+ الرد على الموضوع
صفحة 15 من 33 الأولىالأولى ... 5 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 25 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 71 إلى 75 من 162
  1. #71
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4387

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة الأحزاب



    التسميَـــة

    أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقوى الله واتباع الوحي والتوكل على الله

    إبطال الظهار الجاهلي والتبني

    شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته، والميراث بقرابة الرحم

    غزوة الأحزاب

    تخيير زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة

    خصائص أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم

    مساواة الرجال والنساء في الجزاء والثواب

    إبطال التبني وقصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش

    الحث على ذكر الله وتسبيحه صباحاً ومساءً ورحمته تعالى بعبادته

    أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم الطلاق قبل المساس

    النساء اللاتي أحلّ الله لنبيّه الزواج بهنّ

    آداب الدخول لبيت النبي صلى الله عليه وسلم وحجاب نسائه

    الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وجزاء من يؤذيه ويؤذي المؤمنين

    نزول آية الحجاب

    تهديد المنافقين وجزاؤهم

    قرب الساعة وبيان أهوالها

    تحذير المؤمنين من إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما آذى اليهود موسى عليه السلام، والأمر بتقوى الله

    التكاليف الشرعية التي كلف الله بها البشرية وأثرها في الجزاء

    بَين يَدَي السُّورَة

    * سورة الأحزاب من السور المدنية، التي تتناول الجانب التشريعي لحياة الأمة الإِسلامية، شأن سائر السور المدنية، وقد تناولت حياة المسلمين الخاصة والعامة، وبالأخص أمر الأسرة فشرعت الأحكام بما يكفل للمجتمع السعادة والهناء، وأبطلت بعض التقاليد والعادات الموروثة مثل: "التبني، والظهار، واعتقاد وجود قلبين لإِنسان" وطهرت من رواسب المجتمع الجاهلي، ومن تلك الخرافات والأساطير الموهومة التي كانت متفشية في ذلك الزمان.

    * ويمكن أن نلخص المواضيع الكبرى لهذه السورة الكريمة في نقاط ثلاث:

    أولاً: التوجيهات والآداب الإِسلامية.

    ثانياً: الأحكام والتشريعات الإِلهية.

    ثالثاً: الحديث عن غزوتي "الأحزاب، وبني قريظة".

    * أما الأولى: فقد جاء الحديث عن بعض الآداب الاجتماعية كآداب الوليمة، وآداب الستر والحجاب وعدم التبرج، وآداب معاملة الرسول صلى الله عليه وسلم واحترامه إلى آخر ما هنالك من آداب اجتماعية.

    * وأما الثانية: فقد جاء الحديث عنها في بعض الأحكام التشريعية مثل حكم الظهار والتبني، والإِرث، وزواج مطلقة الابن من التبني، وتعدد زوجات الرسول الطاهرات والحكمة منه، وحكم الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم وحكم الحجاب الشرعي، والأحكام المتعلقة بأمور الدعوة إلى الوليمة إلى غير ما هنالك من أحكام تشريعية.

    * وأما الثالثة: فقد تحدثت السورة بالتفصيل عن غزوة الخندق التي تسمى "غزوة الأحزاب" وصوَّرتها تصويراً دقيقاً بتآلب قوى البغي والشر على المؤمنين، وكشفت عن خفايا المنافقين، وحذرت من طرقهم في الكيد والتخذيل والتثبيط، وأطالت الحديث عنهم في بدء السورة وفي ختمها، حتى لم تُبق لهم ستراً، ولم تخف لهم مكراً، وذكرت المؤمنين بنعمة الله العظمى عليهم في ردّ كيد أعدائهم بإرسال الملائكة والريح، كما تحدثت عن غزوة بني قريظة ونقض اليهود عهدهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم.

    التسميَة:

    سميت سورة الأحزاب لأن المشركين تحزبوا على المسلمين من كل جهة، فاجتمع كفار مكة مع غطفان وبني قريظة وأوباش العرب على حرب المسلمين، ولكن الله ردَّهم مدحورين وكفى المؤمنين القتال بتلك المعجزة الباهرة.

    أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتقوى الله واتباع الوحي والتوكل على الله

    {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا(1)وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا(2)وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا(3)}.

    سبب النزول:

    أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أهل مكة، ومنهم الوليد بن المغيرة، وشيبة بن ربيعة دَعُوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجع عن قوله، على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوّفه المنافقون واليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه، فنزلت الآيات.

    وذكر الواحدي في أسباب النزول: أن الآيات نزلت في أبي سفيان وعِكْرمة بن أبي جهل وأبي الأعور السُّلَمي قَدِموا المدينة بعد قتال أُحُد، فنزلوا على عبد الله بن أُبَيّ (زعيم المنافقين) وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطُعْمة بن أُبَيرق، فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وعنده عمر بن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعُزّى ومناة، وقل: إن لها شفاعة ومنفعة لمن عبدها وندعك وربَّك، فشقّ على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم، فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ائذن لنا يا رسول الله في قتلهم، فقال: "إني قد أعطيتهم الأمان" فقال عمر: اخرجوا في لعنة الله وغضبه، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يخرجهم من المدينة، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.

    {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ} النداء على سبيل التشريف والتكرمة لأن لفظ النبوة مشعر بالتعظيم والتكريم أي اثبتْ على تقوى الله ودُمْ عليها، قال أبو السعود: في ندائه صلى الله عليه وسلم بعنوان النبوة تنويهٌ بشأنه، وتنبيهٌ على سمو مكانه، والمراد بالتقوى المأمور به الثباتُ عليه والازديادُ منه، فإِنَّ له باباً واسعاً ومكاناً عريضاً لا يُنال مداه {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي ولا تطع أهل الكفر والنفاق فيما يدعونك إليه من اللين والتساهل، وعدم التعرض لآلهتهم بسوء، ولا تقبل أقوالهم وإِن أظهروا أنها نصيحة، قال المفسرون: دعا المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يرفض ذكر آلهتهم بسوء، وأن يقول إن لها شفاعة فكره صلى الله عليه وسلم ذلك ونزلت الآية { إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} أي إنه تعالى عالم بأعمال العباد وما يضمرونه في نفوسهم، حكيم في تدبير شئونهم {وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} أي واعمل بما يوحيه إليك ربك من الشرع القويم، والدين الحكيم، واستمسك بالقرآن المنزل عليك {إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا} أي خبيرٌ بأعمالكم لا تخفى عليه خافية من شئونكم، وهو مجازيكم عليها {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي اعتمد عليه، والجأ في جميع أمورك إليه {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} أي وحسبك أن يكون الله حافظاً وناصراً لك ولأصحابك.

    إبطال الظهار الجاهلي والتبني

    {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ(4)ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا ءاباءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(5)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (4):

    {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ}: أخرج الترمذي وحسنه عن ابن عباس قال: قام النبي صلى الله عليه وسلم يوماً يصلي، فخطر خطرة، فقال المنافقون الذي يصلون معه: ألا ترى أن له قلبين، قلباً معكم وقلباً معه، فأنزل الله: {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ}.

    {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ} {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ}: أخرج البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن ابن عمر قال: ما كنا ندعو زيد بن حارثة إلا زيد بن محمد، حتى نزلت في القرآن: {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أنت زيد بن حارثة بن شَرَاحيل.

    ثم ردَّ تعالى مزاعم الجاهليين ببيان الحق الساطع فقال {مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ} أي ما خلق الله لأحدٍ من الناس أياً كان قلبين في صدره، قال مجاهد: نزلت في رجلٍ من قريش كان يُدعى "ذا القلبين" من دهائه، وكان يقول: إنَّ في جوفي قلبين أعقل بكلِ واحدٍ منهما أفضل من عقل محمد {وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ} أي وما جعل زوجاتكم اللواتي تظاهرون منهنَّ أمهاتكم، قال ابن الجوزي: أعلمَ تعالى أن الزوجة لا تكونُ أُماً، وكانت الجاهلية تُطلّق بهذا الكلام وهو أن يقول لها: أنتِ عليَّ كظهر أمي {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءكُمْ أَبْنَاءكُمْ } أي وما جعل الأبناء من التبني الذين ليسوا من أصلابكم أبناءً لكم حقيقةً {ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ } أي دعاؤهم أبناء مجرد قول بالفم لا حقيقة له من الواقع {وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ} أي والله تعالى يقول الحقَّ الموافق للواقع، والمطابق له من كل الوجوه { وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} أي يرشد إلى الصراط المستقيم، والغرضُ من الآية التنبيهُ على بطلان مزاعم الجاهلية، فكما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه، فكذلك لا يمكن أن تصبح الزوجة المظاهر منها أماً، ولا الولد المتبنَّى ابناً، لأن الأم الحقيقية هي التي ولدته، والابن الحقيقي هو الذي وُلد من صلب الرجل، فكيف يجعلون الزوجات المظاهر منهن أمهات؟ وكيف يجعلون أبناء الآخرين أبناءً لهم مع أنهم ليسوامن أصلابهم؟ثم أمر تعالى بردّ نسب هؤلاءإلى ءابائهم فقال {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي انسبوا هؤلاء الذين جعلتموهم لكم أبناء لآبائهم الأصلاء {هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} أي هو أعدلُ وأقسط في حكم الله وشرعه، قال ابن جرير: أي دعاؤكم إياهم لآبائهم هو أعدل عند الله وأصدقُ وأصوب من دعائكم إياهم لغير ءابائهم {فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا ءاباءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} أي فإِن لم تعرفوا ءاباءهم الأصلاء فتنسبوهم إليهم فهم إخوانكم في الإِسلام {وَمَوَالِيكُمْ} أي أولياؤكم في الدين، فليقل أحدكم: يا أخي ويا مولاي يقصد أخوَّة الدين وولايته، قال ابن كثير: أمر تعالى بردّ أنساب الأدعياء إلى ءابائهم إن عُرفوا، فإِن لم يُعرفوا فهم إخوانهم في الدين ومواليهم، عوضاً عما فاتهم من النسب، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة: "أنت أخونا ومولانا" وقال ابن عمر: ما كنا ندعو "زيد بن حارثة" إلا زيد بن محمد حتى نزلت {ادْعُوهُمْ لآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ} {وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ} أي وليس عليكم أيها المؤمنون ذنبٌ أو إثم فيمن نسبتموهم إلى غير ءابائهم خطأً {وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ} أي ولكنَّ الإِثم فيما تقصدتم وتعمدتم نسبته إلى غير أبيه {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي واسع المغفرة عظيم الرحمة، يعفو عن المخطئ ويرحم المؤمن التائب.

    شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته، والميراث بقرابة الرحم

    {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا(6)وَإِذْ أَخَذْنَا مِنْ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا(7)لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا(8)}.

    ثم بيَّن تعالى شفقة الرسول صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم فقال {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} أي هو عليه السلام أرأف بهم وأعطف عليهم، وأحقُّ بهم من أنفسهم في كل شيء من أمور الدين والدنيا، وحكمه أنفذ وطاعته أوجب {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أي وزوجاتُه الطاهرات أمهات للمؤمنين في وجوب تعظيمهن واحترامهن، وتحريم نكاحهنَّ، قال أبو السعود: أي منزّلات منزلة الأمهات، في التحريم واستحقاق التعظيم، وأما فيما عدا ذلك فهنَّ كالأجنبيات {وَأُوْلُو الأَرْحَامِ} أي أهل القرابات {بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ} أي أحقُّ بالإِرث من المهاجرين والأنصار في شرع الله ودينه {إِلا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا} أي إلاّ أن تحسنوا إلى إخوانكم المؤمنين والمهاجرين في حياتكم، أو توصوا إِليهم عند الموت فإِن ذلك جائز، وبسط اليد بالمعروف مما حثَّ الله عباده عليه، قال المفسرون: وهذا نسخٌ لما كان في صدر الإِسلام من توارث المسلمين من بعضهم بالأخوة الإِيمانية وبالهجرة ونحوها {كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا} أي كان حكم التوارث بين ذوي الأرحام مكتوباً مسطراً في الكتاب العزيز لا يبدل ولا يُغير، قال قتادة: أي مكتوباً عند الله عز وجل ألا يرث كافر مسلماً {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ} أي اذكر وقت أخذنا من النبيين عهدهم المؤكد باليمين، أن يفوا بما التزموا، وأن يصدِّق بعضهم بعضاً، وأن يؤمنوا برسالة محمد صلى الله عليه وسلم ورسالاتهم {وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} أي وأخذنا منك يا محمد الميثاق ومن نوح وإِبراهيم وموسى وعيسى، وهؤلاء هم أولو العزم ومشاهير الرسل، وإِنما قدَّمه صلى الله عليه وسلم في الذكر لبيان مزيد شرفه وتعظيمه، قال البيضاوي: خصَّهم بالذكر لأنهم مشاهير أرباب الشرائع، وقدَّم نبينا عليه الصلاة والسلام تعظيماً له وتكريماً لشأنه، وقال ابن كثير: بدأ بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه، وبياناً لعظم مكانته، ثم رتبهم بحسب وجودهم في الزمان {وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا} أي وأخذنا من الأنبياء عهداً وثيقاً عظيماً على الوفاء بما التزموا به من تبليغ الرسالة {لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ } أي ليسأل الله يوم القيامة الأنبياء الصادقين عن تبليغهم الرسالة إلى قومهم، قال الصاوي: والحكمة في سؤال الرسل مع علمه تعالى بصدقهم هو التقبيح على الكفار يوم القيامة وتبكيتهم، وقال القرطبي: وفي الآية تنبيه على أن الأنبياء إذا كانوا يُسألون يوم القيامة فيكف بمن سواهم؟ وفائدة سؤالهم توبيخ الكفار كما قال تعالى لعيسى {أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ} {وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيماً} أي وقد هيَّا الله تعالى يوم القيامة للمشركين الجاحدين عذاباً مؤلماً موجعاً، بسبب كفرهم وإِعراضهم عن قبول الحق.

    غزوة الأحزاب

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا(9)إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا(10)هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا(11)وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا(12)وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا(13)وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا(14)وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا(15)قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا(16)قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا(17)قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا(18)أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا(19)يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا(20)لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا(21)وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا(22) مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا(23)لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا(24)وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا(25) وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرَضهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً(27)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (9):

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ }: أخرج البيهقي في الدلائل عن حذيفة قال: لقد رأيتنا ليلة الأحزاب، ونحن صافون قعوداً، وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا، وقريظة أسفل منا، نخاف على ذرارينا، وما أتت قط علينا ليلة أشد ظلمة، ولا أشد ريحاً منها، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم إن بيوتنا عورة، وما هي بعورة، فما يستأذن أحد منهم إلا أّذن له، فيتسللون، إذ استقبلنا النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً رجلاً حتى أتى علي، فقال: ائتني بخبر القوم، فجئت، فإذا الريح في عسكرهم، ما تجاوز عسكرهم شبراً، فوالله إني لأسمع صوت الحجارة في رحالهم وفُرُشهم، الريح تضربهم، وهم يقولون: الرحيل الرحيل، فجئت، فأخبرته خبر القوم، وأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ} الآية.

    نزول الآية (12):

    {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ }: أخرج ابن أبي حاتم والبيهقي في الدلائل عن عمرو المزني قال: خطّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق عام الأحزاب، فأخرج الله من بطن الخندق صخرة بيضاء مدورة، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم المعول، فضربها ضربة، صدعها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتي المدينة، فكبَّر، وكبَّر المسلمون، ثم ضربها الثانية، فصدعها وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبَّر وكبر المسلمون، ثم ضربها الثالثة، فكسرها، وبرق منها برق أضاء ما بين لابتيها، فكبَّر، وكبَّر المسلمون، فسئل عن ذلك، فقال: ضربت الأولى، فأضاءت لي قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليهم، ثم ضربت الثانية، فأضاءت لي قصور الحمر من أرض الروم، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، ثم ضربت الثالثة، فأضاءت لي قصور صنعاء، وأخبرني جبريل أن أمتي ظاهرة عليها، فقال المنافقون: ألا تعجبون؟ ويحدّثكم، يُمنِّيكم ويَعدُكم الباطل، ويخبركم أنه يبصر من يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى، وأنها تفتح لكم، وأنتم إنما تحفرون الخندق من الفَرَق، لا تستطيعون أن تَبْرُزوا، فنزل القرآن: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا}.

    نزول الآية (23):

    {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ }: أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أنس قال: غاب عمي أنس بن النضر عن بدر، فكبُر عليه، فقال: أول مشهد قد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غِبتُ عنه، لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليريَنَّ الله ما أصنعُ، فشهد يوم أحد، فقاتل حتى قُتل، فوجد في جسده بضع وثمانون من بين ضربة وطعنة ورمية، ونزلت هذه الآية: {صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} الآية.

    ثم شرع تعالى في ذكر "غزوة الأحزاب" وما فيها من نِعَمٍ فائضة، و ءايات باهرة للمؤمنين فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي اذكروا فضله وإِنعامه عليكم {إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} أي وقت مجيء جنود الأحزاب وتألبهم عليكم، قال أبو السعود: والمراد بالجنود الأحزاب وهم قريش، وغطفان، ويهود قريظة وبني النضير، وكانوا زهاء اثني عشر ألفاً، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإِقبالهم ضرب الخندق على المدينة بإِشارة "سلمان الفارسي" ثم خرج في ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب معسكره والخندقُ بينه وبين المشركين، واشتد الخوف وظنَّ المؤمنون كل ظن، ونجم النفاق في المنافقين حتى قال "معتب بن قشير" يعدنا محمد كنوز كسرى وقيصر ولا نقدر أن نذهب إلى الغائط {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا} أي فأرسلنا على الأحزاب ريحاً شديدة وجنوداً من الملائكة لم تروهم وكانوا قرابة ألف، قال المفسرون: بعث الله عليهم ريحاً عاصفاً وهي ريح الصبا في ليلة شديدة البرد والظلمة، فقلعت بيوتهم، وكفأت قدورهم، وصارت تلقي الرجل على الأرض، وأرسل الله الملائكة فزلزلتهم -ولم تقاتل- بل ألقت في قلوبهم الرعب {وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا} أي وهو تعالى مطلع على ما تعملون من حفر الخندق، والثبات على معاونة النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت {إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ} أي حين جاءتكم الأحزاب من فوق الوادي يعني أدناه قبل المغرب، ومنه جاءت أسد وغطفان {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ } أي ومن أسفل الوادي يعني أدناه قبل الغرب، ومنه جاءت قريش وكنانة وأوباش العرب، والغرضُ أن المشركين جاءوهم من جهة المشرق والمغرب، وأحاطوا بالمسلمين إحاطة السوار بالمعصم، وأعانهم يهود بني قريظة فنقضوا العهد مع الرسول وانضموا إلى المشركين، فاشتد الخوف، وعظُم البلاء ولهذا قال تعالى {وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ} أي وحين مالت الأبصار عن سننها ومستوى نظرها حيرةً وشخوصاً لشدة الهول والرعب {وَبَلَغتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ} أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى كادت تبلغ الحناجر، وهذا تمثيلٌ لشدة الرعب والفزع الذي دهاهم، حتى كأن أحدهم قد وصل قلبه إلى حنجرته من شدة ما يلاقي من الهول {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} أي وكنتم في تلك الحالة الشديدة تظنون الظنون المختلفة، قال الحسن البصري: ظن المنافقون أن المسلمين يُستأصلون، وظنَّ المؤمنون أنهم يُنصرون، فالمؤمنون ظنوا خيراً، والمنافقون ظنوا شراً، وقال ابن عطية: كاد المؤمنون يضطربون ويقولون: ما هذا الخُلف للوعد؟ وهذه عبارة عن خواطر خطرت للمؤمنين لا يمكن للبشر دفعها، وأما المنافقون فتعجلوا ونطقوا وقالوا: ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً {هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ} أي في ذلك الزمان والمكان امتحن المؤمنون واختبروا، ليتميز المخلص الصادق من المنافق، قال القرطبي: وكان هذا الابتلاءُ بالخوف والقتال، والجوع والحصر والنزال {وَزُلْزِلُوا زِلْزَالا شَدِيدًا} أي وحرّكوا تحريكاً عنيفاً من شدة ما دهاهم، حتى لكأن الأرض تتزلزل بهم وتضطرب تحت أقدامهم، قال ابن جزي: وأصل الزلزلة شدةُ التحريك وهو هنا عبارة عن اضطراب القلوب وتزعزعها {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي واذكر حين يقول المنافقون، والذين في قلوبهم مرض النفاق، لأن الإِيمان لم يخالط قلوبهم {مَا وَعدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلا غُرُورًا} أي ما وعدنا الله ورسوله إلا باطلاً وخداعاً، قال الصاوي: والقائل هو "معتب بن قشير" الذي قال: يعدنا محمدٌ بفتح فارس والروم، وأحدُنا لا يقدر أن يتبرز فرقاً، ما هذا إلا وعد غرور، يغرنا به محمد {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ} أي واذكر حين قالت جماعة من المنافقين وهم: أوس بن قيظي وأتباعه، وأُبيُّ بن سلول وأشياعه {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ} أي يا أهل المدينة لا قرار لكم ههنا ولا إقامة {فَارْجِعُوا} أي فارجعوا إلى منازلكم واتركوا محمداً وأصحابه {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ} ويستأذن جماعة من المنافقين النبي صلى الله عليه وسلم في الانصراف متعللين بعلل واهية {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} أي غير حصينة فنخاف عليها العدوَّ والسُّراق {وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ} تكذيب من الله تعالى لهم أي ليس الأمر كما يزعمون {إِنْ يُرِيدُونَ إِلا فِرَارًا} أي ما يريدون بما طلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم إلا الهرب من القتال، والفرار من الجهاد، والتعبيرُ بالمضارع {وَيَسْتَأْذِنُ} لاستحضار الصورة في النفس، فكأن السامع يبصرهم الآن وهم يستأذنون، ثم فضحهم تعالى وبيَّن كذبهم ونفاقهم فقال {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا} أي ولو دخل الأعداء على هؤلاء المنافقين من جميع نواحي المدينة وجوانبها {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا} أي ثم طلب إليهم أن يكفروا وأن يقاتلوا المسلمين لأعطوها من أنفسهم {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلا يَسِيرًا} أي لفعلوا ذلك مسرعين، ولم يتأخروا عنه لشدة فسادهم، وذهاب الحق من نفوسهم، فهم لا يحافظون على الإِيمان ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع، وهذا ذمٌ لهم في غاية الذم {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ} أي ولقد كان هؤلاء المنافقون أعطوا ربهم العهود والمواثيق من قبل غزوة الخندق وبعد بدر ألا يفروا من القتال {وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولا} أي وكان هذا العهد منهم جديراً بالوفاء لأنهم سيسألون عنه، وفيه تهديدٌ ووعيد، قال قتادة: لما غاب المنافقون عن بدر، ورأوا ما أعطى الله أهل بدرٍ من الكرامة والنصر، قالوا لئن أشهدنا الله قتالاً لنقاتلن {قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ} أي قل يا أيها النبي لهؤلاء المنافقين، الذين يفرون من القتال طمعاً في البقاء وحرصاً على الحياة، إن فراركم لن يطوّل أعماركم ولن يؤخر آجالكم، ولن يدفع الموت عنكم أبداً {وَإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلا قَلِيلا} أي ولئن هربتم وفررتم فإِذاً لا تمتعون بعده إلا زمناً يسيراً، لأن الموت مآل كل حي، ومن لم يمت بالسيفِ مات بغيره {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ} أي من يستطيع أن يمنعكم منه تعالى {إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً} أي إن قدَّر هلاككم ودماركم، أو قدَّر بقاءكم ونصركم؟ {وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أي وليس لهم من دون الله مجير ولا مغيث، فلا قريب ينفعهم ولا ناصر ينصرهم {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ} أي لقد علم الله تعالى ما كان من أمر أولئك المنافقين، المثبطين للعزائم، الذين يعوّقون الناس عن الجهاد، ويصدونهم عن القتال {وَالْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي والذين يقولون لإِخوانهم في الكفر والنفاق: تعالوا إلينا واتركوا محمداً وصحبه يهلكوا ولا تقاتلوا معهم، قال تعالى {وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلا قَلِيلا} أي ولا يحضرون القتال إلا قليلاً منهم رياءً وسمعة، قال الصاوي: لأن شأن من يثبّط غيره عن الحرب ألاّ يفعله إلا قليلاً لغرضٍ خبيث، وقال في البحر: المعنى: لا يأتون القتال إلا إتياناً قليلاً، يخرجون مع المؤمنين يوهمونهم أنهم معهم، ولا تراهم يقاتلون إلا شيئاً قليلاً إذا اضطروا إليه، فقتالهُم رياء ليس بحقيقة {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أي بخلاء عليكم بالمودة والشفقة والنصح لأنهم لا يريدون لكم الخير {فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي فإِذا حضر القتال رأيت أولئك المنافقين في شدة رعب لا مثيل لها، حتى إنهم لتدور أعينهم في أحداقهم كحال المغشي عليه من معالجة سكرات الموت حَذراً وخَوراً، قال القرطبي: وصفهم بالجبن، وكذا سبيل الجبان ينظر يميناً وشمالاً محدّداً بصره، وربما غُشي عليه من شدة الخوف {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أي فإِذا ذهب الخوف عنهم وانجلت المعركة آذوكم بالكلام بألسنة سليطة، وبالغوا فيكم طعناً وذماً، قال قتادة: إذا كان وقت قسمة الغنيمة بسطوا ألسنتهم فيكم، يقولون: أعطونا أعطونا فإِنا قد شهدنا معكم، ولستم أحقَّ بها منا، فأما عند البأس فأجبن قومٍ وأخذلهم للحق، وأمّا عند الغنيمة فأشح قوم وأبسطهم لساناً {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} أي خاطبوكم بما خاطبوكم به حال كونهم أشحة أي بخلاء على المال والغنيمة { أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا} أي أولئك الموصوفون بما ذكر من صفات السوء، لم يؤمنوا حقيقةً بقلوبهم وإِن أسلموا ظاهراً {فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ} أي أبطلها بسبب كفرهم ونفاقهم، لأن الإِيمان شرط في قبول الأعمال {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} أي وكان ذلك الإِحباط سهلاً هيناً على الله، ثم أخبر تعالى عنهم بما يدل على جبنهم فقال {يَحْسَبُونَ الأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} أي يحسب المنافقون من شدة خوفهم وجبنهم أن الأحزاب -وهم كفار قريش ومن تحزب معهم- بعد انهزامهم لم ينصرفوا عن المدينة وهم قد انصرفوا {وَإِنْ يَأْتِ الأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأَعْرَابِ } أي وإِن يرجع إليهم الكفار كرة ثانية للقتال يتمنوا لشدة جزعهم أن يكونوا في البادية مع الأعراب -لا في المدينة معكم- حذراً من القتل وتربصاً للدوائر {يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ} أي يسألون عن أخباركم وما وقع لكم فيقولون: أهلك المؤمنون؟ أغلب أبو سفيان؟ ليعرفوا حالكم بالاستخبار لا بالمشاهدة {وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلا قَلِيلا} أي ولو أنهم كانوا بينكم وقت القتال واحتدام المعركة ما قاتلوا معكم إلا قتالاً قليلاً لجبنهم وذلتهم وحرصهم على الحياة.

    {لَقدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي لقد كان لكم أيها المؤمنون في هذا الرسول العظيم قدوةٌ حسنة، تقتدون به صلى الله عليه وسلم في إخلاصه، وجهاده، وصبره، فهو المثل الأعلى الذي يجب أن يُقتدى به، في جميع أقواله وأفعاله وأحواله، لأنه لا ينطق ولا يفعل عن هوى، بل عن وحيٍ وتنزيل، فلذلك وجب عليكم تتبع نهجه، وسلوك طريقه {لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ} أي لمن كان مؤمناً مخلصاً يرجو ثواب الله، ويخاف عقابه {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} أي وأكثر من ذكر ربه، بلسانه وقلبه، قال ابن كثير: أمر تبارك وتعالى الناسَ بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في صبره ومصابرته، ومجاهدته ومرابطته، ولهذا قال للذين تضجروا وتزلزلوا، واضطربوا يوم الأحزاب {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} والمعنى: هلاّ اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صلى الله عليه وسلم ‍‍‍‍ ثم حكى تعالى موقف المؤمنين الصادقين في غزوة الأحزاب أثناء رؤيتهم جنود قريش ومن تحزب معهم، وما صدر عن المؤمنين من إخلاصٍ ويقين، تُظهر بوضوح روح الإِيمان والتضحية فقال {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي ولَّما رأى المؤمنون الكفار قادمين نحوهم، وقد أحاطوا بهم من كل جانب إحاطة السوار بالمعصم، قالوا: هذا ما وعدنا به الله ورسولُه، من المحنة والابتلاء، ثم النصر على الأعداء {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي صدق الله في وعده، ورسولُه فيما بشرنا به، قال المفسرون: لما كان المسلمون يحفرون الخندق اعترضتهم صخرة عظيمة عجزوا عن تكسيرها، فأخبروا الرسول صلى الله عليه وسلم بها فجاء وأخذ المعول وضربها ثلاث ضربات أضاءت له منها مدائن كسرى، وقصور الروم، فقال: أبشروا بالنصر، فلما أقبلت جموع المشركين ورأوهم قالوا {هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} {وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا} أي وما زادهم ما رأوه من كثرة جند الأحزاب، ومن شدة الضيق والحصار، إلا إيماناً قوياً عميقاً بالله، واستسلاماً وانقياداً لأوامره {مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} أي ولقد كان من أولئك المؤمنين رجالٌ صادقون، نذروا أنهم إذا أدركوا حرباً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا {فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ} أي فمنهم من وفىّ بنذره وعهده حتى استشهد في سبيل الله كأنس بن النضر وحمزة {وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ} أي ومنهم من ينتظر الشهادة في سبيل الله { وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلا} أي وما غيَّروا عهدهم الذي عاهدوا عليه ربهم أبداً {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ} أي ليجزي الله الصادقين بسبب صدقهم وحسن صنيعهم أحسن الجزاء في الآخرة {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ} أي ويعذّب المنافقين الناقضين للعهود بأن يميتهم على النفاق فيعذبهم، أو يتوب عليهم فيرحمهم {إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا} أي واسع المغفرة رحيماً بالعباد، قال ابن كثير: ولما كانت رحمته ورأفته تبارك وتعالى هي الغالبة لغضبه ختم بها الآية الكريمة {وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} أي وردَّ الله الأحزاب الذين تألبوا على غزو المدينة خائبين خاسرين، مغيظين محنقين، لم يشف صدورهم بنيل ما أرادوا {لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا} أي حال كونهم لم ينالوا أيَّ خير لا في الدنيا ولا في الآخرة، بل قد اكتسبوا الآثام في مبارزة الرسول عليه السلام وهمّهم بقتله {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} أي كفاهم شرَّ أعدائهم بأن أرسل عليهم الريح والملائكة حتى ولّوا الأدبار منهزمين {وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا} أي قادراً على الانتقام من أعدائه، عزيزاً غالباً لا يُقهر، ولهذا كان عليه السلام يقول: (لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأعزَّ جنده، وهزم الأحزاب وحده) {وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ } أي وأنزل اليهود -وهم بنو قريظة- الذين أعانوا المشركين ونقضوا عهدهم وانقلبوا على النبي وأصحابه، أنزلهم من حصونهم وقلاعهم التي كانوا يتحصنون فيها {وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمْ الرُّعْبَ} أي ألقى الله في قلوبهم الخوف الشديد حتى فتحوا الحصون واستسلموا، قال ابن جزي: نزلت الآية في يهود "بني قريظة" وذلك أنهم كانوا معاهدين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنقضوا عهده وصاروا مع قريش، فلما انهزم المشركون وانصرفت قريش عن المدينة حاصر رسول الله صلى الله عليه وسلم بني قريظة حتى نزلوا على حكم "سعد بن معاذ" فحكم بأن يُقتل رجالهم، وتُسبى نساؤهم وذريتهم فذلك قوله تعالى {فَرِيقًا تَقْتُلُونَ} يعني الرجال وقد قتل منهم يومئذٍ ما بين الثمانمائة والتسعمائة {وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا} يعني النساء والذرية {وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} أي وأورثكم يا معشر المؤمنين أرض بني قريظة وعقارهم وخيلهم ومنازلهم وأموالهم التي تركوها {وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا} أي وأرضاً أخرى لم تطؤوها بعدُ بأقدامكم، وهي خيبر لأنها أخذت بعد قريظة، وكل أرض فتحها المسلمون بعد ذلك {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} أي قادراً على كل ما أراد، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، قال أبو حيان: ختم تعالى هذه الآية ببيان قدرته على كل شيء، وكأن في ذلك إشارة إلى فتحه على المسلمين الفتوح الكثيرة، فكما ملَّكهم هذه الأراضي فكذلك هو قادر على أن يملّكهم غيرها من البلاد.

    تخيير زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم بين الدنيا والآخرة

    {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا(28)وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا(29)يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا(30)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (28):

    {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ}: روى أحمد ومسلم والنسائي عن جابر رضي الله عنه قال: "أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلم يؤذن له، ثم أقبل عمر، فاستأذن، فلم يؤذن له، ثم أذن لهما، فدخلا، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس، وحوله نساؤه، وهو ساكت، فقال عمر: لأُكلمنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك، فقال عمر: يا رسول الله، لو رأيت ابنة زيد -امرأة عمر- سألتني النفقة آنفاً، فوجأت عنقها، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدا ناجذه، وقال: هن حولي يسألنني النفقة، فقام أبو بكر إلى عائشة ليضربها، وقام عمر إلى حفصة، كلاهما يقول: تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده، وأنزل الله الخيار، فبدأ بعائشة،فقال: إني ذاكر لك أمراً ما أحب أن تعجلي فيه، حتى تستأمري أبويك، قالت: ما هو؟ فتلا عليها: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} الآية. قالت: أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وأسألك ألا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترتُ، فقال صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى لم يبعثني مُعَنِّفاً، ولكن بعثني مُعَلِّماً ميسراً، لا تسألني امرأة منهن عما اخترتِ إلا أخبرتها".

    {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ} أي قل لزوجاتك اللاتي تأذيتَ منهن بسبب سؤالهن إياك الزيادة في النفقة {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} أي إن رغبتُنَّ في سعة الدنيا ونعيمها، وبهرجها الزائل {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} أي فتعالينَ حتى أدفع لكنَّ متعة الطلاق {وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} أي وأطلقكُنَّ طلاقاً من غير ضرار {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ} أي وإِن كنتُنَّ ترغبن في رضوان الله ورسوله، والفوز بالنعيم الوافر في الدار الآخرة {فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا} جواب الشرط أي فإِن الله تعالى قد هيأ للمحسنات منكنَّ بمقابلة إحسانهن ثواباً كبيراً لا يوصف، وهو الجنة التي فهيا ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، قال في البحر: لما نصر الله نبيه، وفرَّق عنه الأحزاب، وفتح عليه قريظة والنضير، ظنَّ أزواجه أنه اختصَّ بنفائس اليهود وذخائرهم، فقعدن حوله وقلن يا رسول الله: بناتُ كسرى وقيصر في الحُليّ والحُلَل، ونحن علىما تراه من الفاقة والضيق!! وآلمن قلبه بمطالبتهن له بتوسعة الحال، وأن يعاملهنَّ بما يعامل به الملوك والأكابر أزواجهم، فأمره الله أن يتلو عليهن ما نزل في أمرهنَّ، وأزواجه إذ ذاك تسع زوجات {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي من تفعل منكن كبيرةً من الكبائر، أو ذنباً تجاوز الحدَّ في القبح، قال ابن عباس: يعني النشوز وسوء الخلق {يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} أي يكون جزاؤها ضعف جزاء غيرها من النساء، لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة {وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} أي كان ذلك العقاب سهلاً يسيراً على الله، لا يمنعه منه كونهنَّ أزواج ونساء النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الآية تلوينٌ للخطاب، فبعد أن كانت المخاطبة لهن على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وجَّه الخطاب إليهنَّ هنا مباشرةً لإِظهار الاعتناء بأمرهن ونصحهن، قال الصَّاوي: وهذه الآيات خطاب من الله لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم إظهاراً لفضلهن، وعظم قدرهن عند الله تعالى، لأن العتاب والتشديد في الخطاب مشعر برفعة رتبتهن، لشدة قربهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنهن أزواجه في الجنة، فبقدر القرب من رسول الله يكون القرب من الله.

     
  2. #72
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4387

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    خصائص أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم

    {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا(31)يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنْ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا(32)وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا(33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءاياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا(34)}.

    {وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ} أي ومن تواظب منكنَّ على طاعة الله وطاعة رسوله {وَتَعْمَلْ صَالِحًا} أي وتتقرب إلى الله بفعل الخير وعمل الصالحات { نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ} أي نعطها الثواب مضاعفاً ونثيبها مرتين: مرة على الطاعة والتقوى، وأخرى على طلبهنَّ رضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقناعة وحسن المعاشرة {وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا} أي وهيأنا لها في الجنة -زيادة على ما لها من أجر- رزقاً حسناً مرضياً لا ينقطع، ثم أظهر فضيلتهنَّ على النساء فقال {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ} أي أنتن تختلفن عن سائر النساء من جهة أنكنَّ أفضل وأشرف من غيركن، لكونكن زوجات خاتم الرسل، وأفضل الخلق محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، فليست الواحدة منكنَّ كالواحدة من آحاد النساء {إِنْ اتَّقَيْتُنَّ} شرطٌ حذف جوابه لدلالة ما قبله أي إن اتقيتنَّ اللهَ فأنتُنَّ بأعلى المراتب، قال القرطبي: بيَّن تعالى أن الفضيلة إنما تتم لهن بشرط التقوى، لما منحهنَّ الله من صحبة رسوله سيد الأولين والآخرين، وقال ابن عباس: يريد في هذه الآية: ليس قدركنَّ عندي مثل قدر غيركن من النساء الصالحات، أنتُنَّ أكرمُ عليَّ وثوابكنَّ أعظم إن اتقيتُن، فشرط عليهن التقوى بياناً أن فضيلتهن إنما تكون بالتقوى، لا بنفس اتصالهن برسول الله صلى الله عليه وسلم {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} أي فلا ترققن الكلام عند مخاطبة الرجال {فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي فيطمع من كان في قلبه فجور وريبة، وحبٌ لمحادثة النساء {وَقُلْنَ قَوْلا مَعْرُوفًا} أي وقلن قولاً حسناً عفيفاً لا ريبة فيه، ولا لين ولا تكسر عند مخاطبتكنَّ للرجال، قال ابن كثير: ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلامٍ ليس فيه ترخيم، ولا تخاطب الأجنبيَّ كما تخاطب زوجها {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} أي الزَمْنَ بيوتكنَّ ولا تخرجن لغير حاجة، ولا تفعلن كما تفعل الغافلات، المتسكعات في الطرقات لغير ضرورة {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى} أي لا تظهرن زينتكن ومحاسنكنَّ للأجانب مثل ما كان نساء الجاهلية يفعلن، حيث كانت تخرج المرأة إلى الأسواق مظهرةً لمحاسنها، كاشفة ما لا يليق كشفه من بدنها، قال قتادة: كانت لهن مشية فيها تكسُّرٌ وتغنج فنهى الله تعالى عن ذلك {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ} أي حافظن على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، قال ابن كثير: نهاهنَّ أولاً عن الشر، ثم أمرهن بالخير، من إقامة الصلاة وهي عبادة الله وحده، وإيتاء الزكاة وهي الإِحسان إلى المخلوقين {وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي أطعن الله ورسوله في جميع الأوامر والنواهي لتنلن مرتبة المتقيات { إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ} أي إنما يريد الله أن يخلصكنَّ من دنس المعاصي، ويطهركنَّ من الآثام، التي يتدنس بها عرض الإِنسان كما يتلوث بدنه بالنجاسات {أَهْلَ الْبَيْتِ} أي يا أهل بيت النبوة {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} أي ويطهركم من أوضار الذنوب والمعاصي تطهيراً بليغاً {وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ ءاياتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ} أي واقرأن ءايات القرآن، وسنة النبي عليه الصلاة والسلام، فإِن فيهما الفلاح والنجاح، قال الزمخشري: ذكّرهن أن بيوتهن مهابط الوحي، وأمرهنَّ ألا ينسين ما يُتلى فيها من الكتاب الجامع بين أمرين: آيات بينات تدل على صدق النبوة، وحكمة وعلوم وشرائع سماوية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا} أي عالماً بما يصلح لأمر العباد، خبيراً بمصالحهم ولذلك شرع للناس ما يسعدهم في دنياهم وآخرتهم.

    مساواة الرجال والنساء في الجزاء والثواب

    {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا(35)}.

    ثم أخبر تعالى أن المرأة والرجل في الجزاء والثواب سواء فقال {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ} هم المتمسكون بأوامر الإِسلام المتخلقون بأخلاقه رجالاً ونساءً {وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي المصدِّقين بالله وآياته، وما أنزل على رسله وأنبيائه {وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ} أي العابدين الطائعين، المداومين على الطاعة {وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ} أي الصادقين في إيمانهم، ونياتهم، وأقوالهم، وأعمالهم {وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ} أي الصابرين على الطاعات وعن الشهوات في المكره والمنشط {وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ} أي الخاضعين الخائفين من الله جل وعلا، المتواضعين له بقلوبهم وجوارحهم { وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ} أي المتصدقين بأموالهم على الفقراء، بالإِحسان وأداء الزكوات {وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ} أي الصائمين لوجه الله شهر رمضان وغيره من الأيام، فالصوم زكاة البدن يزكيه ويطهّره {وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ} أي عن المحارم والآثام، وعما لا يحل من الزنى وكشف العورات {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} أي المديمين ذكر الله بألسنتهم وقلوبهم في كل الأوقات والأمكنة {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا} أي أعدَّ لهؤلاء المتقين الأبرار، المتصفين بالصفات الجليلة أعظم الأجر والثواب وهو الجنة، مع تكفير الذنوب بسبب ما فعلوه من الأعمال الحسنة، وهذا تمام المساواة في الثواب يوم القيامة.

    إبطال التبني وقصة زيد بن حارثة وزينب بنت جحش

    {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا(36)وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا(37)مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا(38)الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا(39)مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا(40) }.

    نزول الآية (37):

    {وَإِذْ تَقُولُ}: أخرج البخاري عن أنس أن هذه الآية نزلت في زينب بنت جحش وزيد بن حارثة. وأخرج الحاكم عن أنس قال: جاء زيد بن حارثة يشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من زينب بنت جحش، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أمسك عليك أهلك، فنزلت: {وَتُخْفِي في نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ}.

    نزول الآية (40):

    {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ..}: أخرج الترمذي عن عائشة قالت: لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : تزوج حليلة ابنه، فأنزل الله: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} الآية.

    {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ} أي لا ينبغي ولا يصح ولا يليق بأي واحدٍ من المؤمنين والمؤمنات {إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا} أي إذا أمر الله عز وجل وأمر رسوله بشيءٍ من الأشياء، قال الصاوي: ذكرُ اسم الله للتعظيم وللإِشارة إلى أن قضاء رسول الله هو قضاء الله لكونه لا ينطق عن الهوى {أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} أي أن يكون لهم رأيٌ أو اختيار، بل عليهم الانقياد والتسليم، قال ابن كثير: وهذه الآية عامة في جميع الأمور، وذلك أنه إذا حكم الله ورسولُه بشيءٍ فليس لأحدٍ مخالفته، ولا اختيار لأحدٍ ولا رأي ولا قول، ولهذا شدَّد النكير فقال {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُبِينًا} أي ومن يخالف أمر الله وأمر رسوله فقد حاد عن الطريق السوي، وأخطأ طريق الصواب، وضلَّ ضلالاً بيناً واضحاً {وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي اذكر أيها الرسول وقت قولك للذي أنعم الله عليه بالهداية للإِسلام {وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ} بالتحرير من العبودية والإِعتاق، قال المفسرون: هو "زيد بن حارثة" كان من سبي الجاهلية اشترته "خديجة" ووهبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فكان مملوكاً عنده ثم أعتقه وتبنَّاه، وزوَّجه ابنة عمته "زينب بنت جحش" رضي الله عنها {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ} أي أمسك زوجتك زينب في عصمتك ولا تطلقها واتّقِ الله في أمرها {وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ} أي وتضمر يا محمد في نفسك ما سيظهره الله وهو إرادة الزواج بها(1)، قال في التسهيل: الذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر جائزٌ مباح لا إثم فيه ولا عتب، ولكنه خاف أن يقول الناس تزوج امرأة ابنه إذ كان قد تبناه، فأخفاه حياءً وحشمة وصيانة لعرضه من ألسنتهم، فالذي أخفاه صلى الله عليه وسلم هو إرادة تزوجها ليبطل حكم التبني فأبدى الله ذلك بأن قضى له بتزوجها {وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ} أي تهاب أن يقول الناسُ تزوج محمد حليلة ابنه، واللهُ أحقُّ أن تخشاه وحده، وأن تجهر بما أوحاه إليك من أنك ستتزوج بها بعد أن يطلقها زيدُ، قال ابن عباس: خشي أن يقول المنافقون: تزوج محمد امرأة ابنه {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا} أي فلما قضى زيدٌ حاجته من نكاحها وطلَّقها زوجناك إياها يا محمد، وهذا نصٌ قاطع صريح على أن الذي أخفاه رسول الله صلى الله عليه وسلم هو إرادة الزواج بها بعد تطليق زيدٍ لها تنفيذاً لأمر الوحي، لا حبُّه لها كما زعم الأفَّاكون، ومعنى {زَوَّجْنَاكَهَا} جعلناها زوجةً لك، قال المفسرون: إنَّ الذي تولّى تزويجها هو الله جل وعلا، فلما انقضت عدتها دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا إذنٍ ولا عقدٍ ولا مهرٍ ولا شهود، وكان ذلك خصوصية للرسول صلى الله عليه وسلم، روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "كانت زينبُ تفخَر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: زوَّجكُنَّ أهاليكُنَّ، وزوَّجني ربي من فوقِ سبع سماوات" ثم ذكر تعالى الحكمة من هذا الزواج فقال {لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} أي لئلا يكون في تشريع الله على المؤمنين ضيق ومشقة وتأثم في حق تزوج مطلقات الأبناء من التبني، إذا لم يبق لأزواجهن حاجة فيهن، قال ابن الجوزي: المعنى زوجناك زينب -وهي امرأة زيد الذي تبنَّيته- لكيلا يُظنَّ أن امرأة المتبنَّى لا يحل نكاحها {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولا} أي وكان أمر الله لك، ووحيه إليك بتزوج زينب مقدَّراً محتماً كائناً لا محالة، ولما نفى الحرج عن المؤمنين، نفى الحرج عن سيد المرسلين بخصوصه على سبيل التكريم والتشريف فقال {مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ} أي لا حرج ولا إثم ولا عتاب على النبي فيما أباح الله له وقسم من الزوجات، قال الضحاك: كان اليهود عابوه بكثرة النكاح، فردَّ الله عليهم بقوله {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أي هذه سنة الله في جميع الأنبياء السابقين حيث وسَّع عليهم فيما أباح لهم، قال القرطبي: أي سنَّ لمحمد صلى الله عليه وسلم في التوسعة عليه في النكاح، سنة الأنبياء الماضية كداود وسليمان، فكان لداود مائة امرأة ولسليمان ثلاثمائة امرأة، عدا السُّريات {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا} أي قضاءً مقضياً، وحكماً مقطوعاً به من الأزل، لا يتغيَّر ولا يتبدَّل، ثم أثنى تعالى على جميع الأنبياء والمرسلين بقوله:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ} أي هؤلاء الذين أخبرتك عنهم يا محمد، وجعلتُ لك قدوة بهم، هم الذين يبلّغون رسالات الله إلى من أُرسلوا إليه {وَيَخْشَوْنهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلا اللَّهَ} أي يخافون الله وحده ولا يخافون أحداً سواه، فاقتد يا محمد بهم {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} أي يكفي أن يكون الله محاسباً على جميع الأعمال والأفعال، فينبغي أن لا يُخْشى غيره، ثم أبطل تعالى حكم التبني الذي كان شائعاً في الجاهلية فقال {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ} قال المفسرون: لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب قال الناس: إن محمداً قد تزوج امرأة ابنه فنزلت هذه الآية، قال الزمخشري: أي لم يكن أبا رجلٍ منكم على الحقيقة، حتى يثبت بينه وبينه ما يثبت بين الأب وولده من حرمة الصهر والنكاح {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} أي ولكنّه عليه السلام آخر الأنبياء والمرسلين، ختم الله به الرسالات السماوية، فلا نبيَّ بعده، قال ابن عباس: يريد: لو لم أختم به النبيّين لجعلتُ له ولداً يكون بعده نبياً {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} أي هو العالم بأقوالكم وأفعالكم، لا تخفى عليه خافية من أحوالكم.

    (1) يتثبّت بعض أعداء الإِسلام بروايات ضعيفة واهية، للطعن في الرسول الكريم والنيل من مقامه العظيم، وجدت في بعض كتب التفسير!! من هذه الروايات الباطلة التي تلقفها "المستشرقون" وخبّوا فيها وأوضعوا، أن الرسول صلى الله عليه وسلم رأى "زينب" وهي متزوجة بزيد بن حارثة فأحبَّها ووقعت في قلبه، فقال "سبحان مقلب القلوب" فسمعتها زينب فأخبرت بها زيداً، فأراد أن يطلقها فقال له الرسول {أمسكْ عليك زوجك} حتى نزل القرآن يعاتبه على إخفائه ذلك .. الخ وهذه رواياتٌ باطلة لم يصح فيها شيء كما قال العلامة "أبو بكر بن العربي" رحمه الله، والآية صريحة في الردِّ على هذا البهتان، فإِن الله سبحانه أخبر بأنه سيظهر ما أخفاه الرسول {وتخفي في نفسك ما الله مُبديه} فماذا أظهر الله تعالى ؟ هل أظهر حب الرسول وعشقه لزينب، أم أن الذي أظهره هو أمره عليه السلام بالزواج بها لحكمة عظيمة جليلة هي إبطال "حكم التبني" الذي كان شائعاً في الجاهلية ولهذا صرح تعالى بذلك وأبداه علناً وجهاراً {فلما قضى زيدٌ منها وطراً زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم} يا قوم اعقلوا وفكروا، وتفهموا الحق لوجه الحق بلا تلبيس ولا تشويش وتبصروا فيما تقولون فمن غير المعقول أن يعاتب الشخص لأنه لم يجاهر بحبه لزوجة جاره ؟ وحاشا الرسول الطاهر الكريم أن يتعلق قلبه، بامرأةٍ هي في عصمة رجل، وأن يخفي هذا الحب حتى ينزل القرآن يعاتبه على إخفائه، فإن مثل هذا لا يليق بأي رجل عادي، فضلاً عن أشرف الخلق عليه أفضل الصلاة والتسليم، وغاية ما في الأمر -كما نقل أبو حيّان- عن علي بن الحسين أنه قال : "أعلم الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن زينب ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها، فلما أتاه زيد يشكوها إليه وقال له : اتق الله وأمسك عليك زوجك، عاتبه الله وقال له : أخبرتك أني مزوجكها وتخفي في نفسك ما اللهُ مبديه"!!! انظر رد الفرية في كتابنا النبوة والأنبياء ص99.

    الحث على ذكر الله وتسبيحه صباحاً ومساءً ورحمته تعالى بعبادته

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا(41)وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلا(42)هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا(43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا(44)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (43):

    {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي..}: أخرج عبد بن حميد عن مجاهد قال: لما نزلت: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} [الأحزاب: 56] قال أبو بكر رضي الله عنه: يا رسول الله، ما أنزل عليك خيراً إلا أشركنا فيه، فنزلت: {هُوَ الذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ}.

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} أي اذكروا الله بالتهليل والتحميد، والتمجيد والتقديس ذكراً كثيراً، بالليل والنهار، والسفر والحضر {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} أي وسبحوا ربكم في الصباح والمساء، قال العلماء: خصهما بالذكر لأنهما أفضل الأوقات بسب تنزل الملائكة فيهما {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ} أي هو جل وعلا يرحمكم على الدوام، ويعتني بأمركم، وبكل ما فيه صلاحكم وفلاحكم {وَمَلائِكَتُهُ} أي وملائكتُه يصلون عليكم أيضاً بالدعاء والاستغفار وطلب الرحمة، قال ابن كثير: والصلاةُ من الله سبحانه ثناؤه على العبد عند الملائكة، وقيل: الصلاة من الله الرحمةُ، ومن الملائكة: الدعاءُ والاستغفار { لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي لينقذكم من الضلالة إلى الهدى، ومن ظلمات العصيان إلى نور الطاعة والإِيمان {وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا} أي واسع الرحمة بالمؤمنين، حيث يقبل القليل من أعمالهم، ويعفو عن الكثير من ذنوبهم، لإِخلاصهم في إيمانهم {تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ} أي تحية هؤلاء المؤمنين يوم يلقون ربهم السلامُ والإِكرام في الجنة من الملك العلاّم كقوله تعالى {سَلامٌ قَوْلا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}{وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا} أي وهيأ لهم ثواباً حسناً وهو الجنة وما فيها من النعيم المقيم، قال ابن كثير: والمراد بالأجر الكريم الجنةُ وما فيها من المآكل والمشارب، والملابس والمساكن، والملاذّ والمناظر، مما لا عينٌ رأتْ، ولا أذنٌ سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر.

    أوصاف النبي صلى الله عليه وسلم، وحكم الطلاق قبل المساس

    {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا(45)وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا(46)وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا(47)وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا(48) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا(49)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (47):

    {وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ}: أخرج ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا: لما نزل {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2] قال رجال من المؤمنين: هنيئاً لك يا رسول الله، قد علمنا بما يُفعل بك، فماذا يُفعل بنا، فأنزل الله {لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ} الآية [الفتح:5]. وأنزل في سورة الأحزاب {وَبَشِّرْ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا}.

    ثم لما بيَّن تعالى أنه أخرج المؤمنين من ظلمات الكفر والضلال إلى أنوار الهداية والإِيمان، عقَّبه بذكر أوصاف السراج المنير الذي أضاء الله به الأكوان فقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا} أي شاهداً على أمتك وعلى جميع الأمم بأن أنبياءهم قد بلغوهم رسالة ربهم {وَمُبَشِّرًا} أي مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم {وَنَذِيرًا} أي ومنذراً للكافرين من عذاب الجحيم {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ} أي وداعياً للخلق إلى توحيد الله وطاعته وعبادته، بأمره جل وعلا لا من تلقاء نفسك {وَسِرَاجًا مُنِيرًا} أي وأنت يا محمد كالسراج الوهَّاج المضيء للناس، يُهْتدى بك في الدهماء، كما يُهْتدى بالشهاب في الظلماء، قال ابن كثير: أي أنت يا محمد كالشمس في إشراقها وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند، وقال الزمخشري: شبَّهه بالسراج المنير لأن الله جلى به ظلمات الشركِ، واهتدى به الضالون، كما يُجلى ظلام الليل بالسراج المنير ويُهْتدى به، فقد وصفه تعالى بخمسة أوصاف كلُّها كمالٌ وجمال، وثناءٌ وجلال، وختمها بأنه صلوات الله عليه هو السراج الوضاء الذي بدَّد الله به ظلمات الضلال، فصلواتُ ربي وسلامه عليه في كل حين وآن {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلا كَبِيرًا} أي وبشر يا محمد المؤمنين خاصة بأنَّ لهم من الله العطاء الواسع الكبير في جنات النعيم {وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي لا تطعهم فيما يطلبونه منك من المساهلة والملاينة في أمر الدين، بل اثبت على ما أُوحي إليك {وَدَعْ أَذَاهُمْ} أي ولا تكترث بإِذايتهم لك، وصدّهم الناسَ عنك {وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي واعتمد في جميع أمورك وأحوالك على الله {وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلا} أي إن الله يكفي من توكل عليه في أمور الدنيا والآخرة، قال الصاوي: وفي الآية إشارة إلى أن التوكل أمره عظيم، فمن توكل على الله كفاه ما أهمَّه من أمور الدنيا والدين، ولما كان الحديث عن نساء النبي صلى الله عليه وسلم وقصة زيد وتطليقه لزينب، جاء الحديث عن نساء المؤمنين والطريقة المثلى في تطليقهن فقال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمْ الْمُؤْمِنَاتِ} أي يا أيها المؤمنون الذين صدَّقوا بالله ورسوله إذا عقدتم عقد الزواج على المؤمنات وتزوجتموهن { ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} أي ثم طلقتموهنَّ من قبل أن تجامعوهنَّ، وإِنما خصَّ المؤمنات بالذكر مع أن الكتابيات يدخلن في الحكم، للتنبيه على أن الأليق بالمسلم أن يتخيَّر لنطفته، وألاّ ينكح إلا مؤمنة عفيفة {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} أي فليس لكم عليهم حق في العدة تستوفون عددها عليهن، لأنكم لم تعاشروهن فليس هناك احتمال للحمل حتى تحتبسوا المرأة من أجل صيانة نسبكم {فَمَتِّعُوهُنَّ} أي فالواجب عليكم إكرامهن بدفع المتعة بما تطيب نفوسكم به من مالٍ أو كسوةٍ، تطييباً لخاطرهن، وتخفيفاً لشدة وقع الطلاق عليهن {وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} أي وخلّوا سبيلهنَّ تخليةً بالمعروف، من غير إضرار ولا إيذاء، ولا هضمٍ لحقوقهن، قال أبو حيان: والسراحُ الجميلُ هو كلمة طيبة دون أذى ولا منع واجب.

    النساء اللاتي أحلَّ الله لنبيه الزواج بهنّ

    {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(50)تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا(51)لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا(52)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (50):

    {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ}: أخرج الترمذي وحسنه والحاكم وصححه عن ابن عباس عن أم هانئ بنت أبي طالب قالت: خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فاعتذرت إليه، فعذَرني، فأنزل الله: { إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ} إلى قوله: {اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} فلم أكن أحل له، لأني لم أهاجر.

    وأخرج ابن أبي حاتم عن أم هانئ قالت: نزلت فيّ هذه الآية: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ}. أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوجني، فنُهي عني، إذ لم أهاجر.

    وقوله تعالى: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً}: أخرج ابن سعد عن عكرمة في قوله: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً} الآية قال: نزلت في أم شريك الدوسية. وأخرج ابن سعد عن منير بن عبد الله الدؤلي أن أم شريك غزية بنت جابر بن حكيم الدوسية عرضت نفسها على النبي صلى الله عليه وسلم، وكانت جميلة، فقبلها، فقالت عائشة: ما في امرأة حين تهب نفسها لرجل خير، قالت أم شريك: فأنا تلك، فسماها الله مؤمنة، فقال: {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} فلما نزلت هذه الآية، قالت عائشة: إن الله يسارع لك في هواك.

    نزول الآية (51):

    {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ}: أخرج الشيخان عن عائشة: أنها كانت تقول: أما تستحي المرأة أن تهب نفسها ‍‍‍ فأنزل الله: {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ} الآية، فقالت عائشة: أرى ربك يسارع لك في هواك.

    نزول الآية (52):

    {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ}: أخرج ابن سعد عن عكرمة قال: لما خيَّر رسول الله صلى الله عليه وسلم أزواجه اخترن الله ورسوله، فأنزل الله: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ}.

    ثم ذكر تعالى ما يتعلق بأحوال زوجات الرسول صلى الله عليه وسلم فقال{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} أي إنا قد أبحنا لك يا محمد عدداً من النساء، توسعة عليك وتيسيراً لك في تبليغ الدعوة، فمن ذلك أننا أبحنا لك زوجاتك اللاتي تزوجتهن بصداقٍ مُسمَّى، وهُنَّ في عصمتك{وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ} أي وأبحنا لك أيضاً النساء اللاتي يملكن في الحرب بطريق الانتصار على الكفار، وإنما قيَّدهن بطريق الغنائم لأنهن أفضلُ من اللائي يُمْلكهن بالشراء، فقد بدل في إحرازهنَّ جهدٌ ومشقة لم يكن في الصنف الثاني{وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} أي وأبحنا لك قريباتك من بنات الأعمام والعمات، والأخوال والخالات بشرط الهجرة معك{وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ} أي وأحللنا لك النساء المؤمناتِ الصالحات اللواتي وهبن أنفسهن لك، حباً في الله ورسوله وتقرباً لك{إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنكِحَهَا} أي إن أردت يا محمد أن تتزوج من شئت منهن بدون مهر{خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} أيخاصة لك يا محمد دون سائر المؤمنين، فإنه لا يحل لهم التزوج بدون مهر، ولا تصح الهبة، بل يجب مهر المثل{قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} أي قد علمنا ما أوجبنا على المؤمنين من نفقةٍ، ومهر، وشهود في العقد، وعدم تجاوز أربع من النساء، وما أبحنا لهم من ملك اليمين عدا الحرائر، وأما أنت فقد خصصناك بخصائص تيسيراً لك{لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} أي لئلا يكون عليك مشقة أو ضيق{وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة{تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ} أي ولك-أيها النبي-الخيار في أن تطلق من تشاء من زوجاتك، وتمسك من تشاء منهن{وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} أي وإذا أحببتَ أن تؤوي إليك امرأة ممن عزلتَ من القسمة فلا إثم عليك ولا عتب{ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْينُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضينَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ} أي ذلك التخيير الذي خيرناك في أمرهنَّ أقرب أن ترتاح قلوبهن فلا يحزنَّ، ويرضين بصنيعك، لأنهن إذا علمن أن هذا أمرٌ من الله، كان أطيب لأنفسهن فلا يشعرن بالحزن والألم{وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } خطابٌ للنبي على جهة التعظيم أي يعلم ما في قلبك يا محمد وما في قلب كل إنسان، من عدل أوميل، ومن حب أو كراهية، وإنما خيرناك فيهن تيسيراً عليك فيما أردت{وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا} أي واسع العلم يعلم جميع ما تظهرون وما تخفون، حليماً يضع الأمور في نصابها ولا يعالج بالعقوبة، بل يُؤخر ويمهل لكنه لا يُهْمل، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كنتُ أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم، وأقول: أتهبُ المرأة نفسها؟ فلما نزلت {تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنْ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} قلت: ما أرى ربك إلاّ يسارع في هواك"، ثم قال تعالى {لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ} أي لا يحل لك أيها النبي النساء من بعد هؤلاء التسع اللاتي في عصمتك {وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ} أي ولا يحلّ لك أن تطلّق واحدة منهن وتنكح مكانها أُخرى {وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ} أي ولو أعجبك جمال غيرهن من النساء {إِلا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ} أي إلا ما كان من الجواري والإِماء فلا بأس في ذلك لأنهن لسن زوجات {وَكَانَ اللَّهُ عَلَىكُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا} أي مطلعاً على أعمالكم شاهداً عليها، وفيه تحذير من مجاوزة حدوده، وتخطي حلاله وحرامه. قال المفسرون: أباح الله لرسوله أصنافاً أربعة "الممهورات، المملوكات، المهاجرات، الواهبات أنفسهن" توسعة عليه صلى الله عليه وسلم وتيسيراً له في نشر الرسالة وتبليغ الدعوة، ولما نزلت آية التخيير {قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا..} الآية وخيَّرهن عليه السلام، واخترن الله ورسوله والدار الآخرة، أكرمهن الله تعالى بأن قصره عليهن، وحرَّم عليه أن يتزوج بغيرهن.

    آداب الدخول لبيت النبي صلى الله عليه وسلم وحجاب نسائه

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْييِ مِنْكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْييِ مِنْ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا(53)إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا(54)لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي ءابائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا(55)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (53):

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا}: أخرج أحمد والشيخان وابن جرير والبيهقي وابن مردويه عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "لما تزوج النبي صلى الله عليه وسلم زينب بنت جَحْش، دعا القوم، فطَعِمُوا، ثم جلسوا يتحدثون، فإذا كأنه يتهيأ للقيام، فلم يقوموا، فلما رأى ذلك قام وقام من القوم من قام، وقعد ثلاثة، ثم انطلقوا، فجئت، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم انطلقوا، فجاء حتى دخل، وذهبت أدخل، فألقى الحجاب بيني وبينه، وأنزل الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ} إلى قوله: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا}.

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} الإِضافة للتشريف والتكريم، والآية توجيه للمؤمنين لهذا الأدب السامي العظيم، والمعنى لا تدخلوا بيوت النبي في حالٍ من الأحوال إلا في حال الإِذن لكم منه عليه السلام، مراعاةً لحقوق نسائه، وحرصاً على عدم إيذائه والإِثقال عليه { إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ} أي إلاّ حين يدعوكم إلى طعام غير منتظرين نُضْجه {وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا} أي ولكنْ إذا دُعيتم وأُذن لكم في الدخول فادخلوا {فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا} أي فإِذا انتهيتم من الطعام فتفرقوا إلى دوركم ولا تمكثوا {وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ} معطوف على "غير ناظرين" أي لا تدخلوا بيوته منتظرين للطعام، ولا مستأنسين لحديث بعضكم بعضاً، قال أبو حيان: نهُوا أن يطيلوا الجلوسَ يستأنس بعضهم ببعض لحديثٍ يحدثه به {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} أي إن صنيعكم هذا يؤذي الرسول، ويضايقه ويثقل عليه، ويمنعه من قضاءِ كثيرٍ من مصالحه وأموره {فَيَسْتَحْيِ مِنْكُمْ} أي فيستحيي من إخراجكم، ويمنعه حياؤه أن يأمركم بالانصراف، لخُلقه الرفيع، وقلبه الرحيم {وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِ مِنْ الْحَقِّ} أي واللهُ جل وعلا لا يترك بيان الحق، ولا يمنعه مانع من إظهار الحق وتبيانه لكم، قال القرطبي: هذا أدبٌ أدَّب الله به الثقلاء، وفي كتاب الثعلبي: حسبك من الثقلاء أن الشرع لم يحتملهم {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أي وإِذا أردتم حاجةً من أزواجه الطاهرات فاطلبوه من وراء حاجزٍ وحجاب {ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} أي سؤالكم إياهنَّ المتاع من وراء حجاب أزكى لقلوبكم وقلوبهن وأطهر، وأنفى للريبة وسوء الظن {وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ} أي وما ينبغي لكم ولا يليق بكم أن تؤذوا رسولكم الذي هداكم الله به في حياته {وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا} أي ولا أن تتزوجوا زوجاته من بعد وفاته أبداً، لأنهن كالأمهات لكم، وهو كالوالد فهل يليق بكم أن تؤذوه في نفسه أو أهله؟ { إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا} أي إن إيذاءه ونكاح أزواجه من بعده أمر عظيم، وذنب كبير لا يغفره الله لكم، قال أبو السعود: وفيه من تعظيمه تعالى لشأن رسوله صلى الله عليه وسلم وإِيجاب حرمته حياً وميتاً ما لا يخفى ثم قال تعالى: {إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ} أي إن تظهروا أمراً من الأمور أو تخفوه في صدوركم {فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا} أي فإِن الله عالم به وسيجازيكم عليه، قال البيضاوي: وفي هذا التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويلٍ ومبالغة في الوعيد، ثم لما أنزل تعالى الحجاب استثنى المحارم فقال {لا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي ءابائِهِنَّ وَلا أَبْنَائِهِنَّ وَلا إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلا نِسَائِهِنَّ وَلا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} أي لا حرج ولا إثم على النساء في ترك الحجاب أمام المحارم من الرجال، قال القرطبي: لما نزلت آية الحجاب قال الآباء والأبناء لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ونحنُ أيضاً نكلمهنَّ من وراء حجاب؟ فنزلت هذه الآية، والمراد بـ {نِسَائِهِنَّ} نساءُ المؤمنين قال ابن عباس، لأن نساء اليهود والنصارى يصفن لأزواجهن النساء المسلمات، فلا يحل للمسلمة أن تُبدي شيئاً منها لئلا تصفها لزوجها الكافر {وَاتَّقِينَ اللَّهَ} أي اتَّقين يا معشر النساء اللهَ، واخشينه في الخلوة والعلانية {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا} أي لا تخفى عليه خافية من أموركن، يعلم خطرات القلوب كما يعلم حركات الجوارح، قال الرازي: وهذا في غاية الحسن في هذا الموضع، لأن ما سبق إشارة إلى جواز الخلوة بهم والتكشف لهم، فختمها بأن الله شاهد عند اختلاء بعضهم ببعض، فالخلوة عنده مثل الجلوة فعليهم أن يتقوا الله.

    الأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وجزاء من يؤذيه ويؤذي المؤمنين

    {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(56)إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا(57)وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا(58)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (57):

    {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ}: أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} الآية قال:نزلت في الذين طعنوا النبي صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفية بنت حُييّ زوجة له.

    نزول الآية (58):

    {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ} قال ابن عباس: أنزلت في عبد الله بن أبي وناس ومَنْ معه قذفوا عائشة رضي الله عنها، فخطب النبي صلى الله عليه وسلم وقال: "من يَعْذِرني من رجل يؤذيني، ويجمع في بيته من يؤذيني".

    ثم بيَّن تعالى قدر الرسول العظيم فقال {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ} أي إن الله جل وعلا يرحم نبيَّه، ويعظّم شأنه، ويرفع مقامه، وملائكتُه الأبرار يدعون للنبي ويستغفرون له، ويطلبون من الله أن يمجّد عبده ورسوله ويُنيله أعلى المراتب، قال القرطبي: والصلاةُ من الله رحمتُه ورضوانه، ومن الملائكة الدعاء والاستغفار، ومن الأمة الدعاءُ والتعظيمُ لأمره، وقال الصاوي: وهذه الآية فيها أعظم الدليل على أنه صلى الله عليه وسلم مهبط الرحمات، وأفضل الأولين والآخرين على الإِطلاق، إذ الصلاة من الله على نبيه رحمتُه المقرونة بالتعظيم، ومن اللهِ على غير النبي مطلقُ الرحمة كقوله {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ} فانظر الفرق بين الصلاتين، والفضل بين المقامين، وبذلك صار منبع الرحمات، ومنبعَ التجليات {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} أي فأنتم أيها المؤمنون أكثروا من الصلاة عليه والتسليم، فحقه عليكم عظيم، فقد كان المنقذ لكم من الضلالة إلى الهدى، والمخرج لكم من الظلمات إلى النور، فقولوا كلما ذُكر اسمه الشريف "اللهم صلّ على محمد وآله وسلم تسليماً كثيراً"، عن كعب بن عُجرة قلنا: يا رسول الله: قد عرفنا التسليم عليك فكيف الصلاة عليك؟ فقال: "قولوا اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم.." الحديث، قال الصاوي: وحكمةُ صلاةِ الملائكةِ والمؤمنين على النبي صلى الله عليه وسلم تشريفُهم بذلك، حيث اقتدوا بالله جل وعلا في الصلاة عليه وتعظيمه، ومكافأةٌ لبعض حقوقه على الخلق، لأنه الواسطة العظمى في كل نعمةٍ وصلت لهم، وحقٌ على من وصل له نعمة من شخص أن يكافئه، ولما كان الخلق عاجزين عن مكافأته صلى الله عليه وسلم طلبوا من القادر الملك أن يكافئه، وهذا هو السر في قولهم "اللهم صلى علىمحمد" {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي يؤذون الله بالكفر ونسبة الصاحبة والولد له، ووصفه بما لا يليق به جل وعلا كقول اليهود {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} وقول النصارى "المسيحُ بنُ الله" ويؤذون الرسول بالتكذيب برسالته، والطعن في شريعته، والاستهزاء بدعوته، قال ابن عباس: نزلت في الذين طعنوا على الرسول صلى الله عليه وسلم حين اتخذ صفية بنت حُيي {لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} أي طردهم من رحمته، وأحل عليهم سخطه وغضبه في الدنيا بالهوان والصغار، وفي الآخرة بالخلود في عذاب النار {وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا} أي هيأ لهم عذاباً شديداً، بالغَ الغاية في الإِهانة والتحقير {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا} أي يؤذون أهل الإِيمان بغير ما فعلوه، وبغير جنايةٍ واستحقاقٍ للأذى {فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} أي فقد حمَّلوا أنفسهم البهتان والكذب، والزور، والذنب الواضح الجلي، قال القرطبي: أطلق إيذاء الله ورسوله، وقيَّد إيذاء المؤمنين والمؤمنات، لأن إيذاء الله ورسوله لا يكون إلا بغير حق أبداً، وأما إيذاء المؤمنين والمؤمنات فمنه ومنه.

    نزول آية الحجاب

    {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(59)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (59):

    أخرج البخاري عن عائشة قالت: خرجت سَوْدة بعدما ضرب الحجاب لحاجتها، وكانت امرأة جسيمة لا تخفى على من يعرفها، فرآها عمر، فقال: يا سودة، أما والله ما تخفين علينا، فانظري كيف تخرجين، قالت: فانكفأت راجعة ورسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي، وإنه ليتعشى، وفي يده عِرْق، فدخلت، فقالت: يا رسول الله، إني خرجت لبعض حاجتي، فقال لي عمر كذا وكذا، قالت: فأوحى الله إليه، ثم رفع عنه، وإن العِرْق في يده ما وضعه، فقال: إنه قد أُذن لكن أن تخرجن لحاجتكن.

    ولما حرَّم تعالى الإِيذاء، أمر نبيه الكريم أن يوجه النداء إلى الأمة جمعاء، للتمسك بالإِسلام وتعاليمه الرشيدة، وبالأخص في أمرٍ اجتماعي خطير وهو "الحجاب" الذي يصون للمرأة كرامتها، ويحفظ عليها عفافها، ويحميها من النظرات الجارحة، والكلمات اللاذعة، والنوايا الخبيثة لئلا تتعرض لأذى الفساق فقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} أي قل يا محمد لزوجاتك الطاهرات -أمهات المؤمنين- وبناتك الفضليات الكريمات، وسائر نساء المؤمنين، قل لهنَّ يلبسن الجلباب الواسع، الذي يستر محاسنهن وزينتهن، ويدفع عنهن ألسنة السوء، ويميزهن عن صفاتِ نساء الجاهلية، روى الطبري: عن ابن عباس أنه قال في هذه الآية: أمر اللهُ نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رءوسهن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة، وروى ابن كثير عن محمد بن سيرين قال: سألت عبيدة السلماني عن قول الله عز وجل {يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ} فغطّى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى {ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ} أي ذلك التستر أقرب بأن يُعْرفن بالعفة والتستر والصيانة، فلا يطمع فيهن أهل السوء والفساد، وقيل: أقرب بأن يُعرفن أنهن حرائر، ويتميزن عن الإِماء، {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي إنه تعالى غفور لما سلف منهن من تفريط، رحيم بالعباد حيث راعى مصالحهم وشئونهم تلك الجزئيات.

    تهديد المنافقين وجزاؤهم

    {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا(60)مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا(61)سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا(62)}.

    ثم هدَّد المولى جل وعلا كل المؤذين من جميع الأصناف بأنواع العقاب فقال {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي لئن لم يترك هؤلاء المنافقون - الذين يُظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر - نفاقهم، والزناةُ - الذين في قلوبهم مرض - فجورهم {وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} أي الذين ينشرون الأراجيف والأكاذيب لبلبلة الأفكار، وخلخلة الصفوف، ونشر أخبار السوء {لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ} أي لنسلطنك عليهم يا محمد {ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلا} أي ثم يخرجون من المدينة فلا يعودون إلى مجاورتك فيها إلا زمناً قليلاً، ريثما يتأهبوا للخروج، قال الرازي: وعد الله نبيه أن يخرج أعداءه من المدينة وينفيهم على يده، إظهاراً لشوكته {مَلْعُونِينَ} أي مبعدين عن رحمته تعالى {أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلا} أي أينما وجدوا وأُدركوا أُخذوا على وجه الغلبة والقهر ثم قُتِّلوا لكفرهم بالله تقتيلاً {سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ} أي هذه سنة الله في المنافقين وعادتُه فيمن سبق منهم أن يُفعل بهم ذلك، قال القرطبي: أي سنَّ الله عز وجل فيمن أرجف بالأنبياء وأظهر نفاقه أن يُؤخذ ويُقتل {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلا} أي ولن تتغير أو تتبدل سنة الله، لكونها بُنيت على أساسٍ متين، قال الصاوي: وفي الآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي فلا تحزن على وجود المنافقين يا محمد، فإِن ذلك سنة قديمة لم يخل منهم زمن من الأزمان.

    قرب الساعة وبيان أهوالها

    {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا(63)إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا(64)خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا(65)يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا(66)وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا(67)رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا(68)}.

    ثم ذكر تعالى الساعة وأهوالها فقال {يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ} أي يسألك يا محمد المشركون على سبيل الاستهزاء والسخرية عن وقت قيام الساعة {قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ} أي قل لهم: لست أعرف وقتها وإنما يعلم ذلك علاّم الغيوب، فإِن الله أخفاها لحكمة ولم يُطلع عليها مَلكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا} أي وما يُعلمك أن الساعة تكون في وقت قريب؟ قال أبو السعود: وفيه تهديدٌ للمستعجلين، وتبكيتٌ للمتعنّتين، والإِظهارُ في موضع الإِضمار للتهويل وزيادة التقرير {إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ } أي طرد الكافرين وأبعدهم عن رحمته {وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا} أي وهيأ لهم ناراً شديدة مستعرة {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي مقيمين في السعير أبد الآبدين {لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا} أي لا يجدون لهم من ينجيهم وينقذهم من عذاب الله {يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ} أي يوم تتقلب وجوههم من جهة إلى جهة كاللحم يُشوى بالنار {يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولا} أي يقولون متحسرين على ما فاتهم: يا ليتنا أطعنا الله ورسوله حتى لا نبتلى بهذا العذاب المهين {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا} أي أطعنا القادة والأشراف فينا فأضلونا طريق الهدى والإِيمان {رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنْ الْعَذَابِ} أي اجعل عذابهم ضعفي عذابنا، لأنهم كانوا سبب ضلالنا {وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا} أي والعنهم أشد أنواع اللعن وأعظمه.

    تحذير المؤمنين من إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم كما آذى اليهود موسى عليه السلام، والأمر بتقوى الله تعالى

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا(69)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا(70)يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا(71)}.

    ثم حذر تعالى من إيذاء الرسول كما آذى اليهود نبيهم فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا} أي لا تكونوا أمثال بني إسرائيل الذين آذوا نبيهم موسى واتهموه ببرصٍ في جسمه أو أُدْرةٍ لفرط تستره وحيائه، فأظهر الله براءته وأكذبهم فيما اتهموه به روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ موسى كان رجلاً حيياً ستِّيراً، لا يُرى من جلده شيء استحياء منه، فآذاه من آذاه من بني إسرائيل، فقالوا: ما يتستر هذا التستر إلا من عيبٍ بجلده، إمّا برص وإِما أُدرة - انتفاخ الخصية - وإِما آفة، وإِن الله أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى، فخلا يوماً وحده فوضع ثيابه على الحجر ثم اغتسل، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها وإِن الحجَر عدا بثوبه، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر فجعل يقول: ثوبي حجر، ثوبي حجر، حتى مرَّ على ملأٍ من بني إسرائيل فرأوه أحسنَ ما خلق الله عرياناً، وأبرأه مما يقولون) الحديث {وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا} أي وكان موسى ذا وجاهة ورفعة ومكانة عند ربه، قال ابن كثير: أي له وجاهة وجاه عند ربه، لم يسأل شيئاً إلا أعطاه {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا} أي راقبوا الله في جميع أقوالكم وأفعالكم، وقولوا قولاً مستقيماً مرضياً لله، قال الطبري: أي قولاً قاصداً غير جائر، حقاً غير باطل {يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ} أي يوفقكم لصالح الأعمال ويتقبلها منكم، قال ابن عباس: يتقبل حسناتكم {وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي يمحو عنكم الذنوب والأوزار {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} أي ومن أطاع الله والرسول فقد نال غاية مطلوبه.

    التكاليف الشرعية التي كلف الله بها البشرية وأثرها في الجزاء

    {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا(72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا(73)}.

    ثم لما أرشدهم إلى مكارم الأخلاق، نبّههم على قدر التكاليف الشرعية التي كلّف الله بها البشرية فقال {إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا} أي عرضنا الفرائض والتكاليف الشرعية على السماواتِ والأرض والجبال الراسيات فأعرضن عن حملها وخفن من ثقلها وشدتها، والغرض تصوير عظم الأمانة وثقل حملها، قال أبو السعود: والمعنى أن تلك الأمانة في عظم الشأن بحيث لو كلفت هاتيك الأجرام العظام - التي هي مثل في القوة والشدة - وكانت ذا شعور وإِدراك على مراعاتها لأبين قبولها وأشفقن منها، وقال ابن جزي: الأمانةُ هي التكاليف الشرعية من التزام الطاعات، وترك المعاصي، وقيل: هي الأمانةُ في الأموال، والصحيحُ العموم في التكاليف، وعرضُها يحتمل وجهين أحدهما: أن يكون اللهُ خلق لها إدراكاً فعرضت عليها الأمانة حقيقةً فأشفقت منها وامتنعت من حملها، والثاني: أن يكون المراد تعظيم شأن الأمانة وأنها من الثقل بحيث لو عُرضت على السماوات والأرضِ والجبال، لأبين حملها وأشفقن منها، فهذا ضربٌ من المجاز كقولك: عرضتُ الحمل العظيم على الدابة فأبتْ أن تحمله، والمراد أنها لا تقدر على حمله {وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولا} أي وتحمَّلها الإِنسان إنه كان شديد الظلم لنفسه، مبالغاً في الجهل بعواقب الأمور، قال ابن الجوزي: لم يرد بقوله {أَبَيْنَ} المخالفة، وإِنما أبين للخشية والمخافة، لأن العَرض كان تخييراً لا إلزاماً { لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ} قال ابن كثير: أي إنما حمَّل بني آدم الأمانة وهي التكاليف ليعذب الله المنافقين الذين يظهرون الإِيمان ويبطنون الكفر، والمشركين الذين ظاهرهم وباطنهم على الكفر {وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} أي ويرحم أهل الإِيمان، ويعود عليهم بالتوبة والمغفرة والرضوان {وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} أي واسع المغفرة للمؤمنين حيث عفا عما سلف منهم، رحيماً بهم حيث أثابهم وأكرمهم بأنواع الكرامات.

     
  3. #73
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4387

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة سبأ



    الثناء الكامل لله، وبيان قدرته تعالى

    إنكار البعث، وجزاء المطيعين والمعاندين

    أساليب المشركين في الصد عن دين الله، وسخريتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم

    قصة داود وما خصه الله من النعم

    نِعم الله عز وجل على سليمان

    بطلان قول من ادعى شفاعة الآلهة

    توبيخ المشركين في عبادتهم غير الخالق الرازق

    إنكار المشركين القرآن، وحوارهم يوم القيامة مع بعضهم

    ظاهرة الكفر بين المترفين، واعتدادهم بالأموال والأولاد

    تقريع الكفار بسؤال الملائكة عن عبادة هؤلاء

    لما يستحق الكفار العقوبة؟

    حال الكفار بعد خروجهم من القبور

    بَين يَدَي السُّورَة

    * سورة سبأ من السورة المكية، التي تهتم بموضوع العقيدة الإِسلامية، وتتناول أصول الدين من إثبات الوحدانية، والنبوة، والبعث والنشور.

    * ابتدأت السورة الكريمة بتمجيد الله جل وعلا، الذي أبدع الخلق، وأحكم شئون العالم، ودبَّر الكون بحكمته، فهو الخالق المبدع الحكيم، الذي لا يغيب عن علمه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض، وهذا من أعظم البراهين على وحدانية رب العالمين.

    *وتحدثت السورة عن قضيةٍ هامة، هي إنكار المشركين للآخرة، وتكذيبهم بالبعث بعد الموت، فأمرت الرسول صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم، على وقوع المعاد بعد فناء الأجساد {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ..} الآية.

    * وتناولت السورة قصص بعض الرسل، فذكرت "داود" وولده "سليمان" عليهما السلام، وما سخَّر الله لهما من أنواع النعم، كتسخير الريح لسليمان، وتسخير الطير والجبال تسبّح مع "داود" إظهاراً لفضل الله عليهما في ذلك العطاء الواسع.

    * وتناولت السورة بعض شبهات المشركين، حول رسالة خاتم الأنبياء والمرسلين، ففندتها بالحجة الدامغة والبرهان الساطع، كما أقامت الأدلة والبراهين على وجود الله ووحدانيته.

    * وختمت السورة بدعوة المشركين إِلى الإِيمان بالواحد القهار، الذي بيده تدبير أمور الخلق أجمعين.

    التسميَة:

    سميت سورة "سبأ" لأن الله تعالى ذكر فيها قصة سبأ، وهم ملوك اليمن، وقد كان أهلها في نعمة ورخاء، وسرور وهناء، وكانت مساكنهم حدائق وجنات، فلما كفروا النعمة دمَّرهم الله بالسيل العرم، وجعلهم عبرة لمن يعتبر.



    الثناء الكامل لله، وبيان قدرته تعالى

    {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ(1)يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ(2)}.

    {الْحَمْدُ لِلهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي الثناء الكامل على جهة التعظيم والتبجيل لله الذي له كل ما في الكون خلقاً وملكاً وتصرفاً، فله الحمد في الدنيا لكمال قدرته، وفي الآخرة لواسع رحمته {وَلَهُ الْحمْدُ فِي الآخِرَةِ} أي وله الحمد بأجمعه لا يستحقه أحد سواه، لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ} أي الحكيم في صنعه، الخبير بخلقه، فلا اعتراض عليه في فعلٍ من أفعاله {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي يعلم ما يدخل في جوف الأرض من المطر والكنوز والأموات، وما يخرج من الأرض من الزروع والنباتات وماء العيون والآبار { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي وما ينزل من السماء من المطر والملائكة والرحمة، وما يصعد إِليها من الأعمال الصالحات، والدعوات الزاكيات {وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ} أي الرحيم بعباده، الغفور عن ذنوب التائبين حيث لا يعاجلهم بالعقوبة.

    إنكار البعث، وجزاء المطيعين والمعاندين

    {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ(3)لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ(4)وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي ءايَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ(5)وَيَرَى الَّذِينَ أُوتوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ(6)}.

    ثم حكى تعالى مقالة المنكرين للبعث والقيامة فقال {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ} أي وقال المشركون من قومك لا قيامة أبداً ولا بعث ولا نشور، قال البيضاوي: وهو إِنكار لمجيئها أو استبطاء استهزاءً بالوعد به {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} أي قل لهم يا محمد: أقسم بالله العظيم لتأتينكم الساعة، فإِنها واقعة لا محالة، قال ابن كثير: هذه إِحدى الآيات الثلاث التي أمر الله رسوله أن يقسم بربه العظيم على وقوعها، والثانية في يونس {قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ} والثالثة في التغابن {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ} {عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} أي هو جل وعلا العالمُ بما خفي عن الأبصار، وغاب عن الأنظار، لا يغيب عنه مقدار وزن الذرة في العالم العلوي أو السفلي {وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ} أي ولا أصغر من الذرة ولا أكبر منها {إِلا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} أي إِلا ويعلمه الله تعالى وهو في اللوح المحفوظ، والغرضُ أن الله تعالى لا تخفى عليه ذرة في الكون فكيف يخفى عليه البشر وأحوالهم؟ فالعظام وإِن تلاشت وتفرقت وتمزقت، فهو تعالى عالمٌ أين ذهبت وتفرقت، ثم يعيدها يوم القيامة {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ ءامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي أثبت ذلك في الكتاب المبين لكي يثيب المؤمنين الذين أحسنوا في الدار الدنيا بأحسن الجزاء {أُوْلَئِكَ لَهُمْ مغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} أي لهم مغفرة لذنوبهم، ورزق حسن كريم في دار النعيم {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي وأما الذين بذلوا جهدهم وجدّوا لإِبطال القرآن مغالبين لرسولنا، يظنون أنهم يعجزونه بما يثيرونه من شبهات حول رسالته والقرآن {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ} أي فهؤلاء المجرمون لهم عذاب من أسوأ العذاب، شديد الإِيلام، قال قتادة: الرجزُ: سوء العذاب {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ} أي ويعلم أولوا العلم من أصحاب النبي عليه السلام ومن جاء بعدهم من العلماء العاملين {الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ} أي يعلمون أن هذا القرآن، الذي أُنزل عليك يا محمد هو الحق الذي لا يأتيه الباطل {وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} أي ويرشد من تمسك به إِلى طريق الله الغالب الذي لا يُقهر، الحميد أي المحمود في ذاته وصفاته وأفعاله.

    أساليب المشركين في الصد عن دين الله، وسخريتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم

    {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ(7)أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ(8)أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ(9)}.

    ثم ذكر تعالى أساليب المشركين في الصدِّ عن دين الله، والسخرية برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وقال الكافرون من أهل مكة المنكرون للبعث والجزاء {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ} أي هل نرشدكم إلى رجلٍ يحدثكم بأعجب الأعاجيب؟ - يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم- {إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي إِذا بليتم في القبور، وتفرقت أجسادكم في الأرض، وذهبت كل مذهب بحيث صرتم تراباً ورفاتاً { إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ}؟ أي إنكم ستخلقون خلقاً جديداً بعد ذلك التمزيق والتفريق؟ والغرضُ من هذا المقال هو السخرية والاستهزاء، قال أبو حيان: والقائلون هم كفار قريش قالوه على جهة التعجب والاستهزاء، كما يقول الرجل لمن يريد أن يعجبه: هل أدلك على قصة غريبة نادرة؟ ولما كان البعث عندهم من المحال جعلوا من يخبر عن وقوعه في حيز من يتعجب منه، ونكّروا اسمه عليه {هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ} بطريق الاستهزاء مع أن اسمه أشهر علم في قريش {أَفْترَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ} أي هل اختلق الكذب على الله، أم به جنون فهو يتكلم بما لا يدري؟ قال تعالى رداً عليهم {بَلْ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} {بَلْ} للإِضراب أي ليس الأمر كما يزعمون من الكذب والجنون، بل الذين يجحدون البعث ولا يصدّقون بالآخرة {فِي الْعَذَابِ وَالضَّلالِ الْبَعِيدِ} أي بل هؤلاء الكفار في ضلالٍ وحيرةٍ عن الحق توجب لهم عذاب النار، فهم واقعون في الضلال وهم لا يشعرون وذلك غاية الجنون والحماقة، ولما ذكر تعالى ما يدل على إِثبات الساعة، ذكر دليلاً آخر يتضمن التوحيد مع التهديد فقال {أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي ألم يشاهدوا ما هو محيط بهم من جميع جوانبهم من السماء والأرض؟ فإِن الإِنسان أينما توجه وحيثما نظر رأى السماء والأرض أمامه وخلفه، وعن يمينه وشماله، وهما يدلان على وحدانية الصانع، أفلا يتدبرون ذلك فيعلمون أن الذي خلقهما قادر على بعث الناس بعد موتهم؟ ثم هددهم بقوله {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} أي لو شئنا لخسفنا بهم الأرض كما فعلنا بقارون، أو أسقطنا عليهم قطعاً من السماء كما فعلنا بأصحاب الأيكة، فمن أين لهم المهرب؟ قال ابن الجوزي: المعنى أنهم أين كانوا فأرضي وسمائي محيطة بهم، وأنا القادر عليهم، إن شئتُ خسفتُ بهم الأرض، وإن شئتُ أسقطت عليهم قطعة من السماء { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ} أي إن فيما يشاهدون من آثار القدرة والواحدانية لدلالة وعبرة لكل عبد تائب رجّاع إلى الله، متأمل فيما يرى، قال ابن كثير: يريد أن من قدر على خلق هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها، وهذه الأرضين في انخفاضها وأطوالها وأعرضها، قادر على إِعادة الأجسام، ونشر الرميم من العظام.

    قصة داود عليه السلام وما خصه الله من النعم

    {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ(10)أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(11)}.

    ثم ذكر تعالى قصة داود وما خصَّه الله به من الفضل العظيم فقال {وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلا} اللام موطئة لقسم محذوف تقديره وعزة الله وجلاله لقد أعطينا داود منا فضلاً عظيماً واسعاً لا يُقدر، قال المفسرون: الفضل هو النبوة، والزبور، وتسخير الجبال، والطير، وإِلانة الحديد، وتعليمه صنع الدروع إِلى غير ذلك { يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ} أي وقلنا يا جبال سبحي معه ورجّعي التسبيح إِذا سبَّح وكذلك أنت يا طيور، قال ابن عباس: كانت الطير تسبح معه إِذا سبَّح، وكان إِذا قرأ لم تبق دابةٌ إِلا استمعت لقراءته وبكت لبكائه {وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ} أي جعلنا الحديد ليناً بين يديه حتى كان كالعجين، قال قتادة: سخر الله الحديد فكان لا يحتاج أن يدخله ناراً، ولا يضربه بمطرقة، وكان بين يديه كالشمع والعجين {أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ} أي اعمل منه الدروع السابغة التي تقي الإِنسان شر الحرب، قال المفسرون: كان يأخذ الحديد بيده فيصير كأنه عجين يعمل به ما يشاء، ويصنع الدرع في بعض يوم يساوي ألف درهم فيأكل ويتصدق، والسابغات صفة لموصوف محذوف تقديره دروعاً سابغات، وهي الدروع الكوامل التي تغطي لابسها حتى تفضل عنه فيجرها على الأرض {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} أي وقدر في نسج الدروع بحيث تتناسب حلقاتها، قال الصاوي: أي اجعل كل حلقة مساوية لأختها ضيقة لا ينفذ منها السهم لغلظها، ولا تثقل حاملها واجعل الكل بنسبةٍ واحدة {وَاعْمَلُوا صَالِحًا} أي واعملوا يا آل داود عملاً صالحاً ولا تتكلوا على عز أبيكم وجاهه {إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي إِني مطلع على أعمالكم مراقب لها وسأجازيكم بها، قال الامام الفخر الرازي: ألان الله لداود الحديد حتى كان في يده كالشمع وهو في قدرة الله يسير، فإِنه يَلين بالنار حتى يصبح كالمداد الذي يكتب به، فأي عاقلٍ يستبعد ذلك على قدرة الله؟ وهو أول من صنع الدروع حلقاً وكانت قبل ذلك صفائح ثقالاً كما قال تعالى {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ }.

    نِعم الله عز وجل على سليمان

    {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ(12)يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ(13)فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ(14)}.

    ثم ذكر تعالى ما أنعم به على ولده "سليمان" من النبوة والملك والجاه العظيم فقال {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} أي وسخرنا لسليمان الريح تسير بأمره، وسيرها من الصباح إِلى الظهر مسيرة شهر للسائر المجد، ومن الظهر إلى الغروب مسيرة شهر، قال المفسرون: سخّر الله له الريح تقطع به المسافات الشاسعة في ساعات معدودات، تحمله مع جنده فتنتقل به من بلدٍ إلى بلد، تغدو به مسيرة شهر إِلى نصف النهار، وترجع به مسيرة شهر إلى آخر النهار، فتقطع به مسيرة شهرين في نهار واحد {وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} أي وأذبنا له النحاس حتى كان يجري كأنه عين ماء متدفقة من الأرض، قال المفسرون: أجرى الله لسليمان النحاس، كما ألان لداود الحديد، آية باهرة، ومعجزة ظاهرة {وَمِنْ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي وسخرنا له الجن تعمل بأمره وإِرادته ما شاء مما يعجز عنه البشر، وكل ذلك بأمر الله وتسخيره {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا} أي ومن يعدل منهم عّما أمرناه به من طاعة سليمان {نذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ} أي نذقه النار المستعرة في الآخرة، ثم أخبر تعالى عما كلف به الجنُّ من الأعمال فقال {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ} أي يعمل هؤلاء الجن لسليمان ما يريد من القصور الشامخة {وَتَمَاثِيلَ} أي والتماثيل العجيبة من النحاس والزجاج، قال الحسن: ولم تكن يومئذٍ محرمة، وقد حرمت في شريعتنا سداً للذريعة لئلا تُعبد من دون الله {وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ} أي وقصاعٍ ضخمة تشبه الأحواض، قال ابن عباس: "كالجواب" أي كالحياض {وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ} أي وقدورٍ كبيرة ثابتات لا تتحرك لكبرها وضخامتها، قال ابن كثير: والقدور الراسياتُ أي الثابتات في أماكنها لا تتحرك ولا تتحول عن أماكنها لعظمها {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا} أي وقلنا لهم اشكروا يا آل داود ربكم على هذه النعم الجليلة، فقد خصكم بالفضل العظيم والجاه العريض، واعملوا بطاعة الله شكراً له جل وعلا {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِي الشَّكُورُ} أي وقليل من العباد من يشكر الله على نعمه، قال ابن عطية: وفيه تنبيه وتحريض على شكر الله، ثم أخبر تعالى عن كيفية موت سليمان فقال {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} أي حكمنا على سليمان بالموت ونزل به الموت { مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ} أي ما دلَّ الجنَّ على موته إِلا تلك الحشرة وهي الأرضة -السوسة التي تأكل الخشب- تأكل عصا سليمان {فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ} أي فلما سقط سليمان عن عصاه ظهر للجن واتضح لهم أنهم لو كانوا يعرفون الغيب كما زعموا {مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ} أي ما مكثوا في الأعمال الشاقة تلك المدة الطويلة، قال المفسرون: كانت الإِنس تقول: إِن الجن يعلمون الغيب الذي يكون في المستقبل، فوقف سليمان في محرابه يصلي متوكئاً على عصاه، فمات ومكث على ذلك سنةً والجنُّ تعمل تلك الأعمال الشاقة ولا تعلم بموته، حتى أكلت الأرَضةُ عصا سليمان فسقط على الأرض فعلموا موته، وعلم الإِنس أن الجنَّ لا تعلم الغيب لأنهم لو علموه لما أقاموا هذه المدة الطويلة في الأعمال الشاقة وهم يظنون أنه حي وهو عليه السلام ميت.

    قصة سبإ وظلمهم لأنفسهم

    {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ(15)فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ(16)ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ(17)وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا ءامنينَ(18)فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(19)وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ(20)وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ(21)}.

    سبب النزول:

    أخرج ابن أبي حاتم أن فَرْوة بن مُسَيْك الغَطَفاني رضي الله عنه قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا نبي الله، إن سبأ قوم كان لهم في الجاهلية عز، وإني أخشى أن يرتدوا عن الإسلام، أفأقاتلهم؟ فقال: ما أمرت فيهم بشيء بعد، فأنزلت هذه الآية: {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ} الآيات.

    {لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ} اللام موطئة للقسم أي والله لقد كان لقوم سبأ في موضع سكناهم باليمن آية عظيمة دالة على الله جل وعلا وعلى قدرته على مجازاة المحسن بإِحسانه، والمسيء بإِساءته، فإِن قوم سبأ لما كفروا نعمة الله خرَّب الله ملكهم، وشتَّت شملهم، ومزَّقهم شرَّ ممزَّق، وجعلهم عبرةً لمن يعتبر، ثم بيَّن تعالى وجه تلك النعمة فقال {جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ}أي حديقتان عظيمتان فيهما من كل أنواع الفواكه والثمار عن يمين الوادي بساتين ناضرة، وعن شماله كذلك، قال قتادة: كانت بساتينهم ذات أشجار وثمار، تسرُّ الناس بظلالها، وكانت المرأة تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل، فيتساقط من الأشجار ما يملؤه من غير كلفةٍ ولا قطاف لكثرته ونضجه، وقال البيضاوي: ولم يرد بستانين اثنين فحسب، بل أراد جماعتين من البساتين، جماعة عن يمين بلدهم، وجماعة عن شماله سميت كل جماعة منها جنة لكونها في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة {كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ} أي وقلنا لهم على لسان الرسل: كلوا من فضل الله وإِنعامه واشكروا ربكم على هذه النعم { بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ} أي هذه بلدتكم التي تسكنونها بلدةٌ طيبة، كريمة التربة، حسنة الهواء، كثيرة الخيرات، وربكم الذي رزقكم وأمركم بشكره ربٌ غفورٌ لمن شكره {فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ} أي فأعرضوا عن طاعة الله وشكره، واتباع أوامر رسله، فأرسلنا عليهم السيل المدمّر المخرب الذي لا يطاق لشدته وكثرته، فغرَّق بساتينهم ودورهم قال الطبري: وحين أعرضوا عن تصديق الرسل، ثقب ذلك السدُّ الذي كان يحبس عنهم السيول، ثم فاض الماء على جناتهم فغرَّقها، وخرَّب أرضهم وديارهم {وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَي أُكُلٍ خَمْطٍ} أي وأبدلناهم بتلك البساتين الغناء، بساتين قاحلة جرداء، ذات أُكل مرٍّ بشع {وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ} وشيء من الأشجار التي لا ينتفع بثمرها كشجر الأثل والسدِّر، قال الرازي: أرسل الله عليهم سيلاً غرَّق أموالهم، وخرَّب دورهم، والخمطُ كلُّ شجرة لها شوك وثمرتها مرة، والأثلُ نوع من الطرفاء ولا يكون عليه ثمرة إِلا في بعض الأوقات، يكون عليه شيء كالعفص أو أصغر منه في طعمه وطبعه، والسدر معروف وقال فيه {قَلِيلٍ} لأنه كان أحسن أشجاره، وقد بيَّن تعالى بالآية طريقة الخراب، وذلك لأن البساتين التي فيها الناس تكون فيها الفواكه الطيبة بسبب العمارة، فإِذا تركت سنين تصبح كالغيضة والأجمة تلتفُّ الأشجار بعضها ببعض وتنبتُ المفسدات فيها، فتقل الثمار وتكثر الأشجار، قال المفسرون: وتسمية البدل "جنتين" فيه ضربٌ من التهكم، لأن الأثل والسدر وما كان فيه خمط لا يسمى جنة، لأنها أشجار لا يكاد ينتفع بها، وإِنما جاء التعبير على سبيل المشاكلة {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا} أي ذلك الجزاء الفظيع الذي عاقبناهم به إِنما كان بسبب كفرهم {وَهَلْ نُجَازِي إِلا الْكَفُورَ}؟ أي وما نجازي بمثل هذا الجزاء الشديد إِلا الكافر المبالغ في كفره، قال مجاهد: أي ولا يعاقب إِلا الكفور، لأن المؤمن يكفِّر الله عنه سيئاته، والكافر يُجازى بكل سوءٍ عمله {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً} هذا من تتمة ذكر ما أنعم الله به عليهم أي وجعلنا بين بلاد سبأ وبين القرى الشامية التي باركنا فيها للعالمين قرى متواصلة من اليمن إِلى الشام، يُرى بعضها من بعض لتقاربها، ظاهرة لأبناء السبيل {وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ} أي جعلنا السير بين قراهم وبين قرى الشام سيراً مقدراً من منزل إِلى منزل، ومن قرية إِلى قرية {سِيرُوا فِيهَا لَيَالِي وَأَيَّامًا ءامنينَ} أي وقلنا لهم سيروا بين هذه القرى متى شئتم لا تخافون في ليل ولا في نهار قال الزمخشري: كان الغادي منهم يقيل في قرية، والرائح يبيت في قرية إلى أن يبلغ الشام، لا يخاف جوعاً ولا عطشاً ولا عدواً، ولا يحتاج إِلى حمل زاد ولا ماء، وكانوا يسيرون آمنين لا يخافون شيئاً {فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا} إِخبارٌ بما قابلوا به النعم من الكفران أي أنهم حين بطروا النعمة، وملوا العافية، وسئموا الراحة طلبوا من الله أن يباعد بين قراهم المتصلة ليمشوا في المفاوز ويتزودوا للأسفار، فعجَّل الله إِجابتهم بتخريب تلك القرى وجعلها مفاوز قفاراً {وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ} أي وظلموا أنفسهم بكفرهم وجحودهم النعمة {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ} أي جعلناهم أخباراً تُروى للناس بعدهم {وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ} أي وفرقناهم في البلاد شذر مذر {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي إن فيما ذكر من قصتهم لعبراً وعظات لكل عبد صابرٍ على البلاء، شاكر في النعماء، والمقصود من ذكر قصة سبأ تحذير الناس من كفران النعمة لئلا يحل بهم ما حل بمن قبلهم، ولهذا أصبحت قصتهم يضرب بها المثل فيقال: "ذهبوا أيدي سبأ" ثم ذكر تعالى سبب ضلال المشركين فقال {وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ} أي تحقق ظن إِبليس اللعين في هؤلاء الضالين، حيث ظنَّ أنه يستطيع أن يغويهم بتزيين الباطل لهم، وأقسم بقوله {لأغوينهم أجمعين} فتحقق ما كان يظنه، قال مجاهد: ظنَّ ظناً فكان كما ظن فصدَّق ظنَّه {فَاتَّبَعُوهُ إِلا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} أي فاتبعه الناس فيما دعاهم إِليه من الضلالة إِلا فريقاً هم المؤمنون فإِنهم لم يتبعوه، قال القرطبي: أي ما سلم من المؤمنين إِلا فريق، وعن ابن عباس أنهم المؤمنون كلُّهم فتكون {مِن} على هذا للتبيين لا للتبعيض، وإِنما علم إِبليس صدق ظنه وهو لا يعلم الغيب، لأنه لمَّا نفذ له في آدم ما نفذ، غلب على ظنه أنه ينفذ له مثل ذلك في ذريته وقد وقع له تحقيق ما ظنَّ {وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي وما كان لإِبليس تسلط واستيلاء عليهم بالوسوسة والإِغواء {إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ} أي إِلا لحكمة جليلة وهي أن نظهر علمنا للعباد بمن هو مؤمن مصدِّق بالآخرة، ومن هو شاك مرتاب في أمرها، فنجازي كلاً بعمله، قال القرطبي: أي لم يقهرهم إِبليس على الكفر، وإِنما كان منه الدعاء والتزيين، وقال الحسن: واللهِ ما ضربهم بعصا، ولا أكرههم على شيء، وما كان إِلا غروراً وأماني دعاهم إِليها فأجابوه {وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} أي وربك يا محمد على كل شيء رقيب، لا تخفى عليه خافية من أفعال العباد، فهو الذي يحفظ عليهم أعمالهم، ويعلم نياتهم وأحوالهم، قال الصاوي: الشيطان سبب الإِغواء لا خالق الإِغواء، فمن أراد الله حفظه منع الشيطان عنه، ومن أراد إِغواءه سلَّط عليه الشيطان، والكل فعل الله تعالى، وإِنما سبقت حكمته بتسليط الشيطان على الإِنسان ابتلاءً وامتحاناً ليميز الله الخبيث من الطيب، والمراد بقوله {لِنَعْلَمَ} أي لنظهر للخلق علمنا، وإِلا فالله تعالى عالم بما كان وما يكون.

    بطلان قول من ادعى شفاعة الآلهة

    {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ(22)وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ(23)}.

    {قُلْ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين ادعوا شركاءكم الذين عبدتموهم من الأصنام، وزعمتم أنهم آلهة من دون الله، أُدعوهم ليجلبوا لكم الخير، ويدفعوا عنكم الضر، قال أبو حيان: والأمر بدعاء الآلهة للتعجيز وإِقامة الحجة عليهم {لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ} أي لا يملكون وزن ذرة من خيرٍ أو نفعٍ أو ضر {فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} أي في العالم العلوي أو السفلي، وليسوا بقادرين على أمرٍ من الأمور في الكون بأجمعه {وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ} أي وليس لتلك الآلهة شركة مع الله لا خلقاً ولا ملكاً ولا تصرفاً {وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} أي وليس له تعالى من الآلهة معينٌ يُعينه في تدبير أمرهما، بل هو وحده الخالق لكل شيء، المنفرد بالإِيجاد والإِعدام، ثم لما نفى عنها الخلق والملك، نفى عنها الشفاعة أيضاً فقال {وَلا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} أي لا تكون الشفاعة لأحدٍ عند الله من ملكٍ أو نبي، حتى يُؤذن له في الشفاعة، فكيف يزعمون أن آلهتهم يشفعون لهم؟ قال ابن كثير: أي أنه تعالى لعظمته وجلاله وكبريائه لا يجترئ أحدٌ أن يشفع عنده في شيءٍ إِلا بعد إِذنه له في الشفاعة كقوله {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلا بِإِذْنِهِ} وقوله {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى} وإِنما كانت الشفاعة لسيد ولد آدم إِظهاراً لمقامه الشريف، فهو أكبر شفيع عند الله، وذلك حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ } أي حتى إِذا زال الفزع والخوف عن قلوب الشفعاء، من الملائكة والأنبياء {قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ} أي قال بعضهم لبعض: ماذا قال ربكم في أمر الشفاعة؟ فأجابوهم بقولهم: قد أذن فيها للمؤمنين، قال القرطبي: إِن الله تعالى يأذن للأنبياء والملائكة في الشفاعة، وهم على غاية الفزع من الله، لما يقترن بتلك الحال من الأمر الهائل، والخوف الشديد أن يقع منهم تقصير، فإذا سُرِّي عنهم قالوا للملائكة فوقهم: ماذا قال ربكم؟ أي بماذا أمر الله؟ قالوا الحقَّ أي إِنه أذن لكم في الشفاعة للمؤمنين {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أي هو تعالى المتفرد بالعلو والكبرياء، العظيم في سلطانه وجلاله، قال أبو السعود: وهذا من تمام كلام الشفعاء، قالوه اعترافاً بغاية عظمة جناب الله عز وجل، فليس لأحدٍ أن يتكلم إِلا بإِذنه.

    توبيخ المشركين في عبادتهم غير الخالق الرازق

    {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ قُلْ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(24)قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ(25)قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ(26)قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(27)وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(28)وَيَقُولُو نَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(29)قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ(30) }.

    ثم وبَّخ تعالى المشركين في عبادتهم غير الخالق الرازق فقال {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي قل لهم يا محمد من الذي يرزقكم من السماوات بإِنزال المطر، ومن الأرض بإِخراج النبات والثمرات؟ {قُلْ اللَّهُ} أي قل لهم: اللهُ الرازق لا آلهتكم، قال ابن الجوزي: وإِنما أُمر عليه السلام أن يسأل الكفار عن هذا احتجاجاً عليهم بأن الذي يرزق هو المستحق للعبادة، وهم لا يثبتون رازقاً سواه، ولهذا جاء الجواب {قُلْ اللَّهُ} لأنهم لا يجيبون بغير هذا {وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي وأحد الفريقين منا أو منكم لعلى هدى أو ضلال بيِّن، وهذا نهاية الإِنصاف مع الخصم، قال أبو حيان: أخرج الكلام مخرج الشك، ومعلوم أن من عبد الله وحده كان مهتدياً، ومن عبد غيره من جماد كان ضالاً، وفي هذا إِنصافٌ وتلطفٌ في الدعوى، وفيه تعريضٌ بضلالهم وهو أبلغ من الردّ بالتصريح، ونحوه قول العرب: أخزى الله الكاذب مني ومنك، مع تيقن أن صاحبه هو الكاذب {قُلْ لا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ} أي لا تؤاخذون على ما ارتكبنا من إِجرام، ولا نؤاخذ نحن بما اقترفتم، وإِنما يعاقب كل إِنسان بجريرته، وهذه ملاطفة وتنزُّلٌ في المجادلة إِلى غاية الإِنصاف، قال الزمخشري: وهذا أدخل في الإِنصاف وأبلغ من الأول، حيث اسند الإِجرام لأنفسهم والعمل إِلى المخاطبين {قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ} أي يجمع الله بيننا وبينكم يوم القيامة ثم يحكم بيننا ويفصل بالحقِّ {وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ} أي وهو الحاكم العادل الذي لا يظلم أحداً، العالم بأحوال الخلق، فيدخل المحقَّ الجنة، والمبطل النار {قُلْ أَرُونِي الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ} توبيخٌ آخر على إِشراكهم وإِظهارٌ لخطئهم العظيم أي أروني هذه الأصنام التي ألحقتموها بالله وجعلتموها شركاء معه في الألوهية، لأنظر بأي صفةٍ استحقت العبادة مع الذي ليس كمثله شيء؟ قال أبو السعود: وفيه مزيد تبكيتٍ لهم بعد إِلزام الحجة عليهم {كَلا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} ردعٌ لهم وزجر أي ليس الأمر كما زعمتم من اعتقاد شريك له، بل هو الإِله الواحد الأحد، الغالب على أمره، الحكيم في تدبيره لخلقه، فلا يكون له شريك في ملكه أبداً {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أي وما أرسلناك يا محمد للعرب خاصة وإِنما أرسلناك لعموم الخلق، مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم، ومنذراً للكافرين من عذاب الجحيم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ الناسِ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ هؤلاء الكافرين لا يعلمون ذلك فيحملهم جهلهم على ما هم عليه من الغيّ والضلال {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي ويقول المشركون على سبيل الاستهزاء والسخرية: متى هذا العذاب الذي تخوفوننا به إِن كنتم صادقين فيما تقولون؟ والخطاب للنبي والمؤمنين {قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلا تَسْتَقْدِمُونَ} أي لكم زمان معيَّن للعذاب يجيء في أجله الذي قدَّره الله له، لا يستأخر لرغبة أحد، ولا يتقدم لرجاء أحد، فلا تستعجلوا عذاب الله فهو آتٍ لا محالة.

    إنكار المشركين القرآن، وحوارهم يوم القيامة مع بعضهم

    {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ(31)قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ(32)وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(33)}.

    ثم أخبر تعالى عن تمادي المشركين في العناد والتكذيب فقال {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} أي لن نصدِّق بالقرآن ولا بما سبقه من الكتب السماوية الدالة على البعث والنشور {وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي ولو شاهدت يا محمد حال الظالمين المنكرين للبعث في موقف الحساب {يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ} أي يلوم بعضهم بعضاً ويؤنب بعضهم بعضاً، وجواب {لَوْ} محذوف للتهويل تقديره لرأيت أمراً فظيعاً مهولاً { يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ} أي يقول الأتباع للرؤساء: لولا إِضلالكم لنا لكنا مؤمنين مهتدين {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُمْ}؟ أي قال الرؤساء جواباً للمستضعفين: أنحن منعناكم عن الإِيمان بعد أن جاءكم؟ لا، ليس الأمر كما تقولون {بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ} أي بل أنتم كفرتم من ذات أنفسكم، بسب أنكم كنتم مجرمين راسخين في الإِجرام {وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي وقال الأتباع للرؤساء: بل مكركم بنا في الليل والنهار هو الذي صدَّنا عن الإِيمان {إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَادًا} أي وقت دعوتكم لنا إِلى الكفر بالله، وأن نجعل له شركاء، ولولا تزيينكم لنا الباطل ما كفرنا {وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ} أي أخفى كل من الفريقين الندامة على ترك الإِيمان حين رأوا العذاب، أخفوها مخافة التعيير {وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وجعلنا السلاسل في رقاب الكفار زيادةً على تعذيبهم بالنار {هَلْ يُجْزَوْنَ إِلا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي لا يجزون إِلا بأعمالهم التي عملوها ولا يعاقبون إِلا بكفرهم وإِجرامهم.

    ظاهرة الكفر بين المترفين، واعتدادهم بالأموال والأولاد

    {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(34)وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(35)قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(36)وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلا مَنْ ءامن وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ(37)وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ(38)قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ(39)}.

    سبب النزول:

    نزول الآية (34):

    {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ..}: أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن أبي رَزِين قال: "كان رجلان شريكان، خرج أحدهما إلى الشام، وبقي الآخر، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما عمل، فكتب إليه أنه لم يتبعه أحد من قريش إلا رذالة الناس ومساكينهم، فترك تجارته، ثم أتى صاحبه، فقال: دُلّني عليه، وكان يقرأ الكتب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: إلامَ تدعو؟ فقال: إلى كذا وكذا، فقال: أشهد أنك رسول الله، فقال: وما علمك بذلك؟ قال: إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه رذالة الناس ومساكينهم، فنزلت هذه الآية: {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله قد أنزل تصديق ما قلت".

    {وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} أي لم نبعث في أهل قريةٍ رسولاً من الرسل ينذرهم عذابنا {إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا} أي إِلا قال أهل الغنى والتنعم في الدنيا { إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي لا نؤمن برسالتكم ولا نصدقكم بما جئتم به، قال قتادة: المترفون هم جبابرتهم وقادتهم ورؤساؤهم في الشر، وهم الذين يبادرون إِلى تكذيب الأنبياء، والقصد بالآية تسلية النبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب أكابر قريش له {وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالا وَأَوْلادًا} أي وقال مشركو مكة: نحن أكثر أموالاً وأولاداً من هؤلاء الضعفاء المؤمنين {وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} أي إِن الله لا يعذبنا لأنه راضٍ عنا، ولو لم يكن راضياً عنا لما بسط لنا في الرزق، قاسوا أمر الدنيا على الآخرة، وظنوا أن الله كما أعطاهم الأموال والأولاد في الدنيا لا يعذبهم في الآخرة، قال أبو حيان: نصَّ تعالى على المترفين لأنهم أول المكذبين للرسل، لما شُغلوا به من زخرف الدنيا، وما غلب على عقولهم منها، فقلوبهم أبداً مشغولة منهمكة، بخلاف الفقراء فإِنهم خالون من مستلذات الدنيا، فقلوبهُم أقبل للخير ولذلك كانوا أكثر أتباع الأنبياء {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي قل لهم يا محمد: إِن توسعة الرزق وتضييقه ليس دليلاً على رضى الله، فقد يوسّع الله على الكافر والعاصي، ويضيق على المؤمن والمطيع ابتلاءً وامتحاناً، فلا تظنوا أن كثرة الأموال والأولاد دليل المحبة والسعادة، بل هي تابعة للحكمة والمشيئة {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثر هؤلاء الكفرة لا يعلمون الحقيقة، فيظنون أن كثرة الأموال والأولاد للشرف والكرامة، وكثيراً ما يكون للاستدراج كما قال تعالى {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ} ولهذا أكَّد ذلك بقوله {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى } أي ليست أموالكم ولا أولادكم التي تفتخرون بها وتكاثرون هي التي تقربكم من الله قربى، وإِنما يقرّب الإِيمان والعمل الصالح، قال الطبري: الزلفى: القربى، ولا يعتبر الناس بكثرة المال والولد، ولهذا قال تعالى بعده {إِلا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي إِلا المؤمن الصالح الذي ينفق ماله في سبيل الله، ويعلّم ولده الخير ويربيه على الصلاح فهذا الذي يقرّبه من الله {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا} أي تُضاعف حسناتهم، الحسنة بعشر أمثالها وبأكثر إِلى سبعمائة ضعف {وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ} أي وهم في منازل الجنة العالية آمنون من كل عذاب ومكروه، ولما ذكر جزاء المؤمنين، ذكر عقاب الكافرين، ليظهر التباين بين الجزاءين فقال {وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} أي يسعون في الصدِّ عن سبيل الله، واتباع آياته ورسله، معاندين لنا يظنون أنهم يفوتوننا بأنفسهم {أُوْلَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ} أي فهم مقيمون في العذاب، محضرون يوم القيامة للحساب {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ} أي قل يا محمد: إِن ربي يوسّع الرزق لمن يشاء من خلقه، ويقتَر على من يشاء، فلا تغتروا بالأموال التي رزقكم الله إِيَّاها، قال في التسهيل: كررت الآية لاختلاف القصد، فإِنَّ القصد بالأول الكفار، والقصد هنا ترغيب المؤمنين بالإِنفاق {وَمَا أَنفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ} أي وما أنفقتم في سبيل الله قليلاً أو كثيراً فإِن الله تعالى يعوّضه عليكم إِما عاجلاً أو آجلاً { وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ} أي هو تعالى خير المعطين، فإِنَّ عطاء غيره بحساب، وعطاؤه تعالى بغير حساب، قال المفسرون: لما بيَّن أنَّ الإِيمان والعمل الصالح هو الذي يقرب العبد إِلى ربه، ويكون مؤدياً إِلى مضاعفة حسناته، بيَّن أن نعيم الآخرة لا ينافي سعة الرزق في الدنيا، بل الصالحون قد يبسط لهم الرزق في الدنيا، مع ما لهم في الآخرة من الجزاء الأوفى والمثوبة الحسنى بمقتضى الوعد الإِلهي.

    تقريع الكفار بسؤال الملائكة عن عبادة هؤلاء

    {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ(40)قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ(41)فَالْيَوْم َ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ(42)}.

    {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا} أي واذكر يوم يحشر الله المشركين جميعاً من تقدم ومن تأخر للحساب والجزاء {ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ}؟ الاستفهام للتقريع والتوبيخ للمشركين، أي أهؤلاء عبدوكم من دوني وأنتم أمرتموهم بذلك؟ قال الزمخشري: هذا الكلام خطاب للملائكة وتقريع للكفار، وارد على المثل السائر "إِيَّاك أعني واسمعي يا جارة" ونحوه قوله تعالى {أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إِلهين من دون الله}؟ وقد علم سبحانه أن الملائكة وعيسى منزهون عما نُسب إليهم، والغرض من السؤال والجواب أن يكون تقريع المشركين أشد، وخجلهم أعظم {قالوا سبحانك أنت وليُّنا من دونهم} أي تعاليت وتقدست يا ربنا عن أن يكون معك إِله، أنت ربنا ومعبودنا الذي نتولاه ونعبده ونخلص له العبادة، ونحن نتبرأ إِليك منهم {بل كانوا يعبدون الجن} أي بل كانوا يعبدون الشياطين لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة غير الله فأطاعوهم {أكثرهم بهم مؤمنون} قال الطبري: أي أكثرهم بالجنّ مصدقون يزعمون أنهم بنات الله، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ثمّ قال تعالى رداً على مزاعم المشركين {فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلا ضَرًّا} أي ففي هذا اليوم -يوم الحساب- لا ينفع العابدون ولا المعبودون بعضهم لبعضٍ، لا بشفاعة ونجاة، ولا بدفع عذاب وهلاك، قال أبو السعود: يخاطبون بذلك على رؤوس الأشهاد إِظهاراً لعجزهم وقصورهم عن نفع عابديهم، وإِظهاراً لخيبة رجائهم بالكلية، ونسبة عدم النفع والضر إِلى البعض للمبالغة في المقصود، كأن نفع الملائكة لعبدتهم في الاستحالة كنفع العبدة لهم {وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي ونقول للظالمين الذين عبدوا غير الله {ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ} أي ذوقوا عذاب جهنم التي كذبتم بها في الدنيا فها قد وردتموها.

    لما يستحق الكفار العقوبة؟

    {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءاباؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ(43)وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ(44)وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(45)قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ(46)قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(47)قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلامُ الْغُيُوبِ(48)قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ(49)قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ(50)}.

    ثم بيَّن تعالى لوناً آخر من كفرهم وضلالهم فقال؟ {وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإِذا تُليت على هؤلاء المشركين آيات القرآن واضحات المعاني، بينات الإِعجاز، وسمعوها غضة طريةً من لسان رسولنا محمد صلى الله عليه وسلم {قَالُوا مَا هَذَا إِلا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ ءاباؤُكُمْ} أي ما هذا الذي يزعم الرسالة إِلا رجلٌ مثلكم يريد أن يمنعكم عمَّا كان يعبد أسلافكم من الأوثان والأصنام {وَقَالُوا مَا هَذَا إِلا إِفْكٌ مُفْتَرًى} أي ما هذا القرآن إِلا كذبٌ مختلق على الله {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي وقال أولئك الكفرة المتمردون بجراءتهم على الله ومكابرتهم للحقِّ النيّر: ما هذا القرآن إِلا سحرٌ واضح ظاهر لا يخفى على لبيب، قال الزمخشري: وفيه تعجيب من أمرهم بليغ، حيث بتّوا القضاء على أنه سحر، ثم بتّوه على أنه بيِّن ظاهر، كل عاقلٍ تأمله سمَّاه سحراً وفي قوله {لَمَّا جَاءهُمْ} المبادهة بالكفر من غير تأمل، ثم بيَّن تعالى أنهم لم يقولوا ذلك عن بينة، ولم يكذبوا محمداً عن يقين، بل عن ظنٍّ وتخمين، فقال {وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا} أي وما أنزلنا على أهل مكة كتاباً قبل القرآن يقرؤون فيه ويتدارسونه {وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ} أي وما بعثنا إِليهم قبلك يا محمد رسولاً ينذرهم عذاب الله، فمن أين كذبوك؟ قال الطبري: أي ما أنزل الله على العرب كتاباً قبل القرآن، ولا بعث إِليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم {وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} أي وكذَّب قبلهم أقوام من الأمم السابقين وما بلغ كفار مكة عشر ما آتينا الأمم التي كانت قبلهم من القوة والمال وطول العمر، قال ابن عباس: {مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ} أي من القوة في الدنيا {فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي فلمّا كذبوا رسلي جاءهم عذابي بالتدمير والاستئصال، ولم يغن عنهم ما كانوا فيه من القوة، فكيف حال هؤلاء إِذا جاءهم العذاب والهلاك؟ وفيه تهديدٌ لقريش {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إِنما أنصحكم وأوصيكم بخصلةٍ واحدة ثم فسرها بقوله {أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى} أي هي أن تتحرَّوا الحق لوجه الله والتقرب له مجتمعين ووحداناً، أو اثنين اثنين وواحداً واحداً، قال القرطبي: وهذا القيام معناه القيام إِلى طلب الحق، لا القيام الذي هو ضدُّ القعود {ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ} أي ثم تتفكروا في أمر محمد لتعلموا أن من ظهر على يديه هذا الكتاب المعجز لا يمكن أن يكون به مسٌّ من الجنون أو يكون مجنوناً، قال أبو حيان: ومعنى الآية: إِنما أعظكم بواحدة فيها إِصابتكم الحقَّ وهي أن تقوموا لوجه الله متفرقين اثنين اثنين، وواحداً واحداً، ثم تتفكروا في أمر محمد وما جاء به، وإِنما قال {مَثْنَى وَفُرَادَى} لأن الجماعة يكون مع اجتماعهم تشويش الخاطر والمنع من التفكر، كما يكون في الدروس التي يجتمع بها الجماعة، وأما الاثنان إِذا نظرا نظر إِنصاف وعرض كل واحدٍ منهما على صاحبه ما ظهر له فلا يكاد الحقُّ أن يعدوهما، وإِذا كان الواحد جيّد الفكر عرف الحق، فإِذا تفكروا عرفوا أن نسبته عليه السلام للجنون لا يمكن، ولا يذهب إلى ذلك عاقل {إِنْ هُوَ إِلا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ} أي ما هو إِلا رسول منذر لكم إِن كفرتم من عذاب شديدٍ في الآخرة {قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ} أي لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً، قال الطبري: المعنى إِني لم أسألكم على ذلك جعلاً فتتهموني وتظنوا أني إِنما دعوتكم إِلى اتباعي لمالٍ آخذه منكم {إِنْ أَجْرِي إِلا عَلَى اللَّهِ} أي ما أجري وثوابي إِلا على الله رب العالمين {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} أي هو تعالى رقيب وحاضر على أعمالي وأعمالكم، لا يخفى عليه شيء وسيجازي الجميع، قال أبو السعود: أي هو مطلع يعلم صدقي وخلوص نيتي {قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ} أي يبيِّن الحجة ويظهرها، قال ابن عباس: يقذف الباطل بالحق كقوله {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} {عَلامُ الْغُيُوبِ} أي هو تعالى الذي أحاط علماً بجميع الغيوب التي غابت وخفيت عن الخلق {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ} أي جاء نور الحق وسطع ضياؤه وهو الإِسلام {وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ} أي ذهب الباطل بالمرَّة فليس له بدءٌ ولا عودٌ، قال الزمخشري: إِذا هلك الإنسان لم يبق له إِبداءٌ ولا إِعادة، فجعلوا قولهم {لا يبدئ ولا يعيد} مثلاً في الهلاك والمعنى: جاء الحق وهلك الباطل كقوله تعالى {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ} {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين إِن حصل لي ضلالٌ -كما زعمتم- فإِن إِثم ضلالي على نفسي لا يضر غيري {وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} أي وإِن اهتديتُ إِلى الحق فبهداية الله وتوفيقه {إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ} أي سميعٌ لمن دعاه، قريب الإِجابة لمن رجاه، قال أبو السعود: يعلم قول كلٍ من المهتدي والضال وفعله وإِن بالغ في إِخفائهما.

    حال الكفار بعد خروجهم من القبور

    {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ(51)وَقَالُوا ءامنّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمْ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ(52)وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53)وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ(54)}.

    {وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا} أي ولو ترى يا محمد حال المشركين عند فزعهم إِذا خرجوا من قبورهم {فَلا فَوْتَ} أي فلا مخلص لهم ولا مهرب {وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ} أي أخذوا من الموقف -أرض المحشر- إِلى النار، وجواب {لَوْ} محذوف تقديره: لرأيت أمراً عظيماً وخطباً جسيماً ترتعد له الفرائص {وَقَالُوا ءامنّا بِهِ} أي وقالوا عندما عاينوا العذاب ءامنّا بالقرآن وبالرسول {وَأَنَّى لَهُمْ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي ومن أين لهم تناول الإِيمان وهم الآن في الآخرة ومحل الإِيمان في الدنيا، وقد ذهبت الدنيا فصارت منهم بمكان بعيد؟ قال أبو حيان: مثَّل حالهم بحال من يريد أن يتناول الشيء من بعدٍ كما يتناوله الآخر من قرب {وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ} أي والحال أنهم قد كفروا بالقرآن وبالرسول من قبل ذلك في الدنيا، فكيف يحصل لهم الإِيمان بهما في الآخرة ‍{وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي يرمون بظنونهم في الأمور المغيبة فيقولون: لا بعث ولا حساب، ولا جنة ولا نار، قال القرطبي: والعربُ تقول لكل من تكلم بما لا يعرف هو يقذف ويرجم بالغيب، على جهة التمثيل لمن يرمي ولا يصيب {وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ} أي وحيل بينهم وبين الإِيمان ودخول الجنان {كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ} أي كما فعل بأشباههم في الكفر من الأمم السابقة {إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ} أي كانوا في الدنيا في شك وارتياب من أمر الحساب والعذاب، وقوله {مُرِيبٍ} من باب التأكيد كقولهم عجبٌ عجيب.

     
  4. #74
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4387

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة فاطر

    بعض مظاهر القدرة الإلهية، والتذكير بنعم الله

    تحقق الوعد بالبعث، وعداوة الشيطان، وجزاء الكافرين والمؤمنين

    بعض دلائل قدرة الله إثباتاً للبعث

    مثل المؤمن والكافر، وآيات قدرته تعالى

    تذكير المؤمنين بنعم الله، والمسؤولية الفردية

    مثال آخر للمؤمن والكافر، وإرسال الرسل إلى الأمم

    إثبات وحدانية الله بالأدلة السماوية والأرضية

    تصديق القرآن للكتب السابقة، وأنواع ورثته، وجزاء المؤمنين

    جزاء الكافرين وأحوالهم في النار

    توبيخ المشركين على عبادتهم الأوثان

    إنكار المشركين الرسالة النبوية وتهديدهم بالإهلاك



    بَين يَدَي السُّورَة

    * سورة فاطر مكية نزلت قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهي تسير في الغرض العام الذي نزلت من أجله الآيات المكية، والتي يرجع أغلبها إلى المقصد الأول من رسالة كل رسول، وهو قضايا العقيدة الكبرى "الدعوة إلى توحيد الله، وإِقامة البراهين على وجوده، وهدم قواعد الشرك، والحثّ على تطهير القلوب من الرذائل، والتحلي بمكارم الأخلاق".

    * تحدثت السورة الكريمة في البدء عن الخالق المبدع، الذي فطر الأكوان، وخلق الملائكة والإِنس والجان، وأقامت الأدلة والبراهين على البعث والنشور، في صفحات هذا الكون المنظور، بالأرض تحيا بعد موتها، بنزول الغيث، وبخروج الزروع والفواكه والثمار، وبتعاقب الليل والنهار، وفي خلق الإِنسان في أطوار، وفي إيِلاج الليل في النهار، وغير ذلك من دلائل القدرة والوحدانية.

    * وتحدثت عن الفارق الكبير بين المؤمن والكافر، وضربت لهما الأمثال بالأعمى والبصير، والظلمات والنور، والظل والحرور.

    * ثم تحدثت عن دلائل القدرة في اختلاف أنواع الثمار، وفي سائر المخلوقات من البشر والدواب والأنعام، وفي اختلاف أشكال الجبال والأحجار، وتنوعها ما بين أبيض وأسود وأحمر، وكلها ناطقة بعظمة الواحد القهار.

    * وتحدثت بعد ذلك عن ميراث هذه الأمة المحمدية لأشرف الرسالات السماوية، بإِنزال هذا الكتاب المجيد الجامع لفضائل كتب الله، ثم انقسام الأمة إلى ثلاثة أنواع: "المقصِّر، والمحسن، والسابق بالخيرات".

    * وختمت السورة بتقريع المشركين في عبادتهم للأوثان والأصنام والأحجار.



    التسميــَة:

    سميت "سورة فاطر" لذكر هذا الاسم الجليل، والنعت الجميل في طليعتها، لما في هذا الوصف من الدلالة على الإِبداع والاختراع والإِيجاد لا على مثالٍ سابق، ولما فيه من التصوير الدقيق، المشير إلى عظمة ذي الجلال، وباهر قدرته، وعجيب صنعه، فهو الذي خلق الملائكة وأبدع تكوينهم بهذا الخلق العجيب.

    * * *

    بعض مظاهر القدرة الإلهية، والتذكير بنعم الله

    {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(2)يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(3)وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ(4)}

    {الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي الثناء الكامل، والذكر الحسن، مع التعظيم والتبجيل لله جلَّ وعلا، خالق السماوات والأرض ومنشئها من غير مثالٍ سبق، قال البيضاوي: {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي مبدعهما وموجدهما على غير مثال {جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً} أي جاعل الملائكة وسائط بين الله وأنبيائه لتبليغهم أوامر الله، قال ابن الجوزي: يرسلهم إِلى الأنبياء وإِلى ما شاء من الأمور {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ} أي أصحاب أجنحة، قال قتادة: بعضهم له جناحان، وبعضهم له ثلاثة، وبعضهم له أربعة، ينزلون بها من السماء إلى الأرض، ويعرجون بها إلى السماء {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ} أي يزيد في خلق الملائكة كيف يشاء، من ضخامة الأجسام، وتفاوت الأشكال، وتعدد الأجنحة، وقد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل ليلة الإِسراء وله ستمائة جناح، بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، وقال قتادة: {يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ}: الملاحةُ في العينين، والحسنُ في الأنف، والحلاوة في الفم {إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي هو تعالى قادر على ما يريد، له الأمر والقوة والسلطان، لا يمتنع عليه فعل شيءٍ أراده، ولا يتأبى عليه خلق شيء أراده، وصف تعالى نفسه في هذه الآيات بصفتين جليلتين تحمل كل منهما صفة القدرة وكمال الإِنعام الأولى: أنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومبدعهما من غير مثالٍ يحتذيه، ولا قانون ينتحيه، وفي ذلك دلالة على كمال قدرته، وشمول نعمته، فهو الذي رفع السماء بغير عمد، وجعلها مستويةً من غير أوّد، وزينها بالكواكب والنجوم، وهو الذي بسط الأرض، وأودعها الأرزاق والأقوات، وبثَّ فيها البحار والأنهار، وفجَّر فيها العيون والآبار، إلى غير ما هنالك من آثار قدرته العظيمة، وآثار صنعته البديعة، وعبَّر عن ذلك كله بقوله {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} والثانية: اختيار الملائكة ليكونوا رسلاً بينه وبين أنبيائه، وقد أشار إلى طرفٍ من عظمته وكمال قدرته جل وعلا بأن خلق الملائكة بأشكال عجيبة، وصور غريبة، وأجنحة عديدة، فمنهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة، ومنهم من له أربعة، ومنهم من له ستمائة جناح، ما بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب، كما هو وصف جبريل عليه السلام، ومنهم من لا يعلم حقيقة خلقته وضخامة صورته إلا الله جل وعلا، فقد روى الزهري أن جبريل قال للنبي صلى الله عليه وسلم: (يا محمد كيف لو رأيت إسرافيل! إِنَّ له لاثنيْ عشر ألف جناح، منها جناح بالمشرق وجناح بالمغرب، وإِن العرش لعلى كاهله) ولو كشف لنا الحجاب لرأينا العجب العجاب، فسبحان الله ما أعظم خلقه، وما أبدع صنعه!! ثم بيَّن تعالى نفاذ مشيئته، ونفوذ أمره في هذا العالم الذي فطره ومن فيه، وأخضعه لإِرادته وتصرفه فقال: {مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا} أيْ أيُّ شيء يمنحه الله لعباده ويتفضل به عليهم من خزائن رحمته، من نعمةٍ، وصحةٍ، وأمنٍ، وعلمٍ، وحكمةٍ، ورزقٍ، وإرسال رسلٍ لهداية الخلق، وغير ذلك من صنوف نعمائه التي لا يحيط بها عدٌّ، فلا يقدر أحدٌ على إِمساكه وحرمان خلق الله منه، فهو الملك الوهاب الذي لا مانع لما أعطى، ولا معطي لِما منع {وَمَا يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ} أيْ وأيُّ شيء يمسكه ويحبسه عن خلقه من خيري الدنيا والآخرة، فلا أحد يقدر على منحه للعباد بعد أن أمسكه جل وعلا {وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي هو تعالى الغالب على كل شيء، الحكيم في صنعه، الذي يفعل ما يريد على مقتضى الحكمة والمصلحة، قال المفسرون: والفتحُ والإِمساك عبارة عن العطاء والمنع، فهو الذي يضر وينفع، ويعطي ويمنع، وفي الحديث "أحقُّ ما قال العبد وكلُّنا لك عبد: اللهم لا مانع لما أعطيتَ، ولا معطي لما منعتَ، ولا ينفع ذا الجدَّ منك الجد" ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه الجليلة عليهم فقال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي اشكروا ربكم على نعمه التي لا تُعدُّ ولا تُحْصى التي أنعم بها عليكم، قال الزمخشري: ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط، ولكن المراد حفظها من الكفران، وشكرها بمعرفة حقها، والاعتراف بها، وإِطاعة موليها، ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه: أذكرْ أياديَّ عندك {هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ} استفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا خالق غيره تعالى، لا ما تعبدون من الأصنام {يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي حال كونه تعالى هو المنعم على العباد بالرزق والعطاء، فهو الذي ينزل المطر من السماء، ويخرج النبات من الأرض، فكيف تشركون معه ما لا يخلق ولا يرزق من الأوثان والأصنام؟ ولهذا قال تعالى بعده {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا ربَّ ولا معبود إلا اللهُ الواحد الأحد {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تُصرفون بعد هذا البيان، ووضوح البرهان، إلى عبادة الأوثان؟ والغرض: تذكير الناس بنعم الله، وإِقامة الحجة على المشركين، قال ابن كثير: نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى الاستدلال على توحيده، بوجوب إِفراد العبادة له، فكما أنه المستقل بالخلق والرزق، فكذلك يجب أن يُفرد بالعبادة، ولا يُشرك به غيره من الأصنام والأوثان {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ} تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم على تكذيب قومه له والمعنى: وإِن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون فلا تحزن لتكذيبهم، فهذه سنة الله في الأنبياء من قبلك، فقد كُذّبوا وأُوذوا حتى أتاهم نصرنا، فلك بهم أسوة، ولا بدَّ أن ينصرك الله عليهم {وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ} أي إلى الله تعالى وحده مرجع أمرك وأمرهم، وسيجازي كلاً بعمله، وفيه وعيد وتهديد للمكذبين.

    تحقق الوعد بالبعث، وعداوة الشيطان، وجزاء الكافرين والمؤمنين

    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ(5)إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ(6)الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ(7)أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ(8)}

    سبب النزول:

    نزول الآية (8):

    {أفمن زيِّن له سوء عمله}: أخرج جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآية: {أفمن زُيِّن له سوء عمله} حيث قال النبي صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعِزَّ دينك بعمر بن الخطاب، أو بأبي جهل بن هشام" فهدى الله عمر، وأضلّ أبا جهل، ففيهما أنزلت.

    ثم ذكَّرهم تعالى بذلك الموعد المحقَّق فقال {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي إِن وعده لكم بالبعث والجزاء حقٌّ ثابتٌ لا محالة لا خُلف فيه {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا} أي فلا تلهكم الحياة الدنيا بزخرفها ونعيمها عن الحياة الآخرة، قال ابن كثير: أي لا تتلهَّوا عن تلك الحياة الباقية، بهذه الزهرة الفانية {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي ولا يخدعنكم الشيطان المبالغ في الغرور فيطمعكم في عفو الله وكرمه، ويمنيكم بالمغفرة مع الإِصرار على المعاصي. ثم بيَّن تعالى عداوة الشيطان للإِنسان فقال: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا} أي إِن الشيطان لكم أيها الناس عدوٌ لدود، وعداوته قديمة لا تكاد تزول فعادوه كما عاداكم ولا تطيعوه، وكونوا على حذرٍ منه، قال بعض العارفين: يا عجباً لمن عصى المحسن بعد معرفته بإِحسانه، وأطاع اللعين بعد معرفته بعداوته {إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} أي إِنما غرضه أن يقذف بأتباعه في نار جهنم المستعرة التي تشوي الوجوه والجلود، لا غرض له إِلا هذا، فهل يليق بالعاقل أن يستجيب لنداء الشيطان اللعين؟ قال الطبري: أي إِنما يدعو شيعته ليكونوا من المخلدين في نار جهنم التي تتوقد على أهلها {الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي الذين جحدوا بالله ورسله لهم عذاب دائم شديد لا يُقدر قدره، ولا يوصف هولُه {وَالَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي جمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ} أي لهم عند ربهم مغفرةٌ لذنوبهم، وأجر كبير وهو الجنة، وإِنما قرن الإِيمان بالعمل الصالح ليشير إِلى أنهما لا يفترقان، فالإِيمان تصديقٌ، وقول، وعمل {أَفمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا} الاستفهام للإِنكار وجوابه محذوف والتقدير أفمن زيَّن له الشيطان عمله السيء حتى رآه حسناً واستحسن ما هو عليه من الكفر والضلال، كمن استقبحه واجتنبه واختار طريق الإِيمان؟ ودلَّ على هذا الحذف قوله تعالى {فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} أي الكلُّ بمشيئة الله، فهو تعالى الذي يصرف من يشاء عن طريق الهدى، ويهدي من يشاء بتوفيقه للعمل الصالح والإِيمان {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} أي فلا تغتمَّ يا محمد ولا تُهلك نفسك حسرةً على تركهم الإِيمان {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ} أي هو جل وعلا العالم بما يصنع هؤلاء من القبائح ومجازيهم عليها، وفيه وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.



    بعض دلائل قدرة الله إثباتاً للبعث

    {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ(9)مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ(10)وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(11)}

    {وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} أي والله تعالى بقدرته هو الذي أرسل الرياح مبشرة بنزول المطر {فَتُثِيرُ سَحَابًا} أي فحركت السحاب وأهاجته، والتعبيرُ بالمضارع عن الماضي {فَتُثِيرُ} لاستحضار تلك الصورة البديعة، الدالة على كمال القدرة والحكمة {فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ} أي فسقنا السحاب الذي يحمل الغيث إلى بلدٍ مجدب قاحل {فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} فيه حذفٌ تقديره فأنزلنا به الماء فأحيينا به الأرض بعد جدبها ويبسها {كَذَلِكَ النُّشُورُ} أي كما أحيا الله الأرض الميتة بالماء، كذلك يحيي الموتى من قبورهم، روى الإِمام أحمد عن أبي رزين العقيلي قال قلت يا رسول الله: كيف يُحْيي اللهُ الموتى؟ وما آيةُ ذلك في خلقه؟ فقال: (أما مررتَ بوادي أهلك مُمْحلاً، ثم مررتَ به يهتز خضراً؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: فكذلك يُحْيي اللهُ الموتى، وتلك آيتُه في خلقه) قال ابن كثير: كثيراً ما يستدل تعالى على المعاد بإِحيائه الأرض بعد موتها، فإِن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها، فإِذا أرسل الله إِليها السحاب تحمل الماء وأنزله عليها {اهتزّتْ وربتْ وأنبتت من كل زوج بهيج} كذلك الأجساد إِذا أراد الله بعثها ونشورها، ثمَّ نبَّه تعالى عباده إِلى السبيل الذي تُنال به العزة فقال {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} أي من كان يطلب العزة الكاملة، والسعادة الشاملة، فليطلبها من الله تعالى وحده، فإِن العزة كلَّها لله جل وعلا، قال بعض العارفين: من أراد عزَّ الدارين فليطع العزيز {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} أي إليه جلَّ وعلا يرتفع كل كلام طيب من ذكر، ودعاءٍ، وتلاوة قرآن، وتسبيح وتمجيد ونحوه، قال الطبري: إلى الله يصعد ذكرُ العبد إِيَّاه وثناؤه عليه {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} أي والعمل الصالح يتقبله الله تعالى ويثيب صاحبه عليه، قال قتادة: لا يقبل الله قولاً إلاَّ بعمل، من قال وأحسن العمل قبل الله منه، نقله الطبري {وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} هذا بيانٌ للكلم الخبيث بعد بيان حال الكلام الطيب أي والذين يحتالون بالمكر والخديعة لإِطفاء نور الله، والكيد للإِسلام والمسلمين، لهم في الآخرة عذاب شديد في نار جهنم {وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هوَ يَبُورُ} أي ومكر أولئك المجرمين هالكٌ وباطل، لأنه ما أسرَّ أحد سوءاً ودبَّره إلا أبداه الله وأظهره {ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله} قال المفسرون: والإِشارة هنا إلى مكر قريشٍ برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة وأرادوا أن يقتلوه، أو يحبسوه، أو يخرجوه كما حكى القرآن الكريم {وإِذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يُخْرجوك} ثم ذكَّرهم تعالى بدلائل التوحيد والبعث، بعد أن ذكَّرهم بآيات قدرته وعزته فقال {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي خلق أصلكم وهو آدم من تراب {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} أي ثم خلق ذريته من ماءٍ مهين وهو المنيُّ الذي يُصبُّ في الرحم {ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا} أي خلقكم ذكوراً وإِناثاً، وزوَّج بعضكم من بعضٍ ليتم البقاء في الدنيا إلى انقضائها، قال الطبري: أي زوَّج منهم الأنثى من الذكر {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} أي وما تحمل أنثى في بطنها من جنين، ولا تلد إِلاَّ بعلمه تعالى، يعلم أذكر هو أو أُنثى، ويعلم أطوار هذا الجنين في بطن أمه، لا يخفى عليه شيء من أحواله {وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلا فِي كِتَابٍ} أي وما يطول عُمر أحدٍ من الخلق فيصبح هرماً، ولا يُنقص من عُمر أحد فيموت وهو صغير أو شاب، إِلا وهو مسجَّل في اللوح المحفوظ، لا يُزاد فيما كتب الله ولا يُنقص {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي سهلٌ هيّن، لأن الله قد أحاط بكل شيء علماً.

    مثل المؤمن والكافر، وآيات قدرته تعالى

    {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(12)يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ(13)إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ(14)}

    ثم ضرب تعالى مثلاً للمؤمن والكافر فقال: {وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ} أي وما يستوي ماء البحر وماء النهر {هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ} أي هذا ماء حلوٌ شديد الحلاوة يكسر وهج العطش، ويسهل انحداره في الحلق لعذوبته {وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ} أي وهذا ماءٌ شديد الملوحة، يُحرق حلق الشارب لمرارته وشدة ملوحته، فكما لا يتساوى البحران: العذبُ، والملح، فكذلك لا يتساوى المؤمن مع الكافر، ولا البرُّ مع الفاجر، قال أبو السعود: هذا مثلٌ ضرب للمؤمن والكافر، والفراتُ الذي يكسر العطش، والسائغ الذي يسهل انحداره لعذوبته، والأُجاج الذي يُحرق بملوحته {وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا} أي ومن كل واحدٍ منهما تأكلون سمكاً غضاً طرياً، مختلف الأنواع والطعوم والأشكال {وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا} أي وتستخرجون منهما اللؤلؤ والمرجان للزينة والتحلي {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ} أي وترى أيها المخاطب السفن العظيمة، تمخرُ عُباب البحر مقبلة ومدبرة، تحمل على ظهرها الأثقال والبضائع والرجال، وهي لا تغرق فيه لأنها بتسخير الله جل وعلا {لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي لتطلبوا بركوبكم هذه السفن العظيمة من فضل الله بأنواع التجارات، والسفر إلى البلدان البعيدة في مدة قريبة {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي ولكي تشكروا ربكم على إنعامه وإِفضاله في تسخير ذلك لكم، ثم انتقل إلى آية أخرى من ءايات قدرته وسلطانه في الآفاق فقال {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} أي يدخل الليلَ في النهار، ويدخل النهار في الليل، فيضيف من هذا إلى هذا وبالعكس، فيتفاوت بذلك طول الليل والنهار بالزيادة والنقصان، حسب الفصول والأمصار، حتى يصل النهار صيفاً -في بعض البلدان- إلى ستة عشرة ساعة، وينقص الليل حتى يصل إلى ثماني ساعات -آيةٌ من ءايات الله تُشاهد لا يستطيع إِنكارها جاحد أو مؤمن، ويحس بآثارها الأعمى والبصير .. آيةٌ شاهدة على قدرة الله، ودقة تصرفه في خلقه، وهذه الظاهرة الكونية دستور لا يتغيَّر، ونظام محكم لا يأتي بطريق الصدفة، وإِنما هو من صنع الله الذي أتقن كل شيء خلقه، فسبحان المدبر الحكيم العليم!! {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} أي ذلَّلهما لمصالح العباد، كل منهما يسير ويدور في مداره الذي قدَّره الله له لا يتعداه، إِلى أجلٍ معلوم هو يوم القيامة {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ} أي ذلكم الفاعل لهذه الأمور البديعة، هو ربكم العظيم الشأن، الذي له المُلك والسلطان والتصرف الكامل في الخلق {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ} أي والذين تعبدون من دون الله من الأوثان والأصنام لا يملكون شيئاً ولو بمقدار القطمير، وهو القشرة الرقيقة التي بين التمرة والنواة، قال المفسرون: وهو مثلٌ يضرب في القلة والحقارة، والأصنامُ لضعفها، وَهَوان شأنها وعجزها عن أي تصرف صارت مضرب المثل في حقارتها بأنها لا تملك فتيلاً ولا قطميراً، ثم أكد تعالى ذلك بقوله {إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ} أي إن دعوتم هذه الأصنام لم يسمعوا دعاءكم ولم يستجيبوا لندائكم، لأنها جمادات لا تسمع ولا تفهم {وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ} أي ولو سمعوا لدعائكم -على الفرض والتسليم- ما استجابوا لكم لأنها ليست ناطقة فتجيب {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ} أي وفي الآخرة حين ينطقهم الله يتبرءون منكم ومن عبادتكم إياهم {وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ} أي ولا يخبرك يا محمد على وجه اليقين أحدٌ إلا أنا - الله - الخالق العليم الخبير، قال قتادة: يعني نفسه عز وجل.



    تذكير المؤمنين بنعم الله، والمسؤولية الفردية

    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ(15)إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ(16)وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ(17)وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ(18)}

    {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمْ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} الخطاب لجميع البشر لتذكيرهم بنعم الله الجليلة عليهم أي أنتم المحتاجون إليه تعالى في بقائكم وكل أحوالكم، وفي الحركات والسكنات {وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} أي وهو جل وعلا الغنيُّ عن العالم على الإِطلاق، المحمودُ على نعمه التي لا تُحْصى، قال أبو حيان: هذه آيةُ موعظة وتذكير، وأن جميع الناس محتاجون إلى إحسان الله تعالى وإِنعامه، في جميع أحوالهم، لا يستغني أحدٌ عنه طرفة عين، وهو الغنيُّ عن العالم على الإِطلاق، المحمود على ما يسديه من النعم، المستحق للحمد والثناء، ثم قرر استغناءه عن الخلق بقوله {إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ} أي لو شاء تعالى لأهلككم وأفناكم وأتى بقومٍ آخرين غيركم، وفي هذا وعيدٌ وتهديد {وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ} أي وليس ذلك بصعبٍ أو ممتنع على الله، بل هو سهل يسير عليه سبحانه، لأنه يقول للشيء كنْ فيكون {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي لا تحمل نفسٌ آثمةٌ إثم نفسٍ أخرى، ولا تعاقب بذنبٍ غيرها كما يفعل جبابرة الدنيا من أخذ الجار بالجار، والقريب بالقريب {وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى} أي وإِن تدع نفس مثقلةٌ بالأوزار أحداً ليحمل عنها بعض أوزارها لا يتحمل عنها ولو كان المدعو قريباً لها كالأب والابن، فلا غياث يومئذٍ لمن استغاث، وهو تأكيد لما سبق في أن الإِنسان لا يتحمل ذنب غيره، قال الزمخشري: فإِن قلت فما الفرق بين الآيتين؟ قلت: الأول في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه، وأنه تعالى لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها، والثاني: في أنه لا غياث يومئذٍ لمن استغاث {إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالغَيْبِ} أي إِنما تنذر يا محمد بهذا القرآن الذين يخافون عقاب ربهم يوم القيامة {وَأَقامُوا الصَّلاةَ} أي وأدوا الصلاة على الوجه الأكمل، فضموا إلى طهارة نفوسهم طهارة أبدانهم بالصلاة المفروضة في أوقاتها {وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ} أي ومن طهَّر نفسه من أدناس المعاصي فإِنما ثمرة ذلك التطهر عائدة عليه، فصلاحه وتقواه مختص به ولنفسه {وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ} أي إليه تعالى وحده مرجع الخلائق يوم القيامة فيجازي كلاً بعمله، وهو إخبار متضمنٌ معنى الوعيد.

    مثال آخر للمؤمن والكافر، وإرسال الرسل إلى الأمم

    {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ(19)وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ(20)وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ(21)وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ(22)إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ(23)إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ(24)وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ(25)ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ(26)}

    {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} هذا مثلٌ ضربه الله للمؤمن والكافر أي كما لا يتساوى الأعمى مع البصير فكذلك لا يتساوى المؤمن المستنير بنور القرآن، والكافر الذي يتخبط في الظلام، {وَلا الظُّلُمَاتُ وَلا النُّورُ} أي لا يتساوى كذلك الكفر والإِيمان، كما لا يتساوى النور والظلام {وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ} أي وكذلك لا يستوي الحقُّ والباطل، والهدى والضلال كما لا يستوي الظل الظليل مع شدة حر الشمس المتوهجة، قال المفسرون: ضرب الله الظل مثلاً للجنة وظلها الظليل، وأشجارها اليانعة تجري من تحتها الأنهار، كما جعل الحرور مثلاً للنار وسعيرها، وشدة أوراها وحرها، وجعل الجنة مستقراً للأبرار، والنار مستقراً للفجار كما قال تعالى {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} ثم أكد ذلك فقال {وَمَا يَسْتَوِي الأَحْيَاءُ وَلا الأَمْوَاتُ} أي كما لا يستوي العقلاء والجهلاء، قال أبو حيان: وترتيب هذه الأشياء في بيان عدم الاستواء جاء في غاية الفصاحة، فقد ذكر الأعمى والبصير مثلاً للمؤمن والكافر، فذكر ما عليه الكافر من ظلمة الكفر، وما عليه المؤمن من نور الإِيمان، ثم ذكر مآلهما وهو الظلُّ والحرور، فالمؤمن بإِيمانه في ظل وراحة، والكافر بكفره في حر وتعب، ثم ذكر مثلاً آخر على أبلغ وجه وهو الحيُّ والميت، فالأعمى قد يكون فيه بعض النفع بخلاف الميت، وجمع الظلمات لأن طرق الكفر متعددة، وأفرد النور لأن التوحيد والحق واحدٌ لا يتعدد، وقدَّم الأشرف في المثلين الأخيرين وهما "الظل، والحيُّ" وقدَّم الأوضح في المثلين الأولين وهما "الأعمى، والظلمات" ليظهر الفرق جلياً، ولا يقال ذلك لأجل السجع لأن معجزة القرآن ليست في مجرد اللفظ، بل في المعنى أيضاً، فلله سرُّ القرآن، ثم زاد في الإِيضاح والبيان فقال {إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ} أي إن الله يسمع من يشاء إسماعه دعوة الحق، فيحبِّبه بالإِيمان ويشرح صدره للإِسلام، وما أنت يا محمد بمسمع هؤلاء الكفار، لأنهم أموات القلوب لا يدركون ولا يفقهون، قال ابن الجوزي: أراد بمن في القبور الكفار، وشبههم بالموتى، أي فكما لا يقدر أن يسمع من في القبور كتاب الله وينتفع بمواعظه، فكذلك من كان ميّت القلب لا ينتفع بما يسمع {إِنْ أَنْتَ إِلا نَذِيرٌ} أي ما أنتَ إلا رسول منذر، تخوّف هؤلاء الكفار من عذاب النار {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أي بعثناك بالهدى ودين الحق، بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلا خلا فِيهَا نَذِيرٌ} أي ما من أمةٍ من الأمم في العصور والأزمنة الخالية إلا وقد جاءها رسول {وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم للتأسي بالأنبياء في الصبر على تحمل الأذى والبلاء، قال الطبري: أي وإِن يكذبك يا محمد هؤلاء المشركون من قومك فقد كذب الذين من قبلهم من الأمم السابقة رسلهم {جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي جاءتهم الرسل بالمعجزات البينات، والحجج الواضحات فكذبوهم وأنكروا ما جاءوا به من عند الله {وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ} أي وجاءوهم بالزُّبُر أي الصحف المنزلة على الأنبياء، وبالكتب السماوية المقدسة المنيرة الموضحة وهي أربعة "التوراة، والإِنجيل، والزبور، والفرقان" ومع ذلك كذبوهم وردّوا عليهم رسالتهم فاصبر كما صبروا {ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ثم بعد إمهالهم أخذتُ هؤلاء الكفار بالهلاك والدمار {فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ} أي فكيف كانت عقوبتي لهم وإِنكاري عليهم؟ ألم آخذهم أخذ عزيز مقتدر؟ ألم أبدِّل نعمتهم نقمة، وسعادتهم شقاوة، وعمارتهم خراباً؟ وهكذا أفعل بمن كذَّب رسلي.

    إثبات وحدانية الله بالأدلة السماوية والأرضية

    {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ(27)وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ(28)إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ(29)لِيُوَفِّيَهُم ْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ(30)}

    سبب نزول الآية (29):

    {إن الذين يتلون ..}: أخرج عبد الغني بن سعيد الثقفي في تفسيره عن ابن عباس أن حصين بن الحارث بن عبد المطلب بن عبد مناف القرشي نزلت فيه: {إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة} الآية.



    ثم عاد إلى تقرير وحدانية الله بالأدلة السماوية والأرضية فقال {أَلَمْ تَرَى أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي ألم تر أيها المخاطب أن الله العظيم الكبير الجليل أنزل من السحاب المطر بقدرته؟ {فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا} أي فأخرجنا بذلك الماء أنواع النباتات والفواكه والثمار، المختلفات الأشكال والألوان والطعوم، قال الزمخشري: أي مختلف أجناسها من الرمان والتفاح والتين والعنب وغيرها مما لا يُحصر، أو هيئاتها من الحمرة والصفرة والخضرة ونحوها {وَمِنْ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا} أي وخلق الجبال كذلك فيها الطرائق المختلفة الألوان -وإِن كان الجميع حجراً أو تراباً- فمن الجبال جُدَد -أي طرائق- مختلفة الألوان، بيضٌ مختلفة البياض، وحمر مختلفة في حمرتها {وَغَرَابِيبُ سُودٌ} أي وجبال سودٌ غرابيب أي شديدة السواد، قال ابن جزي: قدَّم الوصف الأبلغ وكان حقه أن يتأخر، وذلك لقصد التأكيد وكثيراً ما يأتي مثلُ هذا في كلام العرب، والغرضُ بيان قدرته تعالى، فليس اختلاف الألوان قاصراً على الفواكه والثمار بل إن في طبقات الأرض وفي الجبال الصلبة ما هو أيضاً مختلف الألوان، حتى لتجد الجبل الواحد ذا ألوانٍ عجيبة، وفيه عروق تشبه المرجان، ولا سيما في صخور "المرمر" فسبحان القادر على كل شيء {وَمِنْ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ} أي وخلق من الناس، والدواب، والأنعام، خلقاً مختلفاً ألوانه كاختلاف الثمار والجبال، فهذا أبيض، وهذا أحمر، وهذا أسود، والكلُّ خلق الله فتبارك الله أحسن الخالقين .. ثم لما عدَّد ءاياتِ الله، وأعلام قدرته، وآثار صنعه، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس أتبع ذلك بقوله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ} أي إِنما يخشاه تعالى العلماء لأنهم عرفوه حقَّ معرفته، قال ابن كثير: أي إِنما يخشاه حقَّ خشيته العلماء العارفون به، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير أتم، والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر {إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} أي غالب على كل شيء بعظمته، غفور لمن تاب وأناب من عباده، ثم أخبر عن صفات هؤلاء الذين يخافون الله ويرجون رحمته فقال {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ} أي يداومون على تلاوة القرآن آناء الليل وأطراف النهار {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي أدوها على الوجه الأكمل في أوقاتها، بخشوعها وآدابها، وشروطها وأركانها {وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً} أي وأنفقوا بعض أموالهم في سبيل الله وابتغاء رضوانه في السر والعلن {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ} أي يرجون بعملهم هذا تجارة رابحة، لن تكسد ولن تهلك بالخسران أبداً {لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي ليوفيهم الله جزاء أعمالهم، وثواب ما فعلوا من صالح الأعمال، ويزيدهم -فوق أجورهم- من فضله وإِنعامه وإِحسانه، قال ابن جزي: توفية الأجور هو ما يستحقه المطيع من الثواب، والزيادة: التضعيف فوق ذلك أو النظر إِلى وجه الله {إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ} أي مبالغ في الغفران لأهل القرآن، شاكر لطاعتهم، قال ابن كثير: كان مطرف إذا قرأ هذه الآية قال: هذه آية القراء.



    تصديق القرآن للكتب السابقة، وأنواع ورثته، وجزاء المؤمنين

    {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ(31)ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ(32)جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ(33)وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ(34)الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ(35)}

    سبب النزول:

    نزول الآية (35):

    {الذي أحلنا دار المقامة}: أخرج البيهقي وابن أبي حاتم عن عبد الله بن أبي أوفى قال: "قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن النوم مما يُقِرُّ الله به أعيننا في الدنيا، فهل في الجنة من نوم؟ قال: لا، إن النوم شريك الموت، وليس في الجنة موت، قال: فما راحتهم؟ فاعظم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: ليس فيها لغوب، كل أمرهم راحة، فنزلت: {لا يمسنا فيها نصب، ولا يمسنا فيها لغوب}".

    {وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ} أي والذي أوحيناه إليك يا محمد من الكتاب المنزَّل -القرآن العظيم- هو الحق الذي لا شك فيه، ولا ريب في صدقه {مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ} أي حال كونه مصدقاً لما سبقه من الكتب الإِلهية المنزلة كالتوراة والإِنجيل والزبور، قال أبو حيان: وفي الآية إِشارة إلى كونه وحياً، لأنه عليه السلام لم يكن قارئاً ولا كاتباً وأتى ببيان ما في كتب الله، ولا يكون ذلك إلا من الله {إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ} أي هو جل وعلا خبير بعباده محيط ببواطن أمورهم وظواهرها، بصيرٌ بهم لا تخفى عليه خافية من شئونهم.

    {ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا} أي ثم أورثنا هذا القرآن العظيم لأفضل الأمم -وهم أمة محمد عليه السلام- الذين اخترناهم على سائر الأمم، وخصصناهم بهذا الفضل العظيم، القرآن المعجز خاتمة الكتب السماوية، قال الزمخشري: والذين اصطفاهم الله هم أمة محمد من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة.. ثم قسمهم إلى ثلاثة أصناف فقال {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ} أي فمن هؤلاء الذين أورثناهم الكتاب من هو مقصِّر في عمل الخير، يتلو القرآن ولا يعمل به وهو الظالم لنفسه، ومنهم من متوسط في فعل الخيرات والصالحات، يعمل بالقرآن في أغلب الأوقات، ويقصِّر في بعض الفترات وهو المقتصد، ومنهم من هو سبَّاق في العمل بكتاب الله، يستبق الخيرات وقد أحرز قصب السبق في فعل الطاعات بتوفيق الله وتيسيره وهو السابق بالخيرات بإِذن الله، قال ابن جزي: وأكثر المفسرين أن هذه الأصناف الثلاثة في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فالظالم لنفسه: العاصي، والسابق: التقيُّ، والمقتصد: بينهما، وقال الحسن البصري: السابقُ من رجحت حسناته على سيئاته، والظالم لنفسه من رجحت سيئاته، والمقتصد من استوت حسناته وسيئاته، وجميعهم يدخلون الجنة {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ} أي ذلك الإِرث والاصطفاء لأمة محمد عليه السلام لحمل أشرف الرسالات والكتب السماوية هو الفضل العظيم الذي لا يدانيه فضل ولا شرف، فقد تفضل الله عليهم بهذا القرآن المجيد، الباقي مدى الدهر، وأنعم به من فضل! ثم أخبر تعالى عما أعده للمؤمنين في جنات النعيم فقال {جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا} أي جنات إِقامة ينعَّمون فيها بأنواع النعيم، وهي مراتب ودرجات متفاوتة حسب تفاوت الأعمال، وإِنما جمع {جنات} لأنها جنات كثيرة وليست جنة واحدة، فهناك جنة الفردوس، وجنة عدن، وجنة النعيم، وجنة المأوى، وجنة الخلد، وجنة السلام، وجنة عليين، وفي كل جنة مراتبُ ونُزلُ بحسب مراتب العاملين {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا} أي يزينون في الجنة بأساور من ذهب مرصَّعة باللؤلؤ {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي وجميع ما يلبسونه في الجنة من الحرير، بل فرشهم وستورهم كذلك، قال القرطبي: لما كانت الملوك تلبس في الدنيا الأساور والتيجان، جعل الله ذلك لأهل الجنة، وليس أحد من أهل الجنة إلا في يده ثلاثة أسورة: سوارٌ من ذهب، وسوار من فضة، وسوار من لؤلؤ {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ} أي وقالوا عند دخولهم الجنة الحمدُ لله الذي أذهب عنا جميع الهموم والأكدار والأحزان، قال المفسرون: عبرَّ بالماضي {وَقَالُوا} لتحقق وقوعه، والحزن يعمُّ كل ما يكدِّر صفو الإِنسان من خوف المرض، والفقر، والموت، وأهوال القيامة، وعذاب النار وغير ذلك {إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ} أي واسع المغفرة للمذنبين، شكور لطاعة المطيعين، وكلا اللفظتين للمبالغة أي واسع الغفران عظيم الشكر والإِحسان {الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامةِ مِنْ فَضْلِهِ} أي أنزلنا الجنة وأسكننا فيها، وجعلها مقراً لنا وسكناً، لا نتحول عنها أبداً، وكل ذلك من إِنعامه وتفضله علينا {لا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ} أي لا يصيبنا فيها تعب ولا مشقة {وَلا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ} أي ولا يصيبنا فيها إِعياءٌ ولا فتور، قال ابن جزي:وإِنما سميت الجنة {دَارَ الْمُقَامَةِ} لأنهم يقومون فيها ويمكثون ولا يُخرجون منها، والنَّصبُ تعبُ البدن، واللغوبُ تعب النفس الناشئ عن تعب البدن.

    جزاء الكافرين وأحوالهم في النار

    {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ(36)وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ(37)إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(38)هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا(39)}

    ولما ذكر تعالى حال السعداء الأبرار، ذكر حال الأشقياء الفجار فقال {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ} أي والذين جحدوا بآيات الله وكذبوا رسله فإِنَّ لهم نار جهنم المستعرة جزاءً وفاقاً على كفرهم {لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} أي لا يحكم عليهم بالموت فيها حتى يستريحوا من عذاب النار {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا} أي ولا يخفف عنهم شيء من العذاب، بل هم في عذاب دائم مستمر لا ينقطع كقوله {كلما خبتْ زدناهم سعيراً} {كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ} أي مثل ذلك العذاب الشديد الفظيع، نجازي ونعاقب كل مبالغ في الكفر والعصيان {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا} أي وهم يتصارخون في جهنم ويستغيثون برفع أصواتهم قائلين: ربنا أخرجنا من النار وردنا إلى الدنيا لنعمل عملاً صالحاً يقربنا منك، غير الذي كنا نعمله، قال القرطبي: أي نؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية، ونمتثل أمر الرسل .. وفي قولهم {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} اعترافٌ بسوء عملهم، وتندُّمٌ عليه وتحسر، قال تعالى رداً عليهم وموبخاً لهم {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} أي أولم نترككم ونمهلكم في الدنيا عمراً مديداً يكفي لأن يتذكر فيه من يريد التذكر والتفكر؟ فماذا صنعتم في هذه المدة التي عشتموها؟ وما لكم تطلبون عُمراً آخر؟ وفي الحديث "أعذر الله إلى امرئٍ أخَّر أجله حتى بلغ ستين سنة" ومعنى "أعذر" أي بلغ به أقصى العذر {وَجَاءَكُمْ النَّذِيرُ} أي وجاءكم الرسول المنذر وهو محمد عليه السلام الذي بعث بين يدي الساعة، وقيل: {النَّذِيرُ} هو الشيبُ، والأول أظهر {فذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} أي فذوقوا العذاب يا معشر الكافرين، فليس لكم اليوم ناصر ولا معين يدفع عنكم عذاب الله، قال الإِمام الفخر: والأمرُ أمرُ إِهانة {فَذُوقُوا} وفيه إشارة إلى الدوام، وإِنما وضعَ الظاهر {لِلظَّالِمِين} موضع الضمير "لكم" لتسجيل الظلم عليهم، وأنهم بكفرهم وظلمهم ليس لهم نصيرٌ أصلاً لا من الله ولا من العباد، ثم قال تعالى {إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو تعالى العالم الذي أحاط علمه بكل ما خفي في الكون من غيب السماوات والأرض، لا يخفى عليه شأن من شئونهما {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي يعلم جلَّ وعلا مضمرات الصدور، وما تخفيه من الهواجس والوساوس، فكيف لا يعلم أعمالهم الظاهرة؟ قال المفسرون: والجملة لتأكيد ما سبق من دوام عذاب الكفار في النار، لأن الله تعالى يعلم من الكافر أنه تمكَّن الكفر في قلبه بحيث لو دام في الدنيا إلى الأبد ما ءامن بالله ولا عبَده، فالعذابُ الأبديُّ مساوٍ لكفرهم الأبدي، فلا ظلم ولا زيادة {ولا يظلم ربك أحداً} قال القرطبي: والمعنى في الآية علم أنه لو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحاً كما قال تعالى {ولو ردُّوا لعادوا لما نهُوا عنه} {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الأَرْضِ} أي هو تعالى جعلكم أيها الناس خلائف في الأرض، بعد عاد وثمود ومن مضى قبلكم من الأمم، تخلفونهم في مساكنهم جيلاً بعد جيل، وقرناً بعد قرن {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي فمن كفر بالله فعليه وبال كفره، لا يضر بذلك إلا نفسه {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلا مَقْتًا} أي ولا يزيدهم كفرهم إلا طرداً من رحمة الله وبعداً وبغضاً شديداً من الله {وَلا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلا خَسَارًا} أي ولا يزيدهم كفرهم إلا هلاكاً وضلالاً وخسران العمر الذي ما بعده شر وخسار!! قال أبو حيان: وفي الآية تنبيه على أنه تعالى استخلفهم بدل من كان قبلهم، فلم يتعظوا بحال من تقدمهم من المكذبين للرسل وما حلَّ بهم من الهلاك، ولا اعتبروا بمن كفر، ولا اتعظوا بمن تقدم، والمقتُ أشد الاحتقار والبغض، والخسارُ خسارُ العمر، كأنَّ العمر رأس مال الإِنسان فإِذا انقضى في غير طاعة الله فقد خسره، واستعاض به بدل الربح سخط الله وغضبه، بحيث صار إلى النار المؤبدة.

    توبيخ المشركين على عبادتهم الأوثان

    {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا(40)إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا(41)}

    ثم وبَّخ تعالى المشركين في عبادتهم ما لا يسمع ولا ينفع فقال {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمْ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}؟ قال الزمخشري: {أَرَأَيْتُمْ} معناها أخبروني كأنه قال: أخبروني عن هؤلاء الشركاء وعما استحقوا به الإِلهية والشركة، ومعنى الآية: قل يا محمد تبكيتاً لهؤلاء المشركين: أخبروني عن شأن آلهتكم - الأوثان والأصنام - الذين عبدتموهم من دون الله، وأشركتموهم معه في العبادة، بأي شيء استحقوا هذه العبادة؟ {أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ} أي أروني أيَّ شيء خلقوه في هذه الدنيا من المخلوقات حتى عبدتموهم من دون الله؟ {أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} أي أم شاركوا اللهَ في خلق السموات فاستحقوا بذلك الشركة معه في الألوهية؟ {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ} أي أم أنزلنا عليهم كتاباً ينطق بأنهم شركاء الله فهم على بصيرة وحجة وبرهان في عبادة الأوثان {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلا غُرُورًا} إضرابٌ عن السابق وبيانٌ للسبب الحقيقي أي إِنما اتخذوهم آلهة بتضليل الرؤساء للأتباع بقولهم: الأصنام تشفع لهم، وهو غرور باطل وزور، قال أبو السعود: لما نفى أنواع الحجج أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه، وهو تغرير الأسلاف للأخلاف، وإِضلال الرؤساء للأتباع بأنهم يشفعون لهم عند الله .. ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا} أي هو جل وعلا بقدرته وبديع حكمته، يمنع السماوات والأرض من الزوال، والسقوط، والوقوع قال القرطبي: لما بيَّن أن آلهتم لا تقدر على خلق شيء من السماوات والأرض، بيَّن أن خالقهما وممسكهما هو الله، فلا يوجد حادث إلا بإِيجاده، ولا يبقى إِلا ببقائه {وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} أي ولئن زالتا عن أماكنهما - فرضاً - ما أمسكهما أحدٌ بعد الله، بمعنى أنه لا يستطيع أحدٌ على إِمساكهما، إِنما هما قائمتان بقدرة الواحد القهار {إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} أي إِنه تعالى حليم لا يعاجل العقوبة للكفار مع استحقاقهم لها، واسع المغفرة والرحمة لمن تاب منهم وأناب.

    إنكار المشركين الرسالة النبوية وتهديدهم بالإهلاك

    {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا(42)اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً(43)أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا(44)وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا(45)}

    سبب النزول:

    نزول الآية (42):

    {وأقسموا بالله}: أخرج ابن أبي حاتم عن أبن أبي هلال أنه بلغه: أن قريشاً كانت تقول: لو أن الله بعث منا نبياً، ما كانت أمة من الأمم أطوع لخالقها، ولا أسمع لنبيها، ولا أشد تمسكاً بكتابها منا، فأنزل الله: {وإن كانوا ليقولون: لو أن عندنا ذِكْراً من الأولين} [الصافات: 168] {ولو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم} [الأنعام: 157] {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءهم نذير ليكونن أهدى من إحدى الأمم} وكانت اليهود تستفتح عل النصارى به، فيقولون: إنا نجد نبياً يخرج.

    {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ} أي حلف المشركون بالله أشدَّ الأيمان وأبلغها، قال الصاوي: كانوا يحلفون بآبائهم وأصنامهم فإِذا أرادوا التأكيد والتشديد حلفوا بالله {لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ} أي لئن جاءهم رسول منذر {لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الأُمَمِ} أي ليكونُنَّ أهدى من جميع الأمم الذين أرسل الله إليهم الرسل من أهل الكتاب، قال أبو السعود: بلغ قريشاً قبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ أهل الكتاب كذبوا رسلهم فقالوا: لعن اللهُ اليهودَ والنصارى، أتتهم الرسلُ فكذبوهم، فواللهِ لئن أتانا رسول لنكوننَّ أهدى من اليهود والنصارى وغيرهم { فَلَمَّا جَاءهُمْ نَذِيرٌ} أي فلما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم أشرف المرسلين {مَا زَادَهُمْ إِلا نُفُورًا} أي ما زادهم مجيئه إلا تباعداً عن الهدى والحق وهرباً منه {اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ} أي نفروا منه بسبب استكبارهم عن اتباع الحق، وعتوهم وطغيانهم في الأرض، ومن أجل المكر السيء بالرسول وبالمؤمنين، ليفتنوا ضعفاء الإِيمان عن دين الله، قال أبو حيان: أي سبب النفور هو الاستكبار والمكر السيء يعني أن الحامل لهم على الابتعاد من الحق هو الاستكبار، والمكرُ السيءُ وهو الخداع الذي يرومونه برسول الله صلى الله عليه وسلموالكيد له، قال تعالى رداً عليهم {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلا بِأَهْلِهِ} أي ولا يحيط وبال المكر السيء إلا من مكره ودبَّره كقولهم "من حفر حفرة لأخيه وقع فيها" {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلا سُنَّتَ الأَوَّلِينَ} أي فهل ينتظر هؤلاء المشركون إلا عادة الله وسنته في الأمم المتقدمة، من تعذيبهم وإِهلاكهم بتكذيبهم للرسل؟ {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً} أي لن تتغير ولن تتبدل سنته تعالى في خلقه {وَلَنْ تَجِدَ لِسُنّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً} أي ولا يستطيع أحد أن يحوّل العذاب عنهم إلى غيرهم، قال القرطبي: أجرى الله العذاب على الكفار، فلا يقدر أحد أن يُبدّل ذلك، ولا أن يُحوّل العذاب عن نفسه إلى غيره، والسُّنة هي الطريقة .. ثم حثهم تعالى على مشاهدة آثار من قبلهم من المكذبين ليعتبروا فقال {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ}؟ أولم يسافروا ويمروا على القرى المهلكة فيروا آثار دمار الأمم الماضية حين كذبوا رسلهم ماذا صنع الله بهم؟ {وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً} أي وكانوا أقوى من أهل مكة أجساداً، وأكثر منهم أموالاً وأولاداً {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ} أي أنه سبحانه لا يفوته شيء، ولا يصعب عليه أمر في هذا الكون {إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} أي بالغ العلم والقدرة، عالم بشئون الخلق، قادر على الانتقام ممن عصاه {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ} بيانٌ لحلم الله ورحمته بعباده أ ي لو آخذهم بجميع ذنوبهم ما ترك على ظهر الأرض أحداً يدب عليها من إنسان أو حيوان، قال ابن مسعود: يريد جميع الحيوان مما دبَّ ودرج {وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي ولكنه تعالى من رحمته بعباده، ولطفه بهم، يمهلهم إلى زمن معلوم وهو يوم القيامة فلا يعجل لهم العذاب {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا} أي فإِذا جاء ذلك الوقت جازاهم بأعمالهم، إن خيراً فخير، وإِن شراً فشر، لأنه تعالى العالم بشئونهم المطلع على أحوالهم، قال ابن جرير: بصيراً بمن يستحق العقوبة، وبمن يستوجب الكرامة، وفي الآية وعيدٌ للمجرمين ووعد للمتقين.

     
  5. #75
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    51
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4387

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة يس



    القَسَم بالقرآن، وحال الرسول مع قومه

    قصة أصحاب قرية أنطاكية

    بعض ءايات من قدرة الله عز وجل

    تعامي الكفار عن الحق وإعراضهم عن الهدى

    إنكار المشركين البعث واستبعادهم قيام الساعة

    جزاء الأبرار المتقين

    جزاء المجرمين الأشقياء

    إثبات وجود الله ووحدانيته

    إقامة الدليل القاطع على قيام البعث والنشور

    بَين يَدَي السُّورَة

    * سورة يس مكية وقد تناولت مواضيع أساسية ثلاثة وهي: "الإِيمان بالبعث والنشور، وقصة أهل القرية، والأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين".

    * ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالقرآن العظيم على صحة الوحي، وصدق رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ثم تحدثت عن كفار قريش، الذين تمادوا في الغي والضلال، وكذبوا سيد الرسل محمد بن عبد الله، فحقَّ عليهم عذاب الله وانتقامه.

    * ثم ساقت قصة أهل القرية "أنطاكية" الذين كذبوا الرسل، لتحذر من عاقبة التكذيب بالوحي والرسالة، على طريقة القرآن في استخدام القصص للعظة والاعتبار.

    * وذكرت موقف الداعية المؤمن "حبيب النَّجار" الذي نصح قومه فقتلوه فأدخله الله الجنة، ولم يمهل المجرمين بل أخذهم بصيحة الهلاك والدمار.

    * وتحدثت السورة عن دلائل القدرة والواحدانية، في هذا الكون العجيب، بدءاً من مشهد الأرض الجرداء تدب فيها الحياة، ثم مشهد الليل ينسلخ عنه النهار، فإِذا هو ظلامٌ دامسٌ، ثم مشهد الشمس الساطعة تدور بقدرة الله في فلكٍ لا تتخطاه، ثم مشهد القمر يتدرج في منازله، ثم مشهد الفلك المشحون يحمل ذرية البشر الأولين، وكلها دلائل باهرة على قدرة الله جل وعلا.

    * وتحدثت عن القيامة وأهوالها، وعن نفخة البعث والنشور، التي يقوم الناس فيها من القبور، وعن أهل الجنة وأهل النار، والتفريق بين المؤمنين والمجرمين في ذلك اليوم الرهيب، حتى يستقر السعداء في روضات النعيم، والأشقياء في دركات الجحيم.

    * وختمت السورة الكريمة بالحديث عن الموضوع الأساسي، وهو موضوع "البعث والجزاء"، وأقامت الأدلة والبراهين على حدوثه.

    التسميَة:

    سميت السورة "سورة يس" لأن الله تعالى افتتح السورة الكريمة بها، وفي الافتتاح بها إشارة إلى إعجاز القرآن الكريم.

    فضلهَا:

    قال صلى الله عليه وسلم: (إن لكل شيء قلباً وقلبُ القرآن يس، ووَدِدْتُ أنها في قلب كل إنسانٍ من أمتي).

    القَسَم بالقرآن، وحال الرسول مع قومه

    {يس(1)وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ(2)إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(3)عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(4)تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ(5)لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ ءاباؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ(6)لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(7)إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ(8)وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ(9)وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ(10)إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ(11)إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ(12)}

    سبب النزول:

    نزول الآية (1-7):

    {يس * والقرآن الحكيم}: أخرج أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في السجدة، فيجهر بالقراءة حتى يتأذى به ناس من قريش، حتى قاموا ليأخذوه، وإذا أيديهم مجموعة إلى أعناقهم، وإذا بهم عُمْي لا يبصرون، فجاؤوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا: ننشدك الله والرحم يا محمد، فدعا حتى ذهب ذلك عنهم. فنزلت: {يس والقرآن الحكيم} إلى قوله: {أم لم تنذرهم لا يؤمنون} فلم يؤمن من ذلك النفر أحد.

    نزول الآية (8):

    {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً}: أخرج ابن جرير الطبري عن عكرمة قال: قال أبو جهل: لئن رأيتُ محمداً لأفعلن، فأنزل الله: {إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً} إلى قوله: {لا يبصرون} فكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو، أين هو؟ لا يبصر.

    نزول الاية (12):

    {إنا نحن نحي الموتى}: أخرج الترمذي وحسنه، والحاكم وصححه عن أبي سعيد الخدري قال: كانت بنو سَلِمة في ناحية المدينة، فأرادوا النُّقْلَة إلى قرب المسجد، فنزلت هذه: {إنا نحن نحي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن آثاركم تُكْتبُ، فلا تنتقلوا". وأخرج الطبراني عن ابن عباس مثله.

    {يس} الحروف المقطعة في أوائل بعض السور الكريمة للتنبيه على إعجاز القرآن، وأنه مصوغ من جنس هذه الحروف الهجائية التي يعرفونها ويتكلمون بها، ولكنَّ نظمه البديع المعجز آيةٌ على كونه من عند الله، وقال ابن عباس: معنى "يس" يا إنسان في لغة طيء، وقيل: هو اسم من أسماء النبي صلى الله عليه وسلم بدليل قوله بعده {إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} وقيل معناه: يا سيد البشر قاله أبو بكر الوراق {وَالْقرْآنِ الْحَكِيمِ} قسم من الله تعالى بالقرآن، والحكيم معناه المحكم، الذي لا يلحقه تغيير ولا تبديل، ولا يعتريه تناقض أو بطلان، قال القرطبي: أُحكم في نظمه ومعانيه فلا يلحقه خلل، وقال أبو السعود: أي المتضمن للحكمة أو الناطق بالحكمة من حيث نظُمه المعجزُ، المنطوي على بدائع الحكم .. والخلاصة فقد أقسم تعالى بهذا الكتاب المحكم، المعجز في نظمه، وبديع معانيه، المتقن في تشريعه وأحكامه، الذي بلغ أعلى طبقات البلاغة، على أن محمداً رسوله، وفي هذا القسم من التعظيم والتفخيم لشأن الرسول ما فيه {إِنَّكَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} جواب القسم أي إنك يا محمد لمن المبعوثين من رب العالمين لهداية الخلق، قال ابن عباس: قالت كفار قريش: لست يا محمد مرسلاً، وما أرسلك الله إلينا، فأقسم الله بالقرآن العظيم المحكم أن محمداً صلى الله عليه وسلم من المرسلين {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي على طريق ونهج مستقيم، لا انحراف فيه ولا اعوجاج، هو الإِسلام دين الرسل قبلك، الذين جاءوا بالإِيمان والتوحيد، قال الطبري: أي على طريق لا اعوجاج فيه من الهدى وهو الإِسلام كما قال قتادة، والتنكير للتفخيم والتعظيم {تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} أي هذا القرآن الهادي المنير، تنزيلٌ من ربّ العزة جل وعلا، العزيز في ملكه، الرحيم بخلقه {لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أُنذِرَ ءاباؤُهُمْ} أي لتُحَذِّرَ يا محمد بهذا القرآن العرب، الذين ما جاءهم رسولٌ ولا كتاب، لتطاول زمن الفترة عليهم، والمراد بالإِنذار تخويفهم من عذاب الله {فَهُمْ غَافِلُونَ} أي فهم بسبب ذلك غافلون عن الهدى والإِيمان، يتخبطون في ظلمات الشرك وعبادة الأوثان .. ثم بيَّن تعالى استحقاقهم للعذاب بإِصرارهم على الكفر والتكذيب فقال {لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} اللام موطئة للقسم أي والله لقد وجب عذاب النار على أكثر هؤلاء المشركين، بسبب إصرارهم على الكفر والإِنكار، وعدم تأثرهم بالتذكير والإِنذار، فهم لذلك لا يؤمنون بما جئتهم به يا محمد .. ثم بيَّن تعالى سبب تركهم الإِيمان فقال {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُون} تمثيلٌ وتصوير لحال المشركين في ضلالهم بحال الذي جعل في يده غلٌّ وجمعت يده إلى عنقه، فبقي رافعاً رأسه لا يخفضه، قال في الجلالين: وهذا تمثيل والمراد أنهم لا يُذعنون للإِيمان، ولا يخفضون رؤوسهم له، قال ابن كثير: ومعنى الآية: إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء، كمن جُعل في عُنقه غلٌّ، وجمعت يداه مع عنقه تحت ذقنه، فارتفع رأسه فصار مُقمحاً، والمُقمح هو الرافع رأسه، واكتفى بذكر الغُلِّ في العنق عن ذكر اليدين، لأن الغُلَّ إِنما يُعرف فيما جمع اليدين مع العنق، وقال أبو السعود: مثَّل حالهم بحال الذين غُلَّت أعناقهم {فَهِيَ إِلَى الأذْقَانِ} أي فالأغلال منتهيةٌ إلى أذقانهم، فلا تدعهم يلتفتون إلى الحق، ولا يعطفون أعناقهم نحوه، ولا يُطأطئون رؤوسهم، غاضون أبصارهم، بحيث لا يكادون يرون الحقَّ، أو ينظرون إلى جهته {وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا} قال أبو السعود: وهذا تتمةٌ للتمثيل وتكميلٌ له أي وجعلنا من أمامهم سداً عظيماً، ومن ورائهم سداً كذلك {فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ} أي فغطينا بهما أبصارهم فهم بسبب ذلك لا يبصرون شيئاً أصلاً، لأنهم أصبحوا محصورين بين سدين هائلين، وهذا بيان لكمال فظاعة حالهم وكونهم محبوسين في مطمورة الغيِّ والجهالات، محرومين عن النظر في الأدلة والآيات، قال المفسرون: وهذا كله تمثيل لسدِّ طرق الإِيمان عليهم، بمن سُدَّت عليه الطرق فهو لا يهتدي لمقصوده {وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ} أي يستوي عندهم إنذارك يا محمد وتخويفك لهم وعدمه، لأن من خيَّم على عقله ظلام الضلال، وعشعشت في قلبه شهوات الطغيان، لا تنفعه القوارع والزواجر {لا يُؤْمِنُونَ} أي فهم بسبب ذلك لا يؤمنون، لأنَّ الإِنذار لا يخلق القلوب الميتة، إِنما يوقظ القلب الحيَّ المستعد لتلقي الإِيمان، وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم وكشف لحقيقة ما انطوت عليه قلوبهم من الطغيان {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ} أي إِنما ينفع إِنذارك يا محمد من آمن بالقرآن وعمل بما فيه {وَخَشِيَ الرَّحْمَانَ بِالْغَيْبِ} أي وخاف الله دون أن يراه، قال أبو حيان: {وَخَشِيَ الرَّحْمَانَ} أي المتصف بالرحمة، والرحمةُ تدعو إلى الرجاء، لكنه مع علمه برحمته يخشاه جل وعلا، خوفاً من أن يسلبه ما أنعم به عليه ومعنى "بالغيب" أي بالخلوة عند مغيب الإِنسان عن عيون البشر {فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ} لما انتفع بالإِنذار كان جديراً بالبشارة أي فبشره يا محمد بمغفرةٍ عظيمة من الله لذنوبه، وأجر كريمٍ في الآخرة في جنات النعيم، قال ابن كثير: الأجر الكريم هو الكثير الواسع، الحسن الجميل وذلك إِنما يكون في الجنة .. ولما ذكر تعالى أمر الرسالة ذكر بعدها أمر البعث والنشور فقال {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى} أي نبعثهم من قبورهم بعد موتهم للحساب والجزاء {وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا} قال الطبري: أي ونكتب ما قدَّموا في الدنيا من خير وشر، ومن صالح الأعمال وسيئها {وَآثَارَهُمْ} أي وآثار خطاهم بأرجلهم إلى المساجد، وفي الحديث عن جابر قال "أراد بنو سَلمة أن يتحولوا إلى قرب المسجد -والبقاع خالية- فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "يا بني سلمة دياركم تُكتب آثارُكم، دياركم تُكتب آثاركم" فقالوا: ما كان يسرنا أنا كنا تحولنا" {وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} أي وكل شيء من الأشياء أو أمرٍ من الأمور جمعناه وضبطناه في كتاب مسطور هو صحائف الأعمال كقوله تعالى {يوم ندعو كل أناسٍ بإِمامهم} أي بكتاب أعمالهم، الشاهد عليهم بما عملوه من خيرٍ أو شر، وقال مجاهد وقتادة: هو اللوح المحفوظ، وقال أبو حيان: "ونكتب ما قدَّموا" أي ونحصي، فعبَّر عن إحاطة علمه جل وعلا بأعمالهم بالكتابة التي تُضبط بها الأشياء.

    قصة أصحاب قرية أنطاكية

    {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ(13)إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ(14)قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَانُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ(15)قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ(16)وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(17)قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ(18)قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ(19)وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ(20)اتَّبِع ُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ(21)وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(22)ءأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلا يُنقِذُونِ(23)إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ(24)إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ(25)قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ(26)بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ(27)وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ(28)إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ(29)يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزءُون(30)أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ(31)وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ(32)}

    ثم ذكر تعالى للمشركين قصة أهل القرية الذين كذبوا الرسل فأهلكهم الله بصيحةٍ من السماء فقال {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ} أي واذكر يا محمد لقومك الذين كذبوك قصة أصحاب القرية "إنطاكية" التي هي في الغرابة كالمثل السائر والقول العجيب {إِذْ جَاءهَا الْمُرْسَلُونَ} أي حين جاءهم رسلنا الذين أرسلناهم لهدايتهم، قال القرطبي: وهذه القرية هي "إنطاكية" في قول جميع المفسرين أرسل الله إليهم ثلاثة رسل وهم "صادق" و "مصدوق" و "شمعون" أُمر صلى الله عليه وسلم بإِنذار هؤلاء المشركين أن يحل بهم ما حلَّ بكفار أهل القرية المبعوث إليهم ثلاثة رسل من الله، وقيل: هم رسل عيسى {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا} أي حين بعثنا إليهم رسولين فبادروهما بالتكذيب {فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} أي قوَّيناهما وشددنا أزرهما برسولٍ ثالث {فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ} أي نحن رسل الله مرسلون لهدايتكم {قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلا بَشَرٌ مِثْلُنَا} أي ليس لكم فضلٌ علينا وما أنتم إلا بشر مثلنا، فكيف أوحى الله إليكم دوننا؟ {وَمَا أَنزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ} أي لم ينزل الله شيئاً من الوحي والرسالة {إِنْ أَنْتُمْ إِلا تَكْذِبُونَ} أي ما أنتم إلا قوم تكذبون في دعوى الرسالة {قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ} أي أجابهم الرسل بقولهم الله يعلم أننا رسله إليكم، ولو كنا كذبة لانتقم منا أشدَّ الانتقام، قال ابن جزي: أكدوا الخبر هنا باللام {لَمُرْسَلُونَ} لأنه جواب المنكرين، بخلاف الموضع الأول فإِنه إخبارٌ مجرد {وَمَا عَلَيْنَا إِلا الْبَلاغُ الْمُبِينُ} أي وليس علينا إلا أن نبلغكم رسالة الله بلاغاً واضحاً جلياً لا غموض فيه، فإِن آمنتم فلكم السعادة، وإِن كذبتم فلكم الشقاوة، قال أبو حيان: وفي هذا وعيدٌ لهم، ووصف البلاغ بـ {الْمُبِينُ} لأنه الواضح بالآيات الشاهدة بصحة الإِرسال، كما روي في هذه القصة من المعجزات الدالة على صدق الرسل، من إبراء الأكمه والأبرص وإِحياء الميت {قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ} أي قال لهم أهل القرية: إنّا تشاءمنا بكم وبدعوتكم القبيحة لنا إلى الإِيمان، وترك عبادة الأوثان، قال المفسرون: ووجه تشاؤمهم بالرسل أنهم دعوهم إلى دينٍ غير ما يدينون به، فاستغربوه واستقبحوه ونفرت عنه طبيعتهم المعوجة، فتشاءموا بمن دعا إليه كأنهم قالوا: أعاذنا الله مما تدعوننا إليه، ثم توعَّدُوا الرسل بقولهم {لَئِنْ لَمْ تَنتَهُوا} أي والله لئن لم تمتنعوا عن قولكم، ودعوتكم لنا إلى التوحيد، ورفض ديننا {لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لنرجمنَّكم بالحجارة حتى تموتوا، ولنقتلنَّكم شرَّ قِتلة {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أي قالت الرسل لهم: ليس شؤمكم بسببنا، وإِنما شؤمكم بسببكم، وبكفركم، وعصيانكم، وسوء أعمالكم {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ}؟ شرطٌ جوابه محذوف لدلالة السياق عليه أي لأئنا ذكرناكم ووعظناكم ودعوناكم إلى توحيد الله، تشاءمتم بنا وتوعدتمونا بالرجم والتعذيب؟ {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} أي ليس الأمر كما زعمتم بل أنتم قومٌ عادتكم الإِسرافُ في العصيان والإِجرام، وهو توبيخٌ لهم مع الزجر والتقريع {وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى} أي وجاء من أبعد أطراف المدينة رجل يعدو، يسرع في مشيه وهو "حبيب النجار"، قال ابن كثير: إن أهل القرية همُّوا بقتل رسلهم، فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى لينصرهم من قومه، وهو -حبيب النجار- كان يعمل الحرير وهو الحباك، وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه، وقال القرطبي: كان حبيب مجذوماً ومنزله عند أقصى أبواب المدينة، وكان يعكف على عبادة الأصنام سبعين سنة يدعوهم لعلهم يرحمونه ويكشفون ضُرَّه، فما استجابوا له، فلما أبصر الرسل ودعوه إلى الله قال: هل من آية؟ قالوا: نحن ندعو ربنا القادر فيفرج عنك ما بك! فقال إن هذا لعجيبٌ، إني أدعو هذه الآلهة سبعين سنة لتفرج عني فلم تستطع فكيف يفرجه ربكم في غداة واحدة؟ قالوا نعم ربنا على ما يشاء قدير، وهذه لا تنفع شيئاً ولا تضر، فآمن ودعوا ربهم فكشف الله ما به، فلمَّا همَّ قومه بقتل الرسل جاءهم مسرعاً وقال ما قصه القرآن {قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} أي اتبعوا الرسل الكرام الداعين إلى توحيد الله، وإِنما قال {يَا قَوْمِ} تأليفاً لقلوبهم واستمالة لها لقبول النصيحة، ثم كرر القول تأكيداً وبياناً للسبب فقال {اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ} أي اتبعوا هؤلاء الرسل الصادقين المخلصين، الذين لا يسألونكم أُجرة على الإِيمان، وهم على هدى وبصيرة فيما يدعونكم إليه من توحيد الله {وَمَا لِي لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} تلطفٌ في الإِرشاد لهم كأنه ينصح نفسه، ويختار لهم ما يختار لنفسه، وفيه نوع تقريع على ترك عبادة خالقهم، والمعنى أيُ شيء يمنعني من أن أعبد خالقي الذي أبدع خلقي؟ وإِليه مرجعكم بعد الموت فيجازي كلاً بعمله؟ {ءأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} إستفهام إنكاري أي كيف اتخذ من دون الله آلهة لا تسمع ولا تنفع ولا تغني عن عابدها شيئاً؟ {إِنْ يُرِدْنِي الرَّحْمَانُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا} أي هي في المهانة والحقارة بحيث لو أراد الله أن يُنزل بي شيئاً من الضر والأذى وشفعت لي لم تنفع شفاعتهم ولم يقدروا على إِنقاذي، فكيف وهي أحجار لا تسمع ولا تنفع ولا تشفع؟ {وَلا يُنقِذُونِ} أي ولا يقدرون على إنقاذي من عذاب الله {إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي إني إن عبدت غير الله واتخذت الأصنام آلهة لفي خسران ظاهر جلي .. وبعد النصح والتذكير أعلن إسلامه، وأشهر إيمانه، فقال {إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ} أي إني آمنت بربكم الذي خلقكم، فاسمعوا قولي واعملوا بنصيحتي، قال المفسرون: لما قال لهم ذلك ونصحهم وأعلن إيمانه، وثبوا عليه وثبة رجلٍ واحد فقتلوه، ولم يكن له أحد يمنع عنه أذاهم، قال الطبري: وثبوا عليه فوطئوه بأقدامهم حتى مات، وقيل: رموه بالحجارة حتى مات {قِيلَ ادْخُلْ الْجَنَّةَ} أي فلما مات قال الله له: ادخل الجنة مع الشهداء الأبرار، جزاءً على صدق إِيمانك وفوزك بالشهادة، قال ابن مسعود: إنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرجت أمعاؤه من دبره، وقال الله له {ادْخُلْ الْجَنَّةَ} فدخلها فهو يُرزق فيها، قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحُزنها ونَصبَها {قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} أي فلمادخل الجنة وعاين ماأكرمه الله بها لإِيمانه وصبره تمنى أن يعلم قومه بحاله، ليعلموا حسن مآله أي يا ليتهم يعلمون بالسبب الذي من أجله غفر لي ربي ذنوبي، وأكرمني بدخول جنات النعيم، قال ابن عباس: نصح قومه في حياته، ونصحهم بعد مماته، قال أبو السعود: وإِنما تمنَّى علم قومه بحاله ليحملهم ذلك على اكتساب الثواب والأجر، بالتوبة عن الكفر والدخول في الإِيمان، جرياً على سنن الأولياء في الترحم على الأعداء {وما أَنزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُندٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ} هذا تحقيرٌ لهم وتصغيرٌ لشأنهم {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} أي ما كانت عقوبتهم إلا صيحةً واحدة صاح بهم جبريل، فإِذا هم ميتون لا حراك بهم، قد أُخمدت أنفاسهم حتَّى صاروا كالنار الخامدة، قال المفسرون: وفي الآية استحقار لإِهلاكهم فإِنهم أذل وأهون على الله من أن يرسل الملائكة لإِهلاكهم، وقد روي أنه لما قتل "حبيب النجار" غضب الله تعالى له، فعجَّل لهم النقمة فأمر جبريل فصاح بهم صيحة واحدة، فماتوا عن آخرهم، فجعل طريق استئصالهم بالصيحة، ثم قال تعالى {يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون} أي يا أسفاً على هولاء المكذبين لرسل الله المنكرين لآياته ويا حسرةً عليهم، ما جاءهم رسولٌ إلا كذبوه واستهزءوا به، وهكذا عادة المجرمين في كل زمان ومكان، قال في حاشية البيضاوي: إنهم أحقاء بان يتحسروا على أنفسهم أو يُتحسر عليهم، فإن الأمر لفخامته وشدته، بلغ بهم مبلغاً عظيماً حيث إنّ كل من يتأتى منه التلهف إذا نظر إلى حال استهزائهم بالرسل تحسَّر عليهم، وقال: يا لها من حسرةٍ وخيبة على هؤلاء المحرومين، حيث بدَّلوا الإِيمان بالكفر، والسعادة بالشقاوة، وفي الآية تعريضٌ بكفار قريش حيث كذبوا سيد المرسلين. ولمّا مثل حال كفار مكة بحال أصحاب القرية وبَّخ المشركين على عدم اعتبارهم بمن سبقهم فقال {أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ} أي ألم يتعظ هؤلاء المشركون بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل، ويعلموا أن هؤلاء المهلكين لا عودة لهم إلى الدنيا بعد هلاكهم {وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي وأن جميع الأمم الماضية والآتية ستحضر للحساب والجزاء يوم القيامة بين يدي أحكم الحاكمين، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها؟ قال أبو حيان: وجاءت هذه الجملة بعد ذكر الإِهلاك تبييناً إلى أن الله تعالى لا يترك المهلكين بل بعد الهلاك جمعٌ وحساب، وثواب وعقاب.

    بعض ءايات من قدرة الله عز وجل

    {وَآيَةٌ لَهُمْ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ(33)وَجَعَلْنَ ا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ(34)لِيَأْكُلُو ا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ(35)سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ(36)وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ(37)وَالشَّمْس ُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(38)وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ(39)لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(40)وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(41)وَخَلَقْن َا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ(42)وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنقَذُونَ(43)إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ(44)}

    {وَآيَةٌ لَهُمْ الأرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا} أي ومن الآيات الباهرة، والعلامات الظاهرة الدالة على كمال قدرة الله ووحدانيته هذه الآية العظيمة، وهي الأرض اليابسة الهامدة التي لا نبات فيها ولا زرع، أحييناها بالمطر، قال المفسرون: موتُ الأرض جدبها، وإِحياؤها بالغيث، فإِذا أنزل الله عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوجٍ بهيج ولهذا قال تعالى بعده {وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} أي وأخرجنا بهذا الماء أنواع الحبوب ليتغذوا به ويعيشوا، قال القرطبي: نبَّههم تعالى بهذا على إحياء الموتى، وذكَّرهم على توحيده وكمال قدرته، بالأرض الميتة أحياها بالنبات، وإِخراج الحب منها، فمن الحبِّ يأكلون وبه يتغذون {وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ} أي وجعلنا في الأرض بساتين ناضرة فيها من أنواع النخيل والعنب {وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ} أي وجعلنا فيها ينابيع من الماء العذب، والأنهار السارحة في بلدان كثيرة {لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ} أي ليأكلوا من ثمرات ما ذُكر من الجنات والنخيل التي أنشأها لهم، ومما عملته أيديهم مما غرسوه وزرعوه بأنفسهم، قال ابن كثير: لما امتنَّ على خلقه بإِيجاد الزروع لهم، عطف بذكر الثمار وأنواعها وأصنافها، وما ذاك كله إلا من رحمة الله تعالى بهم، لا بسعيهم وكدِّهم، ولا بحولهم وقوتهم ولهذا قال {أَفَلا يَشْكُرُونَ}؟ أي أفلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم؟ واختار ابن جرير أنَّ "ما" بمعنى الذي أي ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم أي من الذي غرسوه ونصبوه {سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأزْوَاجَ كُلَّهَا} أي تنزّّه وتقدَّس الله العلي الجليل الذي خلق الأصناف كلها، المختلفة الألوان والطعوم والأشكال من جميع الأشياء {مِمَّا تُنْبِتُ الأرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ} أي ممَّا تُخرج الأرضُ من النخيل والأشجار، والزروع والثمار، ومن أنفسهم من الذكور والإِناث، ومما لا يعلمون من المخلوقات العجيبة والأشياء الغريبة كما قال تعالى {ومن كل شيءٍ خلقنا زوجين لعلكم تذكَّرون}. {وَآيَةٌ لَهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ} أي وعلامةٌ أخرى لهم على كمال قدرتنا الليلُ نزيل عنه الضوء ونفصله عن النهار فإِذا هم داخلون في الظلام، وفي الآية رمزٌ إلى أن الأصل في الكون هو الظلام والنور عارض وهذا ما أكّده العلم الحديث، فإِذا غربت الشمس ينسلخ النهار من الليل ويُكشف ويزول فيظهر الأصل وهو الظلمة {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} أي وآيةٌ أخرى لهم الشمس تسير بقدرة الله في فَلك لا تتجاوزه ولا تتخطَّاه لزمنٍ تستقر فيه، ولوقتٍ تنتهي إليه وهو يوم القيامة حيث ينقطع جريانها عند خراب العالم، قال ابن كثير: وفي قوله تعالى {لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا} قولان: أحدهما: أن المراد مستقرها المكاني وهو تحت العرش مما يلي الأرض لحديث البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذرٍ أتدري أين تغرب الشمس؟ قلت: اللهُ ورسوله أعلم، قال: فإِنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ..) الحديث. والثاني: أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها وهو يوم القيامة، حيث يبطل سيرها، وتسكن حركتها، وتُكور وينتهي هذا العالم إلى غايته، وقرئ {لا مُسْتَقَرَّ لَها} أي لا قرار لها ولا سكون، بل هي سائرة ليلاً ونهاراً، لا تفتر ولا تقف {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي ذلك الجري والدوران بانتظام وبحساب دقيق هو تقدير الإِله العزيز في ملكه، العليم بخلقه {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ} أي والقمرَ قدرنا مسيره في منازل يسير فيها لمعرفة الشهور، وهي ثمانية وعشرون منزلاً في ثمانية وعشرين ليلة، ينزل كل ليلةٍ في واحد منها لا يتخطاها ولا يتعداها، فإِذا كان في آخر منازله دقَّ واستقوس {حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ} أي حتى صار كغصن النخل اليابس، وهو عنقود التمر حين يجف ويصفر ويتقوس، قال ابن كثير: جعل الله القمر لمعرفة الشهور، كما جعل الشمس لمعرفة الليل والنهار، وفاوت بين سير الشمس وسير القمر، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره، وتنتقل في مطالعها ومغاربها صيفاً وشتاءً، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل، ثم يطول الليل ويقصر النهار، وهي كوكبٍ نهاري، وأما القمر فقدَّره منازل يطلع في أول ليلةٍ من الشهر ضئيلاً قليل النور، ثم يزداد نوراً في الليلة الثانية ويرتفع منزلة، ثم كلما ارتفع ازداد ضياؤه حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر حتى يصير كالعرجون القديم، قال مجاهد: أي العذق اليابس وهو عنقود الرطب إذا عتق ويبس وانحنى، ثم يبدأ جديداً في أول الشهر الآخر {لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ} أي لا يمكن للشمس ولا يصح لها أن تجتمع مع القمر بالليل فتمحو نوره، لأن ذلك يُخلُّ بتلوين النبات، ومصلحة العباد، قال الطبري: أي لا الشمس يصلح لها إِدراك القمر، فيُذهب ضوءها نوره فتكون الأوقات كلها نهاراً لا ليل فيها {وَلا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ} أي ولا الليل يسبق النهار حتى يدركه فيذهب بضيائه فتكون الأوقات كلها ليلاً {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي وكلٌ من الشمس والقمر والنجوم تدور في فلك السماء، قال الحسن: الشمس والقمر والنجوم في فَلك بين السماء والأرض، غير ملصقة بشيء ولو كانت ملصقة ما جرت والغرضُ من الآية: بيانُ قدرة الله في تسيير هذا الكون بنظام دقيق، فالشمس لها مدار، والقمر له مدار، وكل كوكب من الكواكب له مدار لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه، ولا يطغى أحدهما على الآخر -كما قال قتادة: "لكل حدٌ وعلمٌ لا يعدوه، ولا يقصر دونه"- حتى يأتي الأجل المعلوم بخراب العالم، فيجمع الله بين الشمس والقمر كما قال تعالى {وجُمع الشمس والقمر} فيختل نظام الكون، وتقوم القيامة، وتنتهي حياة البشرية عن سطح هذا الكوكب الأرضي {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي وعلامة أخرى واضحة للناس على كمال قدرتنا أننا حملنا ءاباءهم الأقدمين -وهم ذرية آدم- في سفينة نوح عليه السلام التي أمره الله أن يحمل فيها من كلٍ زوجين اثنين، قال في التسهيل: وإِنما خصَّ ذريتهم بالذكر، لأنه أبلغ في الامتنان عليهم، ولأن فيه إشارة إلى حمل أعقابهم إلى يوم القيامة {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} أي وخلقنا لهم من مثل سفينة نوح السفن العظيمة التي يركبونها ويبلغون عليها أقصى البلدان، وإِنما نسب الخلق إليه لأنها بتعليم الله جل وعلا للإِنسان، وقال ابن عباس: هي الإِبل وسائر المركوبات، فهي في البر مثل السفن في البحر {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ} ولو أردنا لأغرقناهم في البحر فلا مغيث لهم {وَلا هُمْ يُنقَذُونَ} أي ولا أحد يستطيع أن ينقذهم من الغرق {إِلا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ} أي لا ينقذهم أحد إلا نحن لأجل رحمتنا إياهم، وتمتيعنا لهم إلى انقضاء آجالهم .. بيَّن تعالى أن ركوبهم السفن في البحر من الآيات العظيمة، فإِن سير السفينة بما فيها من الرجال والأثقال فوق سطح الماء آية باهرة فقد حملتهم قدرة الله ونواميسه التي تحكم الكون وتصرفه بحكم خواص السفن، وخواص الماء، وخواص الريح، وكلُّها من أمر الله وخلقه وتقديره، والسفينة في البحر الخضم كالريشة في مهبِّ الهواء، وإِلاّ تدركها رحمة الله فهي هالكة في لحظة من ليل أو نهار، والذين ركبوا البحار، وشاهدوا الأخطار، يدركون هول البحر المخيف، ويحسون معنى رحمة الله وأنها وحدها هي المنجي لهم من بين العواصف والتيارات، في هذا الخضم الهائل الذي تمسكه يد الرحمة يعرفون معنى قوله تعالى {إِلا رَحْمَةً مِنَّا} فسبحان الله القدير الرحيم!!.

    تعامي الكفار عن الحق وإعراضهم عن الهدى

    {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ(45)وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ ءاياتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ(46)وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(47)}

    {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} لما ذكَّرهم تعالى بدلائل قدرته، وآثار رحمته، أخبر هنا عن تعاميهم عن الحق، وإِعراضهم عن الهدى والإِيمان، مع كثرة الآيات الواضحات، والشواهد الباهرات، والمعنى وإِذا قيل للمشركين احذروا سخط الله وغضبه، واعتبروا بما حلَّ بالأمم السابقين قبلكم من العذاب بسبب تكذيبهم الرسل، واحذروا ما وراءكم من عذاب الآخرة لكي تُرحموا، وجواب الشرط محذوف تقديره أعرضوا واستكبروا ودلّ عليه قوله تعالى {إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} قال القرطبي: والجواب محذوف والتقدير: إذا قيل لهم ذلك أعرضوا، ودليله الآية التي بعدها {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ ..} فاكتفى بهذا عن ذلك {وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ ءاياتِ رَبِّهِمْ إِلا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ} أي وما تأتي هؤلاء المشركين علامة من العلامات الواضحة الدالة على صدق الرسول -كالمعجزات الباهرة التي أيده الله بها- إلا أعرضوا عنها على وجه التكذيب والاستهزاء، قال أبو السعود: وإِضافة الآيات إلى اسم الرب جل وعلا لتفخيم شأنها، المستتبع لتهويل ما اجترءوا عليه في حقها، والمراد بالآيات إما الآيات التنزيلية التي من جملتها الآيات الناطقة ببدائع صنع الله وسوابغ آلائه، أو الآيات التكوينية الشاملة للمعجزات وغيرها من تعاجيب المصنوعات، التي من جملتها ما ذُكر من شئونه الشاهدة بوحدانيته تعالى، وتفرده بالألوهية {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمْ اللَّهُ} أي وإِذا قيل لهؤلاء الكفار بطريق النصيحة أنفقوا بعض ما أعطاكم الله من فضله على الفقراء والمساكين {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} أي قال الكفار للمؤمنين تهكماً بهم: أننفق أموالنا على هؤلاء المساكين الذين أفقرهم الله؟ {إِنْ أَنْتُمْ إِلا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي ما أنتم أيها المؤمنون إلا في ضلال ظاهر واضح حيث تأمروننا أن ننفق أموالنا على من أفقرهم الله، قال ابن عباس: كان بمكة زنادقة فإِذا أُمروا بالصدقة على المساكين قالوا: لا والله لا نفعل، أيفقره الله ونطعمه نحن؟ وغرضهم الرد على المؤمنين فكأنهم يقولون: لو كان الأمر كما تزعمون أن الله قادر، وأن الله رازق لأطعم هؤلاء الفقراء، فما بالكم تطلبون إطعامهم منا؟ وما علم هؤلاء السفهاء أن خزائن الأرزاق بيد الخلاق، وأنه تعالى أغنى بعض الخلق وأفقر بعض الخلق ابتلاءً، لينظر كيف عطف الغني، وكيف صبر الفقير، فقد منع الدنيا عن الفقير لا بخلاً، وأمر الغنيَّ بالإِنفاق عليه لا حاجة إلى ماله، ولكن للابتلاء والله يفعل ما يشاء، لا اعتراض لأحدٍ في مشيئته ولا في حكمه {لا يُسألُ عمَّا يفعلُ وهم يُسْألون}.

    إنكار المشركين البعث واستبعادهم قيام الساعة

    {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(48)مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ(49)فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ(50)وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ(51)قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ(52)إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ(53)فَالْيَوْم َ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(54)}

    ثم أخبر عن إنكار المشركين للآخرة، واستبعادهم لقيام الساعة، فقال {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي متى يوم القيامة الذي تتوعدوننا به؟ ومتى هذا العذاب الذي تخوفوننا به إن كنتم صادقين في دعواكم أن هناك بعثاً ونشوراً وحساباً وعذاباً ؟ قال تعالى ردّاً عليهم {مَا يَنظُرُونَ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ} أي ما ينتظرون إلا صيحةً واحدة تأخذهم مفاجأة من حيث لا يشعرون {وَهُمْ يَخِصِّمُونَ} أي وهم يتخاصمون في معاملاتهم وأسواقهم، فلا يشعرون إلا بالصيحة قد أخذتهم، فيموتون في أماكنهم، قال ابن كثير: وهذه -والله أعلم- نفخة الفزع، ينفخ إسرافيل في الصور والناسُ في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم، فبينما هم كذلك إذْ أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور نفخةً يطوّلها ويمدُّها، فلا يبقى أحدٌ على وجه الأرض إلا حنى عنقه يتسمع الصوت من قبل السماء فذلك قوله تعالى {فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} أي فلا يستطيع بعضهم أن يوصي بعضاً بأمر من الأمور، ولا يستطيعون أن يرجعوا إلى أهلهم ومنازلهم لأن الأمر أسرع منه ذلك، وفي الحديث: (لتقومنَّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوباً بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه، ولتقومنَّ الساعةُ وهو يُليط حوضه -أي يصلحه بالطين- فلا يسقي فيه، ولتقومنَّ الساعةُ وقد رفع أُكلته إلى فيه فلا يطعمها) ثم تكون هناك النفخة الثانية وهي "نفخة الصَّعق" التي يموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحيّ القيوم، ثم تكون النفخة الثالثة وهي "نفخة البعث والنشور" التي يخرج الناسُ بها من القبور، وهي التي أشارت إليها الآية الكريمة {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الأجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ} أي ونفخ في الصور فإِذا هؤلاء الأموات يخرجون من قبورهم يسرعون المشي، قال الطبري: {يَنسِلُونَ} يخرجون سراعاً، والنَّسلان: الإِسراع في المشي {قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا}؟ أي يقولون يا هلاكنا من الذي أخرجنا من قبورنا التي كنا فيها؟ قال ابن كثير: وهذا لا ينفي عذابهم في قبورهم، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد، فإِذا قالوا ذلك أجابتهم الملائكة أو المؤمنون {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَانُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ} أي هذا الذي وعدكم الله به من البعث بعد الموت والحساب والجزاء، وصدق رسله الكرام فيما أخبرونا به عن الله {إِنْ كَانَتْ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ} أي ما كان أمر بعثهم إلا صيحةً واحدة يصيح بهم فيها إسرافيل فإذا هم جميع عندنا حاضرون، قال الصَّاوي: وهذه الصيحة هي قول إسرافيل: أيتها العظام النخرة، والأوصال المتقطعة، والأجزاء المتفرقة، والشعور المتمزقة، إنَّ الله يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء ثم ينفخ في الصور فإِذا هم مجموعون في موقف الحساب {فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي ففي هذا اليوم -يوم القيامة- لا تُظلم نفس شيئاً، سواءً كانت هذه النفس برَّة أو فاجرة، ولا يُحَمَّل الإِنسان وزر غيره وإِنما يُجازى كلٌ بعمله، قال أبو السعود: وهذه حكاية لما سيقال لهم في الآخرة، حين يرون العذاب المُعدَّ لهم تحقيقاً للحق، وتقريعاً لهم.

    جزاء الأبرار المتقين

    {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ(55)هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ(56)لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ(57)سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ(58)}

    ولما أخبر عن مآل المجرمين أخبر عن حال الأبرار المتقين، فقال {إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ} أي إن أصحاب الجنة في ذلك اليوم -يوم الجزاء- مشغولون بما هم فيه من اللذات والنعيم عن التفكير بأهل النار، يتفكهون ويتلذذون بالحور العين، وبالأكل والشرب والسماع للأوتار، قال أبو حيان: والظاهر أن الشغل هو النعيم الذي قد شغلهمعن كل ما يخطر بالبال، وقال ابن عباس: شُغلوا بافتضاض الأبكار، وسماع الأوتار عن أهاليهممن أهل النار، لا يذكرونهم لئلا يتنغصوا {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الأرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} أي هم وزوجاتهم في ظلال الجنان الوارفة، حيث لا شمس فيها ولا زمهرير، متكئون على السرر المزيَّنة بالثياب والستور {لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ} أي لهم في الجنة فاكهة كثيرة من كل أنواع الفواكه {وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ} أي ولهم فيها ما يتمنون ويشتهون كقوله تعالى {وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين}{سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} أي لهم سلامٌ كريم من ربهم الرحيم، وفي الحديث (بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور، فرفعوا رؤوسهم فإِذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال: السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله تعالى {سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ} قال: فينظر إليهم وينظرون إليه، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم، ويبقى نوره وبركته عليهم في ديارهم).

    جزاء المجرمين الأشقياء

    {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ(59)أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(60)وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(61)وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ(62)هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(63)اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ(64)الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(65)وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ(66)وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ(67)وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ(68)}

    بعد أن بيَّن تعالى حال السعداء ذكر حال الأشقياء فقال {وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} أي تميزوا وانفصلوا يا معشر الكفرة المجرمين عن عبادي المؤمنين، انفردوا عنهم وكونوا جانباً، قال القرطبي: يقال لهم هذا عند الوقوف للسؤال، وحين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ} الاستفهام للتوبيخ والتقريع، وهو توبيخٌ للكفرة المجرمين أي ألم أوصكم وآمركم يا بني آدم على ألسنة رسلي {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} أي ألاّ تطيعوا الشيطان فيما دعاكم إليه من معصيتي؟ {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} تعليلٌ للنهي أي لأنه عدوٌ لكم ظاهر العداوة، فكيف يطيع الإِنسان عدوه؟ {وَأَنِ اعْبُدُونِي} أي وأمرتكم بأن تعبدوني وحدي، بتوحيدي وطاعتي وامتثال أمري {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي هذا هو الدين الصحيح، والطريق الحقُّ المستقيم {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاً كَثِيرًا} تأكيد للتعليل أي ولقد أضلَّ الشيطان خلقاً منكم كثيرين، وأغواهم عن سلوك طريق الحقِّ، قال الطبري: أي صدَّ الشيطان منكم خلقاً كثيراً عن طاعتي حتى عبدوه {أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ} أي أفما كان لكم عقل يردعكم عن طاعة الشيطان ومخالفة أمر ربكم؟ وهو توبيخ آخر للكفرة الفجار.. ثم بشرهم بما ينتظرهم من العذاب، فقال {هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي هذه نار جهنم التي أوعدكم بها الرسل وكذبتم بها، قال الصاوي: هذا خطاب لهم وهم على شفير جهنم، والمقصود منه زيادة التبكيت والتقريع {اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ} أي ذوقوا حرارتها وقاسوا أنواع عذابها اليوم بسبب كفركم في الدنيا، وهو أمر إهانةٍ وتحقير مثل قوله {ذقْ إنك أنت العزيز الكريم} ثم أخبر تعالى عن فضيحتهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد، فقال {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} أي في هذا اليوم -يوم القيامة- نختم على أفواه الكفار ختماً يمنعها عن الكلام {وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي تنطق عليهم جوارحهم أيديهم وأرجلهم بأعمالهم القبيحة، روى ابن جرير الطبري عن أبي موسى الأشعري أنه قال "يُدعى الكافر والمنافق يوم القيامة للحساب فيعرض عليه ربه عمله فيجحده، ويقول: أي ربِّ وعزتك لقد كتب عليَّ هذا الملك ما لم أعمل، فيقول الملك: أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا، فيقول: لا وعزتك أي رب ما عملته، فإِذا فعل ذلك خُتم على فيه وتكلمت أعضاؤه ثم تلا {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ} وفي الحديث (يقول العبد يا ربِّ ألم تجرني من الظلم؟ فيقول: بلى، فيقول العبد فإِني لا أجيز على نفسي إلا شاهداً مني، فيقول: كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً، وبالكرام الكاتبين شهوداً، ثم يختم على فيه ويقال لجوارحه انطقي، فتنطق بأعماله ثم يُخلى بينه وبين الكلام فيقول: بُعداً لكنَّ وسحقاً فعنكنَّ كنت أناضل) {وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} أي لو شئنا لأعميناهم فابتدروا طريقهم ذاهبين كعادتهم فكيف يبصرون حينئذٍ؟ قال ابن عباس: المعنى لو نشاء لأعميناهم عن الهدى فلا يهتدون أبداً إلى طريق الحقِّ، وهو تهديد لقريش {وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ} أي لو نشاء لمسخناهم مسخاً يقعدهم في مكانهم {فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} أي إذا مسخوا في مكانهم لم يقدروا أن يذهبوا ولا أن يرجعوا، وهو تهديد آخر للكفرة المجرمين، ثم ذكر تعالى دلائل قدرته على مسخ الكفار بتطاول الأعمار، فقال {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} أي ومن نُطِل عمره نقلبه في أطوار منتكساً في الخلق فيصير كالطفل لا يعلم شيئاً، قال قتادة: يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا، فطولُ العمر يصيِّر الشباب هَرَماً، والقوة ضعفاً، والزيادة نقصاً {أَفَلا يَعْقِلُونَ}؟ أي أفلا يعقلون أن من قدر على ذلك قادر على إِعمائهم أو مسخهم؟ قال ابن جزي: والقصدُ من ذلك الاستدلال على قدرته تعالى على مسخ الكفار، كما قدر على تنكيس الإِنسان إذا هرم.

    إثبات وجود الله ووحدانيته

    {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ(69)لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ(70)أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ(71)وَذَلَّلْنَ اهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ(72)وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلا يَشْكُرُونَ(73)وَاتَّخَذُ وا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ(74)لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ(75)فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ(76)}

    {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ} أي وما علمنا محمداً الشعر، ولا يصح ولا يليق به أن يكون شاعراً، قال القرطبي: هذا ردٌّ على الكفار في قولهم إِنه شاعر، وإِن ما أتى به من قبيل الشعر، فالرسول صلى الله عليه وسلم ليس بشاعر، والقرآن ليس بشعر، لأن الشعر كلام مزخرف موزون، مبني على خيالات وأوهام واهية، حتى قيل "أعذبه أكذبه" فأين ذلك من القرآن العزيز الذي تنزَّه عن مماثلة كلام البشر!! وقد أكثر الناسُ في ذم الشعر ومدحه، وإِنما الإِنصاف ما قاله الشافعي رحمه الله "الشعر كلامٌ، والكلام منه حسنٌ، ومنه قبيح" {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ} أي ما هذا الذي يتلوه محمد إلا عظة وتذكيرٌ من الله جل وعلا لعباده، وقرآن واضح ساطع لا يلتبس به الشعر بحالٍ من الأحوال {لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا} أي لينذر بهذا القرآن من كان حي القلب مستنير البصيرة، وهم المؤمنون لأنهم المنتفعون به {وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي وتجب كلمة العذاب على الكافرين لأنهم كالأموات لا يعقلون ما يخاطبون به، قال البيضاوي: وجعلهم في مقابلة من كان حياً إشعاراً بأنهم لكفرهم، وسقوط حجتهم، وعدم تأملهم، أمواتٌ في الحقيقة .. ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه، وأعاد ذكر دلائل القدرة والوحدانية ليستدلوا على وجوده جلَّ وعلا من آثاره، فقال {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} الهمزة للإِنكار والتعجيب أي أولم ينظروا نظر اعتبار، ويتفكروا فيما أبدعته أيدينا -من غير واسطة، وبلا شريك ولا معين- مما خلقناه لهم ولأجلهم من الأنعام وهي الإِبل والبقر والغنم، فيستدلوا بذلك على وحدانيتنا وكمال قدرتنا؟! {فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ} أي فهم متصرفون فيها كيف يشاءون تصرف المالك بماله {وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ} قال ابن كثير: المعنى جعلهم يقهرونها وهي ذليلةٌ لهم لا تمتنع منهم، بل لو جاء صغير إلى بعيرٍ لأناخه، ولو شاء لأقامه وساقه وهو ذليل منقاد معه، وكذا لو كان القطار مائة بعير لسار الجميع بسير الصغير، فسبحان من سخر هذا لعباده!! {فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} أي فمن هذه الأنعام ما يركبونه في الأسفار، ويحملون عليه الأثقال كالإِبل التي هي سفن البر، ومنها ما يأكلون لحمه كالبقر والغنم {وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ} أي ولهم فيها منافع عديدة -غير الأكل والركوب- كالجلود والأصواف والأوبار، ولهم فيها مشارب أيضاً يشربون من ألبانها {من بين فرثٍ ودمٍ لبناً خالصاً سائغاً للشاربين} {أَفَلا يَشْكُرُونَ} أي أفلا يشكرون ربهم على هذه النعم الجليلة؟ والغرضُ من الآيات تعديدُ النعم وإِقامةُ الحجة عليهم .. ثم وبخهم وعنفهم في عبادة ما لا يسمع ولا ينفع من الأوثان والأصنام، وذلك نهاية الغيّ والضلال فقال {وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ} أي وعبد المشركون آلهة من الأحجار رجاء أن يُنصروا بها وهي صماء بكماء، لا تسمع الدعاء ولا تستجيب للنداء {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ} أي لا تستطيع هذه الآلهة المزعومة نصرهم بحالٍ من الأحوال، لا بشفاعة ولا بنصرةٍ أو إعانة {وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُحْضَرُونَ} أي وهؤلاء المشركون كالجند والخدم لأصنامهم في التعصب لهم، والذبِّ عنهم، وفدائهم بالروح والمال، مع أنهم لا ينفعونهم أيَّ نفع، قال قتادة: المشركون يغضبون للآلهة في الدنيا، وهي لا تسوق إليهم خيراً ولا تدفع عنهم شراً، إِنما هي أصنام والمشركون كأنهم خدام، وقال القرطبي: المعنى إنهم قد رأوا هذه الآيات من قدرتنا، ثم اتخذوا من دوننا آلهة لا قدرة لها على فعل شيء أصلاً، والكفار يمنعون منهم ويدفعون عنهم، فهم لهم بمنزلة الجند، والأصنام لا تستطيع أن تنصرهم {فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ} أي لا تحزن يا محمد على تكذيبهم لك، واتهامهم بأنك شاعرٌ أو ساحر، وهذه تسليةٌ للنبي عليه السلام، وهنا تمَّ الكلام ثم قال تعالى {إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ} أي نحن أعلم بما يخفونه في صدورهم، وما يظهرونه من أقوالهم وأفعالهم، فنجازيهم عليه، وكفى بربك أنه على كل شيء شهيد.

    إقامة الدليل القاطع على قيام البعث والنشور

    {أَوَلَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ(77)وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ(78)قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ(79)الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ(80)أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ(81)إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(82)فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(83)}

    سبب النزول:

    أخرج الحاكم وصححه عن ابن عباس قال: جاء العاص بن وائل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعظم حائل، ففتّه، فقال: يا محمد: أيُبعث هذا بعدما أرَمَّ؟ قال: نعم، يبعث الله هذا، ثم يميتك، ثم يحييك، ثم يدخلك نار جهنم، فنزلت الآيات: {أولم ير الإنسان أنا خلقناه من نطفة} إلى آخر السورة.

    ثم أقام الدليل القاطع، والبرهان الساطع، على البعث والنشور، فقال {أَوَلَمْ يَرَ الإنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ} استفهامٌ إِنكاريٌ للتوبيخ والتقريع أي أولم ينظر هذا الإِنسان الكافر نظر اعتبار، ويتفكر في قدرة الله فيعلم أنّا خلقناه من شيءٍ مهينٍ حقيرٍ هو النطفة "المني" الخارج من مخرج النجاسة؟ {فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ} أي فإِذا هو شديد الخصومة والجدال بالباطل، يخاصم ربه وينكر قدرته، ويكذب بالبعث والنشور، أفليس الإِله الذي قدر على خلق الإِنسان من نطفة، قادر على أن يخلقه مرة أُخرى عند البعث؟ قال المفسرون: نزلت في "أُبي بن خلف" جاء بعظم رميم، وفتَّته في وجه النبي الكريم وقال ساخراً:أتزعم يا محمد أنَّ الله يُحيينا بعد أن نصبح رفاتاً مثل هذا؟ فقال صلى الله عليه وسلم له: نعم يبعثك ويدخلك النار {وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ} أي وضرب لنا هذا الكافر المثل بالعظم الرميم، مستبعداً على الله إعادة خلق الإِنسان بعد موته وفنائه، ونسي أنا أنشأناه من نطفةٍ ميتة وركبنا فيه الحياة، نسي خلقه العجيب وبدأه الغريب، وجوابه من نفسه حاضر {قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ} أي وقال هذا الكافر: من يحيي العظام وهي بالية أشدَّ البلى، متفتتةٌ متلاشية؟ قال الصاوي: أي أورد كلاماً عجيباً في الغرابة هو كالمثل، حيث قاسَ قدرتنا على قدرة الخلق {قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي قل يا محمد تخريساً وتبكيتاً لهذا الكافر وأمثاله: يخلقها ويحييها الذي أوجدها من العدم، وأبدع خلقها أول مرة من غير شيء، فالذي قدر على البداءة، قادر على الإِعادة {وَهُوَ بِكُلِّ خلْقٍ عَلِيمٌ} أي يعلم كيف يخلق ويُبدع، فلا يصعب عليه بعث الأجساد بعد الفناء {الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الأخْضَرِ نَارًا} أي الذي جعل لكم بقدرته من الشجر الأخضر ناراً تحرق الشجر، لا يمتنع عليه فعل ما أراد، ولا يعجزه إحياء العظام البالية وإعادتها خلقاً جديداً، وقال أبو حيان: ذكر تعالى لهم ما هو أغرب من خلق الإِنسان من النطفة، وهو إبراز الشيء من ضده، وذلك أبدع شيء وهو اقتداح النار من الشيء الأخضر، ألا ترى الماء يطفئ النار ومع ذلك خرجت مما هو مشتمل على الماء، والأعراب تُوري النار من المرخ والعُفار، وفي أمثالهم "في كل شيء نار، واستمجد المرخ والعُفار" ولقد أحسن القائل:

    جمعُ النقيضين من أسرار قدرته هذا السَّحابُ به ماءٌ به نارُ

    {فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ} أي فإِذا أنتم تقدحون النار من هذا الشجر الأخضر {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ}؟ أي أوَليس الذي خلق السماوات والأرض مع كبر جرمهما، وعظم شأنهما قادر على أن يخلق أجساد بني آدم بعد فنائها؟ {بَلَى وَهُوَ الْخَلاقُ الْعَلِيمُ} أي بلى هو القادر على ذلك، فهو الخلاَّق المبدع في الخلق والتكوين، العليم بكل شيء {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي لا يصعب عليه جل وعلا شيء لأن أمره بين الكاف والنون، فمتى أراد تعالى شيئاً أوجَدَه، بدون تعب ولا جهد، ولا كلفة ولا عناء {فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي تنزَّه وتمجد عن صفات النقص الإِلهُ العظيم الجليل، الذي بيده المُلك الواسع، والقدرة التامة على كل الأشياء {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي وإِليه وحده مرجع الخلائق للحساب والجزاء .. ختم تعالى السورة الكريمة بهذا الختم الرائع، الدال على كمال القدرة، وعظمةِ الملك والسلطان، الذي تفرد به خالق الأكوان.

     

 
+ الرد على الموضوع
صفحة 15 من 33 الأولىالأولى ... 5 7 8 9 10 11 12 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 25 ... الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك