مراحل تطور النظر في قضايا المرأة المسلمة
في البداية ,لابد من الإشارة الى فكرة مهمة,وهي أن الفكر الاسلامي الحديث والمعاصر المتعلق بقضايا المرأة - وغيرها من القضايا الأخرى كذلك- قد وُلد ونما وتطور استجابة لمجموعة من التحديات الخارجية والداخلية، وقد تحكمت هذه. التحديات أو المعطيات الموضوعية في توجيهه ورسم خارطته , لدرجة أن الأسئلة الذاتية التي حاول الإجابة عنها عبر المراجعة والنقد الذاتي , هي الأخرى إنما طرحت بسبب هذه التحديات الخارجية. تمثلت أهم التحديات الخارجية التي واجهت الفكر الاسلامي الحديث والمعاصر,في الصدمة الكبرى التي أحدثها الاستعمار الغربي المباشر,ثم في انطلاق موجات الغزو الثقافي المنظم، وصولا، الى المرحلة المعاصرة مع العولمة. أما بالنسبة للتحديات الداخلية، فهناك: أو لاً: التيارات العلمانية المتغربة والد اعية إلى التحرر من قيم الاسلام ومبادئه, وتقاليد شعوبه وأعرافها, سواء. تعلق الأمر بقضايا المرأة أم بغيرها من القضايا الأخرى في مجالات السياسة والاقتصاد والتربية والثقافة ...الخ .وقد وجدت هذه التيارات آذاناً صاغية من طرف الدول الوطنية التي أنشئت بعد الاستقلال,وحاولت أن تدخل تغييرات جذرية في بنية الدولة والمجتمع,من أجل تحقيق التنمية واللحاق بركب الدول المتطورة والمتقدمة.لذلك فقد حظيت المرأة باهتمام هذه الدول,إذ صدرت تشريعات كثيرة لصالح المرأة ودورها الاجتماعي ومشاركتها في الحياة العامة. ثانياً: تحدي الواقع المتخلف والمتشبت بالكثير من الأعراف والتقاليد,التي أصبحت في مرتبة الأحكام والمبادىء الدينية,مع أن الإسلام بريء منها.ومايعمق من خطورة هذا التحدي وجود تيارات فكرية تدعمه وتسوغ استمراره,وترى أن أي تغيير يطول هذا الواقع,انما هو تغيير لاتستند على الواقع فقط لتأكيد صوابية ماتذهب اليه,وانما لديها "ترسانة" من الآراء والتفاسير لنصوص دينية وفتاوى لعلماء من السلف ومن جاء بعدهم. وأخيراً,هناك تحد ذاتي يتمثل في ضرورة النقد الذاتي وأهمية تفعيل النظر في قضايا المرأة,وفتح باب الاجتهاد الفقهي لمعالجة الجمود والتخلف اللذين أصابا هذه المجالات,خصوصاً وقد كثرت القضايا والمستجدات المتعلقة بالمرأة,وأصبح من الضروري أن يعاد النظر في فقه المرأة المسلمة,بما يتناسب مع هذه المستجدات,وكذلك إعادة النظر في الكثير من المسلمات المتوارثة.في بحر هذه التحديات المتنوعة,انطلق الفكر الإسلامي يشق طريقه بصعوبة بالغة,وهو يعالج قضايا المرأة المسلمة.ومن خلال استجابته الإيجابية,حيناً,والسلبية احياناً أخرى لهذه التحديات,نما وتطور,وتشكلت معالمه وتأسست مدارسه وتياراته.
1- مرحلة النهضة
أهم ماميز مرحلة النهضة التي أعقبت الصدمة الاستعمارية الغربية,هو انطلاق البحث في موضوع المرأة,ومحاولات البحث والتنقيب عن مفاهيم جديدة تجمع بين الاصالة والمعاصرة,مفاهيم لاتقطع صلتها بالواقع فجأة أو نهائياً,وإنما تحاول أن تستجيب للمتغيرات,عبر إعادة النظر في عدد من التقاليد وسلوكيات اجتماعية ترسخت عبر السنين,ويمكن تشذيبها أو الاستغناء عنها ورفضها نهائياً,لأنها تسيء للمرأة والإسلام معاً.مثل النظر الى المرأة باعتبارها كائناً دون مستوى الرجل,أو بعض أشكال الحجاب التي فرضت على المرأة,وحالت دون مشاركتها في أي عمل أو دور اجتماعي,لذلك فقد انصب البحث ودار السجال في هذه المرحلة حول مواضيع تحرير المراة وحقها في التعليم والتربية وأن يتم الاعتراف بها بوصفها كائناً له حقوق وعليه واجبات. وقد انخرط,في هذا التفكير,عدد من كبار المصلحين المشهورين,مثل الشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا,وغيرهما ممن اهتم بقضايا النهضة والنهوض,وذلك لقناعتهم الراسخة بأن أي مشروع نهضوي لايهتم بوضع المرأة سيكون مآله الإخفاق,لأن المرأة نصف المجتمع,ومسؤولة عن تربية الأجيال وبناء الأسرة.لذلك فإبقاؤها جاهلة غير متعلمة يؤثر في مهماتها ودورها في التربية,كما يؤثر في دورها الاجتماعي الذي تنامى وأصبح ضرورياً مع المتغيرات الحديثة.وبشكل عام فقد نظر المصلحون والنهضويون المسلمون الى المرأة بوصفها عنصراً مهماً وضرورياً للنهوض العام لايمكن تناسيه أو إهماله. طبعاً لم تكن هذه المحاولات الأولى لتتجرأ على نسف جميع التقاليد والمفاهيم التي كانت تجعل من المرأة المسلمة كائناً دون مستوى الرجل في الحقوق,ومقيدة اجتماعياً بسلسلة من الأعراف والقيم التي تنظر إليها باعتبارها جسداً هو موضوع فتنة للرجال,لذلك يجب على المجتمع ومن باب سد ذرائع الفتنة والفساد,أن يحمي نفسه من هذا الجسد عبر الحجاب الكامل,وتقييد حركتها الاجتماعية بشكل شبه كامل,وبخاصة في المدن والحواضر.لذلك,من القيم التي كانت سائدة آنذاك – والتي ترتكز على بعض الآثار المروية – أن للمراة خروجين فقط في حياتها,خروجها الأول من منزل أبيها الى منزل زوجها,وخروجها الثاني الى القبر لتدفن بعد موتها. وقد حاول هؤلاء المصلحون,عبر إعادة النظر في هذه التقاليد والقيم المسيطرة,تأصيل قيم جديدةوبالرجوع الى نصوص القرآن والسنة للتأكيد أن الإسلام كرم المرأة وأعطاها حقوقاً كثيرة,وأنه لايمنع من تعلمها أو مشاركتها في عدد من الأنشطة الاجتماعية.لكن اهتمام المصلحين بقضية المرأة لم يكن ليحتل الأولوية في تفكيرهم,لأنهم كانوا منشغلين بقضايا نهضة الأمة وتقدمها في جميع المجالات الدينية والسياسية والعلمية والتربوية...الخ.ومع ذلك لايمكن الاستهانة بما قدموه في هذا المجال.فهم أول من وجه النقد لعدد من التقاليد والعادات الاجتماعية,مؤكدين أن الكثير منها يتعارض مع المبادىء والأحكام الإسلامية,كما وجهوا الأنظار الى ضرورة الرجوع الى النصوص الإسلامية من قرآن وسنة صحيحة , لاعادة قراءتها واستنباط الأحكام الخاصة بالمرأة منها مباشرة, وعدم التقيد بكل ما قيل أو كتب عن المرأة في العصور السابقة.
2- مرحلة الدولة الوطنية وبداية الصحوة الإسلامية
لم يتوقف الفكر الاسلامي عند حدود الاجتهادات الاصلاحية والنهضوية,لأن تحديات دعاة التحرر والعلمانية- وقد كان الكثير منهم, رجال ونساء,من مسيحيي مصر وبلاد الشام – كانت قوية,وقد استفادوا من النقد الذي وجهه الإصلاحيون المسلمون للتقاليد والعادات الاجتماعية,فدعوا الى الثورة على هذه التقاليد جملة وتفصيلاً,ودعوا الى السفور وإلغاء الحجاب,ورفع القيود على خروج المرأة ومشاركتها الاجتماعية,واضعين نصب أعينهم الأنموذج الغربي باعتباره الأنموذج القدوة والمثال,ومن الشبهات التي روجوا لها كثيراً,في هذا المجال,أن المرأة في أوروبا متحررة ومتعلمة وعاملة ,لذلك فالمجتمعات الأوروبية متقدمة,بخلاف المجتمعات العربية والمسلمة,وبذلك ربطوا بين النهضة والتقدم وتحرر المرأة المسلمة وسفورها وعملها خارج المنزل. هذه التحديات والتطورات الجديدة,أي ظهور تيارات علمانية متغربة تروج لفكر التحرر والتغرب,بالإضافة الى قيام الدولة الوطنية وسيطرة هذه التيارات على الحكم وشروعها في تنفيذ رؤيتها الأيديولوجية الخاصة بوضع المرأة وحقوقها على المستويين التشريعي والاجتماعي,ذلك كله سيفتح النقاش داخل الفكر الإسلامي لمعالجة قضايا المرأة على نطاق أوسع بكثير مما كان عليه في عصر النهضة,خصوصاً إذا علمنا أن البحث لم يكن مقتصراً على موضوع المرأة ,وإنما شمل النقاش جميع المواضيع,لأن الإسلام,ديناً وشريعة,وضع في قفص الاتهام,وعد عقبة في طريق التقدم العلمي والصناعي,لذلك فقد انشغلت الصحوة الإسلامية بكل مايتعلق بالإسلام من تشريعات وقيم ومبادىء,وانخرط أصحابها في عمليات رد ودفاع ومناقشة للشبهات والأفكار الوافدة من الثقافة الغازية,أو الاعتراضات التي كان يروج لها العلمانيون في الداخل,لذلك ففي هذه الحقبة الممتدة الى الآن,تمت مناقشة جميع المواضيع المتعلقة بالمرأة والأسرة :حقوقها وواجباتها ومعالجتها,وتمت مقارنة وضعها التشريعي ودورها الاجتماعي في الإسلام,بغيره في الأنظمة الحقوقية الوضعية. وهكذا,وخلال القرن الماضي نجد أن الفكر الإسلامي في حالة نشاط دؤوب,إما دفاعاً عن الإسلام ومبادئه وصلاحية شريعته لكل زمان ومكان,وتفوقها على الأنظمة الوضعية,أو تأصيلاً لعدد من المفاهيم المعاصرة,وتبيان عدم مناقضتها للمبادىء الإسلامية,أو عرضاً واستنباطاً للقيم والأحكام الإسلامية لمواكبة المستجدات والمتغيرات.بالإضافة الى ممارسة النقد الذاتي عبر مراجعات متنوعة للتراث بغية تنقيته والكشف عن الدخيل أو المخالف لمبادىء الإسلام الصحيح فيه.وقد أخذ موضوع المرأة نصيبه من هذا النشاط الفكري الذي لم ينقطع حتى الآن,وإن عرف بعض الانتكاسات والتراجعات الداخلية بسبب الصراعات والاختلافات بين تياراته المختلفة.