كما برز أثر ذلك الخلق العظيم في العلاقات الاجتماعية الداخلية - فرأينا المجتمع المسلم تسوده عواطف كريمة، ومشاعر نبيلة، كلها تفيض بالرفق والمرحمة، وتتدفق بالبر والخير، وتجلت هذه المشاعر والعواطف فيما عُرف بنظام "الوقف الخيري" عند المسلمين.
فقد مضى المواسون من المؤمنين -بدافع الرحمة التي قذفها الإيمان في قلوبهم، والرغبة في مثوبة الله لهم، وألا ينقطع عملهم بعد موتهم- يقفون أموالهم كلها أو بعضها على إطعام الجائع، وسقاية الظمآن، وكسوة العريان، وإيواء الغريب، وعلاج المريض، وتعليم الجاهل، ودفن الميت، وكفالة اليتيم، وإعانة المحروم، وعلى كل غرض إنساني شريف، بل لقد أشركوا في برِّهم الحيوان مع الإنسان.
ولقد تأخذ أحدنا الدهشة وهو يستعرض حجج الواقفين ليرى القوم في نبل نفوسهم، ويقظة ضمائرهم، وعلو إنسانيتهم، بل سلطان دينهم عليهم، وهم يتخيرون الأغراض الشريفة التي يقفون لها أموالهم، ويرجون أن تنفق في سبيل تحقيقها هذه الأموال.
وربما استشرفت النفوس إلى أمثلة من هذا البر يعين ذكرها على تفصيل هذا الإجمال. فإلى هذه النفوس المستشرفة أسوق هذه الأمثلة:
وقف الزبادى
وقف تشترى منه صحاف الخزف الصيني، فكل خادم كُسرت آنيته، وتعرض لغضب مخدومه، له أن يذهب إلى إدارة الوقف فيترك الإناء المكسور، ويأخذ إناء صحيحاً بدلاً منه، وبهذا ينجو من غضب مخدومه عليه.
وقف الكلاب الضالة
وقف في عدة جهات ينفق من ريعه على إطعام الكلاب التي ليس لها صاحب استنقاذاً لها من عذاب الجوع، حتى تستريح بالموت أو الاقتناء.
وقف الأعراس
وقف لإعارة الحلي والزينة في الأعراس والأفراح، يستعير الفقراء منه ما يلزمهم في أفراحهم وأعراسهم، ثم يعيدون ما استعاروه إلى مكانه وبهذا يتيسر للفقير أن يبرز يوم عرسه بحلة لائقة ولعروسه أن تجلى في حلة رائقة، حتى يكتمل الشعور بالفرح، وتنجبر الخواطر المكسورة.
وقف الغاضبات
وقف يؤسس من ريعه بيت. ويعد فيه الطعام والشراب، وما يحتاج إليه الساكنون، تذهب إليه الزوجة التي يقع بينها وبين زوجها نفور، وتظل آكلة شاربة إلى أن يذهب ما بينها وبين زوجها من الجفاء وتصفو النفوس، فتعود إلى بيت الزوجية من جديد.
وقف مؤنس المرضى والغرباء
وقف ينفق منه على عدة مؤذنين، من كل رخيم الصوت حسن الأداء، فيرتلون القصائد الدينية طول الليل، بحيث يرتل كل منهم ساعة، حتى مطلع الفجر، سعياً وراء التخفيف عن المريض الذي ليس له من يخفف عنه، وإيناس الغريب الذي ليس له من يؤنسه
وقف خداع المريض
وقف فيه وظيفة من جملة وظائف المعالجة في المستشفيات، وهي تكليف اثنين من الممرضين أن يقفا قريباً من المريض، بحيث يسمعهما ولا يراهما، فيقول أحدهما لصاحبه: ماذا قال الطبيب عن هذا المريض؟ فيرد عليه الآخر: إن الطبيب يقول: أنه لا بأس فهو مرجو البرء، ولا يوجد في علته ما يشغل البال وربما نهض من فراش مرضه بعديومين أو ثلاثة أيام.
وهكذا سلك الواقفون كل مسالك الخير، فلم يدعوا جانباً من جوانب الحياة دون أن يكون للخير نصيب فيه.
وبهذا إنما يصدرون عن احساسات إنسانية عميقة، تنفذ إلى موطن الحاجة التي تعرض للناس في كل زمان ومكان.
ولا شك أن العقيدة هي صاحبة الفضل في خلق هذه الأحاسيس الرقيقة، وإيقاظ تلك المشاعر السامية التي تنبهت لتلك الدقائق، في كل زاوية من زوايا المجتمع وكل منحى من مناحي الحياة، ولم يكفهم أن يكون برّهم مقصوراً على حياتهم القصيرة، فأرادوا صدقة جارية، وحسنة دائمة، يكتب لهم أجرها ما بقيت الحياة وبقي الإنسان.
مواقع النشر (المفضلة)