الحلقة السادسة
أخرج الشيخان أنه عليه السلام قال " لقد كان فيمن قبلكم من عباد بني إسرائيل رجل يسمى جريج العابد ظلت بغي تراوده عن نفسه طويلا فاستعصم بربه سبحانه ولما يئست منه ذهبت إلى راع مكنته من نفسها ولما وضعت سئلت عن أبي الصبي فقالت جريج العابد فذهب إليه قومها وأشبعوه ضربا وهدموا عليه صومعته فجاء إلى الصبي وسأله عن أبيه فأنطقه الله سبحانه وقال الراعي فلان فاعتذروا له وعرضوا عليه إعادة بناء صومعته من ذهب فقال لا بل من طين كما كانت ".
ـــــــــ
موضوع الحديث : الثقة في عدل الله وحكمته والطمأنينة الى حق وعده واليقين في نصره .
أما إستخدام الوحي قرآنا وسنة للقصة والمثل وسائر العروض الفنية المساعدة على حسن الفهم والتدبر فهو أمر مبثوث إلى درجة أن القصة محور قرآني مستقل يحتل أكثر القرآن الكريم .
دروس من الحديث :
1 ـ الابتلاء سنة ماضية ليس الصالحون بمنأى عنها بل هم أول ضحاياها وليس ذلك سوى لان الابتلاء في الاسلام للمؤمنين تأهيل ودربة وتحصين وترقية وإلا فلم يبتلى أفضل الخلق طرا الانبياء ثم من كان بهم أولى فأولى وهو لغيرهم إستدراج وعادة ما يكون الابتلاء بالضر تمحيصا وترقية كما يبتلى التلميذ أو الطالب درجة بعد درجة لينال شهادته وكفاءته وعادة ما يكون الابتلاء بالخير إستدراجا ومدا إلا في شأن المؤمن فإنه عادة ما يبتلى بهذا ثم بذاك أو بذاك ثم بهذا أو يزوجهم ضرا وخيرا لحكمة عنده سبحانه . ولو كان الابتلاء لا ينال الصالحين لما تعرض هذا العابد من بني إسرائيل له وهو المعتكف في صومعته ليل نهار صباح مساء بل الصالحون هم أولى الناس بالابتلاء الذي لولاه لما تمحص متمحص فدخل الجنة أو إرتد مرتد فدخل النار .
2 ـ ليس من ضرورة الابتلاء أن يبتلى الانسان بجنس عمله أو صلاحه بل عادة ما يكون العكس تماما هو الغالب إذ أن الجزاء وحده يكون عدلا معدولا من جنس العمل أما الابتلاء فليست له صورة نمطية لذلك إبتلي العابد بأبعد شئ عنه وهو معاقرة البغايا وكان يمكن أن يبتلى ببلية الرياء مثلا أو القول على الله بغير علم وكذلك يبتلى الصالحون دوما بغير ما ينتظر وقوعهم في حبائله وإذا كان ذلك قاسيا حقا عليهم لسرعة إنتشاره في الناس إنتشار النار في الهشيم ولتلطيخه سمعاتهم فإن إرادة الله سبحانه لها حكم أخرى منها إبتلاء الناس بذات الابتلاء هل يصدقون أم يكذبون وهل يسرعون التصديق أم يتثبتون ويتحرون وهل يشمتون أم يتأسفون .فليس للانسان إذن أن يحدد هو قائمة الابتلاءات أو عائلاتها التي يرجوها دون غيرها لو إبتلي إذ من شأن ذلك أن يحوله إلى مالك لا إلى مملوك أو إلى رب لا إلىمربوب أو إلى معبود لا إلى عبد ومن تمام العبودية الرضى بالابتلاء وبنوعه وجنسه ودرجته ومدته وبقالة الناس عنه .
3 ـ إذا رام خصمك أو عدوك رميك بتهمة لحاجة في نفسه يقضيها فلن تعوزه حيلة وإلا لم خلق الكذب والبهتان والافتراء ولاتظنن أن عدوك أو خصمك الحاسد يبعد عنه أن يقذفك بأبعد التهم عنك كأن تكون مسالما فتقذف بالارهاب أو متوسطا فترمى بالتطرف أو عفيفا كحالة جريج فيقال عنك زان وعدوك خبير لا يلقي التهم على عواهنها بل يلفق منها ما يكفي لاقناع الرأي العام الذي عادة ما لا يبحث كثيرا عن أمور لا تهمه أصلا أو ليست من أوليات إهتماماته فلم تكن تعدم البغي رمي جريج بالزنا لو لم تحمل من الراعي وعدوك لو بحث عن زلة منك لوجدها فلست مصفى من إتيان الزلات ولا معصوما والمهم في كل ذلك أن تكون أنت منضبطا لشريعة ربك سبحانه ما إستطعت وبعدها يستوي عندك أن ترمى بذا أو بذاك .
4 ـ حتى تكتمل حلقات الابتلاء واحدة واحدة وتتم إرادة الله سبحانه فيك وفي غيرك لابد من إتمام عدوك لخطته وهي الابتداء بقذفك وتشويه صورتك والانتهاء بضربك وإيجاعك بالقتل والتشريد وسائر الاضرار ولو كان الابتلاء يتوقف عند حد الكلام لما أحجم عن الجهاد في سبيل الله مؤمن ولما تميز طيب من خبيث وليس من مهمة عدوك التثبت قبل ضربك بل من مصلحته عدم التحري لانه يعلم صدقك وإخلاصك وبراءتك وليس لعدوان خصمك حد فلا يعجزه هدم صومعتك وبيتك بعد تعذيبك وضربك إذ يجب أن يعلم كل الناس بمرآهم انه هو الاقوى والاقدروالاصلح للقيادة ولا يتم له ذلك بسوى الامعان في إهانتك ونسف بيتك والافتراء عليك .
5 ـ إذا تعففت أنت عن الحرام سواء كان حرام عرض كحالة جريج أو حرام قول أو فعل أو إعتقاد فلا تظنن أن غيرك بمنأى عن ذلك وتلك هي مقتضيات سنة الزوجية وهل للايمان من معنى إذا إختفى الكفر وهل لهذا من معنى إذا إختفى الايمان وتلك هي حقيقة الابتلاء فما تتأبي أنت عنه بدافع التقوى فإن غيرك يأتيه ويتخذ منه عدوك خولا لرميك بالتخلف وعدم مواكبة العصر ولا تظنن أن كل أولئك الذين يستخدمهم العدو لاذلالك ولتمرير أكذوبته على بينة مما يأتيه عدوك بل عادة ما يكون أغلبهم من الذين تقودهم بطونهم أو فروجهم لاقتراف ما يرضي العدو فلا يدركون أنهم بذلك ييسرون له سبل الافساد في الارض فليكن إصلاحك مرتب الدرجات لا يستوي قولك لهؤلاء وأولئك فضلا عن عملك فلكل سعره ودرجته وزمنه ومقامه .
6 ـ ليس لك من سبيل للانتصار على مشاريع الافساد في الارض سوى سبل الصبر علىما أنت عليه رغم العقبات فلا تظنن أنك حين يسلم الناس من شرك تسلم من شرهم وسبل الثقة في الله سبحانه واليقين في نصره وغلبته والامل والرجاء في عدله وحكمته ذلك أن الله لا يدعك تدعي الايمان حتى يختبرك حلقة بعد حلقة تبدأ عادة بالضر بكل ضروبه فإن صبرت على ذلك عقدا بعد عقد يختبرك بالخير فإن صبرت على الضر بدء وعلى الخير نهاية فإنه لا يحجزك عن الجنة سوى الموت والله تعالى لحكمة يريدها فيك يؤخر عنك إظهار الحق فيما أوقعوك فيه حتى يختبرك هل تظل دوما واثقا فيه على يقين منه صابرا محتسبا أم تكون كمن أعطى قليلا ثم أكدى وفي حالة جريج درس بليغ في أن الله مظهر الحق صغيرا كان أو كبيرا وليس في الحق صغير يوما ما فإن أبطأ عنك اليوم فهو عنده لاجل مسمى ولحكمة وربما لو ظهر في حياتك لكان وبالا عليك تنقلب عليك نفسك مديحا فتخسر وتغرك الدنيا المتلونة لك بمناسبة إنتصارك غيرأن القاعدة المحكمة والسنة الماضية لا تتخلف و هي أن الحق يظهر متلالا يوما ولست تدري أنت بأي طريق يظهر فأحيانا بمعجزة رحمانية كما في حالة جريج أبى الله إلا أن يظهر الحق على يدي صبي لم يجاوز الايام الاولى من عمره وأحيانا تظل السنن الاجتماعية تقلبه عقدا بعد عقد حتى ينبلج فجره فلا تدركه الاجيال المعاصرة ولست أنت الذي تحدد الطريقة التي بها يظهر الحق ويزهق الباطل وإلا لكنت أنت المعبود وربك سبحانه هو العابد فعليك بواجبك إحفظه واصبر عليه وليس هو سوى الايمان فالعمل الصالح فالتواصي بالحق فالصبر فالثقة والامل والدعاء وما عليك بعد ذلك من حساب ربك لك ولغيرك من شئ .
7 ـ يوم يظهر الحق ويحصحص لا يعجز عدوك أن يأتيك بنفسه معتذرا عارضا عليك الدنيا بحذافيرها ولا يهمك يومها إن كان قد تسلل الايمان إليه أم أنها دموع التماسيح فعبادتك يومها هي ذات عبادة حبيبك محمد عليه السلام يوم الفتح " فسبح بحمد ربك واستغفره " و" إذهبوا فأنتم الطلقاء " علما أن ذلك كان مقرونا ب" أما فلانا وفلانا فاقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة " المهم هو حسن التقدير .
من هو جريج عصرنا وصبيه : هو فلسطين المغتصبة والعراق المحتل وملايين من المسلمين والمستضعفين في الارض يسامون الخسف والله حتما مزهق باطلا انتفش ومظهر حقا أزف ولكن ليس على فم صبي بل بآيات باهرات تنصرها فيالق من الشهداء والمجاهدين ودون ذلك صبر ومصابرة واصطبار وجهاد واجتهاد وعذابات وشهادة وإن غدا لناظره قريب .
أما بغي عصرنا الحاضر فليست سوى الصهيونية والصليبية والاستبداد والنفاق وسائر بناتها.
مواقع النشر (المفضلة)