بين الهوى والرشد {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} [يوسف:24]

بدلاً من أن يدهش امرأة العزيز تمسك الشاب بدينه، واعتصامه بربه، وتعففه العجيب الرائع، وطهره النقي الخالص..

بدلاً من أن يوقظها عزمه الأكيد أمام الإغراء السافر المريد

بدلاً من أن يبهرها نقاء جوهره الذي يزيد من جمال مظهره

أصرت على المضي في دنسها، فقد حصرت كل وعيها -إن صح أن يسمى ذلك وعياً- في أمرٍ واحدٍ، كأن أبواب التفكير عندها مغلقة عليه...هي ثائرة ثورة لن تهدأ في ظنها سوى عندما تقضي وطرها...أجل! إنها سكرة الهوى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر:72] كذلك حال من أتبعه الشيطان فكان من الغاوين.

وهنا يصور القرآن الكريم تصويراً مذهلاً مقدار جنونها البهيمي، ويظهر خطوتها التالية لكلامها، فيقول الله تعالى بالتعبير المعجز: {وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} [يوسف:24] كأنما يومئ بهذه العبارة إلى أنها ألقت بنفسها عليه، ورمت جسدها إليه، أو حاولت فظنت أن الاحتكاك الجسدي ربما يفل عزم الطهر الحديدي...إنها وسيلتها الأخيرة، وهي لمس الطبيعة بالطبيعة لإلقاء الجمرة في الهشيم!

عجيبةٌ طبيعة النساء حينما يتحكم الشيطان في رفع الراية فوق تصرفاتهن؛ فإن شأن المرأة أن تكون مطلوبةً لا طالبة، وَمُرَاوَدَةً عن نفسها لَا مُرَاوِدَة، حَتى إن حماة الأنوف من كبراء الرجال؛ ليطأطئون الرءوس للفَقيرات الحسان ربات الجمال، ويبذلون لهن ما يعتزون به من الجاه والمال، بل إن الملوك ليذلون أنفسهم لمملوكاتهم وأزواجهم، ولا يأبون أن يسموا أنفسهم عبيداً لهن، كما روي عن بعض ملوك الأندلس:
نحن قَوم تذيبنا الأعين النجـ ـل على أننا نذيب الحديدا

فترانا لدى الكرهة أحرا را وفي السلم للملاح عبيدا

إلا أن امرأة العزيز -شأن من يسير سيرها من النساء- قد زين لها هواها قضاء وطرها مهما تمنع الشاب أمامها، بل إنها -يا للعمى- تزداد عليه إقبالاً كلما ازداد منها إدباراً، فسباها في حسنه وجماله، وفي جلاله وكماله، وفي إبائه وتألهه، وأخرج المرأة من طبع أنوثتها فِي تمنعها وإدلالها لتشهد على هبوطها أمام رغبتها وإذلالها، أنزلت نفسها في سبيل ذلك من مقام السيدة المالكة بعزة سيادتها وسلطانها، ودهورت الأميرة (الأرستقراطيةَ) نفسها من عرش عظمتها وتكبرها، فلما صارحته بالدعوة إلى نفسها، ازداد عتواً واستكباراً، معتزاً عليها الديانة والأمانة، والترفع عن الخيانةِ.

ولكن العاشقة جاءت في قضيتها ببرهان الشيطان، تقذف به كآخر محاولة لها وأقواها فهمت به، وهنا يقع ليوسف -عليه السلام- برهان ربه كما وقع لها هي برهان شيطانها. فلولا برهان ربه لانهدت مقاومته الزاهية للإغراء، واستسلم لما تلين أمامه قوة العظماء.

{وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ}

هذه هي نهاية موقف طويل من الإغراء، بعد ما أبى يوسف في أول الأمر واستعصم...وهو تصوير واقعي صادق لحالة النفس البشرية الصالحة في المقاومة والضعف، ثم الاعتصام بالله في النهاية والنجاة..

ولكن السياق القرآني لم يفصل في تلك المشاعر البشرية المتداخلة المتعارضة المتغالبة؛ لأن المنهج القرآني لا يريد أن يجعل من هذه اللحظة معرضاً يستغرق أكثر من مساحته المناسبة في محيط القصة، وفي محيط الحياة البشرية المتكاملة كذلك. فذكر طرفي الموقف بين الاعتصام في أوله والاعتصام في نهايته، مع الإلمام بلحظة الضعف بينهما، ليكتمل الصدق والواقعية والجو النظيف جميعاً.

هذا ما يخطر عند مواجهة النصوص، وتصور الظروف. وهو أقرب إلى الطبيعة البشرية وإلى العصمة النبوية. وما كان يوسف سوى بشر. نعم إنه بشر مختار. ومن ثم لم يتجاوز همه الميل النفسي في لحظة من اللحظات. فلما أن رأى برهان ربه الذي نبض في ضميره وقلبه، بعد لحظة الضعف الطارئة، عاد إلى الاعتصام والتأبي.

و(الهم) اسم جنس تحته نوعان، كما قَال الإمام أحمد: الهم همان: همُّ خطرات، وهمُّ إصرار، وقَد ثبت في الصحِيح عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قوله: (إن العبد إذا هم بسيئة لم تكتب عليه، وإذا تركها للَّه كتبت له حسنة، وإن عملها كتب له سيئة واحدة) وإن تركها من غيرِ أن يَتركها للَّه، لم تكتب لَه حسنة، ولا تكتب عليه سيئة، ويوسف -صلى اللَّه عليه وسلمَ- هم همًّا تركه للّه؛ ولذلك صرف اللَّه عنه السوء والفحشاء لإخلاصه، وذلك إنما يكون إذا قَام المقتضي للذنب وهو الهم، وَعارضه الإخلاص الموجب لانصراف القلب عن الذنب لله. فيوسف -عليه السلام- لم يصدر منه إلا حسنة يثاب عليها، وقد قَال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف:201] . وأما ما ينقَل: من أنه حل سراويله، وجلس مجلس الرجل من المرأة، وأنه رأى صورة يعقوب عاضًّا على يده، وأمثاله ذلك، فَكله مما لم يخبر اللَّه به ولا رسوله، وما لم يكن كذلك، فَإنما هو مأخوذ عن اليهود الذين هم من أعظم الناس كذباً على الأنبياء وقَدحاً فيهم، وكل من نقله من المسلمين فعنهم نقله، لم ينقل من ذلك أحد عن نبينا صلى اللَّه عليه وسلم.

{لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ} [يوسف:24]

إنها قصة الذين يتبعون الشهوات، ويبحثون بإلحاف كيف يتبعون من الشيطان كل الخطوات تتكرر...إنها قصة الآلام مجدداً...إنها قصة الإغواء والتزيين والإغراء...وهي مع ذلك قصة التحدي الحقيقي العظيم للشاب المؤمن المخبت.

هذه امرأة فَائقة الحسنِ والجمال، تزينت وتهيأت للشاب القوي الغريب غير المتهم؛ لأنه أمام الناس كالابن للأسرة التي هو في بيت سيدتها، فوقع من ذلك ما حكاه صاحب "الكشاف" أنه –عليه الصلاة والسلام وعلى نبينا وأنبياء الله أجمعين- مالت نفسه إلى المخالطة، ونازعت إليها عن شهوة الشباب وقَرمه ميلاً يشبه الهم به، والقصد إليه كما تقتضيه صورة تلك الحال، التي تكاد تذهب بالعقول والعزائم، وهذا من أعظم الإعجاز رداً على من ربما يقول من الشباب: يوسف نزع الله عنه الشهوة فلا يشعر بما نشعر به من الشبق وغلبة العشق، فبين الله تعالى أن به ما بهم، إن لم يكن أكمل وأشد، ولكنه كسره بـ {برهان ربه} الذي أشرق في قلبه، فالمراد بـ (همه) -عليه السلام- ميل الطبع ومنازعة الشهوة، لا القصد الاختياري، وذلك مما لا يدخل تحت التكليف، بل الحقيق بالمدح والأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم، ولو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هماً لشدّته، لما كان صاحبه ممدوحاً عند الله بالامتناع؛ لأن استعظام الصبر على الابتلاء، على حسب عظم الابتلاء وشدته. ولو كان همه كهمها عن عزيمة، لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين.

فتقَع التجاذبات والمنازعات بين الْحكمة والشهوة الطبيعية وبين النفس والعقل وبين جنود إبليس من الأفكار، وتذكر عظمة الجليل الكريم الغفار، وقد تقوى داعية الطبيعة والشهوة، وقد تقوى داعية العقل والحكمة، فـ (الهم) عبارة عن جواذب الطبِيعة، ورؤية (البرهان) عبارة عن جواذب العبودية، والمراد بـ (رؤية البرهان) هو حصول النور الذي يشع في القلب، ويهز الصدر، فيترتب عليه التذكر الزاجر، والإقلاع الرادع عن الإقدام على المنكرات.

وفي مثل هذه الأحوال توجد مَرْتَبَتَانِ -كما يقول الشيخ رشيد رضا-:

إحداهما: الكف عن المعصية؛ جهاداً للنفس، وكبحاً لها؛ خوفاً من الله - تعالى - وهي مرتبة الصالحين الأبرار.

الثانية: مرتبة الكراهة لها، والاشمئزاز منها؛ حياء من الله ومراقَبة له، واستغراقاً في شهوده، وهي مرتبة الصديقين والنبيين الأخيار، الذين إذا عرضت لَهم الشهوة المستلذة بالطبع، بالصورة المحرمة في الشرع، عارضها من وجدان الإيمان، وَتجلي الرحمنِ، ما تغلب به روحانيتهم الملكية، على طبيعتهم الحيوانية، وهذا ما قد يحصل لمن دون الأنبياء منهم، فكيف بمن يرون (برهان ربهم) بأعين قلوبهم، وينعكس نوره عن بصائرهم، فيلوح لأبصارهم؟ وبعضهم هنا يفقد الشهوة الطبيعِية في هذه الحال، أو يفقد الشعور بالقدرة على وضعها في الموضع المحرم مع وجودها على أشدها، ولا عجب. وبعضهم لا يفقد شيئاً من ذلك إلا أنه يأتيه من النور والبرهان، ومن خوف الرحمن ما يجعله يتصور السعير، وغضب الجليل الكبير ما يصيبه خجلاً وخوفاً، فقوى النفس وانفعالاتها الوجدانِية تتنازع، فيغلِب أقواها أضعفها. حتى إن من الإباحيين والإباحيات من أهل الحرية الطبيعية من يملك في مثل تلك الخلوة منع نفسه أن يبيحها لمن يراوده عنها، لا خوفاً من الله، ولا حياء منه؛ لأنه غير مؤمن به أو بعقابه، بل وفاء لزوج أو عشيق عاهده على الاختصاص به فصدقه. فـ (البرهان) المرسل من الرحمن: "فضل إلهي يقوى به الإنسان على تحري الخير وتجنب الشر، حتى يصير كمانع له من باطنه، وإن لم يكن منعًا محسوسًا".

{كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ} [يوسف:24].

شهد اللَّه تعالى في ختام هذه الآية على طهارة يوسف عليه السلام ونقائه في هذه الجملة المعجزة من الآية خمس مرات:

أولها: قَوله: {لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ} واللام للتأكيد والمبالغة.

الثَّانِية: قَوْلُهُ: {وَالْفَحْشاءَ}، والفرق بين السوء والفحشاء أن (السوء) جناية اليد ومقدمات الفاحشة من القبلة ونحوها، و(الفحشاء) هو الزنا، وهذا يدل على أن الكريم يوسف عليه السلام لم يبلغ به (الهم) حداً جعله يمد يده لها، هذا على قول من جعل (الهم) استجابة منه لها أول الأمر. ولسطوع برهان ربه في خاطره صرف الله عنه {السوء والفحشاء}، ولم يقل: لنصرفه عن السوء والفحشاء، ويظهر بذلك مدى الضياء الذي يجلل هذا الشاب فيا للبهاء ويا للهناء! (ومن ذاق عرف، ومن حُرِم انحرف)، و"أعظم مزايا البشر في قوة الإرادة، فلولاهَا لكان الْإنسان كالحيوان الأعجم عبد الطبيعة؛ ولذلك كانت المراودة احتيالاً لتحويل الإرادة، وجعلها خاضعة للمراود، وإنما يظفر فيها من كانت إرادته أقوى، وفوق ذلك عناية الله -تعالى-".

الثالثة: قَوله: {إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا} فأضافه إليه للتشريف كقوله: {وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً} [الْفُرْقَانِ:63].

الرابعة: قَوله: {الْمُخْلِصِينَ} على قراءة كسر اللام على أنه اسم فَاعل؛ لتدل على كونه آتياً بِالطاعات والقربات مع صفة الإخلاص.

الخامسة: {الْمُخْلِصِينَ} بفتح اللام على أنه اسم مفعول؛ ليدل على أن اللَّه تعالى استخلصه لنفسه، واصطفاه من بين خلقه، وهو بذلك يسير على الطريق المضيء، الذي سار عليه آباؤه المخلصين من قبل، الذين أخلَصهم ربهم، وصفاهم من الشوائب، حيث وصفهم الله بقوله: {وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ * إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ * وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ}[ ص:45–47] ويوسف هو الحلقة الرابِعة في سلسلتهم الذهبية. والقراءتان توضحان صفتين متلازمتين: فهم مخلصون لِلَّه في إيمانهم به، وحبهم وعبادتهم له، ومخلصون عنده بالولاية والنبوة والعناية والوقاية من كل ما يبعدهم عنه ويسخطه عليهم.

وقد بين إبليس كما حكى الله -تعالى- عنه صعوبة إغوائه للمخلصين، وهذه الصعوبة تصل حد عدم القدرة، كما قال تعالى: {فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [ص:82-83] كما قيل:
أتت فَتى خاف مقَــام ربـه ما زال ينـهى نفسه عــن الهــوى

لم يقترف فاحشة قَط ولـم يعـــزم وَلَا أدنـى لها ولا غـــوى

بغرة منــها وصفــوِ نيــة في معزِل تشهيه أقصى ما اشتهى

مما يمنيه به شيطانه من حيث لا يـطـمع منــه فـي خــنــا

لكنه استعصــم راوياً لها مـا أمــر الله بــه ومــا نـهــى

اسلام ويب