+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1
    ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute الصورة الرمزية ابو مالك
    تاريخ التسجيل
    20 / 03 / 2007
    الدولة
    الأردن
    العمر
    50
    المشاركات
    6,574
    معدل تقييم المستوى
    7058

    افتراضي أنماط الكذب عند الأطفال

    نجد في التَّصنيف الذي قدمه (سيرل بيرت Cyril Burt ) للكذب في حياة الأطفال بعض الصُّور لهذا الكذب، نعرضها فيما يلي:
    1 – الكذب الخيالي:
    يتَّضح مثل هذا الكذب في سُلُوك بعض الأطفال، ممن يُولدون ولديهم خُصُوبة في الخيال ونشاط فيه، وقد يكونون من ذوي اللِّسان الطلق، والنُّمو اللُّغوي السريع؛ فيكون لديهم الطَّلاقة اللُّغوية في التَّعبير؛ فيبتدعون قصصًا خيالية لا أساسَ لها من الصِّحة، ولا ترتبط بالواقع، وغالبًا ما يكون ذلك الخيالُ انعكاسًا لمستوى عالٍ من الذَّكاء.


    وتتضح قُدرات هؤلاء الأطفال الإبداعية في كِتاباتهم لموضوعات التَّعبير، وفي مُحاولات فرضهم الشِّعر، وهم في سِنٍّ مبكرة، كما تتضح في الرُّسوم الحرة التي يقومون بها، حيثُ يبنون عالمًا من الخيال، وحداتُه ومفرداتُه من صُنع أفكارهم.
    ولا ينبغي أن يُتَّهم مثلُ هؤلاء المُبدعين الصِّغار من الأطفال بالكذب؛ فقد يكون منهم المخترعون والمُبتكرون في المُستقبل، وإنَّما ينبغي أن نُساعدهم على أن يدركوا أنَّ للإبداع مَجالاته في الفِكر والفَنِّ والأدب بما لا يتعارض مع الواقع الحيِّ الذي نعيشه في حياتنا اليوميَّة، وأن الإبداع الفكري والفني والأدبي نعمة من النِّعم التي أنعم بها الله على بعض عباده؛ ليسخروه في خدمة الإنسانيَّة.


    وفيما يلي مثال لحالة من الحالات الحقيقية التي عرضت على العيادة النفسيَّة:
    كانت هناك ابنة صغيرة اعتادت أنْ تجلس إلى والدتها، وتقصُّ عليها حكايات غريبة عجيبة تدَّعي أنَّها حقيقة، وكانت تسترسل في حديثها استرسالاً مُشوِّقًا جذَّابًا يملكُ تفكير المُستمعين وانتباههم؛ فأخذها والدها إلى العيادة النَّفسيَّة لمعالجتها من هذا النَّوع من الكذب، فلما درس المتخصص النَّفسي حالة هذه البنت، وجد أنَّها على مُستوى عالي الذَّكاء، وأنَّها طفلة رائعة الخيال، طلقة اللِّسان[1].


    الكذب الالتباسي:
    في هذا النَّوع من الكذب يختلط الخيال بالحقيقة لدى الطِّفل، ولا يستطيع أنْ يُميز بينهما؛ فقد يستمع الطِّفل إلى حكاية خرافيَّة، أو إلى قصَّة واقعيَّة، ويعجبُ بها، وتملك مشاعره، ثُمَّ يأتي الطفل في اليوم التالي لسماعه تلك القصَّة أو الحكاية، تستمع إليه وهو يتحدَّث عنها وكأنها وقعت له بالفعل.
    وقد يرى الطفل وهو نائم حُلمًا ما، وعندما يستيقظ الطِّفل من النَّوم يحكي الحُلمَ وكأنه قد حدث له بالفعل، ومثل هذا الكذب الالتباسي لا ينبغي أن يزعج الآباء، أو يخيف الأمهات، أو يقلق المُربين؛ لأنَّه مسألة تتعلَّق بالنضج العقلي واكتمال الوظائف العقليَّة، الذي يتمُّ مع التقدم في السنِّ بالنِّسبة للطفل، فهو إنْ وجد في سن الخامسة من العُمر أو السادسة فإنَّه يزول بالتدريج، ويتلاشى مع سن العاشرة أو الحادية عشرة، ومع ذلك فإنَّنا نقدم للطفل الإرشاد والتَّوجيه بما يساعدُه على التمييز بين الخيال والواقع.


    وكثيرًا ما يحدث أن يقصَّ الطفل قصة عجيبة، ولو تحقق الوالدن من الأمر لعرفا أنَّها وقعت للطفل في حُلم، ومن هذا النَّوع أنَّ بنتًا في الرَّابعة من عمرها قامت من نومها تبكي وتقول: إنَّ بائع الثلج المقيم في آخر الشَّارع ذبح خادمتها في منتصف الطريق، ووصفت بشيء من التَّطويل كلَّ ما رأته في الحلم، ولم تفرِّق الطفلة بين الحقيقة والحلم؛ فقصَّت كلَّ هذا على أنَّه حقيقة، وهنا يكون على ولي الأمر أنْ يُوضِّح للطفلة الفرق بين الحقيقة والحلم[2].


    3 – الكذب الادعائي:
    يلجأ الطِّفل إلى هذا النَّوع من الكذب غالبًا لشعوره بالنقص أو الحرمان؛ بسبب ضنك البيئة التي ينشأ فيها الطفل، وفيه يبالغُ الطفل بالحديث عن اللعَبِ الكثيرة التي يَمتلكها، والملابس التي يقتنيها، أو الرَّحلات التي قام بها، أو الأندية التي يُشارك فيها.
    وهناك أطفال يتحدَّثون عن مراكز آبائهم، أو موقع سكنهم أو أثاث مَنَازلهم وسيَّاراتهم... إلخ.
    فيشد الطفل انتباه الذين يستمعون إليه، ويُحاول أن يصنعَ من نفسه محور اهتمام، ومركز إعجابِ الآخرين.


    ويُمكن للقائمين على تربية الطِّفل في مثل هذه الحالات العمل على إعادة ثِقة الطِّفل بنفسه عن طريق إبراز القُوَّة فيه، وتنميتها؛ ليعرف أنَّ قيمة كل إنسان ترجع إلى عمله، وما يدرك ما يستطيع أن يُحقِّقه بالفعل لخير نفسه وخير المجتمع.
    ومن هذا النَّوع من الكذب ما يشاهده الآباء والأمَّهات، أو ما يسمعونه من حكايات من غيرهم أنَّ طفلاً مثلاً عندما يستيقظُ من النَّوم مُبكرًا عند ذهابه إلى المدرسة يدَّعي المرض، أو يدعي أنَّ أحد زملائه يضربه بشدة؛ وذلك ليحظى باهتمام والديه، وينال عطفهما من ناحية، ومن ناحية أخرى حتَّى لا يذهب إلى المدرسة حتى لا يُكلَّف بواجبات وقيود أخرى من المُدرِّسين.


    4 – الكذب الفرضي:
    قد يلجأ الطفل الذي يشعر بوقوف الأبوين حائلاً، دون تحقيق احتياجاته إلى الاحتيال بطرق مُختلفة لتحقيق غرضه؛ فقد يطلب النُّقود التي يحتاجها لشراء الحلوى بحُجَّة أنَّه يحتاج لشراء أدوات مدرسيَّة، أو للمشاركة في أحد الأنشطة المدرسيَّة، أو لسداد دَين عليه اضطر إليه لشراء لوازم ضرورية.
    وقد يدَّعي أنه ذاهب للاستذكار مع أحد زملائه، على حين أنه ذاهب للمشاركة في لعبة جماعيَّة، أو يدَّعي أنَّ النُّقود التي أخذها لشراء شيء ما ضاعت منه، وأنه بحاجة إلى عوض عنها.


    وقد يطلب باسم أبيه أو باسم أمِّه نقودًا من أحد الجيران أو الأقارب، أو يأخذ سلعة من أَحَد المحال التِّجارية باسمهما على وعدٍ بالوفاء في أجل قريب.
    وواضح أنَّ أسباب هذه الصُّورة من الكذب تكمُن في تشدد الآباء، وكثرة عقابهم للطفل، ووقوفهم دون تحقيق حاجاته، وواضح كذلك مدى خُطُورة هذا النوع من الكذب؛ لأنَّه قد ينتهي بالطفل وبالأسرة إلى عواقب وخيمة.


    والعلاج الجذري لهذا النَّوع من الكذب ينبغي أن يكون علاجًا وقائيًّا؛ يقوم على إيجاد الفهم الكامل لدى الآباء والمربين، بإشباع حاجات الطِّفل، وإعطائه الثِّقة بنفسه، والاستجابة لمطالبه المَشروعة وإعطائه مصروفًا شخصيًّا - نقودًا خاصة به - يتصرَّف فيها مَسؤولاً تحت إشراف الآباء، بقدر معقول من التَّسامح، ودون تزمُّت أو تشدد، على أن يكون المَصروف الشَّخصي للطفل مُعتدلاً دون إسراف أو تقتير، يتدرَّب من خلاله على الطريقة الصحيحة لاستخدام المال.


    ولا يقتصر الأمر على إشباع الحاجات المادية للطفل، إنَّما يمتد حسن الفهم والتَّقدير للطفل إلى إشباع سائر حاجاته الأدبية والمعنويَّة بالتَّشجيع، والعطف والتَّقدير المُتبادل والوقوف إلى جانبه في سائر المُشكلات التي تعترضه، ومعاونته على تذليلها، مع قدر يسير من التَّوجيه والتَّدخل، ودون أن نشعره بعجزه عن مُواجهة المُشكلة وحدَه.


    5 – الكذب الانتقامي:
    وفيه يلجأ الطفل تحت وطأة الشُّعور بالغَيرة من المكانة التي يتمتع بها غيره من الأطفال، في جماعة الفصل، أو بين الإخوة والأخوات داخل الأسرة، حين يشعر أنَّ بعضهم يلقى مُعاملة مُتميزة من المعلم أو المعلمة، أو من الأب أو الأم – يلجأ الطِّفل إلى الانتقاص من قدر الطِّفل الذي يغارُ منه؛ بأن يلصق به تُهمة من التُّهم، أو ينسب إليه عملاً شائنًا؛ فيقول مثلاً: إنَّه كان يقول عن المُعلِّمة شيئًا قبيحًا، أو إنَّه لم يغسل يديه قبل تناول الطعام، أو إنه أخذ قلمًا ليس له، أو إنَّ النُّقود التي معه ليست له؛ يودُّ بذلك أنْ يُفقده المَيزة أو المكانة التي يتَمتَّع بها؛ ليحلَّ هو محله، ولتكون له الحظوة بدلاً منه.


    وظهور مثل هذه الظَّاهرة بين الأطفال في البيت أو المدرسة، ينبغي أن يوجَّه اهتمامُ المربين إلى الانتباه إلى أهميَّة العناية بجميع الأطفال على قَدَم المُساواة، وعدم التَّفرقة في المُعاملة بينهم، ولا يكون التَّقدير الخاصُّ إلاَّ للعمل الحقيقي، الذي ينجزه الطفل في مجال من المجالات؛ فهذا طفل ممتاز لخُلُقه، والآخر مُمتاز في كتابته، والثَّالث ممتاز في رَسمه، والرابع مُمتاز في إنشائه، وينبغي أن يشعر كلُّ طفل أنَّه مُمتاز في عمل مُعين، وأنَّهم جميعًا سواسية في نظر المعلم أو المُعلمة، وينبغي أن تشبع باستمرار حاجة الطِّفل إلى أنْ يُحبه جميع المحيطين به.


    6 – الكذب الوقائي:
    يلجأُ الطفل أحيانًا إلى الكذب نتيجةَ الخوف من عقاب يَخشى أن يقع عليه، وخصوصًا إذا كان هذا العقاب قاسيًا، لا يتناسب مع ما يتطلبه الموقف؛ فيلجأ الطِّفل إلى الكذب؛ دفاعًا عن النَّفس، وحماية لها من العقاب، وفي سنٍّ مُتقدمة مع البالغين نجد أنَّ ولاء النَّاشئ لجماعته في النَّشاط المدرسي أو النَّادي الرياضي، قد يدفعه إلى الكذب؛ ليدفَعَ عن الجماعة عقابًا أو ليقيَها عُقُوبة قد تقع عليها.


    ويُلاحظ أنَّ هذا النَّوع من الكذب يكثر في مدارس البنين أكثر منه في مدارس البنات، وفي المدارس الثَّانويَّة أكثر منه في المدارس الإعدادية - المتوسطة - وفي هذه المدارس أكثر منه في المدارس الابتدائية؛ حيثُ ينتج هذا الكذب عن الولاء، والولاءُ للجماعة يَقوَى في مَرحلة المُراهقة؛ حيثُ تكون غالبًا في المدارس الثَّانويَّة أو الإعدادية المتوسطة[3].


    وقد يلجأُ الطِّفل إلى الكذب الوقائي؛ لحماية صغير مثله، يكون عزيزًا عليه، مَحبوبًا لديه، كأخيه الصغير أو صديقه - فيقولُ في بَسَاطة: أحمد لم يكسر الكوب، ويكون الواضحُ تمامًا أنَّ أحمد هو الذي كسره، بل قد يعترفُ أحمد بكسر الكُوب، لكنَّ الطفل يُصرُّ على أنَّ أحمد لم يكسره.
    والعامل المشترك أيضًا في ظُهُور هذا النَّوع من الكذب هو قسوة السُّلطة، وميلها لإنزال العقاب دون تفهُّم للظُّروف، وشعور الصِّغار بالقلق إزاء الموقف غير الثَّابت الذي قد يتَّخذه الكبار في مثل تلك الحالات.


    7 – كذب التقليد:
    الطِّفل في السِّنين الخمس الأولى من حياته مُحب للتَّقليد، يقلِّد مَن حوله في طريقة الجُلُوس والمشي، وطريقة تناول الطَّعام، بل هو يَمتصُّ العواطف والاتجاهات والقيم وأساليب التَّفكير التي يسلكها الكبار حوله في معالجة شؤون حياتهم.
    وقد يقع الكذب من أحد الأبوين أمام الطِّفل في موقف من المواقف، دون أن يكون مُتعمِّدًا للكذب؛ فقد يعتذر لصديق بأنَّ ما يطلبه من كتاب أو صحيفة أو مَجَلة غير موجود، لكنَّ الطِّفل الصغير يُراقبُ الموقف، ويعرف أنَّ الشيء موجود، وهنا يدرك الطِّفل أنَّ الكذب يكون مشروعًا في بعض الأمُور، ويعمم ما تعلمه عن مشروعيَّة الكذب في موقف من المواقف إلى مواقف أخرى يكون فيها الكذب مَجْلبة لشرور وخيمة.


    ومن الأمثلة على ذلك أيضًا ما يحدث أحيانًا عندما يكون الأبُ مرهقًا أو الأم متعبة، ثُمَّ يدق جرس الباب من ضيف يسأل عنهما أو جرس الهاتف؛ فيطلبُ الأبُ أو الأمُّ من أحد الأبناء أن يعتذر بعدم وُجُود الأب أو الأم، ويكون الصغيرُ مُراقبًا للمشهد؛ فتُنْقل إليه عدوى الكذب الصَّغيرة؛ لتكون كذبًا كبيرًا فيما بعد.


    ولو أدرك الآباء خُطُورة مثل هذه المواقف على تعليم أبنائهم أنَّ الكذب أسلوبٌ للتَّخلص من المُشكلات، فَلَربَّما ترتَّب عليه أبلغ الضَّرر بلجوء أبنائهم إليه في مواقفَ أخرى يكونُ خَطرُها أشد.
    وفي هذا المجال ينبغي تدقيق الإشراف على مواد ثقافة الطِّفل، بحيث يكون البطل في قصص الأطفال مثلاً طيِّبًا يُحتذى، كذلك ينبغي التَّدقيق في اختيار وإعداد مُعلِّمة رياض الأطفال؛ لتكون قُدوة طيِّبة للأطفال، يتعلمون منها النَّماذج السُّلوكيِّة الصحيحة.


    8 – الكذب المرضي أو المزمن:
    إذا ما تكرَّر الكذب من الطِّفل في أيَّة صُورة من صُوره، سواء كان إصرارًا على الإغراق في الخيال دُون أن تعطى الفُرصة للعودة إلى الواقع الذي نعيشه - عالم النَّاس والأشياء - أو كان إصرارًا على الخلط وعدم التَّمييز بين ما هو خيالي وما هو واقعي، أو كان إصرارًا على ادِّعاء ما لا يَملكُه الفرد من مال أو جاه أو أسلُوب حياة؛ ليوهم الآخرين بغير ما هو عليه، أو كان إصرارًا على التحايل؛ قصد الوصول إلى الغرض بطُرُق غير صادقة أو صحيحة، أو كان إصرارًا على مداومة الانتقاص من الآخرين، من شأنهم وقدرهم بهدف الارتفاع على أنقاضهم، أو كان الكذب أسلوبًا يمارس بطريقة غير واعية؛ بحيث أصبح طريقة للحياة - فإنَّها جميعًا صور للكذب المرضي الذي يصبح لازمة من لوازم الشخصية المرضية لمن تَرَبَّى على الكذب، ولم تتح له الظُّروف الصحية التَّربوية السليمة للخلاص منه، وقد يصل الأمرُ إلى أن تنعقد الحالة؛ فلا يكون الكذب وحدَه هو العلَّة التي تصاحب الحالة، وإنَّما تكون هناك أعراض أخرى: كالسرقة أو الغش أو الاختلاس أو التَّزوير أو غيرها من الجرائم.
    وعند ذلك لا يسعنا إلاَّ أن نتذكر في حسرة الحِكْمة القائلة:
    "كلُّ الأمور مَبدؤها من النَّظر، ومعظم النَّار من مُستصغر الشَّرر".


    ومِمَّا يزيد في الحسرة أنَّ مِفتاح العلاج للمُشكلة كلها كان بيدنا – نحن المربِّين، آباءً ومُعلمين – في سن الطُّفولة الباكرة لفلذات الأكباد: العطفُ والمحبة والتَّقدير والثِّقة وإشباع الحاجات الأساسيَّة، والملاحظة لسُلُوكيَّات أطفالنا، والمتابعة لأي تغير يبدو عليهم، والرِّقابة عن بُعْد مع عدم التَّدخل، والجو العائلي الهانئ، والقدوة الحسنة.


    الإسلام يوفر الشروط التي تحمي الطفل من الوقوع في الكذب

    اتَّخذ الإسلام موقفًا مُحددًا للكذب: أنَّ الله لا يهدي الكذَّاب أبدًا؛ قال الله - تعالى -: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} [غافر: 28].
    والكذب المَرَضِيُّ داءٌ وخيم العاقبة، وسلوك سيِّئ يمقته الإسلام الحنيف؛ قال الحق - سبحانه وتعالى -: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [النحل: 105]؛ فالإسلام ينظر إلى الكذب على أنَّه ظاهرة قبيحة، بل إنَّه داء من أقبح الظواهر، وقد عدَّه الإسلام الحنيف من خصائل النِّفاق، ومعنى هذا أنَّ الإسلام يقبح هذا السُّلُوك السيِّئ ويزدريه.


    عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبي - صلَّى الله عليه وسلم - قال: ((أربعٌ من كنَّ فيه كان مُنافقًا خالصًا، ومن كان فيه خصلة منهن كان فيه خصلة من النِّفاق حتَّى يَدَعَها: إذا اؤتُمن خان، وإذا حدَّث كذب، وإذا عاهد غَدَر، وإذا خاصم فَجَر))؛ البخاري ومسلم.
    ويقبح الإسلام سلوك الكذب؛ لأنَّه سلوك إذا اعتاده الإنسان جرَّه إلى النهاية الكريهة وفي ذلك يروي ابن مسعود - رضي الله عنه -: أنَّ النَّبي - صلَّى الله عليه وسلم -: ((إيَّاكم والكذبَ، فإنَّ الكذب يهدي إلى الفُجُور، وإن الفُجُور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب، ويتحرَّى الكذب، حتَّى يكتب عند الله كذَّابًا))؛ البخاري.


    وقد يكون المؤمن جبانًا أو بخيلاً، ولكنَّه لا يكون كذابًا؛ فقد سئل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم -: أيكون المؤمن جبانًا يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم))؛ ثُمَّ قيل له: أيكون المؤمنُ بخيلاً يا رسول الله؟ قال - صلى الله عليه وسلم -: ((نعم))؛ ثُمَّ قيل: أيكون المؤمن كذَّابًا يا رسول الله؟ قال - صلَّى الله عليه وسلم -: ((لا))؛ رواه مالك.


    وإذا كان هذا شأن ومصير الكذب والكذَّابين؛ فما على الآباء والأمَّهات والمُربين إلاَّ أن يُربُّوا الأطفال على كراهية الكذب بوصفه سلوكًا سيئًا قبيحًا، وينهوهم عنه، ويحذروهم عواقبه، ويكشفوا لهم عن مَضَارِّه وأخطاره؛ حتَّى لا يقعوا في حبائله، ويتعثَّروا في أوحاله، وينْزلقوا في متاهاته.


    ومن المفيد هنا أن ترى هذه القِصَّة التي تعوِّد الأطفال على الصِّدق، يقول العالم الشيخ عبد القادر الجيلاني - رحمه الله -: "بنيت أمري من حين ما نشأت على الصِّدق؛ وذلك أنِّي خرجت من مَكَّة إلى بغداد أطلبُ العلم، فأعطتني أمِّي أربعين دينارًا؛ أستعين بها على النفقة، وعاهدتني على الصِّدق، فلَمَّا وصلنا أرضَ هَمدان خرج علينا جماعة من اللُّصوص فأخذوا القافلة، فمَرَّ واحد منهم، وقال لي: ما معك؟ قلت: أربعون دينارًا؛ فظنَّ أنِّي أهزأ به، فتركني، فرآنِي رجل آخر، فقال: ما معك؟ فأخبرته بما معي، فأخذني إلى كبيرهم، فسألني فأخبرته، فقال: ما حَملك على الصِّدق؟ قلت: عاهدتني أمِّي على الصِّدق؛ فأخاف أن أخون عهدها؛ فأخذت الخشية رئيس اللصوص، فصاح ومزَّق ثيابه، وقال: أنت تخافُ أن تخونَ عهد أمِّك، وأنا لا أخافُ أن أخونَ عهد الله؟ ثمَّ أمَرَ بردِّ ما أخذوه من القافلة، وقال: أنا تائبٌ لله على يديك؛ فقال من معه: أنت كبيرنا في قطع الطَّريق، وأنت اليوم كبيرنا في التَّوبة؛ فتابوا جميعًا ببركة الصِّدق وكراهية الكذب"[4].


    وإرساءً لبناء الحياة الأُسَريَّة السَّليمة القائمة على المَودَّة والتفاهُم والتراحُم بين الزَّوج والزَّوجة والأبناء - أوصى الإسلام باعتبار الزَّوجة الصالحة ذات الدِّين؛ ففي الحديث الشَّريف: ((فاظفر بذات الدِّين تربت يداك))، وفيه أيضًا: ((تَخيَّروا لنُطفِكم؛ فإنَّ العرق دساس)).


    وإذا كانت التربية الحديثة تُنادي بإشباع حاجات الطِّفل النفسيَّة من المحبة والعطف والنَّجاح والتقدير، وإحاطة الطفل بالعناية والرعاية والموالاة؛ فلقد سَبَقَها الإسلامُ السمح الذي أوصى رسولُه الكريم - صلَّى الله عليه وسلم - أصحابَه وأتباعَه من المسلمين الأوائل بأنْ يُحسنوا إلى أطفالهم؛ فيختاروا لهم اسمًا جميلاً يسعده أنْ يُنادى به، والرسول الكريم - صلَّى الله عليه وسلم - يستنكر ألاَّ يُقَبِّل الأب أطفاله؛ ففي الحديث الشريف عن عائشة – رضي الله عنها – قالت: "قَبَّل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - الحسن والحسين ابْنَي علي، وعنده الأقرعُ بن حابس التَّميمي، فقال الأقرع: إنَّ لي عَشَرَةً ما قبَّلت منهم أحدًا قطُّ؛ فنظر إليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - ثُمَّ قال: ((مَن لا يَرحم لا يُرحم))؛ رواه البخاري ومسلم.


    وإذا كان حِرمان الطِّفل من إشباع حاجته الجِسمية والنَّفسية يُعدُّ دافعًا له إلى سلوك الكذب؛ ليحصل على ما يريد؛ فقد ضرب الرسول - صلى الله عليه وسلم - لنا المثل الطيب في مراعاة حاجة الأطفال؛ إذ جاء بالحديث الشَّريف، عن ابن عباس - رضي الله عنهما – "أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلم - كان إذا أتى بأوَّل ما يدرك من الفاكهة يُعطيه لمن يكون في المجلس من الصبيان"؛ رواه الطَّبراني.


    وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((من قال لصبي: تعالَ هناك أعطِك، ثُمَّ لم يعطِه؛ فهي كذبة))؛ رواه أحمد، وعن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((يطبع المؤمن على خلال الصِّفات كلِّها إلاَّ الخيانة والكذب))؛ وبذلك يُؤكِّد الإسلامُ أهمية التزام الأبوين وغيرهما من أعضاء الأسرة والمحيطين بالطفل بالصدق؛ ليكون فيهم القدوة السَّليمة للناشئ.


    ويُؤكد الإسلام على أهمية البيئة والقُدوة، فكلُّ مولود يولد على الفطرة، وهي الإسلام، وإنَّما أبواه يُهوِّدانِه أو ينصِّرانه أو يُمجِّسانه؛ فكلُّ شرٍّ يلحق بالوليد والناشئ مرجعه إلى البيئة التي يمتص منها قِيَمَه واتجاهاته، هذا مع الاعتراف بنوازع الشَّرِّ الكامنة، وحثًّا على تنقية البيئة الاجتماعيَّة من الكذب، يَعِدُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - ببيتٍ في وسط الجنة لمن ترك الكذب، وإن كان مازحًا.


    عن جابر - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((أنا زعيمٌ ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكَذِب، وإن كان مازحًا))؛ البيهقي.


    وإذا كان شعور الطفل بالغبن بين إخوته، وعدم المُساواة في المُعاملة الأبويَّة بينه وبينهم سببًا في شُعُوره بالاضطهاد، وبتمييز الآخرين عليه مِمَّا يدفعه إلى أنْ يسلكَ طُرُقًا، ولو غير مباشرة، يعتقد أنَّها تزيح عنه الشُّعور بالاضطهاد والغبن، ومن ذلك سُلُوك الكذب الانتقامي؛ فينسب إلى المُمَيَّزين من إخوته ما يشينهم، ويزعزع مكانتهم - فقد نبَّه الحديث الشَّريف إلى العدل والمُساواة بين الأبناء.


    عن النُّعمان بن بشير - رضي الله عنه -: أنَّ أباه أتى به رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلم - فقال: إنِّي نحلت ابني غلامًا كان لي؛ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم ((أكُلُّ ولدِك نحلتَ مثل هذا؟))؛ فقال: لا، فقال: ((أرجعه)).
    وفي رواية: فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((أفعلتَ هذا بولدك كُلِّهم؟))؛ قال: لا؛ قال: ((اتَّقوا الله واعدلوا في أولادكم))؛ فَرَجع أبي فردَّ تلك الصَّدقة.


    وإذا كان الأبُ بحكم قوامته على شؤون الأسرة مسؤولاً عن توفير الاستقرار الأُسري، والهناء العائلي لزوجته وأبنائه في جو يقومُ على إشاعة الاطمئنان والثقة المتبادلة والفهم والتَّقدير لظُرُوف كُلِّ فرد في الأُسرة، ومعاونة الصِّغار على حل مُشكلاتهم في جوٍّ يظلله الحبُّ والمودة - فإنَّ لنا في رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - في هذا المضمار الأُسوة الحسنة، جاء في الصَّحيحين، عن أنس – رضي الله عنه – قال: "خدمت النبي - صلَّى الله عليه وسلم - عشر سنين، فما قال لي أف قط، ولا قال لشيء صَنَعْتُه: لِمَ صنعتَه؟ ولا لشيء تركته لِمَ تركته؟"؛ وفي رواية لأبي نعيم قال أنس: "فما سبني - صلى الله عليه وسلم - قط، ولا ضربني من ضربة، ولا انتهرني، ولا عَبَس في وجهي، ولا أمر في أمر فتوانيت فيه فعاقبني عليه، فإنْ عاتبني عليه أحد من أهله، قال: دعوه، لو قدر شيء كان".


    فأيَّة سماحة؟ وأيُّ حلم؟ وأي صبر؟ وأي عطف؟... إنَّه لو قدر لبيوتنا أن تنعم بقَدْر يسير مِمَّا كان عليه سيد البريَّة لهان كلُّ صعب، ولما وجد صغير من صغارنا سبيلاً يقوده إلى سلوك الكذب خشية اللَّوم أو العقاب.


    وروى ابن سعد، عن عائشة - رضي الله عنها - أنَّها سُئلت: كيف كان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - إذا خلا في بيته؟ فقالت: "كان ألينَ النَّاس، بسَّامًا ضحَّاكًا، لم يُرَ قطُّ مادًّا رجليه بين أصحابه"؛ وذلك لعظيم أدبه وكمال وقاره عليه الصلاة والسلام.
    إنَّ هذا النَّموذج الأبوي يُمثِّل دروسًا كبيرة للآباء والأمهات والمُعلمين، وكلِّ من يتولَّى مسؤوليَّة الرِّعاية والقيادة لغيره من التَّابعين؛ فاللين والابتسام والضَّحك إذا ما ساد جوَّ البيت أو جوَّ الفصل مع عدالة في المُعاملة، قَطَع كلَّ طريق على الرَّهبة والخوف والتقوقع واللُّجوء إلى الأساليب المَرضيَّة، ومنها الكَذِب سبيلاً لتَفَادي المحاسبة.


    إنَّ برنامج التربية السليمة للطفل – كما يحدده الإسلام – برنامج يقوم على التنشئة السويَّة على الصدق، والابتعاد عن الكذب، على أساس من الاقتناع الداخلي بأنَّ الكذب في الأقوال والأعمال سلوكٌ سيِّئ، ينتهي بصاحبه إلى نتائج سيِّئة في الدُّنيا والآخرة، وإذا تربَّى الطِّفل على الصِّدق عاش حياة هانئةً تتوافر له فيها الصحَّة النفسيَّة باعتبارها؛ كما جاء في تعريف مُنظمة الصحة العالمية WHO : "حالة من الرَّاحة الجسميَّة والنفسيَّة والاجتماعيَّة، وليست مُجرد عدم وجود المرض"[5].


    يبدأ برنامج التنشئة الإسلاميَّة للطفل مع بناء الأسرة، واختيار الزَّوجة، وبناء بيت الزَّوجيَّة، وينطلق تنفيذه الفعلي مُنذُ ساعة ميلاد الطِّفل، وهو برنامج متدرج، يستمر مع مراحل تعليم الطفل، حتَّى يجد نفسه قد واكب إعداده لعمل يتولَّى أمانته، ألاَ وهو عمل في أسرة؛ تكوينًا لها ورعاية وتوجيهًا واستعدادًا للعطاء من أجل إعداد الطِّفل المُسلم الصَّادق مع نفسه[6].


    وهذا البرنامج يعتمدُ على أُسُس علميَّة مُؤكدة تعتمد على قواعد من أهمها:
    - اختيار الزَّوجة الصَّالحة التي نشأت في بيت طيب.
    - غرس القيم الإسلاميَّة لدى الطِّفل مُنذُ ميلاده.
    - حماية الطِّفل من الخوف والقهر والظُّلم في الأسرة والمدرسة.
    - إشباع حاجات الطِّفل المادية من الطَّعام والشَّراب، والمعنويَّة من عطف وحنان وقَبول حسن.
    - إعداد الآباء والأمَّهات إعدادًا طيِّبًا دينيًّا وعلميًّا وتربويًّا؛ فهما القدوة والمثل الأعلى للطفل.
    - يكون المربُّون للطفل قُدوة طيِّبة لا يكذبون في أقوالهم وأعمالهم.
    - يكون ما يقدَّم للطفل من مَواد ثقافيَّة وتعليمية مُعدًّا إعدادًا جيِّدًا يتَّفقُ وتعاليم الإسلام الحكيم وفْقَ ما جاء بالقرآن الكريم، وصحيح سنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - وسيرة صحابته رضوان الله عليهم أجمعين.
    - الأخذ بكلِّ جديد عصري مفيد في علوم التربية والصحة النفسية، والعلوم التي تُعنى بالطِّفل وتربيته؛ حتَّى تتوافر له الحماية والوقاية من الأمراض النَّفسيَّة، على أن يكون ذلك الجديد مُتفقًا وتعاليم الإسلام.
    - الإشراف الفني الدقيق على كلِّ ما يقدم للطِّفل من مواد ثقافيَّة وألعاب تربويَّة.
    - إعداد الحدائق الجميلة والنوادي الرياضية والثقافية؛ لتشبع حاجات الأطفال الجسمية والعقلية والنفسية.
    نصائح إلى الآباء والمعلمين والمربين لحماية الطفل من الكذب وغيره من المشكلات السلوكية الأخرى
    يحرصُ أولياء الأمور من الآباء والأمَّهات حرصًا شديدًا على وقاية أطفالهم من المشكلات السلوكيَّة التي يُعدُّ الكذب من أخطرها، وفي النَّصائح سيجد هؤلاء الآباء وغيرهم ما يفيدهم كثيرًا في تحقيق هذا الهَدَف وفْقَ مبادئ الشَّرع الحنيف وقواعد علوم التَّربية والصحة النفسيَّة.
    - عامل ابنك برفق وأشعره بعطفك؛ طفلُك كائن صغير ناشئ، والعالم حوله أكبر منه بكثير جدًّا، وهو عالم يكتشفه الطفل، ويحاول دائمًا أن يتعرَّفَه على مراحل مُتدرجة بِما يتناسب مع نُمُوِّه الجسمي والعقلي والانفعالي والاجتماعي والخلقي، وأنت ولا شك تعلم أن هذا النمو مستمٌر مطرد، يستمرُّ في حياة الطِّفل حتَّى يصل إلى مرحلة البُلُوغ والشباب.


    ولكي تساعد طفلك على أن يجتاز هذا المراحل في أمن وثِقَة واطمئنان؛ فلا بُدَّ لك من أن تعاملَه برفق؛ ليشعر بالأمان، وليخطو خطوات أخرى نحو اكتشاف العالم المجهول حوله، العالم الذي صنعه الكبار بما فيه من قيود ونُظُم ومسموحات ومَمْنوعات وحدود موضوعة على السلوك الفردي، لا يجوزُ أن يتخطاها الإنسان وإلاَّ عُدَّ شاذًّا أو خارجًا على العُرْف والتقاليد عالم يسمح بالتقاليد التي رسمها المجتمع فيسمح له بالحديث في أمور مُعيَّنة، ويمنعه من الحديث في أمور أخرى، عالم يسمحُ له بأنْ يكتشف إلى حدود معيَّنة، ويُحرِّم عليه أنْ يتخطَّى تلك الحدود عالم يسمحُ له أن يتناول بيديه، ويفحص بحواسِّه أشياء معينة، على ألاَّ يتعدَّاها إلى غيرها، عالم يقف أحيانًا مُتصلبًا أمام الدَّوافع الفطريَّة والحاجات النفسية للطفل؛ فيحول دون إشباعها أو التنفيس عنها متذرعًا بمنطق الكبار، وقوانين الكبار، والنظم الموضوعة لهم، بل إنَّ لعب الطفل نفسه، وحريته في اختيار ما يلعب به، وجمع ما يتوق، وحيازة ما يشغف به - تخضع كلها لتدخُّل الكبار وأوامرهم؛ فهذا ممنوع، وذلك جائز، وهذا مباح، وعلى الطفل في كثير من الأحيان أن يقْبَل ذلك دون مناقشة، ولا ينبغي للوالدين أن يسمحا للطفل بحرية مُطلقة دون قيود؛ لأنَّ ذلك لا يتَّفق مع مُقتضيات التَّربية الاجتماعيَّة والخلقية السليمة، التي تفرض على المُربِّي أن يساعد الطِّفل على حُب هذه القيم وامتصاصها؛ لكي ينشأ التنشئة الاجتماعيَّة الصحيحة.


    ولذلك فينبغي على أولياء الأمور - آباء وأمهات - أن يحوطوا أبناءهم بالرِّفق والمحبة والعطف؛ فإن ذلك يخطو بالطِّفل خُطُوات كبيرة نحو التَّربية الاجتماعيَّة الصحيحة؛ مثل: الرَّبت على كتف الطفل أو تقبيله؛ عن عائشة أمِّ المؤمنين - رضي الله عنها - قالت: "قبَّل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - الحسن والحسين ابْنَي علي، وعنده الأقرع بن حابس التميمي؛ فقال الأقرع: إنَّ لي عشرة ما قبلت منهم أحدًا؛ فنظر إليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - ثُمَّ قال: ((من لا يَرحم لا يُرحم))؛ متَّفق عليه.


    وينبغي على أولياء الأمور من أباء وأمَّهات ومعنيِّين بتربية الطِّفل معاملة الأطفال على قدم المساواة، سواء كانوا إخوة أو زملاء في حجرة الدراسة؛ فينال كلُّ طفل قدرًا كبيرًا من الاهتمام، والاستماع له، وعدم الانشغال عنه، ويحرص أولياء الأمور على المساواة بين أطفالهم.
    عن النُّعمان بن بشير – رضي الله عنهما –: أنَّ أباه أتى به إلى رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم – فقال: إنِّي نحلت ابني غلامًا كان لي؛ فقال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((أكُلُّ ولدك نحلته مثل هذا؟))؛ فقال: لا؛ فقال - صلَّى الله عليه وسلم -: ((أرجعه))، وفي رواية: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((أفعلت هذا بولدك كلهم؟))؛ قال: لا؛ قال - صلَّى الله عليه وسلم -: ((اعدلوا في أولادكم))؛ الترمذي.


    ومن المُفيد أن يخصص أولياء الأمور من آباء وأمهات ومُربِّين وقتًا خاصًّا لمداعبة أطفالهم، والاستماع إليهم في هُدوء وعطف وحنان، ومُشاركتهم في لعبهم واهتمامهم والبعد عن العقاب البدني، وتوفير جوٍّ من الهناء العائلي الذي يُحيط بالطِّفل؛ ليواصل خطواته نحو اكتمال النُّمو في ثقة وسعادة واطمئنان.
    - اكسب ثقة طفلك وشجعه على أن يتحدَّث معك بكُلِّ ما يدور في نفسه؛ من الطبيعي جدًّا أنْ يكثر الطِّفل من الأسئلة عن العالم المحيط به، بل إنَّ أسئلة الطفل الكثيرة دليل تفتحه وتعطشه للتعلُّم ودليل على ذكائه، ومن حسن الحظ أنَّ الأسئلة تبدأ في مرحلة مُبكرة من حياة الطفل مع تعلمه للكلام؛ فهو دائم السؤال عمَّا يحيط به: أين هذا؟ ما هذا؟ وهو عن طريق هذا السُّؤال يعرفُ أسماء الأشياء ويكرِّرها، ولكنَّه في مرحلة تالية لا يكتفي بالسؤال: ما هذا؟ لكنه يسأل: لماذا؟ لِم؟ كأنَّه يريد أن يعرف السبب، وهو يقنع من المحيطين به بأيَّة إجابة يسيرة غير مُتعمقة.


    وأسئلة الطفل هذه في مراحل حياته المتدرجة التي يوجهها للآباء وللمعلمين هي عربون لبناء الثِّقة بينه وبين المُحيطين به، فإمَّا أن يستمعوا إليها، ويرحِّبوا بها، ويُجيبوا عنها، ويكون ذلك علامة اعتراف بالطفل وتقبُّل له، ومعاونة على أن يأخذَ مكانة بين هؤلاء الكبار حوله، وتربيته على المُصارحة، وإمَّا أن تقابل بالكفِّ والضيق والتبرُّم والنُّفور، ويكون هذا لدى الطفل علامة على عدم التقبُّل، وعدم التَّرحيب؛ فتهتز ثقته بما ينتظره في المجتمع القريب المحيط، فهو مُجتمع لا يودُّ أن يعترف به، وعليه أن يقمع أسئلته حتَّى لا يضايق من هو بحاجة إلى عطفه ومَحبَّته، وينشأ بذلك نوع من الازدواجيَّة في حياة الطِّفل النفسية؛ فالطفل على سجيته وطبيعته يريدُ أن يسأل ويعرفَ ويشبع حاجته إلى الكشف والاستطلاع، وهو الطفل في الصورة التي يودُّ الآخرون أن يكون عليها: الطفل الصامت الذي لا يتكلم إلاَّ بإذن من الكبار المحيطين به، والخُطُورة هنا تكمُن في أنَّ الطفل سوف يبحث عن مصادرَ أخرى يستقي منها معلوماته في كثير من الأُمُور، وفي أنه سوف يفقد الثِّقة في استعداد المحيطين به لتقبُّله إنْ لم يصل الأمر إلى ما هو أخطر من ذلك عندما يرتبط حديث الطِّفل للكبار بالرَّفض والعقاب.


    وفي مثل ذلك الجو تكون الفُرصة مهيأة للجوء الطِّفل إلى الكذب الوقائي الذي يُحاول أن يَحمي به نفسه من عقاب الكِبار المحيطين به، وقد تتَّسخ يداه أو ملابسه، أو قد تتكسر بعض أدواته، أو قد يكون لديه واجبات مدرسيَّة ثقيلة، لكنَّه لا يجرُؤ على الحديث عن ذلك، أو بعضه مع المُحيطين به في المَنزل أو المدرسة؛ فيلجأ إلى التَّستُّر والإخفاء والكذب؛ لأنه فقد عنصر الأمان في علاقته مع أقرب الناس إليه.
    وقد يكون في مِثل هذه المواقف على بَساطتها وصغرها في حياة الطِّفل النَّاشئ الأساسي لكثير من الانحرافات الخطيرة، التي يتعرَّض لها في مُستقبل حياته العملي والمهني؛ كالتَّستُّر على أخطاء العمل وإخفائها أو الاختلاس أو التَّزوير وغيرها.


    - دعه يستمتع بطفولته وعالمه الخيالي، ومع ذلك تدَرَّج به برفق إلى التَّفريق بين الخيال والواقع؛ إنَّ سعادة الطِّفل تكون في استمتاعه بمرحلة طُفُولته، فالطفولة مرحلة لها مداها الزَّمني، زوَّد الله بها الطِّفل الآدمي، وأطال في مُدَّتِها؛ لتصل إلى ستِّ سنوات كاملة في الطفولة المُبكرة مُنذُ الميلاد، وحتَّى سنِّ دُخُول المدرسة، ثُمَّ أطال ستَّ سنوات أخرى، يقضيها الطِّفل في المدرسة الابتدائيَّة، سواء كان الطفل لا زال في مرحلة الطُّفولة المُبكرة، ينعمُ بحرِّيته وانطلاقه في ظلِّ الهناء العائلي، والرِّعاية الأبوية، والتَّفاعل مع الإخوة وأقرب الأقارب إليه، وينال من الرعاية الجسديَّة والنفسيَّة الشيء الكثير، أم كان في المدرسة في مرحلة الطُّفولة المتأخرة يأخذ حظَّه من التفاعل الاجتماعي السَّليم مع أقرانه ومُعلِّميه والأنظمة المدرسيَّة، ويهيأ لكي يتقبل المعايير الاجتماعية، ويتقبل فكرة الحُقُوق والواجبات، ويُؤهل للمُواظبة خلال سنين دراسته المُتلاحقة، فإنَّ المُربين لا يستطيعون اختصار مرحلة الطُّفولة أو التَّقليل من شأنها، فللطفل في كلِّ حلقة من حلقات هذه المرحلة خصائص جسميَّة ونفسية مميزة.



    [1] "أسس الصحة النفسية"، عبد العزيز القوصي، (ص: 342)، مرجع سابق.
    [2] "أسس الصحة النفسية"، عبد العزيز القوصي، (ص: 342)، مرجع سابق.
    [3] "أسس الصحة النفسية"، عبد العزيز القوصي، (ص: 345)، مرجع سابق.
    [4] "تربية الأولاد في الإسلام"، عبد الله علوان، (ص: 175)، طبعة ثالثة، سنة 1981م بيروت، دار السلام للطباعة والنَّشر والتَّوزيع.
    [5] "الصحة النفسية والعلاج النفسي"، حامد عبد السلام زهران، (ص 65 – 67)، ط 22، عالم الكتب بالقاهرة.
    [6] "الإثراء النَّفسي - دراسة في الطفولة ونمو الإنسان"، سيد أحمد عثمان، (ص: 9)، (ص: 124)، مكتبة الأنجلو المصرية، 1406هـ - 1986 م.




    محمد علي قطب الهمشري - وفاء محمد عبدالجواد- علي إسماعيل محمد

     
  2. #2
    صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute الصورة الرمزية صناع الحياة
    تاريخ التسجيل
    09 / 06 / 2005
    الدولة
    مصر
    العمر
    51
    المشاركات
    21,349
    معدل تقييم المستوى
    26547

    افتراضي رد: أنماط الكذب عند الأطفال

    جزاك الله كل الخير على الطرح الرائع
    مع الشكر والتقدير

     
  3. #3
    ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute ابو مالك has a reputation beyond repute الصورة الرمزية ابو مالك
    تاريخ التسجيل
    20 / 03 / 2007
    الدولة
    الأردن
    العمر
    50
    المشاركات
    6,574
    معدل تقييم المستوى
    7058

    افتراضي رد: أنماط الكذب عند الأطفال

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صناع الحياة مشاهدة المشاركة
    جزاك الله كل الخير على الطرح الرائع
    مع الشكر والتقدير
    الشكر لك أخي صناع الحياة على تواصلك في المشاركات

     

 
+ الرد على الموضوع

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك