ما حدث لإيمان وهي في سن الزهور أمر تقشعر له الأبدان ، هي ضحية المجتمع وضحية طغيان الأنانية وغريزة حب التملك لدى بعض الرجال الذين يعاملون المرأة على أنها شيئا من أشيائهم وجزءا من ممتلكاتهم ، لهم الحق في الإبقاء عليه أو التنازل عنه أو حتى إضرامه بالنار ، وهو ما حدث لها ، فقد أحرقها أحدهم بالنار وهي حية ، فقط لأنها رفضته ، تتساءلون هل ما زالت حية ؟ نعم . ولكن أية حياة . فمن من بين رجال هذا المجتمع يقبل بالزواج من امرأة مشوهة ؟ هكذا قالها السيد وكيل الجمهورية ممثل النيابة العامة خلال محاكمة الجاني بتاريخ 20 ديسمبر من العام 2006 . ما حدث لها أمر سيظل محفورا بذاكرتها لأخر لحظة من حياتها ، و مهما حاولت أن تنسى أو تتجاوز الذكريات الأليمة ، فيكفي أن تقف أمام المرآة لتتذكر لحظة تحول فيها وجهها لكتلة من النار ، فلم يبق منها اليوم سوى لحم منكمش وبشرة لا تغري باللمس .
** أحلام البنات البريئة
ولدت إيمان بقرية صغيرة هادئة يوم الثاني من ديسمبر من العام 1986، ومنذ أول يوم جاءت فيه لهذا العالم أنبأت ملامحها الطفولية عن فتاة جميلة في المستقبل ، لكن ما كان أحد من أفراد أسرتها الصغيرة أو أهلها يتصور أن هذا الجمال الملائكي سيحرق يوما بوحشية بالغة .كبرت في منطقة الكلمة الأولى والأخيرة فيها للرجل ، سواء في المنزل أو الشارع والمدرسة والعمل . كبرت وكبر معها الحياء والحشمة والخوف من العيب والعار .مرت مراحل طفولتها من دون أي حدث يميزها . وهي مراهقة دخلت الثانوية ، وفي هذه المرحلة طرأت على حياتها متغيرات ، وبدأت علامات الأنوثة تظهر عليها ، أصبحت تهتم أكثر بشكلها وزادت ساعات وقوفها أمام المرآة ، تماما كأي بنت في سنها .
وكبرت وكبر معها حلم البنات ، فارس الأحلام الذي معه تبني أسرة سعيدة ، تنجب أطفالا تكرس حياتها لتربيتهم ، وتبذل مجهودها لتحول عشها الزوجية لجنة صغيرة ، تهنأ فيها رفقة أفراد عائلتها ، وبحبها وحنانها الكبير تغمرهم . وذات يوم تعرفت لشاب ظنته – ببراءة فكرها وسذاجة سنها – فارس الأحلام المنتظر ، حلما معا ببناء العش الزوجي ، وتوالت الأيام وما ظنت يوما أن هذا الذي يدعي حبها ويخاف عليها من نسمة الهواء سيضرم يوما النار في كل أحلامها ويحيلها رمادا ، ما تصورت للحظة أن هذا الذي أتاها حاملا ورود العاشق بيمناه ، هو نفسه الذي يحمل بيسراه قارورة البنزين وولاعة ليحرقها وهي حية .
** يضرم بوجهها النار فيحيل أحلامها إلى رماد
غادرت إيمان يوم 17 ديسمبر من العام 2005 بيتها قاصدة الثانوية التي تدرس بها والواقعة ببلدية الذرعان التابعة إداريا لولاية الطارف بناحية الشرق الجزائري ، وقبل أن تكمل الحصص المبرمجة لذلك اليوم ، استأذنت من الإدارة لتخرج لشراء دواء للصداع . وبمجرد أن وطأت قدمها عتبة الثانوية حتى لمحت محمد.س وهو يتقدم منها ، تبادلا التحية وغادرا بعد أن أخبرها أن المدعوة ليندة تريد لقاءها أمام الإكمالية . والتقيا بليندة ، التي خاطبها محمد وطلب منها أن تقول ما لديها ، وبدورها هي خاطبت إيمان : إن أهلك غير راضين بمحمد و يرفضونه زوجا لك ، وهناك شخص آخر إسمه محمد أيضا تقدم لطلب يدك وأهلك موافقون .
وهنا تدخل محمد محدثا إيمان : " قولي ما لديك ودافعي عن نفسك " . فردت عليه بأنها ليست في محكمة لتدافع عن نفسها . وهو الرد الذي لم يرق له فتشكر ليندة التي انزوت رفقة رفيقها خالد في مكان ليس ببعيد .
وفي المكان المسمى حي المحطة ، بدأ الحديث بينهما ، وتحدث هو عن الخطيب الجديد بالكثير من الغضب ، خاصة وأن المدعوة ليندة قد أججت غيرته وشكوكه التي بدأت تراوده منذ مدة ، فأقدم منذ حوالي أسبوع على صفعها وهددها بالحرف الواحد : سوف " أفسد لك وجههك " . ولم تظن أنه جاد في كلامه ، أو ربما كان جادا في غضبه لكن ليس في تهديداته .
طلب منها أن تسلمه هاتفها الجوال ففعلت ، ثم طلب منها أن تنتزع الخاتم والأقراط الذهبية ، فرفضت ، لكنه أصر ، فسألته عن السبب ،فقال أنه سيعلها بالسبب لكن بعد الاستجابة لطلبه ، وما إن سلمته مصوغاتها الذهبية حتى وضعها بجيبه وأخرج سيجارة من جيبه فسارعت وانتزعتها منه وكسرتها مع سجائر أخرى ، فهو لم يتعود التدخين من قبل ؟ ؟ ؟ .وتنبهت إيمان إلى وجود خنجر كان بجيبه ، فقامت بسحبه دون أن يحس ، وبعد هنيهة اكتشف اختفاءه فسألها عنه بلهجة عنيفة ، قبل أن يلطمها على الوجه ، غضبت بدورها مما فعل وهمت لتغادر ، لكنه شد يدها ومنعها من الانصراف وأخذ يسبها ،، ثم أخرج قارورة بنزين صغيرة خاصة بالمياه المعدنية ، وبدون سابق إنذار سكب محتواها على رأسها ففزعت الفتاة وقبل أن تتمكن من الهروب سارع هو بإشعال ولاعته ورميها في وجهها ، وفي لمح البصر تحول لشعلة من النار ..
فر الحبيب مخلفا وراءه ضحيته المشتعلة تصرخ وهي غير قادرة على استيعاب أو فهم ما يحدث لها ، أنفاسها تكاد تنقطع ، تتحرك بخطوات عشوائية لا تدري أين تقودها ، فعيناها لا تبصران ، وفي لحظة يرتطم رأسها بقضيب حديدي فتتعثر وتسقط أرضا ، ولو لا المدعو خالد الذي كان برفقة المدعوة ليندة على بعد أمتار لكانت اليوم إيمان في خبر كان . ورغم اضطرابه لهول ما يرى إلا أنه بسرعة انتزع قميصه وأخذ يطفئ ألسنة اللهب التي التهمت وجه إيمان ويديها وأتت على معطفها . واتصل بعدها بمصلحة الحماية المدنية / الإسعاف ، التي نقلت الضحية على جناح السرعة للمستشفى الأقرب وهي بين الحياة والموت ، لكن خطورة حالتها استدعت نقلها لمستشفى آخر .
بينما الجاني فر غير آبه بمصير فتاة يقول أنه يحبها وينوي أن تكون شريكة حياته ، بل إنه لم يحاول حتى السؤال عنها ليعرف إذا كانت قد ماتت أم أن الخالق قد لطف بها وأنقذها من موت مؤكد . وترقد إيمان بالمستشفى في حين يشرع عناصر الشرطة في التحقيق و التحري وسماع أقوال الجاني والشهود ، قبل أن يسمع أقوالهم مرة أخرى قاضي التحقيق . وينتهي التحقيق ويصبح كل شيئ جاهز للمحاكمة . وتقرر المحكمة أن يتم الفصل في المحاكمة بتاريخ 20 ديسمبر من العام 2006 .
** من المتهم ؟ الرجل أم المجتمع
غصت قاعة المحاكمة برجال الدرك الوطني والشرطة والمحامين وطلبة كلية الحقوق وحتى ببعض موظفي مجلس القضاء الذين أتى بهم الفضول لرؤية وجه الشاب الذي شوه فتاة يقول أنه أحبها . وفي المقاعد الأمامية جلس أهل المتهم والضحية ، الذين كان ليكونوا أهلي العريس والعروس ، لولا أن النار لم تضرم بوجه إيمان وبحبل كل علاقة نسب محتملة بين العائلتين . وحان الأوان ليتحدث المتهم عن اليوم المشهود .
تحدث محمد.س - البالغ من العمر 26 سنة - بهدوء ورصانة فقال من ضمن ما قال : لم أكن أنوي حرقها . والبنزين اقتنيته للدراجة النارية . وهنا يقاطعه القاضي بالقول : و لكن لدينا شهادات تفيد بأن هذه الدراجة النارية التي تتحدث عنها قد بعتها أشهرا قبل تاريخ الواقعة ، والذي إشتراها منك صرح وأكد ذلك ، وبالتالي فالبنزين الذي حصلت عليه لم يكن بغرض إستعماله للدراجة النارية . يتلعثم المتهم ويرد بكلام غير مقنع . .
ويواصل : يومها لم أكن أصلا أنوي أن ألتقي بها ، فهي التي اتصلت بي عبر هاتفي الجوال وطلبت لقائي .
وكنت حينها قد اشتريت البنزين من المحطة ، فغيرت وجهتي لأقصد الثانوية التي تدرس بها ، وبعد أن تعصبت ونحن نتحدث عن الشخص الذي سمعت أنها ستتزوج منه ويأخذها مني ، ضربتها بالقارورة التي لم تكن محكمة الغلق فتدفق منها البنزين ، وكان رد فعلها أن التحمت بي ولسوء حظها أن سيجارة مشتعلة كانت بيدي فشب الحريق بسترتها . يسأل القاضي : إذا لم تكن قد تعمدت حرقها ، فلماذا إذن هربت وخلفتها وراءك تحترق ؟ . يرد المتهم قائلا : لقد فزعت ، فأنا لأول مرة أمر بموقف مماثل ، لم يحصل لي من قبل أن رأيت هذا المشهد . بدا واضحا أن الإجابة لم تقنع هيئة المحكمة ، حيث علق القاضي على رد فعل المتهم بأن خالد هو الآخر فزع لأنه لأول مرة يرى شخصا يحترق لكنه تصرف بما يحكم به المنطق والعقل وأطفأ النار ولم يهرب .
كثيرة كانت تناقضات المتهم في الكلام ، بل إن أغلب تصريحاته لم تبدو منسجمة ولا مطابقة لتلك التي أدلى بها خلال المراحل السابقة من التحقيق ، فوثيقة كشف المكالمات مثلا الذي حصل عليها المحققون من إدارة مصالح الاتصالات تؤكد أن المتهم – وعلى خلاف ما يزعم – لم يتلق صبيحة الواقعة أي مكالمة هاتفية على جواله ، لا من الضحية ولا من غيرها .كما أن التحريات التي أجراها المحققون بمسرح الجريمة أفضت إلى عدم العثور على أي بقايا لسيجارة مستهلكة – يكون المتهم قد أشعلها ليدخنها - فقط تم العثور على سجائر لم يتم استعمالها بعد ، وهو ما يؤكد أن الحريق لم يندلع بسبب سيجارة مشتعلة كما يزعم المتهم .
وعندما حان دور الضحية لتدلي بما لديها من تصريحات ، إلتزم كل من بقاعة المحاكمة الصمت والهدوء التام ، تقدمت إيمان المحجبة وقد غطى الواقي الطبي وجهها كاملا فلم تظهر منه سوى عيناها من ثقبتين صغيرتين ، وشفاه برزت من ثقبة ثالثة صغيرة .وعلى خلاف المتوقع فقد أبدت تماسكا وهدوءا كبيرا . لم تغضب ولم تتوتر ولم تبكي كما توقع الجميع . بدأت تسرد ما حدث لها يوم 17 ديسمبر 2006 ، أي منذ حوالي سنة تقريبا من تاريخ هذه المحاكمة ، . أكدت إيمان أن المتهم سكب البنزين على رأسها متعمدا وقاصدا ذلك ، وأنه أشعل الولاعة قبل أن يرميها بوجهها ثم هرب .وفي سردها للوقائع لم تظهر المجني عليها أي تراجع عما قالته خلال مراحل التحقيق السابقة ،على عكس المتهم الذي تناقضت تصريحاته يقول محامي الضحية .
** محامي الضحية : لو أحبها حقا ما كان ليهرب
استهل الأستاذ عبد الكريم بومعزة محامي الضحية مرافعته بالتعجب من أحداث هذه القضية التي قال أنها تصلح قصة لفيلم سينمائي ، مشيرا إلى أن التناقض هو أكثر ما ميز تصريحات المتهم بينما ظلت تصريحات الضحية نفسها خلال كامل مراحل التحقيق . وتحدث المحامي بشئ من التذمر و التحسر والأسف عن فعلة الجاني ، فراح يطلب من هيئة المحكمة أن تتصور حال حيوان يسكب عليه البنزين ثم تشعل به النار ، إنه لأمر فضيع - يقول المحامي - فما بالكم إذا تعلق الأمر بالبشر .
وركز المتحدث على كل ما يثبت أن الجريمة أرتكبت عن تخطيط سابق فالمتهم طلب من الضحية التنقل معه لمكان منزوي عن الأنظار ، مشيرا لعادة التدخين الجديدة التي تظاهر بها المتهم ، وهو ما أثار استغراب صديقه خالد عندما يراه يهم بإخراج السجائر حيث سأله : مند متى وأنت تدخن يا محمد ؟ ويقول محامي الضحية : " أشكر رجال الشرطة الذين تحروا وحققوا جيدا ليعثروا على القارورة الصغيرة التي تنبعث منها رائحة البنزين ، بينما المتهم يصرح أنه أحضر البنزين في قارورة أكبر " . . . .
ويؤكد أن "الجريمة بشعة لأن المتهم فكر قبل حرق ضحيته بأن يسلبها حليها الذهبية أولا ، لذلك لا نقبل اليوم أن يحاول تغليطنا " .
ويتساءل المحامي كيف للمتهم أن يتحكم في الضحية من دون أن يكون هناك أي رابط بينهما ، ثم كيف له وبعد أن أنجبها أبواها وبعد أن كد والدها وتعب لأجل تربيتها ، وبعد أن كبرت يأتي هو- يقصد المتهم- في الأخير ويقرر إضرامها بالنار . وحسب الأستاذ بومعزة فإن الجاني لا يمكن أن يكون محبا للضحية ، وهنا يخاطبه سائلا إياه : " إذا كنت حقا تحبها لماذا تهرب عندما اشتعلت بها النار ، لماذا لم تحاول إنقاذها مثلما فعل خالد " . وفي ختام مرافعته أكد محامي الضحية أن أركان سبق الإصرار و الترصد متوفرة في جريمة محاولة القتل العمدي ولذلك طلب من هيئة المحكمة بأن تحكم بما يمليه عليها ضميرها .
** النيابة العامة تطالب بعشرين سنة سجنا
أما السيد وكيل الجمهورية ممثل النيابة العامة فقد بدأ مرافعته بتوجيه سؤال للمتهم قائلا : هل تقبل بالزواج منها الآن بعد أن أصبح وجهها بهذه الصورة ؟ . وبالكثير من التحدي أكد ممثل النيابة العامة أن المتهم لن يقبل ، فلو قبل سنعطيه البراءة الآن ، لكنه لن يفعل لأن رأسمال المرأة هو وجهها ، يقول المتحدث الذي نفى أن يكون هناك حقد أكثر من هذا .
انتقل بعدها ممثل النيابة العامة لذكر أهم الدلائل التي تثبت أن مزاعم المتهم غير صادقة ، فتصريحاته المتعلقة بالبنزين لا يمكن أن تكون صحيحة لأن البائع بمحطة الوقود لا يقبل أن يبيع أي شخص البنزين إذا لم يدخل الزبون مركبته للمحطة ليتأكد البائع من الأمر ، فكيف تمكن المتهم من شراء البنزين رغم أنه ركن دراجته بعيدا عن المحطة كما زعم . ويكفي أن مصلحة الاتصالات - من خلال الكشف - نفت أن يكون المتهم قد تلقى أي مكالمة هاتفية صبيحة الجريمة .
أما عن الغيرة التي تحدث عنها المتهم فقد تساءل ممثل النيابة العامة أين له بها إذا لم تكن تربطه بالضحية أية علاقة رسمية أو خطوبة . واستخلص السيد وكيل الجمهورية من ملف القضية والمحاكمة أن المتهم أصر وقرر أن تظل الضحية رفيقة له وإلا سيقضي على ملامح وجهها ، وهو الفعل الذي وصفه المتحدث بقمة الظلم أو باللهجة الجزائرية " حقرة لا توجد أكثر منها حقرة " . ولكل ذلك يقول ممثل النيابة العامة أن كل ظروف التشديد متوفرة ، ليطالب في ختام مرافعته بالحكم على المتهم بالسجن لمدة عشرين سنة نافذا .أما محامي المتهم فقد طالب بتكييف الجرم على أنه ضرب وجرح .
** هل هذا ما يدفعه من حطم مستقبلي
غادرت هيئة المحكمة القاعة قبل أن تعود لتنطق بالحكم الذي جاء مفاجئا للكثيرين ، حيث حكمت على المتهم بالسجن النافذ لمدة ثماني سنوات ، وهو حكم بعيد جدا في مدته عما طالبت به النيابة العامة . حكم جعل الضحية تبكي من دون انقطاع ، وقبل أن تجف دموعها ، نطق القاضي بالحكم في الشق المدني حيث حكم بإلزام المتهم بدفع تعويض مالي للضحية قدره خمسمائة ألف دينار جزائري . وهو التعويض الذي لا يمكن أن يعوض إيمان عن الخسارة التي تعرضت لها وهي التي فقدت رأسمالها كاملا : ملامح الوجه حسب تعبير ممثل النيابة العامة ، فالعلاج والأدوية والواقي الذي تجبر على استبداله في كل مرة كلها تكلف والد إيمان ما يفوق قدراته المادية ، وهو الذي يقف عاجزا عن رفض إفادة ابنته من أي شيء ترى فيه أملا لإسترجاع صورتها السابقة . .
تحولت القاعة في دقائق لقاعة شبه خالية ، ورغم صعوبة وحساسية اللحظات التي عاشتها إيمان في نهاية المحاكمة إلا أنها لم ترفض الحديث لبوابة المرأة ، لكن بدا أنها تبدل جهدا كبيرا لتعثر على الكلمات التي تعبر بها عن إحساسها وقد لخصت كل ما تحس في كلمة واحدة ظلم ظلم. وظلت دموعها تنهمر وهي تتحدث إلينا بلهجة إنسانة مكسورة الجناح طفح بها الكيل من مر الدنيا ، وقد كسرت نبرة صوتها غصة تنبئ عن قلب شققه الألم ، قالت أنها تجبر باستمرار وبصفة دورية على التنقل للجزائر العاصمة التي تبعد عن مقر سكناها بما يزيد عن 550 كلم ، ولأن لا قريب ولا صديق لها بهذه المدينة - التي لم تطأها قدماها قبل الحادث - فهي مجبرة رفقة والدها الذي يتنقل معها ، على النزول في فندق إلى حين إجراء الفحص والمتابعة .
وتضاف لتكاليف الإقامة في الفندق مصاريف التنقل والأكل ، التي استنزفت جيب الوالد وأثقلت كاهله ، لكنه لا يستطيع التأخر عن ابنته لأنه يعيش على أمل أن تمسح دمعتها التي تنحدر كلما وقفت أمام المرآة و تذكرت ما حل بها . سألناها : إذن سـتستأنفين الحكم ؟ فردت بصوت يكاد يكون مكتوما بالطبع فأنا لم أتوقع أبدا هذا الحكم . أبدا ما كان في الحسبان . ثم تتساءل بتعجب وقد احمرت عيناها من فرط البكاء: ولكن هل هذا هو الثمن الذي يدفعه مقابل تحطيم مستقبلي ؟ وتجهش إيمان بالبكاء من جديد . ولم تتمكن هذه المرة من متابعة الحديث .
صمتت إيمان ، ونابت عن الكلمات دموعا حارة تذرفها لإحساسها بالظلم من مجتمع بأكمله ، مجتمع لا يؤمن في فرارة نفسه بأنه مكون من جنسين ، أو بالأحرى لا يؤمن بالمساواة بينهما ، مجتمع على المرأة فيه أن لا ترفع صوتها عاليا في حضور الرجل ولا تتجرأ أبدا وتتخذ قرارا يخصها ، لأن ذلك كفيل باستفزازه ، وما أصعب وأخطر أن تستفزه ، الثمن باهظ قد يكلفها حياتها ، وإن لم تمت فليس بعيدا أن يغتال أشياء كثيرة جميلة بداخلها : كالبسمة والأمل والحلم .
|