الخلع في الفقه الإسلامي ومشروع قانون إجراءات الأحوال الشخصية

تمهيد:
الأصل في العلاقة بين الزوجين أن تكون مبنية على المحبة، والألفة، والمودة، والسكن النفسي، كما قال تبارك وتعالى ممتناً علينا: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) ( ).
غير أن العلاقات بين الأفراد، سواء أكانت علاقة عشرة ومصاحبة، أم كانت علاقة تعامل، أو صداقة، أو زمالة، قد يحدث بعض ما يشوبها، ويعكر صفوها، ويؤثر نفسياً في أحد طرفيها أو في كليهما، مما يؤدي إلى في كثير من الأحيان إلى أن يقدم أحد الطرفين إلى إنهاء علاقته بالطرف الآخر.
هذا أمر معروف ومعلوم ومشاهد في العلاقات المالية، والعلاقات الشخصية بين الأفراد، وفي العلاقة بين الزوجين أيضاً، وكان من رحمة الله عز وجل أن جعل في شريعته العلاج للحالة التي تسوء بين الزوجين، وتصبح العشرة بينهما متعذرة، أو لا يعطي أحدهما حق الآخر عليه، فشرع الطلاق لإنهاء هذه العلاقة التي أصبحت لا تعطي ثمرها من المحبة والمودة والرحمة والسكينة، قال عز وجل: (وعاشروهن بالمعروف) ( )، وقال تعالى: (فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) ( ).
فالحكمة واضحة في تشريع الطلاق في زواج أصبح لا يؤسس لبنة في بناء المجتمع مبنية على السكن، والمودة، والمحبة، والرحمة.
وجعل الشارع حق الطلاق في الأصل من حقوق الزوج، فهو وحده الذي يوقعه على زوجته، ما دام كامل الأهلية بالغاً عاقلاً، ولا يجوز الخروج عن هذا الأصل فينتزع هذا الحق في الطلاق من الزوج إلا في بعض حالات استثنائية، اختلف العلماء حولها، يكون من حق القاضي أن يقوم فيها بالتطليق دون موافقة الزوج، كما في حال الإضرار بالزوجة، وحال الإعسار بالنفقة أو المهر، أو خوف الزوجة الفتنة على نفسها عند غياب زوجها، أو فقد الزوج، وغير هذا من صور مدونة في الفقه الإسلامي، اختلف فيها العلماء، وكما لو فوض الزوج زوجته في تطليق نفسها، وهكذا.

الأصل في الطلاق أن يكون دون مقابل:
الأصل في الطلاق أن يكون دون مقابل عوض مالي يدفع إلى جهة الزوج، لكن يحدث في بعض الأحوال أن تكون الزوجة هي الراغبة في إنهاء الحياة الزوجية لا لإضرار الزوج بها من ضرب، أو سوء معاملة، وإنما لمجرد أنها لا تشعر نحوه بعاطفة الميل القلبي، التي من المتصور أن تكون بين زوجين يعيشان تحت سقف واحد، فتكون كارهة للحياة معه لشخصه، أو لأخلاقه، أو لنقص تدينه، أو لكبر سنه، أو ضعفه، أو نحو ذلك، وتخشى أن لا تؤدي حق الله في طاعته، فتطلب الطلاق من زوجها، غير أن هذه الرغبة من الزوجة تصطدم في كثير من الأحوال بما يراه زوجها من كونه غير راغب في مفارقتها، أو لمحبته إياها، أو لمراعاته ظروف الأسرة من أولاد بينهما، أو لغير ذلك من أمور يراها لا تشجعه على الاستجابة لرغبة زوجته في إنهاء رابطة الزواج التي تجمع بينهما، حتى إذا ما أصرت الزوجة على المفارقة، ولم يجد الزوج حلاً لهذا الانفصال، فإنه قد يفكر في أنه مادامت الزوجة مصرة على المفارقة، فإن عليها أن ترد إليه ما أعطاه لها، ويطلب منها ذلك، ويتفقا على عوض مالي، سواء أكان المهر أم غيره، وسواء أكان نقوداً أم غير نقود، كشقة أو منزل أو قطعة أرض، أو حديقة، أو سيارة، أو أي شيء له قيمة مالية، يتفقان على هذا العوض المالي في مقابل إنهاء رابطة الزوجية التي بينهما، فإذا ما تم ذلك، فإن هذه الفرقة بين الزوجين لا يسميها العلماء باسم الطلاق العادي الذي يحدث دون عوض مالي، وإنما يطلقون على هذه الفرقة اسم "الخلع" تمييزاً له باسم خاص عن الطلاق العادي الخالي من العوض المالي.

الخلع طلاق في مقابل عوض:
يتضح مما ذكرناه أن الخلع هو طلاق في مقابل عوض مالي راجع إلى جهة الزوج، ولهذا يقول ابن قيم الجوزية ( ): "الخلع شقيق الطلاق وأشبه به".


الأصل اللغوي للكلمة:
يقال في اللغة العربية: خلع الإنسان ثوبه أي نزعه، وجرد نفسه منه، وكلمة "خلع " فعل ماض، وكل فعل له مصدر، فكما نقول: فتح يفتح فتحاً، نقول: خلع يخلع خلعاً بفتح الخاء وتسكين اللام، فالمصدر للفعل الماضي "خلع " هو الخلع بفتح الخاء، أو ما "الخُلع" بضم الخاء وتسكين اللام، فليس مصدراً للفعل الماضي "خلع" وإنما يسميه العلماء، اسم مصدر، نظراً إلى أنه قد تغير شكل الكلمة عن المصدر، فبدلاً من أن تكون " خَلْعاً " بفتح الخاء، كانت " خُلعاً " بضم الخاء، فيقول العلماء حينئذ عن هذا اللفظ المضموم الخاء أنه اسم مصدر، ولم يقولوا عنه إنه مصدر، لأن المصدر - طبقاً للقواعد العربية - لابد أن يكون خلعاً بفتح الخاء، مثل فتح الباب يفتح فتحاً، وهكذا.
وكلمة " الخلع " من الناحية البلاغية استعارة من خلع الثوب، لأن كل واحد من الزوجين لباس ساتر للآخر، فإذا نفذ الزوجان الخلع فكأن كل واحد منهما نزع عنه ثوبه ( ) قال الله تعالى مخاطباً الأزواج: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) ( ).
ويرى بعض العلماء أن الخاء ضمت في الخلع، للتفرقة بين الخلع - بفتح الخاء - الحسي والخلع المعنوي ( ).

الخلع عند فقهاء الحنفية نوعان:
فقهاء الحنفية يرون أن الخلع نوعان: خلع بعوض مالي، وخلع بغير عوض، أما الخلع الذي هو بغير عوض فمثل أن يقول الزوج لزوجته: خالعتك ولم يذكر العوض، وهذا النوع يعطيه فقهاء الحنفية حكم الكناية في الطلاق، ويبينون أنه إذا نوى الزوج الطلاق بقوله: خالعتك ولم يذكر عوضاً كان طلاقاً، وإذا لم ينو الطلاق بقوله هذا المجرد عن العوض لا يحسب طلاقاً، ولو نوى ثلاث طلقات كان ثلاثاً، واختلف فقهاء الحنفية فيما لو نوى طلقتين، فيرى محمد بن الحسن وأبو يوسف، تلميذا أبي حنيفة، أن ذلك يحسب طلقة واحدة، وأما زفر التلميذ الثالث فيرى انه طلقتان.
هذا هو النوع الأول من نوعي الخلع عند فقهاء الحنفية، وأما النوع الثاني فهو أن يكون مقروناً بالعوض، مثل أن يقول الزوج لزوجته، خالعتك على عشرة آلاف جنيه مثلاً.
ويبين فقهاء الحنفية أن اسم "الخلع" يقع على هذين النوعين، إلا أنه عند الإطلاق ينصرف اللفظ إلى النوع الثاني في العرف اللغوي والشرعي وعلى هذا فإن كلمة "الخلع" تكون حقيقة عرفية وشرعية، حتى لو قال الزوج لرجل آخر: اخلع زوجتي فخلعها بغير عوض لم يصلح خلعاً، وكذلك لو خالع الزوج زوجته على مبلغ معين من المال، فقبلت الزوجة، ثم قال الزوج، لم أنو به الطلاق، لا يقبل قوله في القضاء، لأن ذكر العوض المادي دليل على أن الزوج أراد الطلاق بحسب الظاهر، فلا يصدق في العدول عن هذا الظاهر، بخلاف ما إذا قال لها: خالعتك، ولم يذكر عوضاً ثم قال: لم أرد به الطلاق، فإنه يصدق بشرط أن لا تكون هناك دلالة حال تدل على أنه أراد الطلاق، كأن كان في حالة غضب، أو ذكر الطلاق، وعلل فقهاء الحنفية لهذا الحكم بأن هذا اللفظ عند عدم ذكر التعويض يستعمل في الطلاق، وفي غير الطلاق، فلابد من وجود النية لينصرف إلى الطلاق،، بخلاف ما إذا ذكر الزوج العوض المالي، لنه مع ذكر العوض لا يستعمل هذا اللفظ في العرف والشرع إلا الطلاق ( ).
هذا هو معنى الخلع بنوعيه عند فقهاء الحنفية، وأما عند المالكية فيتنوع أيضاً إلى نوعين أحدهما ما كان في نظير عوض، والثاني ما وقع بلفظ الخلع ولم يكن في نظير شيء كأن يقول لزوجته: خالعتك، أو أنت مخالعة، وهو بنوعيه عندهم طلاق بائن لا رجعة فيه ( ).

التعريف الاصطلاحي للخلع:
عرف العلماء الخلع بعدة تعريفات، عرفه ابن حجر العسقلاني بقوله: "وضابطه شرعاً فراق الرجل زوجته ببدل قابل للعوض يحصل لجهة الزوج" ( ).
وعرفه الدردير من علماء المالكية بأنه: "طلاق بعوض".
وعرفه الماوردي أحد أشهر فقهاء الشافعية بأنه: "افتراق الزوجين على عوض" ( ).
وعرفه الرملي أحد فقهاء الشافعية أيضاً بأنه: "فرقة بعوض مقصود راجع لجهة الزوج" ( ). وعرفه الحصني بأنه: "فرقة على عوض راجع إلى الزوج" ( ).
وعند ابن رشيد الحفيد ( ) هو: "بذل المرأة لزوجها مقابل طلاقها ما أعطاها".
ويرى ابن رشد أن هناك معنى عاماً يجمع كلمة الخلع، والصلح، والفدية، والمبارأة، هذا المعنى العام هو: بذل المرأة العوض المالي في مقبل حصولها على الطلاق إلا أن اسم الخلع يختص ببذلها لزوجها كل ما أعطاها من مال، والصلح يختص ببذلها لزوجها بعض ما أعطاه لها، والفدية تختص ببذلها لزوجها أكثر مما أعطاه لها، والمبارأة تختص بإسقاطها عن زوجها حقاً من الحقوق المالية التي لها على زوجها كما بين الفقهاء.
ونقل ابن العربي عن الإمام مالك أنه قال: ( ): "المبارأة: المخالعة بمالها قبل الدخول، والمخالعة إذا فعلت ذلك بعد الدخول، والمفتدية المخالعة ببعض مالها".
وما يراه الإمام مالك، وابن رشد الحفيد وجهة نظر واصطلاح يخالفهما فيه غيرهما من العلماء، فيبين بعضهم أن كل ذلك يسمى خلعاً، يقول ابن العربي تعليقاً على ما نقله الإمام مالك ( ): "وهذا اصطلاح يدخل بعضه على بعض وقد اختلف الناس في ذلك" ويقول ابن حجر العسقلاني عن الخلع: "ويسمى أيضاً فدية، وافتداء" ( )، ويقول ابن قدامة أحد فقهاء الحنابلة المعروفين ( ): "إن هذا يسمى خلعاً لأن المرأة تتخلع من لباس زوجها، قال الله تعالى: (هن لباس لكم وأنتم لباس لهن) ويسمى افتداء لأنها تفتدي نفسها بمال تبذله، قال الله تعالى: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به)، ويقول أبو بكر الحصيني أحد فقهاء الشافعية في القرن التاسع الهجري ( ): "ولا فرق في جواز الخلع بين أن يخالع على المهر، أو على بعضه، أو على مال آخر، سواء كان أقل من المهر أو أكثر، ولا فرق بين العين، والدين، والمنفعة، وضابطه أن كل ما جاز أن يكون صداقاً جاز أن يكون عوضاً في الخلع، لعموم قوله تعالى: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) ( ).

الخلع المشروع بالكتاب والسنة:
نحب في البداية أن نبين أن ما تملكه الزوجة، سواء أكان من غير زوجها كالميراث، أم كان من زوجها كالمهر الذي دفعه لها، أو أي شيء من الأموال التي أهداها إياها، لا يحل للزوج أن يأخذ شيئاً منه، استدلالاً بقول الله عز وجل: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً أتأخذونه بهتاناً وإثماً مبينا. وكيف تأخذون وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثاقاً غليظاً) ( ).
فهذا النص الكريم يبين أنه لا يجوز للرجل أن يأخذ شيئاً من المهر الذي قدمه لها، وإذا كان لا يجوز أن يأخذ من المهر الذي قدمه لزوجته، مع أنه كان ملكاً له قبل أن يعطيه لزوجته مهراً لها، فإن غير هذا من الأموال الخاصة بالمرأة تكون حراماً عليه من باب أولى.
لكن لو أعطت الزوجة لزوجها بعضاً من مالها بطيب نفس منها دون إجبار منه أو من غيره، ودون استحياء، منها من أحد، فذلك جائز مشروع، وقد صرح القرآن الكريم بأنه يجوز للمرأة أن تعطي لزوجها عوضاً مالياً مقابل حصولها على الطلاق منه، ويجوز للرجل أن يأخذ هذا العوض الذي رضيت به المرأة، وهو معنى الخلع الذي نتكلم الآن فيه، قال الله عز وجل مخاطباً الأزواج: (ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به) ( ) والمعنى - كما قال ابن العربي ( ): "أن يظن كل واحد من الزوجين بنفسه أن لا يقيم حقوق الزواج لصاحبه حسبما يوجب عليه الشرع لكراهية فيعتقدها، فلا حرج على المرأة أن تفتدي، ولا على الزوج أن يأخذ".
فالنص الكريم يفيد أن الله عز وجل نهى الأزواج عن أن يأخذوا من زوجاتهم شيئاً من المهر الذي دفعوه لهن، إلا إذا حصل خوف أن لا يقي الزوجان حدود الله، ويبين القرطبي معنى الخوف في الآية فيقول: "قيل هذا الخوف بمعنى العلم، أي أن يعلما أن لا يقيما حدود الله، وهو من الخوف الحقيقي، وهو الإشفاق من وقوع المكروه، وهو قريب من معنى الظن ( ) ".
فالقرآن الكريم يبين مشروعية الخلع، وكذلك ثبت في السنة الشريفة ما يبين مشروعيته، وتطبيقه في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى البخاري والنسائي ( ) عن عبد الله بن عباس قال: جاءت امرأة ثابت بن قيس بن شماس ( ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت: يا رسول الله، إني ما أعتب عليه في خلق ولا دين، ولكني أكبر الكفر في الإسلام ( )، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " أتردين عليه حديقته ( )؟ " قالت: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة " وكان هذا أول خلع في الإسلام.

جمهور الفقهاء على مشروعية الخلع:
يرى جمهور الفقهاء، مشروعية الخلع، لدلالة القرآن الكريم، والسنة النبوية الشريفة على ذلك، قال الإمام مالك بن أنس في شأن الخلع ( ): "لم أزل أسمع ذلك من أهل العلم، وهو الأمر لمجتمع عليه عندنا، وهو الرجل إذا لم يضر بالمرأة، ولم يسيء إليها، ولم تؤت من قبله، وأحبت فراقه، فإنه يحل له أن يأخذ منها كل ما افتدت به، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم في امرأة ثابت بن قيس، وإن كان النشوز من قبله بأن يضيق عليها، ويضرها، رد عليها ما أخذ منها ".
ولم أجد فيما اطلعت عليه من المصادر العلمية من يرى خلاف ذلك، أو بعبارة نستعيرها من الإمام ابن عبد البر، لا نعلم أحداً خالفه إلا بكر بن عبد الله المزني التابعي فإنه يرى عدم جواز أخذ الزوج من زوجته شيئاً، واستدل لرأيه بقوله: " إن آية: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) ( ) نسخت بآية: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً) ( ).
وروي عن محمد بن سيرين من فقهاء التابعين، وعن أبي قلابة أنهما يريان عدم جواز الخلع إلا إذا شاهد الزوج زوجته ترتكب الفاحشة، واستدلا على هذا الرأي بقول الله تبارك وتعالى: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) ( ).

الرأي الراجح:
ما يراه جمهور الفقهاء، هو الرأي الراجح، وأدلتهم واضحة الدلالة، وهي قول الله عز وجل: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) ( )، وحديث زوج ثابت بن قيس، الذي رواه البخاري والنسائي ومالك، بل أن بعض العلماء يرى أن الإجماع انعقد في عصر الصحابة رضي الله عنهم على جواز الخلع، وذلك أن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وغيرهم من الصحابة قالوا بجواز لخلع، ولم يعرف لهم مخالف في عصرهم، فيكون إجماعاً، والإجماع حجة شرعية لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتي على الضلالة " وهو المصدر الثالث بعد الكتاب والسنة، وإذا انعقد الإجماع على حكم شرعي في أي عصر من العصور فإنه لا يجوز لأحد بعد هذا العصر أن يخالفه.




الرد على ادعاء النسخ:
وقد رد العلماء على دعوى نسخ حكم آية: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) بآية: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً)، بأن دعوى النسخ لا تسمع إلا بشرطين:
الشرط الأول: أن يتعذر الجمع في المعنى بين الآيتين.
الشرط الثاني: لأن يثبت أن الآية التي يدعى أنها ناسخة متأخرة في النزول على رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآية التي ادعي أنها منسوخة ولم يثبت شيء من ذلك، فالجمع بين الآيتين ليس متعذراً، لكنه يمكن الجمع بينهما بأن المعنى يحرم عليكم أن تأخذوا مما آتيتم زوجاتكم شيئاً إلا بالرضا، كما في الخلع، ولم نعلم أي الآيتين هي المتأخرة في النزول حتى نقول أنها هي الناسخة ( )، ولأن النهي في قوله تعالى: (فلا تأخذوا منه شيئاً) متعلق بما إذا أراد الزوج استبدال غيرها مكانها، والآية الثانية مطبقة، فكيف تكون الآية التي نهت عن أخذ شيء مما أعطاه الزوج لها إذا أراد استبدال غيرها مكانها ناسخة للآية الثانية مطلقاً؟ ( ).
وأما الرأي القائل بأن الخلع لا يجوز إلا إذا شاهد الزوج زوجته ترتكب الزنا احتجاجاً بقوله تعالى: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة). فقد أجيب عنه بأن معنى: (إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) أي إلا أن يحصل النشوز منهن ( ).
وتفسير الفاحشة بالنشوز قاله عبد الله بن عباس، وقال الباجي: والفاحشة يصح أن يراد بها الأذى والبذاءة ولذلك يقال: أفحش الرجل في قوله إذا بالغ في السب، وقال ابن بكير إذا نعتت الفاحشة بمبينة فهي من باب البذاءة باللسان، وإذا لم تنعت وأطلقت فهي الزنا، وقيل إذا كانت الفاحشة بالألف واللام فهي الزنا واللواط ( ).

الإضرار بالزوجة حتى خالعته يحرم العوض مع وقوع الطلاق:
انعقد إجماع العلماء على أنه لا يجوز أخذ شيء من مال الزوجة مقابل طلاقها إلا إذا كان النشوز وفساد العشرة من ناحية الزوجة أمراً طبيعياً، لا يلجئها الزوج إليه حتى تطلب الخلع، قال الإمام مالك ( ) في المفتدية التي تفتدي من زوجها أنه إذا علم أن زوجها أضر بها، وضيق عليها، وعلم أنه ظالم لها، مضي الطلاق، ورد عليها مالها، قال: فهذا الذي كنت أسمع، والذي عليه أمر الناس عندنا.
وقال القرطبي: والجمهور على أن أخذ الفدية على الطلاق جائز، واجمعوا على تحظير ( أي تحريم) أخذ مالها إلا أن يكون النشوز وفساد العشرة من قبلها ( )، ( أي من ناحيتها ).
وإذا كان الزوج لا يملك العوض في حال التضييق على زوجته لتفتدي نفسها منه ففعلت، فإن الطلاق يقع من غير عوض تلزم به المرأة، ويقع الطلاق رجعياً، وعلى هذا فإن كان الطلاق أقل من ثلاث طلقات فللزوج حق إرجاعها إلى عصمته مادامت في العدة، وذلك لأن حق الرجعة سقط في الخلع بسبب العوض المالي، فلما لم يوجد عوض ثبتت الرجعة ( ).

لا يحتاج الخلع إلى القاضي:
يرى جمهور العلماء أن الخلع لا يحتاج إلى حكم الحاكم، فإذا اتفق الزوجان على الخلع ورضيا به، وتم، صح الخلع روى البخاري هذا الرأي عن عمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان رضي الله عنهما، وقال به شريح، والزهري، ومالك، والشافعي، وإسحاق بن راهويه، وفقهاء الحنفية.
ونقل ابن قدامة أن الحسن البصري، ومحمد بن سيرين من فقهاء التابعين، يريان أن الخلع لا يجوز إلا عند الحاكم، لكن الرأي الذي قال به جمهور العلماء وهو عدم احتياجه إلى الحاكم، هو الراجح لعدة أمور:
الأمر الأول: أن هذا الرأي وهو صحته دون اللجوء إلى الحاكم، مروي عن اثنين من كبار علماء الصحابة، وهما عمر بن الخطاب ن وعثمان بن عفان، وإذا لم يكن في المسألة نص من الكتاب الكريم أو السنة الشريفة، ونقل فيها رأي لبعض الصحابة، فإنه يستأنس بهذا الرأي لمعايشة الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتلقيهم أحكام الشرع مباشرة منه، وإدراكهم لمقاصد الشرع وأحكامه بتعليمهم صلى الله عليه وسلم.
الأمر الثاني: القياس على عقد البيع وعقد الزواج، فإننا وجدنا عقد البيع وعقد الزواج لا يحتاجان إلى الحاكم حتى يقع كل منهما صحيحاً ومن المعلوم أن الخلع عقد، فيجوز فيه ما جاز في عقد البيع وعقد الزواج ن وهو عدم الاحتياج إلى الحاكم لكي يكون صحيحاً.
الأمر الثالث: القياس على عقد الإقالة، وهي قطع عقد البيع بالتراضي بين البائع والمشتري حتى يعود الوضع إلى ما كان عليه الطرفان قبل عقد البيع، فيسترد البائع المبيع، ويسترد المشتري الثمن، وإذا كانت الإقالة تصح دون الرجوع إلى الحاكم، فكذلك عقد الخلع يصح دون الرجوع إلى الحاكم ( ).

هل الخلع طلاق أو فسخ للعقد:
من المعلوم أن الطلاق إما صريح أو كناية، فالصريح هو الذي لا يحتمل إلا الطلاق، كقوله لها: أنت طالق، أو أنت مطلقة، والكناية كل لفظ احتمل الطلاق وغيره، وألفاظ الكناية كثيرة جداً، مثل قوله لها: أنت خالية من الأزواج، أو أنت حرة، أو الحقي بأهلك.
ولا يحتاج اللفظ الصريح في الطلاق إلى نية لكي يقع الطلاق فهو يقع بمجرد النطق بالكلمة الصريحة، وأما الكناية فتحتاج إلى النية، فيقع بها الطلاق مع النية بإجماع العلماء ( )، ولا يقع الطلاق إذا لم يرد بها الطلاق، فهذا متوقف على قصد الزوج بينه وبين الله تبارك وتعالى لحظة نطقه باللفظ الكنائي.
وقد اتفق العلماء على أن الخلع إذا وقع بغير لفظ الطلاق مثل كنايات الطلاق، أو فارقها بلفظ الخلع أو المفاداة، كقوله: خالعتك، أو فاديتك وما ماثل هذين اللفظين، ونوى الطلاق باللفظ الذي نطق به فهو طلاق أيضاً، لأن هذا اللفظ كناية نوى به الطلاق، فكان طلاقاً، لأن النية في الألفاظ الكنائية هي لتي تحدد الحكم.
هذا الذي بيناه محل إجماع بين العلماء على أنه طلاق كما بين ابن قدامة ( ).
وأما الذي اختلف فيه العلماء هل هو طلاق أو فسخ، فهو إذا خالع الزوج زوجته بغير لفظ الطلاق ولم ينو الطلاق، بل قصد مجرد مفارقة زوجته، هل تقع طلاقاً أم فسخاً.
العلماء مختلفون في هذا على رأيين:
فيرى فريق من العلماء أنه فسخ وليس طلاقاً، وهو ما يراه عبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمر، وطاووس، وعكرمة ن وإسحاق بن راهويه، وأبو ثور، وهو أحد قولين للشافعي، وهو قول أحمد بن حنبل.
ويرى فريق آخر وهم الأكثرون أنه طلقة بائنة، ومعنى انه طلقة بائنة أن الزوجة لا ترجع لزوجها بعد الخلع إلا بعقد جديد، فليس لزوجها حق مراجعتها في العدة كما يحدث في الطلاق الرجعي لما كان هناك فائدة لدفع الزوجة العوض المالي لزوجها مقابل تطليقها.
وكون الخلع طلقة بائنة مروي عن سعيد بن المسيب، والحسن البصري، وعطاء، وقبيصة، وشريح، ومجاهد، وأبي سلمة بن عبد الرحمن، وإبراهيم النخعي، والشعبي، والزهري، ومكحول، وابن أبي نجيح، ومالك، والأوزاعي، والثوري ن وفقهاء الحنفية، وهو القول الثاني للشافعي وهو أصح قوليه ( ).

دليل الرأي بأن الخلع فسخ:
استدل للرأي القائل بأن الخلع فسخ وليس طلاقاً بما يأتي:
أولاً: قال الله عز وجل: (الطلاق مرتان، فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان، ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً إلا أن يخافا أن لا يقيما حدود الله فإن خفتم أن لا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما افتدت به. تلك حدود الله فلا تعتدوها، ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) ( )، (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره) ( ) .
وجه الدلالة أن الله عز وجل قال: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) إلى أن قال: 0 فلا جناح عليهما فيما افتدت به)، ثم قال في الآية الثانية: (فإن طلقها فلا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره) فذكر الله عز وجل تطليقتين في قوله تعالى: (الطلاق مرتان)، وذكر الخلع في قوله سبحانه: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) وذكر تطليقة بعد ذلك في قوله عز وجل: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره) فلو كان الخلع يقع طلاقاً لكان الطلاق الذي يملكه الزوج على زوجته أربع تطليقات، مع أن الطلاق ثلاث مرات فقط ( )، فلا يكون طلاقاً وإنما يكون فسخاً، لأن الفرقة في الزواج قد تكون بالطلاق، وقد تكون بالفسخ، كالفرقة بالردة من أحد الزوجين، وإباء الإسلام من الزوج إذا أسلمت لزوجة، ولفظ الخلع دليل على الفسخ، وفسخ العقد رفعه من الأصل فلا يكون الخلع طلاقاً ( ).
ثانياً: هذه الفرقة التي حدثت بين الزوجين خلت عن صريح الطلاق لأن الزوج لم يصرح بالطلاق، بل قال: خالعتك، وخلت عن نية الطلاق، فتكون هذه الفرقة فسخاً لعقد الزواج كسائر صور الفسخ ( ).

دليل الرأي القائل بأن الخلع طلاق:
استند أصحاب هذا الرأي إلى ما يأتي:
أولاً: المرأة بذلت العوض من أجل الفرقة بينهما، والفرقة التي يملك الزوج إيقاعها هي الطلاق وليس الفسخ، فوجب أن يكون الخلع طلاقاً.
ثانياً: الزوج عند إيقاعه الخلع أتى بكناية الطلاق قاصداً فراق زوجته، فيكون ذلك طلاقاً كغير الخلع من صور كنايات الطلاق ( ).
ثالثاً: لفظ الخلع لا يدل على الفسخ وإنما يدل على الطلاق، وذلك لأن لفظ الخلع بضم الخاء مأخوذ من لفظ "الخلع" بفتح الخاء، والخلع بفتح الخاء معناه النزع، والنزع في اللغة العربية هو إخراج الشيء من الشيء، يشهد لهذا قول الله تبارك وتعالى: (ونزعنا ما في صدورهم من غل تجري من تحتهم الأنهار) ( ) وقال عز وجل: (ونزعنا ما في صدورهم من غل إخواناً على سرر متقابلين) ( ) أي أخرجنا الغل من صدورهم، وقوله عز وجل في قصة موسى عليه السلام: (ونزع يده فإذا هي بيضاء للناظرين ) ( )، أي أخرجها من جيبه.
وعلى هذا يكون معنى خلع الزوج زوجته أي أخرجها من رابطة الزوجية، وهذا هو معنى الطلاق البائن، وأما فسخ الزواج فهو رفعه من الأصل وجعله كأن لم يكن رأساً فلا يتحقق فيه معنى الطلاق.
هذا هو معنى اللفظ بحسب اللغة، وإثبات حكم اللفظ على الوجه الذي يدل عليه اللفظ بحسب اللغة أولى ( ).
رابعاً: لو كان الخلع فسخاً لكان العوض المالي الذي تلزم به المرأة هو العوض الذي وقع عليه عقد الزواج، كما هو الأمر في الإقالة في البيع، فإن العوض الذي تم عليه الاتفاق في عقد البيع هو الذي من حق المشتري أن يرجع إليه في الإقالة ( )، لكن الحال في الخلع غير هذا، فإن العوض في الخلع كما يجوز أن يكون هو الذي وقع عليه عقد الزواج، يجوز أن يكون غيره، فلا يكون الخلع فسخاً لعقد الزواج ( )

الرأي الراجح:
الراجح من هذين الرأيين هو أن الخلع طلاق لا فسخ، وإذا كانت حجة القائلين بأن الخلع فسخ هي أن الله عز وجل ذكر الطلاق مرتين في قوله تعالى: (الطلاق مرتان) وذكر الخلع بعد ذلك في قوله عز وجل: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) وذكر الطلاق الثالث في قوله تعالى: (فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره) فإن الرد على هذا الاستدلال بأن هذا الفهم لهذا النص القرآني الكريم غير صحيح، لأنه لو كان كل ما ذكر في معرض الآيتين المذكورتين لا يعد طلاقاً لوقوع الزيادة على الطلقات الثلاث لما كان قوله تعالى: (أو تسريح بإحسان) طلاقاً، لأنه يزيد على الثلاث، ولا يصح أن بفهم هذا لأن الله تعالى قال: (الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان) فإن وقد شيء من هذا الطلاق مقابل عوض مالي كان ذلك راجعاً إلى الطلقة الأولى والثانية دون الثالثة التي هي: (أو تسريح بإحسان) فإن طلقها زوجها الطلقة الثالثة فلا تحل له من بعد حتى تتزوج غيره ( ).
كما أن الرواية التي رواها البخاري تبين صراحة ( ) أن التفريق بينهما كان طلاقاً، وهو قوله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة".

الخلع طلاق بائن:
وإذا ترجح أن الخلع طلاق، فهو طلاق بائن، ومعنى الطلاق البائن أنه الطلاق الذي لا يجوز إعادة الزوجية فيه إلا بعقد جديد، فلا يحق للزوج أن يراجع زوجته في العدة كما هو في الطلاق الرجعي، وإنما لابد من عقد جديد كما قلنا.
والطلاق البائن إما أن يكون بائناً بينونة كبرى وهو الطلاق الثالث، وهذا الطلاق لا يجوز للزوجة أن ترجع إلى زوجها إلا إذا تزوجت غيره، ومات عنها، أو طلقها دون اتفاق بين أطراف هذا الزواج، وإلا كان زواج المحلل، والرسول صلى الله عليه وسلم قال: "لعن الله المحلل والمحلل له" فزواج المحلل باطل لا يصح.
وإما أن يكون الطلاق البائن بينونة صغرى، وهو الذي يجوز للزوجة أن ترجع بعده إلى زوجها بعقد جديد، ولا يحتاج الأمر إلى الزواج من آخر ن وهذا الطلاق له صور متعددة، منها الطلاق قبل الدخول، والطلاق لعيب في الزوج من العيوب التي تمنع الاستمتاع كالجنون، أو الجذام، أو البرص، أو العجز الجنسي، والطلاق للضرر عند فريق من العلماء، والطلاق في الخلع، وهو مقصدنا الآن.
وقد استدل العلماء على أن الخلع طلاق بائن بما يأتي:
أولاً: أن هذا طلاق في مقابل عوض مالي، وقد ملك الزوج العوض بقبول الزوجة دفعه له، فلابد أن تملك الزوجة نفسها تحقيقاً لمعنى المعاوضة، لأن الخلع عقد معاوضة، ولا تملك الزوجة نفسها، إلا إذا كانت الطلقة بائنة، وعلى هذا يكون الخلع طلاقاً بائناً، لا ترجع الزوجة إلى زوجها إلا بعقد جديد.
ثانياً: الزوجة لم تدفع لزوجها العوض المالي إلا لكي تخلص نفسها من حالة زوجها، ولا تتخلص من حالة زوجها إلا إذا كان الطلاق بائناً، لأنه لو كان الطلاق رجعياً لكان من حق زوجها أن يراجعها في العدة، ولما استطاعت أن تخلص نفسها من حالة الزوج، ويذهب ما دفعته لزوجها من مالها بغير شيء، وهذا لا يجوز، فيكون الخلع طلاقاً بائناً ( ).
هل يجوز الخلع بأكثر مما أعطاه لها:
يوجد اتجاهان في الفقه الإسلامي في هذه القضية، ففريق من العلماء يرى انه لا يجوز للزوج أن يأخذ من زوجته أكثر مما أعطاها، ومن هذا الفريق الشعبي، وسعيد بن المسيب، وتوجد رواية عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه بهذا الرأي.
وفريق آخر من العلماء يرى أنه يجوز للزوج أن يأخذ من زوجته أكثر مما أعطاها، وإذا كان نص الحديث في قصة ثابت بن قيس وزوجته يدل على أن الخلع جائز بجميع ما أعطى الزوج لزوجته، لن زوجة ثابت بن قيس ردت على زوجها الحديقة التي جعلها لها مهراً، فإن عموم القرآن الكريم يدل على جواز الخلع بأكثر من لمهر، وهو قول الله عز وجل: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به) فالآية الكريمة جاءت مطلقة لم تقيد ذلك بحد معين، فكل ما يمكن أن يكون فداء لنفسها من زواجها بمالها يكون جائزاً على الإطلاق ( )، قال الإمام مالك بن أنس ( ): "ما رأيت أحداً ممن يقتدى به يكره أن تفتدي المرأة نفسها بأكثر من صداقها".

يصح التوكيل في الخلع:
بين العلماء أن الخلع يصح فيه التوكيل من كل واحد من الزوجين، ومن أحدهما منفرداً، وقالوا إن كل ما صح له أن يتصرف بالخلع لنفسه جاز توكيله ووكالته، ذكراً كان أو أنثى، مسلماً أو غير مسلم، محجوراً عليه أو رشيداً، وذلك لأن كل واحد منهم يجوز أن يوجب الخلع، فصح أن يكون وكيلاً وموكلاً فيه.

الخلع في مشروع قانون الإجراءات في مسائل الأحوال الشخصية:
يحتم مشروع القانون الجديد على المحكمة أن تحكم بالتفريق بين الزوجين على طريقة الخلع، إذا افتدت الزوجة نفسها بالتنازل عن حقوقها المالية وردت المهر إلى زوجها، ولو لم يرض الزوج بالخلع، فقد نص المشروع في المادة رقم 20 على أن " للزوجين أن يتراضيا فيما بينهما على الخلع، وإن لم يتراضيا عليه وأقامت الزوجة دعواها بطلبه، وافتدت نفسها، وخالعت زوجها بالتنازل عن جميع حقوقها المالية المشروعة وردت الصداق الذي دفعه لها، حكمت المحكمة بتطليقها عليه " كما نص المشروع على أنه " يكون الحكم في جميع الأحوال غير قابل للطعن عليه بأي طريق من طرق الطعن ".
وحجة الذين يرون إيقاع الخلع جبراً على الزوج، أن الرسول صلى الله عليه وسلم - كما جاء في الحديث - أمر ثابت بن قيس أن يقبل المهر الذي قدمه لزوجته وهو البستان الذي جعله لها مهراً، وأن يطلقها طلقة، في قوله صلى الله عليه وسلم: " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة ".
فادعوا أن الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم: " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة " يفيد الوجوب، مع أن كبار شراح الحديث يبينون صراحة أن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس هو أمر إرشاد واستصلاح وليس أمر على سبيل الوجوب، يقول ابن حجر العسقلاني، وهو من أشهر علماء الحديث والفقه وأكابرهم في كتابه: فتح الباري بشرح صحيح البخاري عند شرحه لهذا الحديث: " هو أمر إرشاد وإصلاح لا إيجاب " ويقول الكرماني وهو أيضاً من أشهر شراح الحديث بعد ذكره لحديث ثابت بن قيس: " والأمر في طلاقها أمر إرشاد واستصلاح لا أمر إيجاب وإلزام " ( ).
وعند شرح أبي الوليد الباجي - وهو من كبار شراح الحديث وفقهاء المالكية - لحديث ثابت بن قيس على الرواية التي رواها الإمام مالك في كتابه الموطأ، وفي هذه الرواية أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال لثابت بن قيس: " خذ منها، فأخذ منها وجلست في أهلها " قال الباجي ( ): وقوله صلى الله عليه وسلم "خذ منها" إباحة منه صلى الله عليه وسلم أخذ الفداء منها، وقد يصح أن يكون ندباً إلى ذلك لما رأى من إشفاقها واستضرارها بالمقام معه، وقد بلغ ذلك منها إلى أن خافت أن تأتي ما تأثم به.
وفهم الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة " على أنه ليس للإيجاب وإنما هو أمر إرشاد وإصلاح، ليس قاصراً على من ذكرنا من كبار شراح الحديث، وإنما هو أيضاً ما يصرح به كبار العلماء من المفسرين لكتاب الله، والفقهاء، فنجد أبا بكر أحمد بن علي الرازي الجصاص، وهو من كبار المفسرين وأهل الفقه يقول في كتابه " أحكام القرآن " ( ): " ولا خلاف بين فقهاء الأمصار في جوازه ( أي الخلع ) دون السلطان، وكتاب الله يوجب جوازه، وهو قوله تعالى: (فلا جناح عليهما فيما افتدت به)، وقال تعالى: (ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة) فأباح الأخذ منها بتراضيها من غير سلطان، وقول النبي صلى الله عليه وسلم لامرأة ثابت ابن قيس أتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم فقال للزوج: خذها وفارقها يدل على ذلك أيضاً، لأنه لو كان الخلع إلى السلطان شاء الزوجان أو أبيا إذا علم أنهما لا يقيمان حدود الله لم يسألها النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك ولا خاطب الزوج بقوله: اخلعها، بل كان يخلعها منه، ويرد عليه حديقته وإن أبيا، أو واحد منهما، كما لما كانت فرقة المتلاعنين ( ) إلى الحاكم لم يقل للملاعن: خل سبيلها، بل فرق بينهما، كما روى سهل بن سعد أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين المتلاعنين، كما قال في حديث آخر، لا سبيل لك عليها، ولم يرجع ذلك إلى الزوج، فثبت بذلك جواز الخلع دون السلطان ".
فمن هذا الكلام للإمام الجصاص - وهو أحد أشهر كبار مفسري القرآن، وكبار الفقهاء يبين بصريح العبارة أنه لا يجوز للحاكم أن يفرض الخلع على أحد الزوجين أو كليهما، فلا يجوز أن يفرض جبراً لا على المرأة ولا على الرجل، بل لابد فيه من الرضا الحقيقي الكامل من الطرفين وبين هذا المفسر الكبير أنه لو كان من حق الحاكم أن يفرض الخلع على الزوجين أو أحدهما لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم امرأة ثابت بن قيس: أتردين عليه حديقته؟ ولما طلب من الزوج أن يخالعها، بل كان صلى الله عليه وسلم هو الذي يخلعها من زوجها فيطلقها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يخلعها من زوجها فيطلقها، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بجانب كونه رسولاً كان حاكماً وقاضياً، فلو كان من حق القاضي أن يخلع الزوجة جبراً على الزوجين أو أحدهما لطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه، ورد على الزوج المهر الذي كان قد دفعه إلى زوجته وهو الحديقة، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن المتلاعنين الذين تلاعنا أمامه، فقد فرق عليه الصلاة والسلام بينهما، ولم يأخذ فيها رأي الزوجين، لأن الفرقة بين المتلاعنين لا يؤخذ فيها رأي الزوجين لا المرأة ولا الرجل، وإنما التفريق بينهما من اختصاص الحاكم وحده ولهذا لم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم للرجل الذي لاعن من زوجته: خل سبيلها، بل قام هو عليه الصلاة والسلام بالتفريق بين المتلاعنين، وقال للزوج: لا سبيل لك عليها، أي لا علاقة زوجية بينكما الآن، ولم يجعل أمر الفرقة بين المتلاعنين راجعاً إلى إرادة الزوج، وعلى هذا فلابد في الخلع من الرضا التام من كل من الزوجين الرجل والمرأة.
(1) وإذا انتقلنا إلى فقه الظاهرية، وهم الذين يأخذون بظواهر النصوص نجدهم يصرحون بأنه لا يجوز إجبار الزوج على الخلع، مع أن الأوامر عندهم في النصوص الشرعية تفيد الوجوب إلا في حالات قليلة عندهم، وكان مقتضى قواعد مذهبهم أن يأخذوا بظاهر قول الرسول صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة " فيقولوا بإجبار الزوج على إجراء الخلع، لكنهم لم يقولوا بالإجبار، بل بينوا كما قلت أنه لا يجوز إجبار الزوج على الخلع، يقول ابن حزم أحد كبار فقهائهم، وكتبه مصدر مهم جداً في الفقه الظاهري وهو أحد كبار المحدثين والأصوليين، يقول في كتابه المحلى ( ) الخلع هو: " الافتداء إذا كرهت المرأة زوجها، فخافت أن لا توفيه حقه، أو خافت أن يبغضها فلا يوفيها حقها، فلها أن تفتدي منه ويطلقها، إن رضي هو، وإلا لم يجبر هو، ولا أجبرت هي، إنما يجوز بتراضيهما ".
فهذا هو أحد علماء المذهب الظاهري، الذي كان مقتضى مذهبه أن يقول بإجبار الزوج على إجراء الخلع، ومع هذا لم ير ابن حزم هذا الرأي، وصرح بعدم جواز الإجبار لأي واحد من الزوجين كما بينا بصريح العبارة.
ونجد أيضاً فقهاء الزيدية يصرحون بأن أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ليس على طريق الوجوب، يقول أحمد بن يحيي المرتضي: "وأمره صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس ليس إلزاماً" ( ).
إذا وجدت قرينة تحمل الأوامر في الشرع على الإباحة أو الإرشاد عمل بها: - العلماء إذن - الذين بينوا أن الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" وجدوا قرينة أي دليلاً يدل على أن الأمر ليس للوجوب وإنما للإباحة أو الإرشاد كما صرحوا بذلك وأكدوا عليه، وبينوا القرينة أي الدليل على أن الأمر للإباحة كما هو واضح من كلام الجصاص الذي ذكرناه بالتفصيل.
ومن المعلوم أن أي أمر من الأوامر إذا وردت في لسان الشرع، في الكتاب الكريم أو أقوال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنه يفيد الوجوب إلا إذا قامت قرينة تصرف الأمر عن الوجوب إلى غير الوجوب، كالاستحباب أو الإباحة، أو غيرهما، فإنه يجب أن يحمل الأمر على ما تدل عليه تلك القرينة كما يقول بذلك جمهور العلماء.
فمثلاً قال الله عز وجل قال في شأن الرقيق: (والذين يبتغون الكتاب مما ملكت أيمانكم فكاتبوهم إن علمتم منهم خيراً) فهذا أمر من الله عز وجل بأن يقوم السيد بمكاتبة مملوكه أي الاتفاق معه على أن يسدد مبلغاً من المال في مقابل حصوله على حريته، وهذا الأمر ليس للوجوب وإنما هو للندب والاستحباب، لوجود قرينة تصرف الأمر عن الوجوب هنا إلى الندب، وهذه القرينة هي أنه من القواعد المقررة في الشريعة الإسلامية أن المالك له مطلق التصرف فيما يملكه إلا إذا وجدت الضرورة أو الحاجة الداعية إلى ذلك.
وكذلك وجدنا الله عز وجل يأمرنا بكتابة الديون في قوله عز وجل: (يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه)، ومع هذا فإن جمهور أهل العلم، يقولون عن الأمر بكتابة الدين في هذه الآية الكريمة ليس للوجوب، وإنما هو للإرشاد حتى تحفظ الحقوق بين الناس، ويبين العلماء أنه توجد قرينة أي دليل يدل على أن الأمر بكتابة الديون ليس للوجوب وإنما للإرشاد، هذه القرينة هي قول الله تبارك وتعالى بعد ذلك في الآية التالية: (فإن أمن بعضكم بعضاً فليؤد الذي أؤتمن أمانته)، فإن هذا يدل على أنه يجوز للإنسان أن يثق بمن يتعامل معه مالياً، اعتماداً على أمانة من يتعامل معه، فلا يكتب عليه صكاً بالدين المدين به، ولهذا تأمر الآية الكريمة المؤمنين بأداء الأمانة.
وكذلك إذا دلت القرينة على الإباحة أفاد الأمر الإباحة لا الوجوب، كما في قوله تبارك وتعالى: (وكلوا واشربوا) فهذا أمر من الله عز وجل لكن القرينة أفادت أنه للإباحة، لأن الأكل والشرب من الأمور التي تستدعيها الطبيعة التي خلقنا الله عليها، ولا يستغني الإنسان عن هذا، فهو قرينة واضحة على أن الأمر ليس للوجوب وإنما هو للإباحة ومجرد الإذن. ( ).
ولعل مما يؤكد أن الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم ليس للوجوب وإنما للإباحة، إننا وجدنا ابن حزم، وهو أحد فقهاء الظاهرية الكبار، وناصر مذهبهم، وهم أصحاب المذهب الفقهي الذي يأخذ بظواهر النصوص، هذا الفقيه الظاهري الكبير، يصرح بأنه لا يجوز الخلع حالة إجبار أي من الزوجين، سواء أكان الإجبار للزوجة أم للزوج، يقول ابن حزم في كتابه " المحلى " أحد مصادر الفقه الظاهرية المعتبرة ( ) " فلها أن تفتدي منه ويطلقها، إن رضي هو، وإلا لم يجبر هو، ولا أجبرت هي، إنما يجوز بتراضيهما، فأي شك بعد هذا الذي يصرح به فقيه من فقهاء الظاهرية، الذين يأخذون بظواهر النصوص؟ أليس هذا مؤكداً أن فقهاء الإسلام وجدوا القرينة الدالة على أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس كان دالاً على الإباحة والإرشاد، وليس دالاً على الوجوب؟!.

أمور تؤكد عدم إجبار الزوج على الخلع:
بجانب ما بيناه من كلام كبار شراح الحديث والمفسرين والفقهاء من أن الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: "اقبل الحديقة وطلقها تطليقة" يفيد الإرشاد والإصلاح ولا يفيد الوجوب، فإننا نذكر أيضاً بعض الأمور التي تؤكد ذلك وتوضحه ن وتعد قرينة أيضاً بجانب ما ذكره العلماء:
الأمر الأول: أن الخلع عقد بين الزوجين، صرح بهذا علماؤنا رضي الله عنهم، يقول الحصني في كتابه " كفاية الأخيار "، عند كلامه عن شروط العوض في الخلع، وأنه لابد أن يكون العوض معلوماً، متمولاً، أي له قيمة مالية، مقدوراً على تسليمه، مملوكاً، قال معللاً لذلك: "لأن الخلع عقد معاوضة" ( )، وقال الماوردي، وهو في سياق كلامه عن فساد الخلع، فذكر صورتين إحداهما أن ينال الزوج بالضرب والأذى حتى تخالعه، قال بعد ذكر هذه الصورة: فيكون الخلع باطلاً، وعلل لهذا البطلان بقوله: "لأن الخلع عقد معاوضة حدث عن إكراه فكان كسائر عقود المكره" ( )
فلابد - إذن - من الرضا من كل من الزوجين، لأن لكل منهما شأناً في لخلع، إذ به تسقط الحقوق التي كانت للزوج على زوجته، فلابد من رضاه.
وكذلك لابد من رضا الزوجة، لأنه بالخلع يلزم الزوجة ما اتفقا عليه من العوض المالي، ولهذا لو خالعها على كذا من المال، فلم توافق الزوجة، فطلقها فإنه يكون طلاقاً عادياً وليس خلعاً، ولا يلزمها شيء من المال، فليس الخلع إسقاطاً محضاً كالطلاق، حتى يحق للزوج أن ينفرد به، ولابد - إذن - أن يكون الحكم هكذا في حالة رفض الزوج أن يخالع زوجته.
فالقول بإلزام الزوج عن طريق المحكمة بوقوع الطلاق خلعاً قول ينافي حق الرضا الذي يجب أن يتوافر في العقود، فلا يوجد عقد من العقود يبنى على الإجبار، وإنما كل العقود مبنية على الاختيار، حتى العقد الأعظم الذي بين الله عز وجل وعباده لا يعتبر صحيحاً إلا بالرضا بعيداً عن الإجبار، قال تبارك وتعالى: (لا إكراه في الدين).
الأمر الثاني: إذا ورد الأمر من الشارع بشيء بعد تحريمه، فإن هذا الشيء يعود إلى حكمه الذي كان موجوداً قبل تحريمه، وذلك على الرأي الراجح من آراء علماء أصول الفقه الإسلامي، فمن المعلوم أن هناك أشياء حرمها الشارع لمعنى خاص، ثم لما زال هذا المعنى أو وجد ما تقتضي رفع الحظر جاء الأمر بها، فمثلاً ورد الأمر بالانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله بعد صلاة الجمعة، بعد تحريم البيع والشراء أثناء صلاة الجمعة، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون)، ثم قال الله عز وجل: (فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله).
وهنا في قصة ثابت ابن قيس نجد أمراً ورد من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد الحظر والتحريم، والأمر هو " اقبل الحديقة " والتحريم كان سابقاً على هذا الأمر النبوي، لأن مهر الزوجة لا يجوز لزوجها أن يأخذ منه شيئاً لقول الله تبارك وتعالى: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً) فلما حدثت قصة ثابت بن قيس مع امرأته أمر الشارع بأخذ المهر في مقابل التفريق بين الزوجين وهما قيس بن ثابت وزوجته.
وقد اختلف علماء أصول الفقه الإسلامي في الأمر الوارد بعد التحريم على ثلاثة آراء:
الرأي الأول: أن الأوامر التي ترد بعد التحريم تفيد الإباحة، وهذا الرأي منقول عن الإمام الشافعي وبعض العلماء.
ولعل أصحاب هذا الرأي يرون أن ورود الأمر بعد التحريم يعد قرينة أي دليلاً يصرفه عن الوجوب إلى الإباحة استناداً إلى أن معظم الأوامر التي جاءت بعد التحريم دلت على الإباحة مثل قول الله تبارك وتعالى: (وإذا حللتم فاصطادوا) بعد قوله عز وجل: (غير محلي الصيد وأنتم حرم)، فالأمر باصطياد الصيد جاء بعد تحريم الاصطياد، والأمر هنا بإجماع العلماء يفيد إباحة الاصطياد ولا يجب الاصطياد.
وكذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: "كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فادخروا" فالأمر بالادخار ورد بعد تحريم ادخار اللحوم لظرف خاص اقتضى هذا، وهو أيضاً مفيد للإباحة بإجماع العلماء، فلم يقل أحد بوجوب ادخار لحوم الأضاحي.

الرأي الثاني: أن الأوامر التي وردت بعد التحريم تفيد الوجوب، وهو ما يراه عامة فقهاء الحنفية وبعض فقهاء الشافعية.
ولعل أصحاب هذا الرأي يرون أن الأصل في صيغة الأمر أنها تفيد الوجوب إذا لم توجد قرينة أي دليل يصرفها عن الوجوب إلى غيره، فإذا جاءت صيغة الأمر بعد الحظر والتحريم فإنها لا تصح أن تكون قرينة تصرفها عن الوجوب إلى غيره، لأن بعض الأوامر وجدناها أفادت الوجوب مع أنها وردت بعد الحظر والتحريم، وذلك لقول الله تبارك وتعالى: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) ( )، فالأمر بقتال المشركين ورد بعد تحريم هذا القتال أثناء الأشهر الحرم، وهو أمر يفيد الوجوب باتفاق العلماء.
وكما في قول الرسول صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت حبيش عندما جاءته تسأله: يا رسول الله إني امرأة استحاض فلا أطهر، أفأدع الصلاة؟ قال: " لا، إنما ذلك دم عرق وليس حيض، فإذا أقبلت حيضتك فدعي الصلاة، وإذا أدبرت فاغسلي عنك الدم ثم صلي ".
فالرسول صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة بنت حبيش بالصلاة بعد أن انتهت حيضتها، وهذا الأمر يفيد الوجوب وهو وارد بعد الحظر والتحريم، حظر الصلاة وتحريمها أثناء فترة الحيضة.

الرأي الثالث: أن الأوامر التي ترد بعد التحريم تفيد رفع التحريم والرجوع بالمأمور به إلى الحكم الذي كان له قبل ذلك من الإباحة، أو الوجوب، أو غيرهما.
وهذا الرأي اختاره الكمال بن الهمام أحد كبار فقهاء الحنفية، وهو الرأي الراجح.
دليل ترجيح الرأي الثالث: يدل على ترجيح هذا الرأي الاستقراء والتتبع، فإننا إذا تتبعنا الأوامر التي جاءت بطلب فعل شيء بعد حظره وتحريمه وجدنا أن الحكم الذي ثبت لهذا الشيء هو الحكم الذي كان موجوداً له قبل الحظر والتحريم.
ومن أمثلة هذا قتال المشركين فهو واجب، وكان الشارع سبحانه قد حرمه أثناء فترة الأشهر الحرم، ثم جاء الأمر به بعد انتهاء هذه الفترة في قول الله عز وجل: (فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم)، والعلماء مجمعون على أن قتال المشركين بعد انتهاء الأشهر الحرم واجب، وهذا هو نفس الحكم الذي كان موجوداً لهذا الفعل قبل ورود الحظر والتحريم.
ومن الأمثلة أيضاً زيارة القبور للاتعاظ وتذكر الموت، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم كان نهى عنها لمصلحة اقتضت ذلك، لأنهم كانوا قريبي عهد بالجاهلية، ثم لما استقرت العقيدة في نفوسهم أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بزيارتها، فقال عليه الصلاة والسلام: " كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة "، وقد أجمع العلماء على أن زيارة القبور مندوبة وليست واجبة، وهو نفس الحكم الذي كان لزيارتها قبل الحظر والتحريم.
ومن الأمثلة أيضاً الاصطياد، فقد كان مباحاً ثم حرم أثناء الإحرام بالحج أو بالعمرة، ثم جاء الأمر به بعد الانتهاء من الإحرام، بقول الله عز وجل: (وإذا حللتم فاصطادوا) فالله عز وجل أمر هنا بالاصطياد بعد الحل من الإحرام، والأمر هنا دال على الإباحة وليس على الوجوب بإجماع العلماء، وهو نفس الحكم الذي كان موجوداً للاصطياد قبل حظره وتحريمه ( )
وإذا ترجح الرأي القائل بأن الأمر إذا ورد بعد التحريم يفيد رفع التحريم ويفيد الرجوع بالمأمور به إلى الحكم الذي كان قبل ذلك، فإن الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس: "اقبل الحديقة" جاء بعد التحريم في قول الله عز وجل: (وإن أردتم استبدال زوج مكان زوج وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً) فيرجع الحكم الأول وهو أن يكون الأمر للإباحة وليس للوجوب، وإذا كان الأمر من الرسول صلى الله عليه وسلم لثابت بن قيس مفيداً للإباحة فإن الطلاق المرتبط به يكون هو أيضاً مأموراً به على سبيل الإباحة أو الإرشاد كما بين العلماء الذين ذكرناهم سابقاً.
وبعد. فإن الاحتياط في التفريق بين الزوجين يستلزم القول بعدم إجبار الزوج على إجراء الخلع، أو تطليق زوجته خلعاً، ولابد من رضاه، لأن مجال الإبضاع من المجالات التي يجب الاحتياط الشديد فيها، فمع أن القاعدة في الأموال أن الأصل فيها الإباحة ما لم يرد حظر من الشارع كما يرى ذلك كثير من العلماء، فإن الإبضاع والدماء الأصل فيهما الحظر والتحريم ما لم يرد إباحة من الشارع ويجب أن نلاحظ أن الزوجة حلال لزوجها يقيناً وحرام على غيره من الرجال يقيناً، ولا يصح الخروج عن هذا اليقين إلا بأمر يقيني أو يقرب من اليقين، وإجبار الزوج على لخلع ليس يقينياً، وإنما هو رأي ظني، بدليل أن الكثيرين من العلماء لا يوافقون عليه، بل حتى الظاهرية، وهم أصحاب مذهب فقهي يأخذ بظواهر النصوص، وكان مقتضى هذا أن يقولوا بأن الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم " اقبل الحديقة وطلقها تطليقة " مفيد الوجوب، لكنهم لم يقولوا بالوجوب، بل قالوا بأنه لا يجوز إجبار أي من الزوجين على الخلع.
فإذا كانت الزوجة حلالاً لزوجها يقيناً فلا يصح الخروج عن هذا الأصل اليقيني والحكم بتحريمها على زوجها وحلها لرجل آخر بأمر ظني.
كما أن الأصل في الطلاق تضييق مجاله، والتوسعة فيه غير مستحبة ولا مطلوبة، لأنه يؤدي إلى هدم الأسرة، وقد يتعرض من جرائه الأطفال إلى الضياع والتشتت.
وإجبار الزوج على الخلع، يمكن أن يؤدي إلى إحجام الشباب عن الزواج، مادام قد أصبح من السهل لكل زوجة أن تنفصل عن زوجها بهذه السهولة التي منحها لها القانون، وإحجام الشباب عن الزواج ينافي مقصداً من مقاصد الشرع، وهو حثه على الزواج وتكوين الأسرة، قال صلى الله عليه وسلم: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" أي وقاية من الوقوع في الخطأ.
كما يجب أن يلاحظ أن بمقتضى حق الزوجة في الخلع دون رضا من الزوج، يجعلها لكلمة واحدة تطيح بالرجل في الشارع، فتخرجه من شقة لعله وضع فيها كل ما يملكه من مال حصل عليه بعمله وجده سنوات طويلة، لعلها كانت في غربة بعيداً عن وطنه، فتجئ الزوجة وترفع دعوى بالخلع، بعد أن أنجبت له طفلاً أو طفلة، فيحكم لها القضاء بالطلاق خلعاً، وبأحقيتها في الشقة التي يملكها الزوج وليس له مأوى غيرها، لأنها حاضنة، وعلى الزوج الذي كافح وبذل العرق والجهد في الحصول على هذه الشقة أن يتحمل عذاب بحثه عن شقة أخرى، وإذا وجد فلابد أن يصبر حتى تنتهي فترة الحضانة، لتعود إليه شقته التي وجدها بعد العمل والجهد الكبير، بل قد يضيع عليه ماله إذا حدث إن كان قد عامل زوجته بحسن نية، وبدافع من حبه لها، فكتب لها هذه الشقة، فيؤدي الخلع إلى أن يخرج من بيته باحثاً عن مسكن يلجاً إليه، وعازماً على أن يبدأ طريق الجهد والمشقة لتحصيل مال يشتري به أو يؤجر شقة، ربما تأخذها منه زوجة جديدة بعد هذه الزوجة وهكذا يدور الرجل في طاحونة لا يعرف كيف يفلت منها.
إن حتمية الاستجابة للمرأة في الخلع ستؤدي إلى مضاعفة حالات الطلاق التي نشكو من كثرتها في مصر، فليس تطليق المحكمة بطريق الخلع للمرأة جبراً عن زوجها علاجاً لمشكلة أسرية يجب أن تكون باتفاق الطرفين، وإنما هو خلق لمشكلة جديدة، بل لمشاكل عديدة جديدة، سيسفر عنها تطبيقات هذا القانون الجديد، في السنوات القليلة الأولى من تطبيقه، والعمل به.

كتبه
د رأفت عثمان