+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 5 من 6
  1. #1
    حبيبة المؤمنة is on a distinguished road الصورة الرمزية حبيبة المؤمنة
    تاريخ التسجيل
    10 / 07 / 2009
    الدولة
    المغرب
    العمر
    66
    المشاركات
    73
    معدل تقييم المستوى
    255

    افتراضي بعض الأحكام والحدود في الإسلام

    الفصل الثاني:
    تحريم شرب الخمر وعقوبته
    سورة المائدة(5)
    قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إنَّما الخمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عملِ الشَّيطانِ فاجتنبوه لعلَّكم تُفلحون(90) إنَّما يُريدُ الشَّيطانُ أن يُوقِعَ بينَكُم العداوةَ والبغضاءَ في الخمرِ والميسرِ ويَصُدَّكم عن ذكرِ الله وعن الصَّلاةِ فهل أنتم منتهون(91)}
    ومضات:
    ـ يسعى الإسلام إلى بناء شخصيَّة الإنسان المسلم، وحمايتها من كلِّ الأضرار الَّتي يمكن أن تلحق بها، فيحذِّره من تعاطي المواد المضرَّة الَّتي تفتك بجسده وعقله، ومن اتِّباع السُّبل الَّتي تدخله في متاهات الإنفاق الطائش، طلباً للَّذائذ السريعة والمتع الجسدية الآنيَّة؛ الَّتي تشغله عن ذكر الله عزَّ وجل والشعور برقابته، وتجعله ينغمس في الأخطاء والمعاصي والآثام.
    ـ الإنسان لا يمارس القمار ولا ينزلق إليه غالباً إلا بعد معاقرته للخمر، الَّذي يذهب بعقله ويفقده الإرادة والاتِّزان والتصرُّف السليم، وفي جميع الأحوال فإن الخسائر الماديَّة والمعنويَّة، الَّتي تلحق بمدمن الخمر وممارس القمار، توقعه في براثن العداوة للآخرين والحقد عليهم، فهم الَّذين جرُّوه إلى دائرة الخطأ، وأوقعوا به واستنزفوا أمواله.
    في رحاب الآيات:
    الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، عيدان في حزمة واحدة، تربطها النتائج المشتركة الَّتي تصدر عنها، وهي أنها تؤدِّي جميعاً إلى الفجور وإفساد بنية المجتمع. وقد بدأ الإسلام بكسر هذه العيدان بشكل منهجي، فغزا القلوب وطهَّرها أوَّلاً من رجس الشرك؛ باجتثاث جذور الجاهليَّة الفاسدة، الاجتماعيَّة منها والاقتصاديَّة والأخلاقيَّة، ثم نقَّى تربتها من رواسب الشيطان، وغرس فيها بذار عقيدة التَّوحيد الطـيِّبة، فحلَّ بذلك عقدة الشِّرك، ومنع كلَّ ما من شأنه أن يشكِّل رابطة بين الإنسان والوثنيَّة وما يتَّصل بها لحكمة لا تخفى على كلِّ ذي لُبٍّ، وأهمُّ أشكال هذه الوثنية كانت الأنصاب والأزلام.
    فالأنصاب هي الحجارة الَّتي كان الجاهليون يذبحون ذبائحهم عليها وينضحونها بها، وهي الرمز الأهم للوثنية. وأمَّا الأزلام فهي قطع رقيقة من الخشب بهيئة السهام كانوا يستقسمون بها على سبيل التفاؤل والتشاؤم، وهذا مناقض لما يؤمن به المسلم من أن القضاء والقدر هما من أمر الله وحده، وأنه لا دخل لأيَّة قوَّة في تسييرهما أو تحويل مجراهما نحو النفع أو الضرر، وأن علم الغيب من اختصاص الله لا يعلمه إلا هو، فلا يعلم القسمة إلا من قسمها. وبالقضاء على الأنصاب والأزلام انتهت المعالم الأخيرة لعبادة الأصنام، وتحرَّرت قلوب المؤمنين من قيود الوثنية، وانطلقت من أسر الخرافات والأضاليل والأوهام.
    وبعد مرحلة الإعداد النفسي والروحي للمؤمنين، بدأ تشريع التكاليف المتعلِّقة بالشعائر التعبُّدية وبالحلال والحرام، فلاقت في هذه القلوب الطاهرة خصوبة وسرعة استجابة، وتنافساً على الطاعة. وتجدر الإشارة هنا إلى أن الشرع الحنيف جعل الأصل في الأشياء الإباحة، إلا ما نصَّ على حكمه وبيَّنه؛ بدليل قوله تعالى: {هو الَّذي خلقَ لكم ما في الأرضِ جميعاً..} (2 البقرة آية 29).
    لقد أحلَّ الله تعالى لعباده جميع الطـيِّبات من الرزق من مأكل ومشرب، إلا أنه جلَّ وعلا استثنى منها ما فيه ضرر للإنسان وأنزل فيه نصّاً خاصّاً، كما هو الحال بالنسبة للخمر والدم والميتة ولحم الخنزير. وقد حرَّم الله تعالى الخمر والميسر في هذه الآية الكريمة، وشدَّد على ذلك تشديداً بالغاً، لما فيهما من ضرر كبير وخطورة عظيمة تهدِّد الأمَّة والمجتمع وتقوِّض دعائم الحياة السليمة.
    أمَّا الخمر فهو كلُّ شراب مسكر سواء أكان من عصير العنب أم التمر أم التفاح أم غيره، وهذا مذهب جمهور المحدِّثين، قال صلى الله عليه وسلم : «كلُّ شراب أسكر فهو حرام» (أخرجه الستة). وعلَّة تحريمها أنها تُذهِب العقل وتنهك الصحَّة، وتضيِّع المال، ومتى ذهب العقل حلَّ الإجرام وكانت العربدة. وحَسْبُ السكران ضرراً أنه لا يفرِّق بين النافع والضارِّ، ولا يميِّز بين الجواهر والأقذار، لغياب عقله، إلى جانب الأضرار النفسية والجسمية والعقلية الَّتي تستدعي تحريمها وهي تتلخَّص بما يلي:
    1 ـ تثبيط وظيفة قشرة الدماغ وتعطيلها مع التشكُّلات الشبكية في أعلى الدماغ المتوسط وأُذينةِ المخيخ والجذع المخِّي والأعصاب القحفية والشوكية.
    2 ـ التهاب المريء والمعدة الَّذي قد يؤدي إلى إصابتها بالتَّقرُّح.
    3 ـ التهاب البنكرياس الحادِّ وتشمُّع الكبد.
    4 ـ اعتلال العضلة القلبية وتسريع حوادث التصلُّب الشرياني.
    5 ـ اضطرابات سوء الامتصاص والإصابة بمختلف أنواع فقر الدم.
    6 ـ الإصابة بأمراض نفسية كثيرة كالهذيان الارتعاشي والتأخُّر العقلي.
    وقد أثبت الطبُّ الحديث ضرر الخمرة الفادح، فقال أحد أطباء ألمانيا: [اقفلوا الحانات أضمَنْ لكم الاستغناء عن نصف المستشفيات والمِصحَّات العقلية والسجون].
    أمَّا من الناحية الدِّينية والاجتماعية: فإن غيبوبة العقل بأي مسكر تنافي اليقظة الَّتي يطلبها الإسلام من المسلم ليكون متصلاً بالله في كلِّ لحظة، مراقباً له في كلِّ خطوة، ليلعب دوره الموكول إليه في هذه الحياة، وهو القيام بالتكاليف تجاه ربِّه أو نفسه أو أهله أو مجتمعه أو إخوته في الإنسانية. ثم إن الغيبوبة الَّتي ينشدها مُعاقِر الخمر ما هي في الواقع إلا محاولة فاشلة للهروب من مشاكله ومسؤولياته، والإسلام ينكر عليه هذه الطريق، ويريد منه أن يكون قوياً صلباً في مواجهة الواقعات والأحداث، لأن مواجهتها هي مِحَكُّ العزيمة والإرادة، أمَّا الهروب منها إلى تصوُّرات وأوهام، فهو طريق التحلُّل والانسلاخ عن الواقع، الَّذي يفقد صاحبه هويَّته ومقوِّمات شخصيته، ويعطِّل دوره الإنساني. وأمَّا إذا كان ينشد ما يسمُّونه النشوة، فإن كلَّ لحظة منها ستكلِّفه من سوء السمعة وفساد الصحَّة ما لا يقدَّر بثمن.
    من أجل ذلك كلِّه شدَّد الإسلام العقوبة على شارب الخمر، وأمر أن يُجْلَد ردعاً له وإنقاذاً لروحه؛ أخرج أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من شرب الخمرة فاجلدوه، قالها ثلاثاً، فإن شربها الرابعة فاقتلوه». وفي صحيح مسلم أن عثمان رضي الله عنه قال: (جَلَدَ النبي شارب الخمر أربعين جلدة وكذلك فعل أبو بكر). وعن الإمام علي كرَّم الله وجهه قال: (إذا شرب الرجل سكر، وإذا سكر هذى، وإذا هذى افترى، وعلى المفتري ثمانون جلدة) (رواه الدارقطني). واجتناب الشيء لغة يعني الابتعاد عنه، والاجتناب للخمر لا يعني فقط الامتناع عن شربها؛ وإنما الابتعاد عن كلِّ ما يمتُّ لها بصلة، وعن كلِّ تعامل معها بأيِّ شكل كان، بدليل ما رواه ابن عباس رضي الله عنه قال: سمعت الرسول صلى الله عليه وسلم يقول: «أتاني جبريل فقال: يامحمَّد إن الله لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها وساقيها ومسقيها» (أخرجه الحاكم وصححه البيهقي).
    على أن تحريم الخمر في الإسلام لم يأت دفعة واحدة، بل لقد جاء عبر مراحل وخطوات تمهيدية، لعلاج الأمراض الناجمة عنها، والمتغلغلة في حنايا النفوس وخلايا الجسد. وهذا من الحكمة الَّتي انتهجها الإسلام في معالجة الأمراض الاجتماعية، فقد سلك بالناس طريق التدرُّج في تشريع الأحكام، حتى تتهيَّأ لها النفوس، وتصبح قادرة على تطبيقها، بقناعة فكرية وقبول نفسي، فبدأ بتنفير الناس من الخمر بطريق غير مباشر، كخطوة أولى، وذلك حين أنزل الله تعالى: {ومن ثمراتِ النَّخيلِ والأعنابِ تتَّخذونَ منه سَكَراً ورزقاً حَسناً..} (16 النحل آية 67) وهي تتضمَّن تلميحاً إلى ضرره مع وجود منافع اقتصادية للنخيل والأعناب، حيث ذكر أنهم اتخذوا من ثمراتها سَكَراً ورزقاً فوصف الرزق بأنه حسن وسكت عن السَّكَر لِيَفهمَ السامعَ أنه قبيح.
    ثم تبعتها الخطوة الثانية، وهي تحريك الوجدان الدِّيني في نفوس المسلمين، وتنفيرهم بشكل مباشر من الخمر؛ عن طريق الموازنة بين نفعها المادي الضئيل، وضررها الجسدي والروحي الكبير؛ بنزول الآية الكريمة: {يسألونكَ عن الخمرِ والميسرِ قلْ فيهما إثمٌ كبيرٌ ومنافِعُ للنَّاسِ وإثمُهُما أكبرُ من نفعِهِما..} (2 البقرة آية 219) وفي هذا إيحاء بأن تركهما هو الأَوْلى مادام الإثم أكبر من النفع، إذ أنه قلَّما يخلو شيء من نفع، ولكن الحِلَّ والحرمة ترتكزان على غلبة الضرر أو النفع، فما غلب نفعه حلَّ وما رجح ضرره حرم.
    ثمَّ كانت الخطوة الثالثة، وهي التحريم الجزئي للخمر في أوقات الصلاة، لما لها من أثر سيء على العقل والتفكير، فهي تفقد شاربها القدرة على التركيز والتوجُّه أثناء إقامة فريضة الصلاة، فنزلت الآية الكريمة: {ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تَقْربوا الصَّلاةَ وأنتم سُكارى حتَّى تعلموا ما تقولون..} (4 النساء آية 43) وفي هذا تقليل لفرص المعاقرة العملية للشراب، وكسر لسلطان عادة الإدمان، بتدريب الجسم على ترك الخمر في أوقات معينة، تساعده في النهاية على تركها نهائياً. فكأنَّما حرَّم الخمر في هذا النصِّ سائر النهار، ولم يبق للمولعين بها إلا الليل من بعد صلاة العشاء، وفي هذا التضييق على شاربي الخمر، إعداد لهم وتأهيل، لاستقبال الحكم النهائي بالتحريم القطعي لها.
    ثم جاءت الخطوة الحاسمة، وهي التحريم القطعي للخمر، وفي جميع الأوقات، بعد أن تهيَّأت النفوس والأجساد لها؛ فصدر الأمر الجازم في قوله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا إنَّما الخمرُ والميسرُ والأنصابُ والأزلامُ رجسٌ من عملِ الشَّيطانِ فاجتنبوهُ لعلَّكمْ تُفلحون}، وكان جواب المؤمنين هو السمع والطاعة. جاء في مسند أحمد وأبي داود والترمذي: أن عمر رضي الله عنه كان يدعو الله تعالى (اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً) فلما نزلت آية البقرة قرأها عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، ظلَّ على دعائه، وكذلك لما نزلت آية النساء، فلما نزلت آية المائدة دُعي فقرئت عليه، فلما بلغ قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} قال: انتهينا، انتهينا. ونلاحظ في قوله تعالى: {فهل أنتم منتهون} استفهاماً خرج عن معناه إلى معنى الأمر، أي انتهوا؛ وهذا أسلوب للنهي بألطف الوجوه وأشدِّها تأثيراً في النفوس.
    وفي تحريم الخمر على هذا الترتيب حكمة بالغة، ذلك أن القوم كانوا قد ألِفوا شرب الخمر حتى أصبحت جزءاً من حياتهم، فلو حُرِّمت دفعةً واحدة، ومنذ بداية عهدهم بالإسلام، لشقَّ ذلك عليهم تحت سلطان العادة، وربَّما لم يستجيبوا لهذا النهي. ولا يسعنا في هذا المجال إلا أن نشير إلى أن الإسلام نجح في مكافحة الخمر، وقطع دابره من المجتمع الإسلامي دون إحداث أي ضجيج، في حين فشلت تشريعات البشر في القضاء على ظاهرة الخمرة في المجتمع. فهذه الولايات المتحدة الأمريكية، أصدرت فيما مضى قانوناً يمنع الخمر لشدَّة الأضرار الناجمة عنه، واضطرَّت إلى التراجع عن هذا المنع لأنها لم تسلك السبيل الصحيحة إلى ذلك؛ ألا وهو الإيمان الراسخ بالله عزَّ وجل وبكلِّ عناصر العقيدة، وهذا ما يقوِّي إرادة الإنسان، ويشحنه بطاقات هائلة، فيكون على استعداد لامتثال أمر الله عزَّ وجل، لأنه يجد في هذا الامتثال أعلى درجات السعادة والمتعة. هذا هو السبيل للخلاص من الخمر ولا سبيل سواه، وما على البشرية المعذَّبة، والَّتي تكتوي بنار الخمر، إلا أن تلجأ إلى الله وتعتصم بشرعه الحنيف، لتتخلَّص من كلِّ ما ينغِّص عليها صحَّتها وسعادتها.
    ويجدر بنا الحديث هنا عن تدخين التبغ؛ حيث صدرت أخيرا عدَّة فتاوى بتحريمه، قياساً على تحريم الدم والخمر ولحم الخنزير، لثبوت ضرره بالدَّلائل العلمية القطعية، حـيث أن مادَّة النيكوتين الموجودة في التبغ تتسبَّب في مقتل الجينات الناظمة لتكاثر الخلايا في جسم الإنسان، مما يؤدِّي إلى الإصابة بالسرطان الَّذي هو تكاثر فوضوي غير منضبط للخلايا، وقد اعترفت الشركات المصنِّعة للتبغ بأضراره، ووضعت التحذيرات الصحيَّة على كلِّ علبة لفائف (سجائر أو سيجار).
    ولكن المؤسف هو أن تلك الفتاوى قُوبلت من المدخنين بكثير من العناد، وذلك بسبب تخاذلهم، واستسلامهم لسلطان الإدمان وقهره؛ وهنا يأتي دور الإيمان، ويظهر أثره من خلال التوجُّه نحو حضرة الله، وطلب المدد والعون والقوَّة منه، مع الإرادة القويَّة، والعزم والتصميم، حتى يصل إلى اتخاذ قرار ـ لا رجوع فيه ـ للإقلاع عن التـدخين، حماية لصحَّته وصحَّة زوجه وأولاده ـ حتى الجنين في رحـم أمه ـ وحماية لمن حوله، وهذا ما يتَّفق مع قوله تعالى: {.. وَلا تُلْقُوا بَأَيْدِيكُم إِلى التَّهْلُكَة.. } (2 البقرة آية 195). وما ينطبق على التدخين ينسحب على جميع أنواع المفتِّرات والمخدِّرات والمغيِّبات، أيّاً كان نوعها.
    أمَّا الميسر، أي القمار، فقد حرَّمه الله تعالى لأنه يُفقد الإنسان الإحساس والشعور أثناء انغماسه في اللعب، حتَّى إنه لا يبالي بالمال يخرج من يده إلى غير رجعة، طمعاً في أن ينال أكثر منه، فإذا رجع خاسراً أكلت قلبه الندامة وحرق جوفه الحسد، وامتلأت نفسه حقداً وغيظاً على من سلبه المال. وربَّما أدَّى به ذلك إلى قتل من كان سبباً في خسارته، أو ربَّما قتل نفسه هرباً من عواقب الجريمة الَّتي ارتكبها في حقِّ نفسه وحقِّ عياله. فكم من أسرة تهدَّمت وكم من عائلة تشرَّدت بسبب مقامرة أربابها، بعد أن كانت تتقلَّب في ربوع النعيم والرفاهية. إضافة إلى أنه وسيلة كسبٍ غير مشروعة، لأنها تقوم على الحظِّ والمصادفة، ولا تحتاج إلى عناء عمل أو إعمال فكر، يعودان في النهاية بفائدة على المجتمع. وهكذا فإن طاعة الله عزَّ وجل فيما جاء به من أوامر وإرشادات، للمحافظة على قوام المجتمع سليماً معافى، تقطع دابر الشيطان وتسدُّ في وجهه جميع المنافذ، وتأخذ بيد الإنسان إلى واحة الطمأنينة والسكينة المنشودة، والَّتي هي أمل كلِّ إنسان، لكنَّها لا تتحقَّق إلا بالسير على المنهج الإلهي للحياة.


     
  2. #2
    حبيبة المؤمنة is on a distinguished road الصورة الرمزية حبيبة المؤمنة
    تاريخ التسجيل
    10 / 07 / 2009
    الدولة
    المغرب
    العمر
    66
    المشاركات
    73
    معدل تقييم المستوى
    255

    افتراضي رد: بعض الأحكام والحدود في الإسلام

    الفصل الثالث:
    تحريم القتل وعقوبته
    سورة الإسراء(17)
    قال الله تعالى: {ولا تقتلوا النَّفسَ الَّتي حرَّمَ الله إلاَّ بالحقِّ ومن قُتِلَ مظلوماً فقد جعلنا لوليِّه سُلطاناً فلا يُسْرِفْ في القتلِ إنَّه كان منصوراً(33)}
    ومضات:
    ـ الإسلام دين الحياة ودين السَّلام، وقتل النفس يُعَدُّ من أكبر الكبائر ويأتي بعد الشرك بالله سبحانه وتعالى، فالله عزَّ وجل هو واهب الحياة وليس لأحد أن يزهقها.
    ـ القاتل يُقتَل ويجري عليه القصاص من قبل الحاكم المسؤول، ولا يُسمَح أبداً أن يَطالَ القصاص غير القاتل ممَّن لا ذنب لهم، كعادة (الأخذ بالثأر) الَّتي أبطلها الإسلام.
    في رحاب الآيات:
    لا يمكن للإنسان أن يحقِّق أهدافه، ويبلغ غاياته إلا إذا تمتَّع بحقوقه كاملة، وفي مقدِّمتها حقُّ الحياة وحقُّ التملك، وحقُّ صيانة العرض، وحقُّ الحرِّية وحقُّ المساواة وحقُّ التعلُّم. وكلُّ هذه الحقوق واجبة له من حيث أنه إنسان، بغضِّ النظر عن لونه أو دينه أو جنسه أو وطنه أو مركزه الاجتماعي، قال الله تعالى: {ولقد كرَّمنا بني آدمَ وحملناهُم في البَرِّ والبحرِ ورزقناهُم من الطَّيِّباتِ وفضَّلناهُم على كثيرٍ ممَّن خلقْنا تفضيلاً} (17 الإسراء آية 70). وقد خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجَّة الوداع فقال: «أيُّها الناس! إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، ألا هل بلَّغت؟ اللهمَّ فاشهد» (متفق عليه).
    وقد حرص الإسلام أشدَّ الحرص على حماية حياة الإنسان، فهدَّد من يستحلُّها بأشدِّ عقوبة بقوله تعالى: {ومن يَقْتُلْ مؤمناً متعمِّداً فجزاؤهُ جهنَّمُ خالداً فيها وغَضِبَ الله عليه ولعنَهُ وأعدَّ له عذاباً عظيماً} (4 النساء آية 93)، وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن أهل السماء وأهل الأرض اشتركوا في دم مؤمن لأكبَّهم الله في النار».
    إن القتل يُشيع الفساد والخراب في البلاد، قال تعالى: {ولا تُفسدوا في الأرض بعد إصلاحها..} (7 الأعراف آية 56). ولو أنه أُبيح؛ لفتكَ القويُّ بالضعيف واختلَّ الأمن، وأصبحت الحياة حِكْراً على الأقوى والأغنى. وقد جعل الإسلام لكلِّ نفس حَرَماً آمناً لا يُمسُّ إلا بالحقِّ، وهذا الحقُّ الَّذي يبيح قتل النفس واضح لا غموض فيه، وليس متروكاً للرأي ولا متأثِّراً بالهوى. فمن قُتل مظلوماً بغير حقٍّ فقد جعل الله لوليِّه سلطاناً على القاتل، إن شاء سلَّمه للعدالة لتقتله جزاء فعلته، وإن شاء عفا عنه بِدِيَةٍ أو بلا دِيَة، ومع هذا ينهاه الإسلام عن الإسراف في القتل، أي أن يتجاوز القاتلَ إلى غيره ممن لا ذنب لهم، أو أن يقوم بالتمثيل بالقاتل أو تعذيبه. فالإنسان في شرع الله غير مفروض عليه مخالفة ما غُرس في فطرته من الرغبة العميقة في القصاص، لذلك يلبِّي الإسلام حاجات هذه الفطرة في الحدود المأمونة، ولا يتجاهلها، فلم يفرض التسامح فرضاً، إنما هو يدعو إليه ويؤثره، ويحبِّب فيه، ويؤجر عليه ولكن بعد أن يعطي وليَّ المظلوم حقَّ القصاص، فلوليِّ الدم أن يَقتصَّ أو يصفح، وفي هذا تهدئة للغليان والألم الَّذي تستشعره نفسه، ومن تقيَّد بما شرعه الله من القصاص نصره الله، ونصره الحاكم، وأيَّده الشرع.
    ويستوي في الحرمة قتل المسلم أو الذِّمي، فقد روى البخاري عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من قتل مُعاهَداً لم يَرِحْ رائحة الجنَّة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً».
    وفيما يتعلَّق بقتل النفس فقد حذَّر الله جلَّ وعلا من أن يقتل الإنسان نفسه حيث قال في كتابـه الكريـم: {..ولا تقتلوا أنفسـكم إن الله كان بكم رحيمـاً} (4 النسـاء آية 29)، وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «من تردَّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردَّى فيها خالداً مخلَّداً أبداً، ومن تحسَّى سُمّاً فقتل نفسه فسُمُّه في يده يتحسَّاه في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً، ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجَّأ بها (يضرب بها نفسه) في نار جهنم خالداً مخلَّداً فيها أبداً»، وهكذا فإن الإسلام قد حرَّم قتل النفس؛ وجعله من أكبر الكبائر بعد الشرك بالله، فالله واهب الحياة، وليس لأحد غيره أن يتصرَّف فيها إلا بإذنه وضمن الحدود الَّتي رسمها.
    سورة المائدة(5)
    قال الله تعالى: {من أجْلِ ذلك كتبنا على بني إسرائِيلَ أنَّه من قتلَ نفساً بغير نفسٍ أو فسادٍ في الأرض فكأنَّما قتلَ النَّاس جميعاً ومن أحياها فكأنَّما أحيا النَّاسَ جميعاً ولقد جاءتهُم رسُلُنا بالبيِّناتِ ثمَّ إنَّ كثيراً منهُم بعد ذلك في الأرض لمسرِفونَ(32)}
    ومضات:
    ـ الشريعة الإسلامية شديدة الحرص على توجيه سلوك الإنسان وأخلاقه، وحماية حياته من أي اعتداء، لذلك فهي تشدِّد على ضرورة اتحاد المنظومة البشرية في وجه أية عملية قتل غير مبررة شرعاً.
    ـ ضرب الله تعالى في هذه الآية الكريمة مثلاً، ببني إسرائيل، بسبب تقديسهم للدم اليهودي واستباحتهم ما سواه خلال فترات التاريخ كلِّها ولغاية اليوم.
    ـ شدَّد رسل الله على التعاليم المتعلِّقة بقدسية حياة الإنسان وكرامته، ولكن المتهاونين في تطبيق هذه التعاليم كثيرون، بسبب اعتدادهم بلونهم أو عرقهم أو انتمائهم الدِّيني.
    في رحاب الآيات:
    إن حقَّ الإنسان في الحياة هو أغلى الحقوق وأقدسها على الإطلاق لأن الحياة هي أثمن ما وهبه الله، وبدونها فإنه لا قيمة لأي شيء آخر يملكه مهما كان عظيماً. ولهذا فقد اعتبر الإسلام أن الاعتداء على هذا الحقِّ بالقتل هو أفظع جريمة يرتكبها الإنسان في حقِّ أخيه الإنسان، وقد أغلظ الله تعالى العقوبة عليها، وشدَّد في التحذير منها، وقيَّد إنزال عقوبة القتل بالفرد بشرطين صارمين لا يمكن الحياد عنهما وهما:
    أوَّلاً: أن يكون القتل دفعاً للقتل أو جزاءً عليه. فمن يتعرَّض لاعتداء مباشر على حياته أو أهله أو ماله أو عرضه، لا رادَّ له إلا قتل المعتدي، يحقُّ له أن يقاتل ذلك المعتدي ليدفع أذاه. والقاتل بغير حقٍّ يُقتَل لقاء ما اقترفته يداه، منعاً من انتشار جريمة القتل النكراء بين الناس أو الاستهانة بأمرها.
    ثانياً: أن يكون القتل منعاً للإفساد في الأرض. فيتعيَّن قتل من ينشر الفساد ويلجأ إلى القتل بدافع اللصوصية والاعتداء على الحرمات، أو يمارس تجارة المخدِّرات وأشباهها فينشر السموم بين صفوف الشباب الَّذين هم عماد المجتمع وبُناته الأقوياء، أو أن يخون وطنه ويتجسَّس لصالح أعدائه، فمثل هذا الإنسان يُعدُّ مصدر قلق وخطر يهدِّد حياة الآخرين، وفي قتله صيانة لحياتهم وأمنهم. والهيئة القضائية فقط هي الَّتي تنفِّذ قتله لا الأفراد، ولا يحقُّ لأيِّ جهة سواها، فردية كانت أو جماعية، أن تُنزِلَ الموت بأي إنسان مهما علا شأنها اجتماعياً أو سياسياً أو مادياً.ولكنَّ بعض الناس يخالفون هذا الضابط الدِّيني الَّذي يحفظ الحياة والكرامة الإنسانية، وينتهكون حرمات الله بالاعتداء على أرواح الأبرياء بغير حق.
    لقد كان بنو إسرائيل ولا زالوا أوضح نموذج لهؤلاء الناس، فقد قام المنحرفون والمتطرِّفون منهم بقتل كثير من الأنبياء على مدار التاريخ، وحاول أشقياؤهم قَتْلَ الرسول محمَّد صلى الله عليه وسلم لأنه كشف تحريفهم للتوراة وإضلالهم للناس. لذلك فقد خصَّهم الله تعالى بالذِّكر في هذه الآية، مصوِّراً حالهم الَّذي لم يتبدَّل منذ القرون الغابرة وحتى اليوم. فنحـن نجـد في عصرنــا هذا ـ عصر العلـم والحضـارة والرقي الفكري ـ أن الغلاة منهم والمتطرِّفين لا يزالون يستبيحون دماء الناس، وعلى مشهد من أعين العالم أجمع، دون رادع يثنيهم أو وازع يصرفهم عن جرائمهم، وفي كلِّ يوم نطالع خبراً جديداً عن مقتل العرب من سكان الأراضي المحتلة على أيديهم، وكأن دماء أولئك العرب مباحة، أو كأنهم ليسوا من جنس البشر، مع أنهم شركاؤهم في الإنسانية والعبودية لله الواحد الأحد، وأَتْباعٌ مثلهم لرسالة سماوية مقدَّسة تنزَّلت من عند الله ربِّ الناس أجمعين. وفي الوقت ذاته يُعظِّمون حرمة دمائهم، فيغضبون ويثورون إذا قُتِلَ يهودي واحد في أي بقعة من بقاع العالموكأنهم قُتلوا جميعاً، ولا يزالون يطالبون بثأره ويلاحقون قاتله بعقدة الذنب إلى قيام الساعة.
    وليست هذه الصورة بعيدة أبداً عما يمارسه بعض البيض هنا وهناك ضد الملوَّنين، حيث يرتعون في أحضان الرفاهية المادية، بينما يضطهدون الملوَّنين ولا يتورَّعون عن قتلهم إذا اقتضت مصالحهم ذلك، دون أن يطرف لهم جفن أو تتحرَّك ضمائرهم قيد أُنملة، وكأن هؤلاء الناس لا يستحقُّون الحياة، ولا يحقُّ لهم صيانتها.
    أمَّا الإسلام، الدِّين الإنساني العالمي، فإنه يحفظ حقَّ الحياة لكلِّ إنسان مهما كان جنسه أو لونه أو عرقه أو انتماؤه الدِّيني، ويقرِّر عقوبة شديدة في حقِّ من يعتدي على هذه الحياة، وهي العذاب الشديد والطرد من رحمة الله، ويعتبره معتدياً على الإنسانية كلِّها، وبالتالي ففي حماية الفرد ـ وهو الجزء ـ حماية للإنسانية ككلّ، فمن سوَّلت له نفسه قتل إنسان بريء، لم يتورَّع عن قتل الآلاف لوجود نوازع الشر لديه. هذا من جهة، ومن جهة ثانية فإن كرامة الفرد من كرامة أُمَّته، وقد يؤدي مقتل فرد من أفرادها على يد فرد من أمَّة أخرى، إلى نشوب حرب طاحنة بينهما، يُقتل فيها الآلاف وجميعهم ضحيَّة لفعل القاتل الأوَّل. ومن حفظ حياة إنسان بأن منع عنه القتل، أو نجَّاه من غرق أو حرق أو هلكة أو سوى ذلك، فكأنما أحيا الناس جميعاً، لأن بذرة الخير مزروعة في نفسه ولابدَّ أن تنمو وتزهر وتثمر ويعمَّ خيرها الناس جميعاً.
    والله جلَّ وعلا لم يترك عباده تائهين في شعاب الحياة، بل أرسل إليهم الرسل بالآيات البيِّنات الَّتي تحذِّر وتنذر، وتحبِّب وترغِّب، ولكن ظلمة بعض النفوس حجبت نور الله عنها، فعشَّش الشيطان فيها واتخذها مطية له، فمشى أصحابها في الأرض يُهلكون الحرث والنسل، استعلاءً وغروراً، وحباً للسيطرة واستغلالاً لثروات غيرهم.
    سورة النحل(16)
    قال الله تعالى: {وإنْ عاقبْتُم فعاقبوا بمثلِ ما عُوقِبْتُم به ولئنْ صبَرتُم لهو خيرٌ للصَّابرين(126)}
    ومضات:
    ـ تكفل الشريعة الإسلامية للمؤمن عزَّته وكرامته، وتبيح له الاستعداد واستعمال القوَّة، ليتمكَّن من الدفاع عن نفسه وردِّ أي اعتداء عليه بمثله. وهي في الوقت ذاته تدعوه حين يملك القوَّة والإمكانات للردِّ الحاسم، إلى تمالك أعصابه والتحلِّي بالصبر، صبر الشجاعة مع القدرة لا صبر المهانة، وترغِّبه بالتجاوز عن خصمه والعفو عنه، عسى أن يثوب إلى رشده حين يرى عظمة الإسلام في منعته وفي عفوه.
    في رحاب الآيات:
    الإسلام دين العدل والاعتدال، دين السلم والمسالمة، إلا أنه يدفع عن نفسه وعن أهله البغي. لذلك يُقِرُّ القرآن الكريم وهو الدستور المتوازن الأمثل، في عدد من آياته قاعدة القصاص، وهي المعاملة بالمثل، صيانة للنفس البشرية وحماية لها؛ فالدفاع عنها في حدود القصد والعدل، يحفظ لها كرامتها وعزَّتها، فلا تهون في نفوس الناس. والله تعالى لا يترك دعوته مهينة مهيضة الجناح، والمؤمنون لا يقبلون الضيم وهم دعاة إلى الله ـ والعزَّة جميعاً لله ـ ثم إنهم أمناء على إقامة الحقِّ في الأرض، وتحقيق العدل بين الناس، وهداية البشرية إلى الطريق القويم؛ فكيف ينهضون بهذا كلِّه وهم يُعاقَبون ولا يُعاقِبون، ويُعْتَدَى عليهم فيستكينون؟. ومع تقرير مبدأ القصاص فإن القرآن يدعو إلى العفو والصبر مع الصفح عند القدرة، وذلك في الحالات الَّتي يكون فيها المسلمون قادرين على دفع الشر ووقف العدوان، ولكنَّهم يميلون إلى العفو والصبر، إذا كان أجمل وأعمق أثراً، وأكثر فائدة للدعوة، فأهواؤهم الشخصية لا وزن لها حين تميل مصلحة الدعوة إلى العفو والصبر.
    إنَّ رسولَ الله محمَّداً صلى الله عليه وسلم هو المثل البشري الأعلى في ذلك، فقد أخرج ابن المنذر والطبراني وابن مردويه والبيهقي في الدلائل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم أُحُدْ عندما قُتِل حمزة ومُثِّل به: «لئن ظفرت بقريش لأمثِّلنَّ بسبعين رجلاً منهم، فأنزل الله تعالى: {وإن عاقبْتُم فعاقبوا بمثلِ ما عُوقِبْتُمْ به ولئن صبَرتُم لهو خيرٌ للصَّابرين} فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بل نصبر يارب. ولما مكَّنه الله تعالى منهم وفُتِحت مكَّة عفا عنهم جميعاً وقال: اذهبوا فأنتم الطلقاء». ومن هنا ندرك أنه على الرغم من أن ضبط الإنسان لانفعالاته هو من الصعوبة بمكان، وخاصَّة عندما يتعرَّض للاعتداء أو الإهانة، وعلى الرغم من وجود القوانين السماوية الَّتي تبيح للمُعتدى عليه ردَّ الاعتداء، ومعاقبة المعتدي بمثل ما اعتدى به، وردِّ المظالم إلى أهلها، فإن الله تعالى يرغِّب عباده بالتعالي والتسامي فوق الأحقاد، والتعامل مع الخصوم بالصبر والتسامح، أملاً بتحويل عداوتهم إلى محبَّة، وأذاهم إلى إصلاح، قال تعالى: {ولا تستوي الحسنةُ ولا السيئةُ ادفع بالَّتي هي أحسنُ فإذا الَّذي بينك وبينه عداوةٌ كأنَّه وليٌّ حميم} (41 فصلت آية 34).


     
  3. #3
    حبيبة المؤمنة is on a distinguished road الصورة الرمزية حبيبة المؤمنة
    تاريخ التسجيل
    10 / 07 / 2009
    الدولة
    المغرب
    العمر
    66
    المشاركات
    73
    معدل تقييم المستوى
    255

    افتراضي رد: بعض الأحكام والحدود في الإسلام

    لفصل الرابع:
    تحريم الزنى وعقوبته
    سورة النور(24)
    قال الله تعالى: {سورةٌ أَنْزَلناها وفَرضْناها وأَنْزلنا فيها آياتٍ بيِّناتٍ لعلَّكم تَذَكَّرون(1) الزَّانيةُ والزَّاني فاجْلِدوا كلَّ واحدٍ منهما مائةَ جلدةٍ ولا تأْخذْكُم بهما رأْفَةٌ في دينِ الله إن كنتم تؤمنونَ بالله واليومِ الآخرِ وَلْيَشْهدْ عذابَهُما طائفةٌ من المؤمنين(2)}
    سورة النور(24)
    وقال أيضاً: {إنَّ الَّذين يُحبُّونَ أن تَشِيعَ الفاحشَةُ في الَّذين آمنوا لهم عذابٌ أليمٌ في الدُّنيا والآخرةِ والله يعلمُ وأنتم لا تعلمون(19) ولولا فضْلُ الله عليكم ورحمَتُهُ وأنَّ الله رؤوفٌ رحيم(20) ياأيُّها الَّذين آمنوا لا تتَّبِعوا خُطُواتِ الشَّيطانِ ومن يتَّبعْ خُطُواتِ الشَّيطانِ فإنَّه يأمرُ بالفحشاءِ والمنكرِ ولولا فضْلُ الله عليكم ورحمَتُهُ ما زَكَى منكم من أحدٍ أبداً ولكنَّ الله يُزكِّي من يشاءُ والله سميعٌ عليم(21)}
    ومضات:
    ـ إن جريمة الزنى من أشدِّ الأخطار الَّتي تصيب صميم المجتمع في ضميره وشرفه ووجدانه وصحَّته، لأنها تجعل منه مجتمعاً منحلاً أخلاقياً، ومنهاراً اجتماعياً وصحِّياً.
    ـ الغريزة الجنسية قوَّة فطرية جامحة لا يستطيع المرء لجمها ووضعها في المسار الصحيح إلا بعون الله تعالى ورعايته؛ وبما يملأ قلبه من حبِّ الله وخشيته؛ فتزكو النفس المريضة، وتكتسب المناعة ضدَّ دوافع الشهوة والانحراف.
    ـ إن الكثير من أبناء الدول المتحضرة الَّذين يدرسون الإسلام يرغبون في تطبيق تعاليمه في مجتمعاتهم؛ لكي يتجنَّبوا الأمراض الناجمة عن الفُحش والإباحية.
    في رحاب الآيات:
    يكاد يكون المحور الأساسي الَّذي تدور حوله سورة النور مقتصراً على عملية التربية، الَّتي تشتدُّ في وسائلها إلى درجة تطبيق الحدود كعقاب رادع، وترِقُّ في أسلوبها إلى درجة الاحتكاك مع الإنسان باللمسات الوجدانية الرقيقة، الَّتي تصل القلب بنور الله وآياته المبثوثة في كلِّ مخلوقٍ في هذا الكون الفسيح، وفي ثنايا الحياة الَّتي يعجُّ بها، والهدف واحد في كلٍّ من حالتي الشدَّة واللين ألا وهو تربية الضمائر، وترقية المقاييس الأخلاقية للحياة.
    وقد اشتملت هذه السورة الكريمة على أحكام عامَّة تتعلَّق بالأسرة الَّتي هي النواة الأولى للمجتمع الأكبر؛ ووضَّحت الآداب الاجتماعية الَّتي يجب أن يتمسَّك بها المؤمنون بدءاً من الاستئذان عند الدخول، إلى غضِّ البصر، وحفظ الفرج، وتقييد الاختلاط، كما ذكرت ما ينبغي أن تكون عليه الأسرة المسلمة من العفاف والستر والطهارة والنزاهة، صيانة لها، وحفاظاً عليها من عوامل التفكُّك والانهيار الخلقي. كذلك ذُكرت في هذه السورة بعض الحدود الشرعية كحدِّ الزنى وقذف المحصنات (الاتِّهام بالزنا من غير دليل)، وهذه الحدود إنما شُرعت تطهيراً للمجتمع من الفساد والفوضى، والتحلُّل الخلقي وحفظاً للأمَّة من عوامل التردِّي في مهاوي الإباحية والفجور، الَّتي تسبِّب ضياع الأنساب وذهاب العرض والشرف.. إضافة إلى الأمراض الجسدية الفتَّاكة والمعضلات الاجتماعية الَّتي تنتج عنها. وباختصار فإن هذه السورة عالجت أموراً تخصُّ الأسرة من النواحي الأخلاقية والأدبية والشرعية والصحِّية، وتعرَّضت كذلك لما هو سبب لإشاعة الفاحشة بين الناس، وغير ذلك ممَّا يُعَدُّ علاجاً للأمراض الاجتماعية والمفاسد الخُلقية الَّتي تفتك بالأسرة والمجتمع، إضافة إلى ما فيها من آداب سامية وحكم عالية، وإرشادات سديدة إلى أسس الحياة الفاضلة، وما يجب أن تكون عليه بيوت المؤمنين من النزاهة والعِفَّة والاستقامة والطهر.
    وقد تعرَّضت السورة الكريمة للحديث عن الزنى لأنه يُعَدُّ في نظر الإسلام جريمة نكراء، فهو قتلٌ من نواحٍ شتى، إنه قتل ابتداء لأنه إراقة لمادَّة الحياة في غير موضعها الشرعي، وهو قتل للجماعة من جانب آخر، إذ أن سهولة قضاء الشهوة عن طريق الزنى يجعل الحياة الزوجية أمراً ثانوياً، فتصبح الأسرة وأعباؤها تَبِعةً لا داعي لها، وما من أمَّة فشت فيها الفاحشة إلا كانت عاقبتها الانحلال والدمار؛ منذ قديم الزمان وحتَّى يومنا هذا.
    والله جلَّ وعلا، بحكمته البالغة، أوجد الارتباط بين الذكر والأنثى بالشكل المنظم والمضمون، الَّذي يكفل الحقوق للطرفين وللأولاد، وارتقى بهذه العلاقة إلى المستوى الإنساني الكريم، فحماها من التردِّي إلى الدرك البهيمي الذميم. لقد وضع الإسلام العلاقة بين الزوجين في دائرة الطهارة والعفاف، عن طريق الزواج الشرعي الَّذي يحقِّق الهدف النبيل، والغاية الإنسانية المُثلى، في بقاء النوع الإنساني كما قال تعالى: {والله جعـلَ لـكم من أنفسِـكُم أزواجـاً وجعـلَ لكم من أزواجِكُم بنينَ وحفدة..} (16 النحل آية 72).
    وإذا استقرأنا الواقع وجدنا أن الحضارة الأوربية الَّتي عاشت عشرات السنين وهي تدعو إلى الحرِّية المطلقة، بما في ذلك الحرِّية الجنسية، قد بدأت اليوم تحصد هي وأنصارها نتائج هذا الانفلات من قيود الفضيلة، أمراضاً وأوبئة تفتك بالمذنب بشكل مباشر، كما تفتك بالبريء بشكل غير مباشر عن طريق الوراثة والعدوى ونقل الدم؛ حيث يولد الطفل مصاباً بالمرض الَّذي تحمله الأم الجانية أو الأب الآثم، أو يصاب بمرض كاليرقان فيضطر الطبيب إلى إعطائه دماً تعويضياً، ثم يظهر أن هذا الدم ملوَّث بجرثوم الإيدز. وفي مثل هذه الحالة لو عُرِض الأمر على القضاء وسمح القاضي لوالد هذا الطفل أن يقتصَّ من الجاني الحقيقي الَّذي عاث في الأعراض فساداً كما يشاء، فهل سيكتفي هذا الوالد المتحضِّر بعقابه مئة جلدة، أم أنها ستكون عقوبة صارمة جداً؛ يقتلع بها جذور الشرِّ من أعماق المجتمع الإنساني؟. إن الغربيين لا يعدُّون الزنى جريمة يعاقب عليها القانون إلا إذا تمَّ بالإكراه، أمَّا إذا كان بالرضا فإنه برأيهم لا يستوجب العقوبة لأنه يخلو حينئذٍ من فكرة العدوان، ونتيجة لهذه النظرة المادِّية البحتة والواقع العملي الَّذي نتج عنها، فقد فسدت الروابط العائلية بينهم، وتخرَّبت الأسرة، وانتشرت الأوبئة والجرائم الخُلُقية في مجتمعاتهم. فإذا سلكنا مسلكهم في ذلك نالنا ما نالهم، فالحذرَ الحذرَ من الانزلاق إلى منزلقاتهم، لاسيَّما وقد بدأت بؤر من العدوى تظهر بيننا؛ إنها صرخة الغيور على مجتمعه وأمَّته كي تعتصم بحبل الله وشرعه الكريم، وبذلك تمتطي قارب النجاة في هذا البحر الهادر فتتحقَّق سلامتها بعون الله تعالى.
    والقرآن الكريم يحذِّر من مجرَّد مقاربة ما يفضي إلى الزنى بقوله تعالى: {ولا تَقرَبوا الزِّنا إنَّه كان فاحشةً وساءَ سبيلا} (17 الإسراء آية 32) وهي مبالغة في التحرز؛ لأن الزنى تدفع إليه شهوة عنيفة، لكنها لا تتولَّد بلا أسباب، فإذا ما باشر الإنسان أسبابها ودواعيها لم يبق هناك ضمان لكبحها. لذلك فالإسلام يكره الاختلاط في غير ضرورة، ويحرِّم الخلوة، ويأمر بغضِّ النظر، وينهى عن التبرُّج، ويحضُّ على الزواج لمن استطاع، ويوصي بالصَّوم من لا يستطيع، ويجعل من كلِّ حاجز يمنع من الزواج مكروهاً، وينفي الخوف من العَيْلة والإملاق بسبب الأولاد، ويحضُّ على مساعدة من يبتغون الزواج ليحصِّنوا أنفسهم؛ وفي مقابل ذلك كلِّه فإنه شدَّد العقوبة على من يقع في الزنا، وحدَّدها على الشكل التالي:
    1 ـ عقوبة المُحْصَنَيْنِ (المتزوِّجَيْنِ): إن كان الزانيان مُحْصَنَيْنِ وكانا بالغين عاقلين، حُرَّين، مسلمين، متزوِّجَين بعقد صحيح، وجب رجمهما حتَّى الموت، ويكون ذلك على مرأى من المسلمين ليعتبروا بهما؛ وقد ثبت هذا بالسُّنة برواية الثقات عن النبي صلى الله عليه وسلم .
    2 ـ عقوبة غير المُحْصنين: إذا كان الزانيان غير محصنين (أي لم يسبق لهما زواج)، فالعقوبة مائة جلدة لكلٍّ منهما بحضور جمعٍ من المسلمين، كما مرَّ معنا في الآية الكريمة.
    ولما كان الزنى جريمة منكرة وكانت عقوبته عقوبة صارمة وهي (الجلد أو الرجم) فقد شرطت الشريعة الإسلامية شهادة الشهود لإثبات جريمة الزنى، وأخضعت هذه الشهادة لشروط شديدة حاسمة، بتحقُّقها يُقام الحد، وهي:
    أوَّلاً: أن يكون الشهود أربعة لقوله تعالى: {واللاَّتي يَأتِيْنَ الفاحشةَ من نسائِكُم فاستشهدوا عليهِنَّ أربعةً منكم..} (4 النساء آية 15) وقوله أيضاً: {والَّذين يرمونَ المحصناتِ ثمَّ لم يأتوا بأربعةِ شهداءَ فاجلدوهم ثمانينَ جلدةً..} (24 النور آية 4) بخلاف سائر القضايا فإنه يُقبَل فيها شهادة اثنين فقط.
    ثانياً: أن يكون الشهود ذكوراً من أهل العدالة ــكما في كلِّ شهادة ـلقوله تعالى: {..وأَشْهدوا ذَوَيْ عدلٍ منكم..} (65 الطلاق آية 2).
    ثالثاً: أن يكون الشهود مسلمين عاقلين بالغين.
    رابعاً: أن يكونوا قد رأوا الجريمة بتفاصيلها ودقائقها بأعينهم (أي أن يروا ما يمكن وصفه بالمِيل في المُكحُلَة)، بهذا الوضوح التام الَّذي لا شبهة فيه على الإطلاق، وهذا بلاشك لا يمكن أن يتحقَّق أو يُتَصوَّر إلا إذا كان الزانيان يباشران جريمتهما بشكل مكشوف كما يفعل الحيوان.
    خامساً: اتحاد المجلس بأن يشهد الشهود مجتمعين، فإن جاؤوا متفرقين لا تقبل شهادتهم.
    وكان غرض الشارع من هذا التشديد أن يسدَّ السبيل على الَّذين يتَّهمون الأبرياء ظلماً ويقذفون المحصنات بهتاناً، كلُّ ذلك بغية حماية الإنسان أن تطاله العقوبة وهو بريء من فعل ما يوجبها، إذ أن غرض الإسلام منها هو الردع عن ممارسة أسبابها؛ لا إيقاعها بالفعل، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ادرؤوا الحدود بالشُّبُهات» (رواه الخمسة) فربَّما كانا في فراش واحد ولم تحصل منهما جريمة الزنى.
    كما يمكن إثبات الزنى عن طريق الإقرار، بأن يشهد الشخص على نفسه ويعترف اعترافاً صريحاً بالزنى. وقد أخذ الرسول صلى الله عليه وسلم باعتراف ماعز والغامدية، وأقام عليهما الحدَّ بعد إصرارهما على الاعتراف ولم يكلِّفهما البيِّنة، ولكن التثبُّت في أمر الإقرار مطلوب، حيث ذكر النبي صلى الله عليه وسلم لماعز ما عساه أن يصرفه عن الاعتراف فقال له أربع مرات: «لعلك قبَّلت، لعلك نظرت» حتَّى ذكر له ماعز أنه فعل الزنا باللفظ الصريح الَّذي لا شُبْهة فيه، كلُّ ذلك بغية التثبُّت من جهة، وفتحاً لباب الرجوع عن الاعتراف واللجوء إلى التوبة والاستغفار، فإن التائب من الذَّنْب كمن لا ذَنْب له، شرط أن تكون هذه التوبة توبة حقيقية. وعدَّ بعض الفقهاء حمل المرأة الَّتي ليست في عصمة رجل، قرينة على اقتراف فاحشة الزنى.
    ولم يحصل في عصره صلى الله عليه وسلم إقامة حدِّ الزنى إلا عن طريق الإقرار، وفي حادثتين اثنتين، إحداهما حادثة ماعز بن مالك الأسلمي، الَّذي جاء الرسول صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فناداه: «يارسول الله إني زنيت. فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: ويحك ارجع فاستغفر الله وتب إليه، وتنحَّى عنه. فأعرض قبله فقال: (إني زنيت) فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم ثانية وتنحَّى عنه، فأعرض قبله فقال: طهِّرني يارسول الله فقد زنيت. فقال له أبو بكر الصديق: لو أقررت الرابعة لرجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولكنه أبى فقال: يارسول الله زنيت فطهِّرني. فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعلك قبَّلت أو غمزت أو نظرت؟ قال: لا. فسأله رسول الله باللفظ الصريح الَّذي معناه (الجماع) فقال: نعم. قال: حتَّى غاب ذلك منك في ذلك منها؟ قال: نعم. قال: كما يغيب الميل في المُكْحُلة والرشاء في البئر؟ قال: نعم. فسأله النبي صلى الله عليه وسلم : هل تدري ما الزنى؟ قال: نعم أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من أهله حلالاً، قال: فما تريد بهذا القول؟ قال: إني أريد أن تطهِّرني. فأمر صلى الله عليه وسلم به فرُجم. وسمع الرسول صلى الله عليه وسلم بعض الصحابة يتكلَّم عنه ويقول: لقد رُجم رجم الكلاب فغضب صلى الله عليه وسلم وقال: لقد تاب توبة لو قُسِمَتْ بين أمَّة لوسعتهم». وفي رواية أخرى: «والَّذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنَّة ينغمس فيها» (رواه الشيخان وأبو داود والترمذي).
    أمَّا الحادثة الثانية فهي حادثة الغامدية، فقد روى مسلم في صحيحه أن امرأة تدعى الغامدية جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: «يارسول الله إني زنيت فطهِّرني. فردَّها صلى الله عليه وسلم ، فلما كان من الغد قالت: يارسول الله لِمَ ترُدُّني؟ لعلك تردُّني كما رددت ماعزاً؟ فوالله إني لحبلى، فقال: أمَّا الآن فاذهبي حتَّى تَلِدي. فلما ولدت أتته بالصبي في خرقة، قالت: هذا قد ولدته، قال: فاذهبي فأرضعيه حتَّى تفطميه. فلما فطمته أتته بالصبي في يده كسرة خبز، فقالت: هذا يانبي الله قد فَطَمتُه وقد أكل الطعام. فدفع الصبيَّ إلى رجل من المسلمين ثم أمر بها فحفر لها إلى صدرها وأمر الناس فرجموها، فنضح الدم على وجه خالد بن الوليد فسبَّها، فسمعه صلى الله عليه وسلم فقال: مهلاً ياخالد فوالَّذي نفسي بيده لقد تابت توبة لو تابها صاحب مُكْسٍ لغُفِرَ له، ثم أمر بها فصُلِّي عليها ودفنت» (رواه مسلم وأصحاب السنن) (المكس: هو النقص والظلم)، فانظر إلى هذه النفوس الكريمة الَّتي لم تتحمل عِظَمَ هذا الذنب فجاءت تريد الطهارة منه.
    ولعلَّ بعض الَّذين تأثَّروا بالثقافة الغربية يرون في هذه الحدود والعقوبات، شيئاً من الشدَّة والقسوة، الَّتي لا تتَّفق مع روح العصر، والواقع أن العقوبة الَّتي شرَّعها الإسلام صارمة، ولكنَّها في الوقت نفسه عادلة، فهي تقع فقط على من استهتر، وسعى في طريق شهوته دون أن يبالي بأي طريق نال الشهوة، ولا ما يترتَّب عليها من أخطار وأضرار. ثمَّ إن الإسلام يعتبر الزنى لوثة أخلاقية وجريمة اجتماعية خطيرة، ينبغي أن تكافَحَ دون هوادة، ولكنه لا يفرض هذه العقوبة الصارمة (الجلد أو الرجم) ـ كما بيَّنا ـ لمجرد التهمة أو الظن، بل على النقيض يوجب التحقُّق والتثبُّت، ويُدرأ الحدُّ بالشُّبُهات، ويشترط شروطاً شديدة تكاد لا تتوافر؛ هي شهادة أربعة رجال مؤمنين عدول يشهدون بوقوعها، ويشهدون على مثل ضوء الشمس، أو اعترافاً صريحاً لا شُبهة فيه من الشخص الَّذي اقترف الجريمة. ولا يخفى على كلِّ ذي نظر أن الاعتراف سلوك باعثه داخلي ذاتي، ولا يحصل إلا من قِبَل أصحاب الإحساس المرهف، والضمير الإيماني الحي اليقِظ، الَّذي يحمل صاحبه على الاعتراف بأمرٍ ستره الله عليه لينال عقاب الدنيا ويطهِّر به نفسه من دنس المعصية، فيَلقى ربَّه طاهراً نقياً. فأي سلطان للقاضي في مثل هذه الأحوال إذا قام الفرد بعمله وكتم ذلك في نفسه، لاسيَّما وأن الله تعالى فتح باب التوبة لكلِّ من أراد إرادة حقيقية تَرْكَ ما حرَّم الله، وسلوكَ سبيلِ ما أباح وأحلَّ.
    إن الناظر بعُمقٍ يرى أن إثبات جريمة الزنى بالبيِّنة والشهادة أمر شبه مستحيل، وأن الإسلام أمَرَ القاضي بهذا الحرص الشديد في قبول الاعتراف من المعترفين، فيخرج بنتيجة مفادها أنه أمر بالحدِّ والعقوبة تلويحاً بها وزجراً، فإذا ما وقع بها بعض المسلمين تحت ظرف ما من الظروف، وبعد أن عاد إلى رُشده وصحا إيمانه وضميره؛ التمس له الشرع الوسائل والأسباب الَّتي تمنع عنه العقاب، وتوجِّهه إلى أبواب رحمة الله، ضارعاً إليه تائباً متنصِّلاً من ذنبه، ليجد ربَّه غفوراً رحيماً.
    ونظراً لبشاعة جريمة الزنى ولفداحة الخسائر الَّتي تنجم عنه، فقد أوضح النبي صلى الله عليه وسلم هذه الأخطار سواء منها الدنيوية والأخروية، فقد رُوي عن حذيفة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يامعشر الناس! اتقوا الزنى فإن فيه ستَّ خصالٍ: ثلاثاً في الدنيا وثلاثاً في الآخرة، أمَّا الَّتي في الدنيا فيُذهب البهاء، ويُورث الفقر، وينقص العمر، وأمَّا الَّتي في الآخرة فسخط الله سبحانه وتعالى، وسوء الحساب، وعذاب النار» (أخرجه البيهقي في الشعب).
    وقد حذَّر الله تعالى من الرأفة أو الرحمة في إقامة الحدِّ؛ بعد أن تثبت الجريمة بشكل قاطع، لا لَبْس فيه ولا خفاء، فقال تعالى: {الزَّانية والزَّاني فاجلدوا كلَّ واحد منهما مائة جلدة ولا تأْخُذْكُم بهما رَأْفَةٌ في دينِ الله}، لأن الرأفة والرحمة قد تُخَفِّف شدَّتكم في الحقِّ فتعطِّلوا الحدود، أو تخفِّفوا الضرب؛ فالواجب هو أن تكونوا حازمين في دين الله، وذلك لاجتثاث أسباب الفتنة من جذورها، وليأخذ المتهاونون في شرع الله الأمر على محمل الجد، وتدبُّر العواقب قبل أن تقع الواقعة. والعقوبة لا تقتصر على من يرتكب جريمة الزنى فحسب، بل إنها تمتدُّ لتشمل كلَّ من يُعين عليها، ويكون سبباً في إشاعتها؛ بنشر الفاحشة بين الناس وتشجيعهم على ارتكابها، لأنه مجرم في حقِّ مجتمعه إذ يحوِّله إلى مجتمع بهيمي حيواني، لا عقلانية تردعه ولا أخلاق تقوِّمه. ومن ذلك ما يفعله تجار الجنس في يومنا هذا، زمن الأفلام والفيديو، حيث يُحضرون زناة من الجنسين، وحتَّى من الجنس الواحد ليمارسوا أقبح الأعمال وأوقحها، وآلة التصوير تدور معهم حيثما داروا، ليُخرِجوا بذلك فيلماً تتخاطفه النفوس المريضة، ويشاهده المراهقون في غفلة من آبائهم، لتنهار بذلك القيم، ولنخرج بإحصائية مرعبة نجد فيها أطفالاً يمارسون الجنس، وفتيات يَحملن دون زواج وهنَّ دون الخامسة عشرة من أعمارهن، ولنجد أعمال الجنس تُمارَس في الأسرة الواحدة بين الأب وبناته، وبين الأخ وأخته، وبين الرجل والرجل وبين الفتاة والفتاة. ومحصِّلة ذلك كلِّه: أوبئة تستشري، ومجتمعات تنحلُّ، ومخدِّرات تتفشى، حتَّى ليتمنَّى المرء من هؤلاء أن يدركه الموت في أيَّة لحظة ليتخلَّص من الآلام الَّتي تنهش فيه، علاوة على الاضطرابات الفكرية والنفسية، الَّتي أودت وتودي بكثير منهم إلى الانتحار أو الجنون. ولو أنَّا أقمنا عقوبة الرجم في حقِّ تجار الجنس وأعوانهم، لأنقذنا عدداً كبيراً من الناس من الهلاك والدمار. لذلك كلِّه، يشدِّد الله تعالى في تحذير عباده من اتِّباع خطوات الشيطان، أو سلوك مسالكه بإشاعة الفاحشة، فمن ينهج نهجه فإنه يضلُّ عن السبيل القويم، فهو لا يأمر إلا بالمنكر الَّذي ينكره الشرع، وتنفر منه العقول والأذواق السليمة. ولولا فضل الله على المؤمنين الَّذي تفضَّلَ به عليهم، بإخراجهم من ظلمات الجهل والضلال، إلى نور العلم والتربية، ما زَكى ولا تطهَّر منهم من أحد، ولكنهم عندما اهتدَوْا بذلك النور ظهرت آثاره في أخلاقهم وآدابهم، وانعكس ضياؤه في قلوبهم فأشرقت، وفي أرواحهم فرقَّت وشفَّت، وفي ضمائرهم فاستيقظت وتنبَّهت، فاستنارت جميع جوانب حياتهم، بذلك النور الإلهي الشامل لجميع ما في الكون.
    سورة الأعراف(7)
    قال الله تعالى: {ولوطاً إذ قالَ لقومِهِ أتأتونَ الفاحشةَ ما سبَقَكُم بها من أحدٍ من العالَمِين(80) إنَّكم لتأتونَ الرِّجالَ شهوةً من دونِ النِّساءِ بل أنتم قومٌ مُسرفون(81) وما كان جوابَ قومِهِ إلاَّ أن قالوا أخرِجوهم من قريَتِكم إنَّهم أُناسٌ يتطهَّرون(82) فأنجيناهُ وأهلَهُ إلاَّ امرأَتَهُ كانت من الغابِرين(83) وأمطرنا عليهم مطراً فانْظُرْ كيف كان عاقبةُ المجرمين(84)}
    سورة العنكبوت(29)
    وقال أيضاً: {ولوطاً إذ قال لقومِهِ إنَّكم لتأتونَ الفاحشةَ ما سبَقَكُم بها من أحدٍ من العالمين(28) أئنَّكم لتأتونَ الرِّجالَ وتقطعونَ السَّبيلَ وتأتونَ في ناديكُمُ المنكَرَ فما كان جوابَ قومِهِ إلاَّ أن قالوا ائتِنا بعذابِ الله إن كنتَ من الصَّادقين(29) قال ربِّ انصرني على القومِ المفسدين(30)}
    سورة الأنبياء(21)
    وقال أيضاً: {ولوطاً آتيناهُ حُكْماً وعِلْماً ونجَّيناهُ من القريةِ الَّتي كانت تعمل الخبائثَ إنَّهم كانوا قومَ سَوْءٍ فاسقين(74) وأدخلناهُ في رحمَتنا إنَّه من الصَّالحين(75)}
    ومضات:
    ـ لو علم الله خيراً في الشذوذ الجنسي لأباحه، وما كان تحريمه إلا لكثرة أضراره النفسية والصحِّية والاجتماعية، وحتَّى اليوم لم يكتشف العلم عنه سوى المزيد من الآثار المدمِّرة لصاحبه ولمجتمعه.
    في رحاب الآيات:
    لقد خلق الله تعالى الحياة وجعل لها نظاماً دقيقاً تسير أمورها وفقاً له، وخلق الإنسان وأعطاه إمكانات التعايش مع هذا النظام، وإن أي إساءة في تطبيقه أو معاندة في تنفيذه، تحدث الخلل والاضطراب في حياة الإنسان وما حوله. والإنسان يلتزم تلقائياً بهذا النظام في حياته العملية، سعياً للحفاظ على راحته وبقائه، والأجدر به أن يلتزم في سلوكه الجنسي بالقوانين الإلهية، للحفاظ على سعادته الروحية والإبقاء على الجنس البشري وحضارته. وإن من هذه القوانين قانون الله في التوالد الَّذي يحكم الكون بأسره، فما من شيء في هذا الوجود إلا ويتوالد بالتقاء عنصرين متخالفين متكاملين: الذكر والأنثى، أو السالب والموجب. وفي عموم الطبيعة نشهد تلاقح الذكورة مع الأنوثة؛ ففي النبات يولِّد الثمرة، وفي مجال الكهرباء تتولَّد الطاقة والإضاءة من تلاقي الشحنات الكهربائية السالبة مع الشحنات الموجبة، بينمايسفر تلاقي الشحنات المتماثلة عن تنافر، ولا يأتي بأية طاقة. وكذلك النسل والإنجاب عند الإنسان لا يتمُّ إلا عن طريق التقاء الرجل مع المرأة؛ ولولا تلاقيهما لانقرض الجنس البشري، وكذلك الحال في عالم الحيوان. إذن، فقانون بقاء النوع قائم على هذا التزاوج الإيجابي البنَّاء، وإن الإخلال بهذا القانون يؤدِّي إلى تعطيل توالد هذه الأجناس ومن ثَمَّ اندثارها.
    والآيات الكريمة الَّتي نحن بصددها تعرض نموذجاً لهؤلاء الَّذين عطَّلوا قانون الله بانحرافهم عن فطرتهم، وفساد سلوكهم، فألحقوا بأنفسهم الدمار والخراب، إنهم قوم لوط، الَّذين أحدثوا في عهدهم ما لم يحدثه غيرهم من الأمم السابقة، حيث جنحوا إلى الاتصال الجنسي بين الرجل والرجل بما فيه من القبح الَّذي يمجُّه الذوق السليم، وينبو عنه الخلق الكريم، وانحدروا بذلك حتَّى عن مستوى البهائم. فلم نرَ أبداً حيواناً ذكراً يقارب ذكراً مثلـه، لأن غريزتـه لا تتحـرَّك في هذا الاتجاه ـ إلا في حالات نادرة ـ فهل يُعقل أن تكون الغريزة الحيوانية أرقى من بعض أفراد النوع البشري؟؟ لقد عطَّلوا بذلك قانون الزوجية الَّذي يقضي بالتقاء الرجل والمرأة لغايتين نبيلتين: أولاهما تحقيق المتعة الحلال كما أمر الله تعالى، وثانيتهما إنجاب الأولاد لحفظ النسل وعمارة الكون.
    وقد حرَّم الله تعالى الشذوذ الجنسي هذا لأنه:
    1 ـ مفسدة لنفسية الشـباب يزرع السـلبية فيهم ولا يشـبع عواطفهم، فهم لا يستطيعون ممارسته غالباً إلا بعد تعاطي الخمرة أو المخدِّرات لخلق جو وهمي من المتعة بداخلهم؛ وهذا يعني أنه يجرُّهم إلى المزيد من الدمار والعدائية.
    2 ـ مفسدة للنساء اللواتي ينصرف أزواجهن عنهن إلى الرجال، ويقصِّرون فيما يجب عليهم من إحصانهن، فينجرفن إلى طريق الانحراف أو الشذوذ بين بعضهن، أو يرتمين في أحضان رجال غرباء عنهن.
    3 ـ تقليل النسل؛ فمن وقع في براثن الشذوذ فرغب عن الزواج، وتنصَّل من تحمُّل مسؤوليته، فقد ساهم في تهديم مجتمعه، والحدِّ من نسبة التوالد فيه.
    4 ـ الأمراض الفتَّاكة القاتلة الَّتي تنجم عنه، والَّتي كان آخرها مرض فقد المناعة الخطير المعروف باسم الإيدز أو السِيدا.
    لذلك كلِّه بعث الله الرسل، ليحذِّروا أقوامهم وينذروهم من أن يضلُّوا في شعاب الرذيلة، أو ينغمسوا في حمأة الخطيئة، فها هو لوط عليه السَّلام كما تصفه الآيات الكريمة، يفتح باب الحوار بينه وبين قومه، طارحاً عليهم سؤالاً استنكارياً: {أتأتونَ الفاحشة} وهو يعرف جوابه ولكنه ينكره لبشاعته، فلعلَّ ألسنتهم تخجل من النطق به، ولعلَّ صحوتهم الروحية ترتدُّ إليهم، لكن القوم جاهروا بالمعصية وأصرُّوا عليها، فتابع حواره معهم أملاً في إنقاذهم، وعدولهم عن فعلتهم الذميمة، وترغيبهم بمباشرة النساء بالزواج المشروع، فهنَّ أطهر وأزكى، لكنَّهم سخِروا منه وقالوا: أنت تعلم أننا لا نرغب في النساء! ولكنه لم يَيئَسْ وبيَّن لهم بشاعة فضائحهم الأخلاقية من إتيان الذكور، والتعرُّض لهم في الطرقات، والقيام بأعمال مُخِلَّة بالآداب العامَّة؛ لإثارة غرائزهم كالصفير، ورمي الحصى، وفكِّ الإزار، ثم انتقل إلى مجالسهم فعرَّاها بكلِّ ما فيها من فواحش، حيث كانوا يمارسون الشذوذ بشكل علني دون تورُّع ولا خجل، وأنذرهم عقاب الله. ولكنَّ جهوده كلَّها لم تؤثِّر في تلك القلوب الميتة، فتابع تحذيرهم، وذكَّرهم بمصير الأمم السابقة الَّتي عتت عن أمر ربِّها، فكانت عاقبة أمرها خُسراً، فأمعنوا في السُّخرية منه وسفَّهوا رأيه وقالوا متحَدِّين إيَّاه: أرنا إذن العذاب الَّذي تتوعَّدنا به. وازدادوا عناداً وإصراراً، وائتمروا به ليخرجوه من قريتهم، ورمَوه بأنبل تهمة يمكن أن توجَّه إلى إنسان؛ وهي الطعن به أنه طاهر، تلك الصفة الجليلة ذات الأهمية البالغة، في نظر من استقامت به السبل، وانعقدت له أسباب الهداية.
    هنالك، أعيت لوطاً عليه السَّلام الحيلة، ونفض يديه من القوم، ودعا الله قائلاً: {..ربِّ انصُرني على القومِ المفسدين}، فأوحى إليه ربُّه أن اترك القرية وارحل ومعك أهلك، إلا امرأتك فإنه مُصيبها ما أصاب القوم، وخرج من القرية، فأمطرها الله بوابل من العذاب، وخسف الأرض بمن كان عليها من الشواذ، وأصبحوا عبرة لمن أراد أن يعتبر حتَّى قيام الساعة.
    وقد حذَّر الرسول صلى الله عليه وسلم من الاقتداء بقوم لوط فقال: «إن أخوف ما أخاف على أمتي عمل قوم لوط» (أخرجه أحمد والترمذي وحسَّنه ابن ماجه والبيهقي) وورد عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به» (أخرجه عبد الرزاق وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه والحاكم والبيهقي).
    وممَّا يؤسف له أشد الأسف أن نرى اليوم شرذمةً من أبناء الدول الراقية يمارسون هذا الشذوذ، في وقت أدركوا فيه من خلال علومهم المتقدِّمة نتائجه الفتَّاكة، والأمراض الخطيرة الناجمة عنه، والَّتي عمَّ ضررها المذنب والبريء. فهل من عودة إلى طريق الله المستقيم؟ وهل من استجابة لنداء الله الَّذي يتَّفق مع الفطرة الَّتي تتلوَّى ألماً، والضحايا يتساقطون بالملايين، فيصحو الإنسان من شرِّ عمله، وتعود إليه طمأنينته وعافيته وتوازنه النفسي، فيسعد في دنياه قبل أن يسعد في أخراه؟!.


     
  4. #4
    حبيبة المؤمنة is on a distinguished road الصورة الرمزية حبيبة المؤمنة
    تاريخ التسجيل
    10 / 07 / 2009
    الدولة
    المغرب
    العمر
    66
    المشاركات
    73
    معدل تقييم المستوى
    255

    افتراضي رد: بعض الأحكام والحدود في الإسلام

    الفصل الخامس:
    تحريم القذف وعقوبته
    سورة النور(24)
    قال الله تعالى: {والَّذين يرمونَ المُحْصناتِ ثمَّ لم يأتوا بأربعةِ شهداءَ فاجلِدُوهم ثمانينَ جلدةً ولا تقْبَلوا لهم شهادةً أبداً وأولئك همُ الفاسقون(4) إلاَّ الَّذين تابوا من بعدِ ذلك وأصلحوا فإنَّ الله غفورٌ رحيم(5)}
    ومضات:
    ـ إنَّ تَرْكَ الألسنة تنهش في أعراض الناس، دون دليل قاطع وشهادة بيِّنة، يُنذِرُ بتفشي حالة من الشكِّ والريبة بين أفراد الأسر الشريفة، ويهدِّد بانهيارها.
    ـ لقد حمى الإسلام أعراض الناس وأموالهم وحريَّاتهم الشخصية، فأحاطها بسياج كثيف من الضمانات والزواجر الرادعة، وجعل أيَّ اعتداء عليها سبباً للعقاب الشديد، والحرمان من بعض الحقوق المدنية.
    ـ على الرغم من فداحة ذنب التعدِّي على حرمات الناس، فقد ترك الله تعالى باب التوبة مفتوحاً، لمن تاب من أولئك المعتدين، وأصلح ما أفسده واستقام في سيرته.
    في رحاب الآيات:
    اعتاد كثيرون من عامَّة الناس وجهلائهم أن يقضوا أوقات التقائهم وسهراتهم في التحدُّث عن الآخرين، وتعرية أخطائهم وانتقاد تصرُّفاتهم الشخصية، ونادراً ما تخلو أحاديثهم من الإضافات والمبالغات بغرض الإثارة والتشويق. وهذه التُرَّهات من الكلام محرَّمة شرعاً وتدخل تحت مصطلح الغيبة والنميمة، فلا يجوز حضور هذه المجالس حتَّى يخوض أصحابها في أحاديث مثمرة مفيدة لمصلحة الفرد والجماعة.
    ويتمادى الناس في تلك المجالس في انتهاك أعراض الآخرين، وتشويه سمعتهم الأخلاقية، ويبلغ تماديهم ذروته عندما يرمي بعضهم رجلاً أو امرأة بتهمة الزنى، سواء كان رَميه لهما مباشراً كأن يقول: فلان رجل زان، أو فلانة امرأة زانية، أو كان رميه غير مباشر كأن ينسب شخصاً إلى غير أبيه، أو يشتمه بقوله: أنت ابن حرام. فمن صدر منه هذا التصرف اعتبر قاذفاً، وجزاؤه أن يُجلد ثمانين جلدة، ما لم يأت بأربعة شهداء، رأوا المتَّهم بأعينهم وهو يزني، وإلا فيُقامُ عليه الحَدُّ، رجلاً كان القاذف أو امرأة. ولا يخفى أنه يُشترط في هذه الشهادة من التثبُّت واليقين ما يُشترط لإثبات الزنى، وإلا عُدَّ الشهود جميعاً قاذفين، ويجب على القاضي إقامة حدِّ القذف عليهم، كلُّ ذلك ضماناً للأعراض وعدم تركها ألعوبة تلوكها ألسنة السفهاء وتشوِّهها النيَّات الخبيثة.
    وقد أشارت الآية الكريمة إلى شرط من أهمِّ الشروط الَّتي توجب العقوبة؛ وهو أن يكون المقذوف مُحْصَناً؛ ذَكراً كان أم أنثى. ومعنى الإحصان هنا أن لا يكون المتَّهم قد ارتكب جريمة الزنى قبل أن يُقذف بها، بل كان عفيفاً طاهراً. أمَّا إن ثبت عنه ذلك فلا يكون محصناً، وبالتالي تسقط العقوبة الدنيوية عن القاذف، ولا يخلو اتِّهامه هذا من إثم يستحقُّ عليه العقوبة في الدار الآخرة.
    وقد خصَّ الله تعالى المقذوفات من النساء بالذِّكر في الآية بقوله: {المُحْصَنات} لأن قذف المرأة والنَّيلَ من سمعتها يتعدَّى ضرره إلى جميع أفراد أسرتها، فيُلْحِق بهم عاراً كبيراً بخلاف الرجل. أمَّا تخصيصه للقاذفين من الرجال بقوله: {والَّذين يرمون} لأن صنف النساء يغلب عليهن الحياء عادة فلا يقذفن الرجل بالزنى.
    ولم يكتف الإسلام بعقوبة الجَلْدِ في حقِّ القاذفين، بل إنه أقام حَجْراً مدنياً على هؤلاء المتهتكين، فلم يقبل لهم شهادة بعدها أبداً، وهذا العقاب أشدُّ إيلاماً للنفس وأوجع. وهناك عقوبة ثالثة هي وصمهم بالفسق، والانحراف عن طريق الله المستقيم. وقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن تتبُّع عورات المسلمين وإفشاء سرِّهم فقال: «يامعشر من أسلم بلسانه ولم يُفْضِ الإيمان إلى قلبه! لا تؤذوا المسلمين ولا تتبَّعوا عوراتهم، فإن من تتبَّع عورة أخيه المسلم تتبَّع الله عزَّ وجل عورته، ومن تتبَّع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله» (رواه الترمذي وغيره مرفوعاً) وقال أيضاً: «من علم من أخيه سيئة فسترها ستر الله عليه يوم القيامة» (رواه الطبراني).
    وتبقى مِظلَّة الإسلام الرحيم، تشمل التائب بظلالها وبركاتها، فتنشر عليه عفو الله ومغفرته، فمن اعترف بذنبه من بعد معاقبته، والتزم بشروط التوبة الحقيقية، وأصلح الضرر الحاصل عن شهادته الكاذبة، فإن الله تعالى غفور رحيم.
    ونستنتج من ذلك كلِّه أن الإسلام قد حرص أشدَّ الحرص على تمتين الروابط الاجتماعية والأخلاقية في المجتمع الإسلامي، وصان سمعة الناس بصيانة أعراضهم وخاصَّةً النساء؛ لأن سمعة المرأة الأخلاقية أثمن شيء تملكه، فجاء زَجْرُ السُّنَّةِ عن انتهاك الأعراض كما مرَّ في الحديث السابق؛ وهاهو ذا كتاب الله الخالد يهدِّد هؤلاء المجرمين بحقِّ ?أعراض غيرهم، بأشد تهديد يمكن أن يسمعه أولئك المغفَّلون، الَّذين أطلقوا لألسنتهم العنان تنهش في أعراض إخوانهم، فقال تعالى: {إنَّ الَّذين يرمونَ المُحْصَناتِ الغافلاتِ المؤمناتِ لُعِنوا في الدُّنيا والآخرةِ ولهم عذابٌ عظيم} (24 النور آية 23).


     
  5. #5
    حبيبة المؤمنة is on a distinguished road الصورة الرمزية حبيبة المؤمنة
    تاريخ التسجيل
    10 / 07 / 2009
    الدولة
    المغرب
    العمر
    66
    المشاركات
    73
    معدل تقييم المستوى
    255

    افتراضي رد: بعض الأحكام والحدود في الإسلام

    لفصل السادس:
    تحريم السَّرقة وعقوبتها
    سورة المائدة(5)
    قال الله تعالى: {والسَّارقُ والسَّارقةُ فاقطعوا أيْدِيَهُما جزاءً بما كسبا نَكالاً من الله والله عزيزٌ حكيمٌ(38) فمن تابَ من بعدِ ظُلْمهِ وأصلحَ فإنَّ الله يتوبُ عليه إنَّ الله غفورٌ رحيمٌ(39)}
    ومضات:
    ـ الإسلام يعالج المشاكل من جذورها، ولا تهاون في تشريعه ولا محاباة لشخص على حساب شخص آخر، والجميع سواسية أمام أحكامه.
    ـ توبة السارق وإعادته الحقوق إلى أصحابها، قبل انكشاف أمره، يُسقِطُ عنه الحدَّ ويضعه في عداد التائبين.
    ـ يمكن للسارق في الإسلام أن يعود عضواً فاعلاً وصالحاً بعد أن يتوب، وينال العقوبة المترتِّبة على سرقته، ويتمتَّع بكامل حقوقه المدنية والإنسانية.
    في رحاب الآيات:
    احترم الإسلام حقَّ الملكية للأفراد، وجعل صيانتها حقاً من حقوقهم المقدَّسة، وعدَّ جريمة الاعتداء على الأموال، كجريمة الاعتداء على النفس أو العرض، ومن ارتكب واحدة منها فقد استوجب أشدَّ أنواع العقوبات، أمَّا من يموت مدافعاً عن حقِّ من هذه الحقوق فإنه يموت شهيداً. عن سعيد بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قُتِل دون ماله فهو شهيد، ومن قُتِل دون دمه فهو شهيد، ومن قُتِل دون دينه فهو شهيد، ومن قُتِل دون أهله فهو شهيد» (أخرجه أحمد والترمذي وصححه).
    فإذا سرق السارق وهو مكتفٍ، غير محتاج لطعام يقيم أوَدَه، أو لباس يستر جسده، أو دواء يعالج به سقمه، فلا تجوز الرأفة به متى ثبتت عليه الجريمة. أمَّا حين تكون هناك شبهة من حاجة أو غيرها، فالمبدأ العامُّ في الإسلام هو درء الحدود بالشُّبُهات؛ لذلك لم يقطع عمر رضي الله عنه يد سارق الطعام في عام الرمادة حين عمَّتِ المجاعة. في حين تسقط العقوبة عنه، إذا تاب وأعاد ما سرقه إلى أصحابه، قبل رفع أمره إلى القاضي.
    والعقوبة الَّتي حدَّدها الشارع الحكيم بحقِّ السارق هي، قطع يده اليمنى من الرسغ، لأنها الأداة الفاعلة في الجريمة، والعضو الَّذي كان ينبغي على السارق السيطرة عليه وكبحه ولجمه عن الحرام، وما ذلك إلا لاستئصال داء السرقة من جذوره، إذ أنه ليس من المصلحة أن نترك الداء يستشري حتَّى يعمَّ الخراب المجتمع كلَّه، أو نترك فرداً مريضاً ينقل العدوى إلى غيره، بل من الرحمة أن تُبتر تلك اليد، ليَسلمَ الناس كلُّهم من شرِّ صاحب هذه النفس المريضة؛ فإذا عاد السارق إلى السرقة بعد قطع يده، يُحْكَمُ بقطع رجله اليسرى إلى الكعب.
    وسبب فرض عقوبة القطع هو أن السارق حين يفكر في السرقة، فإنما يفكر في أن يزيد كسبه من حقِّ غيره، متجاهلاً ما عسى أن يكون صاحب الحقِّ المسلوب قد بذل من جهد وتعب ليحصل عليه، متغافلاً عن مدى حاجته إليه، ولا يهمُّه إلا أن ينمِّيَ ماله ويكثر متاعه عن طريق الكسب الحرام، فيعطِّل بذلك الطرق الشرعية الموصلة للكسب الشريف، وهذا كلُّه بدافع الشَّرَه والأنانية المطلقة، وقد حاربت الشريعة هذا الدافع، بهذه العقوبة الصارمة، لتمنعه من هذا التفلُّت والانتهاك لحقوق الآخرين. وإنَّ يداً واحدة تُقطع لكفيلةٌ بردع كثير من المجرمين، وكفِّ عدوانهم، وتأمين الاستقرار والأمن المالي للمجتمع.
    وقد شدَّد الإسلام في عقوبة السرقة دون غيرها من جرائم الاعتداء على الأموال كالاختلاس الوظيفي والتلاعب التجاري، لأنه يمكن استرجاع الحقوق الَّتي من النوع الآخر بالادِّعاء لدى ولاة الأمور، وتسهل إقامة البيِّنة عليه بخلاف السرقة، فإن إقامة البيِّنة عليها متعسِّرة وتكاد تكون مستحيلة، لذلك عظُم أمرها، واشتدَّت عقوبتها، ليكون ذلك أبلغ في الزجر عنها. لذلك فلا قطع على المُؤتَمَنِ على مال إذا سرقه، ولا على الخادم المأذون له بدخول البيت، ولا على أخذ الثمار من الحقل، ولا قطع على الشريك حين يسرق من مال شريكه، والعقوبة في مثل هذه الحالات هي التعزير، وهي عقوبة مفوَّضة إلى القاضي وهي دون الحدِّ حتماً، وتكون بالجلد أو الحبس أو التوبيخ أو الموعظة في بعض الحالات. وتثبت السرقة بشهادة رجلين أو بالإقرار.
    واليوم نجد أن القوانين الوضعية جعلت الحبس عقوبة للسارق على سرقته، وقد أخفقت هذه العقوبة في محاربة الجريمة على العموم، والسرقة على الخصوص، والعلَّة في الإخفاق أن عقوبة الحبس لا تخلق في نفس السارق العوامل النفسية الَّتي تصرفه عن جريمة السرقة، لأنها لا تحول بين السارق وبين متابعته للسرقات إلا مُدَّة حَبسِه، وقد يسرق غيره من المساجين وهو داخل السجن، وقد يتعلَّم فيه ما يجهله من أساليب اللصوصية وهذا أمر مشاهد ملموس، بالإضافة إلى أنه يقضي فترة عقوبته وكأنه في نادٍ اجتماعي، يأكل ويشرب على نفقة الدولة، مع قضاء وقته في المسامرة أو التدخين، وأحيانا تعاطي الممنوعات، وممارسة الفواحش مع غيره من المساجين، دون أن يزرع السجن في أعماقه أي رادعٍ من الخوف أو الزجر. ناهيك عن رغبة بعض المشرَّدين أو العاطلين عن العمل، قضاء أيامهم في سجون تُؤمِّن لهم ما لا يؤمِّنه لهم المجتمع المترف... لذا فهم ما إن يخرجوا منه حتَّى يعودوا إليه، بسبب ارتكابهم لسرقات جديدة؛ فإن كُشف أمرهم كان ذلك كسباً لهم، وإن لم يُكشَف أمرهم فيكون ما سرقوه كسباً لهم أيضاً.
    أمَّا عقوبة القطع فتحول بينه وبين قيامه بالسرقة أو تنقص من قدرته عليها، إضافة إلى أن عقوبة القطع تجعله مفضوحاً في نفسه أمام الناس، وعبرة لغيره، وهذا من أشدِّ الروادع عن ارتكاب جريمة السرقة.
    وقد يعترض على ذلك معترض ويقول: إن عقوبة القطع لا تتَّفق مع ما وصلت إليه الإنسانية من حضارة ومدنية،? ولكنَّ ما نراه اليوم هو أن الرجل الَّذي يُسرق ماله أو تُغتصب ممتلكاته، يلجأ إلى قتل الفاعل إذا استطاع الإمساك به، تشهد على ذلك الإحصائيات والأخبار اليومية، الَّتي نقرؤها أو نسمع عنها، من أجهزة الإعلام ، حول حوادث القتل الَّتي تدور في الشوارع الرئيسة، والأزقَّة الثانوية، وفي أرقى المدن من تلك البقاع، علاوة على أن السارق نفسه قد يلجأ أحياناً وبدافع السرقة إلى القتل، فيشكِّل بذلك خطراً على حياة الإنسان الآمن إلى جانب الخطر على ممتلكاته، ولهذا فإن تطبيق عقوبة قطع يد السارق هي رحمة به وبضحاياه في آن واحد؛ وحفظٌ لحياته وحياتهم على السواء. وقد ثبت اليوم أنها الأنجع والأنجح، لأنها تقوم على أساس من علم النفس، ومعرفة لطبائع البشر وتجارب الأمم، وهي الأسس الَّتي تقوم عليها المدنيَّة نفسها. والواقع التاريخي يشهد بذلك، إذ أن عقوبة القطع لم تطبَّق في صدر الإسلام خلال قرن من الزمان، إلا في حوادث فردية قليلة جداً؛ لأن المجتمع بنظامه وتربية خشية الله في أفراده من جهة، والعقوبة بشدَّتها من جهة أخرى، كلُّ ذلك لم يسمح بظهور غير هذه الحوادث الفردية النادرة، ومع كلِّ هذا فلم يسمح بإقامة الحدِّ إلا بعد تدقيق وتمحيص شديد وتوافر شروطٍ قاسية؛ بتحقُّقها تزول جميع البواعث الفطريَّة على السرقة؛ ويبقى السارق معها مخلوقاً لا يحمله على السرقة إلا الجشع والطمع في أموال الناس.
    أمَّا الشروط الَّتي يجب اعتبارها في السارق لتطبيق الحدِّ عليه فهي:
    1 ـ أن يكون بالغاً عاقلاً، ولا يُشترط فيه الإسلام؛ فإذا سرق ذميٌّ أو مرتدٌّ فإنه تُقطع يده، كما أن يد المسلم تُقطع إذا سرق من الذميِّ.
    2 ـ أن لا يكون السارق مضطراً إلى السرقة بدافع الجوع، أو أي حاجة أساسية من حاجات الإنسان، فقد أوقف سيِّدنا عمر حدَّ السرقة عام المجاعة للاشتباه في أن جميع من سرق وقتها كان مضطراً.
    3 ـ الاختيار: فلو أُكره على السرقة وثَبَتَ عامل الإكراه فلا يُعَدُّ سارقاً.
    4 ـ ألا يكون للسارق في الشيء المسروق شبهة تملـُّك، فإن كانت له فيه شبهة فإنه لا يُقطع، ولهذا لا يُقطع الأب والأم بسرقة مال ابنهما وكذلك لا يُقطع الابن بسرقة مالهما، أو مال أحدهما، لأن الابن يتبسَّط في مال أبيه وأمِّه عادة. وأمَّا ذوو الأرحام، فلا قطع على أحد من ذوي الرَّحم المـحَرَّم.
    أمَّا الصفات والشروط الَّتي يجب اعتبارها في المال المسروق فهي:
    1 ـ أن يكون المال مُحرزاً أي محفوظاً في الأماكن الَّتي يحفظ بها مثله، فإن تُرك المال سائباً فلا يُعَدُّ آخذه سارقاً يجب قطع يده.
    2 ـ أن يكون ممَّا يُتمَوَّل ويُملَك ويَحِلُّ بيعه وأخذ العِوَض عنه.
    3 ـ أن يبلغ الشيء المسروق نصاباً، لأنه لابدَّ من ضابط لإقامة الحد. وقد اختلف الفقهاء في مقدار هذا النصاب، فذهب بعضهم إلى أن القطع لا يكون إلا في سرقة ما تساوي قيمته ربع دينار أو ثلاثة دراهم. روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا تُقطع يد السارق إلا في ربع دينار فصاعداً» (رواه أحمد ومسلم وابن ماجه).
    والله تعالى الَّذي وضع الحدود والعقوبات، إنما وضعها بحسب الحكمة الَّتي توافق المصلحة العامَّة للمجتمع، لذا لا يجوز العفو عن السارق، لا من قِبَلِ المجني عليه ولا من قِبَلِ الحاكم، بعد أن كُشِف أمره وأصبح بين يدي الحاكم، كما لا يجوز أن يُستبدلَ قطع اليد بعقوبة أخرى أخفَّ منها أو تأخير تنفيذها أو تعطيلها، بحجَّة الرأفة بالسارق، لأن مثل هذا التهاون سيغري كثيراً من أصحاب النفوس المريضة بارتكاب هذه الجريمة، ويُلحق الضرر البالغ بالمجتمع. أمَّا تطبيق العقوبة الصارمة على السارق، فإنها تقوِّي من هيبة الهيئة الاجتماعية، وتدفع بالأفراد للبحث عن طرق سويَّة للكسب، وعدم التفكير بالسرقة، لتعمَّ بذلك الفائدة على الفرد والمجتمع معاً.
    ومع كلِّ ما تقدم فقد حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم صاحب المال المسروق على أن يعفو عن السارق، ولكن قبل إعلام ولي الأمر ورفع القضية إليه، وعندها يفقد هذا الحقَّ ويصبح الأمر بيد القاضي وليس من صلاحيَّاته العفو، فقد ثبت «أن رجلاً سرق في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاء صاحب المال إلى رسول الله يشكو سرقة ماله، فلما عَرَفَ الفاعلَ أمرَ النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يده، فعفا صاحب المال عنه فقال له صلى الله عليه وسلم : هَلاَّ عفوت قبل أن تأتيني» (أخرجه أحمد والحاكم ومالك في الموطأ، والبغوي عن صفوان بن أمية رضي الله عنه ).ومع إنزال عقوبة القطع بالسارق يجب عليه أن يردَّ المسروق إلى أصحابه، وأن يستغفر الله تعالى ويتوب إليه، ويُقبِل عليه عزَّ وجل بصدق وإخلاص لينال منه العفو والمغفرة.
    وحِرصاً من الإسلام على تحقيق الهدف المطلوب من تطبيق حدِّ السرقة، فقد أكَّد على ضرورة المساواة في تطبيق هذا الحدّ بين الخواصِّ والعوام، والشريف والوضيع، يقولرسول الله صلى الله عليه وسلم : «أيُّها الناس إنما ضلَّ منكم من كان قبلكم أنَّهم كانوا إذا سرق الشريف تركوه، وإذا سرق الضعيف فيهم أقاموا عليه الحد، وأيْمُ الله لو أن فاطمة بنت محمَّد سرقت لقطع محمَّد يدها» (رواه البخاري ومسلم وأصحاب السنن عن عائشة رضي الله عنها).


     

 
+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 2 1 2 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك