رأَوْه يحفر في الخلاء ماسكاً فأس الكلام باحترافيّة كبيرة، يهوي بها بقوّة وانتظام متواصل لا تتخلّله سوي لحظات التوقّف لِيَتْفَل في راحتيه ويسترجع أنفاسه، أو يخاطب الراقدين رقاداً أبديًّا: قوموا! تحرّكوا! إلي متي هذه النوم؟ . فحاروا في أمره وبدأوا يحفرون له بدَوْرهم حتّي أوقعوا به، واقتيد إلي مخفر الشرطة حيث تمّت استضافته بالطريقة التي تثير غضب كلّ سيوف الشرف الرفيع، ثمّ انتهي في الأخير إلي تلك الوقفة المديدة التي ارتعدت خلالها فرائصه حين دوي صوت الحاجب عالياً في القاعة الغاصّة بالناس وهو ينطق بكلمة: محكمة!!
القاضي: هل تعرف لماذا أنت هنا؟
المتّهم: لا يا سيّدي!
القاضي: ضبطوك مُتلبّساً بالحفر في مقبرة الكلام.
المتّهم: وهل للكلام مقبرة؟
القاضي: أنا الذي أطرح الأسئلة! لذا يجب أن أعرف هل كنتَ تبحث هناك عن كلام محظور؟
المتّهم: ربّما!
القاضي: لن أقبل منك إلاّ الردّ بما يفيد التأكيد أو النفي.
المتّهم: هل تسمح لي بتوضيح يا سيّدي؟
القاضي: إذا كان يخدم القضية!
المتّهم: أعدك بأنّني لن أتحدّث إلاّ عن قضيتي.
القاضي: طيّب! هذه بداية حسنة وأنت في الطريق إلي الاعتراف.
المتّهم: فعلاً أعترف بأنّني لأوّل مرّة أجد من يسألني عن قضيتي.
القاضي: تفضّل! قُل ما عندك!
المتّهم: مشكلتي يا سيّدي هي أنّ لديّ نظرة خاصّة للأمور.
القاضي: قُلْ.. قُلْ ما عندك! (قال القاضي بانفعال)
المتّهم: يا سيّدي لا أعرف، مثلاً، لماذا يرتفع عدد الأوسمة التقديريّة فوق صدور بعضهم بارتفاع عدد هزائمهم!
القاضي: ماذا تقصد؟
المتّهم: أقصد أنّني في الواقع هزيمة كبري في سجلّ كلّ صاحب منصب ـ من المناصب المعلومة ـ يتقاضي راتباً كبيراً؛ لكي أتعلّم ومع ذلك بقيتُ جاهلاً؛ ولكي أتعافي ومع ذلك بقيت مريضاً؛ ولكي أشتغل ومع ذلك بقيتُ عاطلاً؛ ولكي أُنصف ومع ذلك بقيتُ مظلوماً...
القاضي: أنت هنا لكي تحدّثنا عن الكلام المحظور الذي كنتَ تبحث عنه لا عن المعاناة.
المتّهم: معاناتي الكبري يا سيّدي هي حين أري ـ وغالباً ما يكون ذلك في التلفزة ـ عُبّاد المناصب إيّاها يتعانقون.
القاضي: وما العيب في تَعانُق أصحاب تلك المناصب؟
المتّهم: لأنّني لا أري فيهم أجساداً تتعانق بل قصوراً وعمارات وأرصدة وصفقات تُعانق بعضها البعض.
القاضي: لعلّك مصاب في بصرك أو بصيرتك!
المتّهم: نظري أقوي من نظر الصقور يا سيّدي، أمّا بصيرتي فهي في أوج نشاطها مثل الفقر الذي احتلّ عمري وعمر أقراني.
القاضي: الْجمْ لسانك وعُدْ إلي الحديث عمّا عثرتَ عليه من كلام محظور فهو موضوع المحاكمة.
المتّهم: سجِّلوا يا سيّدي بأنّني مُعطَّل (حتّي عن الكلام)، وتَعطُّلي أضعه وسام عار علي صدر كلّ من ساهم فيه من قريب أو بعيد.
القاضي: لن نرفع الجلسة قبل أن تَدُلّنا عمّا كنت تبحث عنه في مقبرة الكلام وعمّن دفعك إلي ذلك.
المتّهم: كنتُ فقط أبحث عن أُذن الأرض لكي أقول لها بأن تتمهّل حتّي نلحق بالركب الذي فاتنا منذ قرون وقرون.
القاضي: هَهْ لقد اعترفتَ بإهانتك لنا وقلتَ بأنّنا متأخّرون عن الركب بقرون وقرون.. يا سلام!
المتّهم: يا سلام.. يا سلام.. يا سلام... (صار يكرّر مثل المجنون)
وانطلقت ضحكة صاخبة في قاعة المحكمة، فدعا الرئيس الجميع إلي الصمت .
وساد الصمت من جديد، وبه حُكم علي المتّهم.
منقوووووووووووووووووووووو وول
مواقع النشر (المفضلة)