بسم الله الرحمن الرحيم
الطفولة تحت عيون الإسلام
محمد إبراهيم
من الكلمات الصادقة: أنه كلما ارتقى مجتمعٌ في إيمانه تغيرتْ نظرتُه إلى الأطفال؛ فأهل الحضارات القديمة كانوا يتعاملون مع الأطفال معاملةً توحي بعدم الاهتمام بشؤون الطفل ورعايته، فكان البعض يضحي بالأطفال قربانًا للآلهة الوثنية.
وكان القانون والعُرف في اليونانية القديمة يبيحانِ قتْل الأطفال كوسيلة للحدِّ من زيادة النسل، وكان من تقاليد الجاهلية وأْدُ البنات ودفْنهن في التراب خوفًا من الفقر أو العار، فلما أشرقتْ شمس الإسلام تغيَّر موقف الكبار من الأطفال، وأصبحتْ حقوق الأطفال أمرًا تقرره الشريعة الإسلامية منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا.
ولِمَ لا، والطفولة الصالحة هي مهْد الشباب، وربيع المستقبل، ودعامة المجتمع، وروحه اليقظة، ودرعه الأمين؟! ومن أجل هذا اهتمَّ الإسلام أيَّما اهتمام بالطفولة في كل ناحية من نواحيها؛ اهتم مثلاً بالطفل منذ ولادته؛ بل قبل ولادته، اهتم بحُسن اختيار الزوجة - أمه - اهتم باسمه، وحقه في الحياة، وفي التربية والتعليم والصحة، وقد سنَّ الإسلام نُظمًا محكمة تتعلق بمصلحة الأطفال في الحضانة والنفقة والإرث، وبكل الحقوق التي تضمن لهم إيمانًا صحيحًا، وحياة روحية صافية، بالإضافة إلى حياة فكرية تربطه بالوقوف على جمال تعاليم الإسلام، وإلى حياة رياضية تعود عليه بكل ما هو خير، ولا تناقض أبدًا بين جانب وآخر؛ لأن من سنة الإسلام أنه يجمع ويوفِّق في وقت واحد بين مطالب الروح، وحاجات الجسم، والعقل والنفس، وصولاً بالطفل إلى أن يكون إنسانًا متكاملاً، قادرًا في نهاية الأمر على أن يكون مصدر عطاء ونفع.
ويكفي في الدلالة على اهتمام الإسلام بالطفولة أننا نجد الله - تعالى - يقسم بها في القرآن، وذلك قوله الكريم: ﴿ وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ ﴾ [البلد: 3].
أنواع من الاهتمام:
ونأتي الآن إلى تفصيل عناية واهتمام الإسلام بالطفل، وبداية أقول: إن البعض منا لا ينتبه إلى أن هذه العناية قد امتدتْ لتشمل العناية به قبل ولادته، وخاصة عند اختيار أمه الصالحة؛ لأن الزواج في نظر الإسلام انتقاءٌ واختيار، وقد وضَع الدين أمام كل من الخاطب والمخطوبة قواعدَ وأحكامًا، لو اهتدى الناس بهدْيها، لكان الزواج في غاية التَّفاهم والوفاق، ولكانت الأسرة المكونة من البنين والبنات في قمة الإيمان، والجسم السليم، والخلق القويم، والعقل الناضج، والنفسية المطمئنة.
وفي التوجيه إلى البحث عن الأم الصالحة يقول - صلَّى الله عليه وسلم -: ((تُنكَح المرأة لأربع: لمالها، ولحسبها، ولجمالها، ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك))؛ أي: اظفر بذات الدين، ولا تلتفت إلى المال وغيره فقط.
وفي اختيار الزوج الصالح أيضًا يقول - عليه الصلاة والسلام -: ((إذا جاءكم من ترضون دينه وخُلقه، فزوِّجوه؛ إلاَّ تفعلوا تكن فتنة في الأرض وفساد عريض)).
وقد بلغتْ عناية الإسلام بالمولود حدًّا جعله يشرع له التأذين للصلاة في أُذنه اليمنى، والإقامة لها في أذنه اليسرى حين الولادة مباشرة؛ فقد رُوي أن الرسول الكريم أذَّن في أُذن "الحسن بن علي" حين ولدتْه "فاطمة" - رضي الله عنها - وأقام في أذنه اليسرى؛ ولعل السرَّ في التأذين والإقامة هو أن يكون أول ما يقرع سمْع الإنسان كلمات النداء العلوي، المتضمنة لكبرياء الربِّ وعظمته، والشهادة التي هي أول ما يدخل بها في الإسلام، وفي ذلك أيضًا هروب الشيطان من كلمات الأذان، مع أنه كان يرصده حتى يولد، وهناك فائدة أخرى، هي أن تكون دعوته إلى الله - تعالى - وإلى دينه الإسلامي، وإلى عبادته سابقةً على دعوة الشيطان، كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها سابقةً على تغيير الشيطان لها ونقله عنها.
• ومن الأحكام التي وضعها الإسلام أيضًا الترغيبُ في تحنيكه عقب الولادة، وإذا تساءلنا عن معنى "التحنيك"، أجيب بأنه مضغ التمرة ودلْك حنك المولود بها، وذلك بوضع جزء من الممضوغ على الإصبع وإدخال الإصبع في فم المولود، ثم تحريكه يمينًا وشمالاً بحركة خفيفة لطيفة؛ حتى تشمل المادةُ الممضوغة الفم كلَّه، وإن لم يتيسَّر التمر فهناك أي مادة حلوة؛ كالمعقود، أو ذائب السكر الممزوج بماء الزهر؛ اقتداء بفعل الرسول - عليه الصلاة والسلام.
وقد شرع الإسلام كذلك "عقيقة المولود"؛ تعبيرًا عن الفرحة بولادته، ولفتًا لأنظار المسؤولين لأهميته، ولكن ما معنى العقيقة؟
إنها تتمثل في ذبح الشاة عن المولود يومَ السابع من ولادته، وعلى الأب إن وُلد له مولود، وكان مستطيعًا قادرًا، أن يحيي سنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - الذي قال: ((مع الغلام عقيقة، فأهريقوا عنه دمًا، وأميطوا عنه الأذى))، وروي أيضًا أنه لو ذبح عن المولود في اليوم الرابع أو الثامن أو العاشر أو ما بعده، أجزأتِ العقيقة.
ويصح في العقيقة ما يصح في الأضحية؛ من ناحية الأكل منها، والتصدق، والإهداء.
ومن أراد أن يُولِم على العقيقة ويدعو من أحب لحضور الطعام، فلا بأس في ذلك.
ويكفي العقيقةَ فائدةً وحكمة أنها قربان يتقرب منا المولود إلى الله في أول لحظة يستنشق فيها نسائم الحياة، وأنها أيضًا فدية؛ يفدى بها المولود من المصائب والآفات، كما فدى الله "إسماعيل" - عليه السلام - بالذِّبْح العظيم، وأنها أيضًا إظهار للفرح والسرور بإقامة شريعة الله وبخروج نسمة مؤمنة، وبها تزداد روابط الألفة والمحبة بين أبناء المجتمع.
هذا، ويستحب أن تُذبح العقيقة على اسم المولود؛ لما روي عن النبي - صلَّى الله عليه وسلم - أنه قال: ((اذبحوا على اسمه (أي: على اسم المولود)، فقولوا: بسم الله، اللهم لك وإليك، هذه عقيقة فلان))، وإن نوى الذابح العقيقةَ ولم يذكر اسم المولود، أجزأتْ.
• ومن مظاهر العناية والاهتمام بالمولود أن الإسلام شرع استحباب حلْق رأسه يوم سابعه، والتصدق بوزن شعره فضة على الفقراء والمستحقين؛ لأن في إزالة شعره تقويةً له، وفتحًا لمسام الرأس، وتقوية كذلك لحواس البصر والشم والسمع، وإن التصدق بوزن شعره فضةً ينبوع من ينابيع التضامن الاجتماعي، وهو أحد مبادئ الإسلام.
• ومن العادات الاجتماعية المتَّبعة بعد ولادة المولود، أن يختار له أبواه اسمًا يُعرَف به، ويتميز لدى البعيد والقريب بسببه.
والإسلام بتشريعه المتكامل قد عُني بهذه الظاهرة واهتم بها، ووضع من الأحكام ما يشعر بأهميتها.
إن سنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلم - تقضي بأن تكون التسمية في اليوم السابع، ويؤخذ من أحاديث النبي أن في أمر التسمية سَعة؛ حيث يجوز تعريفه وتسميته في اليوم الأول من ولادته، ويجوز التأخير إلى ثلاثة أيام، ويجوز إلى يوم العقيقة، وهو اليوم السابع، ويجوز قبل ذلك أو بعده.
ويستحب أن ينتقي المربِّي عند التسمية أحسنَ الأسماء وأجملها؛ تنفيذًا لما حضَّ عليه وأمَر به الرسول الكريم؛ فقد روي أنه قال: ((إنكم تُدعَون يوم القيامة بأسمائكم، وبأسماء آبائكم؛ فأحسنوا أسماءكم)).
وعلى المربي أن يجنب الوليد الاسمَ القبيح الذي يمسُّ كرامتَه، ويكون مدعاة للاستهزاء به، والسخرية منه؛ فقد كان رسول الله - كما روي عن عائشة - يغيِّر الاسم القبيح، وفي هذا روي أن ابنة لعمرة كان يقال لها: (عاصية)، فسماها رسول الله: (جميلة)، وقد غيَّر من الأسماء اسم: "العاصي، وعزيز، وعتلة"، وسمى (حربًا): (سلمًا).
وعلى المربي أيضًا أن يجنب المولود الأسماء التي لها اشتقاق من كلمات فيها تشاؤم؛ حتى يسلم الطفل من شؤم هذه التسمية، كما عليه أن يجنِّبه الأسماء المختصة بالله؛ فلا يجوز التسمية بالأحد، ولا بالصمد، ولا بالخالق أو الرازق، وعليه كذلك أن يجنبه الأسماء المعبَّدة لغير الله؛ كعبدالكعبة، وعبدالنبي وما شابهها؛ فإن التسمية بهذه محرَّمة، وعليه أن يجنبه أيضًا الأسماء التي فيها ميع وغرام، ومن أحب الأسماء إلى الله تعالى - كما قال رسول الله، صلَّى الله عليه وسلم -: ((عبدالله، وعبدالرحمن)).
الرضاع مسؤولية الأم:
وإذا تحدثنا عن الرضاعة الطبيعية للطفل، وجدْنا أن الإسلام - من منطلق اهتمامه بالطفل - يجعل هذه الرضاعةَ مسؤوليةَ الأم أمام الله؛ إذ إن اللبن في ثدي الأم هو رزق الوليد، وحرمانُه منه دون سببٍ شرعي أو عذر قهريٍّ ظلمٌ وإجحاف، يعرِّض الأم لأضرار صحية، وعقوبات أخروية.
وأهمية الرضاعة الطبيعية تفوق الوصف، نذكر منها على سبيل المثال ما يدل على هذه الأهمية:
أولاً: درجة حرارة اللبن الطبيعي تماثل درجة حرارة الجسم طوال مدة الرضاعة، ومن شأن هذا أنه لا يُحدِث أضرارًا تنجم عن تغير درجة حرارة الغذاء الداخل إلى معدة الطفل، وهذه الحقيقة لا يمكن الوصول إليها في حالة الرضاعة الصناعية.
ثانيًا: لبن الأم مزودٌ بعوامل المناعة ضد الأمراض، وهو معقم بالخلقة، وهذا أمر لا يتوفر في اللبن الصناعي مهما حرصنا على النظافة.
ثالثًا: مكونات لبن الأم تتغير يوميًّا وفقًا لاحتياجات الرضيع، والتي يعلمها اللطيف الخبير، تلاؤمًا مع نمو الطفل وبروز السنان، وهكذا.
رابعًا: إن بقاء الطفل مدة تسعة أشهر في بطن أمِّه يتغذى بغذاء مهضوم، يتطلَّب أن يكون أول ما يدخل معدته عن طريق الفم متلائمًا مع جهازه الهضمي، وبمواصفات محددة لا يعلمها إلا خالقُه.
خامسا: الْتقام الرضيع لثدي أمه بالإلهام، وامتصاصه اللبن مع الضغط على الثدي بيديه، وإرجاع رأسه إلى الخلف - فيه بذْل للمجهود، الذي يكون نوعًا من الرياضة المفيدة.
سادسا: ثم إن الأم التي ترضع طفلها من ثديها، تزرع فيه البرَّ والحنان.
سابعا: أخيرًا نقول: إن استخدام الأم لثديها حفظٌ له وصيانة؛ لأن الوسيلة الوحيدة لحفظ النعم هي استخدامها فيما خُلقتْ له.
ونتوقف بعد هذا وقبله، لنقرأ أمر الله - تعالى - للأمهات في قوله الكريم: ﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ ﴾ [البقرة: 233].
وبسبب المرض أو جفاف الثدي، يقول - تعالى -: ﴿ وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ ﴾ [البقرة: 233].
مسؤولية النفقة:
وامتدادًا لاهتمام الإسلام بالطفل، أوجب هذا الدينُ على الآباء مسؤولية النفقة على أولادهم في صورة طعام، وكسوة، وسكن؛ لقوله - صلَّى الله عليه وسلم -: ((ويقول الولد: أطعمني، إلى من تدعني؟))، وفي الحديث النبوي أيضًا: ((دينارٌ أنفقتَه في سبيل الله، ودينار أنفقته في رقبة، ودينار تصدَّقت به على مسكين، ودينار أنفقته على أهلك، أعظمُها أجرًا الذي أنفقتَه على أهلك)).
وإذا كان للأب الأجرُ والثواب في التوسعة على الأهل، والإنفاق على العيال، فإن عليه بالتالي الوزرَ والإثم إذا أمسك عن الإنفاق، وقتر على الأهل والأولاد وهو مستطيع.
ولا يفوتنا أن نذكر - وقبل أن نصل إلى نهاية هذا المقال - أن من أقوى العوامل المؤثِّرة في الطفل منذ مولده عامِلَ القدوة، ولقد سجل شاعرُنا العربي هذه الحقيقة التربوية في قوله:
وَيَنْشَأُ نَاشِئُ الفِتْيَانِ فِينَا
عَلَى مَا كَانَ عَوَّدَهُ أَبُوهُ
فإذا ما نشأ الطفل في ظلال أسرة متَّصفة بالفضائل والمكارم، وكانت العلاقة فيها بين الزوج والزوجة مستقرةً على الحب والأمانة، والحديث بينهما أمام أبنائهما لا يجري إلا بالكلمة الطيبة والمودة الصادقة - إذا ما نشأ الطفل في ظلال هذه الأسرة، نشأ محبًّا للمجتمع، صادقَ الود لإخوانه، صديقًا حميمًا للحياة، وعاملاً مجتهدًا من أجل رخاء وتقدم وأمان هذه الحياة، وهذا هو الهدف المنشود.
﴿ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ ﴾ [آل عمران: 38].
مواقع النشر (المفضلة)