جلس كعادته يتفحّص ساعته الجديدة، نظر إليّ بسعادة، وسألني: كم تتوقع أن يكون سعرها؟
لم أبالغ كثيراً حين قلت له إنّ سعرها قد يتجاوز الألفي دولار، لعلمي برغبته باقتناء الأشياء الثمينة والمتميزة.
لم أكمل جوابي حتى رمقني بنظرة صفراء ساخطة.. ثمّ قال: إن سعرها يتجاوز مائة ألف دولار!
يا إلهي.. جاءتني عبارته كالصاعقة.. لم يخطر في بالي أبداً أن أجالس من يقتني ساعة بهذه القيمة!
دار حوار طويل بيننا حول الساعة.. لم أسأله (من أين) لعلمي بمصادره، لكن أكثر ما شغلني: ماذا تستفيد؟.. ماذا تشعر؟.. كانت إجاباته محدودة: أبحث عن التميّز.
بقلم: يحيى السيد عمر
لماذا؟!
لا يزال هذا الموقف يقفز إلى ذاكرتي كلما جلست إلى أحد هواة اقتناء الأشياء الثمينة، فهذا يتفاخر بسيارته الفخمة.. وذاك بحذاء يشتريه من مصمّم إيطالي لا يصمّم خلال سنة كاملة سوى مئة زوج من الأحذية لأشخاص محدّدين حول العالم.. وآخر يتباهى بمنزل أسطوري.. حتّى إنّ الأمر وصل إلى صغار الأطفال الذين يتفاخرون بالأجهزة النقالة والآي باد والبليستيشن وما شابهها!
هو السؤال ذاته الذي يشغل ذهني: لماذا؟
وهل يحقّ لي كمراقب أن أحكم على من يهوى هذه الأمور بحكم قد لا يناسبه أو لا يعجبه؟.. أبداً.. فليس من حق أحد ذلك؛ لأنّ الله جلّ شأنه الرازق المنان يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده، ولكلّ ذي نعمة أو رزق أن يتفاخر بما أنعم الله عليه من نعم.
فالموضوع ليس هنا أبداً، فأنا كغيري من بني البشر أتابع وأشتري وألبس وأقتني وأغيّر سيارتي وأطمح لبيت أفضل، وأحبّ أن تكون لدي كل هذه الأشياء الجميلة.. لكنّ ما يؤلمني حقّاً أن تجلس إلى أحدهم فتكون هذه الأشياء هي محور حياته واهتمامه ومستقبله.. لا بل ويحاكمك من خلالها، فأنت في نظره بما تجاريه بما يقتني!.. لذا إيّاك أن تخطئ وتسأل صديقك أو صديقتك: “هل نظارات (فيرزاتشي) تردّ الأشعة فوق البنفسجية؟!”.. أو “هل بدلة (أرماني) بثلاثة أكمام مثلاً؟!”.. و”هل تستطيع سيارتك التحليق قرب الغيوم؟!”.. أو حتّى: “هل حذاؤك يسير بسرعة 50 كم في الساعة؟!”..
إيّاك.. فهذه من المحرّمات في عالم عشّاق الماركات والرفاهية..
ثقافة.. وهوس
من المواقف الطريفة التي قد تواجهك، أن تأتيك طفلتك الصغيرة، وتقول:
– بابا، موبايلي بحاجة إلى تغيير.
فتسألها: لماذا؟.. لتجيبك:
– أصبح قديماً.
فتعترض على ذلك بأنّه مازال يعمل جيّداً، لتفاجأ بقولها:
– صديقتي فلانة اشترت الموديل الأحدث!
يا إلهي.. أنّى لهذه الصغيرة من يقنعنها؟!.. وهكذا دواليك، تشعر أنّك تعيش في دوامة، مهما حاولت أن تلهث خلف هذه التقنية تجد نفسك تدور في حلقة مفرغة.
السؤال الأهم في الأمر: لماذا يحرص كثير من الناس على متابعة هذه الأمور، ومتابعة أخبارها، ومن يقتنيها، ومن هي الفنانة التي اشترت منها؟.. وما آخر ما اخترعته (آبل)؟.. ومن يمتلك قطعة أثمن؟..
لماذا أصبحت محور حياتهم؟!
متى نتحوّل من مجرد سوق استهلاكية لا همّ لها سوى الشراء، إلى مستخدم ذكي، يشتري ويقتني ويستخدم لكن باعتدال؟..
ماذا سيقول المفكر مالك بن نبي لو كان بيننا؟.. وهو الذي صنَّف الناس إلى ثلاثة: أشخاص يفكرون بعالم الأفكار وهم المفكرون، وأشخاص يفكرون بعالم الأشخاص، وآخرون يصبّ تفكيرهم في عالم الأشياء.. شئنا أم أبينا أصبحنا نفكر بعالم الأشياء، طواعية أو كرهاً، ولا مفرّ لنا.
شخصياً أحاول ما استطعت لكنني أدرك كغيري أنّها أصبحت ثقافة، وهذه الثقافة تتمدّد وتنتشر بين مختلف الأجيال بلا قيود.
وفي هذا الإطار ثمّة أمر يحيّرني ولم أجد له تفسيراً، وهو وَلَع كثير من الأشخاص بالأرقام المميزة؛ إذ تجد بعضهم يدفع مئات الآلاف ثمناً لرقم سيارة، انتبهوا جيّداً، المبلغ يدفع ثمناً للرقم وليس للسيارة!
وتذهل أحياناً حين تقرأ إعلاناً على واجهة أحد المحلات مفادها أنّ رقماً مميزاً مطروحاً للبيع!.. ولاحظوا، قد يكون رقم سيارة أو رقم هاتف نقّال، وربّما أيّ شيء يعبّر عنه بالأرقام!
وبسبب إصابة العرب بهذا الهوس، رويت عنهم طرائف كثيرة، إحداها تقول إنّ عربياً كان يتابع الأخبار فسمع أنّ عدد ضحايا حادث تصادم قطارين في الهند بلغ 999 شخصاً، فقال لزوجته مباشرة: “رقم جميل، أودّ شراءه”.
كلّما تفشّت ظاهرة ما في المجتمع، هبّ المتخصصون لدراستها ومناقشة الحلول الممكنة، وهوس التباهي بالرفاهيات يعدّ ظاهرة سلبية بحاجة إلى حلول.
لا أحد يستطيع أن ينكر على أيّ شخص رغبته بالتميّز، فكلّنا كذلك، لكن التميّز المطلوب ليس في اقتناء ساعة بسعر سيارة أو بيت.. ولا في ركوب سيارة تكلّف ما يكلّفه بناء مدرسة!
وهذا ما علينا تربية أبنائنا عليه، ففي الواقع، سيسعدني كثيراً لو أنّ ابنتي جاءت لتقول لي:
– بابا، أحتاج إلى تغيير القصة التي اشتريتها لي، لم ترقني الفكرة.
عندها لن أمانع أبداً، لأنني حينها سأفهم أن ابنتي بدأت تدرك ما يروقها ولا يروقها من الأفكار.
وفي واقع الأمر نحتاج إلى تعاون وثيق بين الأسر والمؤسسات التربوية، لكي ننشئ جيلاً أكثر اهتماماً بالأساسيات والضروريات، بحيث يكون ممن يستطيع مستقبلنا الاعتماد عليه، وهذا لن يحدث إن لم يقتنع هذا الجيل بأن التميّز لا يكون بمقدار ما نمتلك من رفاهية، وإنّما يكون في الفكر والإبداع، ولكي أكون أكثر وضوحاً، سأسوق مثالاً بسيطاً: في المناهج التقنية في مدارسنا الثانوية العربية، يتمّ تدريس الطلبة آلية عمل ساعة اليد، أمّا في المدارس الابتدائية اليابانية فيطلب من التلاميذ أن يصنعوا ساعة يد!
يبدو أنّنا عدنا إلى البداية ليتّضح لنا أن المسألة كلّها لا تعدو كونها (ساعة يد).. هناك من يراها أداة لمعرفة الوقت، وآخر يراها وسيلة لمعرفة آلية التقنية الحركية، وثالث يجدها نموذجاً ينطلق منه لصناعة وابتكار شيء أكثر تطوّراً.. أمّا باقي الناس فيرونها وسيلة للتباهي!
لتحميل وقراءة المقال من الرابط التالي ::
مقال ساعة يد .. لا أكثر
مواقع النشر (المفضلة)