ثمة ‬علاقة ‬سببية ‬بين ‬كلٍّ ‬من ‬ريادة ‬الأعمال ‬والنمو ‬الاقتصادي ‬المتعدد ‬الأقطاب ‬من ‬جهة ‬والتنمية ‬المستدامة، ‬والحدّ ‬من ‬الفقر ‬من ‬جهة ‬أخرى، ‬فالمشاريع ‬الريادية، ‬الصغيرة ‬والمتوسطة، ‬في ‬عالم ‬المقاولات ‬غالباً ‬ما ‬تشكِّل ‬العمود ‬الفقري ‬للقطاع ‬الخاص ‬في ‬البلدان ‬النامية ‬على ‬وجه ‬الخصوص. ‬بَيْدَ ‬أنَّ ‬العديد ‬من ‬تلك ‬البلدان ‬لم ‬تكن ‬قادرةً ‬على ‬خلق ‬بيئة ‬مواتية ‬لتلك ‬الأعمال ‬الريادية ‬الناشئة ‬والحفاظ ‬على ‬توازن ‬اقتصادي ‬مع ‬نظيراتها ‬الكبرى ‬لضمان ‬تطورها ‬ونموها ‬وتوطنها ‬في ‬البيئة ‬المحلية.‬


بقلم: يحيى السيد عمر



فلقد ‬شكَّلت ‬الخبرات ‬والتجارب ‬الاقتصادية ‬المتعلقة ‬بالقطاع ‬الريادي ‬في ‬كثير ‬من ‬الدول ‬المتقدمة ‬نماذج ‬باهرة ‬تجاوزت ‬عتبات ‬النجاح ‬إلى ‬آفاق ‬الإلهام، ‬وخطَّت ‬لنفسها ‬مكانة ‬مجتمعية ‬خاصة ‬كان ‬لها ‬حضورها، ‬وتأثيرها ‬البالغ ‬على ‬الأنماط ‬المعيشية ‬بالمجتمع، ‬فردياً ‬وجماعياً؛ ‬إذ ‬شكَّلت ‬نواة ‬تطوير ‬كثير ‬من ‬الاقتصادات، ‬وأصبحت ‬نماذج ‬ملهمة ‬لرجال ‬الأعمال ‬والمستثمرين؛ ‬ولاسيما ‬مع ‬مردودها ‬الاقتصادي ‬الكبير.‬

ومن ‬ثمَّ ‬تُعتَبر ‬ريادة ‬الأعمال ‬من ‬أشهر ‬هذه ‬التجارب ‬النموذجية ‬الناجحة ‬في ‬عالم ‬المال ‬والأعمال، ‬حتى ‬أصبح ‬هذا ‬المصطلح، ‬الحديث ‬نسبياً، ‬من ‬أبرز ‬المصطلحات ‬ذات ‬المردود ‬الاقتصادي ‬نظراً ‬لما ‬حقَّقه ‬هذا ‬المجال ‬الابتكاري ‬الواعد ‬من ‬مردودات ‬إيجابية؛ ‬اقتصادية ‬وتنموية ‬عديدة، ‬في ‬الكثير ‬من ‬البلدان ‬على ‬مستوى ‬العالم.‬

في ‬مفهوم ‬ريادة ‬الأعمال.. ‬جوهر ‬الحافزية ‬والابتكار

اصطلاحياً؛ ‬نشأ ‬هذا ‬المفهوم ‬بداية ‬مقترناً ‬بالأعمال ‬التجارية ‬والمشروعات ‬الحديثة ‬التي ‬رأت ‬النور ‬في ‬القرن ‬التاسع ‬عشر ‬الميلادي ‬في ‬القارة ‬الأوروبية، ‬وساعد ‬بفاعلية ‬كبيرة ‬في ‬إحداث ‬نقلةٍ ‬نوعيَّة ‬في ‬الحياة ‬الاقتصادية ‬للمجتمعات ‬هناك، ‬مما ‬كان ‬له ‬أثر ‬واضح ‬في ‬تطوير ‬الفكر ‬الاقتصادي؛ ‬حيث ‬تمكَّنت ‬الدول ‬الأوروبية ‬من ‬خلال ‬الاستثمار ‬في ‬الأفكار ‬الرياديّة ‬الحديثة ‬المتعلقة ‬به، ‬من ‬تحقيق ‬نهضة ‬صناعية ‬كبرى ‬ربما ‬لا ‬تقل ‬أهمية ‬عن ‬بواكير ‬الثورة ‬الصناعية ‬بالقارة.‬

وإذا ‬كانت ‬ريادة ‬الأعمال ‬في ‬أبسط ‬تعريفاتها ‬هي: ‬إنشاء ‬مشروع ‬أو ‬شركة ‬أو ‬مؤسسة ‬تُقدِّم ‬خدمة ‬أو ‬سلعة ‬جديدة ‬للمجتمع، ‬تنطوي ‬على ‬أفكار ‬مبتكرة ‬وذات ‬جدوى ‬اقتصادية، ‬فإنَّ ‬الأمر ‬لا ‬يتوقف ‬عند ‬هذا ‬الحد، ‬بل ‬يمتد ‬ليشمل ‬فنّ ‬إدارة ‬هذا ‬المشروع ‬وتطويره، ‬حتى ‬يُصبح ‬المشروع ‬مؤسسة ‬فاعلة ‬ذات ‬دور ‬مجتمعي ‬بنّاء.‬

ثمّة ‬فرق ‬بين ‬كلٍ ‬من ‬ريادة ‬الأعمال”‬، ‬و”‬إدارة ‬الأعمال”‬؛ ‬فالأولى ‬تعني ‬خلق ‬أسواق ‬جديدة ‬بأفكار ‬مبتكرة، ‬وجذب ‬عملاء ‬جدد، ‬أو ‬بمعنى ‬آخر ‬خلق ‬المنتج، ‬وإعادة ‬توجيه ‬المستهلك، ‬ومعرفة ‬كيفية ‬تسويقه، ‬وإقناع ‬الآخرين ‬به. ‬

أما ‬الثانية، ‬فهي ‬محدودة ‬في ‬إدارة ‬عمل ‬تقليدي ‬قائم، ‬بما ‬أنها ‬تقتصر ‬على ‬توزيع ‬المهام ‬والأعمال ‬المختلفة، ‬والتخطيط، ‬وفهم ‬احتياجات ‬السوق ‬لمنتجات ‬معينة ‬أو ‬خدمات ‬موجودة ‬ومعروفة ‬بالفعل.‬

هذا ‬مع ‬التأكيد، ‬جوهرياً، ‬على ‬أن ‬ريادة ‬الأعمال ‬تنطوي ‬على ‬بعض ‬المخاطر، ‬بالنظر ‬لما ‬تحتويه ‬على ‬عنصري ‬المغامرة ‬والتوقع، ‬والتي ‬ينبغي ‬التحسُّب ‬لها.‬

ريادة ‬الأعمال.. ‬دعم ‬الأداء ‬الاقتصادي ‬والسلم ‬الاجتماعي

عربياً؛ ‬تعتبر ‬ريادة ‬الأعمال ‬بمثابة ‬الفردوس ‬المفقود ‬في ‬مجتمعاتنا ‬المعاصرة، ‬على ‬الرغم ‬من ‬كونها ‬الحل ‬الأمثل ‬للكثير ‬من ‬إشكالياتنا ‬العربية ‬المتجذرة؛ ‬كالبطالة ‬والفقر ‬والركود ‬الاقتصادي، ‬وتراجع ‬مستويات ‬التنمية، ‬وضعف ‬استدامتها.‬

فمع ‬تزايد ‬حجم ‬القوى ‬العاملة، ‬ولاسيما ‬من ‬الأجيال ‬الشابة، ‬وتناقص ‬معدلات ‬فرص ‬التوظيف، ‬خاصة ‬في ‬القطاعات ‬الحكومية، ‬تبدو ‬الحاجة ‬مُلِحَّةً ‬لإنشاء ‬مشاريع ‬جديدة ‬تستوعب ‬هذا ‬الكمَّ ‬الهائل ‬من ‬الشباب ‬والكفاءات ‬المتُعَطِّلَةِ، ‬ولن ‬يتأتى ‬ذلك ‬إلا ‬من ‬خلال ‬الحلول ‬المبتكرة ‬التي ‬تقدمها ‬ريادة ‬الأعمال.‬

فريادة ‬الأعمال، ‬بجوانبها ‬الابتكارية ‬غير ‬التقليدية، ‬تحفظ ‬الأيدي ‬العاملة ‬الماهرة ‬في ‬الدول ‬النامية، ‬وتُجَنِّبُها ‬الوقوع ‬في ‬براثن ‬نزيف ‬العقول ‬وهجرة ‬الكفاءات ‬العلمية ‬والمهنية ‬إلى ‬الخارج. ‬فالأيدي ‬العاملة ‬أو ‬الموارد ‬البشرية ‬هي ‬أكبر ‬وأهم ‬رأس ‬مال ‬اقتصادي ‬في ‬أي ‬دولة ‬كانت، ‬لكنَّ ‬نقصَ ‬المشاريع ‬الاستثمارية ‬وفرص ‬العمل ‬المناسبة ‬تدفع ‬أصحاب ‬الخبرات ‬والمواهب ‬إلى ‬الهجرة ‬بحثاً ‬عن ‬واقع ‬أكثر ‬رحابة ‬ومستقبل ‬أكثر ‬أملاً؛ ‬الأمر ‬الذي ‬ينقل ‬ثمرات ‬التنمية ‬من ‬دول ‬الموطن ‬إلى ‬دول ‬المهجر.‬

إن ‬انعدام ‬ريادة ‬الأعمال ‬يضرّ ‬كثيراً ‬باقتصاديات ‬الدول، ‬ويضع ‬على ‬عاتقها ‬عبئاً ‬كبيراً، ‬بسبب ‬عدم ‬تنويع ‬مصادر ‬الإنتاج، ‬وتزايد ‬معدلات ‬البطالة، ‬وبالتالي ‬يُصبح ‬اقتصاد ‬الدولة ‬ضعيفاً ‬ومستنزفاً، ‬بسبب ‬استنفاد ‬موارده ‬الأساسية ‬في ‬غير ‬موضعها، ‬ففي ‬واقعنا ‬المعاصر ‬ينهض ‬الجزء ‬الأعظم ‬من ‬اقتصاديات ‬الدول ‬على ‬المشاريع ‬الريادية؛ ‬الصغيرة ‬والمتوسطة.‬

وعلى ‬الجانب ‬الآخر، ‬تساهم ‬ريادة ‬الأعمال، ‬في ‬حواضنها ‬الملائمة، ‬في ‬تقدُّم ‬الدول ‬والارتقاء ‬بها؛ ‬من ‬خلال ‬خلق ‬أسواق ‬جديدة، ‬وبالتالي ‬جذب ‬مستثمرين ‬جدد، ‬وتنشيط ‬حركة ‬التبادل ‬التجاري ‬والاقتصادي.‬

كما ‬توفر ‬ريادة ‬الأعمال ‬ميزةً ‬تنافسية ‬كبيرة ‬في ‬الأسواق ‬تصبّ ‬لصالح ‬المستهلك ‬والاستهلاك ‬عامة. ‬فمع ‬ظهور ‬منتجات ‬جديدة ‬وأسواق ‬متنوعة، ‬تتعدد ‬الاختيارات ‬أمام ‬المستهلكين، ‬وبالتالي ‬ينتفي ‬جانب ‬الاحتكار، ‬إذ ‬تسعى ‬جميع ‬الشركات ‬لإرضاء ‬العملاء ‬وجذبهم ‬من ‬خلال ‬تطوير ‬منتجاتها ‬بشكل ‬مستمر، ‬والسعي ‬لتقديم ‬أفضل ‬جودة ‬ممكنة ‬بأقل ‬سعر، ‬بالإضافة ‬للعروض ‬الترويجية ‬المختلفة، ‬بالتالي ‬يُصبح ‬المستهلك ‬هو ‬المستفيد ‬الأول ‬في ‬هذه ‬الحالة.‬

ونظراً ‬للدور ‬الحيوي ‬والمؤثر ‬لريادة ‬الأعمال؛ ‬ومساهمتها ‬في ‬نمو ‬المؤسسات ‬وتوسعها، ‬وحصولها ‬على ‬موارد ‬مالية ‬ومادية، ‬جديدة ‬ومبتكرة، ‬فقد ‬أصبح ‬ذلك ‬القطاع ‬التنموي ‬الواعد ‬أحد ‬الخيارات ‬المهمة ‬التي ‬يلجأ ‬إليها ‬الأفراد ‬والمؤسسات؛ ‬حيث ‬زادت ‬أهميتها ‬وجدواها ‬الاقتصادية.‬

ريادة ‬الأعمال.. ‬تنظيم ‬الأفكار ‬وتنمية ‬الإبداع

ريادة ‬الأعمال، ‬حال ‬نجاحها ‬في ‬تحقيق ‬أهدافها، ‬تؤدي ‬عدة ‬أدوار ‬مهمة ‬في ‬القطاعات ‬الاقتصادية ‬والمؤسسيّة ‬المختلفة؛ ‬حيث ‬تساهم ‬في ‬العمل ‬على ‬نهوض ‬تلك ‬القطاعات ‬بشكل ‬مستمر، ‬وتزويد ‬سوق ‬العمل ‬بأفكار ‬مبتكرة ‬وأعمال ‬جديدة ‬تساهم ‬في ‬تطويره، ‬وجعله ‬يواكب ‬العولمة ‬الاقتصادية، ‬والتكنولوجية ‬الحديثة، ‬واستخدام ‬آلات ‬ومعدات ‬حديثة ‬في ‬سوق ‬العمل ‬المحلي، ‬ما ‬يقود ‬في ‬الأخير ‬إلى ‬توطين ‬التنمية ‬ومن ‬ثم ‬استدامتها.‬

ولريادة ‬الأعمال ‬دورها ‬الفاعل ‬في ‬تنمية ‬الإبداع ‬وإذكاء ‬روح ‬الابتكار؛ ‬إذ ‬تعتمد ‬على ‬تقديم ‬أفكار ‬حداثية؛ ‬جريئة ‬وطموحة، ‬تُساهم ‬بابتكار ‬أساليب ‬استثمار ‬جديدة ‬ونَهْج ‬طُرُق ‬وأعمال ‬لم ‬ينتهجها ‬أو ‬يتعامل ‬بها ‬أحدٌ ‬من ‬قبل.‬

ومما ‬يميِّز ‬روَّاد ‬الأعمال ‬اعتمادهم ‬على ‬التفكير ‬المنظَّم، ‬والمهارات ‬المكتَسبة، ‬وانطلاقهم ‬من ‬خطة ‬مدروسة، ‬بالإضافة ‬إلى ‬تفعيلهم ‬لمهارات ‬التواصل ‬مع ‬الآخرين، ‬وتطبيقها ‬في ‬تعاملاتهم ‬الشخصية ‬ومشروعاتهم ‬الوليدة، ‬ما ‬يمكّنهم ‬من ‬تجاوز ‬العقبات ‬التي ‬تواجههم ‬بطريقة ‬سليمة ‬تُؤتِي ‬ثمارها ‬فيما ‬بعد ‬لتحقيق ‬غاياتهم ‬وأهدافهم.‬

إن ‬ريادة ‬الأعمال ‬لا ‬تُطْلَقُ ‬على ‬أيّ ‬نجاح ‬عادي ‬أو ‬بسيط، ‬وإنما ‬هي ‬مصطلح ‬يعني ‬الحرص ‬على ‬ديمومة ‬النجاح، ‬وتحقيق ‬أقصى ‬درجات ‬التفوق ‬للانتقال ‬بالمؤسسة ‬من ‬طَوْر ‬الاستقرار ‬إلى ‬طَوْر ‬التوسع ‬والانتشار.‬

ورغم ‬الأهمية ‬الكبيرة ‬لريادة ‬الأعمال، ‬وتأثيرها ‬الواسع ‬في ‬حياة ‬الأفراد ‬والبيئات ‬الاجتماعية ‬المختلفة، ‬فلا ‬تزال ‬المجتمعات ‬العربية ‬تعاني ‬من ‬ضعف ‬الإقبال ‬على ‬هذه ‬الأفكار ‬المبدِعَة ‬الخلَّاقة؛ ‬فالعقل ‬الجمعي ‬العربي، ‬في ‬غالبه، ‬لا ‬يزال ‬ينظر ‬إلى ‬المغامرة ‬باعتبارها ‬مقامرةً ‬غير ‬مأمونة ‬النتائج، ‬ومن ‬ثَمَّ ‬يسودُ ‬البحث ‬عن ‬الاستقرار ‬المادي ‬والنفسي، ‬ولو ‬كانا ‬محدودين، ‬في ‬وظائف ‬تقليدية ‬تجنُّباً ‬للمخاطرة ‬التي ‬تنطوي ‬عليها ‬ريادة ‬الأعمال.‬

وحتى ‬تتغير ‬تلك ‬الرؤية ‬المعَرْقِلَة ‬والمعَطِّلَة ‬عن ‬الولوج ‬العربي ‬الفاعل ‬في ‬حقل ‬ريادة ‬الأعمال؛ ‬فالأمر ‬يتطلب ‬استراتيجية ‬مُرَكَّبَة ‬تقوم ‬على ‬مفردات ‬الصبر ‬والقيادة، ‬والمخاطرة، ‬وحسن ‬التكوين ‬والتدبير، ‬ما ‬تحاول ‬الكثير ‬من ‬الحكومات ‬العربية ‬الاضطلاع ‬به ‬في ‬الآونة ‬الأخيرة، ‬عبر ‬تشجيع ‬الشباب ‬على ‬الاستثمار، ‬وإنشاء ‬المشاريع ‬الصغيرة ‬من ‬خلال ‬تقديم ‬التدابير ‬القانونية ‬والتسهيلات ‬الإجرائية ‬والمادية ‬اللازمة.‬


لتحميل المقال بصيغة PDF يمكنك النقر على الرابط التالي:
بين إدارة وريادة الأعمال