السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في اديّا المزامير وفي قلبي المسامير

هو رجل منّ الله عليه بكل شيء تمنيته، الصحة والشباب والوسامة والمال والعلم والجاه، لم ينقصه أبداً ولا شيء، غير (السعادة)، فلم أقابله إلا وهو (ضائق الصدر)، حزين، شاك، غير مستمتع بكل الوسائل التي بين يديه.. لم أفاتحه أو اسأله يوماً عن سبب هذا (المرض النفسي) المزمن في أعماقه، وذلك خوفاً على نفسي من العدوى.. ولكنني فقط كنت أتعجب، ثم ابتعد عنه سريعاً قبل أن يلمسني.

وآخر مرة قابلته فيها كانت قبل عدة ساعات من كتابتي لهذا المقال، كانت كالعادة مقابلة (تغم)، ليس فيها ما يبهج الخاطر.

والواقع أنني بعد أن خرجت من عنده كنت اقدح زناد فكري عن كنه هذه (العنقاء) التي يتهافت على استهلاكها كل مخاليق الأرض، ولا أقول مخاليق السماء، الاّ وهي المضروبة التي يقال لها (السعادة).. فمن أين تأتي؟!، وكيف السبيل إلى مصاهرتها، أو تدجينها، وإذا لزم الأمر حتى إلى اغتصابها؟!

أظن ـ والله أعلم ـ أن السعادة تكون على الدوام أكثر ابتعاداً عن الذين يبحثون عنها بدون قناعة أو اقتناع، وما أكثر ما أقام ذلك التعيس الحفلات وفيها أغلى المآكل والمشارب، وما أكثر ما حضرت أغلبها، وما أكثر ما لبسنا القبعات و(الطراطير)، وما أكثر ما رقصنا وضحكنا ونفخنا المزامير، وما أن تنتهي حفلة من تلك الحفلات إلاّ وتنطفئ الأنوار والشموع ويسود الصمت والظلام، وتبدأ التعاسة عند ذلك الرجل تزداد وتتعاظم.

وقد قرأت عن تجربة لأحد علماء النفس المشهورين، حيث استجوب 500 شاب لتحديد درجة السعادة لديهم، وتوصل إلى الاكتشاف الذي يقول عنه انه غير متوقع، حيث انه يعتقد أن السعادة والصحة تسيران بصفة عامة جنباً إلى جنب، فالسعداء يمرضون اقل في الغالب، ويشفون بسرعة اكبر، بل ويبدو أن لهم عظاماً وأنسجة تلتئم بصورة أفضل، والسعداء غالبا ما يبدو أنهم يتقدمون في السن ببطء أكبر، ولهم لون بشرة أحسن، وجلد أملس، وقدرة احتمال اكبر من زملائهم الذين يعانون القلق والانقباض.

ويؤكد على ما يقوله (داروين) من أن السعيد تكون دورته الدموية أسرع، وبالتالي تجعل عينه أكثر بريقاً، وتجعل اللون أكثر جمالاً، وتجعل الأفكار الحية تمر سريعاً خلال الذهن، وتصبح العواطف أكثر دفئاً. وليسمح لي ذلك العالم النفسي ومعه كذلك داروين، ليسمحا لي أن أخطئ كلامهما جزئياً على الأقل، فذلك المليونير التعيس الذي تحدثت عنه في بداية المقال، رغم انه غير سعيد على الإطلاق، فصحته أكثر من جيدة، ولم أشاهده لا مريضاً ولا حتى مزكوماً، ولم يكسر له يوماً عظم ولم يجرح له جلد، ومنذ أن عرفته قبل عشرة أعوام فشكله وملامحه وقوامه هي هي لم تتغير، ولونه ناصع، وجلده أملس (كالمراية)، وقدرته على احتمال سفاهات أصدقائه غير محدودة، ولا أظن أن هناك دورة دموية أسرع من دورته، لأن عينه ـ ما شاء الله ـ تشع بريقاً ومغناطيسية غير طبيعية، أما لونه (فحدث ولا حرج)، وأفكاره في مجال العمل لا تضاهيها أفكار، واكبر دلالة نجاحه في مشاريعه المتعددة، وعواطفه دافئة على كل من يقابلهم ويتعامل معهم، ومع ذلك فهو غير سعيد.

وفي يوم من الأيام عندما كنت منفرداً معه، قلت له: لماذا لا تجرّب (العشق)؟!، فلم يجبني، وسرح بنظره بعيداً، ثم بكى.. ولا أعلم إلى الآن لماذا بكى؟!، هل لأنه لم يجد المحبوبة يا ترى؟!، أم انه (مش قادر)؟! ـ أي ما عنده حاجة ـ

____ ____

منقــــول