بين الغفوه
والصحوه
كان صاحب أموال وفيرة يجِدُّ عليها لكسبها ليلاً
ونهاراً ، وكان صالحاً تقياً ، فطالما عمر بيوت الله صلاة وذكراً ،
تجارته لم تلهِهِ عن شيء من ذلك ، وكان لديه زوجة صالحة أيضاً ،
فهي توقظُهُ للصلاةِ في جوف الليل ، وكان يتحرى الحلال دوماً ،
فرُزِقَ بمولودٍ ذكرا ، مرت السنون ، وكبر هذا الولد ، وسُمّيَ "
بيوسف " .
توفي الرجل عن " يوسف " وكان عمرُهُ قد ناهز البلوغ ، فورث هذه
الأموال عن أبيه ، وتزوج فرُزِقَ بخمسة أبناء وخمس بنات ، كان أوسط
الأبناء يدعى " عيداً " ، و قد وُلِدَ وبه تشوهاً خَلقياً ، حيث
كان لا يستطيع أن يسير وحده أو يقف على قدميه ، لالتواءٍ في ساقيه
، وكان هذا الأمر مخفياً قبل أن يمشي .
ولما رأت جدته ما به ، ألحت على والده بأن يعالجه قبل أن يصعب
علاجه ، فكان لا يستجيب لها ، بل قد يسيء إليها أحياناً ، بالسب
والشتم ، واستمر هذا الأمر على حاله قرابة العامين ، وازداد الألم
والمشقة على " عيد " ، فعندها بادر الوالد بالرضوخ لطلبات أمه
وزوجته ، فأخذه إلى المشفى المتخصص في هذا الشأن .
قام الأطباء بعمل الفحوصات اللازمة وأخذ العينات لتشخيص المرض بدقة
، وظهر بعد ذلك أنه يستحيل معالجة هذا الولد بالعقاقير الطبية ،
فقرروا إجراء عملية جراحية وكسر عظام الساقين وإعادتها بصورة سوية
، حتى يستطيع الولد السير عليهما ، وجاء يوم العملية ، حيث حضر
الوالد والأم والجدة ، فأجريت العملية "لعيد" ، وكللت بالنجاح .
وعلى الفور ، قام الوالد بالإياب من المشفى لإخبار بقية الأخوة
والأخوات بما تم هذا اليوم ، وكان مسروراً فرِحاً ،وما لبث أن
اتصلت به إدارة المشفى لمرافقة ولده ، حيث أنه بحاجة ماسة إلى من
يقف بجواره على مدار الساعة ، ومكث هذا الولد في المشفى أسبوعين
كاملين ، وبعدها عاد إلى البيت ، وجلس فيه أسبوعاً آخر ، وأخذ ينهض
شيئاً فشيئاً ، حتى قوي على المشي ، وأصبح يمشي كأي إنسان آخر ،
مكث على هذا الحال قرابة شهرين تقريباً ، و في يوم من الأيام ، جاء
الأب إلى البيت ، وكان متأخراً ، فاستقبله " عيد " ، فسقط على
الأرض ، وأخذ يئن ويصرخ ، فخرجت الأم ، فإذا بابنها ملقى على الأرض
، إنه الألم في عظامه نتيجة لوجود القطع المعدنية بداخلها ، فأخذه
أبوه على الفور إلى المشفى ، وفي الطريق جاءت سيارة مسرعة ، فأصيب
الولد إصابات بالغة ، فارتطمت بسيارتهم ، وغشي على الوالد ، ونقل
إلى المشفى وقد فارق الحياة ، فلما أفاق الأب من غيبةبته ، ازداد
غماً وهماً ، ونُقل الخبر إلى البيت ، وخيم الصمت والوجوم على
العائلة كاملة .
أخذ الأب يعيد حساباته مع نفسه ، وينظر إلى أمه بعين الإشفاق
والندم على ما كان منه تجاهها ، من إساءة وشتم وغيره ، كانت الأم
تغضب عليه أحياناً ، وتتفوه بكلمات لا يعلمها إلا الله ، وربما
وافقت هذه الكلمات ساعة إجابة .
فهذا الوالد ورث الأموال بدون أدنى تعب ، وقد قضى على معظمها
علاجاً ونفقات على عياله حتى استوعبها ، بل أخذ يقترض من أصحابه
ومعارفه ، حتى وصل به المطاف إلى عرض بيته للبيع ، فلما نظرت إليه
الأم علمت أن ما جرى بولدها ، سببه دعوات الوالدة عليه ، إذ ندم
الولد ندماً شديداً ، وأخذ يستعطف أمه ، ويبكي بين يديها ، ولكن
لكل عمل جزاء ، والجزاء من جنس العمل ، فقد ذل بعد أن كان عزيزاً ،
وهان على نفسه وعلى أبنائِهِ حيث أصبح فقيراً ، وتراكمت عليه
الديون، ولا يدري ماذا يفعل .
حقاً إنه كان يعيش في غفلة وإعراض عن مولاه ، فضاقت عليه الأرض بما
رحبت ، وعلم أنه لم يحسن التصرف في مال والده ، بل أغراه هذا
الثراء حتى ابتلاه الله بما ابتلاه . فهل عرف الوارث حق الميراث
ورضى الوالدين ؟