قصة من واقع بغداد الجريحة
لملم أوراقه وبعض القصاصات ليباحث عن جدائل السمراء في أروقة المحلات. سائراً في حيرةٍ وفي طرقات شارع السعدون المؤدي إلى الكرادة الشرقية حتى تثاقلت قدماه وما عاد يعي ما تفكر فيه أطرافه السفلية هل تبقى عازمةٌ على السير أم أنها تجمدت ودخلت في سباتها العميق..
شارد الذهن يبحث عن بعض الكلمات التي كانت تتردد في مخيلته بعد فراقه لأخر سرير عشقٍ قد قضى فيه ليلته الشيطانية.. يبحث عن نهجٍ غير ذي النهج الرتيب الذي برى له جزءاً من العمود الفقري حتى بدت الآثار واضحةٌ في قدميه.
وبعد غفلةٍ من نومٍ على أحد الأرصفةِ همَّ في نومٍ عميق سوى لحظات فأطرقت أحدى النساءِ المارات أكتافه بعد إن أخذ جزءاً من تفكيرها وكيف بدت تعطف عليه فكانت طرقاتها كما نغمٌ حزين يسري في عروق شرايينه الصامتة أو كأنها جداولَ نهرٍ عتيق قد جّف لكثرةِ إشراقِ الفقر عليه.
قالت : يا هذا ما بالكَ استيقظ من نومك الكئيب هل حصل خطبٌ ما .
قال : اتركيني لأجمع أوردتي التي تناثرت فوق فراشي الأخير لأجمّع نغمٌ كان يطربني في تلكمُ المساءات نغمٌ لم اسمعه من قبل
ألم تسمعي بغمٍ جدّ جديد ؟؟
قالت : ما هو
قال: نغمٌ للحروف وما لها من أبجديةٍ في العشق لان طالما تومئ ألي حين ترحلُ من صندوق الذكريات.
قالت: بعد لحضتا صمتٍ صاخبة لا عليك هذه يدي فقم لأنتشلكَ من أتربةِ الطريق أتريد بعض الخبز؟ أتريد بعض نقودٍ . ترحلُ إلى ديارك ربما أنها بعيدة؟
قال: وفي أفكاره بعض الهذيان عشرون عاماً وأنا أحتسي شاياً مع قطعة الخبز هذهِ وما ارتوى عطش فؤادي من فقدان ذاكرتي لبعض عاشقات الصبا عشرون عاماً منذ أن فارقت آخر عشقاً كانَ يحتسي الجمر من لوعةُ كلماتي فشق طريق الرحيل إلى الأفق البعيد وما كاد أن يصحو إلا وأن فارقني , وما كدّت أن أصحو من غفلةٍ إلا في عاشقةُ الأمس.
قالت: إنك تجيد اللغة بالكلمات فما حصل أراكا أنك بغير هذا الحال كنت.
قال: أنا أجيد تركيب الحروف على الحروف كنتُ أستاذاً في جامعة بغداد قسم آداب اللغةِ العربية وكما ترين الآن ليس لدي سوى أرصفة بغداد تلملم لي حروفي التي تتناثر هنا وهناك أجبرت على الاستقالة من هتافات الصباح التي يكررها طلبة القسم فتركت هنالك بعض الأشياء التي تخص عراقيا كان وذهب مع الزوال.
قالت: عجبا لما تركت
أجاب: مستطرداً: تركت أحرفٌ مسطرةٌ على أتربةِ حدائق بغدادَ لأنها الآن قد زال منها اللون الأخضر كما تعرفين فأن عشبها قد نفي إلى بلادٍ آخر.
قال: خذي يدي هيا ساعديني على الوقوف.
ربما قد أتعبني البحث عن تلك الكلمات التي أوجعت كبر عمري وشيب رأسي ولم أجدها في سوق الكتب القديمة سوى ملزمةٍ صغيرة تتحدث عن رجال الغد رجال الثورات المنهمكةُ في أن تخرج أنفاسها من أتربةٍ متراكمة.
قالت: وفي عينيها تغرغر بعض الدمع التي ما كادت أن تخفيها , أنا دكتورة في الطابق الأول من تلك البناية القريبة اسمي شيماء أستاذة في كلية الطب لقسم الجراحة القلبية.
قاطعها قائلاً: ما شاء الله دكتوراه في الجراحة القلبية ممكن أن أسألكِ؟
قالت : تفضل بكل سرور
قال: هل تمت تجربةٍ ما على أخراج ما أخزنته أتربة الدهر من ذكريات في قلب إنسان هل تم التفكير بقلبِ بغدادَ وهو يصرخ هل من معين ومن يقف ذلك النزف الأبديُ لقلبها فهل بحثَ في أمهات الكتب الطبية عن بعض عقارٍ ينقذها من أكوامِ القمامةِ المتناثرةُ التي تراكمت في رئتيها طوال تلك السنين.
قالت:
آهٌ بغدادَ يؤلمني حين يمر اسمها معترضا طريقي أو في بعض الذكريات فطالما نعاني من جرحٍ عميق اسمه العراق اسمه بغداد.
سارا إلى الباب المؤديةِ إلى الطابق الأول من العيادة الخاصة بالدكتورة وتابعت تقول: هل تعلم ما أمرض بغداد , أمرضها أنها عمرها مئات السنين وهي مغتصبةٌ تنادي وأبناءها إما انشغلوا في الحروب أو في عراكهم فيما بينهم حتى صمتت من البكاء والعويل وما عادت تنادينا لأنها عرفت إنها لم تنجب أطفالاً .
قال: وأجهش في بكائه صدقيني إنها لم تنجب أطفالاً نعم لكنها صنعت كلّ هذا التاريخ وصنعت رجالاً فأنها بحق معجزة لكنها ستبقى جريمتنا إلا أن يحررها أبناءها.
تحياتي – إنها مجرد محاولة وارجو ان تنال اعجابكم
مواقع النشر (المفضلة)