لا بد من سبب للحب والكراهية!

كنا اثنين جلسنا نتحدث في موضوعات غير مترابطة..وانما كنا نحن الاثنين مثل دبوسين أو مشبكين يربطان خيوطا ويصنعان لها العقد، حتى يكون الحديث نسيجا واحدا.. وتبادلنا المقاعد.. واخترت واحدا مريحا وتمددت.. وكان المقعد طويلا حانيا كأنه حضن أم.. وكأنني طفل صغير..أو طفل صغير فعلا فقد كان كلامي صغيرا، وكنت استخرجه من أعماق طفولتي ولم أجد سببا واضحا لهذا الحديث أو هذا الاختيار.

ولما قدم لي الطعام، أبعدت من أمامي ذلك النوع من «الجبن» الملفوف في ورق مفضض على شكل مثلثات أو مربعات.. ولاحظت أنني أرفضه بأنفي.. أي كأنني شممت رائحته.. ثم كرهت الرائحة.

فأندفعت أصابعي تطرد هذه الرائحة كل ذلك بدون تفكير..

وسألني صديقي: لماذا؟!

قلت: لا أعرف.. أنا لا أحب هذا النوع من الجبن..

ولماذا؟

هنا فقط تذكرت أن صديقي هذا هو أحد علماء النفس..وانه لا يقبل مني هذا الرفض دون ان يكون هناك تفسير واضح..أو كان من الواجب ان يكون عندي أنا أيضا مثل هذا التفسير..

وكانت فرصة لأن أفتش في أعماقي عن سر هذه الكراهية. فليس من المنطق ان اكره وأحب وأنفر واقترب دون سبب لذلك..فلست طفلا..وان كان موقفي هذا طفوليا.. ووجدت سببا. بل وجدت السبب.. ففي سنة 1950 سافرت على الباخرة الفرنسية الماريشال جوفر الى مارسيليا وكنا ركاب الدرجة الثالثة وهي قاع السفينة أي تحت سطح البحر بستة أمتار.. وكان قاع السفينة مثل صوف حيوان مفترس.. تكدست في أحشائه الأطعمة.. ثم أصيب هذا الحيوان بإمساك شديد لسبب ما.. وكانت لأحشاء الحيوان رائحة خانقة.. وكنا نحن ننام في الجو الخانق.. فقد تلاصقت مخداتنا وأحذيتنا وحقائبنا وطعامنا..وأصوات النائمين والصاحين.. وكل شيء له صوت قبيح ورائحة أقبح. وكانت هذه الجبنة المحفوظة في ورق مفضض اكثر الأطعمة نفاذا الى الأنف..واكثرها بقاء في ذاكرتي.. فأنا ككل الناس شديدي الحساسية لهم أنوف تلتقط ما ليست له ضرورة من الروائح..

هذا هو السبب لكراهيتي لها.. وفي نفس كل واحد عشرات الحوادث الصغيرة القديمة وهي التي تتحكم في الذي يحب والذي لا يحب من الناس ومن الاشياء.. وتكون هذه الكراهية وهذا الحب بلا سبب.. والحقيقة ان لها سببا، ولكننا لا نفتش أو ليس عندنا وقت ولا رغبة في ان نضع اصابعنا على مواجعنا القديمة!

___________

منقــــــــــــــــــول