[align=right]
إذا كان الله قد كتب لي كل ما سأمرّ به في حياتي قبل أن يخلقني فكيف يحاسبني على ذلك ؟
الجواب :
قال الإمام الطحاوي : وأصل القدر سرّ الله تعالى في خلقه ، لم يَطّلع على ذلك ملك مقرب ، ولا نبي مرسل ، والتعمق والنظر في ذلك ذريعة الخذلان ، وسُلّم الحرمان ، ودرجة الطغيان ، فالحذر كل الحذر من ذلك نظراً وفكراً ووسوسة ، فإن الله تعالى طَوى علم القدر عن أنامه ، ونهاهم عن مرامه . اهـ .
وقال ابن عبد البرّ رحمه الله : وقال العلماء والحكماء قديما : القدر سرّ الله ، لا تنظروا فيه . فلو شاء الله ألاّ يُعصى ما عصاه أحد ، فالعباد أدق شأنا وأحقر من أن يَعصوا الله إلا بما يريد .
وقال أيضا : والقدر سرّ الله ، لا يُدرَك بجدال ، ولا يَشفي منه مَقال ، والحِجَاج مُرْتَجّة مُغْلَقَة لا يُفتَح شيء منها إلا بِكَسْرِ شيء . وقد تواترت الآثار عن السلف الصالح بالنهي عن الجدال فيه والاستسلام له والإيمان به . اهـ .
وأما أن الله علِم ما سيفعله الْخَلْق فهذا صحيح ، ولذلك فإن مراتب القدر عند أهل السنة أربع :
الأولى : الْعِلْم ؛ وهو أن الله علِم بِكلّ شيء قبل خلْق الْخَلْق .
الثانية : الكتابة ؛ وهي أن الله كَتَب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة .
الثالثة : المشيئة ؛ وهي أن الله قد شاء كل ما هو كائن ، فلا يكون شيء إلا بمشيئته سبحانه وتعالى.
الرابعة : الْخَلْق ؛ وهي أن الله خَلَق كل شيء ، والْخلْق مُتأخّر عن العِلم وعن الكتابة .
فمن علِم بهذه المراتب استبان له الحق في مسائل القضاء والقَدَر .
فلو خَلَق الله الْخَلْق وكَتَب عليهم الشقاء ما كان ظالماً لهم ، لأنهم عبيده وفي مُلْكِه وتحت تصرّفه .
فكيف وهو لم يَكتب الشقاء على الأشقياء إلا وقد علِم سبحانه وتعالى ما سوف يَعمَلون .
ثم أخرجهم إلى دار الابتلاء ، وأقام عليهم الْحُجج والبراهين ، وأرسل إليهم الرُّسُل ، وأنزل إليهم الكُتُب ، وأنذرهم ، وأعذَرَ إليهم .
فاللوم إذاً يَقع على الإنسان الذي رأى الخير والشرّ ثم اختار طريق الشرّ .
أرأيت لو أن إنساناً قيل له : هذا الطريق مَخْوف وخطير ، وذلك طريق آمِن ، ثم اختار لنفسه أن يسلك الطريق الْمَخُوفَـة . فعلى من يقع اللوم ؟
هل يقع على الذي أخبره بأن الطريق مَخوفَـة ؟ أو على الذي سَلَك الطريق الْمَخُوف ؟
وكما يُقال : بالمثال يتّضِح المقال :
لو أن مُدرِّساً درّس مجموعة من الطلاّب ، ثم عَرَف مستوى الطلاّب ، ثم في آخر السنة كَتَب في ورقة وأخفاها عنده :
هؤلاء يَرسبون ( وكَتَب أسماءهم )
وهؤلاء يَنجحون (وكَتَب أسماءهم )
وكان ذلك بناء على معرفته بمستوى طلاّبِـه .
ثم جاءت النتيجة كما توقّع المدرِّس .
فهل كتابة المدرِّس هذه لها أثر في نتائج الطلاّب ؟
وهل رسوب طالب وإخفاقه في الامتحان يَقع على المدرِّس ، أو على الطالب الْمُهمل ؟
لا شك أن العقلاء يتّفقون على أن كتابة المدرِّس ليس لها أثر على مستوى الطلاب ولا على نجاحهم ورسوبهم .
ولا يَقع عليه لوم في كتابته تلك ، وإنما اللوم يقع على الطلاّب الذين أهملوا ، والذين غَفَلوا عن دراستهم .
ولله المثل الأعلى :
فالله كَتَب في اللوح المحفوظ قبل خلق السماوات والأرض مقادير كل شيء .
وكَتَب على الإنسان ما سوف يَعمله ، وهو في بطن أمه ، فكُتِب : رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد . كما في الصحيحين من حديث ابن مسعود رضي الله عنه .
فهذه الكتابة مبنية على عِلم الله السابق ، والذي أحاط علمه بكلّ شيء ، وليست مُجرّد كتابة .
ثم لما خَرَج هذا الإنسان عَرَف طريق الخير من الشرّ ، وعُرِّف إياه بالإضافة إلى ما فَطَره الله عليه من معرفة الخير والشرّ .
ثم قيل له : هذا طريق الجنة ، وهذا طريق النار .
ثم اختار طريق النار .
فلا يقع اللوم على غيره ، وإنما يَقع على من اختار لنفسه ما يضرّها وما يُهلكها .
وكل إنسان مأمور بالسعي في فِكاك رقبته وعتقها من النار ، ومأمور بالسعي والجدّ والعمل الصالح .
ولذلك لما سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : فيمَ يعمل العاملون ؟ قال : كُلٌّ مُيَسَّر لما خُلِق له . رواه البخاري ومسلم .
وأفضل من رأيته كَتَب في هذا الباب ، وشَفى وكَفَى : ابن القيم رحمه الله في كتابه النافع الماتع :
" شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل " .
والله تعالى أعلم .
المصدر: شبكة مشكاة الإسلامية
[/align]
مواقع النشر (المفضلة)