+ الرد على الموضوع
صفحة 11 من 33 الأولىالأولى ... 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 21 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 51 إلى 55 من 162
  1. #51
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4386

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة الحج



    التســميَـــة

    أمر الله الناس بالتقوى

    الاستدلال بخلق الإنسان والنبات على البعث

    المجادلة بالباطل وأضطراب الإيمان وجزاء الصالحين

    ظن الكفار أن الله لن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم

    يوم القيامة يفصل الله تعالى بين الأمم

    جزاء الكفرة والمؤمنين

    المنع عن المسجد الحرام

    تعيين مكان البيت الحرام والمناداة بالحج إليه

    تعظيم حرمات الله وشعائره

    التسمية عند ذبح البدن والأكل والإطعام منها

    الدفاع عن المؤمنين والإذن بالقتال

    الاعتبار بآثار الأمم البائدة

    كون النبي صلى الله عليه وسلم منذراً للناس

    قصة الغرانيق

    مجازاة من هاجر في سبيل الله

    بعضٌ من دلائل قدرته تعالى

    لكل أمة من الأمم شريعة يتعبدون بها

    بعض أباطيل المشركين وتحديهم بخلق ذبابة

    أوامر الله للمؤمنين

    بَين يَديَ السُّورَة

    * سورة الحج مدنية وهي تتناول جوانب التشريع، شأنها شأن سائر السور المدنية التي تُعنى بأمور التشريع، ومع أن السورة مدنية إِلا أنه يغلب عليها جو السور المكية، فموضوع الإِيمان، والتوحيد، والإِنذار والتخويف، وموضوع البعث والجزاء، ومشاهد القيامة وأهوالها، هو البارز في السورة الكريمة، حتى ليكاد يُخيل للقارئ أنها من السور المكية، هذا إلى جانب الموضوعات التشريعية من الإِذن بالقتال، وأحكام الحج والهَدي، والأمر بالجهاد في سبيل الله، وغير ذلك من المواضيع التي هي من خصائص السور المدنية، حتى لقد عدَّها بعض العلماء من السور المشتركة بين المدني والمكي.

    * ابتدأت السورة الكريمة بمطلع عنيف ومخيف، ترتجف له القلوبُ، وتطيش لهوله العقول، ذلكم هو الزلزال العنيف الذي يكون بين يدي الساعة، ويزيد في الهول على خيال الإِنسان، لأنه لا يدك الدور والقصور فحسب، بل يصل هولُه إلى المرضعات الذاهلات عن أطفالهن، والحوامل المسقطات حملهن، والناس الذين يترنحون كأنهم سكرى من الخمر، وما بهم شيء من السكر والشراب، ولكنه الموقف المرهوب، الذي تتزلزل له القلوب {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ..} الآيات.

    * ومن أهوال الساعة إلى أدلة البعث والنشور، تنتقل السورة لتقيم الأدلة والبراهين على البعث بعد الفناء، ثم الانتقال إلى دار الجزاء، لينال الإِنسان جزاءه إن خيراً فخير، وإن شراً فشر.

    * وتحدثت السورة عن بعض مشاهد القيامة، حيث يكون الأبرار في دار النعيم، والفجار في دار الجحيم.

    * ثم انتقلت للحديث عن الحكمة من الإِذن بقتال الكفار، وتناولت الحديث عن القرى المدمرة بسبب ظلمها وطغيانها، وذلك لبيان سنة الله في الدعوات، وتطميناً للمسلمين بالعاقبة التي تنتظر الصابرين.

    * وفي ختام السورة ضربت مثلاً لعبادة المشركين للأصنام، وبيَّنت أن هذه المعبودات أعجز وأحقر من أن تخلق ذبابة فضلاً عن أن تخلق إنساناً سميعاً بصيراً، ودعت إلى اتباع ملة الخليل إبراهيم كهف الإِيمان، وركن التوحيد.

    التســميَـــة:

    سميت "سورة الحج" تخليداً لدعوة الخليل إبراهيم عليه السلام،حين انتهى من بناء البيت العتيق ونادى الناس لحج بيت الله الحرام، فتواضعت الجبال حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع نداؤه في الأصلاب والأرحام وأجابوا النداء "لبيك اللهم لبيك".

    أمر الله الناس بالتقوى

    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ(1)يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ(2)وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ(3)كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ(4) }

    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكمْ } خطاب لجميع البشر أي خافوا عذاب الله وأطيعوه بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وجماع القول في التقوى هو: طاعةُ الله واجتناب محارمه ولهذا قال بعض العلماء: التقوى أن لا يراك حيث نهاك، وأن لا يفقدك حيث أمرك {إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} تعليلٌ للأمر بالتقوى أي إن الزلزال الذي يكون بين يدي الساعة أمر عظيم وخطب جسيم لا يكاد يتصور لهوله {يَوْمَ تَرَوْنَهَا} أي في ذلك اليوم العصيب الذي تشاهدونه فيه تلك الزلزلة وترون هول مطلعها {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ} أي تغفل وتذهل - مع الدهشة وشدة الفزع - كل أنثى مرضعة عن رضيعها، إذ تنزع ثديها من فم طفلها وتنشغل - لهول ما ترى - عن أحب الناس إليها وهو طفلها الرضيع {وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى} أي تراهم كأنهم سكارى يترنحون ترنح السكران من هول ما يدركهم من الخوف والفزع {وَمَا هُمْ بِسُكَارَى} أي وما هم على الحقيقة بسكارى من الخمر {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ} استدراك لما دهاهم أي ليسوا بسكارى ولكن أهوال الساعة وشدائدها أطارت عقولهم وسلبت أفكارهم فهم من خوف عذاب الله مشفقون {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ} أي وبعضٌ من الناس من يخاصم وينازع في قدرة الله وصفاته بغير دليل ولا برهان ويقول ما لا خير فيه من الأباطيل قال المفسرون: نزلت في النضر بن الحارث وكان جدلاً يقول الملائكة بناتُ الله، والقرآن أساطير الأولين، ولا بعث بعد الموت قال أبو السعود: والآية عامة له ولأضرابه من العُتاة المتمردين {وَيَتَّبعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} أي يطيع ويقتدي بكل عاتٍ متمرد كرؤساء الكفر الصادّين عن الحق {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاهُ} أي حكم الله وقضى أنه من تولى الشيطان واتخذه ولياً {فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} أي فأن الشيطان يغويه ويسوقه إلى عذاب جهنم المستعرة، وعبر بلفظ {وَيَهْدِيهِ} على سبيل التهكم.

    الاستدلال بخلق الإنسان والنبات على البعث

    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ(5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(6)وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ(7)}

    ولما ذكر تعالى المجادلين في قدرة الله، المنكرين للبعث والنشور ذكر دليلين واضحين على إمكان البعث أحدهما في الإِنسان، والثاني في النبات فقال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي إِن شككتم في قدرتنا على إحيائكم بعد موتكم فانظروا في أصل خلقكم ليزول ريبكم فقد خلقنا أصلكم “آدم” من التراب، ومن قدر على خلقكم أول مرة قادر على أن يعيدكم ثاني مرة، والذي قدر على إخراج النبات من الأرض، بعد موتها قادر على أن يخرجكم من قبوركم {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أي ثم جعلنا نسله من المني الذي ينطف من صلب الرجل قال القرطبي: والنطف: القطر سمي نطفة لقلته: {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} وهو الدم الجامد الذي يشبه العلقة التي تظهر حول الأحواض والمياه {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} أي من قطعة من لحم مقدار ما يمضغ {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} أي مستبينة الخلق مصورة وغير مصورة قال ابن زيد: المخلقة التي خلق الله فيها الرأس واليدين والرجلين، وغير مخلقة التي لم يخلق فيها شيء {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} أي خلقناكم على هذا النموذج البديع لنبين لكم أسرار قدرتنا وحكمتنا قال الزمخشري: أي لنبين لكم بهذا التدريج قدرتنا، وأن من قدر على خلق البشر من تراب أولاً، ثم من نطفة ثانياً، ولا تناسب بين التراب والماء، وقدر على أن يجعل النطفة علقة وبينهما تباين ظاهر، ثم يجعل العلقة مضغة والمضغة عظاماً، قادر على إعادة ما بدأه، بل هذا أدخل في القدرة وأهون في القياس {وَنُقِرُّ فِي الأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} أي ونثبت من الحمل في أرحام الأمهات من أردنا أن نُقرَّه فيها حتى يتكامل خلقه {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي إلى زمن معين هو وقت الوضع {ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي ثم نخرج هذا الجنين طفلاً ضعيفاً في بدنه وسمعه وبصره وحواسه، ثم نعطيه القوة شيئاً فشيئاً {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} أي كمال قوتكم وعقلكم {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى} أي ومنكم من يموت في ريعان شبابه {وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ} أي ومنكم من يعمر حتى يصل إلى الشيخوخة والهرم وضعف القوة والخرف {لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا} أي ليعود إلى ما كان عليه في أوان الطفولة من ضعف البينة، وسخافة العقل، وقلة الفهم، فينسى ما علمه وينكر ما عرفه ويعجز عما قدر عليه كما قال تعالى {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ} {وَتَرَى الأَرْضَ هَامِدَةً} هذه هي الحجة الثانية على إمكان البعث أي وترى أيها المخاطب أو أيها المجادل الأرض يابسةً ميتة لا نبات فيها {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي فإذا أنزلنا عليها المطر تحركت بالنبات وانتفخت وزادت وحييت بعد موتها {وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ} أي وأخرجت من كل صنفٍ عجيب ما يسر الناظر ببهائه ورونقه {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي ذلك المذكور من خلق الإِنسان والنبات لتعلموا أن الله هو الخالق المدبر وأن ما في الكون من آثار قدرته شاهد بأن الله هو الحق {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} أي وبأنه القادر على إحياء الموتى كما أحيا الأرض الميتة بالنبات {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي وبأنه قادر على ما أراد { وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} أي وليعلموا أن الساعة كائنة لا شك فيها ولا مرية {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي يحيي الأموات ويعيدهم بعدما صاروا رميماً، ويبعثهم أحياء إلى موقف الحساب.

    المجادلة بالباطل واضطراب الإيمان وجزاء الصالحين

    {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ(8)ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ(9)ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ(10)وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(11)يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ(12)يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ(13)إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ(14) }.

    {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ} أي يجادل في شأنه تعالى من غير تمسك بعلمٍ صحيح يهدي إلى المعرفة ولا كتابٍ نير بيّن الحجة بل بمجرد الرأي والهوى قال ابن عطية: كرر هذه على وجه التوبيخ فكأنه يقول: هذه الأمثال في غاية الوضوح والبيان ومن الناس مع ذلك من يجادل في الله بغير دليل ولا برهان {ثَانِيَ عِطْفِهِ} أي معرضاً عن الحق لاوياً عنقه كفراً قال ابن عباس: مستكبراً عن الحق إذا دُعي إليه قال الزمخشري: وثنيُ العطف عبارة عن الكِبر والخيلاء فهو كتصعير الخد {لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي ليصُدَّ الناس عن دين الله وشرعه {لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ} أي له هوان وذل في الحياة الدنيا {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي ونذيقه في الآخرة النار المحرقة {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} أي ذلك الخزي والعذاب بسبب ما اقترفته من الكفر والضلال {وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} أي وأن الله عادل لا يظلم أحداً من خلقه {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} أي ومن الناس من يعبد الله على جانب وطرفٍ من الدين، وهذا تمثيل للمذبذبين الذين لا يعبدون الله عن ثقة ويقين بل عن قلق واضطراب كالذي يكون على طرف من الجيش فان أحسَّ بظفر أو غنيمة استقر وإلا فرّ قال الحسن: هو المنافق يعبده بلسانه دون قلبه وقال ابن عباس: كان الرجل يقدم المدينة فإن ولدت امرأته غلاماً وأنتجت خيله قال: هذا دين صالح، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال: هذا دين سوء {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} أي فإن ناله خير في حياته من صحةٍ ورخاء أقام على دينه {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} أي وإن ناله شيء يفتتن به من مكروه وبلاء ارتد فرجع إلى ما كان عليه من الكفر {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ} أي أضاع دنياه وآخرته فشقي الشقاوة الأبدية {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي ذلك هو الخسران الواضح الذي لا خسران مثله {يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَضُرُّهُ وَمَا لا يَنْفَعُهُ} أي يعبد الصنم الذي لا ينفع ولا يضر {ذَلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ} أي ذلك هو نهاية الضلال الذي لا ضلال بعده، شبه حالهم بحال من أبعد في التيه ضالاً عن الطريق {يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} أي يعبد وثناً أو صنماً ضره في الدنيا بالخزي والذل أسرع من نفعه الذي يتوقعه بعبادته وهو الشفاعة له يوم القيامة، وقيل: الآية على الفرض والتقدير: أي لو سلمنا نفعه أو ضره لكان ضره أكثر من نفعه، والآية سيقت تسفيهاً وتجهيلاً لمن يعتقد أنه ينتفع بعبادة غير الله حين يستشفع بها {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} أي بئس الناصر وبئس القريب والصاحب {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} لما ذكر حال المشركين وحال المنافقين المذبذبين ذكر حال المؤمنين في الآخرة والمعنى إن الله يدخل المؤمنين الصادقين جنات تجري من تحت قصورها وغرفها أنهار اللبن والخمر والعسل وهم في روضات الجنات يحبرون {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} أي يثيب من يشاء ويعذب من يشاء لا معقب لحكمه، فللمؤمنين الجنة بفضله، وللكافرين النار بعدله. فيتلقى جزاءه عدلاً، ولا ظلم في الحساب.

    ظن الكفار أن الله لن ينصر رسوله صلى الله عليه وسلم

    { مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ(15)وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ ءاياتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ(16)}.

    {مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي من كان يظن أن لن ينصر الله رسوله صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لِيَقْطَعْ} أي فليمدد بحبل إلى السقف ثم ليقطع عنقه وليختنق به {فَلْيَنظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ} أي فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيظ؟ قال ابن كثير: وهذا القول قول ابن عباس وهو أظهر في المعنى وأبلغ في التهكم فإن المعنى: من كان يظنُّ أنَّ الله ليس بناصر محمداً وكتابه ودينه فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظة فإن الله ناصره لا محالة {وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ ءاياتٍ بَيِّنَاتٍ} أي ومثل ذلك الإِنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة أنزلنا القرآن الكريم كله ءايات واضحات الدلالة على معانيها الرائقة {وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} أي وأن الله هو الهادي لا هادي سواه يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم.

    يوم القيامة يفصل الله تعالى بين الأمم

    {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(17)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ(18) }.

    {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أي صدقوا الله ورسوله وهم أتباع محمد عليه السلام {وَالَّذِينَ هَادُوا} أي اليهود وهم المنتسبون إلى موسى عليه السلام {وَالصَّابِئِينَ} هم قوم يعبدون النجوم {وَالنَّصَارَى} هم المنتسبون إلى موسى عليه السلام {وَالْمَجُوسَ} هم عبدة النيران {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} هم العرب عبدة الأوثان { إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يقضي بين المؤمنين وبين الفرق الخمسة الضالة فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي شاهد على أعمال خلقه عالم بكل ما يعملون {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} أي يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً، الملائكة في أقطار السماوات، والإِنس والجن وسائر المخلوقات في العالم الأرضي {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} أي وهذه الأجرام العظمى مع سائر الجبال والأشجار والحيوانات تسجد لعظمته سجود انقياد وخضوع، قال ابن كثير: وخص الشمس والقمر والنجوم بالذكر لأنها قد عبدت من دون الله، فبيّن أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة. والغرض من الآية: بيان عظمته تعالى وانفراده بألوهيته وربوبيته بانقياد هذه العوالم العظمى له وجريها على وفق أمره وتدبيره {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} أي ويسجد له كثير من الناس سجود طاعة وعبادة {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} أي وكثير من الناس وجب له العذاب بكفره واستعصائه {وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} أي من أهانه الله بالشقاء والكفر فلا يقدر أحد على دفع الهوان عنه {إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} أي يعذب ويرحم، ويعز ويذل، ويُغني ويُفقِر، ولا اعتراض لأحد عليه.

    جزاء الكفرة والمؤمنين

    {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ(19)يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ(20)وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ(21)كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ(22)إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(23)وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ(24) }.

    المنَـــاسَبــَة:

    لما ذكر تعالى أهل السعادة وأهل الشقاوة، ذكر هنا ما دار بينهم من الخصومة في دينه وعبادته، ثم ذكر عظم حرمة البيت العتيق وبناء الخليل له، وعظم كفر هؤلاء المشركين الذين يصدون الناس عن سبيل الله والمسجد الحرام.

    {هَذَانِ خَصْمَانِ} أي هذان فريقان مختصمان فريق المؤمنين المتقين، وفريق الكفرة المجرمين {اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} أي اختلفوا وتنازعوا من أجل الله ودينه قال مجاهد: هم المؤمنون والكافرون، فالمؤمنون يريدون نصرة دين الله، والكافرون يريدون إطفاء نور الله {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} أي فصلت لهم ثيابٌ من نار على قدر أجسادهم ليلبسوها إذا صاروا إلى النار قال القرطبي: شبهت النار بالثياب لأنها لباس لهم كالثياب ومعنى {قُطِّعَتْ} خيطت وسويت، وذكر بلفظ الماضي لأن الموعود منه كالواقع المحقق {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمْ الْحَمِيمُ} أي يصب على رؤوسهم الماء الحار المغلي بنار جهنم {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ} أي يذاب به ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء مع الجلود قال ابن عباس: لو سقطت منه قطرة على جبال الدنيا لأذابتها وفي الحديث (إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان) قال الإِمام الفخر الرازي: والغرض أن الحميم إذا صب على رؤوسهم كان تأثيره في الباطن مثل تأثيره في الظاهر، فيذيب أمعاءهم وأحشاءهم كما يذيب جلودهم وهو أبلغ من قوله {وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ} {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} أي ولهم مطارق وسياط من الحديد يضربون بها ويدفعون وفي الحديث (لو وُضِعَت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلوها). {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا} أي كلما أراد أهل النار الخروج من النار من شدة غمها ردوا إلى أماكنهم فيها قال الحسن: إن النار تضربهم بلهبها فترفعهم حتى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بالمقامع فهووا فيها سبعين خريفاً {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} أي يقال لهم: ذوقوا عذاب جهنم المحرق الذي كنتم به تكذبون، ولما ذكر تعالى ما أعد للكفار من العذاب والدمار، ذكر ما أعده للمؤمنين من الثواب والنعيم فقال {إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي يدخل المؤمنين الصالحين في الآخرة جنات تجري من تحت أشجارها وقصورها الأنهار العظيمة المتنوعة {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ} أي تلبسهم الملائكة في الجنة الأساور الذهبية كحلية وزينة يتزينون بها {وَلُؤْلُؤًا} أي ويحلون باللؤلؤ كذلك إكراماً من الله لهم {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي ولباسهم في الجنة الحرير، ولكنه أعلى وأرفع مما في الدنيا بكثير {وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ} أي أرشدوا إلى الكلام الطيب والقول النافع إذ ليس في الجنة لغوٌ ولا كذب {وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ} أي إلى صراط الله وهو الجنة دار المتقين.

    المنع عن المسجد الحرام

    {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ(25) }

    ثم عدد تعالى بعض جرائم المشركين فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} أي جحدوا بما جاء به محمد عليه السلام ويمنعون المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام لأداء المناسك فيه قال القرطبي: وذلك حين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المسجد الحرام عام الحديبية، وإنما قال {وَيَصُدُّونَ} بصيغة المضارع ليدل على الاستمرار فكأن المعنى: إن الذين كفروا من شأنهم الصد عن سبيل الله ونظيره قوله {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ} {الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} أي الذي جعلناه منسكاً ومتعبداً للناس جميعاً سواء فيه المقيم الحاضر، والذي يأتيه من خارج البلاد {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} أي ومن يرد فيه سوءاً أو ميلاً عن القصد أو يهم فيه بمعصية {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} أي نذقه أشد أنواع العذاب الموجع قال ابن مسعود: لو أن رجلاً بِعدَنَ همَّ بأن يعمل سيئة عند البيت أذاقه الله عذاباً أليماً وقال مجاهد: تُضاعف السيئات فيه كما تضاعف الحسنات

    تعيين مكان البيت الحرام والمناداة بالحج إليه

    {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ(26)وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ(27)لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ(28)ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ(29)}.

    {وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أي واذكر حين أرشدنا إبراهيم وألهمناه مكان البيت {أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} أي أمرناه ببناء البيت العتيق خالصاً لله قال ابن كثير: أي ابنه على اسمي وحدي {وَطَهِّرْ بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} أي طهر بيتي من الأوثان والأقذار لمن يعبد الله فيه بالطواف والصلاة قال القرطبي: والقائمون هم المصلون، ذكر تعالى من أركان الصلاة وأعظمها وهو القيام والركوع والسجود {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أي ونادِ في الناس داعياً لهم لحج بيت الله العتيق قال ابن عباس: لما فرغ إبراهيم من بناء البيت قيل له: أذن في الناس بالحج، قال يا رب: وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي الإِبلاغ فصعد إبراهيم على جبل أبي قبيس وصاح: يا أيها الناس إنّ الله قد أمركم بحج هذا البيت ليثيبكم به الجنة، ويجيركم من عذاب النار فحجوا، فأجابه من كان في أصلاب الرجال، وأرحام النساء: لبيك اللهم لبيك {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي يأتوك مشاة على أقدامهم أو ركباناً على كل جمل هزيل قد أتعبه وأنهكه بعد المسافة {يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} أي تأتي الإِبل الضامرة من كل طريق بعيد قال القرطبي: ورد الضمير إلى الإِبل {يَأْتِينَ} تكرمةً لها لقصدها الحج مع أربابها كما قال {وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا} في خيل الجهاد تكرمةً لها حين سعت في سبيل الله {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} أي ليحضروا منافع لهم كثيرة دينية ودنيوية قال الفجر الرازي: وإنما نكَّر المنافع لأنه أراد منافع مختصة بهذه العبادة دينية ودنيوية لا توجد في غيرها من العبادات {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} أي ويذكروا عند ذبح الهدايا والضحايا اسم الله في أيام النحر شكراً لله على نعمائه وعلى ما رزقهم وملكهم من الأنعام وهي: الإِبل والبقر والغنم والمعز قال الرازي: وفيه تنبيه على أن الغرض الأصلي ذكر اسمه تعالى عند الذبح وأن يخالف المشركين في ذلك فإنهم كانوا يذبحونها للنصب والأوثان {فَكُلُوا مِنْهَا} أي كلوا من لحوم الأضاحي {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} أي أطعموا منها البائس الذي أصابه بؤس وشدة، والفقير الذي أضعفه الإِعسار قال ابن عباس: البائس الذي ظهر بؤسه في ثيابه وفي وجهه، والفقير الذي لا يكون كذلك، ثيابه نقية ووجهه وجه غني {ثُمَّ لِيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} أي ثم بعد الذبح ليزيلوا وسخهم الذي أصابهم بالإِحرام وذلك بالحلق والتقصير وإزالة الشعث وقص الشارب والأظافر {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} أي ما أوجبوه على أنفسهم بالنذر طاعةً لله {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي ليطوفوا حول البيت العتيق طواف الإِفاضة وهو طواف الزيارة الذي به تمام التحلل، والعتيق: القديم الذي سمي به لأنه بيت وضع للناس.

    تعظيم حرمات الله وشعائره

    {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ(30)حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ(31)ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ(32)لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ(33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ(34)الَّذِي نَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(35)}.

    {ذَلِكَ} أي الأمر والشأن ذلك قال الزمخشري: كما يقدم الكاتب جملة من كتابه في بعض المعاني ثم إذا أراد الخوض في معنى آخر قال: هذا وقد كان كذا {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ} أي من يعظم ما شرعه الله من أحكام الدين ويجتنب المعاصي والمحارم {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي ذلك التعظيم خير له ثواباً في الآخرة {وَأُحِلَّتْ لَكُمْ الأَنْعَامُ إِلا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي أحللنا لكم جميع الأنعام إلا ما استثني في الكتاب المجيد كالميتة والمنخنقة وما ذبح لغير الله وغير ذلك {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ} أي اجتنبوا الرجس الذي هو الأوثان كما تجتنب الأنجاس، وهو غاية المبالغة في النهي عن عبادتها وتعظيمها {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} أي اجتنبوا شهادة الزور {حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} أي مائلين إلى الحق مسلمين لله غير مشركين به أحداً {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} تمثيل للمشرك في ضلاله وهلاكه أي ومن أشرك بالله فكأنما سقط من السماء فتخطفه الطير وتمزقه كل ممزق {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أي أو عصفت به الريح حتى هوت به في بعض المهالك البعيدة {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أي ذلك ما وضحه الله لكم من الأحكام والأمثال ومن يعظم أمور الدين ومنها أعمالُ الحج والأضاحي والهدايا { فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ} أي فإن تعظيمها من أفعال المتقين لله قال القرطبي: أضاف التقوى إلى القلوب لأن حقيقة التقوى في القلب وفي الحديث (التقوى ههنا) وأشار إلى صدره {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي لكم في الهدايا منافع كثيرة من الدر والنسل والركوب إلى وقت نحرها {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي ثم مكان ذبحها في الحرم بمكة أو منى، وخص البيت بالذكر لأنه أشرف الحرم كقوله تعالى {هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ} {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا} أي شرعنا لكل أُمة من الأمم السابقة من عهد إبراهيم مكاناً للذبح تقرباً لله قال ابن كثير: يخبر تعالى أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ} أي أمرناهم عند الذبح أن يذكروا اسم الله وأن يذبحوا لوجهه تعالى {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ} أي شكراً لله على ما أنعم به عليهم من بهيمة الأنعام من الإِبل والبقر والغنم، بين تعالى أنه يجب أن يكون الذبح لوجهه تعالى وعلى اسمه لأنه هو الخالق الرازق لا كما كان المشركون يذبحون للأوثان {فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي فربكم أيها الناس ومعبودكم إله واحد لا شريك له {فَلَهُ أَسْلِمُوا} أي فأخلصوا له العبادة واستسلموا لحكمه وطاعته {وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ} أي بشر المطيعين المتواضعين الخاشعين بجنات النعيم، ثم وصف تعالى المخبتين بأربع صفات فقال {الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} أي إذا ذكر الله خافت وارتعشت لذكره قلوبهم لإِشراق أشعة جلاله عليهم فكأنهم بين يديه واقفون، ولجلاله وعظمته مشاهدون {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ} أي يصبرون في السراء والضراء على الأمراض والمصائب والمحن وسائر المكاره {وَالْمُقِيمِي الصَّلاةِ} أي الذين يؤدونها في أوقاتها مستقيمةً كاملة مع الخشوع والخضوع {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي ومن بعض الذي رزقناهم من فضلنا ينفقون في وجوه الخيرات.

     
  2. #52
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4386

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    التسمية عند ذبح البدن والأكل والإطعام منها

    { وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(36)لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ(37)}.

    {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} أي والإِبل السمينة - سميت بدناً لبدانتها وضخامة أجسامها - جعلناها من أعلام الشريعة التي شرعها الله لعباده قال ابن كثير: وكونها من شعائر الدين أنها تُهدى إلى بيته الحرام بل هي أفضل ما يهدى {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} قال ابن عباس: نفعٌ في الدنيا وأجرٌ في الآخرة {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} أي اذكروا عند ذبحها اسم الله الجليل عليها حال كونها صواف أي قائمات قد صففن أيديهن وأرجلهن {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أي فإذا سقطت على الأرض بعد نحرها، وهو كنايةُ عن الموت {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} أي كلوا من هذه الهدايا وأطعموا القانع أي المتعفف والمعتر أي السائل قاله ابن عباس، وقال الرازي: الأقرب أن القانع هو الراضي بما يدفع إليه من غير سؤال وإلحاح، والمعتر هو الذي يتعرض ويطلب ويعتريهم حالاً بعد حال {كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي مثل ذلك التسخير البديع جعلناها منقادة لكم مع ضخامة أجسامها لكي تشكروا الله على إنعامه {لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا} أي لن يصل إليه تعالى شيء من لحومها ولا دمائها {وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ} أي ولكن يصل إليه التقوى منكم بامتثالكم أوامره وطلبكم رضوانه {كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي كرره للتأكيد أي كذلك ذللها لكم وجعلها منقادة لرغبتكم لتكبروا الله على ما أرشدكم إليه من أحكام دينه {وَبَشِّرْ الْمُحْسِنِينَ} أي بشر المحسنين في أعمالهم بالسعادة والفوز بدار النعيم.

    الدفاع عن المؤمنين والإذن بالقتال

    {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ(38)أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ(39)الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(40) الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ(41)}.

    المنَـــاسَبــَة:

    لما بيَّن تعالى مناسك الحج وما فيه من منافع الدنيا والآخرة، وذكر أن الكفار صدوا المؤمنين عن دين الله وعن دخول مكة، بيَّن هنا أنه يدافع عن المؤمنين وذكر الحكمة من مشروعية القتال ومنها الدفاع عن المقدسات، وحماية المستضعفين، وتمكين المؤمنين من عبادة الله تعالى.

    {إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا} أي ينصر المؤمنين ويدفع عنهم بأس المشركين، وهذه بشارة للمؤمنين بإعلائهم على الكفار وكفِّ كيدهم عنهم {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ} أي إنه تعالى يبغض كل خائنٍ للأمانة جاحدٍ نعمة الله {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} فيه محذوف تقديره: أُذن لهم في القتال بسبب أنهم ظُلموا قال ابن عباس: هذه أول آيةٍ نزلت في الجهاد قال المفسرون: هم أصحابُ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مشركو مكة يؤذونهم أذى شديداً وكانوا يأتون رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مضروب ومشجوج ويتظلمون إليه فيقول لهم: اصبروا فإني لم أؤمر بقتالهم حتى هاجروا فأُنزلت هذه الآية وهي أول آيةٍ أُذن فيها بالقتال بعدما نهي عنه في أكثر من سبعين آية {وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} أي هو تعالى قادر على نصر عباده من غير قتال ولكنه يريد منهم أن يبذلوا جهدهم في طاعته لينالوا أجر الشهداء {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ} أي أُخرجوا من أوطانهم ظلماً وعدواناً بغير سبب موجب للإِخراج قال ابن عباس: يعني محمداً وأصحابه أُخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق {إِلا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ} أي ما كان لهم إساءة ولا ذنب إلا أنهم وحدوا الله ولم يشركوا به أحداً {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ} أي لولا ما شرعه الله من الجهاد وقتال الأعداء لاستولى أهل الشرك على أهل الأديان وتعطلت الشعائر ولكنه تعالى دفع شرهم بأن أمر بقتالهم {لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ} أي لتهدمت معابد الرهبان وكنائس النصارى {وَصَلَوَاتٌ} أي كنائس اليهود { وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} أي ومساجد المسلمين التي يعبد فيها الله بكرة وأصيلاً، ومعنى الآية أنه لولا كفُّه تعالى المشركين بالمسلمين، وإذنه بمجاهدة المسلمين للكافرين لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمانهم فهدموا موضع عباداتهم، ولم يتركوا للنصارى بيعاً، ولا لرهبانهم صوامع، ولا لليهود كنائس، ولا للمسلمين مساجد، ولغلب المشركون أهل الأديان، وإنما خص المساجد بهذا الوصف { يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا} تعظيماً لها وتشريفاً لأنها أماكن العبادة الحقة { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنصُرُهُ } قسمٌ أي والله سينصر الله من ينصر دينه ورسوله {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي أنه تعالى قادر لا يعجزه شيء، عزيزٌ لا يُقهر ولا يغلب قال ابن كثير: وصف نفسه بالقوة والعزة، فبقوته خلق كل شيء، وبعزته لا يقهره قاهر ولا يغلبه غالب {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ} قال ابن عباس: هم المهاجرون والأنصار والتابعون بإحسان، والمعنى: هؤلاء الذين يستحقون نصرة الله هم الذين إن جعلنا لهم سلطاناً في الأرض وتملكاً واستعلاء عبدوا الله وحافظوا على الصلاة وأداء الزكاة {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} أي دعوا إلى الخير ونهوا عن الشر {وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ} أي مرجع الأمور إلى حكمه تعالى وتقديره.

    الاعتبار بآثار الأممالبائدة

    {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ(42)وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ(43)وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(44)فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ(45)أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ(46)وَيَسْتَعْج ِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ(47)وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ(48)}.

    {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ} تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ووعيد للمشركين أي إن كذبك أهل مكة فاعلم أنك لست أول رسول يكذبه قومه فقد كان قبلك أنبياء كُذبوا فصبروا إلى أن أهلك الله المكذبين، فاقتد بهم واصبر {وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ } أي وكذب كذلك قوم إبراهيم وقوم لوط وقوم شعيب {وَكُذِّبَ مُوسَى} أي وكذب موسى أيضاً مع وضوح ءاياته، وعظم معجزاته فما ظنك بغيره؟ {فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ} أي أمهلتهم ثم أخذتهم بالعقوبة {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} استفهام تقريري أي فكيف كان إنكاري عليهم بالعذاب ألم يكن أليماً؟ ألم أبدلهم بالنعمة نقمة، وبالكثرة قلة، وبالعمارة خراباً ؟ فكذلك أفعل بالمكذبين من أهل مكة {فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا} أي كم من قرية أهلكنا أهلها بالعذاب الشامل {وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي وهي مشركة كافرة {فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا} أي خرت سقوفها على الأرض ثم تهدمت حيطانها فسقطت فوق السقوف فهي مخربة مهدمة {وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ} أي وكم من بئر عطلت فتركت لا يستقى منها لهلاك أهلها {وَقَصْرٍ مَشِيدٍ} أي وكم من قصر مرفوع البنيان أصبح خالياً بلا ساكن، أليس في ذلك عبرة للمعتبر؟ {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا} أي أفلم يسافر أهل مكة ليشاهدوا مصارع الكفار فيعتبروا بما حل بهم من النكال والدمار!! وهلاّ عقلوا ما يجب أن يُعقل من الإيمان والتوحيد! {أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا} أي أو تكون لهم آذانٌ يسمعون بها المواعظ والزواجر {فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} أي ليس العمى على الحقيقة عمى البصر، وإنما العمى عمى البصيرة فمن كان أعمى القلب لا يعتبر ولا يتدبر، وذِكرُ الصدور للتأكيد ونفي توهم المجاز {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} أي ويستعجلك يا محمد هؤلاء المشركون بالعذاب استهزاءً، وإن ذلك واقع لا محالة، لكن لوقوعه أجل لا يتعداه لأنه تعالى لا يخلف الميعاد {وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} أي هو تعالى حليم لا يعجل فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حلمه فلِم إذاً يستبعدونه ويستعجلون العذاب؟ ولهذا قال بعد ذلك {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ} أي وكثير من أهل قرية أخرت إهلاكهم وأمهلتهم مع استمرارهم على الظلم فاغتروا بذلك التأخير {ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ} أي ثم أخذتهم بالعذاب بعد طول الإمهال وإليَّ المرجع والمآب قال أبو حيّان: لما كان تعالى قد أمهل قريشاً حتى استعجلت بالعذاب ذكر الآية تنبيهاً على أن السابقين أُمهلوا ثم أُهلكوا وأن قريشاً وإن أملى تعالى لهم وأمهلهم فإنه لا بد من عذابهم فلا يفرحوا بتأخير العذاب عنهم.

    كون النبي صلى الله عليه وسلم منذراً للناس

    { قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ(49)فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(50)وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي ءاياتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ(51)}.

    {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المستعجلين للعذاب إنما أنا منذر لكم أخوفكم عذاب الله وأنذركم إنذاراً بيناً من غير أن يكون لي دخلٌ في تعجيل العذاب أو تأخيره {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي فالمؤمنون الصادقون الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح لهم عند ربهم مغفرة ورزق كريم في جنان النعيم قال الرازي: بين سبحانه أن من جمع بينهما فالله تعالى يجمع له بين المغفرة والرزق الكريم وقال القرطبي: إذا سمعت الله تعالى يقول {وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} فاعلم أنه الجنة {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي ءاياتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي كذبوا بآياتنا وسعوا في إبطالها مغالبين مشاقين يريدون إطفاء نور الله {أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أي فأولئك هم أصحاب النار الحارة الموجعة، الشديد عذابها ونكالها، شبههم من حيث الدوام بالصاحب قال الرازي: فإن قيل: إنه عليه السلام بشر المؤمنين أولاً، وأنذر الكافرين ثانياً في هذه الآية فكان القياس أن يقال {إنما أنا لكم بشير ونذير} والجواب أن الكلام مسوق إلى المشركين وهم الذين استعجلوا العذاب و{أَيُّهَا النَّاسُ } نداءً لهم، وإنما ذكر المؤمنين وثوابهم زيادة لغيظهم وإيذائهم.

    قصة الغرانيق

    {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ إِلا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءاياتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(52)لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(53)وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(54)وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ(55)الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(56)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ(57)}.

    {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلا نَبِيٍّ} أي وما أرسلنا قبلك يا محمداً رسولاً ولا نبياً {إِلا إِذَا تَمَنَّى} أي إلا إذا أحبَّ شيئاً وهوته نفسه {أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ} أي ألقى الشيطان فيما يشتهيه ويتمناه بعض الوساوس التي توجب اشتغاله بالدنيا كما قال عليه السلام (إنه ليُغان على قلبي فأستغفر الله في اليوم سبعين مرة ) قال الفراء: تمنى إذا حدَّث نفسه وفي البخاري: قال ابن عباس: "إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته" إلا إذا حدَّث ألقى الشيطان في حديثه فيبطل الله ما يلقي الشيطان ويحكم الله ءاياته، ويقال: أمنيته: قراءته قال النحاس: وهذا من أحسن ما قيل في الآية وأجله، ومعنى الآية: وما أرسلنا رسولاً ولا نبياً فحدث نفسه بشيء وتمنى لأمته الهداية والإيمان إلا ألقى الشيطان الوسواس والعقبات في طريقه بتزيين الكفر لقومه وإلقائه في نفوسهم مخالفةً لأمر الرسول وكأنَّ الآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم تقول له: لا تحزن يا محمد على معاداة قومك لك فهذه سنة المرسلين. هذا أصح ما قيل في تفسير الآية وهو اختيار المحققين من المفسرين. وأما قصة الغرانيق التي أولع بذكرها بعض المفسرين فهي باطلة مردودة، وهي أن الرسول عليه السلام قرأ سورة {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} بمحضر من المشركين والمسلمين فلما بلغ {أَفَرَأَيْتُمْ اللاتَ وَالْعُزَّى * وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الأُخْرَى} ألقى الشيطان على لسانه "تلك الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى" ففرح بذلك المشركون ولما انتهى من السورة سجد وسجد معه المشركون إلخ قال ابن العربي: إن جميع ما ورد في هذه القصة باطل لا أصل له وقال ابن إسحاق: هي من وضع الزنادقة وقال البيهقي: رواتها مطعون فيهم وقال ابن كثير: ذكر كثير من المفسرين قصة الغرانيق وهي روايات مرسلات ومنقطعات لا تصح وقال القاضي عياض: هذا حديث لم يخرجه أحد من أهل الصحة ولا رواه أحد بسند متصل سليم، وإنما أُولع به وبمثله المفسرون والمؤرخون، المولعون بكل غريب، المتلقفون من الصحف كل صحيح وسقيم. أقول: مما يدل على بطلان القصة قوله تعالى في نفس السورة {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى} فكيف نطق المعصوم بمثل هذا الذي يزعمونه! سبحانك هذا بهتان عظيم وانظر الرد القاطع في تفسير الفخر الرازي.

    {فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي يزيل ويبطل الله ما يلقيه الشيطان من الوساوس والأوهام {ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ ءاياتِهِ} أي يثبت في نفس الرسول ءاياته الدالة على الوحدانية والرسالة {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}أي مبالغٌ في العلم حكيم يضع الأشياء في مواضعها قال أبو السعود: وفي الآية دلالة على جواز السهو من الأنبياء عليهم السلام، وتطرق الوسوسة إليهم {لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ} أي ليجعل تلك الشبه والوساوس التي يلقيها الشيطان {فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي فتنة للمنافقين الذين في قلوبهم شك وارتياب {وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} أي وفتنةً للكافرين الذين لا تلين قلوبهم لذكر الله، وهم خواص من الكفار عتاةٌ كأبي جهل، والنضر، وعتبة {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} أي وإن هؤلاء المذكورين من المنافقين والمشركين لفي عداوة شديدة لله ولرسوله، ووصف الشقاق بلفظ {بَعِيدٍ} لأنه في غاية الضلال والبعدِ عن الخير {وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} أي وليعلم أهل العلم أن القرآن هو الحق النازل من عند الله تعالى {فَيُؤْمنُوا بِهِ} أي يؤمنوا بهذا القرآن {فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ} أي تخشع وتسكن له قلوبهم بخلاف مَنْ في قلبه مرض{وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي مرشد المؤمنين إلى الصراط المستقيم ومنقذهم من الضلالة والغواية {وَلا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} أي ولا يزال هؤلاء المشركون في شك وريب من هذا القرآن {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} أي حتى تأتيهم الساعة فجأة دون أن يشعروا قال قتادة: ما أخذ الله قوماً قطُّ إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم فلا تغتروا بالله إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} أي أو يأتيهم عذاب يوم القيامة وسمي عقيماً لأنه لا يوم بعده قال أبو السعود: كأنَّ كل يوم يلد ما بعده من الأيام، فما لا يوم بعده يكون عقيماً، والمراد به الساعة أيضاً كأنه قيل: أو يأتيهم عذابها، ووضع ذلك موضع الضمير لمزيد التهويل {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} أي الملك يوم القيامة لله وحده لا منازع له فيه ولا مدافع {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} أي يفصل بين عباده بالعدل، فيدخل المؤمنين الجنة والكافرين النار ولهذا قال {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَملُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي فالذين صدقوا الله ورسوله وفعلوا صالح الأعمال لهم النعيم المقيم في جنات الخلد {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} أي والذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسله لهم العذاب المخزي مع الإِهانة والتحقير في دار الجحيم.

    مجازاة من هاجر في سبيل الله

    { وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(58)لَيُدْخِ لَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ(59)ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ(60)}.

    {وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي تركوا الأوطان والديار ابتغاء مرضاة الله وجاهدوا لإِعلاء كلمة الله {ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا} أي قتلوا في الجهاد أو ماتوا على فرشهم {لَيَرْزُقَنَّهُمْ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا} أي ليعطينهم نعيماً خالداً لا ينقطع أبداً وهو نعيم الجنة {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي هو تعالى خير من أعطى فإنه يرزق بغير حساب {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ} أي ليدخلنهم مكاناً يرضونه وهو الجنة التي فيها ما لا عينٌ رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر {وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} أي عليم بدرجات العاملين حليم عن عقابهم {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} أي جازى الظالم بمثل ما ظلمه {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ اللَّهُ} أي ثم اعتدى الظالم عليه ثانياً لينصرن الله ذلك المظلوم {إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي مبالغ في العفو والغفران، وفيه تعريض بالحث على العفو والصفح، فإنه تعالى مع كمال قدرته على الانتقام يعفو ويغفر فغيره أولى بذلك.

    بعضٌ من دلائل قدرته تعالى

    {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(61)ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(62)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ(63)لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(64)أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ إِلا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ(65)وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ(66) }.

    {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي ذلك النصر بسبب أن الله قادر، ومن ءايات قدرته إيلاج الليل في النهار أي أنه يدخل كلاً منهما في الآخر. بأن ينقص من الليل فيزيد في النهار وبالعكس وهذا مشاهد ملموس في الصيف والشتاء {وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي سميع لأقوال عباده بصير بأحوالهم لا تخفى عليه خافية {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ} أي ذلك بأن الله هو الإِله الحق {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} أي وأن الذي يدعوه المشركون من الأصنام والأوثان هو الباطل الذي لا يقدر على شيء {وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أي هو العالي على كل شيء ذو العظمة والكبرياء فلا أعلى منه ولا أكبر.

    المنَـــاسَبــَة:

    لمّا ذكر تعالى ما دّل على قدرته الباهرة من إيلاج الليل في النهار والنهار في الليل ونبه به على نعمه، أتبعه هنا بأنواع أخر من الدلائل على قدرته وحكمته، وجعلها كالمقدمة لإِثبات البعث والمعاد، وختم السورة بدعوة المؤمنين إلى عبادة الله الواحد الأحد.

    {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} استفهام تقريري أي ألم تعلم أيها السامع أن الله بقدرته أنزل من السحاب المطر؟ {فَتُصْبِحُ الأَرْضُ مُخْضَرَّةً} أي فأصبحت الأرض منتعشة خضراء بعد يبسها ومحولها، وجاء بصيغة المضارع {فتصبح} لاستحضار الصورة وإفادة بقائها كذلك مدة من الزمن { إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} قال ابن عباس: لطيف بأرزاق عباده خبير بما في قلوبهم من القنوط، والغرض من الآية إقامة الدليل على كمال قدرته وعلى البعث والنشور فمن قدر على هذا قدر على إعادة الحياة بعد الموت ولهذا قال {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي جميع ما في الكون ملكه جل وعلا، خلقاً وملكاً وتصرفاً، والكل محتاج إلى تدبيره وإتقانه {وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي هو تعالى غني عن الأشياء كلها لا يحتاج لأحد، وهو المحمود في كل حال {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ} تذكير بنعمة أخرى أي ألم تر أيها العاقل أن الله سخر لعباده جميع ما يحتاجون إليه من الحيوانات والأشجار والأنهار والمعادن {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} أي وسخر السفن العظيمة المثقلة بالأحمال والرجال تسير في البحر لمصالحكم بقدرته ومشيئته {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ} أي ويمسك بقدرته السماء كي لا تقع على الأرض فيهلك من فيها {إِلا بِإِذْنِهِ} أي إذا شاء وذلك عند قيام الساعة {إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} أي وذلك من لطفه بكم ورحمته لكم حيث هيأ لكم أسباب المعاش فاشكروا آلاءه {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ} أي أحياكم بعد أن كنتم عدماً { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ} أي يميتكم عند انتهاء آجالكم {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} أي بعد موتك للحساب والثواب والعقاب {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ} أي مبالغ في الجحود لنعم الله قال ابن عباس: المراد بالإِنسان الكافر والغرض من الآيات توبيخ المشركين كأنه يقول: كيف تجعلون لله أنداداً وتعبدون معه غيره وهو المستقل بالخلق والرزق والتصرف!!

    لكل أمة من الأمم شريعة يتعبدون بها

    {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ(67)وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ(68)اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ(69)أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(70)}.

    {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكًا} أي لكل نبي من الأنبياء وأمةٍ من الأمم السابقين وضعنا لهم شريعة ومتعبداً ومنهاجاً كقوله {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا} {هُمْ نَاسِكُوهُ} أي هم عاملون به أي بذلك الشرع {فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ} أي لا ينازعك أحدٌ من المشركين فيما شرعتُ لك ولأمتك فقد كانت الشرائع في كل عصر وزمان، وهو نهيٌ يراد به النفي أي لا ينبغي منازعةُ النبي صلى الله عليه وسلم لأن الحق قد ظهر بحيث لا يسع النزاع فيه {وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ} أي أدعُ الناس إلى عبادة ربك وإلى شريعته السمحة المطهرة {إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} أي فإِنك على طريق واضحٍ مستقيم، موصل إلى جنات النعيم {وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} أي وإِن خاصموك بعد ظهور الحق وقيام الحجة عليهم فقل لهم: الله أعلم بأعمالكم القبيحة وبما تستحقون عليها من الجزاء، وهذا وعيد وإِنذار {اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ} أي الله يفصل في الآخرة بين المؤمنين والكافرين فيما كانوا فيه يختلفون في أمر الدين، فيعرفون حينئذٍ الحق من الباطل {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} الاستفهام تقريري أي لقد علمت يا محمد أنَّ الله أحاط علمه بما في السماء والأرض فلا تخفى عليه أعمالهم {إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ} أي إن ذلك كله مسطر في اللوح المحفوظ {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي إن حصر المخلوقات تحت علمه وإِحاطته سهلُ عليه يسيرٌ لديه.

    بعض أباطيل المشركين وتحديهم بخلق ذبابة

    {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(71)وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءاياتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(72)يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ(73)مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ(74)اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ(75)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(76)}.

    ثم بيَّن سبحانه ما يقدم عليه الكفار مع عظيم نعمه، ووضوح دلائله فقال {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ويعبد كفار قريش غير الله تعالى أصناماً لا تنفع ولا تسمع {مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} أي ما لم يرد به حجة ولا برهان من جهة الوحي والشرع {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} أي وما ليس عندهم به علم من جهة العقل وإنما هو مجرد التقليد الأعمى للآباء {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} أي ليس لهم ناصر يدفع عنهم عذاب الله {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ ءاياتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإذا تليت على هؤلاء المشركين ءايات القرآن الواضحة الساطعة وما فيها من الحجج القاطعة على وحدانية الله {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} أي ترى في وجوه الكفار الإِنكار بالعبوس و الكراهة {يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ ءاياتِنَا} أي يكادون يبطشون بالمؤمنين الذين يتلون عليهم القرآن {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ النَّارُ} أي قل لهم: هل أخبركم بما هو أسوأ أو أشنع من تخويفكم للمؤمنين وبطشكم بهم؟ إنه نار جهنم وعذابها ونكالها {وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وعدها الله للكافرين المكذبين بآياته {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي بئس الموضع الذي يصيرون إليه {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ} أي يا معشر المشركين ضرب الله مثلاً لما يعبد من دون الله من الأوثان والأصنام فتدبروه حق التدبر واعقلوا ما يقال لكم {إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوْ اجْتَمَعُوا لَهُ} أي إنَّ هذه الأصنام التي عبدتموها من دون الله لن تقدر على خلق ذبابة على ضعفها وإن اجتمعت على ذلك، فكيف يليق بالعاقل جعلها آلهة وعبادتها من دون الله! قال القرطبي: وخص الذباب لأربعة أمور: لمهانته، وضعفه، ولاستقذاره، وكثرته، فإذا كان هذا الذي هو أضعف الحيوان وأحقره لا يقدر من عبدوهم من دون الله على خلق مثله ودفع أذيته، فكيف يجوز أن يكونوا آلهة معبودين، وأرباباً مطاعين؟ وهذا من أقوى الحجة وأوضح البرهان {وَإِنْ يَسْلُبْهُمْ الذُّبَابُ شَيْئًا لا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ} أي لو اختطف الذباب وسلب شيئاً من الطيب الذي كانوا يضمخون به الأصنام لما استطاعت تلك الآلهة استرجاعه منه رغم ضعفه وحقارته {ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} أي ضعف العابد الذي يطلب الخير من الصنم، والمطلوب الذي هو الصنم، فكل منهما حقير ضعيف {مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي ما عظموه حق تعظيمه حيث جعلوا الأصنام - على حقارتها - شركاء للقوي العزيز ولهذا قال {إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} أي هو تعالى قادر لا يعجزه شيء، غالب لا يغلب، فكيف يسوون بين القوي العزيز والعاجز الحقير؟! {اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنْ النَّاسِ} أي الله يختار رسلاً من الملائكة ليكونوا وسطاء لتبليغ الوحي إلى أنبيائه، ويختار رسلاً من البشر لتبليغ شرائع الدين لعباده، والآية ردٌّ على من أنكر أن يكون الرسول من البشر {إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} أي يسمع ما يقولون ويرى ما يفعلون {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي يعلم ما قدموا وما أخَّروا من الأفعال والأقوال والأعمال { وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمورُ} أي إليه وحده جل وعلا ترد أمور العباد فيجازيهم عليها.

    أوامر الله للمؤمنين

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(77)وَجَاهِدُو ا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ(78)}.

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} أي صلوا لربكم خاشعين، وإِنما عبر عن الصلاة بالركوع والسجود لأنهما أشرف أركان الصلاة {وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ} أي أفردوه بالعبادة ولا تعبدوا غيره {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ} أي افعلوا ما يقربكم من الله من أنواع الخيرات والمبرات كصلة الأرحام، ومواساة الأيتام، والصلاة بالليل والناس نيام { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لتفوزوا وتظفروا بنعيم الآخرة {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ} أي جاهدوا بأموالكم وأنفسكم لإِعلاء كلمة الله حقَّ الجهاد باستفراغ الوسع والطاقة {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أي هو اختاركم من بين الأمم لنصرة دينه، وخصكم بأكمل شرع وأكرم رسول {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} أي وما جعل عليكم في هذا الدين من ضيق ولا مشقة، ولا كلفكم ما لا تطيقون بل هي الحنيفية السمحة ولهذا قال {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} أي دينكم الذي لا حرج فيه هو دين إبراهيم فالزموه لأنه الدين القيم كقوله {دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا} أي الله سماكم المسلمين في الكتب المتقدمة وفي هذا القرآن، ورضي لكم الإِسلام ديناً قال الإِمام الفخر الرازي: المعنى أنه سبحانه في سائر الكتب المتقدمة على القرآن، وفي القرآن أيضاً بيَّن فضلكم على الأمم وسمَّاكم بهذا الاسم الأكرم، لأجل الشهادة المذكورة، فلما خصكم بهذه الكرامة فاعبدوه ولا تردوا تكاليفه {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أي ليشهد عليكم الرسول بتبليغه الرسالة لكم وتشهدوا أنتم على الخلائق أنَّ رسلهم قد بلَّغتهم {فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} أي وإذْ قد اختاركم الله لهذه المرتبة الجليلة فاشكروا الله على نعمته بأداء الصلاة ودفع الزكاة {وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ} أي استمسكوا بحبله المتين وثقوا واستعينوا بالله في جميع أموركم {فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} أي فتمام الفضل والمنّة أن يكون الله تعالى معيناً لكم وناصركم في جميع أموركم.

     
  3. #53
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4386

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة المؤمنون



    فوز المؤمنين المتحلين بصفات الطاعة

    مراحل خلق الإنسان

    خلق السماوات وإنزال الأمطار وتسخير الأنعام

    قصة نوح عليه السلام

    قصة هود عليه السلام

    قصص صالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام

    قصة موسى وهارون عليهما السلام

    قصة عيسى وأمه مريم عليهما السلام

    أوامر ربانية عامة

    صفات المسارعين بالخيرات

    إنكار أعمال الكفار ومشركي قريش وأسبابها

    بعضٌ من نعمه تعالى على عباده

    إنكار المشركين البعث وإثبات حدوثه بالأدلة القاطعة

    نفي الولد والشريك لله تعالى

    توجيهات إلى النبي صلى الله عليه وسلم

    تمنى الإنسان العودة إلى الدنيا إذا حضره الموت

    النفخ في الصور والحساب في الآخرة

    قصر مدة البقاء في الدنيا، وخلق الخلائق ليس لعباً

    بَين يَدَي السُّورَة

    * سورة "المؤمنون" من السور المكية التي تعالج أصول الدين من "التوحيد والرسالة، والبعث" سميت بهذا الاسم الجليل "المؤمنون" تخليداً لهم وإِشادةً بمآثرهم وفضائلهم الكريمة التي استحقوا بها ميراث الفردوس الأعلى في جنات النعيم.

    * عرضت السورة الكريمة لدلائل القدرة والوحدانية مصورة في هذا الكون العجيب، في الإِنسان، والحيوان، والنبات، ثم في خلق السماوات البديعة ذات الطرائق، وفي الآيات الكونية المنبثة فيما يشاهده الناس في العالم المنظور من أنواع النخيل والأعناب، والزيتون والرمان، والفواكه والثمار، والسفن الكبيرة التي تمخر عباب البحار، وغير ذلك من الآيات الكونية الدالة على وجود الله جل وعلا.

    * وقد عرضت السورة لقصص بعض الأنبياء تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عمّا يلقاه من أذى المشركين، فذكرت قصة نوح، ثم قصة هود، ثم قصة موسى، ثم قصة مريم البتول وولدها عيسى، ثم عرضت لكفار مكة وعنادهم ومكابرتهم للحق بعدما سطع سطوع الشمس في رابعة النهار، وأقامت الحجج والبراهين على البعث والنشور، وهو المحور الذي تدور عليه السورة، وأهم ما يجادل فيه المبطلون، فقصمت ببيانها الساطع ظهر الباطل.

    *وتحدثت السورة عن الأهوال والشدائد التي يلقاها الكفار وقت الاحتضار وهم في سكرات الموت، وقد تمنوا العودة إلى الدنيا ليتداركو ما فاتهم من صالح العمل، ولكن هيهات فقد انتهى الأجل، وضاع الأمل. وختمت السورة بالحديث عن يوم القيامة حيث ينقسم الناس إلى فريقين: سعداء، وأشقياء، وينقطع الحسب والنسب فلا ينفع إِلا الإيمان والعمل الصالح، وسجلت المحاورة بين الملك الجبار وبين أهل النار وهم يصطرخون فيها فلا يغاثون ولا يجابون !!.

    فوز المؤمنين المتحلين بصفات الطاعة

    {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ(1)الَّذِين َ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ(2)وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ(3)وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ(4)وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ(5)إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ(6)فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ(7)وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ(8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ(9)أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ(10)الَّذِين َ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(11)}.

    {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} أي فاز وسعد وحصل على البغية والمطلوب المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف الجليلة، و{قَدْ} للتأكيد والتحقيق فكأنه يقول لقد تحقَّق ظفرهم ونجاحهم بسبب الإِيمان والعمل الصالح، ثم عدَّد تعالى مناقبهم فقال {الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ} قال ابن عباس: خاشعون: خائفون ساكنون أي هم خائفون متذللون في صلاتهم لجلال الله وعظمته لاستيلاء الهيبة على قلوبهم {وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ} أي عن الكذب والشتم والهزل قال ابن كثير: اللغو: الباطل وهو يشمل الشرك، والمعاصي، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال {وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ} أي يؤدون زكاة أموالهم للفقراء والمساكين، طيبة بها نفوسهم طلباً لرضى الله {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} هذا هو الوصف الرابع أي عفَّوا عن الحرام وصانوا فروجهم عمَّا لا يحل من الزنا واللواط وكشف العورات {إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي هم حافظون لفروجهم في جميع الأحوال إِلا من زوجاتهم وإِمائهم المملوكات {فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} أي فإِنهم غير مؤاخذين {فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ} أي فمن طلب غير الزوجات والمملوكات { فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ} أي هم المعتدون المجاوزون الحدَّ في البغي والفساد {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} أي قائمون عليها بحفظها وإِصلاحها، لا يخونون إِذا ائتمنوا، ولا ينقضون عهدهم إِذا عاهدوا قال أبو حيان: والظاهر عموم الأمانات فيدخل فيها ما ائتمن الله تعالى عليه العبد من قولٍ وفعلٍ واعتقاد، وما ائتمنه الإِنسان من الودائع والأمانات {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} هذا هو الوصف السادس أي يواظبون على الصلوات الخمس ويؤدونها في أوقاتها قال ابن جزي : فإِن قيل كيف كرّر ذكر الصلوات أولاً وآخراً ؟ فالجواب أنه ليس بتكرار، لأنه قد ذكر أولاً الخشوع فيها، وذكر هنا المحافظة عليها فهما مختلفان {أُوْلَئِكَ هُمْ الْوَارِثُونَ} أي أولئك الجامعون لهذه الأوصاف الجليلة هم الجديرون بوراثة جنة النعيم {الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ} أي الذين يرثون أعالي الجنة التي تتفجر منها أنهار الجنة وفي الحديث (إذا سألتم الله فسلوه الفردوس، فإِنه أوسط الجنة وأعلى الجنة، ومنه تفجر أنهار الجنة) {هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي هم دائمون فيها لا يخرجون منها أبداً، ولا يبغون عنها حولاً.

    مراحل خلق الإنسان

    {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ(12)ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ(13)ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ(14)ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ(15)ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ(16)}.

    ثم ذكر الله تعالى الأدلة والبراهين على قدرته ووحدانيته فقال {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} اللام جواب قسم أي والله لقد خلقنا جنس الإِنسان من صفوة وخلاصة استلت من الطين قال ابن عباس: هو آدم لأنه انسلَّ من الطين {ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً} أي ثم جعلنا ذرية آدم وبنيه منيّاً ينطف من أصلاب الرجال {فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} أي في مستقرٍ متمكن هو الرحم {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} أي ثم صيرَّنا هذه النطفة - وهي الماء الدافق - دماً جامداً يشبه العلقة {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} أي جعلنا ذلك الدم الجامد مضغة أي قطعة لحم لا شكل فيها ولا تخطيط {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} أي صيَّرنا قطعة اللحم عظاماً صلبة لتكون عموداً للبدن { فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} أي سترنا العظام باللحم وجعلناه كالكسوة لها {ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} أي ثم بعد تلك الأطوار نفخنا فيه الروح فصيرناه خلقاً آخر في أحسن تقويم قال الرازي: أي جعلناه خلقاً مبايناً للخلق الأول حيث صار إِنساناً وكان جماداً، وناطقاً وكان أبكم، وسميعاً وكان أصم، وبصيراً وكان أكمه، وأودع كل عضو من أعضائه عجائب فطرة، وغرائب حكمة لا يحيط بها وصف الواصفين {فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أي فتعالى الله في قدرته وحكمته أحسن الصانعين صنعاً {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} أي ثم إِنكم أيها الناس بعد تلك النشأة والحياة لصائرون إلى الموت {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ} أي تبعثون من قبوركم للحساب والمجازاة.

    خلق السماوات وإنزال الأمطار وتسخير الأنعام

    {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ(17)وَأَنزَلْنَ ا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ(18)فَأَنشَأْ نَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(19)وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ(20)وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ(22) }.

    ولما ذكر تعالى الأطوار في خلق الإِنسان وبدايته ونهايته ذكر خلق السماوات والأرض وكلها أدلة ساطعة على وجود الله فقال {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ} أي والله لقد خلقنا فوقكم سبع سموات، سميت طرائق لأن بعضها فوق بعض {وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ} أي وما كنا مهملين أمر الخلق بل نحفظهم وندبر أمرهم {وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أي أنزلنا من السحاب القطر والمطر بحسب الحاجة، لا كثيراً فيفسد الأرض، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار {فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ} أي جعلناه ثابتاً مستقراً في الأرض لتنتفعوا به وقت الحاجة {وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} وعيدٌ وتهديدٌ أي ونحن قادرون على إِذهابه بالتغوير في الأرض فتهلكون عطشاً أنتم ومواشيكم قال ابن كثير: لو شئنا لجعلناه إِذا نزل يغور في الأرض إِلى مدى لا تصلون إِليه ولا تنتفعون به لفعلنا، ولكن بلطفه تعالى ورحمته ينزل عليكم المطر من السحاب عذباً فراتاً، فيسكنه في الأرض، ويسلكه ينابيع فيها فيفتح العيون والأنهار، ويسقى الزروع والثمار، فتشربون منه أنتم ودوابكم وأنعامكم {فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي فأخرجنا لكم بذلك الماء حدائق وبساتين فيها النخيل والأعناب { لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ} أي لكم في هذه البساتين أنواع الفواكه والثمار تتفكهون بها {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي ومن ثمر الجنات تأكلون صيفاً وشتاءً كالرطب والعنب والتمر والزبيب، وإِنما خصَّ النخيل والأعناب بالذكر لكثرة منافعهما فإِنهما يقومان مقام الطعام، ومقام الإِدام، ومقام الفواكه رطباً ويابساً وهما أكثر فواكه العرب {وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ} أي وممَّا أنشأنا لكم بالماء أيضاً شجرة الزيتون التي تخرج حول جبل الطور وهو الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى {تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} أي تُنبت الدهن أي الزيت الذي فيه منافع عظيمة {وَصِبْغٍ لِلآكِلِينَ} أي وإِدام للآكلين سمي صبغاً لأنه يلون الخبز إذا غُمس فيه، جمع الله في هذه الشجرة بين الأُدم والدهن، وفي الحديث (كلوا الزيت وادهنوا به فإِنه من شجرةٍ مباركة) {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً} أي وإِن لكم أيها الناس فيما خلق لكم ربكم من الأنعام وهي "الإِبل والبقر والغنم" لعظةً بالغةً تعتبرون بها {نُسقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا} أي نسقيكم من بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين { وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ} أي ولكم في هذه الأنعام منافع عديدة: تشربون من ألبانها، وتلبسون من أصوافها وتركبون ظهورها، وتحملون عليها الأحمال الثقال {وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي وتأكلون لحومها كذلك {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} أي وتحملون الإِبل في البر كما تحملون على السُّفن أبو حيّان ، فإِنَّ الإِبل سفائن البر كما أن الفلك سفائن البحر.

    قصة نوح عليه السلام

    {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ(23)فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزَلَ مَلائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ(24)إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ(25)قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ(26)فَأَوْحَيْن َا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ(27)فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(28)وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ(29)إِنَّ فِي ذَلِكَ لايَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ(30)}.

    المنَاسَبَة:

    لما ذكر تعالى دلائل التوحيد في خلق الإِنسان، والحيوان، والنبات، وفي خلق السماوات والأرض، وعدّد نعمه على عباده، ذكر هنا أمثالاً لكفار مكة من المكذبين من الأمم السابقة وما نالهم من العذاب، فابتدأ بقصة نوح، ثم بقصة هود، ثم بقصة موسى وفرعون، ثم بقصة عيسى بن مريم، كلُّها عبر وعظات للمكذبين بالرسل والآيات.

    {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} أي والله لقد أرسلنا رسولنا نوحاً إلى قومه داعياً لهم إلى الله قال المفسرون: هذه تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم بذكر هذا الرسول، ليتأسى به في صبره، وليعلم أنَّ الرسل قبله قد كُذبوا {فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي اعبدوه وحده فليس لكم ربٌّ سواه {أَفَلا تَتَّقُونَ} زجرٌ ووعيد أي أفلا تخافون عقوبته بعبادتكم غيره ؟ {فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ} أي فقال أشراف قومه ورؤساؤهم الممعنون في الكفر والضلال {مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ} أي ما هذا الذي يزعم أنه رسول إلا رجلٌ من البشر يريد أن يطلب الرياسة والشرف عليكم بدعواه النبوة لتكونوا له أتباعاً .. واعجبْ بضلال هؤلاء استبعدوا أن تكون النبوة لبشر، وأثبتوا الربوبية لحجر {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأنزَلَ مَلائِكَةً} أي لو أراد الله أن يبعث رسولاً لبعث ملكاً ولم يكن بشراً {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الأَوَّلِينَ} أي ما سمعنا بمثل هذا الكلام في الأمم الماضية، والدهور الخالية {إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ} أي ما هو إلا رجلٌ به جنون {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} أي انتظروا واصبروا عليه مدة حتى يموت {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} أي قال نوح بعد ما يئس من إيمانهم: ربِّ انصرني عليهم بإهلاكهم عامةً بسبب تكذيبهم إياي {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} أي فأوحينا إليه عند ذلك أن اصنع السفينة بمرأى منا وحفظنا {وَوَحْيِنَا} أي بأمرنا وتعليمنا {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا} أي فإذا جاء أمرنا بإنزال العذاب {وَفَارَ التَّنُّورُ} أي فار الماء في التنور الذي يخبز فيه قال المفسرون: جعل الله ذلك علامة لنوح على هلاك قومه {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ} أي فأدخل في السفينة من كل صنفٍ من الحيوان زوجين"ذكر وأنثى" لئلا ينقطع نسل ذلك الحيوان {وَأَهْلَكَ إِلا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ} أي واحمل أهلك أيضاً إلا من سبق عليه القول بالهلاك ممن لم يؤمن كزوجته وابنه {وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ} أي ولا تسألني الشفاعة للظالمين عند مشاهدة هلاكهم فقد قضيت أنهم مغرقون محكوم عليهم بالغرق {فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ} أي فإذا علوت أنت ومن معك من المؤمنين على السفينة {فَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي احمدوا الله على تخليصه إياكم من الغرق وإنما قال {فَقُلْ} ولم يقل فقولوا لأن نوحاً كان نبياً لهم وإماماً فخطابه خطابٌ لهم {وَقُلْ رَبِّ أَنزِلْنِي مُنْزَلا مُبَارَكًا} أي أنزلني إنزالاً مباركاً يحفظني من كل سوء وشر قال ابن عباس: هذا حين خرج من السفينة {وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ} أي أنت يا رب خير المنزلين لأوليائك والحافظين لعبادك {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ} أي إنَّ فيما جرى على أمة نوح لدلائل وعبر يستدل بها أولوا الأبصار {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أي وإنَّ الحال والشأن كنا مختبرين للعباد بإرسال المرسلين.

    قصة هود عليه السلام

    {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ(31)فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ(32)وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ(33)وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ(34)أَيَعِدُك ُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ(35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ(36)إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ(37)إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ(38)قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ(39)قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ(40)فَأَخَذَتْه ُمْ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(41)}

    {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} أي ثم أوجدنا من بعد قوم نوح قوماً آخرين يخلفونهم وهم قوم عاد {فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولا مِنْهُمْ} أي أرسلنا إليهم رسولاً من عشيرتهم هو هود عليه السلام {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} أي اعبدوه وحده ولا تشركوا به أحداً لأنه ليس لكم ربٌّ سواه {أَفَلا تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون عذابه وانتقامه إن كفرتم؟ {وَقَالَ الْمَلأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الآخِرَةِ} أي قال أشراف قومه الكفرة المكذبون بالآخرة وما فيها من الثواب والعقاب {وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي وسَّعنا عليهم نعم الدنيا حتى بطروا نعمهم في هذه الحياة {مَا هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي قالوا لأتباعهم مضلين لهم: ما هذا الذي يزعم أنه رسول إِلا إِنسان مثلكم {يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} أي يأكل مثلكم ويشرب مثلكم فلا فضل له عليكم لأنه محتاج إِلى الطعام والشراب {وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ} أي ولئن أطعتموه وصدقتموه فإِنكم لخاسرون حقاً حيث أذللتم أنفسكم باتّباعه قال أبو السعود: انظر كيف جعلوا اتباع الرسول الحق الذي يوصلهم إلى سعادة الدارين خسراناً دون عبادة الأصنام التي لا خسران وراءها ؟ قاتلهم الله أنَّى يؤفكون {أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا} استفهام على وجه الاستهزاء والاستبعاد أي أيعدكم بالحياة بعد الموت بعد أن تصبحوا رفاتاً وعظاماً بالية؟ {أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ} أي أنكم ستخرجون أحياء من قبوركم وكرَّر لفظ {أَنَّكُمْ} تأكيداً لأنه لمّا طال الكلام حسن التكرار {هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ} أي بَعُدَ بَعُدَ هذا الذي توعدونه من الإِخراج من القبور، وغرضهم بهذا الاستبعاد أنه لا يكون أبداً {إِنْ هِيَ إِلا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا} أي لا حياة إِلا هذه الحياة الدنيا {نَمُوتُ وَنَحْيَا} أي يموتُ بعضنا ويُولد بعضنا إِلى انقراض الدهر {وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ} أي لا بعث ولا نشور {إِنْ هُوَ إِلا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا} أي ما هو إِلا رجل كاذب يكذب على الله فيما جاءكم به من الرسالة، والإِخبار بالمعاد {وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ} أي ولسنا بمصدقين فيما يقوله {قَالَ رَبِّ انصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ} لما يئس نبيُّهم من إِيمانهم ورأى إِصرارهم على الكفر دعا عليهم بالهلاك والمعنى ربّ انصرني عليهم بسبب تكذيبهم إِياي {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ} أي عن قريب من الزمان سيصيرون نادمين على كفرهم {فَأَخَذَتْهُمْ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ} أي أخذتهم صيحة العذاب المدمر عدلاً من الله لا ظلماً {فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً} أي هلكى كغثاء السيل قال المفسرون: صاح بهم جبريل صيحة رجفت لها الأرض من تحتهم فصاروا لشدتها غثاءً كغثاء السيل وهو الشيء التافه الحقير الذي لا ينتفع منه بشيء {فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي فسحقاً وهلاكاً لهم بكفرهم وظلمهم، وهي جملة دعائية كأنه قال: بعداً لهم من رحمة الله وهلاكاً ودماراً لهم.

    قصص صالح وإبراهيم ولوط وشعيب عليهم السلام

    {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ(42)مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ(43)ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ(44)}.

    {ثُمَّ أَنشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ} أي أوجدنا من بعد هلاك هؤلاء أمماً وخلائق آخرين كقوم صالح وإِبراهيم وقوم لوط وشعيب قال ابن عباس: هم بنو إِسرائيل، وفي الكلام حذفٌ تقديره: فكذبوا أنبياءهم فأهلكناهم دلَّ عليه قوله {مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ} أي ما تتقدم أمةٌ من الأمم المهلكة عن الوقت الذي عُيّن لهلاكهم ولا تتأخر عنه {ثُمَّ أَرْسَلنَا رُسُلَنَا تَتْرَى} أي بعثنا الرسل متتالين واحداً بعد واحد قال ابن عباس: يتبع بعضهم بعضاً {كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ} تشنيع عليهم بكمال ضلالهم أي أنهم سلكوا في تكذيب أنبيائهم مسلك من سبقهم من الضالين المكذبين ولهذا قال {فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا} أي ألحقنا بعضهم في إِثر بعض بالهلاك والدمار {وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي أخباراً تُروى وأحاديث تُذكر، يتحدث الناس بما جرى عليهم تعجباً وتسلية {فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ} أي فهلاكاً ودماراً لقومٍ لا يصدّقون الله ورسله.

    قصة موسى وهارون عليهما السلام

    {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ(45)إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ(46)فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ(47)فَكَذَّبُوه ُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ(48)وَلَقَد ْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(49)}.

    {ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا} أي أرسلناهما بآياتنا البينات قال ابن عباس: هي الآيات التسع "العصا، اليد، الجراد" إلخ {وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} أي وحجة واضحة ملزمة للخصم {إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ} أي أرسلناهما إِلى فرعون الطاغية وأشراف قومه المتكبرين {فَاسْتَكْبَرُوا} أي عن الإِيمان بالله وعبادته {وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ} أي متكبرين متمردين، قاهرين لغيرهم بالظلم {فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا} أي أنصدق رجلين مثلنا ونتَّبعهما؟ {وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ} أي والحال أن قوم موسى وهارون منقادون لنا كالخدم والعبيد؟ {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} أي فكذبوا رسولينا فكانوا من المغرقين أبو حيّان {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي أعطينا موسى التوراة بعد غرق فرعون وملائه ليهتدي بها بنو إِسرائيل.

    قصة عيسى وأمه مريم عليهما السلام

    {وَجَعلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ(50)}.

    {وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} أي وجعلنا قصة مريم وابنها عيسى معجزةً عظيمة تدل على كمال قدرتنا {وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ} أي وجعلنا منزلهما ومأواهما إِلى مكانٍ مرتفع من أرض بيت المقدس قال ابن عباس: الربوة المكان المرتفع من الأرض، وهو أحسن ما يكون فيه النبات {ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ} أي مستوية يستقر عليها وماءٍ جارٍ ظاهر للعيون قال الرازي: القرار: المستقر كل أرض مستوية مبسوطة، والمعين: الماء الظاهر الجاري على وجه الأرض، وعن قتادة: ذات ثمارٍ وماء، يعني أنه لأجل الثمار يستقر فيها ساكنوها.

    أوامر ربانية عامة

    {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(51)وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ(52)فَتَقَطَّع ُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ(53)فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ(54)أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ(55)نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَل لا يَشْعُرُونَ(56)}.

    {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا} أي قلنا يا أيها الرسل كلوا من الحلال وتقربوا إِلى الله بالأعمال الصالحة، والنداء لكل رسولٍ في زمانه وصّى به كل رسول إِرشاداً لأمته كما تقول تخاطب تاجراً: يا تجار اتقوا الربا { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} وعيدٌ وتحذير أي إِني عالم بما تعملون لا يخفى علىَّ شيء من أمركم، قال القرطبي: شمل الكل في الوعيد وإِذا كان هذا مع الرسل والأنبياء، فما ظنُّ كل الناس بأنفسهم؟ {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد، وملتكم ملة واحدة وهي دين الإِسلام {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} أي وأنا ربكم لا شريك لي فخافوا عذابي وعقابي.

    {فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا} أي تفرقت الأمم في أمر دينهم فرقاً عديدة وأدياناً مختلفة هذا مجوسي، وهذا يهودي، وهذا نصراني بعدما أُمروا بالاجتماع {كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} أي كل فريق منهم مغتبط بما اتخذه ديناً لنفسه معجب به، يرى أنه المحقُّ الرابح، وأنَّ غيره المبطل الخاسر {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والضمير لكفار مكة أي فاترك يا محمد هؤلاء المشركين في غفلتهم وجهلهم وضلالهم {حَتَّى حِينٍ} أي إِلى حين موتهم، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ووعيدٌ للمشركين {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ} أي أيظن هؤلاء الكفار أنَّ الذي نعطيهم في الدنيا من الأموال والأولاد {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} أي هو تعجيل ومسارعة لهم في الإِحسان؟ كلاَّ ليس الأمر كما يظنون بل هو استدراجٌ لهم، واستجرارٌ إلى زيادة الإِثم ولهذا قال {بَل لا يَشْعُرُونَ} أي بل هم أشباه البهائم، لا فطنة لهم ولا شعور حتى يتفكروا في الأمر، أهو استدراج أم مسارعة في الخير؟ والآية ردٌّ على المشركين في زعمهم أن أموالهم وأولادهم دليلُ رضى الله عنهم كما حكى الله عنهم {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} وفي الحديث (إن الله يعطي الدنيا لمن يحُبُّ ولمن لا يحب، ولا يعطي الدين إِلا لمن أحبَّ).

    صفات المسارعين بالخيرات

    {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ(57)وَالَّذِين َ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ(58)وَالَّذِين َ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ(59)وَالَّذِين َ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ(60)أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ(61)وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(62)}.

    ولمّا ذمَّ المشركين وتوعَّدهم عقَّب ذلك بمدح المؤمنين وذكرهم بأبلغ صفاتهم فقال {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} أي هم من جلال الله وعظمته خائفون، ومن خوف عذابه حذرون {وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ} أي يصدِّقون بآيات الله القرآنية، وآياته الكونية وهي الدلائل والبراهين الدالة على وجوده سبحانه

    وفي كل شيءٍ له آيةٌ تدلُّ على أنه واحد

    {وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ} أي لا يعبدون معه غيره، بل يوحدونه ويخلصون العمل لوجهه قال الإِمام الفخر الرازي: وليس المراد منه الإِيمان بالتوحيد ونفي الشريك لله فإِن ذلك داخل في الآية السابقة، بل المراد منه نفيُ الشرك الخفي وذلك بأن يخلص في العبادة لوجه اللهوطلباً لرضوانه {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} هذه هي الصفة الرابعة من أوصاف المؤمنين أي يعطون العطاء من زكاةٍ وصدقة، ويتقربون بأنواع القربات من أفعال الخير والبر وهم يخافون أن لا تقبل منهم أعمالهم قال الحسن: إِن المؤمن جمع إِحساناً وشفقة، وإِن المنافق جمع إِساءةً وأمناً {أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ} أي لخوفهم أن يكونوا قد قصَّروا في القيام بشروط الطاعات والأعمال الصالحة ولاعتقادهم أنهم سيرجعون إِلى ربهم للحساب، روي أن عائشة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الآية الكريمة فقالت {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} أهو الذي يزني، ويسرق، ويشرب الخمر وهو يخاف الله عزَّ وجل؟ فقال لها: (لا يا بنت الصِّديق! ولكنه الذي يصلي، ويصوم، ويتصدق وهو مع ذلك يخاف الله عزَّ وجل) {أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة هم الذين يسابقون في الطاعات لنيل أعلى الدرجات لا أولئك الكفرة المجرمون {وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} أي هم الجديرون بها والسابقون إِليها قال الإِمام الفخر الرازي: واعلم أن ترتيب هذه الصفات في نهاية الحسن، فالصفة الأولى دلت على حصول الخوف الشديد، الموجب للاحتراز عما ينبغي، والثانية: دلت على التصديق بوحدانية الله، والثالثة: دلت على ترك الرياء في الطاعات، والرابعة: دلت على أن المستجمع لتلك الصفات الثلاثة يأتي بالطاعات مع الوجل والخوف من التقصير، وذلك هو نهاية مقامات الصدّيقين رزقنا الله الوصول إِليها{وَلا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا} أي لا نكلّف أحداً من العباد ما لا يطيق تفضلاً منّا ولطفاً. أتى بهذه الآية عقب أوصاف المؤمنين إِشارةً إِلى أن أولئك المخلصين لم يُكلفوا بما ليس في قدرتهم وأن جميع التكاليف في طاقة الإِنسان {وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بِالْحَقِّ} أي وعندنا صحائف أعمال العباد التي سطر فيها ما عملوا من خير أو شر نجازيهم في الآخرة عليها ولهذا قال {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي لا يظلمون من أعمالهم شيئاً بنقص الثواب أو زيادة العقاب قال القرطبي: والآية تهديد وتأمين من الحيف والظلم.

     
  4. #54
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4386

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    إنكار أعمال الكفار ومشركي قريش وأسبابها

    {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ(63)حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ(64)لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ(65)قَدْ كَانَتْ ءاياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ(66)مُسْتَكْبِر ِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ(67)أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمْ الأَوَّلِينَ(68)أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(69)أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ(70)وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ(71)أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(72)وَإِنَّك َ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(73)وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ(74)وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ(75) وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ(76)حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ(77)}.

    سَبَبُ النّزول:

    عن ابن عباس قال: نزلت في قصة "ثمامة بن أُثال" لما أسرته السرية وأسلم وخلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبيله، حال بين مكة وبين الميرة وقال: والله لا يأتيكم من اليمامة حبَّة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخذ اللهُ قريشاً بالقحط والجوع حتى أكلوا الميتة والكلاب والعلهز قيل وما العلهز؟ قال كانوا يأخذون الصوف والوبر فيبلونه بالدم ثم يشوونه ويأكلونه فقال أبو سفيان: أنشدك الله والرَّحم، أليس تزعم أنَّ الله بعثك رحمة للعالمين؟ قال: بلى، قال فوالله ما أراك إِلا قتلت الآباء بالسيف، وقتلت الأبناء بالجوع فنزل قوله تعالى {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} الآيات.



    {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا } بل قلوب الكفرة المجرمين في غطاءٍ وغفلةٍ وعماية عن هذا القرآن {وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ} أي ولهم أعمال سيئة كثيرة غير الكفر والإِشراك {هُمْ لَهَا عَامِلُونَ} أي سيعملونها في المستقبل لتحقَّ عليهم الشقاوة فقد جمعوا بين الكفر وسوء الأعمال فحقت عليهم كلمة العذاب {حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ} أي حتى إِذا أخذنا أغنياءهم وكبراءهم المتنعمين في هذه الحياة بالعذاب العاجل كالجوع والقتل والأسر { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ} أي إذا هم يصيحون ويرفعون أصواتهم بالاستغاثة قال ابن عباس: هو الجوع الذي عذبوا به سبع سنين {لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ} أي لا تستغيثوا اليوم من العذاب { إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنصَرُونَ} أي لا تمنعون من عذابنا فلا ينفعكم صراخ ولا استغاثة {قَدْ كَانَتْ ءاياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي لقد كنتم تسمعون ءايات القرآن تقرأ عليكم {فَكُنتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ} أي كنتم تنفرون عن تلك الآيات كما يذهب الناكص على عقبيه بالرجوع إِلى ورائه، وهذا تمثيلٌ لإِعراضهم عن الحق بالراجع إلى الخلف {مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ} أي مستكبرين بسبب القرآن عن الإِيمان قال ابن كثير: الضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهُجْر من الكلام يقولون إِنه سحر، شعر، كهانة إِلى غير ذلك من الأقوال الباطلة وقال ابن الجوزي: الضمير عائد إلى البيت الحرام وهي كناية عن غير مذكور لشهرة الأمر والمعنى: إِنكم تستكبرون وتفتخرون بالبيت والحرم لأمنكم فيه مع خوف سائر الناس في مواطنهم، تقولون: نحن أهل الحرم فلا نخاف أحداً، ونحن أهل بيت الله وولاته، هذا مذهب ابن عباس وغيره {سَامِرًا تَهْجُرُونَ} أي متحدثين ليلاً، تقولون في سمركم الهجر وهو القول الفاحش من الطعن في القرآن وسبّ النبي عليه السلام {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ} أي أفلم يتدبروا هذا القرآن العظيم ليعرفوا بما فيه من إِعجاز النظم أنه كلام الله فيصدقوا به؟ {أَمْ جَاءهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمْ الأَوَّلِينَ} أي أم جاءهم من الله تعالى بشيء مبتدع لم يأت مثله في آبائهم السابقين؟ قال أبو السعود: يعني أن مجيء الكتب من جهته تعالى إلى الرسل سنة قديمة لا يكاد يتسنى إنكاره، وأن مجيء القرآن على طريقته فمن أين ينكرونه؟ {أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} توبيخ آخر لهم أي أم لم يعرفوا محمدا صلى الله عليه وسلم بالأمانة والصدق وحسن الأخلاق؟ وبَّخهم أوّلاً بترك الانتفاع بالقرآن، وثانياً بأن ما جاءهم قد جاء مثله لآبائهم الأولين، وثالثاً بأنهم يعرفون محمداً صلى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته ورابعاً اتهامهم له بالجنون وقد علموا أنه عليه السلام أرجحهم عقلاً وأثقبهم ذهناً ولهذا قال بعده {أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ} أي أم يقولون إِن محمداً مجنون، وهذا توبيخ آخر وتعجيبٌ من تفننهم في العناد، وتلونهم في الجحود {بَلْ جَاءهُمْ بِالْحَقِّ} {بَلْ} للإِضراب أي ليس الأمر كما زعموا بل جاءهم محمد بالحقِّ الساطع الذي لا مدخل فيه للباطل بوجه من الوجوه، وبالقرآن المشتمل على التوحيد وشرائع الإِسلام {وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} أي ومع وضوح الدعوة فإِنَّ أكثر المشركين يكرهون الحقَّ لما في قلوبهم من الزيغ والانحراف {وَلَوْ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءهُمْ} أي لو كان ما كرهوه من الحقّ - الذي هو التوحيد والعدل - موافقاً لأهوائهم الفاسدة، ومتمشياً مع رغباتهم الزائغة {لَفَسَدَتْ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ} أي لفسد نظام العالم أجمع علويُّه وسفليُّه، وفسد من فيه من المخلوقات لفساد أهوائهم واختلافهم قال ابن كثير: وفي هذا كله تبيين عجز العباد، واختلاف آرائهم وأهوائهم، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأفعاله وتدبيره لخلقه {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ} أي بل أتيناهم بما فيه فخرهم وشرفهم، وهو هذا القرآن العظيم الذي أكرمهم الله تعالى به {فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ} أ ي فهم معرضون عن هذا القرآن وكان اللائق بهم الانقياد له وتعظيمه لأنه شرفهم وعزُّهم، وأعاد لفظ " الذكر" تعظيماً للقرآن {أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا} أي أم تسألهم يا محمد أجراً على تبليغ الرسالة فلأجل ذلك لا يؤمنون، وفي هذا تشنيعٌ عليهم لعدم الإِيمان فمحمد لا يطلب منهم أجراً فلماذا إِذاً يكذبونه ويعادونه؟ {فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ} أي رزق الله وعطاؤه خيرٌ لك يا محمد {وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي هو تعالى أفضلُ من أعطى ورزق لأنه يعطي لا لحاجة، وغيره يعطي لحاجة {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي وإِنك يا محمد لتدعوهم إِلى الطريق المستقيم وهو الإِسلام الموصل إلى جنات النعيم {وَإِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ} أي وإِنَّ الذين لا يصدقون بالبعث والثواب والعقاب لعادلون عن الطريق المستقيم منحرفون عنه.

    {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ} أي لو رحمنا هؤلاء المشركين الذين كذبوك وعاندوك ورفعنا عنهم ما أصابهم من قحطٍ وجدب وكشفنا عنهم البلاء {لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} أي لاستمروا وتمادوا في ضلالتهم وتجاوزهم الحدَّ يتردَّدون ويتخبطون حيارى {وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ} أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد، وبالقحط والجوع {فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ} أي ما خضعوا لله ولا تواضعوا لجلاله {وَمَا يَتَضَرَّعُونَ} أي وما دعوا ربهم لكشف البلاء بل استمروا على العتوّ والاستكبار، والغرضُ أنه لم يحصل منهم تواضع ورجوع إِلى الله في الماضي، ولا التجاءٌ إِلى الله في المستقبل لشدة جبروتهم وطغيانهم {حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي حتى إِذا جاءتهم أهوال الآخرة وأتاهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون {إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي إِذا هم آيسون من كل خير قال أبو السعود: المراد بالعذاب عذاب الآخرة كما ينبئ عنه التهويل والوصف بالشدة والمعنى أنا محناهم بكل محنة من القتل، والأسر، والجوع وغير ذلك فما رئيَ منهم لين ولا توجهٌ إِلى الإِسلام إلى أن يروا عذاب الآخرة فحينئذٍ يبلسون وتخضع رقابهم.

    بعضٌ من نعمه تعالى على عباده

    {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ(78)وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ(79)وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(80)}.

    ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه ودلائل وحدانيته فقال {وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ} أي خلق لكم هذه الحواس لتسمعوا وتبصروا وتفقهوا، وفيه توبيخٌ للمشركين حيث لم يصرفوا النعم في مصارفها، لأن السمع خلق ليسمع به ما يرشده، والبصر ليشاهد به الآيات على كمال أوصاف الله، والعقل ليتأمل به في مصنوعات الله وباهر قدرته فمن لم يصرف تلك النعم في مصارفها فهو بمنزلة عادمها كما قال تعالى {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلا أَبْصَارُهُمْ وَلا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ} وخصَّ هذه الثلاثة بالذكر لعظم المنافع التي فيها {قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ} أي قليلاً تشكرون ربكم، و{مَا} لتأكيد القلة أي ما أقل شكركم لله على كثرة إِفضاله وإِنعامه عليكم؟ {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الأَرْضِ} أي خلقكم وبثكم في الأرض بطريق التناسل {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} أي وإِليه وحده تجمعون للجزاء والحساب {وَهُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ} أي يُحيي الرِّمم ويميت الخلائق والأمم {وَلَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي إِن اختلاف الليل والنهار بالزيادة والنقصان بفعله سبحانه وحده ليقيم الدليل على وجوده وقدرته {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفليس لكم عقول تدركون بها دلائل قدرته، وآثار قهره، فتعلمون أن من قدر على ذلك ابتداءً، قادرٌ على إِعادة الخلق بعد الفناء؟.

    إنكار المشركين البعث وإثبات حدوثه بالأدلة القاطعة

    {بلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ(81)قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(82)لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ(83)قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ(85)قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ(86)سَيَقُولُون َ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ(87)قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(88)سَيَقُولُو نَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ(89)بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(90)}.

    {بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الأَوَّلُونَ} {بَلْ} للإِضراب أي ليس لهم عقل ولا نظر في هذه الآيات والعِبر، بل قال هؤلاء المشركون - من كفار مكة - مثل ما قال الأمم المتقدمون {قَالُوا أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ}؟ أي أئذا بلينا وصرنا ذراتٍ ناعمة، وعظاماً نخرة أئنا لمخلوقون ثانية؟ هذا لا يتصور ولا يكون أبداً {لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ} أي لقد وعدنا بهذا نحن ومن سبقنا فلم نر له حقيقة {إِنْ هَذَا إِلا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ} أي ما هذا إِلا أكاذيب وأباطيل المتقدمين ولما أنكروا البعث والنشور أمر تعالى رسوله أن يفحمهم بالحجة الدامغة التي تقصم ظهر الباطل فقال {قُلْ لِمَنْ الأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا}؟ أي قل يا محمد جواباً لهم عما قالوه: لمن الأرض ومن فيها من المخلوقات؟ ومن مالكها والمتصرف فيها بالإِيجاد والإِفناء؟ {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إِن كان عندكم علمٌ فأخبروني بذلك، وفيه استهانةٌ بهم وتقريرٌ لجهلهم قال القرطبي: يخبر تعالى في الآية بربوبيته ووحدانيته، وملكه الذي لا يزول، وقدرته التي لا تحول، ودلت هذه الآيات - وما بعدها - على جواز جدال الكفار وإِقامة الحجة عليهم، ونبَّهت على أنَّ من ابتدأ بالخلق والإِيجاد، والإِبداع، هو المستحقُّ للألوهية والعبادة { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي فسيقولون الله خالقها وموجدها ولا بدَّ لهم من الاعتراف بذلك {قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ}؟ أي أفلا تعتبرون فتعلمون أن من ابتدأ ذلك قادر على إِعادته؟ {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ}؟ أي من هو خالق السماوات الطباق بما فيها الشموس، والكواكب والأقمار، ومن هو خالق العرش الكبير الذي تحمله الملائكة الأطهار؟ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي سيقولون: اللهُ خالقه وهو لله {قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ} أي أفلا تخافون من عذابه فتوحّدونه وتتركون عبادة غيره من الأوثان والأصنام {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} الملكُوت من صفات المبالغة أي من بيده الملك الواسع التام؟ ومن بيده خزائن كل شيء؟ ومن هو المتصرف في هذه الأكوان بالخلق والإِيجاد والتدبير؟ {وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} أي يحمي من استجار به والتجأ إِليه، ولا يغيث أحدٌ منه أحداً {إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي إِن كنتم تعلمون فأخبروني عن ذلك {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي سيقولون: الملك كله والتدبيرُ لله جلَّ وعلا {قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي قل لهم: فكيف تُخدعون وتُصرفون عن طاعته وتوحيده مع اعترافكم وعلمكم بأنه وحده المتصرف المالك؟ قال أبو حيان: والسحر هنا مستعار وهو تشبيه لما يقع منهم من التخليط، ووضع الأفعال والأقوال غير مواضعها بما يقع للمسحور من التخبط والتخليط رتَّب هذه التوبيخات الثلاثة بالتدريج فقال أولاً {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}؟ ثم قال ثانياً {أَفَلا تَتَّقُونَ}؟ وذلك أبلغ لأن فيه زيادة تخويف، ثم قال ثالثاً {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} وفيه من التوبيخ ما ليس في غيره {بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ} أي بل جئناهم بالقول الصدق في أمر التوحيد والبعث والجزاء {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي كاذبون فيما ينسبون لله من الشركاء والأولاد. لمَّا بالغ في الحِجاج عليهم بالآيات السابقة أعقبها بهذه الآية كالوعيد والتهديد.

    نفي الولد والشريك لله تعالى

    {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ(91)عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(92)}.

    ثم بيَّن بطلان الشريك والولد بالبرهان القاطع فقال {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ} أي ما اتخذ الله ولداً مطلقاً لا من الملائكة ولا من البشر {وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ} أي وليس معه من يشاركه في الألوهية والربوبية {إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ} أي لو كان معه إِله - كما زعم عبدة الأوثان - لانفرد كل إِلهٍ بخلقه الذي خلق واستبدَّ به، وتميَّز ملك كلِّ واحد عن ملك الآخر {وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي ولغلب بعضهم على بعض كحال ملوك الدنيا قال ابن كثير: المعنى لو قدر تعدُّد الآلهة لأنفرد كلٌ منهم بما خلق، ثم لكان كلٌ منهم يطلب قهر الآخر وخلافه فيعلو بعضهم على بعض وما كان ينتظم الوجود، والمشاهد أن الوجود منتظمٌ متَّسقٌ غاية الكمال فدل على تنزه الله عن الولد والشريك ولهذا قال {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزّه الله وتقدَّس عما يصفه به الظالمون {عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي هو تعالى العالم بما غاب عن الأنظار، وبما تدركه الأبصار، لا تخفى عليه خافية من شؤون الخلق {فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تقدَّس وتنزَّه عن الشريك والولد.

    توجيهات إلى النبي صلى الله عليه وسلم

    {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ(93)رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(94)وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ(95)ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ(96)وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ(97)وَأَعُوذ ُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ(98)}.

    {قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ} أي قل يا ربِّ إِن كان ولا بدَّ من أن تُريَني ما تعدهم من العذاب في الدنيا {رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} هذا جواب الشرط {إِمَّا} وكرَّر قوله {رَبِّ} مبالغةً في الدعاء والتضرع أي ربّ فلا تجعلني في جملة الظالمين فأهلك بهلاكهم قال أبو حيان: ومعلوم أنه عليه السلام معصومٌ مما يكون سبباً لجعله مع الظالمين ولكنه أُمر أن يدعو بذلك إِظهاراً للعبودية وتواضعاً لله {وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ} أي ونحن قادرون على أن نريك العذاب الذي وعدناهم به ولكن نؤخره لحكمه {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ} أي ادفع إِساءتهم بالصفح عنهم وتجمَّل بمكارم الأخلاق قال ابن كثير: أرشده إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإِحسان إلى من يسيء إِليه ليستجلب خاطره، فتعود عدواته صداقةً، وبغضه محبة {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ} أي نحن أعلم بحالهم وبما يكون منهم من التكذيب والاستهزاء وسنجازيهم عليه {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ} أي أعتصم بك من نزعات الشياطين ووساوسهم المغرية على الباطل والمعاصي {وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} أي وأعتصم وأحتمي بك يا رب من أن يصيبوني بسوء أو يكونوا معي في أموري، كرَّر ذلك للمبالغة والاعتناء بشأن الاستعاذة.

    تمنى الإنسان العودة إلى الدنيا إذا حضره الموت

    {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ(99)لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(100)}.

    {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ} عاد الكلام عن المشركين أي حتى إِذا حضر الموتُ أحدهم وعاين أهواله وشدائده {قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} أي قال تحسراً على ما فرط منه: ربِّ ردَّني إلى الدنيا، وصيغة الجمع للتعظيم {لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ } أي لكي أعمل صالحاً فيما ضيَّعت من عمري {كَلا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا} {كَلا} كلمةُ ردع وزجر أي لا رجوع إِلى الدنيا فليرتدع عن ذلك فإِن طلبه للرجعة كلام لا فائدة فيه ولا جدوى منه وهو ذاهبٌ أدراج الرياح {وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي وأمامهم حاجزٌ يمنعهم عن الرجوع إِلى الدنيا - هو عالم البرزخ - الذي يحول بينهم وبين الرجعة يلبثون فيه إِلى يوم القيامة قال مجاهد: البرزخُ: الحاجز ما بين الدنيا والآخرة.

    النفخ في الصور والحساب في الآخرة

    {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ(101)فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(102)وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ(103)تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ(104)أَلَمْ تَكُنْ ءاياتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(105)قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ(106)رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ(107) قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ(108)إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(109)فَاتَّخ َذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ(110)إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ(111)}.

    {فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ} أي فلا قرابة ولا نسب ينفعهم يوم القيامة لزوال التراحم والتعاطف من شدة الهول والدهشة بحيث يفر المرء من أخيه وأُمه وأبيه وصاحبته وبنيه {وَلا يَتَسَاءَلُونَ} أي لا يسأل بعضهم بعضاً عن شأنه لاشتغال كل واحد بنفسه، ولا تنافي بينها وبين قوله {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} لأن يوم القيامة طويل وفيه مواقف ومواطن، ففي بعضها يتكلمون وفي بعضها لا ينطقون {فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ} أ ي فمن رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة {فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} أي فهم السعداء الذين فازوا فنجوا من النار وأُدخلوا الجنة {وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ} أي زادت سيئاته على حسناته {فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ} أي فهم الأشقياء الذين خسروا سعادتهم الأبدية بتضييع أنفسهم وتدنيسها بالكفر والمعاصي {فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} أي هم مقيمون في جهنم لا يخرجون منها أبداً {تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ} أي تحرقها بشدة حرِّها، وتخصيص الوجوه بالذكر لأنها أشرف الأعضاء {وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ} أي وهم في جهنم عابسون مشوَّهو المنظر قال ابن مسعود: قد بدتْ أسنانهم وتقلَّصت شفاههم كالرأس المُشيَّط بالنار، وفي الحديث (تشويه النارُ فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه، وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سُرَّته) {أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ} أي يقال لهم تعنيفاً وتوبيخاً: ألم تكن ءايات القرآن الساطع تقرأ عليكم في الدنيا؟ {فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي فكنتم لا تصدّقون بها مع وضوحها {قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا} أي غلبت علينا شقاوتنا {وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ} أي وكنَّا ضالين عن الهدى بسبب اتباعنا للملذّات والأهواء {رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا} أي أخرجنا من النار ورُدَّنا إلى الدنيا {فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ} أي فإِن رجعنا إلى الكفر والمعاصي بعد ذلك نكون قد تجاوزنا الحدَّ في الظلم والعدوان. أقروا أولاً بالإِجرام ثم تدرجوا من الإِقرار إلى الرغبة والتضرع فجاء الجواب بالتيئيس والزجر {قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ} أي ذلوا في النار وانزجروا كما تُزجر الكلاب ولا تكلموني في رفع العذاب قال ابن جزي : اخسئوا: كلمة تستعمل في زجر الكلاب ففيها إِهانةٌ وإِبعاد {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} قال مجاهد: هم بلال، وخباب، وصهيب وغيرهم من ضعفاء المسلمين كان أبو جهل وأصحابه يهزؤون بهم {فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} أي فسخرتم منهم واستهزأتم بهم {حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي} أي حتى نسيتم بتشاغلكم بهم واستهزائكم عليهم عن طاعتي وعبادتي {وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ} أي وكنتم تضحكون عليهم في الدنيا {إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا} أي جزيتهم بسبب صبرهم على أذاكم أحسن الجزاء {أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ} أي أنهم هم الفائزون بالنعيم المقيم.

    قصر مدة البقاء في الدنيا، وخلق الخلائق ليس لعباً

    {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ(112)قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ(113)قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ(114)أَفَحَسِب ْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ(115)فَتَعَالَ ى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ(116)وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ(117)وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ(118)}.

    {قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ} أي قال تعالى للكفار على سبيل التبكيت والتوبيخ: كم مكثتم في الدنيا وعمرَّتم فيها من السنين؟ {قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } أي مكثنا يوماً أو أقل من يوم {فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ} أي الحاسبين المتمكنين من العدِّ قال ابن عباس: أنساهم ما كانوا فيه من العذاب المدة التي لبثوها {قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا قَلِيلا} أي ما أقمتم حقاً في الدنيا إِلا قليلاً قال الرازي: كأنه قيل لهم: صدقتم ما لبثتم فيها إِلا قليلاً فقد انقضت ومضت، والغرضُ تعريفهم قلة أيام الدنيا في مقابلة أيام الآخرة { لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي لو كان لكم علمٌ وفهم لعرفتم حقارة الدنيا ومتاعها الزائل {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} أي أظننتم - أيها الناس - أنما خلقناكم باطلاً وهملاً بلا ثواب ولا عقاب كما خلقت البهائم {وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ} أي وأنه لا رجوع لكم إِلينا للجزاء؟ لا ليس الأمر كما تظنون وإِنما خلقناكم للتكليف والعبادة ثم الرجوع إِلى دار الجزاء {فَتَعَالَى اللَّهُ} أي فتنزَّه وتقدَّس الله الكبير الجليل {الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي صاحب السلطان، المتصرف في ملكه بالإِيجاد والإعدام، والإِحياء والإِفناء، تنزَّه عن العبث والنقائص وعن أن يخلق شيئاً سفهاً لأنه حكيم {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا ربَّ سواه ولا خالق غيره {رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ} أي خالق العرش العظيم، وصفه بالكريم لأن الرحمة والخير والبركة تنزل منه، ولنسبته إلى أكرم الأكرمين {وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ} أي ومن يجعل لله شريكاً ويعبد معه سواه {لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ} أي لا حجة له به ولا دليل {فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أي جزاؤه وعقابه عند الله {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} أي لا يفوز ولا ينجح من جحد وكذب بالله ورسله، افتتح السورة بقوله {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} وختمها بقوله {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ} ليظهر التفاوت بين الفريقين فشتان ما بين البدء والختام. {وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ} أمر رسوله بالاستغفار والاسترحام تعليماً للأمة طريق الثناء والدعاء، اللهم اغفر لنا وارحمنا برحمتك التي وسعت كل شيء، يا أرحم الراحمين، اللهم آمين.

     
  5. #55
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4386

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة النور



    حد الزنى وحكم الزناة

    حد القذف

    حد اللعان

    قصة الإفك

    الجزاء الأخروي للقاذف

    آية غض البصر والحجاب

    التزوج بالأحرار، مكاتبة الأرقاء، والإكراه على الزنى

    نور الله يملأ السماوات والأرض

    المؤمنون المهتدون بنور الله تعالى

    أعمال الكفار في الدنيا لا تنفعهم في الآخرة

    التفكر في مخلوقات الله يدل على وجوده

    ادعاء المنافقين الإيمان

    الطاعة والامتثال من دأب المؤمنين

    وعد الله المؤمنين بالاستخلاف في الأرض

    حالات الاستئذان داخل البيت، وتخفيف الثياب الظاهرة عن العجائز

    إباحة الأكل في بيوت معينة دون إذن أهلها

    الاستئذان عند الخروج، وأدب مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والتحذير من مخالطة آمره

    بَين يَدَي السُّورَة

    * سورة النور من السور المدنية، التي تتناول الأحكام التشريعية، وتُعنى بأمور التشريع والتوجيه والأخلاق، وتهتم بالقضايا العامة والخاصة التي ينبغي أن يُربى عليها المسلمون أفراداً وجماعات، وقد اشتملت هذه السورة على أحكام هامة وتوجيهات عامة تتعلق بالأسرة، التي هي النواة الأولى لبناء المجتمع الأكبر.

    *وضحَّت السورة الآداب الاجتماعية التي يجب أن يتمسك بها المؤمنون في حياتهم الخاصة والعامة، كالاستئذان عند دخول البيوت، وغض الأبصار، وحفظ الفروج، وحرمة اختلاط الرجال بالنساء الأجنبيات، وما ينبغي أن تكون عليه الأسرة المسلمة و"البيت المسلم" من العَفاف والستر، والنزاهة والطهر، والاستقامة على شريعة الله، صيانةً لحرمتها، وحفاظاً عليها من عوامل التفكك الداخلي، والانهيار الخلقي، الذي يهدم الأمم والشعوب

    * وقد ذكرت في هذه السورة الكريمة بعض الحدود الشرعية التي فرضها الله كحد الزنى، وحد القذف، وحد اللعان، وكل هذه الحدود إنما شرعت تطهيراً للمجتمع من الفساد والفوضى، واختلاط الأنساب، والانحلال الخلقي، وحفظاً للأمة من عوامل التردي في بؤرة الإِباحية والفساد، التي تُسبب ضياع الأنساب، وذهاب العرض والشرف

    *وباختصار فإن هذه السورة الكريمة عالجت ناحية من أخطر النواحي الاجتماعية هي "مسألة الأسرة" وما يحفها من مخاطر، وما يعترض طريقها من عقبات ومشاكل، تودي بها إلى الانهيار ثم الدمار، عما فيها من آداب سامية، وحكم عالية، وتوجيهات رشيدة، إلى أسس الحياة الفاضلة الكريمة، ولهذا كتب أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة يقول لهم : علّموا نساءكم سورة النور

    التسمَية:

    سُميت سورة النور لما فيها من إشعاعات النور الرباني، بتشريع الأحكام والآداب، والفضائل الإنسانية التي هي قبسٌ من نور الله على عباده، وفيضٌ من فيوضات رحمته وجوده {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} اللهم نور قلوبنا بنور كتابك المبين يا رب العالمين.

    حد الزنى وحكم الزناة

    {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا ءاياتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(1)الزَّانِيَ ةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(2)الزَّانِ ي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ(3)}

    {سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا} أي هذه سورة عظيمة الشأن من جوامع سور القرآن أوحينا بها إليك يا محمد {وَفَرَضْنَاهَا} أي أوجبنا ما فيها من الأحكام إيجاباً قطعياً {وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} أي أنزلنا فيها ءاياتٍ تشريعية، واضحات الدلالة على أحكامها، لتكون لكم -أيها المؤمنون- قبساً ونبراساً، وتكريرُ لفظ الإِنزال لإِبراز كمال العناية بشأنها فكأنه يقول: ما أنزلتها عليكم لمجرد التلاوة وإنما أنزلتها للعمل والتطبيق {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لكي تعتبروا وتتعظوا بهذه الأحكام وتعملوا بموجبها، ثم شرع تعالى بذكر الأحكام وبدأ بحد الزنى فقال {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} أي فيما شرعت لكم وفرضت عليكم أن تجلدوا كل واحدٍ من الزانيين- غير المحصنين- مائة ضربة بالسوط عقوبة لهما على هذه الجريمة الشنيعة {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ} أي لا تأخذكم بهما رقة ورحمة في حكم الله تعالى فتخففوا الضرب أو تنقصوا العدد بل أوجعوهما ضرباً قال مجاهد: لا تعطلوا حدود الله ولا تتركوا إقامتها شفقة ورحمة {إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} هذا من باب الإلهاب والتهييج أي إن كنتم مؤمنون حقاً تصدقون بالله وباليوم الآخر، فلا تعطلوا الحدود ولا تأخذكم شفقة بالزناة، فإن جريمة الزنى أكبر من أن تستدر العطف أو تدفع إلى الرحمة { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ} أي وليحضر عقوبة الزانيين جماعةً من المؤمنين، ليكون أبلغ في زجرهما، وأنجع في ردعهما، فإنَّ الفضيحة قد تنكل أكثر مما ينكل التعذيب {الزَّانِي لا يَنكِحُ إلا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً} أي الزاني لا يليق به أن يتزوج العفيفة الشريفة، إنما ينكح مثله أو أخسَّ منه كالبغيّ الفاجر، أو المشركة الوثنية {وَالزَّانِيَةُ لا يَنكِحُهَا إِلا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ} أي والزانية لا يليق أن يتزوج بها المؤمن العفيف، إنما يتزوجها من هو مثلها أو أخسَّ منها، كالزاني الخبيث أو المشرك الكافر، فإن النفوس الطاهرة تأبى الزواج بالفواجر الفاسقات، قال الإمام الفخر الرازي: "من أحسن ما قيل في تفسير هذه الآية: أنَّ الفاسقَ الخبيث- الذي من شأنه الزنى والفِسق -لا يرغب في نكاح الصوالح من النساء، وإنما يرغب في فاسقةٍ خبيثةٍ مثله أو مشركة، والفاسقة الخبيثة لا يرغب في نكاحها الصلحاء من الرجال وينفرون عنها، وإنما يرغب فيها من هو من جنسها من الفسقة والمشركين، وهذا على الأعم الأغلب كما يقال: لا يفعل الخير إلا الرجل التقي، وقد يفعل بعض الخير من ليس بتقيٍّ فكذا هنا" {وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ} أي وحرم الزنى على المؤمنين لشناعته وقبحه، أو حرم نكاح الزواني على المؤمنين لما فيه من الأضرار الجسيمة.

    حد القذف

    {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ(4)إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(5)}.

    ثم شرع تعالى في بيان حد القذف فقال {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ} أي يقذفون بالزنى العفيفات الشريفات {ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي ثم لم يأتوا على دعواهم بأربعة شهود عدول يشهدون عليهن بما نسبوا إليهن من الفاحشة {فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً } أي اضربوا كل واحدٍ من الرامين ثمانين ضربةً بالسوط ونحوه، لأنهم كذبة يتهمون البريئات، ويخوضون في أعراض الناس {وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} أي وزيدوا لهم في العقوبة بإهدار كرامتهم الإِنسانية فلا تقبلوا شهادة أي واحدٍ منهم ما دام مصراً على كذبه وبهتانه {وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ} أي هم الخارجون عن طاعة الله عز وجل لإِتيانهم بالذنب الكبير، والجرم الشنيع قال ابن كثير: أوجب تعالى على القاذف إذا لم يُقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام: أحدها أن يجلد ثمانين جلدة والثاني: أن ترد شهادته أبداً الثالث: أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس.

    {إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ} أي إلا الذين تابوا وأنابوا وندموا على ما فعلوا من بعد ما اقترفوا ذلك الذنب العظيم {وَأَصْلَحُوا} أي أصلحوا أعمالهم فلم يعودوا إلى قذف المحصنات قال ابن عباس: أي أظهروا التوبة { فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي فاعفوا عنهم واصفحوا وردُّوا إِليهم اعتبارهم بقبول شهادتهم، فإن الله غفور رحيم يقبل توبة عبده إذا تاب وأناب واصلح سيرته وحاله.

    حد اللعان

    {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ(6)وَالْخَام ِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ(7)وَيَدْرَأ ُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ(8)وَالْخَام ِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ(9)وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ(10)}.

    ثم ذكر تعالى حكم من قذف زوجته وهو المعروف باللعان فقال {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} أي يقذفون زوجاتهم بالزنى {وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلا أَنفُسُهُمْ } أي وليس لهم شهود يشهدون بما رموهنَّ به من الزنى سوى شهادة أنفسهم {فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ} أي فشهادة أحدهم التي تزيل عنه حدَّ القذف أربع شهادات بالله تقوم مقام الشهداء الأربعة {إِنَّهُ لَمِنْ الصَّادِقِينَ} أي إنه صادقٌ فيما رمى به زوجته من الزنى {وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَيْهِ} أي وعليه أيضاً أن يحلف في المرة الخامسة بأن لعنة الله عليه {إِنْ كَانَ مِنْ الْكَاذِبِينَ} أي إن كان كاذباً في قذفه لها بالزنى {وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ} أي ويدفع عن الزوجة المقذوفة حدَّ الزنى الذي ثبت بشهادة الزوج {أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنْ الْكَاذِبِينَ} أي أن تحلف أربع مرات إنه لمن الكاذبين فيما رماها به من الزنى {وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنْ الصَّادِقِينَ} أي وتحلف في المرة الخامسة بأنَّ غضب الله وسخطه عليها إن كان زوجها صادقاً في اتهامه بالزنى {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي ولولا فضل الله عليكم ورحمته بكم بالستر في ذلك، وجوابُ {وَلَوْلا} محذوف لتهويل الأمر تقديره: لهلكتم أو لفضحكم أو عاجلكم بالعقوبة، ورب مسكوتٍ عنه أبلغ من المنطوق {وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ} أي وأنه تعالى مبالغ في قبول التوبة، حكيم في ما شرع من الأحكام ومن جملتها حكم اللعان قال أبو السعود: وجواب لولا محذوف لتهويله كأنه قيل: ولولا تفضله تعالى عليكم ورحمته بكم لكان ما كان ممّا لا يحيط به نطاق البيان، ومن جملته أنه تعالى لو لم يشرع لهم ذلك لوجب على الزوج حدُّ القذف مع أن الظاهر صدقه لاشتراكه في الفضيحة، ولو جعل شهاداته موجبةً لحد الزنى عليها لفات النظر لها، ولو جعل شهاداتها موجبة لحد القذف عليه لفات النظر له، فسبحان ما أعظم شأنه، وأوسع رحمته، وأدقَّ حكمته.

    قصة الإفك

    {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ(11)لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ(12)لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمْ الْكَاذِبُونَ(13) وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(14)إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ(15)وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ(16)يَعِظُكُمْ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ(17)وَيُبَيِّن ُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ(19)وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ(20)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ(21) وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(22)}.

    ثم بيَّن تعالى "قصة الإِفك" التي اتهمت فيها العفيفة البريئة الطاهرة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بالكذب والبهتان فقال {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ} أي جاءوا بأسوء الكذب وأشنع صور البهتان وهو قذف عائشة بالفاحشة قال الإِمام الفخر الرازي: الإِفك أبلغ ما يكون من الكذب والافتراء، وقد أجمع المسلمون على أن المراد ما أُفك به على عائشة وهي زوجة الرسول المعصوم {عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} أي جماعة منكم أيها المؤمنون وعلى رأسهم "ابن سلول" رأس النفاق {لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ} أي لا تظنوا هذا القذف والاتهام شراً لكم يا آل أبي بكر {بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} لما فيه من الشرف العظيم بنزول الوحي ببراءة أم المؤمنين، وهذا غاية الشرف والفضل قال المفسرون: والخير في ذلك من خمسة أوجه: تبرئة أم المؤمنين، وكرامة الله لها بإنزال الوحي في شأنها، والأجر الجزيل لها في الفِرية عليها، وموعظة المؤمنين، والانتقام من المفترين {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنْ الإِثْمِ} أي لكل فردٍ من العُصبة الكاذبة جزاء ما اجترح من الذنب على قدر خوضه فيه {وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ} أي والذي تولى معظمه وأشاع هذا البهتان وهو "ابن سلول" رأس النفاق {لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي له في الآخرة عذاب شديد في نار جهنم {لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} أي هلاً حين سمعتم يا معشر المؤمنين هذا الافتراء وقذف الصديقة عائشة {ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا} أي هلاّ ظنوا الخير ولم يسرعوا إلى التهمة فيمن عرفوا فيها النزاهة والطهارة؟ فإن مقتضى الإِيمان ألاّ يصدق مؤمنٌ على أخيه قولة عائب ولا طاعن قال ابن كثير: هذا تأديبٌ من الله تعالى للمؤمنين في قصة عائشة حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السُّوء، وهلا قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم فإن كان لا يليق بهم فأمُ المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى، روي أن امرأة "أبي أيوب" قالت له: أما تسمع ما يقول الناسُ في عائشة! قال: نعم وذلك الكذب، أكنت فاعلةً ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله قال فعائشة والله خير منك. {وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ} أي قالوا في ذلك الحين هذا كذبٌ ظاهر مبين {لَوْلا جَاءوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} أي هلاّ جاء أولئك المفترون بأربعة شهود يشهدون على ما قالوا {فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ} أي فإن عجزوا ولم يأتوا على دعواهم بالشهود {فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ} أي فأولئك هم المفسدون الكاذبون في حكم الله وشرعه، وفيه توبيحٌ وتعنيف للذين سمعوا الإِفك ولم ينكروه أول وهلة {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي لولا فضله تعالى عليكم - أيها الخائضون في شأن عائشة - ورحمته بكم في الدنيا والآخرة حيث أمهلكم ولم يعاجلكم بالعقوبة {لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ} أي لأصابكم ونالكم بسبب ما خضتم فيه من حديث الإِفك {عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي عذاب شديد هائل يُستحقر دونه الجلد والتعنيف قال القرطبي: هذا عتابٌ من الله بليغٌ لمن خاضوا في الإِفك، ولكنه برحمته ستر عليكم في الدنيا، ويرحم في الآخرة من أتاه تائباً {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } أي وذلك حين تتلقونه ويأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه قال مجاهد: أي يرويه بعضُكم عن بعض، يقول هذا سمعته من فلان، وقال فلانٌ كذا {وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْم} أي تقولون ما ليس له حقيقة في الواقع، وإنما هو محض كذبٍ وبهتان {وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا} أي وتظنونه ذنباً صغيراً لا يلحقكم فيه إثم {وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ} أي والحال أنه عند الله من أعظم الموبقات والجرائم لأنه وقوع في أعراض المسلمين قال في التسهيل: عاتبهم تعالى على ثلاثة أشياء: الأول: تلقيه بالألسنة أي السؤال عنه والثاني: التكلم به والثالث: استصغاره حيث حسبوه هيناً وهو عند الله عظيم، وفائدة قوله بألسنتكم وبأفواهكم الإِشارة إلى أنَّ ذلك الحديث كان باللسان دون القلب لأنهم لم يعلموا حقيقته بقلوبهم {وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا} عتابٌ لجميع المؤمنين أي كان ينبغي عليكم أن تنكروه أول سماعكم له وتقولوا لا ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد {سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ} أي سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسول الله الطاهرة البريئة فإن هذا الافتراء كذبٌ واضح، عظيم الجرم قال الزمخشري: هو بمعنى التعجب من عظيم الأمر والاستبعاد له، والأصل في ذلك أن يُسبَّح الله عند رؤية العجائب {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا} أي يذكركم الله ويعظكم بالمواعظ الشافية لكي لا تعودوا إلى مثل هذا العمل أبداً {إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ} أي إن كنتم حقاً مؤمنين فإن الإِيمان وازع عن مثل هذا البهتان، وفيه حثٌ لهم على الاتعاظ وتهييج {وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الآيَاتِ} أي ويوضح لكم الآيات الدالة على الشرائع ومحاسن الآداب، لتتعظوا وتتأدبوا بها {وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} أي عالم بما يصلح العباد، حكيم في تدبيره وتشريعه { إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الفَاحِشَةُ} أي يريدون أن ينتشر الفعل القبيح المفرط في القبح كإشاعة الرذيلة والزنى وغير ذلك من المنكرات {فِي الَّذِينَ آمَنُوا} أي في المؤمنين الأطهار {لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي لهم عذاب موجع مؤلم في الدنيا بإقامة الحدِّ، وفي الآخرة بعذاب جهنم قال الحسن: عنى بهذا الوعيد واللعن المنافقين فإنهم أحبوا وقصدوا إذاية الرسول صلى الله عليه وسلم وذلك كفرٌ وملعون صاحبه {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي هو تعالى عالمٌ بالخفايا والنوايا وأنتم لا تعلمون ذلك قال الإمام الفخر الرازي: وهذه الجملة فيها حسنُ الموقع بهذا الموضع، لأن محبة القلب كامنةٌ ونحن لا نعلمها إلاّ بالأمارات أما الله سبحانه فهولا يخفى عليه شيء، فصار هذا الذكر نهايةً في الزجر لأن من أحبَّ إشاعة الفاحشة وإن بالغَ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله تعالى يعلمذلك منه ويعلم قدر الجزاء عليه {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} جواب {وَلَوْلا} محذوف لتهويل الأمر أي لولا فضله تعالى على عباده ورحمته بهم لأهلكهم وعذَّبهم، وكان ما كان مما لا يكاد يتصوره الإِنسان لأنه فوق الوصف والبيان.

    المنَاسَبَة:

    لما ذكر تعالى حادثة الإِفك، أتبعها بالتحذير من سلوك طريق الشيطان المتربص بالإِنسان الذي يدعو إلى السوء والشر والفساد، ثم ذكر تعالى آداب الاستئذان والزيارة لأن أهل الإِفك إنما وجدوا السبيل إلى بهتانهم من حيث اتفقت الخلوة فصارت طريقاً للتهمة، فأوجب تعالى ألا يدخل إنسان بيت غيره إلا بعد الاستئذان والسلام، ثم أتبعها بآيات غضِّ البصر.

    سَبَبُ النّزول:

    أ- كان أبو بكر الصدّيق ينفق على "مسطح بن أُثاثة" لمسكنته وقرابته، فلما وقع أمر الإِفك وقال فيه مسطحٌ ما قال، حلف أبو بكر ألا ينفق عليه ولا ينفعه بنافعةٍ أبداً فأنزل الله {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ..} الآية فقال أبو بكر: واللهِ إني لأحبُ أن يغفر الله لي، فرجع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً.

    ب- عن علي كرم الله وجهه قال: مرَّ رجل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريقٍ من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأةٍ ونظرت إِليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جانب حائط ينظر إليها إذ استقبله الحائط "أي صدمه الحائط" فشقَّ أنفه فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأُعلمه أمري، فأتاه فقصَّ عليه قصته فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هذا عقوبة ذنبك فأنزل الله {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ..} الآيات.

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي يا من صدَّقتم بالله ورسوله لا تتبعوا آثار الشيطان ولا تسلكوا مسالكه بإِشاعة الفاحشة، والإصغاء إِلى الإِفك والقول به {وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} أي ومن يتبع سيرة الشيطان وطريقته {فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} أي فإِن الشيطان يضل الإِنسان ويغويه لأنه يأمر بالفحشاء وهي ما أفرط قبحه، والمنكر وهو ما ينكره الشرع وتنفر منه العقول السليمة {وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ} أي لولا فضل الله عليكم أيها المؤمنون بالتوفيق للتوبة الماحية للذنوب، وبشرع الحدود المكفرة للخطايا {مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا} أي ما تطهر أحدٌ منكم من الأوزار أبد الدهر { وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ} أي ولكن الله بفضله ورحمته يطهر من يشاء بتوفيقه للتوبة النصوح وقبولها منه قال القرطبي: والغرض أن تزكيته لكم، وتطهيره وهدايته إنما هي بفضله لا بأعمالكم {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي سميع لأقوالكم عليم بنياتكم وضمائركم {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} أي لا يحلف أهل الفضل في الدين وأصحاب الغنى واليسار {أَنْ يُؤْتُوا أُوْلِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي أن لا يؤتوا أقاربهم من الفقراء والمهاجرين ما كانوا يعطونهم إيَّاه من الإِحسان لذنب فعلوه {وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا} أي وليعفوا عمّا كان منهم من جرم، وليصفحوا عما بدر منهم من إساءة، وليعودوا إلى ما كانوا عليه من الإِنعام والإِحسان {أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ} أي ألا تحبون أيها المؤمنون أن يغفر الله لكم على عفوكم وصفحكم وإحسانكم إلى من أساء إليكم؟ روي أن أبا بكر لما سمع الآية قال: بل أحب أن يغفر الله لي وأعاد النفقة إلى مسطح وكفَّر عن يمينه وقال: والله لا أنزعها منه أبداً!! قال المفسرون: والآية دالة على فضل أبي بكر فإن الله تعالى امتدحه بقوله {وَلا يَأْتَلِ أُوْلُوا الْفَضْلِ} وكفى به دليلاً على فضل الصدّيق رضي الله عنه وأرضاه {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي مبالغ في المغفرة والرحمة مع كمال قدرته على العقاب.

    الجزاء الأخروي للقاذف

    {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(23)يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(24)يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ(25) الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(26)}.

    سبب النزول:

    أخرج الطبراني عن الضحَّاك بن مزاحم قال: نزلت هذه الآية في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} الآية.

    وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية في عائشة خاصة.

    وأخرج ابن جرير عن عائشة قالت: رُميتُ بما رُميتُ به، وأنا غافلة، فبلغني بعد ذلك، فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي إذ أُوحي إليه، ثم استوى جالساً، فمسح وجهه وقال: يا عائشة، أبشري، فقلت: بحمد الله، لا بحمدك، فقرأ: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ} حتى بَلَغ {أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ}.

    وأخرج الطبراني عن الحكم بن عتيبة قال: لما خاض الناس في أمر عائشة أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عائشة، فقال: يا عائشة، ما يقول الناس، فقالت: لا أعتذر بشيء حتى ينزل عذري من السماء، فأنزل الله فيها خمس عشرة آية من سورة النور، ثم قرأ حتى بلغ {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ} الآية، وهو مرسل صحيح الإِسناد.

    ثم توعَّد تعالى الذين يرمون العفائف الطاهرات فقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ} أي يقذفون بالزنى العفيفات، السليمات الصدور، النقيات القلوب عن كل سوء وفاحشة {الْمُؤْمِنَاتِ} أي المتصفات بالإِيمان مع طهارة القلب {لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ} أي طردوا وابعدوا من رحمة الله في الدنيا والآخرة قال ابن عباس: هذا اللعن فيمن قذف زوجات النبي صلى الله عليه وسلم إذْ ليس له توبة، ومن قذف مؤمنة جعل الله له توبة وقال أبو حمزة: نزلت في مشركي مكة، كانت المرأة إذا خرجت إلى المدينة مهاجرة قذفوها وقالوا خرجت لتفجر {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} أي ولهم مع اللعنة عذاب هائل لا يكاد يوصف بسبب ما ارتكبوا من إثم وجريمة {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي وذلك العذاب الشديد في ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - حين تشهد على الإِنسان جوارحه فتنطق الألسنة والأيدي والأرجل بما اقترف من سيء الأعمال {يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمْ اللَّهُ دِينَهُمْ الْحَقَّ} أي يوم القيامة ينالهم حسابهم وجزاؤهم العادل من أحكم الحاكمين {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} أي ويعلمون حينئذٍ أن الله هو العادل الذي لا يظلم أحداً، الظاهر عدله في تشريعه وحكمه ... ثم ذكر تعالى بالدليل القاطع، والبرهان الساطع براءة عائشة ونزاهتها، فهي زوجة رسول الله الطيب الطاهر وقد جرت سنة الله أن يسوق الجنس إلى جنسه، فلو لم تكن عائشة طيبة لما كانت زوجة لأفضل الخلق صلى الله عليه وسلم ولهذا قال {الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ} أي الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء، وكذلك الطيبات من النساء للطيبين من الرجال والطيبون من الرجال للطيبات من النساء، وهذا كالدليل على براءة عائشة لأنها زوجة أشرف رسول وأكرم مخلوق على الله، وما كان الله ليجعلها زوجة لأحبِّ عباده لو لم تكن عفيفة طاهرة شريفة { أُوْلَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ} أي أولئك الفضلاء منزهون ممَّا تقوَّله أهل الإِفك في حقهم من الكذب والبهتان {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي لهم على ما نالهم من الأذى مغفرة لذنوبهم، ورزقٌ كريم في جنات النعيم قال ابن كثير: وفيه وعدٌ بأن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الجنة.

    الاستئذان لدخول البيوت

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ(27)فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ(28)لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ(29)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (27):

    أخرج الفريابي وابن جرير عن عدي بن ثابت قال: جاءت امرأة من الأنصار، فقالت: يا رسول الله، إني أكون في بيتي على حال لا أحب أن يراني عليها أحد، وإنه لا يزال يدخل عليّ رجل من أهلي، وأنا على تلك الحال، فكيف أصنع؟ فنزلت: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا } الآية.

    نزول الآية (29):

    أخْرج ابن أبي حاتم عن مقاتل بن حيان قال: لما نزلت آية الاستئذان في البيوت، قال أبو بكر: يا رسول الله، فكيف بتجار قريش الذين يختلفون بين مكة والمدينة والشام، ولهم بيوت معلومة على الطريق، فكيف يستأذنون ويسلمون، وليس فيها سكان؟ فنزل: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ }الآية.

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ} لما حذَّر تعالى من قذف المحصنات وشدد العقاب فيه، وكان طريق هذا الاتهام مخالطة الرجال للنساء، ودخولهم عليهن في أوقات الخلوات أرشد تعالى إلى الآداب الشرعية في دخول البيوت فأمر بالاستئذان قبل الدخول وبالتسليم بعده {حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا} أي لا تدخلوا بيوت الغير حتى تستأذنوا وتسلموا على أهل المنزل {ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ} أي ذلك الإستئذان والتسليم خير لكم من الدخول بغتة {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} أي لتتعظوا وتعملوا بموجب هذه الآداب الرشيدة قال القرطبي: المعنى إن الاستئذان والتسليم خير لكم من الهجوم بغير إذن ومن الدخول على الناس بغتة أو من تحية الجاهلية فقد كان الرجل منهم إذا دخل بيتاً غير بيته قال: حُيّيتم صباحاً، وحُييتم مساءً ودخل فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحافٍ، وروي أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم أأستأذن على أمي؟ قال نعم، قال ليس لها خادمٌ غيري، أأستأذن عليها كلما دخلتُ؟ قال: أتحب أن تراها عريانة؟ قال: لا، قال: فاستأذن عليها {فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا} أي فإن لم تجدوا في البيوت أحداً يأذن لكم بالدخول إليها { فَلا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ } أي فاصبروا ولا تدخلوها حتى يسمح لكم بالدخول، لأن للبيوت حرمة ولا يحل دخولها إلا بإذن أصحابها {وَإِنْ قِيلَ لَكُمْ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا} أي وإن لم يؤذن لكم وطلب منكم الرجوع فارجعوا ولا تلحُّوا {هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} أي الرجوع أطهر وأكرم لنفوسكم وهو خير لكم من اللجاج والانتظار على الأبواب {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} أي هو تعالى عالم بالخفايا والنوايا وبجميع أعمالكم فيجازيكم عليها قال القرطبي: وفيه توعدٌ لأهل التجسس على البيوت، ثم إنه تعالى لما ذكر حكم الدور المسكونة ذكر بعده حكم الدور غير المسكونة فقال {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} أي ليس عليكم إثمٌ وحرج { أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } أي أن تدخلوا بغير استئذان بيوتاً لا تختص بسكنى أحد كالرباطات والفنادق والخانات قال مجاهد: هي الفنادق التي في طرق السابلة لا يسكنها أحد بل هي موقوفة ليأوي إليها كل ابن سبيل {فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ} أي فيها منفعة لكم أو حاجة من الحاجات كالاستظلال من الحر، وإيواء الأمتعة والرحال {وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ} أي يعلم ما تظهرون وما تُسرون في نفوسكم فيجازيكم عليه قال أبو السعود: وهذا وعيدٌ لمن يدخل مدخلاً لفسادٍ أو اطلاع على عورات.

    آية غض البصر والحجاب

    {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ(31)}

    سبب النزول:

    أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل قال: بلغنا عن جابر بن عبد الله، حدّث أن أسماء بنت مرثد كانت في نخل لها، فجعل النساء يدخلن عليها غير متأزرات، فيبدو ما في أرجلهن، تعني الخلاخل، وتبدو صدورهن وذوائبهن، فقالت أسماء: ما أقبح هذا! فأنزل الله في ذلك: {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}. وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله وجهه أن رجلاً مرَّ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في طريق من طرقات المدينة، فنظر إلى امرأة ونظرت إليه، فوسوس لهما الشيطان أنه لم ينظر أحدهما إلى الآخر إلا إعجاباً به، فبينما الرجل يمشي إلى جنب حائط وهو ينظر إليها إذا استقبله الحائط فشق أنفه، فقال: والله لا أغسل الدم حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره أمري، فأتاه فقص عليه قصته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "هذا عقوبة ذنبك" وأنزل الله تعالى: {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} الآية.

    وأخرج ابن جرير عن حضرمي أن امرأة اتخذت بُرَتَين من فضة، واتخذت جَزْعاً (سلسلة خرز) فمرت على قوم، فضربت برجلها، فوقع الخلخال على الْجَزْع، فصوَّت، فأنزل الله {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ} الآية.

    ثم أرشد تعالى إلى الآداب الرفيعة من غض البصر، وحفظ الفروج فقال {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} أي قل يا محمد لأتباعك المؤمنين يكفوا أبصارهم عن النظر إلى الأجنبيات من غير المحارم، فإن النظرة تزرع في القلب الشهوة، ورُبَّ شهوة أورثت حزناً طويلاً

    كم نظرةٍ فتكت في قلب صاحبها فتك السهام بلا قوس ولا وتر

    {وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ} أي يصونوا فروجهم عن الزنى وعن الإِبداء والكشف {ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ} أي ذلك الغضُّ والحفظ أطهرُ للقلوب، وأتقى للدين، وأحفظ من الوقوع في الفجور {إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي هو تعالى رقيبٌ عليهم، مطلعٌ على أعمالهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم، فعليهم أن يتقوا الله في السر والعلن قال الإمام الفخر الرازي: فإن قيل فلم قدم غضَّ الأبصار على حفظ الفروج؟ قلنا: لأن النظر بريد الزنى، ورائد الفجور، والبلوى فيه أشدُّ وأكثر، ولا يكاد يُحترس منه {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} أي وقل أيضاً للمؤمنات يكففن أبصارهن عن النظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه، ويحفظن فروجهن عن الزنى وعن كشف العورات، قال المفسرون: أكد تعالى الأمر للمؤمنات بغض البصر وحفظ الفروج، وزادهن في التكليف على الرجل بالنهي عن إبداء الزينة إلا للمحارم والأقرباء فقال {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا مَا ظَهَرَ مِنْهَا} أي ولا يكشفن زينتهن للأجانب إلا ما ظهر منها بدون قصدٍ ولا نية سيئة قال ابن كثير: أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلا ما لا يمكن إخفاؤه، كما قال ابن مسعود: الزينة زينتان: فزينةٌ لا يراها إلا الزوج: الخاتم والسوار، وزينةٌ يراها الأجانب وهي الظاهر من الثياب، وقيل: المراد به الوجه والكفان فإنهما ليسا بعورة قال البيضاوي: والأظهر أن هذا في الصلاة لا في النظر، فإن كل بدن الحرة عورة لا يحل لغير الزوج والمحرم النظر إلى شيء منها إلا لضرورة كالمعالجة وتحمل الشهادة {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} أي وليلقين الخمار وهو غطاء الرأس على صدورهن لئلا يبدو شيء من النحر والصدر، وفي لفظ الضرب مبالغة في الصيانة والتستر، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: يرحم الله النساء المهاجرات الأُول لما أنزل الله {وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ} شققن مروطهن فاختمرن لها قال المفسرون: كانت المرأة في الجاهلية - كما هي اليوم في الجاهلية الحديثة - تمر بين الرجال مكشوفة الصدر، بادية النحر، حاسرة الذراعين، وربما أظهرت مفاتن جسمها وذوائب شعرها لتغري الرجال، وكنَّ يسدلن الخُمُر من ورائهن فتبقى صدروهن مكشوفة عارية، فأمرت المؤمنات بأن يلقينها من قدامهن حتى يغطينها ويدفعن عنهن شر الأشرار {وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ} أي ولا يظهرن زينتهن الخفية التي حرم الله كشفها إلا لأزواجهن أو آبائهن أو آباء أزواجهن وهو أبو الزوج فإنهما من المحارم، فإن الأب يصون عرض ابنته، ووالد الزوج يحفظ على ابنه ما يسوءه، ثم عدد بقية المحارم فقال {أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ} فذكر تعالى الأبناء، وأبناء الأزواج، والإِخوة، وأبناء الأخوات وكلهم من المحارم الذين يحرم الزواج بهم لما جبل الله في الطباع من النفرة من مماسة القريبات ونكاحهن {أَوْ نِسَائِهِنَّ} أي المسلمات وخرج بذلك النساء الكافرات قال مجاهد: المراد نساؤهن المسلمات، ليس المشركات من نسائهن، وليس يحل للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة وقال ابن عباس: هن المسلمات ولا تبدي زينتها أمام يهودية أو نصرانية {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } أي من الإِماء المشركات قال ابن جرير: يعني من نساء المشركين فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها {أَوْ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي الإِرْبَةِ مِنْ الرِّجَالِ} أي الخدام غير أولي الميل والشهوة والحاجة إلى النساء كالبُلْهِ والحمقى والمغفلين الذين لا يدركون من أمور الجنس شيئاً قال مجاهد: هو الأبله الذي يريد الطعام ولا يريد النساء ولا يهمه إلا بطنه {أَوْ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ} أي الأطفال الصغار الذين لم يبلغوا حدَّ الشهوة، ولا يعرفون أمور الجماع لصغرهم فلا حرج أن تظهر المرأة زينتها أمامهم {وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ} أي ولا يضربن بأرجلهن الأرض لئلا يسمع الرجال صوت الخلخال فيطمع الذي في قلبه مرض قال ابن عباس: كانت المرأة تمر بالناس وتضرب برجلها ليسمع صوت خلخالها، فنهى الله تعالى عن ذلك لأنه من عمل الشيطان {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}أي ارجعوا أيها المؤمنون إلى ربكم بامتثال الطاعات، والكفّ عن الشهوات، لتنالوا رضاه وتفوزوا بسعادة الدارين.

     

 
+ الرد على الموضوع
صفحة 11 من 33 الأولىالأولى ... 3 4 5 6 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 21 ... الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك