عشرات الدعوات تتلقاها اعضاء الشلة النسائية في النوادي الاجتماعية والرياضية الراقية من صديقاتهن لحضور «درس ديني» في بيت إحداهن، مع شاي وقهوة وكاتو، أو مشروبات باردة وبسكويت.
هذه الدعوات تسري في دوائر اجتماعية واقتصادية محددة وفي أحياء معروفة بأنها «الاحياء الراقية» في المدن الكبرى. وهي تختلف عما يجرى في الاحياء الشعبية حيث توزع السيدات والفتيات شرائط الكاسيت والكتب الدينية غير المعروفة المصدر.
لكن الدعوات الدينية «الراقية» تختلف شكلاً وموضوعاً عن النموذج الشعبي، إذ إنها جزء لا يتجزأ مما بات يُعرف في مصر في السنوات القليلة الماضية بـ»الدعاة الجدد».
غير تقليديات
سلمى في الـ 35 من العمر من أعضاء نادٍ راقٍ في حي مصر الجديدة في القاهرة تقول: «تعرفت الى السيدة منى في درس ديني دعتني إلى حضوره صديقة لي من النادي في بيتها. أعجبتني كثيراً بأسلوبها الهادئ والرزين في الحديث عن الدين والحياة ومشكلاتنا اليومية. ثم دُعيت الى سلسلة من تلك الدروس لدى صديقات لي وكانت السيدة منى هي العامل المشترك فيها. وقد ارتديت الحجاب بعد نحو عشرة دروس دينية وأنا على قناعة كاملة بجديتها في شأن التزام المرأة في تصرفاتها ومظهرها. وأنا حالياً استضيفها مرة كل شهر في بيتي حيث نجتمع على فنجان شاي وبعض الحلويات ودرس الدين».
الداعيات السيدات في مصر في المجتمع النسائي الثري ظاهرة جديدة نسبياً وهي تقدم نموذجاً يجمع بين الدين والمجتمع بـ «شياكة». وهن يختلفن عن اساتذة علوم الدين والفقه والتفسير من أعضاء هيئة التدريس الجامعي واللواتي سطع نجمهن في الآونة الأخيرة، فأصبحن ضيوفاً مستديمات على القنوات الفضائية والأرضية.
الصحافي والإعلامي المصري وائل لطفي درس ظاهرة الدعاة ووضع خلاصة ما توصل إليه في كتاب حمل عنوان «ظاهرة الدعاة الجُدد» وصدر قبل أيام عن مكتبة الأسرة في مصر. وقد خصص لطفي فصلاً في كتابه للداعيات لإيمانه، كما يبدو، بأن الحديث عن الدعوة الجديدة في مصر لا يكتمل من دون التعرض لظاهرة الداعيات السيدات، اللواتي وصفهن بأنهن داعيات من خارج المؤسسة الدينية، أي الأزهر. وهذا يعني أنهن داعيات غير تقليديات، بعيدات من الدعوة التقليدية والوسائط المعتادة. ويتساءل الباحث عن سبب إقبال ربات البيوت المرفهات في الأحياء الغنية على الدروس الدينية بكل هذا الشغف؟ ولماذا تتحول كثيرات منهن داعيات بشكل آلي؟ ولماذا تحتفل بهن زميلاتهن ويدشنَّها كداعية جديدة في حفلة كبيرة؟
التفسير الذي يقدمه لطفي في هذا الصدد هو تفسير اجتماعي بحت. فهو يرى أنهن يحتفلن بخروجهن من دائرة التهميش. والتهميش هنا هو الحياة الخاصة التي أضحت تتسع لتشمل عالم الوظيفة أيضاً الى جانب مهمات المنزل ورعاية الأسرة. لكن خروج المرأة باعتبارها داعية يرفعها الى درجة المجال العام، ولو كان مجالاً عاماً محدوداً.
اولئك «الداعيات» الجديدات ربما يفكرن في مجال خوض الدعاية الدينية وهن من بنات الشرائح العليا من الطبقات المتوسطة، أو ربات بيوت تحولن داعيات، وقدن صديقاتهن الى هذا العالم الجديد الذي يخلّصهن ولو بشكل موقت من السلوكيات السلبية التي تولدها حالة الفراغ لديهن.
ووجهة النظر التي يطرحها لطفي لتفسير هذه الظاهرة - وهي من منطلق ذكوري بحت - تعتمد على افتراض أنّ حياة اولئك النساء كانت قائمة قبل الدروس الدينية على النميمة والغيبة والتنافس والغيرة.
ويقول: «إن نساء النادي اللواتي كثيراً ما يشكين من انشغال الأزواج في اعمالهم ومن النساء الاخريات في حياة الزوج، ومن حالات المراهقة المتأخرة التي تنتاب الأزواج بينما توشك شمس العمر على المغيب، صار في وسعهن ان يحظين بمزيد من الاحترام والتأثير والقوة في مواجهة الأزواج المنشغلين».
صرخة ضد التهميش؟
ويؤكد لطفي خطه الرئيسي في تفسير ظاهرة الداعيات الجديدات حين يشير الى مقابلة اجراها مع السيدة سوزان، خمسينية، كانت تحتفل صديقاتها بتخرجها في معهد إعداد الداعيات التابع لوزارة الاوقاف المصرية، (يصفه بحضانة تخريج الدعاة الجدد): «أخبرتني السيدة الفاضلة أنها استقالت من وظيفتها كمديرة كبيرة في أحد المصارف. كانت سعيدة جداً، وتتحدث عن الحب في الله. وكانت تتبع الأسلوب المهذب جداً في التعامل الذي يفرضه نمط الأخوة الاسلامي، فضلاً عن تهذيبها الطبيعي كسيدة تنتمي الى الطبقة الوسطى المحافظة. وكان التهذيب زائداً عن الحد، وبدا لي أن ثمة اصطناعاً، لم تكن تصطنع الأدب، لكنها كانت تصطنع في داخلها حالة من حالات اليوتوبيا».
ويحلل لطفي موقف السيدة سوزان بأنها استقالت من عملها لسبب أو لآخر ثم أحست بالفراغ فبحثت عن معنى أو شاغل فالتزمت دينيًا وتحولت داعية هاوية وهو ما يؤكد ميل لطفي وباحثين كثيرين قبله إلى تفسير ظاهرة الدعوة النسائية في مجملها بأنها صرخة ضد التهميش.
والملاحظ أنه على رغم أن اولئك الداعيات «الراقيات»، اللواتي يلتحقن بمعهد إعداد الداعيات للحصول على شهادة تؤهلهن لممارسة الوعظ من خلال دراسة مسائية لمدة عامين، فإنهن لسن جميعاً على قدر كبير من الثقافة الدينية. كثيرات منهن يعتمدن في دروسهن على «كاريزما» شخصية أو قدرة تأثير من خلال الصدق والطاقة الإيجابية وغيرها من الصفات الشخصية لكل داعية على حدة.
ويشير وائل لطفي في كتابه الى مفهوم التدين الفردي المنتشر حالياً في مصر، لا سيما بين بنات الشرائح العليا من الطبقة المتوسطة. فأولئك يمتلكون ما لا يسهل التضحية به، من حياة مستقرة، الى أصول ثابتة للثروة. ويقول: «فكرة التدين الفردي وجهاد الشخص مع نفسه كبديل لفكرة الواجب الجهادي العام مناسبة لهذه الطبقة». اذ إن من مصلحة هذه الطبقة المد في عمر النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي القائم، وذلك بإضافة مسحة دينية أخلاقية الى ما هو موجود بالفعل.
ويبرهن لطفي ذلك بقول إحدى السيدات الداعيات له: «عندما اندلعت الانتفاضة قلت لنفسي: «الفلسطينيون يجاهدون بأنفسهم، لكن بماذا سأجاهد أنا؟ قررت أن أجاهد بحفظ القرآن. وكما يجاهد الفلسطينيون في بيوت مهدمة وأطفال يموتون ومأسـاة، قـلت سأجاهد بالقرآن. بدأت أجلس في مسجد النادي، وتعرفت الى المجموعـة (نساء يلتقين في دروس دينية تلقيها إحداهن)».
وفي المحصلة، يبدو ان ظاهرة الداعيات المسلمات الجديدات من بنات المجتمعات الثرية تزداد اتساعاً ولا يمكن اختزالها في نظرية نسوية باعتبارها خروجاً من التهميش، ولا يمكن حصرها في كونها «موضة» لن تلبث أن تزول، ولا يجوز أن نفسرها فقط في ضوء أن المصريين عموماً متدينون بطبيعتهم، ولا أن أولئك النساء المرتاحات اقتصادياً مللن الحياة السهلة، ولا أن الأوضاع المهنية والمتردية في العالم العربي الاسلامي اثارت لديهن نوعاً من التمرد، وأن التمرد على الوضع الراهن لا يمكن التعبير عنه سوى بالبحث عن شيء أصلي يتمسكن به. ربما يكون سبب «تدين الهاي كلاس النسوي» مزيجاً من كل هذه الأسباب، وربما يكون لأسباب أخرى، لكن الظاهرة بالطبع في حاجة الى المزيد من الدراسة والمتابعة.
|