، كان حكمه كالغائب ، والغائب تبقى ديونه على ما هي عليه من تأجيل أو حلول ، سواء كان دائناً أم مديناً . أمّا إذا لم يعلم خبره ولا مكانه ، فيرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ حكمه حكم المفقود لأنّه حيّ في حقّ نفسه ، ميّت في حقّ غيره . ويرى المالكيّة أنّ ديونه تبقى على حالها من تأجيل أو حلول ، كالغائب - ولا يأخذ حكم المفقود لأنّه قد عرف أنّه أسر ؛ لأنّه إذا كانت أموال المفقود تبقى كما هي ، فهو أولى بهذا الحكم . أمّا إذا علم موت الأسير ، فإنّه يأخذ حكم الميّت ، وكذا إذا علم ردّته يأخذ حكم المرتدّ ، وهو موت حكماً كما سبق الإشارة إلى ذلك من أنّ الآجال تسقط بموت المدين موتاً حقيقيّاً أو حكميّاً .
هـ - سقوط الأجل بانتهاء مدّته :
99 - لمّا كان هذا النّوع من الأجل يحدّد لنا المدى الزّمنيّ لاستيفاء الحقّ ، فالعقد أو التّصرّف المقترن بأجل التّوقيت ، أو المؤقّت ، إذا انقضى أجله انتهى بذلك العقد وعاد الحقّ إلى صاحبه ، كما كان أوّلاً ، فيكون على المتعاقد ردّ العين إلى مالكها إذا كان المعقود عليه عيناً ، ويكون عليه عدم التّصرّف إذا كان العقد يجيز للشّخص تصرّفاً ما من التّصرّفات . والعقد المؤقّت - إذا لم يكن مضافاً ولا معلّقاً - هو عقد ناجز يتمّ ترتّب آثاره عليه من وقت صدور المدّة المحدّدة له شرعاً أو اتّفاقاً . فإن أضيف إلى زمن - وكان من التّصرّفات الّتي تقبل الإضافة فمدّة التّوقيت تبدأ من وقت حلول أجل الإضافة . وكذلك إذا علّق على شرط - وكان من التّصرّفات الّتي تقبل التّعليق - فمدّة التّوقيت تبدأ من وقت وجود الشّرط المعلّق عليه العقد . وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الأجل ينقضي بانقضاء العقد نفسه الّذي اقترن به الأجل ؛ لأنّ الأجل وصف للعقد وشرط لاعتباره شرعاً ، فإذا انتهى الموصوف انتهى الوصف .
مواقع النشر (المفضلة)