كانت احلامه كبيرة ولم يتوقف عند حدود الحلم
ولكنه نجح في تحويل بعضها الى حقائق حين بدأ العمل في التجارة,
وسرعان ما تفتحت له ابواب الرزق ونمى رأسماله بسرعة
وزادت أرباحه ولكن سرعان ما داهمته الفوضى في إدارة هذه الأعمال,
وربما ثقته الزائدة بنفسه او طيبته الزائدة أو الجهل بأصول الإدارة
أو كلها أسباب كامنة وراء خسارته التي باتت تظهر على السطح,
وكأن التردد السريع في الصعود رافقه والتدرج السريع ايضا في الخسارة,
ومع تتالي الخسائر اضطر للاقتراض لترقيع عمل هنا أو استمرار
عمل هناك ولكن مع الزمن لم يفد الترقيع كما لم تفد المسكنات,
تتالت عليه المطالبات المالية من كل حدب وصوب واضطر لبيع أعماله واحدة تلو
الأخرى, وحين عرض أحد محلاته التجارية للبيع بالمزاد كانت
آخر بقع الأمل المضيء تتلاشى أمام عينيه.
انتهى المزاد واستلم المال وخرج ومسحة حزن على وجهه
لا ينافسها إلا شعور بالضعف استولى على كل خلية في جسده,
خرج من محله مسرعا ولكنه وقف بعد عدة أمتار لينظر وراءه
وكأنه يودع ذكريات جميلة ربطته بذلك المكان,
ثم أدرك أن لا بد له من متابعة السير بعيدا عن كل النجاحات
التي باتت جزءا من الماضي. سار متثاقلا في الشارع لا يدري
إلى أين يذهب وجل تفكيره انحصر في كيفية معاودة نشاطه
التجاري وهو الذي لم يبق بين يديه إلا ذلك المبلغ الذي استلمه
قبل قليل من بيعه لآخر محل كان يملكه. وفجأة اضطر للوقوف
ووقع نظره على رجل كان يقف بجانبه مقطوع الساقين يحمل جسده
لوح من الخشب يسير على اربع عجلات صغيرة وفي كل يد يمسك
قطعة من الخشب يستند عليها حين يسير فيثبتها في الأرض ليسحب
جسمه فوق لوح الخشب المتحرك على العجلات. وقف متأملا
هذا الرجل الذي يسير بلا رجلين على لوح الخشب تسمر في
مكانه حين رآه ينزل من على لوح خشبي, يحمله من الرصيف الى
الطريق ليركب ثانية فوقه حتى إذا وصل للرصيف الثاني نزل مرة
أخرى وحمل اللوح ويتسلق الرصيف رفع الرجل مبتور الساقين
رأسه مبتسما ليقع بصره على صاحبنا وليخاطبه بجملة ايقظته
من غيبوبته قائلا: ألا ترى معي يا سيدي أن هذا النهار جميل؟
ابتسم صاحبنا مجاملا وقال: نعم.
وسأل نفسه هل المشكلة تكمن في الظروف المحيطة بنا أم في رؤيتنا لهذه الظروف؟
ولو كانت في ظروفنا لكان مبتور الساقين هذا اتعس الناس,
هنا فقط أدرك ان المشكلة لا تكمن في الخسارة ولا في صعوبة
ظروف الحياة ولكنها تكمن في نظرته لما حوله, وهنا فقط تذكر
أن ذلك الرجل الذي يسير بلا ساقين كان اسعد حالا منه وأن
خسارة ساقيه لم تكن سببا لرؤية الدنيا مظلمة كما يراها هو,
استمر في سيره وهو يتمتم ويقول: سبحان الله رجل سعيد مع
أنه بلا ساقين ووجد طريقه ليسير فيها في هذه الحياة وأنا اعقت
نفسي مع اني أملك كل وسائل الانطلاق. مشى وكله عزم
على أن يوظف ما بين يديه من مال قليل مقارنة بما كان يملكه
من أموال وأعمال وقرر أن يمثل لقاعدة رسمت معلمها في ذهنه
بمجرد ان ترك الرجل مبتور الساقين:» كيف لي أن أحزن لفقد حذاء
جميل في حين أن هذا الشخص سعيد وهو بلا ساقين؟.»
الدكتور/ ميسرة طاهر
مواقع النشر (المفضلة)