مقامات آخر الزمان



المقامة الجيكورية



كاظم فنجان الحمامي

حدثنا صابر بن حيران . قال : ملت بقاربي إلى بساتين أبي الخصيب. فرميت المرساة في حوضها الرحيب. وكنت أردد ما صدح به عاشقها النجيب اللبيب :

هلمَّ بنا نزورُأبا الخصيبِ
ونرَعى جانِبَالعيش الرطيبِ
نعاشر أهله ونقيمُفيه
بخفض العيش من حسنوطيب

ونزلت على ضفاف تلك البساتين. فإذا أشجارها باسقة. ونباتاتها مورقة. وعصافيرها مزقزقة. وأزهارها مشرقة. وظلالها وارفة. ومياهها جارفة. وطيورها جميلة. وزوارقها صقيلة. وثمارها شهية. وقصورها بهية. وأنهارها سخية. وفسائلها يانعة. ومناظرها رائعة. .
وإذا شيخ جالس على ضفاف شط العرب. وبجانبه سلة من خوص كالذهب. فيها أشهى أنواع الرطب. وعناقيد من ألذ أصناف العنب. فسلمت عليه. فرد علي السلام. وأمرني بالجلوس فامتثلت. وسألني عن اسمي فأجبت. فقال لي : أنا خالد بن صفوان, ولدت عند أقدام نخيل يوسفان, وترعرعت في جنائن مهيجران. وبساتيني ممتدة من شواطئ حمدان. إلى منعطفات سيحان. وفيها ما تتمتع به القلوب والأبصار, وتنجلي به الهموم والأفكار. جداولها في خرير. وسواقيها في هدير. وبلابلها في صفير. وجوها في إعتدال. ونسيمها في إعتلال. حقولها ممهدة. ودورها منجدة. وقصورها مشيدة. إنها واحة للشعراء. وصومعة للفقهاء. ورياض للعلماء. ومدرسة للأدباء. وملاذ للفقراء. ومرتع للأغنياء. .

قال صابر بن حيران : ثم دعاني للتجوال, بين روائع الخضرة والجمال, والمتعة والخيال. فاندهشت من حسن ربوعها, وعجائب أشجارها, ورشاقة نخيلها, وتهدل أعذاقها, وتدفق أنهارها, وغضارة رياحينها, وإرتواء بساتينها. فالمد يقبل عليها عند حاجتها إليه, ويرتد عند إستغناءها عنه. ثم لا يبطيء عنها إلا بقدر هضمها, وإستمراءها, وجماحها, وإستراحتها. لا يقتلها عطشا,ولا يميتها غرقاً. يجيء على حساب معلوم, وتدبير منظوم, وإسلوب مفهوم. يزيدها القمر في إمتلاءه, كما يزيدها في نقصانه. فلا يخفى على أهل البساتينمتىيتخلفون, ومتى يذهبون, ويرجعون. بعد أن يعرفوا موضع القمر. وكم مضى من الشهر. فهو آيةوإعجوبة, ومفخرة وأحدوثة. ثم سرت غير بعيد إلى رجل قد أخذ أصناف الفواكه وصنفها, وجمع أنواع الرطب وصففها. فقبضت من كل صنف أحسنه, وقرضت من كل نوع أجوده. ثم ركبت القارب, وغادرت ذلك البستان الرحب, والماء العذب, والعيش الرطب. .

قال صابر بن حيران : وعدت إلى البصرة العتيدة, في الألفية الجديدة. وقصدت بساتين أبي الخصيب, في يوم عصيب. فراعني منظرها الرهيب, وصعقتني مواقع التهريب, وصورة الحقول التي لا تسر الحبيب. ودهشت من حالتها المزرية, وأوضاعها المتردية. فقد تحمّلت وزر الحروب والنكبات, والغارات والهجمات. التي مزقت الرياض والمتنزهات, وعبثت بالحقول والغابات. فتشرد أهلها, وتضررت قصورها, وتحطمت معابرها, وردمت أنهارها. أما أشجار النخيل فقد تكسرت أعناقها, وتقطعت تيجانها, واجتثت عروقها, وأحترقت أجسادها. ودفنت في مقابر جماعية, مع المخلفات الحربية, والملوثات النفطية.
ثم قادني الغراب, إلى القرية التي ولد فيها السياب, وغرس فيها ذكريات الطفولة والشباب, وحكايات الأجداد والأحباب, والشناشيل والقباب, ووجدتها معفرة بالتراب. فوافيت دروبها, بعد أن وافت الشمس غروبها. حتى انتهيت إلى جيكور, وسرت بين الخرائب والقبور. وزرت منزل الأقنان, وموطن الأحزان, وبكيت فوق الكثبان. فخرق سمعي صوت شاعر يضرب رأسه, ويبدي يأسه. وتدمع عيناه, ويرتجف جفناه. وقد راعته قارعة الخطوب, وكوته نيران الحروب. فوقف فوق الأطلال, وبين شبابيك وفيقة وشناشيل إقبال. ليقرأ قصيدة انشودة المطر, بتحريف يترجم ما فعلته معاول القدر, وما نهشته أنياب الدهر. وينعى ربوع أبي الخصيب, التي انقلبت من الخصب والرخاء, إلى الجدب والبلاء. فانتحيت نحوه, حتى وقفت عنده. فإذا هو خلدون بن جاويد. فرفع عقيرته, وأنشأ يقول :

عيناك غابتا نخيل ٍ دونما سحَرْ
والغابتان دونما ثمرْ
عيناك لا تبتسمان
من حجرْ
قد عادتا ، والشط جف ّ
والنخيل ُ في ضفافه انتحرْ
والشرفتان نامتا في الظلامْ
لن ترقص الأضواء كالأقمار كالنجوم كالحمامْ
جميعهم قد هاجروا
وارتحل النهَرْ
وهاهنا مليون نخلة كما الصليبْ
عجفاء فوقها السياب كالمسيح ْ
قد عذبوه مرة ً
واختار ان يموت مرة ً
ومرة من هول من ما رآى انتحر
أين العراق أين روحُه ُ
وثغرُهُ الباسم ُ
أين الموطن الأغرْ
أين الوعود والليالي الحالمات
والصباح المنتظر
إثنان ضاعا في العراق : الشمس والقمر
ثمّ اغرَوْرَقَتْ عيناهُ بالدّموعِ. وآذَنَتْ مَدامِعُهُ بالهُموعِ. فكَرِهَ أن يستَوكِفَها. ولم يملِكْ أن يكَفْكِفَها. فقطَعَ إنْشادَهُ الناعي. وأوجَزَ في وداعي. .
15/9/2008