دموع الربيع
ها قد أقبل الربيع ليذيب برد الشتاء بإبتسامة دافئة، و ها قد أطل بأزهاره التي باتت تهدي مروج السواقي أشواقها بعد طول غياب. أقبل الربيع لينعش الكون بأريج الأزهار و عطر الرياحين حتى اكتملت لوحة الطبيعة. أتى ليعيد لبستان الحياة البهجة و الدفء و الجمال تماماً كما تبعث أشعة الشمس الذهبية الدفء و الحنان بين ضلوع الكون بعد ليل ممطر جمّد أوصاله. أخذ يتأمل المكان من حوله: أمواج البحر تتراقص و كأنها تتباهى بعقدها الماسي الذي يلمع تحت أشعة الشمس ، و الرمال الحمراء الناعمة تداعب قدميه لتعيد الدفء إليهما
أوراق الشجر الخضراء تحفه من كل مكان، و النسيم يداعب وجهه و كأنه يد حانية تبعث الأمان و الاطمئنان في القلب.
كان ينظر الى ابنته الوحيدة و التي لم تتجاوز السابعة من عمرها و هي تداعب أمواج البحر بأناملها الرقيقة تارة، و تبني قصوراً من الرمال تارة أخرى،و ضحكاتها تملؤ المكان. كان الفرح يملأ نفسه عندما يرى البسمة تطفو على شفتيها.
عادت به الذاكرة الى الوراء ربما قبل عشر سنوات أو أكثر. كانت حياته بلا معنى ، مظلمة هادئة و خالية من بكاء الرضيع و ضحكاته، فقد حُرم من الأولاد طيلة عشرة أعوام ، لكنه لم ييأس و لم يتوقف لسانه عن الدعاء و الابتهال إليه تعالى بأن لا يحرمه زينة الحياة الدنيا و أن يرزقه الذرية الصالحة. و عندما كان يرى زوجته حزينة كسيرة القلب كان يقول لها: "لا تيأسي من روح الله" فكانت تجيبه بإبتسامةٍ بللتها الدموع:" نعم ، فمن لنا غير الله إذا خاب الرجاء إلا رجاءه.." إلى أن جاء ذلك اليوم الذي لم يسع فرحتيهم، ذلك اليوم الذي كان يحمل بين طياته بشرى لطالما تمنياها. لكن الفرحة لم تكتمل، فقد أسلمت زوجته الروح و هي تضع ملاكها. لا يزال يتذكر البسمة التي رُسمت على شفتيها و كأنها كانت تطمئنه بأنها لن تتركه وحيداً، فقد أبقت له طفلة رائعة تذكره بها. لا يزال يذكر كيف كانت تضع ثياب الطفل- قبل أن يولد- أمامها و تتخيل أنها تحمله و تداعبه و تحادثه و كأنها كانت تشعر أنها لن تراه، لذلك عاشت معه حلماً رائعاًً. أفاق من ذكرياته على صوت طفلته تصرخ بأعلى صوتها، فتلفت حوله ليبحث عنها فوجد أمواج البحر تبتلعها، فانطلق يعدو نحوها محاولاً إخراجها من بين فكي البحر. كانت الأمواج تعلو شيئاً فشيئاً،و بالمقابل كانت ابنته تبتعد و تغيب عن ناظريه أيضاً. أمضى دقائق شعر و كأنها أيام و هو يحاول الوصول إليها، الى أن رأى جسمها الصغير طافياً على وجه الماء و الأمواج تلطمها بشدة، هرول إليها بكل ما تبقى لديه من قوة و حملها بين يديه متوجهاً نحو بر الأمان. وضعها على الرمال و حاول إخراج الماء من
رئتيها عله يستطيع رد الحياة إليها و لكن...ظلت جامدة بلا حراك، فحاول جاهداً مرة أخرى و لكن المحاولة أثمرت أنهاراً من الدموع و صوتاً صارخاً مزّق السكون و قلباً يتفطر ألماً و ندماً.
*****************
كان في المكان نفسه بعد أشهر قليلة من الحادث. أخذ يتأمل المكان وقت الغروب من حوله و لكن هذه المرّة لم ير بحراً متلألئاً صافيا، و إنما رأى بحراً لوثته أشعة الشمس الحمراء وكأنها دماء ابنته الصغيرة، و لم يشعر بدفء الرمال تحت قدميه و إنما شعر وكأنها تشده إليها ليرى ابنته و زوجته اللتان باتتا جزءاً منها. رفع نظره الى السماء و الدموع تملؤ عينيه و أخذ يردد : ( كم من حبيب لم تكن نفسي لفرقته تطيب... مالِ المقابر لا تجيب؟)
و بكى الربيع لبكائه بحرقة لأنه سُلب زهرة بيضاء، عَبَقَ أريجها في بستان الحياة و نشر السعادة في أرجائه، فآثر الرحيل تاركاً دموعه على نافذة الحياة..
بقلم الوردية
رد مع اقتباس
مواقع النشر (المفضلة)