-
مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحلقة الاولــــــى
خلف لنا التراث الاسلامي الثر ثروة علمية لا تضاهى ناهيك أن مساحة الحديث النبوي الشريف تمسح مئات من الالاف من النصوص ولما كانت إرادة الله سبحانه قاضية بحفظ الذكر فانها قيضت له كتابا وجامعين وحفظة وعلماء وفقهاء ورجال نخل وسبر وغربلة وفحص فكان زيد بن ثابت ومن معه للقرآن الكريم حتى استوى على المصحف العثماني المحفوظ من لدن الام الكريمة حفصة عليها رضوان الله ولن تزال عين الحفظ الالهي وحرس الصون الرحماني بالمرصاد وربما حولت عاد يريد النيل منه الى خادم يهرق دمه لحفظ آخر كلمة من كلمات الله الى العبيد وكان البخاري ومسلم ومالك واحمد والترمذي وابن ماجه والنسائي وابوداوود وغيرهم كثير للسنة خاصة والسيرة عامة وكان علماء الحديث قديما وحديثا عسسا قويا أمينا يحرس التخوم من كل متسلل مغشوش رسموا لهم آلات ثاقبة تكشف الزور والخطأ مهما كان صغيرا لطيفا دقيقا مستورا تماما كما يفعل صيارفة المال وخبراء العملات او مخافر الحدود فكانت علوم الرواية والدراية وميز الفقهاء بين السنة التشريعية وغيرها وبين ماهو عام وخاص وبين ما هو مرتبط بمناسبة او مطلق وبين مايرشد الى ثابت او مقصد فيتخول اليه بوسيلة متغيرة او غيرذلك وبين ماهو من الكمالات والتحسينيات والمكارم او غير ذلك وبين ما هو قول مؤيد بالعمل سواء تواتر او تخلف او عمل لم يسبق بقول او قول لم يشفع بعمل لعدم توفر شرط او لحكمة اخرى وسائر ما تحتمله مقاماته عليه السلام ولسائر من يريد لنفسه فقها في السنة ييسر له ولي النعمة سبحانه اليه طريقا كلما وفر شروط الفهم الصحيح السليم الدقيق فصبر على ذلك واستشار واستنار وسأل وقلب ونظر وهو في اثناء ذلك يكابد عاجفات الحياة بايمان ويقين وثقة وجماعة .
مقصدي من العمل :
رأيت بعضا من الناس يسرحون في ادغال شاسعة من الحديث النبوي لا شطآن لها فتراهم ينتقلون من ابهى الضيعات رونقا وازهاها حلة الى ادناها دون ادنى تمييز فيستوي عندهم صحيح البخاري مثلا مع طبقات ابن سعد لا بل يستوي عندهم المتفق عليه او مرويات الجماعة مع حكايات القصاصين وبعضها منسوب اليه عليه السلام وذلك السرح البعيد في بيداء تضم مئات من الالاف من الحديث يحتاج الى سلاح ماض وبوصلة هادية تماما كما هو الحال في الدنيا فهل ترى سارحا يمرح في نزلها الفخمة ينتقل الى ادناها فخامة دون تمييز أليس هو عندها يأبى علىنفسه دفع ذات المقدار والامر ذاته مع الاشجار وسائر النعم ولاشك اننا نحن الان اسعد حالا اذ انتهى الينا علم السنة محفوظا فكيف نقدم على المتفق عليه سوى ما عند الجماعة كائنا من كان الراوي او الداري فلا يحسبن حاسب ان في الضعيف بكل اصنافه الكثيرة رواية او دراية فضلا عن الموضوع مهما اشتهر على الالسنة من فضل يساوي او يفوق فضل الصحيح او الحسن واذا كان ذلك كذلك فان معنى حفظ الذكر ساقط لا محالة ففي الصحيح مندوحة دوما وأبدا عما سواه ولو عددت ما اتفق عليه الشيخان فحسب دون غيرهما لالفيت ما يربو عن الفي حديث فاذا علمت ان السنة بالجملة لا تزيد سوى عن التفسير والتبيين والتفصيل اي بمعنى انها لا تستقل بالتشريع الا قليلا جدا وفي مناطق لا تتعلق بسداد الحياة واستقامة بوصلتها اي مناطق الايمان المسمى عقيدة وان ما يلي ذلك مباشرة من العبادة الموقوفة المعزرة للايمان والمكتسبة له هو من باب السنة العملية التي حملها الاجماع العملي المتيقن حتى اضحت كنور شمس او ضوء قمر فان الهرولة سيما من غير اهل العلم والتحقيق بغرض الدراسة والفقه وراء المرويات الضعيفة والبضاعة المزجاة مما ينسب الى الحديث هي هرولة عميان وراء ناعق فار لا هو ينجدهم ولا هم به بظافرين فاذا كانت تلك الهرولة وراء سراب خادع مقرونة بجهل مدقع باسس اخرى من مثل علاقة القران بالسنة سيما في المجال التشريعي او درجات السنة والحديث وعلاقات التكامل الناشئة بينها جميعا او موضوع الحديث غيبا ام شهادة او دلالة اللغة المستخدمة او صلاحية الوسيلة الواردة فان النتيجة لن تكون سوى كارثة تصم عقل الطالب او تفتنه عن دينه وكلاهما غلو لا يرضاه الانسان لنفسه ولا يرضاه ولي نعمته له ولن تكون نظرته ومن ثم تفاعله مع الناس اقرباء واباعد سوى نشوزا متدثرا بالاصلاح ومما يغذي ذلك كله ويدفع اليه دفعا ويطلبه طلبا مريبا استدراجا خبيثا حال الهجوم على الاسلام والازراء باهله ومؤسساته سواء خيانة من بعض اهله المرتدين كما هو حال بعض حكام اليوم سياسة وثقافة وادارة ومالا او تغطرسا من العدو المتربص .
فالمقصد من هذا العمل هو اذن التنفير الى الاهتمام بالصحيح من المرويات ففيها ما يكفي لادارة شؤون الدنيا والفوز بنعيم الاخرة فلا هي قليلة العدد ولا مزجاة العدة وفي المقابل نبذ تحكيم الواهن في امر ديننا ودنيانا معا والقرآن الكريم فيصل حاكم وفرقان صارم فهو المتواتر جملة وتفصيلا دون السنة وهو تنفير يطلب الحفظ كما يطلب الفقه وهما شرطان لازمان للاستخدام اصلاحا واستصلاحا واستشهادا ومعالجة وذبا لراديات الهوى والحمق سواء بسواء .
المشهود بالسنة الصحيحة اولى بالاصلاح وحاجات اليوم اولى من حاجات الامس :
كلمة قالها قائل اوتي الحكمة وفصل الخطاب نحن اليوم اولى بها واحرى " ليس لنا من عالم الغيب سوى الاسماء " وهو يعني ان كل ما غاب عن عقلنا بحكم ازدواجية تكويننا فلا سبيل الىكنه الحقيقة منه فارشدنا اليه تسديدا لحياتنا ليس هو سوى اسم لا تدرك عقولنا مسماه على وجه الدقة كما نفعل بعالم الشهود وهو ادعى الى الايمان واجدر باليقين واولى الامثلة لذلك هذا النفس الذي لا ينفك عن حركة دائبة ولوجا وخروجا فينا وهو صدى للروح فهل ادرك فينا واحد حقيقتها او لامسها ولو من بعد ام بقيت وتبقى الى الابد سرا من امر وليها وولينا ولا شك ان غيبا ابعد منها ومنا اولى بالانحجاب والانستار وبذلك يغدو كل خصام بين الناس اليوم حول دقة تلك المعطيات الغيبية ووصف لهيئاتها وصورها ولو مع ايمان بحقائقها واصولها عبثا لا طائل منه سوى بعثرة صف لما يلتئم وجمع لما ينشمل .
لنا اليوم حاجات ملحة ومشهود نحن مطالبون باصلاحه فهل نعلق ذلك على سلف امتحن وادى ومضى ام على خلف يلهو الان باكوام التراب او مستورا في اصلابنا ام نتوكل على الرحمان سبحانه بايدينا اسلحة كثيرة منها القران والسنة والعقل والحكمة والجماعة والشورى والتجربة والمال والصبر فنصيب خيرا مما اصاب السلف بالتاكيد فان ابينا فلا معنى لذلك سوى ان الرحمان سبحانه جائر في خلقه فيمنح هذا فرصة للعبادة ازكى من ذاك سوى انه اقرب الى قرون الخير او زمن الوحي فليس الزمان يفسد ولكن الانسان حين يضل يفسد .
من حاجاتنا الاكيدة اليوم : كرامة الانسان وقيمة المال والدنيا والمقاومة والجهاد والتحرير والتحرر والدعوة الى الاجتماع ولم الكلمة وتقدير سنن الاختلاف والتعدد والتنوع وفهم الدين والدنيا معا ودور العلم في كل ذلك وحاجات اخرى اكثر بالتاكيد غير ان مردها جميعا فيما اظن الى ثلاثي لا بد لنا منه خروجا من وهدة الاحتلال والتخلف والقابلية لهما ومقاربة لقمم العز والذكر والشهود والخيرية وليس ذلك الثلاثي سوى : العلم وسائر ما يمت اليه وفي كل اتجاهاته وكذلك الجماعة ملتزمة بالشورى من جانب والحرية من جانب اخر وكذلك القوة بسائر معانيها وامتداداتها وسيما المادية والمالية منها فهو ثلاثي وسائلي يمهد لمقصد خلقنا اي العبادة والتعمير والشهود والدعوة وتكريم الانسان فليس سوى القوي يقدر على التكريم والاستخلاف والقوة ثلاثية الابعاد قوة العلم المؤدي الى اليقين وقوة الجماعة المتعزرة بالحرية والالتزام وقوة الدنيا المتوشحة بالمال والمعرفة وحسن الدفاع وحسن الهجوم .
لكل ذلك اخترت مائة مصباح من مشكاة النبوة لعلها تصلح لنا حالا حاضرا وتبني غدا اسنى أرجو حفظها وفهمها واصلاح أمرنا بها على قاعدة حاكمية القرآن الكريم
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الثانية
اخرج الشيخان عن معاوية رضي الله عنه قوله عليه السلام " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين".
بداية أدعوك أخا الصحوة الى حفظ هذا الحديث .ومن شأن حديث اتفق عليه الشيخان وهو بتعبير أهل الحديث متفق عليه أن يجمع كل أركان القوة رواية .
شاهده من الحاكم الاعلى القرآن الكريم : كثيرة منها قوله " فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا اليهم لعلهم يحذرون ".
1 ـ ماهو الدين وما معنى الفقه فيه ؟
2 ـ الخيرية وارتباطها بارادة الله سبحانه من جهة وبالفقه في الدين من جهة أخرى .
الجملة شرطية إسم الشرط هو من يرد الله به خيرا وجوابه يفقهه في الدين والتلازم دوما محكم بين الشرط وجوابه تلازم السبب والمسبب او الشارط والمشروط .وهي جملة شرطية بأداة عموم وهي " من ". بما يعني ان الفقه في الدين ليس خاصا بطبقة بل هو فريضة على الامة فيأتي العزم على قدر أهله.
ماهو الدين ؟:لابد لنا بداية من الاتفاق على الحقل محل التفقه وهو الدين هنا اذ لا نقدر بداهة على فقه شئ غير محدد لدينا تحديدا دقيقا . ولاشك ان كلمة دين تحيلنا على مصادرها القطعية وهي الوحي قرآنا وسنة فليس لمن يريد معرفة الدين سوى الرجوع الى الوحي . والوحي لئن تعددت نصوصه فناهزت مئات الالاف واختلفت درجات صحته وصراحته فانه الى جانب ذلك يحتوي على جذر مشترك قوي متين يتسم بكامل الصحة رواية والصراحة دراية والاجماع العام المطلق المتيقن من سائر المتدينين اجماعا قوليا وعمليا امتد على مدى قرون طويلة . ولذلك الجذر المشترك بين كل تلك النصوص الكثيرة رسالة محددة وبيان خاص وعنوان عام وليس ذلك سوى ما عبر عنه الفقيه المرحوم الزرقاء في سفره الكبير " المدخل الفقهي العام "حيث قال " وظائف التشريع مطلقا ثلاث وهي العلاج لسائر المشكلات والمعضلات في سائر مسالك الحياة والوقاية مما قد يتصور حدوثه من انزلاقات ومطبات والتوجيه الى الهدف من الوجود والمقصد من اتباع التشريع " ويقول " للاسلام اهداف ثلاثة وهي تحرير العقل البشري من رق التقليد والخرافات وذلك عن طريق العقيدة والايمان وتوجيه العقل نحو الدليل والبرهان والتفكير العلمي الحر واصلاح الفرد نفسيا وخلقيا وتوجيهه نحو الخير والاحسان واصلاح المجتمع اي الحياة ليسود الامن والعدل والحرية والكرامة " ويقول " لكل تشريع ناجح ضمانات لسريانه وهي الوجوب الالزامي في الاتباع والتأيد بنظام عقابي زجري وآخر جزائي تنويهي ". فالدين اذن هو مجموع الواردات من الوحي بقصد اصلاح الدنيا بدء باصلاح المهيمن عليها بتعبير المرحوم بن عاشور وهو الانسان والدائرة الوسطى بين الانسان فردا وبين الدنيا هي الاسرة وسائر الروابط على اختلاف مشاربها . غير ان ذلك المجموع ليس كما مكدسا لا يخضع لترتيب وتنظيم ومنطق وسلاسة ومنهج وعلاقات مفهومة بل هو متأسس على اصول ومبادئ وقيم ومثل ومقاصد في الفكر والخلق والمعاملة هي المعول عليها قبل غيرها وسائر ما يليها ليست سوى تفاصيل وجزئيات لا تنصلح لو فارقت اصولها . ويبقى اهم شئ في ذلك كله ان المقصد الاسنى من كل ذلك هو انصلاح حياة الانسان فردا واسرة وجماعة نفسا وعقلا وبدنا ومالا وذوقا فان تخلف ذلك الانصلاح وفق ما عليه سنن الفطرة المركوزة في كل حي فانه لا معنى لدين ولا لاصول ولا لجزئيات .
ماهو الفقه المطلوب ؟: الفقه هو حسن الفهم صحة ودقة وشمولا وتكاملا وانسجاما مع الفطرة وعالم الاسباب والسنن . والفقه في الدين معناه حسن فهم بنائه الكلي الشامل العام بدء بالمعالم الكبرى والاصول المؤصلة والمقاصد المتيقنة ثم نزولا الى ما يليها أولا بأول فلو قرب الرائي اليه عدسة العين اكثر من اللزوم لكبرت الجزئيات في عينه اضعاف ما هي عليه في الواقع ولو ابعدها عنه اكثر مما يتطلب لغدت القرية الكبيرة في عينه حبة رمل وهي في الواقع ليس كذلك وبمثل ذلك المقياس من النظر يجب تعديل عدسة العين عين العقل حيال الدين الا لغرض دراسي يتولاه اهله كطبيب يفحص عضوا صغيرا في جسم كبير عينه على حياة الجسم دوما وهو يعالج عضوا متناهي اللطف دقة . كما ان الفقه في الدين وفق تلك الصورة الجامعة بين الاصول وبين جزئياتها في كل مجال من مجالات الحياة في تكامل لا في تقابل فضلا عن تضاد وتناف انما يقصد منه انصلاح حال المتفقه ومن ثم انصلاح حال اسرته وسائر علاقاته وامتداداته وبالتالي انصلاح المجتمع باسره وذلك ارتباطا مع ما اشير اليه سالفا وهو ان الدين ليس له من مبرر نزول وحياة بيننا لو اغفل اصلاح الدنيا فمن باب اولى واحرى ان يكون مقصد الفقه فيه اذن انصلاح حال الانسان في سائر دوائره .
ماهي الخيرية وما علاقتها بارادة الله سبحانه وبين الفقه في الدين ؟: الخيرية هي الانسجام مع الفطرة من جانب ومع السنن والاسباب من جهة اخرى وذلك على اساس ان الانسان فرع في هذا الوجود السابق له وليس اصلا ولا ينفي ذلك ان يكون فرعا مكرما محرما كل شئ مسخر له . فاستصحاب علاقة العابد بالمعبود والمالك بالمملوك بين الخالق والمخلوق خير ضمان لحسن الفهم وحسن العمل . فالانسان هو صنيعة فطرة مركوزة فيه يجدها في بكائه وفرحه وهو بعد ذلك ضمن تفاعلات من السنن والاسباب هو احدها فان تساوق معها ومع الفطرة فهو على الخير والطريق المستقيم لان الفطرة والسنن امر ثابت وليس متحولا وان صادمها او تجاهلها او جهلها فهو شقي بقدر قربه او بعده من ذلك . اما عن علاقة الخيرية بارادته سبحانه فهي ان المالك لا يريد لمملوكه الذي صنعه بيديه واستخلفه على ارضه واستعبده استعبادا ليحرره من سائر الكائدات حتى تلك الغائرة فيه سوى الخير وهي علاقة معروفة في دنيا الاصول والفروع . اما عن العلاقة بين الخيرية وبين الفقه في الدين فهي ان الخيرية انسجام مع ثوابت الفطرة والسنن والدين هو كذلك تلبية لنداء الفطرة وتعريف بالسنن فكلاهما دال على الفطرة وعلى طبيعة الكون والحياة وسائر السنن والاسباب المودعة فيهما وبذلك يغدو الدين لمن فقهه خيرا وتغدو الخيرية مرهونة بحسن فقه الدين علىاساس التكامل بين اصوله وجزئياتها لا على اساس الانشطار والتبعثر فضلا عن التناقض وكذلك بمقصد اصلاح الحياة بانصلاح الانسان .
مجالات معاصرة لحسن فقه الدين واجتناء الخيرية : المجالات في الحقيقة هي هي على مر العصور غير ان ما يبرر عصرنتها هو حصول تضخم في جانب منها على حساب انكماش في جانب اخر كمريض يمنعه طبيبه من تناول كذا من الماكولات بسبب طغيان جانب فيه على حساب آخر . من تلك المجالات المعاصرة : شرعية المقاومة المسلحة لطرد الباغي المحتل او التخفيف من وطأة ظلمه وكذلك التوغل في قضايا العلم والمعرفة الكونية بشتى صنوفها خدمة لشرعية الدعوة وتحقيقا لتكليف الشهود واستجلابا لخيرية الامة وكذلك كرامة الانسان حفظا لادميته المخلوقة من نفخة رحمانية كريمة لطيفة وكذلك اجتناء سائر شروط الجماعة في الامة اعتصاما بالحق وعليه . تلك هي في رأيي اكبر واهم واخطر حقول حسن الفقه في الدين اليوم فبقدر ما ينضم طالبي الفقه فيها تحت راية الاسلام الى بعضهم بعضا نتهيأ لحسن فقه ومن ثم لحسن عمل وبقدر غمطها سواء باسم انها ثانوية ليست من صميم أم الدين او غير ذات موضوع اليوم تحديدا او يأسا منها او من المجتمعين عليها او كثرة للمخاصمين لها منا او من عدونا في اعيننا او باي اسم اخر نتهيأ لسوء فقه في الدين ومن ثم لسوء مصير وازراء خاتمة .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الثالثــــــــــة
أخرج الشيخان عن إبن عمر رضي الله عنهما عنه عليه السلام قوله "الناس كإبل مائة لا تجد فيها راحلة ". وورد في رواية أخرى " لا تكاد تجد فيها راحلة ".
أجدد الدعوة إليك بحفظ الحديث فهو متفق عليه وشواهده من القرآن الكريم كثر منها قوله " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " و" ما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " و" قليل ما هم "
و" ثلة من الاولين وقليل من الاخرين " وغيرها كثير .
1 ـ ما معنى الراحلة التي يعز وجودها بين الناس ؟
2 ـ ماهي الاسباب لذلك وما تفسير ذلك هل هو اليأس من الناس ام لحكمة في ندرة الرواحل ؟
الجملة إسمية تسمي شيئا محددا وتخبر عنه فهي تقريرية لحال ما وسواء أثبتنا " لا تكاد " أو لا فإن المعنى لا يتغيرفليس المعنى أن الراحلة في الناس لا وجود لها مطلقا ولكن المعنى ندرتها حتى مع حذف " لا تكاد ".أما وجه الشبه بين الناس وبين الابل فكثيرة منها أن كليهما يعول عليه في إنجاز ما تتطلبه الحياة فوق الارض بما زودا به من قدرة على الصبر وتجديده وبما فطرا عليه من بطء في الحركة البدنية مقارنة مع مخلوقات أخرى كثيرة غير أنه بطء لو تراكم وتتالى ولو بتقطع تفرضه حالة إستراحة المحارب وقيلولة الكادح كفيل بوصول منتهاه بعد أمد وبما جبلا عليه من قدرة على التفاعل والتأقلم مع سائر دروب الحياة ومنحنياتها من عز وذل وضعف وقوة ولاشك أن التمثيل بالابل يومها هو كتأثير الفنون اليوم فليس كالعرب أعرف بالابل والخيل ولمن يعرف حال الابل فإن وجود الراحلة فيها ضمان لتآلفها وتجانسها وإنضمامها إلى بعضها بعضا حال الرعي وحال الظعن ولسر مازال مدفونا لم تبح به آية "سنريهم آياتنا ..."قال جل من قائل
"أفلا ينظرون إلى الابل كيف خلقت " فهل رأى واحد منا كيف خلقت الابل ويوم يرونها تظل تلك آية لها الاعناق خاضعة غير أنه لكل أجل كتاب ولا ينبئك مثل خبير .
ماهي راحلة الناس ؟:راحلة الابل يستخدمها صاحبها لغرضين وهما تخصيصها دون غيرها من سائر الابل ولو كانت مائة لحمل الرحل من أناسي وأمتعة فتشق به عباب محيطات لا شطآن لها من الرمال الثابتة والمتحركة في سراء يزيدها فيه حاديها صبرا على الالم وأملا في قيلولة هنيئة ومع ذلك فإن الراحلة لو حطت بمكان بليل مثلا مرة في عمرها فإنها كفيلة بالرجوع إليه ولو بعد عقود كلما وجهها حاديها صوبه وهذا مجرب ومعروف شأنها في ذلك شأن الكلب اذ ليس للابل من طرق سيارة ولا عادية تهديها إلى مبتغاها في بيداء قاحطة لا يعمرها على مد البصر ردحا بعد ردح سوى كثبان من الرمال كالجبال .لا بل يقول أصحاب الابل بأنها تتعرف على الطقس المنتظر سويعات قبل حدوثه فتسرع لو غشيتها نسائم المطر وكذا لو لفحتها أنواء الهجير وهي تمخر عباب الصحراء في يم ليل ضن عليها ببدر غار منزله فغاب أو حجبته سحب متلبدة.كما يستخدم الحادي راحلته بغرض لم شتات الابل سواء في الرعي سيما حال حدوث ما يعكر صفو المرعى أو في السير والانتقال من مكان إلى آخر وهو أمر قد يدوم شهورا طويلة إذ عادة ما يمتطي الحادي صهوة الراحلة فيتقدم الابل وهي تظل تتبع في طاعة لا تعرف النشوز . فراحلة الابل هي إما قوية على حمل الرحل بصبر وثبات أمينة على بلوغ هدفها حتى لو إرتاب صاحبها فيه أو هي هادية الرحل بأسره لكبر سن وتقدم تجربة جامعة لنثره فإذا جمعت الراحلة بين هذا وذاك بقوة وأمانة فهي راحلة الرواحل .
وليست راحلة الناس سوى الانسان الجامع بين القوة العقلية والامانة الخلقية يهرع إليه الناس يوم الفزع فيستنبط لهم الحكمة ويهديهم بفصل الخطاب يبث الامل زمن اليأس لا زمن الخصب كما يستأمنه الناس على ودائعهم لا فرق بين حاقد فيهم ولا كريم والراحلة من الناس عبر عنه القرآن بالامامة التي طلب إلينا طلبها وأرشدنا إلى أن مادة الامتحان فيها متكونة من الصبر واليقين وتماما كما هو الحال عند الابل فإن الراحلة من الناس منها من يكون راحلة أي إماما يؤدي ما يكلف به بكل قوة وأمانة وصبر ويقين غير آبه بمن حوله سواء قدحوا أو قلدوا ومنها من يكون راحلة يفعل ذلك ويزيد عليه قيادة الناس لذلك مدح الله الصالحين ولكن مدحه للمصلحين أشد .
ندرة الرواحل في الناس هل يبعث على اليأس أم على الامل ؟:لابد بداية من التسليم بالحقيقة لا من منطلق النص الذي هو وحي يوحى فحسب بل كذلك من منطلق التجربة العملية التي يطلع عليها كل جيل فالتسليم بالحقائق والمسلمات القطعية اليقينية الثابتة من شأنه بناء العقل العلمي السليم .ثم لابد لنا من إطلاق كلمة الناس وعدم حصرها في المسلمين رغم أن ندرة الرواحل تبقى هي هي لا تتغير حتى لو خصصناها بهم ولكن الاوفق بقاء العموم على عمومه ما لم يرد ما هو أقوى منه فيخصصه .فكل مسلم هو بالنسبة لغيره من غير المسلمين راحلة يتجشم أعباء الحياة بقدر من حسن الفهم والتعاطي والاحسان .ولابد لنا قبل ذلك من معرفة دور الراحلة في الناس وليس هو سوى القيادة أو الاستقامة الشخصية على الاقل فإذا كان بالمعنى الاول فإن من طبيعة الاشياء أن تكون الرواحل في الناس أقلية تبعا لتفاوت الناس في طلب الخير وفي إنفاقه ومن ثم الصبر على طلبه وعلى إنفاقه عقدا بعد عقد ومن ذلك تفاوت الفرص المتاحة لهم في ذلك وليس الراحلة سوى إنسان جمع بعض أسباب النبوغ والقيادة ثم أتيحت له فرصة مزاولتها وتحكم الانسان في الفرص توفيرا نسبي جدا بخلاف توفير عزمه على توليد راحلة من نفسه .وبذا نتبين أن ندرة الرواحل في الناس على مدى الزمان والمكان سنة إجتماعية بها يصلح أمر الوجود وتقتضيها طبيعة الاختلاف وتوزع الاهتمامات فهي باعث أمل وليست باعث يأس باعتبار أن مائة من الناس وأكثر يكفيهم إمام واحد فما بالك اليوم وقد توزعت العلوم وانقسمت المعارف فأصبح بامكان كل إنسان أن يكون إماما في فن ما ووفق تلك السنة تجد شمسا واحدة وكواكب تعد بالمئات وقمرا واحدا ونجوما تعد بما لا يعلم حده غيره سبحانه وعددا محددا من الانبياء والرسل في عدد لا يحصى من الناس .
إنما الراحلة في الناس القيادة والامامة :الراحلة في الناس من يقودهم في دروب الحياة ويرسم لهم سبل الخلاص ويذكرهم بالاصول والمبادئ وليس من يعلمهم التفاصيل والجزئيات في هذا الفن أو ذاك فالراحلة من الناس من تعبأ اكثر من غيره بفقه الحياة وفقه الدين وهما في الحقيقة واحد ثم تحرق قلبه كمدا على حال الناس فسعى مصلحا وشق طريقه وليس مشروطا أن يكون من الملمين بهذا العلم أو ذاك فهذا النبي الكريم محمد عليه السلام يقود البشرية جمعاء و يعرف طبيعة نخل المدينة فيؤبره على غير علم صحيح فهل شانه ذلك .
ما هي مواصفات رواحلنا اليوم وكيف نصنعهم : مواصفات رواحلنا تنبع من تحديات عصرنا إرتباطا بالاسس الفكرية الكبرى والثوابت العلمية العظمى التي تؤسس الانسان وتبني به الحياة إذ لكل تدين معاصر لونه الخاص به ولا ضير في تبدل اللون إنما الضير في تبدل العمود الفقري أو الهندسة الجينية . من مواصفات رواحلنا اليوم الدعوة إلى الجماعة لا إلى الفرقة وإلى العلم لا إلى الجمود والتقليد وإلى الاعتصام بالثوابت الثابتة والاختلاف فيما دونها لا إلى نبذ تلك وتخصيب هذه وإلى المقاومة والجهاد والاجتهاد في كل حقل بما يناسبه من أسلحة وإلى التحرر والتحرير لسائر الانسان والاوطان وإلى الامل والصبر ومع ذلك يكون هو قدوة وأسوة ومثلا فيما يدعو إليه ولا يضيره في ذلك الخطأ بل والاخطاء وبعد ذلك يحوز على ثقة وحب أغلب الناس وليس كلهم طبعا . هل نصنع رواحلنا ؟ الحقيقة أن عملية الصناعة متبادلة بيننا وبينهم فالازمة تلد الهمة كما قال المرحوم عبده وأزماتنا تجعلنا نصنع رواحلنا ثم تجعل رواحلنا تصنعنا .
كن راحلة أو شبه راحلة أو جزء من راحلة أو عونا لراحلة ولا تكن غير ذلك : لايولد الناس رواحل وحتى الانبياء لا يولدون كذلك فلا تعجز أن تكون راحلة أو دون ذلك بقليل أو بكثير ومن علامات النهضة تعدد الرواحل فينا وشبه الرواحل وأجزاء منهم ولو تعلقت همة إبن آدم بما وراء العرش لناله كما قيل .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الرابعة
أخرج الشيخان عن أبي هريرة عليه الرضوان عنه عليه السلام قوله " إذا مات إبن آدم إنقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له أو صدقة جارية أو علم بثه في صدور الرجال ".
أجدد الدعوة إليك أخا الصحوة بحفظ الحديث فهو متفق عليه ولا تلتفت إلى الذين لا يحسنون في عالم الحديث سوى الشغب على من وصفه عليه السلام بأنه وعاء من العلم فروى عنه عليه السلام أكثر من خمسة الاف حديث وليس ذلك إحتطابا بليل بل لفرط الملازمة وشدة الولع وسعة الحافظة ودعاء النبي الكريم له عليه السلام ومظهرا من مظاهر وعد رب السماء بحفظ ذكره وأيما رجل جاوز بسلام عتبة رجال علم الرجال فليس أمام الامة سوى تصديقه فيما يروي عن مبعوث ربه رحمة للعالمين .
ماهي التجليات المعاصرة لتلك الاعمال الثلاثة وكيف نهيئها ؟
بداية لابد من الاشارة إلى أن شواهد الحديث في القرآن كثيرة منها قوله في سورة يسن "إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم وكل شئ أحصيناه في إمام مبين ".كذلك لابد من التسليم بأن الادمي المعني هنا خاص بالمؤمنين دون سواهم في الاصل والغالب .
المؤمن لا يموت بل ينتقل من دار إبتلاء الى دار سعادة :
لقد ذكر ذلك عليه السلام في حديث للترمذي " الموت تحفة المؤمن " فالموت للمؤمن هدية ورحمة وكم من ميت ملا الناس من بعده الدنيا لفراقه عويلا وهو في عليائه يسخر منهم ويشفق عليهم ولا يعذب الميت ببكاء أهله عليه إلا بسبب توصيته بذلك لجهله أو عدم تربيتهم على خلق الصبر والاحتساب في حياته أو كان من أهل النار إبتداء فبكاء على بكاء وعذاب فوق عذاب .
للمؤمن فحسب إمكانية بناء مشروع للمستقبل يدر عليه الحسنات بعد تقاعده في قبره:
وهي من الرحمان رحمة ما تساويها رحمة إذ من أصول العدل أن الاجير ينقطع أجره بعد موته مباشرة بل تنقطع حتى معاشاته وفي أحسن الاحوال تنتقل في النظم الاجتماعية التي فيها شئ من العدل إلى بعض ورثته كالزوجة مثلا غير أن الله لا يعاملنا سبحانه بالعدل بل بالاحسان و بالرحمة التي سبقت غضبه فكان الرحمان حتى لا يقنط جاهل من حلمه ولا ييأس ساخط من عفوه. وتماما كما يعمد الاثرياء إلى بناء مشاريع في حياتهم تحسبا لانقلاب الظروف على أبنائهم يعمد تجار الاخرة إلى بناء مشاريع تدر الاحسان عليهم بعد تقاعدهم في قبورهم ولك أن تحصي الحسنات التي تظل تدر على الميت من يوم موته إلى أن تقوم الساعة مع مطلع كل شمس ومغربها بل ربما يجني منها ما لا يجنيه أصلح المصلحين في حياته فللمؤمن في الحقيقة عمران عمر قبل موته يجني منه الكسب لنفسه وعمر بعد موته يجني منه كسبا آخر لنفسه بما بنى من مشاريع الخير وظل الناس يتفيؤون ظلالها يمينا وشمالا .
مشروع الولد الصالح يتطلب نكاحا صالحا وتربية صالحة وبيئة صالحة :
ربما يكون مشروع الولد الصالح أبقى المشاريع باعتبار أنه لا يفنى فالولد يورث ولده الدعاء وجلب الصالحات لابائه مهما علوا وتتوالى حلقات الصلاح حتى يوم القيامة وللوالد الاول منها نصيب ولاشك كبر أو صغر نصيبا مفروضا . غير أن هذا المشروع بحاجة إ لى إعداد بداية بالمنكح الصالح فالام مدرسة كما قال الشاعر لو أعددتها أعددت شعبا طيب الاعراق وعماد الاسرة الام ولا شك فالتفكير في المستقبل بعد الموت يبتدأ في عنفوان الشباب وكذلك هي المشاريع الحياتية الكبرى تنشأ مبكرا ثم تكون الاسرة الكريمة يعتق القرآن جنباتها وتمطر السنة بوابلها الطيب الصيب عرصاتها ولا سبيل لاسرة كريمة صالحة أن تصمد في بيئة ملوثة فلا بد من مزاولة الدعوة إلى بيئة صالحة كتربة صالحة لا تجتث الاعاصير الهوجاء أشجارها المثمرة ومعلوم أن الولد لغة يشمل الذكر والانثى بخلاف ما عليه أعرافنا الاجتماعية .
مشروع الصدقة الجارية وتجلياته المعاصرة :
الصدقة لغة مناط الصدق لذلك جاء في الحديث أن الصدقة برهان أي أن التصدق بالمال سواء زكاة مفروضة أو مستحبة دليل على إيمان في القلب وصدق في العبادة وهي جارية بإعتبار أن أثرها لن يزال ماثلا للعيان يؤدي للناس أو للبهائم خدمة وفي كل ذات كبد حرى أجر ومن هنا يكون أجر الصدقة الجارية كما وكيفا بقدر إنتفاع الناس بها وسد ثغرة في الدنيا وذلك هو المنطق التجاري الذي طولبنا به في قوله " يرجون تجارة لن تبور " وعدم بوارها في الاخرة ناتج عن عدم بوارها في الدنيا . ومعلوم أن الصدقة الجارية تنقطع حسناتها يوم إنقطاع أثرها لذلك يرجى من أهل الخير فينا بذل صدقاتهم في المشاريع النافعة طويلة المدى فلو أحييت بمالك أما أشرفت على الهلاك من الجوع مثلا فحيي بحياتها الولد فإن صدقتك الجارية تمتد إلى ولد الولد الذي لو لم يقيض الله لامه الاولى حياة على يديك ما كان له وجود ولا عمل صالح ولو إستثمرت مالك في تحرير بلد من الاحتلال أو علمت أميا أو جاهلا أو ساهمت في بناء مصلحة للناس كمدرسة أو مسجد أو مستشفى أو سوق أو طريق أوما إلى ذلك فإن صدقتك تظل عليك مدرارة كلما إنتفع بذلك الاستثمار منتفع ولو بظل يدفع وهج القيظ . وإندفاعك إلى إستثمار مالك في المشاريع المستقبلية طويلة المدى ما يجب أن يصرفك عن الصدقة الانية العاجلة أي غير الجارية لانها لو حل زمانها ومكانها وحالها ووجبت في حقك كإنقاذ كافر غير محارب من هلاك بيم أصبحت واجب وقت وفريضة يوم في حقك لا يعذرك أنك تدخر مالك لمشروع حياتي جار كما أن إشتراك عدد من الناس في صدقة جارية مقبول ولا ينقص بعضهم أجر بعض إلا بما يتفاوتون في الاستثمار سيما أن المشاريع الكبرى تتطلب إتحاد الناس عليها .
مشروع العلم المبثوث في صدور الرجال :
أنبه مرة أخرى إلى أن كلمة الرجال هنا هي للجنس أي تشمل الرجال والنساء معا والامر ذاته للعلم لا ينحصر في العلم الديني أو الشرعي لان الفقه في الدين كما مر بنا في حلقة سابقة هو فقه في الحياة بدينها ودنياها وما سوى ذلك خاص بالمسيحية حيث تنفصل الدنيا عن الاخرة أما في ديننا فإن الله يقول " أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الاخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين " فالتفريق بينهما ظلم أما التمييز أيهما أولى الان وأيهما يؤجل إلى غد وما إلى ذلك فذلك هو عين الفقه . وإلا فما رأيك في رجل كإبن رشد هل يكتب له العلم الديني دون كونه طبيبا وفيلسوفا وأمثاله بالالاف في تراثنا ؟
كما لا تغرنك كلمة " في صدور" بل لعل اليوم الناس ينتفعون فضلا عمن بعدهم إلى يوم القيامة بما هو مبثوث في الكتب والمخطوطات وسائر ما في حكم ذلك أكثر من انتفاعهم بما هو مبثوث في الصدور وجل أولئك ممنوع من بث ما في صدره إما لسجن أو مراقبة أو مصادرة وهو في كل الاحوال مرشح للاغتيال في كل لحظة. فكل علم تكتسبه هو نافع للناس طرا سواء تعلق بدينهم أم بدنياهم أو بكليهما وسواء بثثته في الصدور أو في الكتب أو في الفنون كالمسرح والسنما وما إلى ذلك وسواء إنتفع به الرجال أو النساء أو الاطفال و هو حساب بإسمك مفتوح إلى يوم ينقطع أثر علمك عن الناس ولن ينقطع لان الناس يتوالدون ويتناسلون ويورثون علمك إلى ولدهم كابرا عن كابر ولك منه ولا شك نصيب مفروض بإذنه سبحانه .
الخلاصة :
النبي الكريم يرشد إلى أخصب حقول الاستثمار نفعا في الدنيا : وهي الاسرة عبر الولد الصالح والعلم عبر كل ألوان المعرفة في الدين والدنيا ومعالم عمارة الارض عبر الصدقة الجارية فلا تموتن إلا وقد ضربت لك بسهم في إحدى تلك الحقول الثلاث على الاقل .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الخامسة
أخرج الشيخان عن أبي سعيد الخدري أنه عليه السلام سئل عن أفضل الناس فقال " مؤمن يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه ثم مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ويدع الناس من شره ".
ــــــــــــ
أجدد الدعوة إلى حفظ الحديث المتفق عليه أما عن شواهده من القرآن الكريم فكثيرة وهي سائر الايات المحرضة على الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس والقرآن .
الناس أول من تنسحب عليهم نواميس التنوع والتعدد : سنة الاختلاف التي سماها القرآن زوجية أقوى السنن الحاكمة ليس لان الوحي نبه إليها فحسب ولكن لان العقل شهد لها وهي أقوى سنة ماضية بسبب أنها مصدر سائر القوانين الاخرى المطردة سواء في عالم المادة أو النفس وكذلك بسبب أن قوانين التمايز والتفاضل والتدافع ومن ثمة قوانين الحركة والحياة ومن ثمة إطراد ومضاء إرادة الله سبحانه كلها فرع عنها ولو تفرس عاقل في ذلك كله لالفاه في نفسه وفي الناس من حوله .
عنوان الفضل الاول : الايمان والجهاد .
الايمان بالله سبحانه وفق ما بينه الوحي الكريم ككل قيمة في حياتنا تخضع لعدد من المقاييس والابعاد كما تخضع المقاييس المادية لابعاد الطول والعرض والعمق والوزن وغير ذلك وشر ما يأتي على تلك القيم مادية كانت أم معنوية هو قصور النظرة إليها تماما كما تمثل ذلك في قصة العميان الذين تجمعوا حول فيل يتحسسونه فلما فرغوا ظل كل واحد منهم لوحده يصف ما وقعت عليه يداه فهل يمكن لعاقل جمع صورة فيل حقيقية دون ضم شتات ما وصفوا منفردين وليس لغير ذلك وهبنا ولي النعمة سبحانه عينين ولسانا وشفتين وقبل ذلك لبا وخيالا لاستجماع سائر شروط الاحاطة الباصرة بما حولنا من قيم مادية ومعنوية والحكم على الشئ كما قال المناطقة فرع عن تصوره . والناس في حقبات الانحطاط حيال الايمان غالبا ما ينشدون الى الصورة مستبعدين الحقيقة أو إلى الجوهر متلهين عن الجسد ولاشك أن الايمان جسد له روح واطراف وقوة وضعف وأغذية وأدوية وأمراض وسقطات وأصول وفروع تماما كشجرة لا بد لها من جذر وجذع وغصن وورق وثمر وظل ومساحة وماء وتعهد وتقلب في سائر أحوال اليوم والفصل والعمر. فلو نظرت إلى الايمان على أنه إعتقاد في أركانه الخمسة أو الستة المعروفة ثم توقفت عند ذلك كان كلامك صحيحا ولكنه منقوصا وكذلك لو توقفت عند كونه عملا بالاركان أو عند كونه قولا باللسان أو عند كونه شكرا وصبرا وأثرا... والحاصل أن الايمان كل ذلك وأكثر منه وفق بعده التكاملي بين سائر مكوناته الظاهرة والباطنة والفردية والجماعية والقولية والعملية وفي سائر أحواله من قوة وضعف ولذلك يستشكل على بعض الناس وبعض العلماء أيضا أحيانا إشادته عليه السلام أيما إشادة بالمؤمن وببشارته له بالجنة وإن سرق وزنى فينقسمون طوائف منهم من يلوي الفهم ليا بحثا عن تكامل منشود ومنهم من يفرض النسخ لهذا الحديث أو ذاك ومنهم من يحكم القرآن ومنهم من يعمل بالارجاء ورغم إصابة بعضهم الحق أو بعضه في هذا الموطن أو ذاك فإن الذي كثيرا ما يغيب عنا جميعا هو أن الايمان المقصود ليس هو سوى الايمان الراسخ الذي لا يقضي صاحبه حياته في إصابة ال أو الزنى أو الظلم فضلا عن الريب والشك والقول على الله بغير علم ولكنه يصيب كغيره من الناس طرا من ذلك لمما فسرعان ما يؤوب وكل أوبة منه مضيقة لمساحة الظلم لما بعدها كطالب علم يترقى في علمه يوما بعد يوم حتى يصبح مجتهدا فيه لا تكاد تلفى له زلة .
ماهو الجهاد :
الجهاد في سبيل الله سبحانه هو كل جهد يقوم به مؤمن يبتغي به رضوان الله وله في الوحي الكريم صورة أو صورة لا تناقض الوحي ولو كانت مبتدعة وبهذا المعنى فإن المؤمن الحقيقي لا يكون سوى مجاهدا في سبيل الله تعالى سواء بماله أو بنفسه أو بسائر ما وهبه ولي النعمة سبحانه غير أن هذه الصورة التي يستصحبها كل مؤمن حقيقي قد ترتقي إلى درجة الطلب المؤكد إلى حد كونها أولوية الاولويات وذلك حال تعرض أركان الوجود الاسلامي في النفس أو في الواقع إلى التهديد و تلك الاركان خمسة لابد منها لمجرد قيام الدين في النفس وهي الدين والحياة والعقل والمال والعرض وحياة الجماعات والاوطان ترتكز على ذات الاركان تلك فليس لمؤمن حقيقي أن يحيا بنفسه معرضا غيره للموت مدعيا في ذات الوقت تحصنه بالايمان فذلك هو محض النفاق
وبذلك يكون الجهاد غير منحصر الصور ولئن تحدث القرآن الكريم كثيرا عن الجهاد بالمال وبالنفس فلانهما أصلان لكل تلك الصور الممكنة فتحت الجهاد بالنفس تلفى الجهاد بالبدن وبالعقل وبالفكر وبالقلم وبالتدبير وبالتنفير إلى الخير ويصل حده عندما يلقي المؤمن روحه أغلى ما يملك فوق راحته ملقيا بها في مهاوي الردى نشدانا لحياة ماهو مقدم عليها وهو الدين ومنه حياة بقية الناس وعادة ما يقترن الجهاد بالمال وبالنفس مع غلبة هذا أو ذاك حسب الموطن .
والحاصل أن صور الجهاد بالمال وبالنفس لا تأتي تحت حصر وإنما يتعين على كل مؤمن منها ما يعينه عصره ومصره وإجتهاده وسعته وفق حاجة الجماعة وأفضل الجهاد ما ناسب زمانه ومكانه وحال صاحبه قوة وضعفا ولبى داعياته المعاصرة الاولى فالاولى فلو أحتل وطن مثلا فإن أفضل الجهاد هو الاستنفار لتحريره بالمال وبالنفس حتى يتحرر أو نموت دونه .
درجة الفتنة أو درجة اضعف الايمان : هي درجة المفضول التي نص عليها حديثنا اليوم :
يوهم ظاهر هذا الحديث بأن الدرجة الثانية بعد درجة الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس من لدن المؤمن هي درجة الانعزال عن الناس وملازمة العبادة والحقيقة خلاف ذلك لذلك لابد لكل طالب علم من التأني في فهم كل آية و كل حديث عساه يرتهن فهمه لفهم سواه وهذا كثير بل هو الاكثر . ومن ذلك أنك تلفي خاصة في الحديث دون القرآن مئات مما يسميه العلماء أحاديث الفتنة أي التي يرشد فيها عليه السلام الناس إلى أفضل عمل زمن الفتنة لا زمن العصمة منها فإذا كان لا يشير إلى ذلك صراحة فإن العقل المسلم مطالب بفرز ذلك تكريما للانسان وإستخلافا له ومن عادة الناس أن يختلفوا كثيرا حول تحديد زمن الفتنة فيمتشقه هذا لتخويل فرار وينتهكه ذاك لحصد رقاب أبرياء وتظل الوسطية مهجورة إلا من ثلة سرعان ما تؤوب إليها أسياف هؤلاء وأولئك على حد سواء وتلك هي بلية الابتلاء وذروته وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ولا شك . والناظر إلى مجموع الوحي الكريم سرعان ما ينقدح في ذهنة أمر سرعان ما تؤيده الحجج الناصعة وهو أن الجماعة فرض الفروض في الاسلام فرضت قبل الصلاة وسائر العبادات وعلى خلفيتها عوقب الصحابة بالهجران خمسين يوما حتى من أزواجهم وردا للسلام واجب الرد من أفضل من وطئ التراب طرا وبناء عليه فإن هجران الجماعة مع المحافظة على العبادة وعلى كف الاذى بكل ألوانه كما أشار الحديث الذي نحن بصدده مشروط بأمرين أولهماعدم مخالفة هذا الاصل الاصيل الذي هو لزوم الجماعة في السراء والضراء وثانيهما هو حصول الفتنة العظمى التي يستحيل معها أمر بمعروف أو نهي عن منكر أو دعوة إلى خير وهذا في الحقيقة قليل جدا وجوده في الامة فهي أمة لا يخلو خاليها من قائمين كثر على الحق . فالحاصل أن المؤمن المشار إليه في الدرجة الثانية بصيغة " ثم " في الحديث هو مؤمن الفتنة القاصمة وعلى أية حال لسنا في زمانها ونحن نتطلع إلى عهد صحوة إسلامية رشيدة تعيد الاعتبار للاسلام دينا ودنيا وجهادا وإجتهادا ومما يؤكد ذلك أنه عليه السلام أشار في آخر الحديث إلى أن ذلك المؤمن يدع الناس من شره مما يشير إلى أن المعتزل صاحب شر في الاغلب وهو كذلك في فكر الاسلام القائم على الجماعة لا على العزلة والانانية وهو بذلك يلتقي مع حديث آخر يؤكد فيه عليه السلام لسائله الذي ظل يدنو به من محطة خير إلى أخرى نزولا إذ قال له في النهاية ".. كف أذاك عن الناس " . فكن مؤمن الدرجة الاولى دوما ولا تقنع بكف أذاك عن الناس بل إطمح إلى بث خيرك اليهم .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة السادسة
أخرج الشيخان أنه عليه السلام قال " لقد كان فيمن قبلكم من عباد بني إسرائيل رجل يسمى جريج العابد ظلت بغي تراوده عن نفسه طويلا فاستعصم بربه سبحانه ولما يئست منه ذهبت إلى راع مكنته من نفسها ولما وضعت سئلت عن أبي الصبي فقالت جريج العابد فذهب إليه قومها وأشبعوه ضربا وهدموا عليه صومعته فجاء إلى الصبي وسأله عن أبيه فأنطقه الله سبحانه وقال الراعي فلان فاعتذروا له وعرضوا عليه إعادة بناء صومعته من ذهب فقال لا بل من طين كما كانت ".
ـــــــــ
موضوع الحديث : الثقة في عدل الله وحكمته والطمأنينة الى حق وعده واليقين في نصره .
أما إستخدام الوحي قرآنا وسنة للقصة والمثل وسائر العروض الفنية المساعدة على حسن الفهم والتدبر فهو أمر مبثوث إلى درجة أن القصة محور قرآني مستقل يحتل أكثر القرآن الكريم .
دروس من الحديث :
1 ـ الابتلاء سنة ماضية ليس الصالحون بمنأى عنها بل هم أول ضحاياها وليس ذلك سوى لان الابتلاء في الاسلام للمؤمنين تأهيل ودربة وتحصين وترقية وإلا فلم يبتلى أفضل الخلق طرا الانبياء ثم من كان بهم أولى فأولى وهو لغيرهم إستدراج وعادة ما يكون الابتلاء بالضر تمحيصا وترقية كما يبتلى التلميذ أو الطالب درجة بعد درجة لينال شهادته وكفاءته وعادة ما يكون الابتلاء بالخير إستدراجا ومدا إلا في شأن المؤمن فإنه عادة ما يبتلى بهذا ثم بذاك أو بذاك ثم بهذا أو يزوجهم ضرا وخيرا لحكمة عنده سبحانه . ولو كان الابتلاء لا ينال الصالحين لما تعرض هذا العابد من بني إسرائيل له وهو المعتكف في صومعته ليل نهار صباح مساء بل الصالحون هم أولى الناس بالابتلاء الذي لولاه لما تمحص متمحص فدخل الجنة أو إرتد مرتد فدخل النار .
2 ـ ليس من ضرورة الابتلاء أن يبتلى الانسان بجنس عمله أو صلاحه بل عادة ما يكون العكس تماما هو الغالب إذ أن الجزاء وحده يكون عدلا معدولا من جنس العمل أما الابتلاء فليست له صورة نمطية لذلك إبتلي العابد بأبعد شئ عنه وهو معاقرة البغايا وكان يمكن أن يبتلى ببلية الرياء مثلا أو القول على الله بغير علم وكذلك يبتلى الصالحون دوما بغير ما ينتظر وقوعهم في حبائله وإذا كان ذلك قاسيا حقا عليهم لسرعة إنتشاره في الناس إنتشار النار في الهشيم ولتلطيخه سمعاتهم فإن إرادة الله سبحانه لها حكم أخرى منها إبتلاء الناس بذات الابتلاء هل يصدقون أم يكذبون وهل يسرعون التصديق أم يتثبتون ويتحرون وهل يشمتون أم يتأسفون .فليس للانسان إذن أن يحدد هو قائمة الابتلاءات أو عائلاتها التي يرجوها دون غيرها لو إبتلي إذ من شأن ذلك أن يحوله إلى مالك لا إلى مملوك أو إلى رب لا إلىمربوب أو إلى معبود لا إلى عبد ومن تمام العبودية الرضى بالابتلاء وبنوعه وجنسه ودرجته ومدته وبقالة الناس عنه .
3 ـ إذا رام خصمك أو عدوك رميك بتهمة لحاجة في نفسه يقضيها فلن تعوزه حيلة وإلا لم خلق الكذب والبهتان والافتراء ولاتظنن أن عدوك أو خصمك الحاسد يبعد عنه أن يقذفك بأبعد التهم عنك كأن تكون مسالما فتقذف بالارهاب أو متوسطا فترمى بالتطرف أو عفيفا كحالة جريج فيقال عنك زان وعدوك خبير لا يلقي التهم على عواهنها بل يلفق منها ما يكفي لاقناع الرأي العام الذي عادة ما لا يبحث كثيرا عن أمور لا تهمه أصلا أو ليست من أوليات إهتماماته فلم تكن تعدم البغي رمي جريج بالزنا لو لم تحمل من الراعي وعدوك لو بحث عن زلة منك لوجدها فلست مصفى من إتيان الزلات ولا معصوما والمهم في كل ذلك أن تكون أنت منضبطا لشريعة ربك سبحانه ما إستطعت وبعدها يستوي عندك أن ترمى بذا أو بذاك .
4 ـ حتى تكتمل حلقات الابتلاء واحدة واحدة وتتم إرادة الله سبحانه فيك وفي غيرك لابد من إتمام عدوك لخطته وهي الابتداء بقذفك وتشويه صورتك والانتهاء بضربك وإيجاعك بالقتل والتشريد وسائر الاضرار ولو كان الابتلاء يتوقف عند حد الكلام لما أحجم عن الجهاد في سبيل الله مؤمن ولما تميز طيب من خبيث وليس من مهمة عدوك التثبت قبل ضربك بل من مصلحته عدم التحري لانه يعلم صدقك وإخلاصك وبراءتك وليس لعدوان خصمك حد فلا يعجزه هدم صومعتك وبيتك بعد تعذيبك وضربك إذ يجب أن يعلم كل الناس بمرآهم انه هو الاقوى والاقدروالاصلح للقيادة ولا يتم له ذلك بسوى الامعان في إهانتك ونسف بيتك والافتراء عليك .
5 ـ إذا تعففت أنت عن الحرام سواء كان حرام عرض كحالة جريج أو حرام قول أو فعل أو إعتقاد فلا تظنن أن غيرك بمنأى عن ذلك وتلك هي مقتضيات سنة الزوجية وهل للايمان من معنى إذا إختفى الكفر وهل لهذا من معنى إذا إختفى الايمان وتلك هي حقيقة الابتلاء فما تتأبي أنت عنه بدافع التقوى فإن غيرك يأتيه ويتخذ منه عدوك خولا لرميك بالتخلف وعدم مواكبة العصر ولا تظنن أن كل أولئك الذين يستخدمهم العدو لاذلالك ولتمرير أكذوبته على بينة مما يأتيه عدوك بل عادة ما يكون أغلبهم من الذين تقودهم بطونهم أو فروجهم لاقتراف ما يرضي العدو فلا يدركون أنهم بذلك ييسرون له سبل الافساد في الارض فليكن إصلاحك مرتب الدرجات لا يستوي قولك لهؤلاء وأولئك فضلا عن عملك فلكل سعره ودرجته وزمنه ومقامه .
6 ـ ليس لك من سبيل للانتصار على مشاريع الافساد في الارض سوى سبل الصبر علىما أنت عليه رغم العقبات فلا تظنن أنك حين يسلم الناس من شرك تسلم من شرهم وسبل الثقة في الله سبحانه واليقين في نصره وغلبته والامل والرجاء في عدله وحكمته ذلك أن الله لا يدعك تدعي الايمان حتى يختبرك حلقة بعد حلقة تبدأ عادة بالضر بكل ضروبه فإن صبرت على ذلك عقدا بعد عقد يختبرك بالخير فإن صبرت على الضر بدء وعلى الخير نهاية فإنه لا يحجزك عن الجنة سوى الموت والله تعالى لحكمة يريدها فيك يؤخر عنك إظهار الحق فيما أوقعوك فيه حتى يختبرك هل تظل دوما واثقا فيه على يقين منه صابرا محتسبا أم تكون كمن أعطى قليلا ثم أكدى وفي حالة جريج درس بليغ في أن الله مظهر الحق صغيرا كان أو كبيرا وليس في الحق صغير يوما ما فإن أبطأ عنك اليوم فهو عنده لاجل مسمى ولحكمة وربما لو ظهر في حياتك لكان وبالا عليك تنقلب عليك نفسك مديحا فتخسر وتغرك الدنيا المتلونة لك بمناسبة إنتصارك غيرأن القاعدة المحكمة والسنة الماضية لا تتخلف و هي أن الحق يظهر متلالا يوما ولست تدري أنت بأي طريق يظهر فأحيانا بمعجزة رحمانية كما في حالة جريج أبى الله إلا أن يظهر الحق على يدي صبي لم يجاوز الايام الاولى من عمره وأحيانا تظل السنن الاجتماعية تقلبه عقدا بعد عقد حتى ينبلج فجره فلا تدركه الاجيال المعاصرة ولست أنت الذي تحدد الطريقة التي بها يظهر الحق ويزهق الباطل وإلا لكنت أنت المعبود وربك سبحانه هو العابد فعليك بواجبك إحفظه واصبر عليه وليس هو سوى الايمان فالعمل الصالح فالتواصي بالحق فالصبر فالثقة والامل والدعاء وما عليك بعد ذلك من حساب ربك لك ولغيرك من شئ .
7 ـ يوم يظهر الحق ويحصحص لا يعجز عدوك أن يأتيك بنفسه معتذرا عارضا عليك الدنيا بحذافيرها ولا يهمك يومها إن كان قد تسلل الايمان إليه أم أنها دموع التماسيح فعبادتك يومها هي ذات عبادة حبيبك محمد عليه السلام يوم الفتح " فسبح بحمد ربك واستغفره " و" إذهبوا فأنتم الطلقاء " علما أن ذلك كان مقرونا ب" أما فلانا وفلانا فاقتلوهم ولو تعلقوا بأستار الكعبة " المهم هو حسن التقدير .
من هو جريج عصرنا وصبيه : هو فلسطين المغتصبة والعراق المحتل وملايين من المسلمين والمستضعفين في الارض يسامون الخسف والله حتما مزهق باطلا انتفش ومظهر حقا أزف ولكن ليس على فم صبي بل بآيات باهرات تنصرها فيالق من الشهداء والمجاهدين ودون ذلك صبر ومصابرة واصطبار وجهاد واجتهاد وعذابات وشهادة وإن غدا لناظره قريب .
أما بغي عصرنا الحاضر فليست سوى الصهيونية والصليبية والاستبداد والنفاق وسائر بناتها.
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة السابعة
أخرج الشيخان عن إبن مسعود رضي الله عنه أنه عليه السلام قال " لا حسد إلا في إثنتين : رجل آتاه الله مالا فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها ".
ـــــــــــــ
الحديث متفق عليه ويسير حفظه فلا تزهد فيه وشواهده من القرآن كثيرة منها آيات الانفاق و" ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ".
موضوع الحديث : أخصب حقول الاستثمار ما كثر نفعها للناس في الدنيا أي المال والعقل .
الحسد ممقوت بحكم أنه أفسد الخلق طرا وهو يأكل الحسنات كما أخبر عليه السلام كما تأكل النار الحطب وآثاره الواقعية وخيمة إذ يوغر الصدور وينشئ العداوات ويصرم حبال المجتمعات ويوقد نيران الحروب ويمهد لكل عدو متربص . والحسد هو تمني زوال نعمة المحسود والاسلام أبدلنا عنه بالغبطة وبالتنافس الشريف والتعاون والاعتراف بسنن التعدد والتفاضل ومن ثم التكامل فإذا ما أعجبت بملك أحد من العلم أو المال أو ما سوى ذلك فأدع الله أن ييسر لك منه كما يسر له وأكثر والافضل من ذلك أن تدعو للمعجب به بالبركة والنماء فيما يسر له ثم تنافسه وتناصحه فإن بدر منك شئ عليه فأستغفر له وأدع له وعاود ذلك كلما عاودك شيطانك فيه .
كيف ينهى عليه السلام عن الحسد في موضع ويأمر به في آخر؟: نصيحة أسديها لكل طالب علم وهي أن من أخصب أبواب طلب الفقه في الدين ومن ثم في الدنيا والحياة البحث عن مواقع التناقض الظاهري في الدين كالذي نحن بصدده وهي كثيرة ثم المبادرة إلى حلها وهي التي سماها القرآن المتشابهات وهي نوعان نوع إستغلق فهمه بالكلية على وجه اليقين ونوع يجب الاجتهاد في فهمه وهو كذلك نوعان نوع يحتمل أكثر من إجتهاد ونوع لا يحتمل سوى قولا واحدا ومنه الذي نحن بصدده الان . والجواب إذن هو أن الحسد المنهي عنه هو الحسد السلبي الذي لا يزيد القلب سوى تدميرا وخواء ولهثا وراء الاضرار بالمحسود أما الحسد المأمور به فهو الحسد الذي يدفع إلى التنافس الشريف والمسارعة إلى الخير والتسابق إلى الفضل من علم أو مال أو ما إلى ذلك والفرق بينهما هو عمل القلب فحسب من جهة والتوبة من جهة أخرى كما بينا آنفا .
لماذا إستخدم عليه السلام هنا بالتحديد لفظ الحسد ؟: وذلك لان الامرين اللذين دعا إلى التحاسد فيهما تنافسا شريفا مع سلامة طوية أو توبة دائبة من العلا بمكان كيف لا وهما مدار الدنيا وهل قوام الدنيا والحياة بأسرها عند الكافر والمؤمن سواء بسواء سوى المال والعلم لا بل كيف لا وليست الجنة أي جنتك في الاخرة أو نارك سوى صورة لدنياك في حياتك وأي جنة ترصد لمن لم يكسب مالا فلم ينفق وأي آخرة لمن لم يكسب عقلا وعلما وفقها وحكمة في إدارة الدنيا والحياة بأسرها فلم يكن سوى أخرق يخرق الامر خرقا فيفسد .
النبي الاكرم عليه السلام يحدد الخطة العامة للمسلمين في كل زمان وفي كل مكان :
البند الاول من الخطة : تسخير الدنيا للانسان ضمانة لحياة سعيدة وآخرة أسعد .
لماخلقنا الله سبحانه أودع فينا عددا من الغرائز لا سبيل لنا للتخلص منها فهي تحفظ وجودنا المادي والمعنوي إلى أجل معلوم ومنها غريزة حب البقاء ومن فروعها حب المال وما في حكمه وحب الخلف وحفظ الذكر والملكية ولكن إذا كان الامر كذلك فلم يوجهنا إلى إكتساب المال وتسخير الدنيا والجواب هو أن بعض الناس وأحيانا بدواعي دينية مغلوطة يعرضون عن ذلك لذلك وجب التصحيح وهذا ربما يكون اليوم مفهوما ونحن نقرأ عن بعض الناس في القديم والحديث منا ومن غيرنا يتقربون إلى الله سبحانه بترك الدنيا والموت جوعا والارزاء بالبدن ولاشك أن حياتنا اليوم وهي ترفل في ذروة زهوها المادي تمتلا بحركات وإتجاهات تقوم على هذا الاساس ولنا في تراثنا القديم شئ شبيه بهذا مما أنتجته بعض التوجهات الصوفية الموغلة في ترك الدنيا والفرار من الناس وإيثار الفقر . غير أن الحديث جمع إلى ذلك أي إلى الدعوة إلى تسخيرالدنيا والتمتع بطيباتها أمرا آخر هو الاعسر على النفس غريزة وهو الانفاق من المال بسائر صنوفه فالفارق بين المؤمن وبين الكافر بعد إكتساب الدنيا وتسخيرها هو أن المؤمن يرعى حق المحتاج فيها وهو حق سماه الله حق الله إعلانا لقدسيته فهو ولي أولئك الذين لا يجدون حيلة ولا يستطيعون سبيلا ومن ثم فهو ينفق منه وفي ذلك شفاء لنفسه من أدواء الحقد والحسد وللمجتمع من الصراعات الطبقية المهلكة وتعمير للدنيا بالخير المادي والمعنوي أما الكافر فهو يسخر الدنيا فلا ينفقها إلا على شهوات نفسه أو ما يؤخذ منه ضرائب قهرا لا ترضى بها نفسه أو ينفق على مشاريع الفساد والافساد في الارض وتكون عليه حسرة يوم موته ويوم بعثه وبالنتيجة فإن الناس من إنفاق الكافر إما لا ينتفعون أو يتضررون سيما أن المؤمن مطالب إذا ما تكافأ شره في المن والاذى مع خيره في الانفاق وثمره بترك هذا وذاك معا وذلك في قوله " قول معروف ومغفرة خير من صدقة يتبعها أذى " وليس مرتقبا من الكافر الانفاق دون من وأذى . والحاصل فإن النظر في الدنيا بغرض إفادة خشوع وبغرض تسخير مادي عبادة من أجل العبادات التي سطرتها خطة النبوة وهي مبوأ عقبى حسنة في الاخرة إذ أن الجزاء من جنس العمل فإذا ما فعل مؤمن ما يستطيع لاكتساب دنيا فلم يفلح لسبب ما فإن عبادته الصبر والمحاولة والدعاء والمطالبة بحقه من المجتمع وحكامه فله في مال الناس حق محقوق ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها أما لو فرط في إكتساب دنيا حلال بدعوى أنها لا تقرب من الله أو أن العبادة بمعناها الضيق خير منها فهو مفرط ولا شك في أفضل منازله في الجنة فهي درجات تماما كالنزل والمنازل في دنيانا.
البند الثاني من الخطة النبوية : لا سيادة للانسان بغير العلم والفقه والحكمة .
من العجائب القرآنية أن الحكمة ذكرت مباشرة بعد آيات الانفاق في البقرة وهي أطول دعوة للانفاق في القرآن بأسره وإشتملت على الدعوة إليه ثم توسعت في النهي عن المن والاذى الذي ينتظر حدوثه بعد الانفاق ثم عاودت الدعوة إليه مجددا ثم تحولت إلى نقيضه وهو الربا وأعلنت الحرب عليه ولم تعلن الحرب على غيره مطلقا سوى ما ورد في السنة في حديث الولاية وبعد ذلك الحشد الكبير في موضوع المال والانفاق وقبل الخلوص إلى أحكام كتابته وتوثيقه ذكرت فيما يشبه التعليق النهائي على ذلك كله " يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراكثيرا " فإذا إستخدمنا آلية السياقات كمساعد علىحسن الفهم لقلنا بأن الحكمة في مظهر منها على الاقل ليست هي سوى أكتساب المال بالطريق الحلال ثم إنفاقه في السبيل الحلال دون أذى ولا رياء ودون لجوء إلى حرام السحت والربا وظلم الناس وإستغلال المحتاج حتى لو كان غنيا . ولابد لنا من الاقرار إذن بأن الارتباط بين الحكمة بهذا المعنى وبين إكتساب الدنيا وإنفاقها في مشاريع الخير الانساني عامة هو إرتباط أشارت إليه الحكمة النبوية أولا وهو إرتباط لابد منه لنجاح الخطة فلا يغني إكتساب دنيا ولا إنفاقها عند المؤمن عن إكتساب الحكمة وتعليمها ولا تغني كذلك هذه عن تلك . وهذه بالمناسبة نصيحة أخرى إلى كل طالب علم وهي أن الحديث النبوي إذا صح طبعا هو حديث متكامل لا بد من ملاحظة تكامله وإرتباط سائر عناصره قلت أو كثرت وهذا ضرب من الفقه يساعد على حسن الفهم للوحي بأسره ويطرد شبح الافهام المبتورة المجزأة التي تعطي صورة مغلوطة عن الحكمة النبوية التي إنما جاءت لحل مشاكل الدنيا لا الاخرة .
ماهي الحكمة وكيف تكتسب ؟: الحكمة مطلقا هي وضع كل أمر وكل شئ ماديا كان أو معنويا في موضعه المناسب له زمانا ومكانا وحالا وعرفا ومصلحة وليس مطلوبا ولا ممكنا لكل إنسان أن يكون حكيما في كل أمره فتلك شيمة الانبياء عليهم السلام بل حتى هؤلاء لولا عصمة الوحي لما أصابوا الحكمة في كل أمر والحكمة هي من نتاج العقل إذ العقل هو الذي يدبر الامر وليست الجوارح بأسرها سوى جنود تنفيذ والعقل الذي ينتج الحكمة أو ضدها وهو الحمق والخرق إنما ينتج ذلك وفقا لغذائه المادي و المعنوي سواء بسواء والمعنوي منه هو مجموع إرث من الوالد والخول والبيئة والطفولة وخاصة الاولى تماما كمناخ طبيعي وتربة يهيئ شجرته تبعا لمعطياته وينتج ثمرتها تبعا لحرارته ورطوبته . تكتسب الحكمة إذن وفق بنية العقل والعقل تشكله الافكار والقدوات وليس كالاسلام لو فهم حق فهمه في أصوله العامة ومعاقده العظمى على الاقل ثم عمل بما تيسر منها منتجا للعقل السليم المنتج بدوره للحكمة .
خلاصة الحديث بلغة معاصرة : أمة الاسلام اليوم بحاجة الى حقلي الاستثمار( الدنيا والعلم ) لتحقيق النهضة الشاملة الكاملة المتكاملة .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الثامنة
أخرج الشيخان عن أبي هريره رضي الله عنه أنه عليه السلام قال" بينما رجل يمشي في الطريق فوجد غصن شوك فأخره فشكر الله له فغفر له ".
ــــــــــ
حديث متفق عليه لا يحسن سوى حفظه والعمل به وتعليمه وشواهده من القرآن الكريم كثيرة منها
" ياأيها الذين آمنوا إركعوا وأسجدوا وأعبدوا ربكم وأفعلوا الخير لعلكم تفلحون ".
موضوع الحديث : لاوجود لعمل تافه أو صغير أو حقير كلما كان نافعا ومخلصا .
كعادة الوحي يهمل الاسم والرسم والمكان والزمان صارفا الذهن عما لا يفيد إلى ما يفيد فلا حاجة لنا إلى معرفة هذا الرجل ولا الطريق ولا غصن الشوك من أي شجرة هو وهو درس بليغ و مازال كثير من الناس غير قادرين على كبح جماح أهوائهم لصرفها عما لا يزيد الناس سوى تفرقة وتفاهة وسذاجة وسطحية .
فموضوع الحديث إذن هو أن كل عمل نافع للناس وليس للمسلمين فحسب وبقطع النظر عن مدى نفعه هو عمل كبير يمكن إلى جانب إخلاص صاحبه الافضاء عبره إلى شكر الله سبحانه ومن ثم المغفرة ودخول الجنة وهو أمر مازال كذلك كثير من الناس من المسلمين خاصة يحقرون أثره و في نفوسنا عادة ما يختبئ هذا التحقير ويتسلل إليها ذلك الاعتبار التافه إلى مثل تلك الاعمال التي مازلنا نقول عنها أنها صغيرة وكل واحد منا تقريبا إلا من رحم ربي سبحانه يقول في نفسه لو لقي عملا مماثلا أو تعرض إليه في خاطره " وما يغني هذا عن الناس أنه أخر عن طريقهم شوكا فالشوك لا يتطلب من عابر السبيل سوى بذل جهد صغير بحركة برجلة فيزيحه ولو لم يفعل ما زاد ذلك الطين بلة فالاعمى تقوده عصاه وهب أنه وقع فيه فإنه لا يضره إلا قليلا " وفي المقابل ننظر إلى أصحاب الاعمال الكبيرة من مثل بناء المساجد والمستشفيات والمدارس وبناء الطرقات وحفر الابار وغيرها من المشاريع الاستثمارية التي ينتفع منها ملايين مملينة من الناس على مدار العمر على أنهم هم أصحاب الخير دون غيرهم من البسطاء والفقراء الذين لا يجدون غير جهدهم كما عبر عنهم القرآن الكريم وأنزل لقصتهم منزلا في الوحي المتلو ليل نهار صباح مساء في حين أنه كان يمكن الاغضاء عن ذكرهم لو كان العمل الذي قاموا به صغيرا في معيار الوحي وحقيقة الامور لا بل عمم الذكر في حال كبار المنفقين وأثنى عليهم ثم مضى غير أنه لما توقف عند حال أولئك البسطاء الفقراء زينهم بقوله " والذين إذا جاؤوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا ألا يجدوا ما ينفقون " ولاشك أن تلك الدمعات الحرى التي لم يرها غيرها سبحانه وهم يتولون والحسرة تكبت أفئدتهم شدت الوحي فلم يبرح حتى سجلها بل ربما فاقت جبالا من الذهب والورق ينفقها الذين وسع الله عليهم . والعبرة من كل ذلك هو أن الانفاق من المال أو الجهد بشتى أنواعه ليس مقصودا لذاته رغم أنه يغني المعدوم ويكسب المحتاج ويعمر الدنيا ويزين الحياة ولكن المقصود الاكبر والاول منه هو ما عبر عنه سبحانه لما خط لنا مقصد الزكاة التي هي مفروضة ومقاصدها تنطبق على ما كان من جنسها غير مفروض كالصدقات بتعبيرنا نحن اليوم " خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم فان صلاتك سكن لهم " وكان يمكن أن يقول له خذ من أموالهم صدقة تغني بها فقراءهم ولكن الاغناء عمل لا يأتي إلا من الغني ذي القوة المتين سبحانه ولي النعمة بأسرها ولو كان الاغناء عبر الصدقات وسائر الانفاقات هو المقصد الاول لاغنى الغني سبحانه الناس كلهم ولكنه أراد ابتلاءنا من جهتين : جهة الانتصار على الشياطين الماكرة الجاثمة فينا حتى أن الامام الغزالي عليه رحمة الله قال " في صدر كل واحد منا شيطان ينادي كل صباح أنا ربكم الاعلى فأعبدون " إذ لو إنتصر الواحد منا على الجولة الاولى من سلسلة من المباريات الطويلة أي جولة النفس لترشح إلى الدور الموالي وكسب الرهان أما لو فشل هناك فإن مآله الفشل لا محالة به حائق حتى لو قال الناس غير ذلك . والجهة الثانية التي نحن فيها مبتلون هي التدين الجماعي الذي نقيمة عبر الجماعة في الصلاة وفي الانفاق وفي سائر العبادات والعزائم والانفاق هو الذي ييسر لنا ذلك فتزول الاحقاد وتنطمس الاحساد .
فالخلاصة الاولى هي أن سعر العمل الناجح المقبول يتحدد عبر محددين هما النفع والاخلاص ولولم يكن الامر كذلك لما كان الله سبحانه عادلا بين عباده الفقراء والاغنياء وتكون بالتالي الاخرة على غرار مقياس الدنيا دار الاغنياء أما الفقراء فلا رب لهم في الدنيا ولا في الاخرة.
النبي الاكرم عليه السلام أول من أرشد إلى قضايا البيئة والجمال والحضارة :
كان يمكن له عليه السلام أن يضرب لنا مثلا آخر في الاعمال التي نحتقرها لصغرها في أعيننا غير أنه آثر هذا وفي هذا عبرة غزيرة وهي أن الطرقات في كل زمان ومكان سيما في حالنا اليوم تشكل بلغتنا المعاصرة البنية التحتية التي لا يصلح ما فوقها لو لم تصلح هي ولاشك أن الاقتصاد الناجح اليوم إنما يقوم على شبكة من الطرقات البرية والبحرية والجوية والالكترونية والاثيرية الناجحة ومن شأن الطرقات الصالحة الواسعة النظيفة تيسير عمليات التبادل البضائعي والتوريد والتصدير بأيسر وقت وجهد ومن شأنها كذلك التقليل من إمكانية الحوادث القاتلة والمعيقة إلى أبعد حد وإذا كان هذا الرجل الذي لقي شوكا في طريق ربما لا يسلكها سواه في التاريخ الغابر فأزاحه فإن الرجل اليوم منا يجد في الطريق أشواكا ليست من أغصان الشوك التي سرعان ما تدهسها السيارات ماضية لا تلوي على شئ بل هي من أثر الفيضانات والاعاصير وجثث الحيوانات والاحجار والثقب في الطريق والعربات المعطبة غير المضيئة وبكلمة فإن النبي الكريم عليه السلام يرشدنا إلى أن تعبيد الطرقات وتهيئتها للسائرين وتعهدها بالاصلاح يرتب لنا في حياتنا أمورا كثيرة منها سرعة تنقلنا وقضاء حوائجنا ونجاتنا من الهلاك وإزدهار تجارتنا واتصالاتنا وفوق ذلك تزيين بيئتنا ومنها طرقاتنا بمظاهر الزينة والجمال والرقي والحضارة . أم نقول إن النبي الاكرم عليه السلام أرشدنا إلى إزاحة أشواك الطريق واليوم طرقاتنا ليس فيها أشواك فلا حاجة لنا إذن بمثل هذا الحديث ؟ وهذا فهم لا يستقيم لان الشوك في الطرقات كما يقول العلماء ورد مورد الغالب من ناحية ومن ناحية أخرى هو يشمل سائر أنواع الشوك بإعتبار أن وظيفة الشوك هي إعاقة السير وإحداث الضر بالسائرين وغمط مظاهر الجمال والحضارة في الطرقات .
النبي الاكرم عليه السلام أول من أرشد إلى الاهتمام بالملك العام :
المعاني التي يمكن للمرء أن يستنبطها من الحديث لا تأتي تحت حصر غير أن معنى آخر لابد لنا منه في ختام هذه الحلقة وهو أن من عادة الناس الاهتمام ببيوتهم وأفنيتها وسائر الامور التي تجبي اليهم مصالح شخصية عاجلة مباشرة أما ما تعلق بالجماعة من مثل الطرقات وسائر المرافق فإن الناس عادة ما يهملونها أو يرمون بعبء الاهتمام بها بعضهم بعضا خاصة قبل تبلور النظم الاجتماعية المحددة كالدولة والحكومة وحتى في حال قيام هذه فإنها عادة مالا يمتد سلطانها إلى سائر الاحياء والازقة الضيقة المطمورة أو الارياف والقرى البعيدة المغمورة إلا بغرض احصاء سكنات الناس وحركاتهم والنبي الاكرم عليه السلام وهو صاحب دين الجماعة كمقصد قصيد وأصل اصيل ومبدإ بادئ لاصلاح الدين والدنيا معا لم يغب عن باله الاهتمام بالشأن العام للناس وخاصة الطرقات التي لا يذكرها الناس إلا حين يفتقدونها لتيسير تجارتهم إثر طوفان أو عصير .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة التاسعة
أخرج الشيخان عن عثمان رضي الله عنه أنه عليه السلام قال " خيركم من تعلم القرآن وعلمه ".
ـــ
حديث متفق عليه يحسن حفظه والعمل به والدعوة اليه وتعليمه وشواهده من القرآن كثيرة منها
" ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدكر".و" إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ".
موضوع الحديث : إحدى أبواب الخيرية القرآن تعلما وتعليما .
وردت أحاديث كثيرة بصيغة خيركم من مثل " خيركم خيركم لاهله وأنا خيركم لاهلي " ولقائل أن يقول بأن الخيرية لها أبواب كثيرة إذن فهي متناقضة وهذا لاوجه له لا لغة ولا شرعا فأما لغة فتقول العرب عن فلان هذا خير الناس وربما في ذات المجلس خير الناس عن آخر وهي تعني أن كلاهما خير الناس إذ ليس ثمة معيار دقيق صارم سيما عند الناس يمكنه وزن الناس كما يوزن الذهب وسائر الموزونات المادية ولكن الخيرية هنا للتقريب فمجالها أوسع ونطاقها أرحب فهي طريق يسع السائرين وليست نقطة لا يقف عليها سوى واحد من الناس فحسب وذلك من فضل الله على الناس إذ حتى في الخيرية والامامة ما ينبغي لهم إلا أن يكونوا جماعة رغم تفاضلهم في الجماعة أيضا . أما المعنى الاخر للخيرية فإن خير الناس سيما في المعيار الاسلامي في هذا المجال فعادة ما يكون من خيرهم كذلك في المجال الاخر فخير الناس لاهله مثلا ليس له بد من تعلم ذلك من القرآن علما وتعليمه لاهله الذين رباهم بالقرآن فصاروا به له خير الاهل كما صار هو به لهم خير المربي والعائل ولو إكتفى بالامر لنفسه لما كان خير الناس ولكنه علم ذلك لغيره بالقرآن وبالقدوة فكان خير الناس لانه كان خيرهم لاهله بالقرآن علما وعملا ودعوة وتعليما وعلى ذلك قس سائر وجوه الخيرية التي أرشد إليها الوحي قرآنا وسنة .
ولاشك أن الدنيا مبنية على سنن التفاضل والتمايز لذلك عدد الله سبحانه أبواب الخيرية في الحياة حتى لا يحرم سالك إلى رضوانه سبحانه بتعمير الدنيا من باب من أبوابها وإلا كان الرحمان سبحانه غير عادل في حكمه وقسمه ورزقه بين الناس وليس كل الناس يسعهم لاختلافهم الدخول من باب القرآن فحسب وليس يسعهم أن يدخلوا كلهم من باب الاحسان إلى الاهل فحسب والاسلام كما أخبر الصادق المصدوق عليه السلام بضع وستون أو سبعون شعبة وذلك طبعا بعد الوقوف منهم أجمعين على رصيف واحد معبد ثابت وهو رصيف الثوابت العظمى .
ماهو القران الذي يتعلمه خيرنا ؟:
القرآن هو القرآن ذاته لم يتبدل فيه حرف واحد فهو محفوظ بإرادة علوية لا تأخذها سنة ولا نوم ولكن الذي يتغير هم الناس أي افهامهم ومدى إقترابها أو بعدها من المقصود الالهي أو النبوي والافهام تختلف ولا شك غير أنه لابد لاختلافها من وكاء يربط جذرها إلى أصل أصيل ثابت وإلا غدا الامر عبثا معبوثا وهو أمر ينطبق علىكل كلام وليس مقصورا على القرآن وليس واحد منا يرضى لحديثه أن يؤول بما لا يتلاءم مع قصده أو يحرف فما بالك بولي النعمة سبحانه .
القرآن قصر شامخ منيف خالد لا تنقضي عجائبه غير أن اجزاءه ومكوناته مختلفة الاهمية :
أهم شئ في القران الكريم موضوعة الايمان التي جاء بها والاهم منها طريقة اكتسابها وكيفية المحافظة عليها حية وتجديدها والاهم من كل ذلك تغذية الحياة بأسرها بماء ذلك الايمان فتنصلح ثم تأتي موضوعة العبادة في المرتبة الثانية وليس أهم منها سوى إتباع سنة من فصلها عليه السلام إتباعا دقيقا فيما إتفق عليه الناس والتسامح فيما إختلفوا فيه وأهم من ذلك كله الغوص إلى الاسرار التي من أجلها شرعت تلك العبادات لتبقى حية توجه الحياة وتحكمها ثم تأتي موضوعة الخلق في المرتبة الثالثة وهي أعسر شئ فيه إذ تتطلب روحا تحررت أو كادت من كل براثن الانانية والاثرة وعبادة الذات والحب الاعمى للدنيا ثم تأتي موضوعة المعاملة وهي أوسع الموضوعات طرا إذ تؤطر سائر حياة الانسان أينما توجه وهي كذلك الاعسر لانها تختبر الانسان مع غيره وغيره ليس دوما نزيها بل كثيرا ما يكون ماكرا أو عدوا أو حاقدا أو منافقا أو محاربا أو متربصا وأحيانا يكون فيه كل ذلك وهو نديم يؤاكل ويشارب ويجالس وقد يقتضي الحال أن يجود الانسان بروحه لحماية الدين أو شيئا من مقتضياته التي يقوم عليها أوبها ومما يساعد على كل ذلك فهما وفقها وعملا المحاور التي تكررت في القرآن كما لم يتكرر غيرها وهي القصة ومنها المثل والكون المبسوط آية آية وكلها تخدم في النهاية قضيتين كبيرتين وهما وحدانية الله سبحانة والبعث بعد الموت ثم محور التربية والتشريع وهو الاصغر حجما . فبالخلاصة فإن القرآن الكريم رسالة طويلة تختلط فيها الاخبار مع التوجيهات مع الارشادات مع الواجبات بمختلف أنواعها مع الايات المبثوثة مع القصة والمثل فإن إجتهدت لفهمها بأسرها فهما صحيحا سليما فقد أصبت أو قاربت وإن أخذت ببعضها فإن بعضها لا يغني عن بعض وسائر أجزاء تلك الرسالة الخالدة الطويلة متفاوتة الاهمية ولك أن تصخي بقلبك وعقلك وذوقك إليها فما فاتك منها فاتك وما إلتقطت منها إلتقطت وما فاتك منها فاتك بقدر سعره وأهميته وما إلتقطت كذلك.
لا تتم لك الخيرية حتى تعلم غيرك من القرآن الكريم ما تعلمته مهما كان محدودا :
الحديث صريح بما فيه الكفاية بأن الخيرية مرهونة بأمرين أولهما تعلم القرآن وثانيهما تعليمه غيرك غير أن الامر الثاني مرتبط أشد الارتباط بالاول إرتباط صحة وشرط . فمن تعلم القرآن أو بعضه ولم يعلم غيره ما تعلمه منه فليس له من الخيرية حظ ومن علم غيره دون علم فقد أجرم مرتين فغش نفسه وغش غيره . وهل ترضى لحداد إصلاح أسنانك أو لاسكافي هندسة بيتك . وبعض الناس في عصرنا لا يفهمون من تعليم القرآن سواء لانفسهم أو لغيرهم سوى حذق مخارج حروفه وقواعد تلاوته فإذا أجاد الواحد منهم ذلك فقد إنتصب إماما للناس يعلمهم شؤون دينهم وهو أسقم ما رأيت من الفهم في حياتي لفرط إنتشاره ولو قابلنا بين تعلم وتعليم الحروف والحدود لاخترنا بلا شك تعلم وتعليم الحدود رغم أن المقابلة خاطئة منذ البداية فالحروف آنية جميلة رائقة عذبة غير أنها لا تصلح الحياة إنما الذي يصلح الحياة حدود القرآن والحدود هي كل ما حده أي ضبطه في الايمان والعبادة والخلق والمعاملة . على أنه لايزعم واحد بأنه أحاط بسائر علوم القرآن فهو يعلمها غيره ولكن لو ألم الانسان بحد أدنى منها كلها وعلم غيره ما أفاض الله عليه منها أو ألم بالحد الادنى المطلوب له من القرآن ثم تخصص في علم منها وعلمه غيره ... والعلم كما يقول عليه السلام بالتعلم وباب التعلم كبحر عميق لا شطآن له كلما تقدمت في لجه أصبت علما وكلما تأخرت أصبت الاخرى .
المقصد الاسنى من تعلم القرآن وتعليمه ليس هو سوى إصلاح الانسان ومن ثم الحياة :
من جراء ما نخرنا سوس الانحطاط وقفنا عند علوم القرآن كمن يقف حول صنم جميل رائع لا يصنع شيئا للناس سوى أنه يوفر لهم فرصة الفرجة والحقيقة التي لا مراء فيها هي أن الهدف من تعلم القرآن ليس هو سوى الانصلاح بدء بالنفس والاسرة والمحيط ومن ثم الحياة بأسرها قدر المستطاع فإذا ما تعلم المتعلم كل علوم القرآن ظاهرها وباطنها فلم ينصلح له حال ولم يحرك في الحياة ساكنا بل ربما إنحاز إلى الذين ذمهم القرآن فهل نسمي هذا عالما أو متعلما ؟ طبعا نحن نسميه كذلك بل فقيه الفقهاء وعلامة العلامات غيرأن الحقيقة هي أن كل علم قرآني لا يصلح حال صاحبه وحال الناس والحياة هو حجة على صاحبه في الدنيا وفي الاخرة يكون الامر أشنع .
الخلاصة هي أن الخيرية هنا مقام عظيم لابد له من مهر عظيم وتعلم القرآن الكريم حرفا وحدا وفق مقصود الباري سبحانه وبغرض إصلاح الدنيا وإستقامة الحياة ثم تعليمه للناس سواء بأجر أو بدون أجر هو ذلك المهر العظيم أما من طلب الخيرية بحرف يتقن نطقه فهيهات .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة العاشرة
أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال " من إطلع في بيت قوم بغير إذنهم فقد حل لهم أن يفقؤوا عينه ".
ــــــــــــــ
حديث متفق عليه يحسن حفظه وشواهده من القرآن الكريم كثيرة منها "ولاتجسسوا ".
موضوع الحديث : حرمة الانسان وحرمة ما يتقوم به من مادة ومعنى .
لو تفحصت القرآن الكريم بعين باصرة خبيرة لادركت بسرعة بأن مدار الاديان بأسرها منصب علىالانسان تحريرا وتكريما ولك أن تسأل نفسك لم نزل وحي ولم بعث رسل ولم أنزلت كتب ولم خلقت أرض وأكوان وزخرف وأنعام ولم كانت جنة ولن يكون الجواب سوى أن كل ذلك من أجل الانسان فهو مكرم قبل الخلقة وبعدها في أثناء حياته وبعد الموت وهو معلم ومستأمن ومستخلف ولو ظللت أعدد مظاهر تحريره وتكريمه في القرآن والسنة لسودت صحائف لا تعد بل لو سألت نفسك لم حرم الله كذا وكذا ولم أحل كذا وكذا فالجواب دوما هو من أجل الانسان وفقه الحرمات يرتكز على ثلاثة مباني وهي الانسان كله أينما كان وكيفما كان فحتى الكافر المقاتل المعتدي يقتل ولا يمثل بجثته بل تكرم وتحفظ ولا يعذب حيا إبتغاء الشماتة ولا يعتدى على ماله وعرضه إلا في حالة حرابته وعداوته ولوتاب تاب الله عليه ألم تقرأ قوله في أصحاب الاخدود الذين دعا عليهم بالقتل بعد أن حرقوا المؤمنين أحياء بالنار " ثم لم يتوبوا " ؟ والحاصل أن الاسلام لم يكرم شيئا تكريمه للانسان وثاني مباني فقه الحرمات الزمان وليس كل الزمان ولكنه المحرم منه فحسب وهو ثلثه وثالثها المكان وليس كل مكان ولكن مكان العبادة والاقامة الشخصية وما في حكم ذلك مما هو مملوك لشخص بعينه أو لجماعة بعينها .
الاسلام حفظ لكل إنسان خويصة نفسه وداخل داره وسائر متعلقاته الشخصية :
هل تستطيع أن تجزم بأن فلانا مؤمن وأن الاخر كافر والثالث منافق وهذا من أهل الجنة وذاك من أهل النار وهل أن فلانا لا يشرب الخمر في بيته أو انه لا يصلي بالليل ؟ حتى الانبياء وهم المأمورون بإقامة العدل والقسط لم يؤمروا بسوى قبول علانيات الناس والكف عن سرائرهم ولك في معالجة النبي عليه السلام لمسألة المنافقين أبلغ درس فهو يعلمهم واحدا واحدا وليس حدسا منه ولا تخمينا ولكن لان الوحي نزل عليه بقائمة إسمية فيهم فهل يخطئ الوحي فيهم ؟ ورغم ذلك فإنما عاملهم عليه السلام معاملة المؤمنين لهم ما لهم وعليهم ما عليهم وظل الامر كذلك حتى مات عليه السلام ولم يخبر يوما أقرب الناس إليه كإبي بكر وعمر وعلي وعثمان بسيرة واحد منهم فحسب رغم أن ما أنزلوه به من بلايا من حديث الافك إلى غزوة تبوك لا يضاهى ولكن إختار واحدا منهم فحسب وإستأمنه علىالقائمة السماوية للمنافقين وظلت المعاملة من قبل خلفائه لهم على نهجه عليه السلام . وهل بعد النفاق المتآمر المستعلي المحارب من داخل البيت وجوف الصف أمر آخر يمكن أن يتسامح معه الانسان ؟ والدرس من ذلك كله أن الانسان حفظ له ربه سبحانه كرما منه خويصة نفسه إعتقادا وحال قلب من كره أوحب وتصرف شخصي دون مجاهرة بتبرج إلا في داره وبذلك إنتصر الاسلام ولو فرض كما فعلت غشمات أخرى تريد أن تلتحق بالاديان أمره على الناس لفشل كما فشلت وبعبارتنا نحن اليوم سر الاسلام في مدى إتاحته الحرية للناس في قلوبهم وفي أمورهم الشخصية . ولذلك رغب الاسلام إلىجانب ترغيبه في صدقة العلن في صدقة السر ولذلك أقبل الناس على الخير سرا وعلنا بشكل لا يصدق لدينا نحن اليوم من فعل الصحابة الكرام فالانسان مخلوق مفطور على الحرية فإن أطلقت له عنان حريته فإنه يريك من نفسه عجبا في الابداع الخيري وإن أكرهته على أمر فإنه متفص منه شئت أم أبيت.
على البيت تقاس كل الخصوصيات المعاصرة وكل ما هو شخصي فهو محرم حرمة الكعبة :
هل يجوز لك الاطلاع على الرسائل الشخصية لغيرك سواء كانت بريدية أو الكترونية بدعوى أنها ليست بيتا تطلع عليه ؟ وهل يجوز لك الاستماع إلى شخص في بيته من وراء جدار بدعوى أنك لم تطلع عليه ولكن تستمع ؟ والتسمع على هاتفه ؟ والحاصل أنه عليه السلام لما ضرب مثل البيت في هذا الحديث فإنه يقصد كل خويصات الناس والامور المتعلقة بشؤونهم الشخصية التي لا يريدون إطلاع الناس عليها وإلا لجاهروا بها ولو قلنا غير ذلك لاتهمنا التشريع بالغباء وليس الاغبياء سوانا لو تعمدنا تأويلا منافيا لمآلات أفعالنا . وأنت تعلم أن الوحي في سورة المجادلة منع مجرد النجوى من إثنين دون ثالث ولو كان صديقا حميما وأخا شقيقا دفعا لشبهات الشيطان . والانسان سيما في بيته يأتي ما لايأتيه في الملا سواء كان بحضرة أسرته أو في غيابها وهي حالة بشرية معلومة لايحاسب عليها سوى من يعلم خائنة الاعين وما تخفي الصدور وإذا لم يأمن الانسان في بيته الخاص به وبين أسرته فمتى يأمن وإذا لم يجد مناخا ملائما يفشي بسره وبثه في بيته فأي أرض تقله يشي فيها بهمه .
هل يتناسب فقأ العين مع الاطلاع في بيت مأهول دون إذن ؟:
بداية لابد من الاقرار بأن أعدل قاعدة قضائية جاءت بها الاديان وإهتدت إليها العقول هي الجزاء من جنس العمل لذلك يهتك ستر الزاني جهرة أمام الناس ويهان كما هتك ستر غيره وأهانه ويستمتع جلده بالعذاب تماما كما إستمتع بضعه باللذة قبل حين وعلى ذلك قس الامور وليس من جزاء عادل للعين المطلعة فيما لا يحل لها سوى الفقأ فهو أنفى للجريرة وكانت العرب تقول القتل أنفى للقتل . ولابد لنا من تصور جريرة الاطلاع في بيت مأهول بدون إذن : أليس ذلك يكشف عورة ربما تجر إلى جريمة الزنا ومن ثم إختلاط الانساب والمياه وإضطراب أمر النسب والارث حتى لينكح الرجل أخته وهو لا يعلم ؟ ثم أليس ذلك يكشف سرا لو طار لظلم قوم بأسرهم أو سرت فتنة لا شطآن لها ؟ ولو سودت صحائف لا حصر لها من الصور التي يمكن أن ينشأ عنها الاطلاع في بيت قوم دون إذنهم لافنيت عمرا وما بلغت مرادا . فليس إذن أنفى لقتل شر كهذا سوى فقأ عين متسللة متسورة فلا يسعها بعد فقئها فعل ذلك . وبالمناسبة فإن الامر على الحقيقة وليس على المجاز أي أنه حقيقة لو إطلع رجل في بيت قوم بدون إذنهم فأبصر به أحدهم أي من داخل الدار فرماه سواء بقصد فقإ عينه أو بغير ذلك ففقأ عينه فإنه غير ضامن قضاء .
هل تبرر الحالات الامنية الاطلاع في بيت الانسان دون إذنه ؟:
الامر عادة ما لا يبسط على بسط العلم والبحث ولكن على بسط مصلحة السلطان وفي كل عصر ومصر فإن الشؤون الامنية أي أمن السلطان ومن في حكمه لا تخضع للقانون وإنما تخضع لقانون الغلبة حتى أن طواغيب البيت الاسود في أمريكا يعملون منذ أن بنوا للحرية تمثالا بأرضهم بقانون الادلة السرية أي أن المتهم بإنتهاك الامن الامريكي بحسب زعمهم لا يطلع هو ولا محاموه على الادلة التي من أجلها أوقف أو عذب أو قتل وفي سائر الارض اليوم أمر مماثل قريب من ذلك أو بعيد ويظل الناس محكومون بقوانين الطوارئ ومنع الجولان نصف قرن كامل.
ولا يعني ذلك أن الاسلام لا يعير إهتماما للقضايا الامنية بل سجلها في كتابه تسجيلا في مثل قوله
"ولوردوه إلى الرسول وإلى أولي الامر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم " والسنة مليئة بما يشهد لذلك قولا وعملا حتى أن معدل النشاط الامني النبوي إنجازا عمليا دون تحضير وتقويم هو مرة كل ستة أسابيع ولكن الاسلام يحرص على أمن الناس وليس أمن الحاكم فحسب كائنا من كان لذلك مات ثلاثة من خلفائه عليه السلام إغتيالا والاسلام في عز ذكره وهامة شأوه والاسلام لو إقتضى منه الامر لتسليط الضوء الامني على أحد فلحماية الناس من شره وليس لحماية الحاكم من معارضته وبعد ذلك يفعل ذلك وكرامة المعني مصونة لا تصل إلى حد الاطلاع في البيت أو مراقبة الهاتف أو سائر خصوصياته ولكن لا يعمد حياله بفعل حتى يأتي هو فعلا لا قولا ما يجرمه أو يتهمه على الاقل وعلىأية حال حكامنا اليوم ليسوا بحاجة إلى التسور والتسلل لسماعنا وإنما يعمدون إلى هدم البيت على رؤوس أصحابه والهجوم البربري الوحشي على سائر العائلة ليلا ونهارا والاذن محفوظ معهم دوما وهو تهديد الامن ومقاومة الارهاب والتطرف وهل يعدم المعتدي حيلة لعدوانه. فلا تفكر إذن في فقإ عين كل من يتسور عليك بيتك حتى تعلم علم اليقين من هو المتسور فان كان زلما لحاكم فهو لطف منه وأمر لك بالاستعداد للحبس .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الحادية عشرة
أخرج الشيخان عن إبن عباس رضي الله عنهما عنه عليه السلام قوله " إنهما يعذبان وما يعذبان فيه كبير فأما أحدهما فكان يمشي بالنميمة وأما الاخر فكان لا يستتر من بوله " .
ــــــــــــ
قال ذلك عليه السلام بمناسبة مروره على بعض قبور المسلمين وشواهده في القرآن أكثر من أن تحصى منها " النار يعرضون عليها غدوا وعشيا ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب " و" ولا يغتب بعضكم بعضا " و " إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين".
عذاب القبر حق ولا إنكار على من خالف فيه برأي ووحدة الناس أولى :
ما ينبغي لفعاليات الصحوة الاسلامية المتجددة سوى رسم سلم أولويات علىدرب جهادها واجتهادها فلا إنكار على تعدد إهتماماتها و تعدد تياراتها سيما أن العزائم المفروضة عليها اليوم ثقيلة وكبيرة ولو وضع لها المرء عنوانا لما ألفى ما يناسبها سوى تحرير الانسان وتحرير الاوطان وإذا كان الحوار العلمي مطلوبا في القضايا الخلافية وكلها فرعية ومنها عذاب القبر فإن ذلك ما يجب أن يخرج عن دائرة البحث العلمي المتزين بأدب الاسلام فضلا عن أن يستهلك أفضل الاوقات والجهود التي ما ينبغي سوى غرز أسنتها في مظانها . إذ ستجد من يستشهد على عذاب القبر بالقرآن الكريم وبأحاديث أخرى كثيرة ومنها المتفق عليه كما هو الحال اليوم كما أنك ستجد من يطعن في ذلك بطعون علمية معروفة ليس هذا موطن بسطها وهو خلاف قديم لا ينحسم لا بل لم ينحسم ؟ وليس ثمة مصلحة أبدا في إنحسام الفروع .
الكبائر في الدين ليست هي سوى الكبائر في الحياة فلم العجب ولم التقحم ؟
ليس ثمة من أمر يزعجني مثل قيام بعض الناس على تصور ديني أساسه أن الدين شئ أما الحياة فشئ آخر وأن العلاقة بينهما إن وجدت فهي لطيفة دقيقة أو هي مفتعلة أو غير مفهومة ولا مبررة وأسوأ من ذلك كله أن الجهاز الداخلي الحاكم للدين والمفسر له لا تسري عليه ذات النواميس الحاكمة للحياة وأن القانون هنا ما يجب إلا أن يكون مفارقا للقانون هناك ولماذا ياصاحبي ؟ ببساطة لان الدين من السماء والحياة أرضية . ونسي هؤلاء أن ربهما واحد فلم الاختلاف إذن ؟
أليس الناس يعتبرون أن القتل والزنا والكذب والظلم وسائر صنوف الفواحش ما ظهر منها كالنم وما بطن منها كالحسد وما تعلق بالاله الخلاق ولي النعمة سبحانه كالشرك به أو ما تعلق بالانسان كالاستغلال عبر الربا مثلا وما تعلق بالكون ومرافقه إفسادا وما تعلق بالعجماوات بدون حق ....
أليس ذلك في عداد الممقوت منذ بدء الخليقة وفي سائر اطوارها إلا فيما ندر ؟ أليس ذلك أدعى إلى القول بأن الدين بسائر ما فيه من كبائر وصغائر في المعتقدات والعبادات والاخلاق والمعاملات والاحسانات والاساءات والاعمال بأسرها دينا ودنيا معقول مفهوم مبرر مبرهن تتقبله العقول قبولا حسنا ولا ضير بعد ذلك أن تتقحم الجوارح الشهوات ؟ ثم أليست كل النواهي الواردة بصحة من الوحي هي ضارة بالانسان صاحبها قبل ضررها بغيره وخذ إليك أي مثل أردت بدء من الكفر بسائر أنواعه وإنتهاء إلى شوك صغير تتجاهل إزاحته عن طريق ربما لا يسلكه سواك مرة في العمر ؟ ثم أليست كل الاوامر بسائر درجاتها شريطة أن تكون صحيحة صريحة نافعة للانسان صاحبها في الدنيا حتى لو غمرتها أنواء العنت وغطتها أدواء النصب لا بل حتى لو إختار الانسان قتل نفسه في سبيل الله ليتحرر وطن أو نتعتق نفس وقس على ذلك كل ما عرفت وما لم تعرف منها بدء من إمتناعك عن الاكل متكئا لغير ضرورة ؟
كيف يستشكل عليك عذاب القبر بعد موتك ؟
ثمة قاعدة مهمة جدا لا بد من سحبها على كل نص من الوحي متعلق بالغيب وهي أن دنيا الغيب ليس لنا منه سوى الاسماء أما المسميات الحقيقية فلا تدركها عقولنا ولو لم يكن الامر كذلك لنزعنا الغيب من الايمان ولامن كل الناس ولكنه إيمان شبيه بعبث الاطفال الذين نبرز لهم الشئ أمامهم ثم نعلمهم نطق إسمه لندربهم على النطق والفهم . إذا ما سحبت هذه القاعدة على عذاب القبر فإنه لن يدور في خلدك بعد اليوم سؤال : كيف تعذب أبداننا بعد موتها ؟ هل ترجع إليها الحياة مجددا ثم تعذب أم تعذب أرواحنا وعندها فلا يهم لان المؤلم هو عذاب الجسم أما عذاب الروح فلا يعد عذابا ؟وأسئلة أخرى لا حصرلها ولن تجد لها جوابا كافيا شافيا إلا من وحي صحيح صريح وهو ما لم يرد ومعنى عدم وروده يعني عدم الحاجة إليه . ولو ضربت لك مثلا بسيطا جدا تعيشه كل ليلة تقريبا : هل تشعر بعذاب بعد رحلة في الحلم مزعجة وهل تتألم حرقة على ولد مريض أو غائب أو تتعذب بسبب تعذب المضطهدين في فلسطين والفلوجة اليوم ؟ فالعذاب إذن ليس بدنيا فحسب بل إن بعض العذابات الروحية أشد قسوة . فإذا لم يقنعك هذا فينبغي أن يقنعك ربك بقوله عن نفسه أنه على كل شئ قدير وأنه لا يعجزه شئ وأنه يعذب بعض عباده في القبر .
لم تنص السنة على كل الكبائر ولكن القرآن الكريم الحاكم فعل ذلك :
لوسألت مسلما اليوم عن الكبائر لما زاد عن السبعة المذكورة في بعض الاحاديث الصحيحة وهو جواب صحيح ولكنه غير كاف سيما لطلبة العلم الذين يخصهم أمر العلم ومن ثم العمل قبل غيرهم لا بل إن بعض الناس لا يكلفون نفسهم حتى عناء جمع الحديث بمختلف درجاته في موضوع الكبائر ولو فعل ذلك فاعل لغنم غير أنه بدون الرجوع إلى القرآن الكريم الذي جمع أصول الكبائر وفصل فيها ومن أكبر الكبائر التي لم تتناولها السنة ولكن ركز عليها القرآن كثيرا القول على الله بغير علم وعبر عنه بتعابير أخرى كثيرة وليس ذلك إلا لان القرآن الكريم إهتم بأمر الايمان ومايسمى اليوم وبالامس عقيدة بينما جاءت السنة في أغلبها شارحة للجانب العملي ولست هنا بمتوسع في هذا الامر أي أمر الموبقات المهلكة التي عرج عليها القرآن الكريم مرات ومرات وحتى أفعل ذلك يرجى من سائر الاخوة فعل ذلك . وأختم هذا المحور بالقول بأن القول على الله بغير علم ليست قضية نظرية لا علاقة لها بحياتنا اليوم بل هي في صلب رحمها ونتلظى منها صباح مساء ليل نهار فتدبر هذا يرحمك الله .
إفساد المجتمع عبر إشاعة الكذب والافتراء وعبر التمرد على الحياء وعلى فضيلة النظافة :
بداية أنصح كل طالب علم بقراءة كل حديث نبوي قراءة جماعية لا فردية من ناحية ومعاصرة لا عتيقة من ناحية أخرى فإذا إنضم ذلك إلى شروط أخرى كان الفقه في السنة ومن ثم في الاسلام وفي الحياة قد شارف الكمال . وقبل ذلك يجب القول بأن هاتين الكبيرتين لم ترد في أحاديثه عليه السلام لما سئل عنها وهذا دليل على أن الكبائر لا يشملها حديث واحد ولا آية واحدة وذلك هو شأن الدين متفرق النص متشابه المعنى من أجل منح فرصة للعقل عملا وإجتهادا . المشي بالنم إذا تحول إلى حركة أو تيار أو ظاهرة فإنه لم يعد ذنبا شخصيا محدود الاثر بل يتحول إلى داء ينخر المجتمع وينذر بالسوء ولم يحرم الله سبحانه النم فضلا عن المشي به إلا للتوقي من سوء الخلق ومن إفساد المجتمع بإيغار الصدور وكل هرج ومرج وإقتتال سببه ظن غائر فكلمة نابئة فمشي بها فبغض فانقطاع خير فتحارب فضعف مجتمع فاحتلال فذهاب حرية ودين وعز . أما طاعون عدم الاستتار من البول فهو كبيرة بحكم أنه يهتك الحياء فيتحول الناس إلى دواب فاذا عملنا برواية " لايتنزه من بوله " فهي كبيرة بحكم أن الاسلام لم يحرص على شئ حرصه على كرامة الانسان ومن كرامته النظافة والطهارة بدنا وثوبا ومضجعا وريحا فإذا ما كان ذلك خلقا لتيار عريض من الناس فإن المجتمع بأسره يتحول إلى ماخور قذر تتفشى فيهم الامراض البدنية بعد ما نخرتهم الادواء النفسية .
بقي سؤال : لماذا خص الوحي هاتين الكبيرتين دون سواهما بالذكر بعذاب القبر ؟: عرض إلي السؤال من نفسي ولم أجد جوابا ولا بد أن في الامر علة وحكمة فهل من مجتهد يعلمني ؟
الخلاصة : من يمتهن كرامة الانسان في الدنيا بالنم وبالمشي به ومن يمتهن كرامة نفسه التي لا يملكها هو بل يملكها وليها سبحانه في الدنيا بنبذ النظافة والتمرد على الحياء فإن له عذابا قبل العذاب وهو عذاب القبر فاعتبروا يا أولي الابصار .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الثانية عشرة
أخرج الشيخان عن إبن عمر رضي الله عنهما أنه عليه السلام قال " صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ".
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ
حديث متفق عليه وشواهده من الكتاب العزيز هي سائر الاوامر بإقام الصلاة.
موضوع الحديث : الجماعة قوام الاسلام لاحياة له بسواها ولا حياة لها بسواه تلازم روح وجسد
القرآن الكريم يحوي أكثر من ستة آلاف آية لا توجد فيها آية واحدة تحمل أمرا أو نهيا سواء كان للوجوب أو للاستحباب أو للاباحة بصيغة المفرد إلا ماكان خاصا به عليه السلام ومعلوم أن الخصوصية المتعلقة به عليه السلام خصوصيتان خصوصية شخصية تتعلق بما تفرد به عليه السلام دون سائر الخلق من مثل صحة نكاحه لمن وهبت نفسها له عليه السلام وعدم تقيده بالتعدد في الزوجات كما هو عند سائر المؤمنين وما إلى ذلك وخصوصية عامة تتعلق بتعليق الامر أو النهي به هو عليه السلام وأفضل ما قيل في ذلك من لدن العلماء هو أن كل أمر أو نهي تعلق به هو عليه السلام إنما المقصود منه تعظيم ذلك الامر أو النهي إلى درجة أنه يعنيه هو كقدوة عليا كما يعني أمته وسائر من تبعه أصالة ولكن على وجه التغليظ والتوكيد ومن مثل ذلك تجد قوله " ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن ..." و" ياأيها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ..." و" ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ..." و" يا أيها النبي إتق الله ..." ولك أن تتبع سائر ما ورد بصيغة النداء للنبي أو للرسول سواء في المواضع الشخصية به وببيته أو في المواضع العامة . كما أن إستثناء آخر من قاعدة الخطاب بصيغة الجماعة وهو الخطاب المتعلق بالانسان جنسا لا عينا ولم يرد ذلك كثيرا في القرآن الكريم ومنه " ياأيها الانسان ما غرك بربك الكريم " و" يا أيها الانسان إنك كادح الى ربك .." وهو ملحق في الحقيقة من جهة المعنى بالنداء الذي تكرر كثيرا بل هو يحتل الدرجة الثانية بعد نداء الذين آمنوا وهو نداء " ياأيها الناس " . وبالخلاصة فإن الخطاب القرآني بأسره لا تلفى فيه سوى خطابا بصيغة الجماعة سواء عينا وهو ما ورد بصيغة " ياأيها الذين آمنوا " أو " يا أيها الناس " أو حكما كما هو معلوم من صيغة النداء للانسان أو ما توجه إليه عليه السلام بالمعنى الذي أسلفنا وما هو خلاف ذلك يحمل دوما على خطاب الجنس الانساني عامة أو الذين آمنوا بحسب السياق ومعلوم أن العرب تخاطب الفرد بصيغة الجماعة والجماعة بصيغة المفرد . ومهما يكن من حال فإن العبرة بالاغلب والاعم وهو هنا خطاب الجماعة ولا يوحي ذلك بسوى أن مراد ربنا سبحانه إقامة الدين بالجماعة لا بالفرد وذلك بالرغم من أن الجهد في أصله فردي ولكن الاسلام وحده هو من صهر الفردية في الجماعية في سائر شعب الحياة ثم كان لكل صاحب حق حقه فلا يطغى فرد على جماعة حتى لو كان نبيا يوحي إليه ولا يخسر فرد في حقه ويغمط حتى لو كان أكمه أبتر مقعدا لا يزيد في الحياة سوى أنه يستنشق الهواء وهو كل على الناس كلهم كما لا تطغى جماعة على فرد.
الجماعة في الاسلام أصل أصيل ومقصد قاصد ومبدأ بادئ لا تعرف حدودا : لك أن تمتحن بنفسك ما أسلفت فيه القول في القرآن الكريم أعلاه ولك أن تحتفظ به ثم تزيد عليه هذا المعنى وهو أن خطاب الجماعة يفهم ويقبل ويعقل في الامور التي لا بد فيها من جهد الجماعة أو هي من مشمولاتها أو هي على الاقل يغلب عليها العلن والظهور ولكن كيف يكون لخطاب الجماعة من معنى إذا كان متعلقا بضمائر الافراد وخويصات أنفسهم ودقائق أمورهم الشخصية ؟ ولك لحسن فقه ذلك أن تتدبر في خطاب الجماعة في القرآن إذ تلفاه يخاطب الفرد بصيغة الجماعة في أمر شخصي صرف من مثل " ياأيها الذين آمنوا اتقوا الله " وقد ورد هذا كثيرا ومن مثل آيات الصيام وسائر ما يتعلق بعبادات القلوب أو معاصيها ولك أن تسأل عن الحكمة فقضايا التقوى التي هي في الصدر كما قال الصادق المصدوق وقضايا الصيام الذي لا يأتيه منافق أبدا ولا يعلم فيه صائم من عاص أبدا وأمور أخرى كثيرة هي من شأن الافراد لا من شأن الجماعات . تدبر ذلك مليا وليس لك إلا أن تفيء إلى أمر واحد وهو أن الجماعة في الاسلام ليست مسألة أمر أو نهي أو ركن بل هي جسمه الذي يحمل روحه فلك أن تقول باختصار وإطمئنان : الاسلام كائن روحه التقوى وجسمه الجماعة وهي ليست جماعة في الصلاة فحسب ولا في ميادين الجهاد فحسب بل هي الجماعة في أم خويصة الفرد ثم لك أن تقول بعد ذلك في درس آخر بليغ ربما حان أوانه بأن قتل الجماعة هو قتل للاسلام سوى أن الاسلام لا يقتل ولكن يقيض الله له بما وعد من حفظ ذكره جماعة أخرى تحمله .
الجماعة أول فروض الدين من أول لحظة ولد فيها الدين وهي مقدمة على سائر الفروض : لو راجعت سيرة المصطفى عليه السلام لالفيت أن الصلاة فرضت في آخر العهد المكي أي بعد ما يزيد عن عشرية كاملة من وجود الاسلام أما بقية الفروض فلم تفرض إلا في بدايات العهد المدني من العام الثاني حتى الثامن غير أن فرضا آخر لم يلحظه كثير من الناس ولم يجد حظه من العناية كتابة وتأليفا وتحريضا هو أول ما فرض بل من اللحظة الاولى وهو فرض الجماعة فلقد كان الالتحاق بدار الارقم فرض عين علىكل مؤمن جديد رغم المخاطرة بحكم سرية الدعوة يومها وظل الامر ثلاث سنوات كاملة متتالية لم يؤمن فيها سوى أربعين شخصا لا بل ما هو أشد وضوحا من ذلك أنه عليه السلام أشرك الجماعة في أمره من أول لحظة وبمجرد وصوله إلى بيته فكانت الام الكريمة خديجة أول من كونت الجماعة ثم جاء هذا عن الصبيان وهذا عن هؤلاء وذاك عن أولئك وليس ذلك إلا لادراكه عليه السلام مند الوهلة الاولى أن الدين الجديد جاء ليكون جماعة وظلت فريضة الجماعة حية رغم العذابات والتهجيرات والموتات قائمة لا يخدشها خادش فلك أن تقول أن الصحابة لا يصلون ولا يزكون ولا يصومون ولا يحجون ولا يجاهدون ولكنهم بدل ذلك كله يقيمون سيد الفروض الذي يحتضن سائر ما يليه وهو فرض الجماعة ولك أن تقول كذلك في المقابل بأن الحال اليوم في أكثر من موطن يسير في الاتجاه المعاكس لذلك فالناس يصلون ويصومون ويزكون ويحجون ويجاهدون ولكن على أساس الفردية لا الجماعة فهل من فقه يعيد لسيد الفروض مكانته في الصدارة فينصلح ما بعده وهل من فقه يخلع على روح الاسلام جسما يحميه وليس هو سوى جسم الجماعة .
الجماعة المقصودة جماعتان : جماعة كبرى عامة وجماعة صغرى خاصة : لم يكن الامر كذلك في العهد النبوي الاول ولا في سائر العهود التي كان بإمكان المؤمنين لصغر عددهم الالتقاء والاجتماع ولكن لما توسعت الجماعة وأضحت أمة لم يكن بد من تنوع الجماعة مذهبيا ولغويا وعرقيا ومكانيا وبسائر ما تفرضه سنن التعدد والتنوع وفي وضع مماثل يجب إحكام الارتباط بين الجماعتين الكبرى التي هي الامة وبين الصغرى التي هي مؤمني الهند مثلا والامر ذاته داخل أمة العرب بين شامي وإفريقي مثلا أو بين جالية أو أقلية وبين الامة الام ولكل جماعة عبادتها المفروضة على كل مؤمن فالجماعة الصغرى بالمباشرة صلاة وصياما وزكاة وفرحا وترحا وتواصيا مباشرا والجماعة الكبرى بالعاطفة والعقل والقلب من جهة وبالاستنصار حال تعرض الروابط العظمى والمعاقد الكبرى إلى الهجوم وكل من فرط في واجبه حيال جماعته الصغرى بدعوى الاهتمام بالكبرى أو العكس فقد ظلم نفسه وعرض عبادة الجماعة في دينه إلى الهوان وبعدها يهون هو وحالنا اليوم خير شاهد ودليل ويعبر عن هذا أهل الفكر الاسلامي بأن مقتل الامة أصيب يوم حلت التجزئة فينا محل الوحدة .
الصلاة خير مرآة لعبادة الجماعة وخير ترجمان عليها وهي الصورة المصغرة لها ورمز لها : أبى الله سبحانه علينا سوى أن نقيم صلاة واحدة مرة في الاسبوع جماعة على وجه الفرض والالزام وكان يمكن أن يداوم الحث والتحريض غير أنه عمد إلى صلاة الظهر من يوم الجمعة فجعلها صلاة جماعة مفروضة لا يتخلف عنها بدون عذر مقبول عنده سبحانه سيما ثلاثا متتاليات إلا منافق معلوم النفاق ثم لك أن تتفرس في صلاة الجماعة فإنك لاف أنها صورة مصغرة للحياة الانسانية وخير ترجمان يرمز إلى مفاتيح تجاوز معضلات الحياة وطرق جبرها وإصلاحها وليس هنا محل تتبع مقاصد الصلاة سوى لارتباط الموضوع برمزية صلاة الجماعة في أقامة جماعة الحياة فليس المطلوب منها إذن أجر الاخرة وهو الاولى والابقى دون أدنى شك ولكن لا وجود لعبادة في الاسلام يقتصر جودها على الاخرة بل لها في الدنيا ألف ألف مصلحة ونفع.
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الثالثة عشرة
أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه قال " قتل يهودي جارية فقتله بها عليه السلام ".
ـــــــــــــــــــــــــ ــــ
حديث متفق عليه كالعادة وشواهده في القرآن الكريم كثيرة.
موضوع الحديث : رسالة الاسلام كلمة واحدة لا ثانية لها وهي القيام بالقسط : لك أن ترصد ذلك بنفسك في القرآن الكريم وفي سنة الحبيب عليه السلام ففي القرآن الكريم تجد أن كل ما أمر به عز وجل ليس هو سوى إقامة العدل أو القسط ومعلوم أن صيغة الامر بفعل الامر لحما ودما أقوى درجات الامر ولو تتبعت ذلك بنفسك لما وجدت أمره عز وجل بفعل الامر لحما ودما إلا عاكفا على إقامة العدل أو القسط أو أداء الامانة وليس ذلك كثيرا في القرآن الكريم وليس من عادة العظيم أن يكون كثيرا إذ الكثرة من طبيعة التفاصيل والجزئيات وهو متحدد في قوله " إن الله يأمر بالعدل والاحسان " و" إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل " و" قل أمر ربي بالقسط " ولعل أروع ما في ذلك كله قوله " شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم " وقائما بالقسط حال فحال الله سبحانه وسبحان من لا يعتريه حال هي القوامة بالقسط وثنى على ذلك بأن أولي العلم وهم من الناس طبعا يشهدون له بذلك أي شاهدين على وحدانيته سبحانه وعلى قيوميته بالقسط فهل لك الان إلا أن تقول أن رسالة الاسلام كما حددها صاحبها سبحانه ليست هي سوى القوامة بالقسط من الناس بين الناس تشبها برب الناس سبحانه وليس التوحيد بعد ذلك سوى عين القسط المقتضي عبودية المخلوق للخالق وملكية المملوك للمالك .
روح القسط الذي هو رسالة الاسلام الواحدة الاحدية هي المساواة بين الناس أجمعين : القسط ككل قيمة له جسد وله روح وروحه هي المساواة بين الناس أجمعين وهي مساواة تنبع من كونهم جميعا مخلوقين لخالق واحد ومن مادة واحدة ولرسالة واحدة وأن كرامتهم وتحررهم ينبع من كونهم قد حووا جميعا النفخة الرحمانية الربانية اللطيفة التي لم يحوها غيرهم من المخلوقات سيما المكلفة بتعمير الارض وتدبير الكون . وفي ذلك ورد حديث نبوي شريف " الناس سواسية كأسنان المشط " ومن مشكاتها صدع الفاروق"متى إستعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا".
لغط مثار حول عدم مساواة الناس لا أصل له ولا لزوم له وهو غريب عنا كل الغربة : كل إصلاح لحالتنا الاسلامية الشاملة لابد له أن يبدأ من التراث أعني تراثنا فإذا كان في جملته يغمره العدل إنسجاما مع الفطرة ومع سنن الله في كونه فإن مواضع الحيف فيه ليست قليلة ولا صغيرة ومنها لغط مثار حول عدم جواز قتل السيد بالعبد والذكر بالانثى وهو مخالف أشد المخالفة للاصول الايمانية الكبرى المشددة على حرمة إبن آدم مؤمنا وكافرا وذكرا وأنثى وصغيرا وكبيرا وقويا وضعيفا وأسود وأبيض وميتا وحيا وهي حرمة لا تظلم حتى الظالم الباغي فالظالم لا يظلم ويكن يقتص منه بعدل لا بغي فيه ولا عدوان وليس ذلك إلا لان كل آدمي هو مكرم بحكم احتوائه على النفخة الرحمانية . وليس تأويل آية القصاص في البقرة سوى أن حال عدم التساوي يومها ـ بحكم وجود العبودية التي لم يعمل الاسلام سوى على تجفيف منابعها بشتى الوسائل حسما لدابرها بالكلية ـ تفرضه شروط موضوعية لا يحسن تجاهلها ذلك أن التشريع الاسلامي يميز بين العدل وبين المساواة فهو يتخول الى المساواة عبر العدل وليس الى العدل عبر المساواة وكم من مساواة بين غير متساويين بدعوى نشدان العدل جلبت إجحافا وظلما بينا ولكن لما إستقر الوضع الانساني على الصورة التي عمل لها التشريع الاسلامي وهي صورة تمكن دون حيف من إقامة المساواة والعدل معا بين كل الناس فإن لغطا مماثلا لا وزن له والامر ذاته ينسحب على المرأة ولكثير من الفقهاء الراسخين قديما وحديثا إجتهادات مناسبة في هذا الغرض تنفض عن التشريع ترابا أهيل بدون حق سواء من تراثنا أو من خصومنا والاصل أولى بالاتباع من الفرع .
النبي الاكرم أول من نفذ المساواة بين الناس أجمعين : وليس أدل على ذلك من الحديث الصحيح المتفق عليه الذي نحن بصدده وهو سابق للغط المثار بدون حق تاريخا والاهم من ذلك أسبقية السلطة التشريعية وأولوية التنفيذ النبوي فالمقتول هنا هي جارية لا نعلم بدينها ولا بلونها ولا بعرقها وكفى عنده عليه السلام أنها آدمية مخلوقة لا يملكها أحد ولا تملك هي نفسها بل يملكها ولي نعمتها وهو أولى بها من كل أحد فلم يتردد عليه السلام في قتل قاتلها بها وهو هنا يهودي وهل كان يختلف الحال لو كان مسلما أو نصرانيا ؟ طبعا لا . وسواء كانت تلك الجارية مملوكة خدمة لا رقبة طبعا لقاتلها اليهودي أو لمن سواه وسواء كانت مخطئة أو محقة في سلوكها الذي به قتلها قاتلها وسواء شفع الشفعاء في أن اليهودي المقتول يؤلب النظام الدولي المتاخم يومها علينا وسواء تحفظت وسائل الاعلام يومها أو أدانت أو حالفت وسواء كان سعر تلك الجارية المقتولة يومها في السوق لو عرضت حية يساوي سعر الالة التي بها قتل عليه السلام قاتلها قصاصا عادلا مقسطا ... كل تلك الاعتبارات ساقطة في المعيار النبوي الذي فهم من أول يوم تحمل فيه رسالته أن الله سبحانه لم يبعثه إلا لاقامة العدل بين الناس وليس التوحيد الذي يدعوهم إليه سوى باكورة ذلك العدل فلم يتلجلج عليه السلام ولم يتردد ولم يتوان ولم يتأثر بدعوات كاذبة ولم يحسب حسابا لحملات إعلامية كلما كان على الحق المبين والحق أحق أن يتبع أبدا .
عقوبة الاعدام اليوم بين ترخص المترخصين وكذب المنافقين : الموضوع اليوم مثار كأشد ما تكون الاثارة والمتهم فيها هو الاسلام بحكم أن نصوصه جلية صريحة واضحة صحيحة جلاء الشمس في رابعة النهار ومؤداها أن النفس بالنفس والجروح قصاص ولما كان المسلمون اليوم في حالة ضعف رغم تنامي صحوة راشدة جادة وكان العدو متبرجا بقوته المادية سحارا بقوته الاعلامية فإن المعركة في هذا الموضوع غير متكافئة لذلك تجد من يحشر أنفه كالنعامة يوم الكريهة في التراب خوفا وهلعا وجزعا أو إنهزاما وهوانا ودونية وهذا مترخص فيما لا يجوز فيه الترخص من الثوابت التشريعية التي لنا فيها من الفطرة والعلم والتجربة ما لا يحصى من الحجج حتى أن العرب كانت تقول قبل نزول آية القصاص " القتل أنفى للقتل " فماذا بعد أن تطابقت وجهتا النظر الجاهلية العربية مع الاسلامية في هذا الامر وما ذا لو بقي المترخصون اليوم من أمة العرب عربا فحسب أي أهل علم وفطرة وتجربة وشهامة وكرامة وماذا لو عملوا بمنهج المقارنة بين المجتمعات المطبقة لعقوبة الاعدام وبين غيرها في مستوى نمو الجريمة وخمودها وماذا لو تسلحوا بمعطيات علوم النفس والاجتماع والسياسة وسائر العلوم الانسانية وماذا لوحكموا المنطق والعقلانية أم أنهم يجدون أن القاتل أرخص دما من مقتوله أم أقل حرية وكرامة أم أن الحياة التي سلبت عن المقتول ظلما ليست هي ذات الحياة التي لا يسلبونها هم عن قاتله أم أن السحر الاعلامي الغربي فعل فعله أم أن الحضارة العرجاء الحولاء تفرض تأشيرة على الداخل إليها عنوانها الانسلاخ عن الهوية . أما عن كذب المنافقين فلن أتحدث كثيرا لاعتقادي أن الاولى لربح كل معاركنا هو تسديد حلقات بنائنا الداخلي فإذا كانت هذه مفككة الاوصال فإن كذب المنافقين يتسلل إليها دون عناء ودون مقاومة منا غير أننا جديرون بسؤال إليهم : ماذا لو أقرت تشريعاتكم غدا أحقية عقوبة الاعدام بل ماذا نقول عن إقراركم لذلك قبل عقود وقرون حتى بعد الثورات التي أسميتموها عصر النهضة ؟ هل نظل نحن أسارى لاجتهاداتكم يمنة ويسرة وكأننا أمة لا تمتلك من بطاقة هويتها حرفا واحدا ؟.
اليهودي المقتول هنا هو ذاته المنصف في سورة النساء : ليس المقصود طبعا بنفسه نفس الروح ولكن المقصود موضوع القسط مع إبن آدم بغض النظر عن كل المعطيات الاخرى بما فيها الدين وربما لحكمة كانت القصتان صحيحتان فتلك عند الشيخين أصح الكتب بعد القرآن الكريم وهذه في القرآن ذاته وذلك حتى تكتمل صورة شريعة لم تتنزل لسوى إقامة العدل وإشاعة القسط فلا تحتفظ الافهام بسوى صورة اليهودي المقتول في جارية ولكن تضم إليها صورة اليهودي الذي إتهمه الناس في عهده عليه السلام ب درع أو نحو ذلك وسرت ملفات الاتهام منذ البداية حتى النهاية على ذلك الاساس غير أن عالم خائنة الاعين وما تخفي الصدور سبحانه قطع الطريق على محاولة تئد رسالته ففضح الناس وبرأ اليهودي وأنزل في ذلك قرآنا يتلى على الناس علىمر الزمان فليس القسط الاسلامي يكيل بأكثر من مكيال في أسعار الناس فالناس سواسية عنده كأسنان المشط بدء وخلقة ورسالة ومصيرا وتكوينا أما حساب الكافر فعلى ربه وأما الظالم فيقتص منه على قدر ظلمه دون بغي ولا عدوان غير مهدور الكرامة .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الرابعة عشرة
أخرج الشيخان عن إبن عمر رضي الله عنهما أنه عليه السلام قال " من قتل دون ماله فهو شهيد".
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
شواهده في القرآن الكريم كل ما ورد في فضل الشهادة في سبيل الله تعالى وكل ما رود في شأن المال الطيب كسبا وإنفاقا .
موضوعه : دور المال في حفظ كرامة الانسان وتحرره من رق الحاجة وأسر الفاقة : الناس حيال المال صنوف كثيرة كلها إما في طغيان أو في إخسار إلا بحبل من دين حسن فهم وحسن عمل وليس كالمال موضوع إبتلاء وفتنة للبشر في حالتي اليسر والعسر علىحد سواء ولايسأل المرء يوم القيامة في أمر واحد مرتين سوى في ماله من أين إكتسبه وفيم أهلكه ولظروف تاريخية معروفة تحول مفهوم المسلمين حيال المال وإكتساب الدنيا من درجة القوامة والوسطية إلى ضرب من الزهد الزائف ولم يكن ذلك سوى محطة من محطات فعل الانحطاط في جسم الامة التي ملكت الدنيا يوما عبر الفتح المبين بالجهاد بقيم القرآن الكريم حتى ألفى المرحوم الشيخ الغزالي كتابا جمع فيه صاحبه منذ قرون سحيقة سائر النصوص من الوحي الكريم التي ترغب في الزهد في الدنيا وقد أجاد إنتقاءها فأنقدح في ذهنه عليه رحمة الله أن المسلم المعاصر لو وقعت يداه علىمثل هذا ولم يكلف نفسه عناء البحث والرجوع الى المصادر الاساسية الاصلية للاسلام من كتاب وسنة فعمل به هلك ولو أشاعه بين الناس فإن الانحطاط عائد إلينا لا محالة فعمل عليه رحمة الله على ترميمه وتهذيبه بما يعدل الصورة الاسلامية الصحيحة في مسائل المال والكسب والتعمير والنماء ولامر ما فإن المتوسطين قلة فإما سكران بماله به نشوان لا يرعى فيه حقا لذي حق وإما فقيرا لم تحالفه الحظوظ فإتخذ له من نبذ الدنيا دينا وكثير من الوعاظ وأهل الدعوة والمتدينين لا يرون في شأن المال سوى مثال قارون في حين أن القرآن الكريم قص علينا قصة سليمان عليه السلام الذي وصلت في عهده زخارف الدنيا وهو من هو في النبوات كرعا أبا عن جد وكابرا عن كابر إلى حد أن بلقيس ملكة سبأ كشفت عن ساقيها تحسب الارض التي مردها سليمان عليه السلام فأضحت كأنها نهرا من البلور المصفى لجة وذلك هو منهج القرآن الكريم حيال كل أمر يعرض الصورة والصورة المقابلة تاريخا متلوا ومشاهد حية ولك أن تتبع ذلك بنفسك فإلى جانب قصة أصحاب الجنة في سورة القلم مثلا جاء بقصة ذي القرنين وإلى جانب قصة أصحاب الاخدود في شأن الفتن المزلزلة جاء بقصة قوم يونس في البعثة الثانية الذين آمنوا أجمعين فمتعوا حتىحين وإلى جانب إمرأتي نوح ولوط جاء بقصة زوجة فرعون وأمهات المؤمنين فإذا كان المنهج قواما على ذلك فإن العيب حال الطغيان أو الاخسار في فهم الانسان .
ليس للشهادة في سبيل الله سبحانه من صورة نمطية محددة : سأل عليه ا لسلام يوما أصحابه عن الشهيد فأجابوه بأنه من قتل في ساحة الوغى فقال عليه السلام الشهداء إذن في أمتي قليل وعدد أنواعا من الشهادة منها المبطون والغريق والنفساء والمطعون والمهدوم وموت الفجاءة وغيرها ولاشك أنها منازل شهادة غير أنها أدنى من المنزلة الام أي منزلة " من خرج بماله ونفسه في سبيل الله فلم يعد بذلك من شئ " . وإحدى مشاكل عقلنا اليوم أن رؤيتنا لامر ما رؤية نقطة صغيرة واحدة لا تتسع لسوى واقف واحد عليها والامر في الدين والدنيا معا أوسع مرونة من ذلك إذ الوحدانية التي لا تحتمل زوجية بأي صورة من الصور ليست لسوى ربنا سبحانه ومادونه مزدوج ومتعدد ومتنوع ومختلف ولك أن تبدأ ذلك من الملك الاعلى وسماواته إلى رسل الرحمة الربانية إلى سائر ما يقع في خاطرك اليوم وغدا . وإذا كان ذلك كذلك فإن مضمون الشهادة في سبيل الله سبحانه هي كل موت من لدن مؤمن مجاهد في سبيل الله سبحانه في أثناء سيره إليه أو في أثنائه أو بعده من جرائه وبالمناسبة فإن المؤمن بخلاف غيره من عباد الله كلهم أجمعين لا يكون بالضرورة إلا مجاهدا في سبيل الله سبحانه بصورة من صور الجهاد وليس دون ذلك سوى القعود الذي أوتي درجة في القرآن حال كون الجهاد جهاد طلب لا دفع وحال كونه فرض كفاية لا فرض عين ولذلك لا يتخذ الجهاد في سبيل الله سبحانه صورة واحدة هي صورة مؤمن في ساحة الوغى يدافع عن أرض أو يفتحها ولامر ما إنحبست تلك الصورة عندنا إنحباس ظل الصورة الفوتوغرافية فلا حراك بعد إلتقاطها ومرد ذلك كله إهمالنا للبعد المقاصدي في فهم الاسلام وأمور أخرى كثيرة لسنا بصددها الان . ومن هنا كان الجهاد من لدن المؤمن ذبا عن عرضه أو ماله أو نفسه أو سائر ما يتقوم به من مادة ومعنى أو ذبا عمن سواه من ذوي الاكباد الحرى مطلقا ودون أدنى تمييز هو جهاد في سبيل الله سبحانه والميت دونه هو شهيد وهو هنا شهيد المعركة أي صاحب الدرجة الكبرى من درجات الشهادة ولو قلنا خلاف ذلك لعددنا المجاهد اليوم في ساحات كثيرة تحتاجها الامة كساحات الفكر والثقافة والجهاد بالقرآن المأمور به في القرآن فضلا عن الجهاد بالمال بكل صوره قاعدا من القاعدين وهل يعقل أن يلتحق كل الناس بجبهات القتال اليوم لا بل هل أن جبهات القتال اليوم تتسع لنا جميعا أو هي تحتاجنا نفوسا أم تحتاجنا أموالا وتفكيرا وتشجيعا وتخذيلا ورصدا وأنظر إن شئت إلى مجال الاعلام سيما في عصر ا لفضائيات العابرة للقارات والصانعة بالكلية دون أدنى مبالغة لاجيال عقلا وسلوكا هل تعد المجاهد فيه اليوم قاعدا أو نصف مجاهد ولامر ما مازل الجهاد في مثل هذه الحقول الحيوية ذات السهام البتارة في أعيننا جهادا دون الجهاد ولامر ما مريب مازلنا نتعاطى مع الامور التي لابد من تكاملها بطريقة التقابل . إن الخلل الذي أصاب عقولنا في الحقيقة لا يوازيه خلل ويمكن تدارك سائر ما فاتنا بوقت أسرع وجهد أقل في سائر مواطن ضعفنا أما في مجال حسن الفهم والعقل فإن الامر يتطلب إصلاحا حقيقيا لا يفتر .
ما هي قيمة المال حتى نموت من أجله : وظيفة المال في حياتنا وظيفة وسائلية وليست مقاصدية وليس ذلك تحقيرا للوسائل ولكن تكسب الحكمة وفصل الخطاب يقتضي وضع كل أمر في نصابه لا يتقدم عنه ولا يتأخر فموت الانسان دون ماله وهو ما يكسبه درجة الشهادة العليا في سبيل الله سبحانه ليس من أجل المال والدنيا ولكن من أجل الغايات التي لا سبيل إليها إلا بالمال والدنيا ولوكان ربنا سبحانه يريد منا عشق الفقر لما رمى بآدم عليه السلام أول ما رمى في جنة فيها مالا عين رأت ولو كان سبحانه يزهدنا في الدنيا تزهيد الذين لا يوقنون فيها لما كان أغلب المبشرين بالجنة وهم أحياء يأكلون ويشربون أغنياء ولو كانت الدنيا لا قيمة لها في حساب الله سبحانه لما فرض الزكاة وإهتم بأدق تفاصيلها ومصارفها ولما فرض الحج والدعوة والجهاد ولما كانت أطول آية متعلقة بالمال ولما إحتل الانفاق المكان العقدي الاول في الاسلام ولما دعا إلى إغناء الفقير وما إلى كل ذلك مما لا يحصى وكل ذلك ليعلمنا أن المال شرط لاقامة الدين والعدل والقسط والحرية بين الناس غير أن ذلك لا يسقط معنى الابتلاء فيه طلبا وإنفاقا وتدافعا فالموت في سبيل المال هو في الحقيقة موت في سبيل الكرامة والحياة والحرية لان الاتجاه المعاكس لذلك هو عبودية الذل والحاجة وإن أنس فلن أنسى صديقا وزميلا فاجأني يوما من أيام الثمانينات الاولى بقوله بأن فلانا نقابي ناجح يدافع عن حقوق العمال لانه شيوعي فكانت طعنة لن تزال أحساؤها تندلق منها أمعاء مهجتي إندلاقا وليس ذلك سوى نتيجة لتفريط المسلمين في العناية بالدنيا وبالمال تفكيرا وسلوكا .
الاوطان خير حاضن للمال فالموت دونها شهادة الشهادة أما اللغو فكن عنه من المعرضين: مالك الذي تموت من أجله فتكتب لها الشهادة ليس صورة جميلة في متحف عامر ولاهو سطورا لفتها قماطير سوداء بل هو جزء لا يتجزأ من وطنك وهل الوطن سوى مالي ومالك لا بل هو أغلى مالي وأغلى مالك إرثا وخلفة ومن ذا فإن الموت في سبيل الوطن هو موت في سبيل المال فهو شهادة لا بل شهادة الشهادة واللغو خير لك الاعراض عنه وهو لغوان لغو يتسربل الجهل يقول بأن الموت في سبيل الوطن وثنية وصنمية وشرك وإنما الموت يكون في سبيل الله وهل يعلم هؤلاء لم مات الناس تحريرا للاوطان الاسلامية فسبيل الوطن والمال والكرامة وسائر ما يحبه الله ويرضاه هو سبيله ولو لم تستخدم المصطلح ذاته فالعبرة بالمقاصد كما يقول الفقهاء ولغو هو أشد من سابقه وهو ما يردده المنافقون المتهافتون على موائد التصهين يبيعون آخرتهم بدنيا غيرهم
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الخامسة عشرة
أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال " كلا والذي نفس محمد بيده إن الشملة لتلتهب عليه نارا أخذها من الغنائم لم تصبها المقاسم ".
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
كان ذلك في خيبر أصاب المسلمون غنائم و أصيب عبد منهم بسهم قتله فغبطه الناس على الشهادة فجلى عليه السلام الامر ففزع الناس وجاء بعضهم بشراك يسلمه فقال له عليه السلام " شراك من نار". وشواهده في القرآن الكريم كثيرة منها " ومن يغلل يأت بماغل يوم القيامة ".
موضوع الحديث : المال العام أشد الاموال حرمة وأول الطرق السيارة وأسرعها إلى النار: لست أحسب أن مصيبة أشد لطما فينا من تلك التي حذر منها عليه السلام في قوله " تنقض عرى الاسلام عروة عروة أولها الحكم وآخرها الصلاة " أي مصيبة إنفصام عرى الجماعة وذهاب الريح السياسي الجامع للوحدة وما تلاه من عكوف الفقه والعلم على سائر الحياة دون الشأن العام ونشوء الملكيات العضوضة والامبراطويات الظالمة فكان الحجاج بسيفه البتار مذلا للناس حاصدا للحريات وليس ذلك عند التحقيق العلمي سوى إرهاصة أولى لاستحكام النظرية العلمانية في أرضنا وقديما قال المحققون أن منشأ الشبهة وهي العلمانية هنا ليست سوى الشهوة وهي شهوة الفقه في إعتزال ساحة الشأن العام للناس طلبا للدعة وخديعة بخدمة العلم وشهوة السلطان في حصر الفقه في المسجد وتخومه القريبة ولا يحسن بنا سوى تحية الاجتهادات الفقهية التي جعلت أركان الاسلام ستة بدلا عن خمسة إذ فقهت القرآن الكريم خير الفقه لما قرنت الصلاة والصيام والزكاة والحج بعد التوحيد بالامر بالمعروف والنهي عن المنكر ركنا إسلاميا ثابتا قارا قطعيا يقينيا . ولست أحسب كذلك بأن من أكبر العوائق الداخلية التي ترهق مسيرة مشاريع إستئناف الحياة الاسلامية على مختلف ألوانها سوى ضمور ركن الجماعة والدعوة إلىالخير والامر بالمعروف والنهي عن الخير وما يأتي في حكم ذلك إذ لم يفرط الناس رغم الطاحنات الحاصدات في سائر الاركان المعروفة وليس ذلك لسوى أن المادة الثقافية السلفية الاولى الصحيحة التي كان عليها الصحابة بعد وفاته عليه السلام إلى يوم اندلاع الفتن أو عام الجماعة كما يسمى في تراثنا كانت مصنوعة من ركنين كبيرين كوتدين يشدان البناء بأسره وهما الاصلاح الفردي المتأتي عبر الاركان الاربعة المعروفة من صلاة وصيام وزكاة وحج والاصلاح الجماعي المتأتي عبر ركن الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير والنصيحة للجماعة وإلا لم قتل المبشرون بالجنة المبشرين بالجنة وكلاهما يعلم أنه مبشر بالجنة كما يعلم أن مقتوله مبشر بالجنة ؟
ماهو المال العام في حياتنا المعاصرة وهل يشمله ذات الحكم ؟: إنفرط عقد الخلافة في نهاية الربع الاول من القرن الميلادي المنصرم وليس صحيحا أن الاجهازعليها كان سيكون من داخلها بحكم ثخونة جراحاتها الانحطاطية وأن الكمالية لم تزد على أنها كانت رصاصة الرحمة بتعبيرنا المعاصر ذلك أن حركة إصلاحية واسعة كانت قد بدأت عملها منذ ما يقارب القرنين ولو لم تكن رصاصة النقمة من الخارج لتلونت مشاريع الاصلاح التي تلت الحركة الكمالية أو حتىالتي كادت تخرج من عباءتها بروح دينية تقليدية يمكن عبر إصلاحها والحوار معها ردها إلى مواطن الاصلاح الاسلامي القح أما وقد كانت اللطمة شديدة قاسية ناسفة فإن سائر مشاريع الاصلاح التي تلتها لم تكن في الغالب سوى مباضع غريبة مسمومة في يد طبيب غربي يدس سما زعافا في دسم معسول . وبإنفراط الخلافة على علاتها وهناتها كانت الحركة الانقلابية الثانية الاشد خطورة وأثرا في كيان الامة بأسرها بعد الحركة الانقلابية الاموية فكانت التجزئة هذه المرة مرة عميقة جلبت الاحتلال والمسخ والتغريب وتشوه الهوية لاول مرة في التاريخ بعد أربعة عشر قرنا كاملة إذ كان الانقلاب الاول محصورا في السلطنة السياسية وكان المجتمع يومها قوي الدفاعات عالي الهمة حاضر الارادة سوي الفهم حر الفاعلية قادرا على إمتصاص أكبر آثار الانقلاب الاموي خطرا أما في حالة الانقلاب الثاني فإن درجة القدرة على الامتصاص ضعيفة جدا . فكانـت بالخلاصة أدواء التجزئة لاوصال الامة ليس جغرافيا فحسب بل قيميا كذلك ومن ذا تولد شعور لدى الحاكمين والمحكومين علىحد سواء بأن المال العام للامة لم يعد له وجود في ظل الدولة القطرية الجديدة ونشأت عقلية تسمى في اللهجة التونسية " رزق الباليك " أي المال العام .فالمال العام إذن هو كل مال عينا أو متقوما يشترك في ملكيته سواء بالسوية أو بحصص متفاوتة أكثر من واحد فخزينة الدولة اليوم وسائر الاملاك الحكومية أو التابعة للدولة ودواوينها ووزاراتها ومهما كانت طبيعة النظام السائد ملكيا أو دستوريا أو جمهوريا أو برلمانيا هي أموال عامة يحاسب الله يوم القيامة سبحانه عن سبيل تحصيلها وعن سبيل إنفاقها الاولى بالمحاسبة فالاولى أي الاعلى سلطة فيها والاكثر مباشرة لها وكل غلول منها بغير حق هو غلول عبر الله نبي الرحمة عليه السلام بأنه نار ملتهبة ولنا في هذا المثال البسيط لعبد لم يكن حتى حرا كامل الحرية يومها بحكم سريان الامر قبل إنتهاء الاسلام من تجفيف منابعه بالكلية وليس هو كذلك مالا كثيرا بل مجرد شملة يشتمل بها العبد ربما وارت نصفه فحسب وصاحبها مجاهد في سبيل الله سبحانه بماله وبنفسه فلم يشفع له سهم طائش من العدو ولم تحرمه شملة وضيعة زهيدة درجة الشهادة فحسب بل أردته في النار تصليه أي بتعبيرنا المعاصر كمن كان يكرم على الملا الدولي ينتظر بعد لحظات نيل أعظم وسام دولي في فن ما أو مهارة ما والدنيا بأسرها تتبع ذلك بأعينها وفجأة برز تقرير علمي موثق من مجمع طبي أو علمي يقول بأن بطل العالم مارس التزييف أو التزوير فلا تزيد الهيئات المكرمة له سوى على ركله خاسئا بأرجلها غير مأسوف عليه فأي سقوط مخز كهذا من أعلى القمة إلى أسحق الدرك .
جريمة الغلول من المال العام تطال كل غال وكل مغلول لان الاسلام دين الخلق أولا: قد يتعجب بعض الناس من بعض الاعمال البسيطة التي ترفع صاحبها إلى أعلى عليين كإمرأة تقم مسجدا مغمورة لا تبصرهاغير العين النبوية الكريمة فلما تموت يفقدها عليه السلام ويسأل عنها ويؤنب أصحابه لم لم يؤذنوه فيها ويذهب إلى قبرها يصلي عليها أو من بعض الاعمال الصغيرة التي تحط بصاحبها في أسفل سافلين وهذا الحديث المتفق عليه خير شاهد على ذلك ومشكلة هؤلاء الناس أن المعيار المادي الظاهري عندهم هو المحدد فلا يعتبرون أن الجبال الشامخات هي ذرات صغيرة لا ترصدها مجاهرنا المعاصرة من التراب والحجر وتلك بلية في الفهم والرؤية . والغلول هو من هذا الضرب فمن جاء بشراك نعل بعد فزعه من مصير الشهيد الذي أوى إلى النار ربما لا يساوي شراكه الذي غله حفظ قدمه لمسيرة تزيد عن عشرة أميال ورغم ذلك فلو إحتفظ به فإنه شراك من نار يوم القيامة ولا شك عند العاقلين لاعند الحمقى أن نار الدنيا مهما إشتد هجيرها في الجبال السوداء المحيطة بمكة أقل لفحا من نار الاخرة .وليست جريمة الغلول تطال المسؤول الاول دون المباشر له بدليل أن هذا العبد حوسب هو بإعتباره غالا ولم يحاسب هو عليه السلام بإعتباره المسؤول الاول عن المال تحصيلا وتوزيعا كلماكان لا يعلم الغلول المتستر بظلام النفس الامارة بالسوء ولو علم الاكبر مسؤولية بالغلول لصار شريكا ولو ولى على الناس من هو لهم غاش لكان الغال الاكبر ولو لم يحاسب من دونه تحت أي دعوى كانت حسابا يبرئ ذمته يوم القيامة أمام المحكمة العليا لكان الغال الاول والغلول اليوم قد يكون ورقة يغفل عنها الموظف الاداري البسيط في مصلحة حكومية في جيبه أو في محفظته فيلهو بها ولده وهي كذلك قلم بسيط ومهاتفة لمدة لحظة واحدة وتأخر عن الوقت بدون عذر مقبول عند الله وعند المسؤول الاعلى وهي قطرةمن بنزين في مصلحة شخصية لا عامة وأذكر دوما أن النار لمن غل شملة ولاشك أن ورقتنا اليوم وهاتفنا وقطرة بنزيننا وقلمنا أغلى ألف مرة ومرة من الشملة فمابالك بمصاصي دماء الملايين من الفقراء والمساكين والمتاجرين بمصالحهم المادية والمعنويةمع العصر المتصهين وما بالك بمن يغل وطنا بأسره يبيعه بأبخس ثمن للغزاة وبمن يغل الاراضي والحقول والمصانع والطائرات والسيارات الفخمة والمساكن التي لو أبصرها الذي يطوي جوعا يلفحه البرد ويقتله الهجير لخالها من الجنة .
تحريم الغلول عام يشمل غير المسلم ومقصده كرامة الانسان وبناء الشخصية الاخلاقية:لا يجوز لدولة مسلمة الاستيلاء على مال دولة غير مسلمة مالم تكن في حالة حرابة ولالمسلم غلول مال غير المسلم وفصل الفقهاء في إسترداد مال المظلوم تفصيلا يضيق به هذا المجال وليس كالغلول ينجس الشخصية الاخلاقية للانسان ويرذلها ويساوي بينهاوبين الذباب المتهافت علىكل جيفة وقذارة وليس لانسان من صون وكرامة بعد دوس ماله وتعريضه لفتنة السؤال وذلة الحاجة والعدل أساس العمران الاسلامي وليس أعدل من حرمان الغال من نعمة إستعجلها قبل أوانها..
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة السادسة عشرة
أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال " لويعلم الناس مافي النداء والصف الاول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا ولو يعلمون مافي التهجير لاستبقوا إليه ولو يعلمون مافي العتمة والصبح لاتوهما ولو حبوا".
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
موضوعه:عماد الدين الصلاة والجماعة والتنافس على الخير وتزكية النفس : من أسباب تأخرنا أن الصلاة عندنا أضحت حركات بدنية لا روح فيها ولا نبتغي منها تحرير أنفسنا من سائر ضروب الرق وصنوف الاستعباد حتى تلك التي تختفي فينا ولا بتكريمها بسائر مظافر العلا ومراقي العز وهذا عند المقيمين للصلاة والمحافظين عليها ولك أن تتصور كم من مؤمن اليوم هو كذلك ظاهرا ثم تصور كم من هؤلاء تنهاه صلاته عن الفحشاء والمنكر وتحرره وتكرمه . ولو لم يكن الامر كذلك لما إشتمل الاسلام على أمرين أولهما أنه جعل الصلاة في الدنيا أول فريضة على المؤمنين لا تغفل عنهم يوما واحدا فهي تعاودهم مرة كل أربع ساعات ونيف علىمدار العمر لا تفارق منهم مريضا ولا عاملا ولا غنيا ولا فقيرا ولا حاكما ولا محكوما ولا سليما ولا مقعدا لابد للقلب منها من حظ لو عجز المصلي عن تحريك عينه بها أو يده أو القيام أو القعود ولا تفرط في مسافر ولا مقيم إلا غافلا أو فاقد عقل حتى يفيق ويعقل وإن شئت زدت على ذلك أن تاركها كافر ربما قتل حدا عند هذا وكفرا عند ذاك أو أستتيب وربما فرق بينه وبين زوجه وآل ماله الى بيت المال وربماحبس وعزر عند آخر ينظر إليه نظرة المعافى إلى الاجرب الاجذم يتوجس من العدوى أما الشاطر فيها فهو إمام للناس فيها وفي غيرها يؤمهم ويعلمهم ويشير عليهم أما ثاني الامرين اللذين إشتمل عليهما الاسلام تقديرا لاول فروضه وزينة أهله في الدنيا فهو أن الانسان يوم القيامة يحاسب أول ما يحاسب على صلاته فإن صلحت بت في ملفه وعد من أهل الجنة وإن عسر حسابه وإن فسدت فلا ينظر في بقية ملفه القضائي كائنا ما كانت أعماله فضلا وتقدما ونفعا للناس بل هي بوار بائر وهباء منثور فالصلاة عماد الحياة إذا كان الدين عماد الحياة تماما كما أن العمود الفقري في جسم الانسان هو عماده وإلا أضحى كتلة من اللحم سرعان ما يسرع إليها الفساد وتنهشها الذئاب وما بقي للذباب .
مخ الصلاة التي هي مخ الحياة اربع : النداء والصف الاول والتهجير والبردين : من مظاهر العجب فينا أنك لا تجد في كتب فقه الصلاة سوى ما يقيم أودها الظاهري المادي وذلك هو مبلغ الفقه يوم تتخلف الامة فكتب الفقه لا تصنع المصلين إذن ولكن يجد فيها المصلي الحريص بعض ما يفيده لو أخطأ في صلاته أما فقه الصلاة كما يريدها الله سبحانه فيصعنه القرآن الكريم والسنة الصحيحة وسائر الكتب التي إستلهم أصحابها حقا فقه الصلاة فهم يبينون معانيها ومكارمها ومحاسنها ومقاصدها ومنافعها وأجزيتها في الدنيا والاخرة لذلك لم يزد عليه السلام في أول وأكبر فريضة على قوله " صلوا كما رأيتموني أصلي " كما أنك لاتجد صحابيا واحدا سأله يوما عليه السلام سؤالاواحدا عن الصلاة سؤالا بليدا شبيها بأسئلتنا نحن اليوم فيها وهم من هم لها حسن إقامة ولو سألتني لم لم أتردد بقولي بأن الصلاة فرضت عليهم وهم مشغولون بحسن إدارة الحياة إقامة للعدل والقسط جهادا واجتهادا واستشهادا وتكافلا وتضامنا فظلوا بذلك مشغولين ولم تزدهم الصلاة سوى إضافة على ذات الدرب أما نحن فلقد فرضت علينا الصلاة ونحن نتسكع على أزقة الحياة بعد ما اضحت الرسالة باهتة مترددة هل هي تعمير الدنيا وتخريب الاخرة أم العكس ولم يهتد سوى قليل منا إلى أن الامرين واحد فنحن إذن فارغون والفارغ يشغله كل ما يفرض عليه فيعكف عليه عكوف الطفل الصغير اللاهي بكومة تراب لا يلوي على من حوله . النداء الذي يرغب فيه هنا عليه السلام هو الاذان وهو يعني أمرين أولهما ممارسة الاذان فالمؤذنون أطول الناس أعناقا يوم القيامة أي أعلى الناس فلا يوطؤون كما يوطؤ النمل وثانيهما تلبية نداء الاذان حال سماعه ويتفاوت الناس في ذلك فراغ وقت وقوة يقين وليس لسوى إعلان شعائر الله وإكتساب الشجاعة اللازمة للاصداع بالدعوة إلى الله سبحانه ندبنا عليه السلام لسرعة تلبية نداء الاذان . أما الصف الاول فيعني أن المصلي حريص على صلاته في جماعة حريص على حسن إستعداده لها بالتفرغ النفسي وإصابة شئ من الذكر أو التلاوة وإسباغ الوضوء والقرب من موقع الامامة يتعلم ويحسن الاستماع ويحسن الاصلاح لو وقع الخطأ والاسلام دوما يحض على الامامة ومراتبها في كل خير لا على مجرد الاتباع إذ يخشى من يجد نفسه دوما في الصف الاخير أن يستبد به التقليد فلا يصيب خيرا ثم تأكله الامعية كشاة توشك أن تتخلف فيتهددها الذئب وذئب الانسان الشيطان وفي أيامنا ربما لا يجد من هو في الصفوف الخلفية وربما خلف الجدر والحواجز حسن إستماع من خطيب الجمعة ولا من الواعظ وربما فاته خير كثير كثيرا ما لا تفي به المصادح المبثوثة .أما التهجير فهو في صلاتي الظهر والعصر وربما برد الناس لصلاتهم وربما هجروا وعلام تواضعوا فلا يحسن بالمؤمن سوى تلبية النداء والمتخلف عن التهجير الى الصلاة يخشى على نفسه أن يكون من المخلفين يوم العسرة الذين لم يتخلفوا عن نفاق ولكن عن تسويف وتكاسل ورغبة في يوم آخر في ظل شجر المدينة وثمرها وليس أثقل على النفس بعد التجافي عن المضاجع من الليل سوى هجرانا للظلال الوارفة وتعرضا لفيح نار القيظ اللاهب ولامر ما كان الجزاء من جنس العمل فالمشاؤون في الهجير إلى المساجد آمنون من هجير الاخرة وفي المناطق الحارة ليس ألذ من القيلولة التي تطلق البدن من عقال الضحى وكده وعليه يقاس الحبو إلى الصلاة أي صلاة البردين الصبح والعشاء سيما في المناطق التي تشتعل بردا وتكسوها الثلوج حتى أنه بشر عليه السلام من صلاهما في جماعة كان في ذمة الله وفي حمايته سائر يومه وكان كمن قام الليل بأسره. ولامر ما ذكر عليه السلام الاستهام أي القرعة لكل تلك المطالب من نداء وتهجير وصف أول والحبو لادراك البردين في جماعة ولو ذكر العبد قوله يوم القيامة " و يدعون الى السجود فلا يستطيعون خاشعة ابصارهم ترهقهم ذلة وقد كانوا يدعون الى السجود وهم سالمون " لسارع الى كل ذلك قبل فوات الاوان ولقد كان عليه السلام لا يجد عذرا لابن أم مكتوم وهو أعمى في عدم إجابة النداء إلى مسجد يبعد عنه أميالا لا مئات من الامتار وراجلا بدون عينين في ظلام الليل الدامس لا بصيرا في سيارة لا يعرف الظلام الى المدينة المضيئة ليل نهار سبيلا وفي طرق معبدة وأمن من الزواحف والهوام والدواب حل محلها جميعا رقيب السلطان يحصي المصلين من الشباب وهو يرجو أن يعمروا المواخير والحانات والشطآن الفاضحة والمراقص والعلب الليلية لعله يستريح من معارضتهم ورب حاب الى المساجد اليوم منطلق فوق الصراط كالبرق ورب معربد اليوم متبرج بقوته مستعل بسلطته مستغن بسحته حاب غدا كنمل صغير حقير تطأه ارجل المؤذنين.
ماهو السر في كل هذه القيمة لصلاة الجماعة ؟: مكارم الصلاة لاتحصى فهي نهر يطهر المؤمن كل يوم وليلة خمس مرات فلايبقىمن درنه عليه شئ فالصلاة إذن حمام دافئ للبدن يجعله دائم النظافة والطهارة متناسبا مع الفطرة في الشعر والاظافر والبراجم والرائحة والثوب والبيت وفنائه وهي بعد ذلك زكاة للنفس إذ تطرد عنها الكسل والاثرة وتعلمها القيام والسعي والتضحية وهي بعد ذلك ترسم للعامل النشيط برنامجا يوميا للحياة يبدأ منذ الصباح الباكر ويمتد حتى الليل وله فيه وجبات راحة وله يوم راحة اسبوعية هو يوم الجمعة وهي بعد ذلك تعلم الاسرة سيما الابناء الاسلام في ابجدياته الاولى تأسيا بالابوين العابدين وهي بعد ذلك ترص صفوف الجماعة رصا وما ينبجس كأثر عن صلاة الجماعة من خير للجماعة ماديا ومعنويا لا يحصى وليس أولها التعارف أساس الوجود الانساني بأسره وليس آخرها التكافل والاهتمام بالشأن العام والاصلاح وصلاة الجماعة تعلم الوحدة والنظام وحسن المظهر ورص الصف والتعاون والاصلاح حال خطأ الامام أو غيابه وهي تعلم فن التعامل مع الناس ومراعاة الذوق العام بما فيه من طيب وحسن مظهر وتجمع الرجال والنساء والاطفال وتعلم عبر الخطب وسائرمناشط المسجد الدين والدنيا معا وتؤاخي بين الناس وتقضي حوائجهم الدنيوية وتعلم فن المعمار وفنون الزينة وزركشة المسجد والعناية به وهي بعد ذلك محطة للدعوة من خلال الاذان وصلاة الجمعة والاعياد وسائر الصلوات غير القارة كالاستسقاء والخسوف والكسوف فالصلاة تعلم الانسان فن الحياة في البيت والشارع والمسجد وفن الاجتماع والتكافل والتعاون والدعوة والتحضر والترقي وطلب الكمالات في الدين والدنيا فمقيم الصلاة في الجماعة في المسجد حي أبدا وسواه حي بقدر فعل ذلك وميت بقدر تخليه عنه فاختر بين الحياة وبين الموت ولا تختر سوى الحياة تكن غدا حيا
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة السابعة عشرة
أخرج الشيخان عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال " آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا أؤتمن خان " وأخرجا عن إبن عمر وعن عمرو بن العاص قوله عليه السلام " أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها : إذا أؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر".
ــــــــــــــــــــــ
تحدث القرآن الكريم كثيرا عن النفاق والمنافقين وسمى سورة بأكملها بإسمهم وتدور أغلب أحداث سورة التوبة حول فضح النفاق والمنافقين ولك أن تقول أن القرآن الكريم لم يتعرض مرة واحدة للنفاق الذي تعرضت له السنة في الاعم الاغلب فالقرآن الكريم لم يتحدث عن سوى النفاق الاعتقادي المخرج من الملة وإعتبره شر الكفر مطلقا وتوعد أهله بأنهم في الدرك الاسفل من النار وشن عليهم حملة غير مسبوقة لم يشنها على سائر أنواع الكفر الاخرى من شرك وردة وكتابية ودهرية أما السنة فلا أعرف حديثا واحدا يتناول النفاق الاعتقادي على قصور إطلاعي على السنة بينما الاحاديث التي تتناول النفاق السلوكي وأماراته وعلاماته كثيرة .
أمارات النفاق السلوكي إذن هي الكذب والغدر والخيانة والفجور : لابد في البداية من التمييز بين النفاقين الاعتقادي والسلوكي علما وعملا فلا يقذف بالنفاق الاكبر مؤمن أتى واحدة من هذه الامارات الاربع أوكلها سواء تاب منها أو لم يتب كلما لم يعرف عنه بين الناس سوى الايمان وحد أدنى من الالتزام الاسلامي إذ أن ذلك رمي له بأكبر أنواع الكفر ولو حصل ذلك بدون حق فأنه يبوء بها الرامي والعياذ بالله والقرآن الكريم إهتم بالنفاق والمنافقين كثيرا غير أنه لم يسم واحدا منهم بإسمه وإنما حقق طويلا في ومؤامراتهم والمؤمن قد يقع في خصلة أو أكثر من خصال النفاق وقد يتوب من ذلك وقد لا يتوب ولكن ذلك لوحده لايخرجه عن دائرة الايمان وليس معنى ذلك التهوين من تعزير الايمان بالعمل الصالح وتجنب الافلاس القيمي.
المؤمن لا يكون كذابا : إذ سئل عليه السلام هل يكون المؤمن جبانا وبخيلا فأجاب بالايجاب ولما سئل هل يكون كذابا أجاب بالنفي وذلك يبرز بأن الكذب خلة مخزية وشميلة مخذلة ولعل معطيات علم النفس الحديث تفسر ذلك بإعتبار أن النفس الكذابة نفس لئيمة وأن الكذب يورثها الجبن والخوف والبخل ومصانعة الناس في الحق والالتواء في الحياة ويصاب الكذاب بأخطر الامراض النفسية وهو إزدواجية الشخصية وإذا كانت الفطرة قاضية بأن الله ماجعل لرجل من قلبين في جوفه فإن الكذاب ذي الوجهين المتواري هنا والظاهر هناك تضطره ظروف الحياة إلى تسور جدران النفاق ورب منافق بدأ حياته بكذبة واحدة صغيرة وسرعان ما أصبح منافقا خالصا فبالخلاصة فإن الكذب يصنع شخصية بشرية غير سوية في بنيتها العاطفية والمزاجية والذوقية وبعدها لا ينفع عقل ولا تنشحذ إرادة ولاتسمو روح .
الغدر معجلة عقوبته في الدنيا : لقد ورد عنه عليه السلام أنه قال خمس تعجل عقوبتهن وهي الغدر والخيانة والبغي والعقوق ومعروف لا يشكر كما صح عنه قوله عليه السلام أنه ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة والغدر قريب من الخصلة التي ذكرها الحديث الثاني أعلاه وهي إذا وعد أخلف غير أن الغدر أشد وأقسى في العادة إذ أن الغدر يأتي على عهد صحيح صريح ويخصم حق الناس ويطفف المكيال ويخسر وكلاهما شر ولا ريب ولقد ثبت عنه عليه السلام أنه تواعد مع رجل في مكان ما وفي وقت ما فلم يأت الرجل إلى موعده المحدد وظل عليه السلام ينتظر صاحبه يوما وليلة كاملين يطوي ثم إنصرف ولقد وقر في خلد الناس سيما أهل الشهامة منهم والكرامة حتى لو لم يكونوا مسلمين بأن الوفاء بالعهد وبالوعد من شيم الرجال وأهل المروءة فيهم وأن الغدر من شيم أهل الخساسة وسوقة الناس وسقطهم وقصص العرب قبل الاسلام وبعده مليئة بالعواقب الحسنة لاهل الوفاء حتى أن الرجل كان يوفي وعده وفيه قطع لعنقه وربما لاجل ذلك نزل الكتاب على العرب لتوفرهم على الخصال الخلقية الحميدة التي تحتضن الدين الخاتم وهي خاصة الكرم والشجاعة والوفاء بالوعد وسائر ما يليها ولقد ضربوا في ذلك مشاهد لا يصدقها من جاء بعدهم ومن عادة التدين أن يستعين بالنفس الكريمة وإنك لتجد اليوم في دنيانا متدينين وربما مصلحين وكبار دعاة يشار إليهم بالبنان وسعة العلم والفقه وتصدر المجالس ليس في أجوافهم حبة خردل من كرامة ولا شهامة ولارجولة ولا شجاعة ولا غيرة وهو ما نفر كثيرا من الدين والتدين وأهله ورموزه ومؤسساته ورب فاجر أو فاسق رغم إيمانه يخجل من كرمه وشهامته البدر الساطع في السماء وتقطر يمينه ندى لا يعرف النفاق إلى ساحته سبيلا وهذا معروف في بيئات عربية وإسلامية كثيرة .
لم يعرف الناس قديما وحديثا عقوبة للخائن سوى الصرم : الفرق بين الغدر والخيانة كبير ذلك أن الغادر في العادة يشهر غدره أو لا يتخول له السرية كما أن الغدر عادة ما يتعلق بعهد معين قد يحتمل مصلحة لكل طرف أما الخيانة فهي الاستيلاء على أمانة مادية أو معنوية بدون حق وعادة ما تكون تلك الامانة ملكا خاصا لضحية الخيانة وهي درجات ولا شك وكلما كانت الامانة عظيمة الاثر واسعة الامتداد سيما في الثروات المعنوية كانت خيانتها أغلظ قسوة وشدة لذلك لم يؤثر على قوم من الناس أنهم رتبوا في القديم أو الحديث عقوبة على الخائن سوى الموت سيما إذا تعلق الامر بالقيم الكبرى كالاديان حال الردة سيما المتبرجة الداعية السافرة والاوطان والاسرار العليا للناس والحقيقة أنه من تورط في الخيانة التي عادة ما تكون سرا إلى حين إتمامها فلا يرجى منه أمل لان الخيانة أقرف ما يمكن أن تأتيه النفوس ولا يورثها سوى ذلة وهوانا .
الفجور في الخصومة عادة ما يكون دليلا على عقد نفسية خطيرة : ليس العيب في الخصومة التي تنشأ بين الناس حتى الاخلاء منهم تبعا للتكوين النفسي المزدوج للانسان وتبعا لسائر غرائزة ولكن الذي يفجر في خصومته سواء كان ظالما أو مظلوما عادة ما يكون يعاني من عقد نفسية غائرة خطيرة وخاصة عقدة الاستكبار على خلق الله سبحانه فيهتبل فرصة الخصومة لينفس عن مخزونه النفسي المملوء حقارة لغيره وليس بالضرورة أن يكون شاعرا بذلك فالامراض النفسية كثير منها مالا تحدث في الانسان ركزا مثلها مثل كثير من الامراض البدنية بل تظل تسري وتدب في غفلة أو أنه يشكو من عقدة الاستصغار فيستغل الخصومة لاثبات شخصيته المهزوزة ولقد ثبت اليوم أن الغضب وما يليه من التشنجات العصبية تفعل فعلها الخبيث في توليد كثير من الامراض البدنية أو تأخير برءها .
الخلاصة :
1 ـ التمييز ضروري من لدن المتدينين خاصة والعاملين في حقل الدعوة الاسلامي خاصة بين النفاق الاعتقادي والنفاق السلوكي فلكل علاماته الصحيحة من الكتاب والسنة فالاول مثلا من أبرز علاماته التي جاءت بها سورة الفاضحة أنه يبغض الجهاد في سبيل الله ويبغض تطبيق الشريعة الاسلامية ويهون من شأن الاديان ولا تأخذه غيرة على القيم ولتعرفنهم في لحن القول كما عرف الاوائل أما الثاني فهو مؤمن في الغالب لذلك لم يقل عليه السلام أن المنافق هو من إذا حدث كذب وفعل كذا وكذا بل قال أن من أماراته كذا وكذا فهو يريد تحذيرنا من النفاق الاكبر الذي يبدأ بالنفاق الاصغر كما يريد تبرئتنا حتى من النفاق الاصغر الذي يحصد الدين حصدا والاولىبنا جميعا عدم تقمص دور القضاة و القرآن الكريم لم يعين حتى من كان يتولى كبره أي إبن أبي سلول فكن قرآني المنهاج في دعوتك ولا يستخفنك الذين لا يوقنون .
2 ـ بعد كون الكذب والفجور والغدر والخيانة حصادات للدين وسبل للنار فإنها في الدنيا مقابر للشخصية الانسانية المتوازنة المعتدلة المتكاملة السوية وأخاديد من جحيم تهوي بصاحبها في كل الامراض النفسية والبدنية وتجعل منه أجرب أجذم في مجتمع طاهر نظيف فإن إنصلح حاله أو قل عدده وأثره وإلا كانت الاخرى أي إنهيار مجتمع وإنتصاب إحتلال والخاتمة معروفة.
3 ـ الفاصل بين النفاقين الاصغر والاكبر أو الاعتقادي والسلوكي ليس دوما سيمكا فمن وطن حياته في سائر أطوارها على الانغماس في أمارات النفاق الاصغر أي الكذب والفجور والغدر والخيانة فلن ينتهي به قطار العمر حتى يجد نفسه في مقدمة النفاق الاكبر فكأن الحديث هنا وقائي.
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الثامنة عشرة
أخرج الشيخان عن أم هانئ أنه عليه السلام قال " أجرنامن أجرت يا أم هانئ".
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
كان ذلك بمناسبة فتح مكة وشواهد ذلك في القرآن كثيرةمنها " وإن أحد من المشركين إستجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أ بلغه مأمنه "و"والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ".
موضوعه : الاول : كرامة الناس وأمنهم قبل الدين وبعد الدين وفي الدين .
ــــــــــــــ الثاني : عدوان ينازعان الاسلام في تكريمه للمرأة : التقاليد و الوافدات .
ماذا لو قلت للناس اليوم أن أول من سن قوانين اللجوء والاجارة والحماية وعمل بها وسيخاصم يوم القيامة كل منتهك لها فيخصمه ويدحرجه في النار كائنا ما كان تدينه هو محمد عليه السلام هل ترى الناس مصدقيك أم راميك بالجهل والجنون وإبدأ إن شئت لتقف على مصيرك مع من حولك فإن كنت في بيئة تقليدية فربما صلبت تطبيقا للشريعة وإن كنت في بيئة مغايرة ربما حمتك بعض القوانين السائدة غير أنه ليس لك مكان بين المثقفين وعلية القوم والانكى من ذلك كله أنك ربما لو أكثرت من الحديث عن هذه الابعاد في رسالة محمد عليه السلام بين صفوف الدعاة إليه والعاملين لتطبيق شريعته بل ربما بين صفوف المكرسين حياتهم منهم لخدمة قضايا الحرية والعدالة لعددت من المتعلمنين أو صغار الفسقة فكيف تقول لي بعد ذلك أننا اليوم لسنا في غربة فالغربة تكتنفنا من كل جانب . لا بل ماذا لو إنحزت اليوم إلى كبار الفقهاء والائمة الذين يقولون بأن تطبيق الحرية اليوم مقدم على تطبيق الشريعة ولا أعلم ذلك سوى من واحد منهم فحسب وهو الامام القرضاوي ألست في عداد المهرطقين والزنادقة في أعين كثير من إخوانك الذين التهبت ظهورهم بسياط القمع عقودا طويلة؟
كرامة الانسان دين قبل الدين : معنى ذلك أنه ليس الاسلام في صورته الاخيرة والنهائية على يد محمد عليه السلام هو أول من كرم الانسان كل إنسان بغض النظر عن دينه ولونه وسائر معطياته الاخرى سواء الموروثة أوالمكتسبة بل إن الله سبحانه لما خلق آدم كرمه مباشرة وحرره وأكبر منازل التحرير والتكريم طرا هي أنه سبحانه نفخ فيه من روحه وروحه موجودة في الكافروالمسلم والعاصي والتائب والاسود والابيض والمراة والرجل وكل من ينطبق عليه إسم آدمي وأول شاهد على ذلك أنه أهله بالابتلاء المفضي إلى الترقي فلا هو ملك مجبول على الطاعة رغم أنفه ليس له في ذلك من مزية ولا هو شيطان أخرس لا يملك الطاعة حتى لو إختارها وثاني شاهد على ذلك أنه أنزله الجنة وليس الارض وثالث شاهد على ذلك أنه إستخلفه وإستأمنه وعلمه وسواه خلقا وخلقا ورابع شاهد على ذلك أنه جعل منه النبي والرسول والشهيد وخامس شاهد على ذلك أنه لا يموت بل هو خالد مخلد في الجنة فالروح هي هي ولو ظللت أعدد مظاهر تكريم الله للانسان وتحريره له لسودت مجلدات غير أنك تبادرني بقولك هذا قول نجده في القرآن الكريم والسنة النبوية ولكننا لا نجد له أثرا في الدنيا سيما اليوم سواء من جانب المسلمين أو من جانب غيرهم وأنا متفق معك تماما في ذلك إذ أن ما يهمني هنا هو تثبيت النظرية الاسلامية التي هي ليست محل إتفاق حتى بين أهلها وكثير ممن يتحمس لها نظرية أيام الدعوة يكون أول من يدهسها تحت أحذيته العسكرية القذرة أيام السلطان . وبعد ذلك فإن لنا في العهدين النبوي والراشدي رغم قصر المدة خير درس في أن تلك النظرية الحقوقية الاسلامية جاهزة للتطبيق في أصولها الكبرى ومعاقدها العظمى والاجتهاد مطلوب أبدا. ولمن يريد حقا إستئناف الحياة الاسلامية وتحقيق النهضة الاسلامية المنشودة فإن عليه سيما ضمن فعاليات الصحوة والحركة الاسلاميين أن يجدد النظرية الاسلامية الحقوقية تثبيتا للثوابت العظمى وكرامة الانسان فيها تأتي مباشرة بعد توحيد الله سبحانه وبسطا للتجديد والاجتهاد ودون ذلك الجهد النظري فإن المعاول ستأتي عليها سواء ممن أسماهم عليه السلام أهل التحريف والمغالاة أو ممن أسماهم عليه السلام المنتحلين والمبطلين والمؤولين الجاهلين . وفي أثناء ذلك فليس تراثنا مبرأ من العيوب في هذا المجال ولسنا ملزمين بسوى صحيح الوحي وصريحه معا وفي أثناء ذلك ينبغي الحذر من الوقوف تحت التأثير الطاغي للواقع سواء المقلد منه للاسلاف أو المتمرد على الاديان .
لن ينتصر الاسلام اليوم وغدا حتى ينتصر في قضية المرأة : عدوان يسلان علينا اليوم الاسياف شاهرة أولهما منا تقليدا أعمى أو فهما أسقم أو عدم وعي بمتغيرات الزمان والمكان وبقوانين الحركة والحياة وثانيهما على تخومنا يسحرنا بالاكاذيب رغبا ورهبا ويجب منا الاقرار جميعا بأن المرأة ظلمت بالانحطاط ظلما شنيعا ولو تصفحت أول كتاب فقه تجده إلى جانبك فضلا عن الكتب الاخرى سوى القرآن الكريم وكتب الحديث لوقفت على الكثير من ذلك فهي تستكثر عليها حتى ما قرره لها القرآن الكريم من مثل حق الخلع في مقابل حق الطلاق وحق الذبح وتستعيض عن ذلك برفع العقيرة بالصياح وحق الامامة حتى للنساء وحق رفع الصوت في الصلاة حال إمتناع داعي الفتنة وحق إختيار الزوج والحاكم وحق الحكم وتولي سائر المناصب في سائر المجالات ومازال بعض الفقهاء قديما وحديثا يتمحلون في ذلك وهم يبحثون عن حل وسط يحفظ لهم ماء الوجه فهذا يقول بحقها في ما دون الامامة العظمى وهو يفكر بعقل ما قبل سقوط الخلافة وهذا يمنع عنها القضاء وهذا الشهادة ولم يتخلص تراثنا إلى اليوم بأسود مقولة عرفها في حق المرأة وهي أن صوتها عورة فهل يعقل لتراث أنتج هذه الثقافة البائسة التعيسة أن ينتصر في الحياة سيما أمام أعداء وخصوم مدججين بما لا يحصى من الاسلحة الفكرية المستندة إلى علوم النفس والاجتماع والعمران والسياسة ؟ طبعا لا لان الحياة هزيمة ونصرا إنما شيدها الله على سنن وأسباب لا تحابي ولاتجامل ولا تعادي فالاقوى دوما هو الاغلب . وأنظر إن شئت حتى إلى أدبيات الاسلاميين بل إلى أكثرهم تنورا ورشدا وعقلانية وسلفية بالمعنى الصحيح لا المغشوش فلن تجد سوى تمحلا وتعسفا وإلتواء يقول لك بأن الرجل شعر بالغبن وبالهزيمة أمام التراث وأمام الوافد فظل يصانع الواقع التقليدي المتبلد والمتلبد في آن فلم ينحز إلى الاصول الاسلامية الثابتة الناصعة لئلا يتهم بالعلمانية والفسوق وبالتالي لم يزد كثيرا على ما أنتجه التراث سوى أنه قدمه بلغة اليوم وإن شئت جئت لك بدليل واحد : هل تجد من القرآن والسنة قولا وعملا دليلا واحدا بل عشر معشار دليل واحد يستدل به على عدم أهلية المرأة لتولي الامامة العظمى أي رئاسة الدولة اليوم وهي ليست إمامة عظمى ؟ وكثير من الناس مقتنعون بذلك غير أن الخوف من الناس يزجرهم عن ذلك والامثلة في مجال المرأة والقوانين الوضعية ومجالات أخرى معاصرة حيوية كثيرة لا يتسع لها المقام هنا .
لا خلاص لنا بسوى الانحياز التام إلى الفقه النبوي وكفانا به دليلا وهاديا : لو طفت بين كثير من إجتهادات المجتهدين قديما وحديثا وبين الفقه النبوي في إدارة ا لحياة بالدين لالفيت عجبا عجابا عنوانه الاكبر أننا نتدين بفقه الفقهاء لا بفقه النبوة في أحيان كثيرة . وفي هذا المثال خير دليل على ذلك فأم هانئ مواطن عادي وهي بعد ذلك أنثى مازال ينظر إليها في مكة خاصة على أنها سقط متاع لا يجوز لها التصرف في مطبخها فضلا عن التصدي لاعقد القضايا الامنية حساسية في حالة طوارئ قصوى فتمنح بإجتهادها الشخصي حق اللجوء السياسي لمشرك ربما كان منذ لحظة يقاتل محمدا عليه السلام وجيشه الفاتح وربما يستخدم حق اللجوء للتآمر ثم لا تمنعها لا أنوثتها ولا عملها الامني الخطير في مرحلة هي الاخطر مطلقا وحيال رجل شن القرآن على إخوانه في الشرك حملات وحملات من الحديث إلى الفاتح الاول يوم الفتح وتفاتحه في الامر فلا تخاف بل تطلب الحق منه فأي نقلة هذه التي أحدثها هذا الدين في الناس إنها نقلة لا يزعم واحد منا اليوم فضلا عن غد أنه فهمها والفقه النبوي لا يؤنبها ولا يخاصمها ولا يستكثر عليها ذلك بل ينبسط لها وكأنه يعتذر قائلا لقد أجرنا نحن رئيس الدولة في يم الطوارئ من أجرت ومن أدراها أن الاسلام يقر ذلك ومن علمها ذلك وهي التي من المفترض ألا تخرج من بيتها وتصلي في قعر قعره حتى لا تفتن الافنية والامتعة بصوتها وهو عورة . والخلاصة أن بعدنا اليوم كإسلاميين مستنيرين عن فقه النبوة في أكثر قضايا الحياة معاصرة بعد المشرق عن المغرب ولا خلاص لنا بسوى فقه ذلك الفقه النبوي المستنبط من القرآن الكريم ثم الانحياز له دون حياء من الغوغاء.
خلاصة مركزة سريعة : إذا طال دور المرأة القضايا الامنية الخطيرة الحساسة في حالات الطوارئ والحروب والفتوحات الكبرى وكانت سلطة تبت في قضايا الاجارة والحماية السياسية والامنية فإنه آن لمن يحجر عليها دون ذلك وكل أمر هو دونه بالضرورة أن يغرب عنا بفكره البائس وليدعنا في مواجهة زور الوافد نهزمه بالقرآن الكريم كما هزمت التقاليد البالية
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة التاسعة عشرة
أخرج الشيخان عن أنس رضي الله عنه أنه عليه السلام قال " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الايمان : أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله وأن يكره أن يعود إلى الكفر كما يكره أن يلقى في ا لنار".
لاتزهد في حفظ حديث متفق عليه فإن ذلك يساعد على حسن العمل به وشواهده في القرآن كثيرة.
موضوعه : تجديد الايمان وتصحيحه يوردان معاطن حلاوته ومن ذاق إشتاق : الحديث يفيد بأن للايمان حلاوة والحلاوة عرض كالطول واللون والا يمان كسائر الموجودات له طعم فمن لم يجده فيكاد يستوي مع من وجد له طعم الحنظل والمؤمنون ليسوا سواء لا في الدنيا ولا في الاخرة تنسحب عليهم قوانين والحركة والتفاضل والتمايز والتدافع فالحاصل العملي أن للايمان طعما حلوا من إجتهد لنيله فحصله فقد غنم لانه ذاق من نهر التوحيد الصافي الخالص ويظل إليه مشتاقا إشتياق الرضيع إلى ثدي أمه وأول من ذاق طعم الايمان أبونا آدم لما نزل الجنة فلن يزال إليها مشدودا عاملا ناصبا مجتهدا مجددا وأما من رضي بالسفوح فسيظل على عاتقه الايمان وتكاليفه حملا ثقيلا يتصيد الفرصة للتفصي ويلتحق ببني إسرائيل يوم أذابوا الشحم المحرم عليهم فلما كان زيتا شربوه سحتا ساحتا ويظنون أنهم أحسنوا الاحتيال على الله ولك أن ترصد ذلك بين الناس من حولك فمن جادل في معلوم من الدين بالضرورة كزي المرأة المسلمة مثلا أو إستكثر على أهل الارض المحتلة تحرير أرضهم بما يستطيعون أو بحث تمحلا للمستبدين عن مبررات واهية لتبرير ظلمهم فأجزم أنه لم يطعم يوما للايمان حلاوة أما من باع نفسه لله سبحانه جهادا وإجتهادا وإستشهادا وأنفق من ماله ونفسه وراحته ولم يحن للظالمين هامة فلم تنل منه السجون ومازادته الابتلاءات المدمرة سوى صلاحا وإصرارا على الاصلاح فلك أن تهنئه بحلاوة الايمان وسائر ذلك بطبيعة الحال وفق ما يبدو من ظاهر الامر وسرائر الناس موكولة إلى علام الغيوب سبحانه .بقي أن تعلم أن للايمان ولا ريب حلاوة لايعرفها سوى من ذاقها وليس من رأىكمن سمع وإن شئت أضرب لك مثلا ذلك أن المريض ينكر طعم العسل أو طعم الماء البارد الزلال أو اللبن المصفى أو تنكر عينه لرمد ضوء الشمس فهل تصدق أن طعم العسل تغير أو تعكر ضوء الشمس أم أن بالعين والفم سقم وذلك هو مثل المؤمن الذي لايجد للايمان حلاوة فقلبه فيه سقم .
الطريق إلى حلاوة الايمان يحدده النبي الاكرم عليه السلام : النبي الاكرم للنفوس طبيب وصيدلاني في الان نفسه يكشف عن المرض ويصف الدواء كما يصف الوقاية من الاصابة وهو هنا يخبر عن حلاوة الايمان التي تبوأ صاحبها منازل عالية في الدنيا والاخرة معا ويصف الطريق إليها وهي خلاصة متركبة من ثلاثة عصائر وهي :
1 ـ الله ورسوله مصدر الحب كله ومرجعه كله : الحب عاطفة قلبية لا يتحكم الانسان عادة فيها كلما كبر وشب عوده لذلك ليس أغلى من هدية الوالدين لولد يربى في البيت منذ نعومة الاظافر على حب الله ورسوله قولا وعملا وقدوة فالولد صفحة فارغة تهدى إلى الولدين يملانها بما يريدان والولد مقلد يجيد التقليد ثم سرعان ما يستحيل ذلك التقليد فيه خلقا يدفع فيه روحه حفاظا عليه وحب الله ورسوله في الفطرة لايحتاج لسوى التحريك والتفعيل والتذكير وعدم الغفلة عنه وكل حب مطلقا تجدده الذكريات والاطلال وتقتله دابرات الغفلة والنسيان لذلك جاءت الصلاة بالتواصل علىمدى أربع ساعات علىمدار العمر بأسره والانسان مجبول فطرة على حب من أحسن إليه وليس أجزل إحسانا من الخلق من عدم والتسوية والتحرير والتكريم والتفضيل والتأهيل وولي ذلك كله الله سبحانه وكل ذلك لا يتطلب سوى التذكير والمداومة والتفكر من لدن الانسان في ملكوت السماوات والارض وحب الله ورسوله لا يتنافى مع حب من سواهما بل يطلبه حثيثا غير أنه يشترط لنيل حلاوة الايمان أن يكون هو الاعلى وهو أعلى بما أحسن وأعطى وأنفق وسوى ولا ينافسه في ذلك سبحانه ولد ولا والد ولا زوج ولا قريب ولا حبيب ولا مال ولا وطن فعلاقة الحب هنا هي كعلاقة الولاء تنتظمها دوائر متكاملة لا متقابلة فمن كره الناس كلهم مؤمنهم وفاجرهم بدعوى التفرغ لحب الله فهو أشد كرها لله وهو لا يعلم والله أشد كرها له ومن سار بحبه لله إلى من دونه ثم آب به وظل كذلك يجمع الحب للخالق وللمخلوق في تكامل وبدرجات متفاوتة على أساس من " أوثق عرى الا يمان الحب في الله والبغض في الله"
فهو على درب حب الله ورسوله وطاعم حلاوة الايمان وخير ترجمان لحب الله ورسوله هو حب الكتاب والسنة إيمانا وعملا وتخلقا ودعوة وجهادا واجتهادا وتعميرا للدنيا بهما وما سوى ذلك هراء وزعم باطل أو هو مزجى إلى حد الموات . ولك في قصة خبيب بن عدي الذي يعذب ويقتل صلبا ويقول " لاأرضى أن يشاك محمد عليه السلام شوكة وهو في داره معافى وأنا أصلب الان" خير درس حتى قال قائلهم لم أر أشد حبا من أصحاب محمد محمدا " والقصص لا تكاد تحصى.
2 ـ الاخوة الانسانية معطن من معاطن حلاوة الايمان : حب المرء في الله سبحانه يعني صرف الحب لكل الناس وليس للمسلمين فحسب لان الناس إخوة كما كان عليه السلام يقنت ويدعو فهم إخوة أصل وتكوين ورسالة ومصير وهي أخوة متكاملة الدوائر قلبها النابض " إنما المؤمنون إخوة " وليس القلب كل شئ في الجسم لذلك عبر عنه السلام بالمرء لا بالمؤمن أو بالمسلم ثم قيد ذلك الحب المسدى للبشرية جمعاء بقيد الاخلاص لله سبحانه والاخوة ليست مطلوبة لذاتها بل لما تحققه من مصالح في الدين والدنيا بين سائر أبناء البشرية جمعاء إذ بالاخوة يسود السلام والوئام ويحل التعارف والتضامن والتكافل والتعايش رغم الاختلاف والخلاف والناس كلهم مبتلون في مسألة الاخوة مؤمنهم وكافرهم والحد الادنى فيها منع الاذى وكف الظلم ولاحد لاقصاها حتى يموت المرء في سبيل أخيه أي في سبيل حقه ونصره ولو إلتزم الناس بالحد الادنى لخطم السلم أنوف الحرب التي تبيد البشرية وتورث الانانية فما بالك لو حولت الاديان الاثرة إلى إيثار كمافعلت بالصحابة الكرام الذين تآخوا حتى جاد الرجل بإحدى زوجتيه لاخيه فضلا عن ماله وداره وبات الاخر يطوي إكراما للضيف وعرف التاريخ العربي حاتم الطائي كرما وعنترة إقداما والسموأل وفاء وعثمان حياء والله لا يريد من وراء ذلك سوى إبتلاءنا ببعضنا بعضا مما يدل على أن الايمان مطلوب منه أن يغير الدنيا لنيل حلاوته ثم يسعد صاحبه في الاخرة أما من هرب من الناس وهرب عنهم فكفرهم أو أوى الى الكهوف بدعوى الامن من شرهم أو أعمل فيهم أسياف الحقد والحسد والاستغلال والضرب والقتل فليس له من الايمان فضلا عن حلاوته حبة خردل أما التدين الفردي والخلاص الاناني فيحسنه كل أحد ولكنه لا يقبل .
3 ـ الاعتزاز بالاسلام والشعور بسعادة الايمان برغم كل الضاريات كمالة حلاوة الايمان: هي ثلاث محطات لابد منها لطعم حلاوة الايمان فلا تكفي واحدة منها أو إثنتان كوصفة طبيب لا يشفى مريض سوى بتناولها كلها وفق ما وصف أما الاختيار فلا يجدي وثالث الثلاثة كمالة هي أن يكره المؤمن العود إلى الكفر كما يكره أن يقذف في النار وشبه عليه السلام هنا الكفر بالنار بلاغة نبوية عجيبة وبيانا عربيا بديعا فالكفر نار ولا شك والخلاصة أن المؤمن الذي يستوي في نفسه عهده بالكفر مع عهده بالايمان أو عهده بالتسيب مع عهده بالالتزام لم يذق حلاوة الايمان والمؤمن الذي لم يشعر بالاعتزاز يوما بأنه من خير أمة أخرجت للناس وهو صاحب خير كتاب وخير نبي وخير دين لم يذق حلاوة الايمان والمؤمن الذي تتهدده أمراض العصر النفسية من كآبة وما إليها كثيرا ما تؤدي إلى الانتحار والعنف وسائر ردود الافعال الهوجاء لم يذق حلاوة الايمان ويستوي في ذلك أن يكون المؤمن مبتلى بالخير أم بالشر .
الخلاصة : حلاوة الايمان مرقى نفسي عظيم لا ينفك عنه يوما من ذاقه ووصفته الطبية ثلاث مجتمعات : حب الله ورسوله وترجمانه حب الكتاب والسنة قولا وعملا ودعوة وأخوة الناس سيما المؤمنين منهم في الله سبحانه أخوة تكاليف وواجبات لا أماني مغرورة والاعتزاز بالاسلام عقيدة تعيد بناء الشخصية النفسية للمؤمن بناء يستعصي عن الامراض النفسية المدمرة
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة العشرون
أخرج الشيخان عليهما الرضوان أنه عليه السلام قال " إنما الطاعة في المعروف ومن حفر للناس نارا وأمرهم بدخولها ولو دخلوها ما خرجوا منها أبدا ".
ـــــــــــــــــــــــــ ـــ
شواهده في القرآن كثيرة " ياأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الامر منكم ".
موضوعه : أعلى سلطة تشريعية هي للقرآن ثم السنة وسائر ما دونهما لابد لهما تابع : سبب الحديث أن أميرا له عليه السلام في مأرب ما غضب على أصحابه فأوقد لهم نارا وأمرهم بدخولها عقابا لهم فلم يمتثلوا لامره ولما رجعو جميعا إليه عليه السلام صوب الامر وقال الحديث. وناكية الناكيات اليوم أنك تسمع بأم أذنيك هاتين ألف مرة ومرة والذي نفسي بيده ليس من سائر المسلمين بل من كثير من المتدينين وأحيانا والله ممن يتصدى للدعوة والقول عن الله ورسوله عليه السلام شغبا في الاية الدستورية العليا المشار إليها أعلاه وذلك بقول الناس " وأطيعوا أولي الامر فيكم " وهو خطأ لا أقول شائع على الالسنة فالالسنة آلات محايدة إنما يوجهها قلب ويقودها عقل بل أنكى الناكيات أنه خطأ في الفهم عند الناس مفاده أن طاعة أولى الامر في ذات الدرجة الدستورية مع طاعة الله ورسوله لذلك لم يعطف سبحانه طاعة أولي الامر كائنا من كانوا ولو كانوا في مستوى أبي بكر وعمر بل جعلها طاعة مقيدة بمدى طاعتهم هم لله ولرسوله من ناحية وبمدى طاعة أمرهم أو نهيهم الذي أصدروه للكتاب والسنة ثم إنه لم يقل " فيكم " بل قال " منكم " والفرق بينهما شاسع بعيد ولو قال " فيكم " لكانت القاديانية وما في حكمها يوم دعت المسلمين قديما إلى طاعة الانجليز وهم محتلون غاصبون علىحق فليت شعري هل يعي الناس أن مفتاح فهم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هو اللغة العربية وليست أعراف الناس وليت شعري هل يصح فينا اليوم أننا نشرع للاستبداد والظلم من داخل الثقافة الاسلامية التي لم تأت إلا لرفع الاستبداد والظلم وسائر العبوديات الخانعة لحرية الانسان عن الانسان وليت شعري إذا كان الاسلام ببيناته القاطعات قولا وعملا وخلافة راشدة يريد تحريرنا وإعادة الاعتبار لنا كمستخلفين مستأمنين معلمين مؤهلين مكرمين محررين فوق الارض ولا نريد نحن بفهمنا الاسقم وعدم رغبتنا في الانصلاح والاصلاح سوى الركوع أمام كل ناعق يريد تأويل كلمة ربنا إلينا فما ذا يملك من إمتشق أسنة الاصلاح فينا وإمتطى صهوات الترشيد منا ؟
كل طاعة منا لا يحتملها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة هي نار ملتهبة فهل ندخل النار؟: ألا ما أروع التمثيل من لدنه عليه السلام حين قال لو دخلوها ما خرجوا منها أبدا . وما هوسر الاسلام إذا كان يريد تحريرنا من السجود للاصنام وطلب الولد والغيث والشفاء من العجز والاحجار والجن ثم يوقعنا من جديد في عبودية أشد وهي عبودية أولي الامر سواء كانوا في المستوى الاول من المسؤولية أو في الصفوف المتأخرة فيها بل هذه أنكىعلينا وأشد لانها تتعلق بحياتنا العامةأنظر إن شئت إلى موقف مماثل وذلك حين جاءه صحابي يعلق في رقبته شيئا فنزعه عنه عليه السلام بقوة وشدة وتلا عليه قوله " إتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح إبن مريم " فقال الصحابي إنهم لم يعبدوهم يارسول الله فقال عليه السلام بلى لقد حرموا عليه الحلال فاستحلوه وأحلوا لهم الحرام فاستحرموه فتلك عبادتهم إياهم " أي أن طاعة كائنا من كان في ما سوى الحياة الخاصة الشخصية من تصرفات وعقود ومعاملات في شتى شعب الحياة بدون وجه حق من القرآن والسنة هو الشرك الاكبر المخرج من الملة وتلك هي العبادة لغير الله سبحانه سيما إذا كان الانسان الطائع يعتقد في قلبه صوابية تلك الطاعة بدعوى تغير الزمان أو المكان أو المصالح سيما فيما كان لا يتأثر بالمتغيرات من الثوابت التشريعية العظمى كالعقائد والاخلاق والعبادات وما ثبت في ذلك من التشريعات في شتى المجالات فضلا عن الاصول العامة الحاكمة على كل ذلك . والنار هنا بمعناها المجازي نار يصطلي بها كل من شرد عن منهج الله سبحانه يجدها المجتمع الذي يطفح بالمنتحرين وبالمتهافتين على المخدرات والمشيعين للعنف والقتل وإرهاب الناس وبالنفور عن الانجاب وقطع النسل والاكثار من الطلاق وضرب المرأة وبالمرتشين وبالمتسولين علىموائد الاغنياء وبالخاضعين أمام الشروط الربوية الدولية وبإنتشار أمراض العصر النفسية والبدنية كأثر لشيوع الفاحشة ونوادي العراة والزواج المثلي وإرهاق دور الموضة للناس واللهاث وراء سراب الكسب المادي عبر الغش والتزوير.
جعل الله حدا أدنى لضعيف الايمان وهو النكران القلبي ونية التوبة أو الهجرة : الاسلام واسع مرن يسع كل الناس وكل العصور والامكنة والظروف والمؤهلات ولكن ذلك لا يعني أنه مائع رجراج لا تعرف تشريعاته حدودا وتخوما محمية ومن ذلك أن ضعيف الايمان يجد فيه سعة وأملا ورقعة يفعل فيها دينه ومن رحمة الله أن الظالمين لم يجعل لهم الله سبحانه على القلوب سلطانا وأول واجبات ضعيف الايمان الذي يتوهم أنه لو عصى حاكما أمره بمعصية الله سبحانة سيفقد حياته ورزقه ويموت أهله من بعده هي النكران القلبي ووضع نفسه في حالة إستثنانئة كمريض يرجو البرء أو سجين يتمنى الخلاص أما الاطمئنان منه لحظة واحدة فهو نار يصلاها وبقدر مكوثه فيها يطبع على قلبه فلا ينكر منكرا ولا يعرف معروفا والنكران القلبي يجب أن يجعل صاحبه العاصي بحجة ضعف الايمان في أزمة تعرف في وجهه ولا يبوح بها لسانه فكيف يصفر لونه مرات أمام الحاكم الامر بالمعصية خشية قطع الحياة والرزق ولا يصفر أمام الله الذي لم يقو الجبل حين تجلى له على الصمود فخر مندكا وثاني واجباته هي تجديد نية التوبة لحظة بعد لحظة وثالثها العمل على الرجوع بنفسه إلى الحالة الطبيعية وهي طاعة الله ومعصية من يأمر بمعصيته بكل الوسائل الممكنة فيتحرى من يتحدث إليه ويعمل على تجميعهم أو يجتمع إليهم ويتعاونون على ما إستطاعوا من طاعة الله والفرص في ذلك خصبة كثيرة مهما أحكم الطغيان أسواره والعبرة في ذلك كله بالجماعة ولك أن تتدبر أن الاسلام ظل طيلة ثلاث سنوات كاملة مقتصرا على أربعين فردا سرا وهو اليوم خمس البشرية ولا يوجد دين ينتشر رغم الضربات سوى الاسلام ولا يوجد دين ينحسر رغم الحريات سوى ما سوىالاسلام وآخر الواجبات أمام ضعيف الايمان هي الهجرة التي جعلها الله حلا للمستضعفين الذين لا يجدون حيلة أمام المكر والاضطهاد ولكنه اليوم أسوأ الحلول طرا ولا يجب اللجوء إليه إلا في حالات محدودة جدا ولو فعل الناس ضعاف الايمان أو من أحيط بهم سائر الهوامش من الحريات المتاحة لها جماعة لا أفرادا وعملوا يوما بعد يوم على توسيعها لما اضطروا إلى هجرة ولافتكوا من حقهم في طاعة الله والكفر بمن سواه من المستبدين شيئا كثيرا أما أسوأ الحلول بعد الهجرة فليس هو سوى الاستسلام واليأس والقول بهلاك الناس وأسوأ من ذلك كله إستمراء معصية الله فلا تفكير في الرجوع إلى طاعته وأسوأ من ذلك كله هو تحول المعاصي إلى شبهة فيقول العاصي الذي بدأ حياته ضعيف الايمان مضطرا اليوم يوم العلمانية والدهرية ونبذ الاديان وتحقيق المآرب الشخصية بأي ثمن كان وعندها يتحول الله عنه من الابتلاء بغرض التأهيل إلى الابتلاء بغرض الاستدراج والمد فلا يفيق المسكين إلا وهو جاثم أمام النار يوم القيامة يترقب القذف فيها مدحورا.
التأبي على الاستدراج إلى المعصية والانخراط فيها هو أول خطوات التغيير فلا تحقروه : يظن بعض الناس المتعجلين أن التغيير الاسلامي بغض النظر عن سائر المتغيرات الموضوعية والعقبات الواقعية لابد له أن يتحقق لان الله يريده وهو خطأ لم يغفل التشريع عن تصحيحه وتثبيت أركانه صريحا صحيحا في القرآن الكريم الذي حفل كثيرا بالتغيير والاصلاح وأورد لنا في ذلك قصصا نبوية وغير نبوية كثيرة محورها جميعا أن أول خطوات التغيير الاسلامي تغيير ما بالانفس وهو قانون نفسي وإجتماعي لا يتبدل ولا يتغير وثاني خطواته هو التأبي على الانخراط في مشاريع الفساد والافساد ولو بكلمة أو ببسمة إقرار أو رضى وثالث الخطوات إصلاح المحيط القريب من أسرة وعشيرة واليوم نقول رابطة ورابع الخطوات الجماعة ولو كانت مثنى أومثنى مثنى وخامسها البدء بالاصول والثوابت قبل الفروع والذيول إلا قليلا حيث تدعوالحاجة وخاصة عدم إقتحام المختلف فيه فهو واسع لا ينحسم ولا فائدة أصلا من إنحسامه . أما خطام ذلك كله ووكاؤه وعنوانه الكبير فهو الصبر والمصابرة والاصطبار حتى لو فنت أجيال وقرون دون تحقق التغيير الاسلامي وليس كالصبر الاسلامي الواعي صمام أمان ضد الاستدراج إلى تحول
المظلوم ظالما فيفقد حقه جملة وتفصيلا وتنهد عليه الاسياف غيلة من كل مكان.
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الواحدة والعشرون
أخرج الشيخان أنه عليه السلام قال " عرضت علي الامم فإذا النبي ومعه الرهط والنبي ومعه الواحد والنبي وليس معه أحد حتى رأيت سوادا عظيما فظننت أنها أمتي فقيل لي إنه موسى ومعه أمته ولكن أنظر إلى الافق فإذا سواد عظيم فقيل تلك أمتك ومنهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بلا حساب ولا عذاب فخاض الناس فمن قائل هم من ولدوا في الاسلام ومن قائل هم أصحابه فأخبرهم عليه السلام وقال هم الذين لا يرقون ولا يسترقون ولا يتطيرون وعلى ربهم يتوكلون قال عكاشة أدع الله أن أكون منهم فقال أنت منهم فقال آخر كذلك فقال سبقك بها عكاشه ".
ــــــــــــــــــــــــ
لابأس من حفظ الاحاديث الطويلة فإن تعذر فلا أقل من إستيعاب مخ الحديث وهو أن شروطا أربعة ترشح لدخول الجنة بلا حساب ولا عذاب وهي نبذ الرقية ونبذ التطير وإمتشاق التوكل .
موضوع الحديث : مخ الايمان اليقين والثقة والامل والتوكل وهي مرشحات خير اليوم وغدا: دعك الان من صور الايمان وهيئاته ومظاهره وطقوسه وركز معي علىحقيقته وروحه ومعناه الذي أراده الله منا قبل كل شئ ويمكن أن يكون الايمان منقوصا أو مغشوشا أو غير خالص كل الخلوص وبقدر نقصانه سيما في معناه وجوهره تخصم الحياة اليوم ولا أمل لصاحبه غدا في المراقي العالية والفراديس السخية ولك في سؤاله يوما لاصحابه عليه السلام وعليهم الرضوان هل أنتم مؤمنون فأطرقوا إذ لم يعهدوا هذا السؤال المباغت والصعب وهو إمتحان بكل المقاييس المعروفة غير أن الفاروق من ضرب الله الحق على قلبه تجشم الاجابة وترشح لخوض غمار الاختبار الصعب فقال بثقة أمام المعلم عليه السلام بلى فواصل المعلم الدرجة الثانية من الاختبار لنيل الشهادة من لدن نائلها عن جدارة وإستحقاق وما الدليل ياعمر فلم يجد الفاروق من نفسه سوى مضاء فقال الخلاصة التي أقرها عليه السلام وغدت إلى اليوم عنوان الايمان وروحه وحقيقته ومعناه " نؤمن بالقضاء ونشكر على السراء ونصبر على الضراء " فتهللت أسارير وجه المعلم عليه السلام كيف لا والمعلم لم تذهب جهوده سدى بل وجد من يحمل عنه الرسالة ولو سألت واحدا منا اليوم عن أمارات الايمان لذهب إحدى مذهبين كلاهما صحيح ولكن المطلوب ليس الصحة الرياضية الميكانيكية بل المطلوب ما يعكس حسن الفقه وتمام الفهم ولن تجد منا سوى من يقول أن دليل إيماني هو أني أؤمن بالله وسرد لك الاركان الخمسة أو الستة أو من يقول أن الدليل هو إقامتي للصلاة وسرد الاركان المعروفة وها هي كل تلك الاركان الايمانية والاسلامية وأكثر منها معقودة عند مليار ونصف من المسلمين قولا وعملا فما بال الدنيا اليوم تخصم الاسلام وتطرد الايمان وتضيق بالعدل والحرية وكرامة الانسان والجواب الوحيد سوى أن مرد ذلك أن الايمان الذي آمن به الفاروق وأقره المعلم عليه السلام إقرار رضى وغبطة ليس هو ذلك الايمان الذي ندين به نحن اليوم فهما متماثلان في الصورة والهيئة ولكنهما مختلفان كثيرا في الحقيقة والجوهر فالاول يصنع الحياة والثاني يصنع الموات .
نواقض الايمان هي : الرقية طلبا وفعلا وتطيرا : ليس المقصود هنا بالنواقض الكاملة المخرجة من الملة ولكنها نواقض بمثابة الامراض المعدية الخطيرة التي لا تقتل الجسم بالكلية ولكن تضعه في حياة برزخية لا هو بحي ولا هو بميت يصدق عليه أنه حي وميت في الان ذاته . إختلف العلماء كثيرا في مسألة الرقية هنا فعلا وطلبا ذلك لان الرقية عمل نبوي قولا وفعلا فمنهم من قال أن المقصود بالرقية هنا الرقية بما هو ممقوت أو مكروه وذلك إبتغاء التوفيق بين النصوص وهو المنهج الاعدل والاقرب إلى الحق ومنهم من قال بالرقية مطلقا تجريدا للقلب عن كل خائنة مهما تكن دقيقة لطيفة لا ترى تشوش على خلوص الايمان ودون تفصيل فإن الراجح هنا القول الاول بإعتبار أن الرقية المشروعة بالقرآن الكريم مثلا ممارسة نبوية وليس أخلص منه عليه السلام إيمانا وثبت عنه ذلك بالمعوذتين حيال ريحانتيه عليهما السلام الحسن والحسين كما ثبت في إقراره الاستشفاء من اللدغة بالفاتحة وهذا معلوم وبذلك فإن الذين لا يرقون ولا يسترقون هم الذين لا يتجاوزون السنة في ذلك في شئ لان المسألة توقيفية وليس إجتهادية ومن عادة الناس حتى الاتقياء الصادقين العاملين منهم أن يتوسعوا في طلب البركة ولا يخفى أن ذلك قد يشوش على خلوص الايمان بقدر التوسع فيه زمانا ووسيلة كأن يعتقدن أحد في غفلة منه وشبهة من الشيطان أن الله مثلا لولا القرآن لما شفاه أو لاخر عنه الشفاء وخلوص الايمان هنا معناه أن القرآن وهو كلام الله ليس سوى وسيلة جعلها الله في يد العبد وإنما الشفاء كله مبنى ومعنى منه سبحانه وكثير من المتدينين يقع في مثل هذا الخلط . أما الناقض الثالث فهو التطير وهو عادة جاهلية مفادها تعلق قلب المتطير بمخلوق لا ناقة له ولاجمل في إرادة الله سبحانه ومعلوم أن بيئاتنا العربية والاسلامية ورثت هذه العادة الجاهلية كابرا عن كابر ومازالت تزاول التطير مع الايمان بالله سبحانه وذلك مصداقا لقوله " وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " والتطير قد يأخذ صورا مغلظة شنيعة من مثل تعليق العزم على تصرف طير أو حال طقس أو هيئة كون وقد يطرد الايمان كلية وقد يأخذ صورا مخففة كما هو عندنا اليوم من مثل إهراق الماء إثر المسافر ولكن الايمان بمثابة حدقة العين قد يغشاها نسيم عليل أو يقع عليها مالا تحصيه أشد المجاهر تطورا فيؤلمها لفرط حساسيتها إذ كلاهما يتصف بالخلوص أي الايمان والحدقة .
البديل الاسلامي عن التطير وعن الرقية المنكورة هو التوكل : ثمة قاعدة عامة في التشريع الاسلامي لك أن تتبعها واحدة واحدة وهي أنه لم يمنع من شئ إيمانا أو فعلا أو قولا إلا أبدل به ما هو خير منه فإذا أضفت إلى ذلك أن الممنوع فيه لا يكاد يحصى لفرط قلته عددا وحيزا فأنك تدرك أن التشريع الاسلامي لم يأت لقتل الحياة وإلغاء الانسان بل لتنظيم السير فلا يصطدم هذا بذاك تماما كما يفعل أهل القانون الوضعي اليوم وخذ إليك مثلا قوانين السير والطرقات . ولك أن تسأل لم ألغى الاسلام التطير والرقية المنكورة وستجاب بأن ذلك لحفظ العقل وتحريره من الاوهام وتمكينه من معرفة السنن والاسباب المودعة في الكون فيتسخر الكون للانسان وكان البديل هو التوكل وليس أمام الدعاة اليوم سوى إبراز منافع التوكل ومحاسن العزم ومكارم الحزم في بناء الشخصية النفسية البشرية السوية المؤهلة للفهم والعمل والكسب والتسخير والتعمير والنجاة من أعداء الانسان الاصلية وهي الجهل والفقر والمرض وليس كالتوكل بلسما شافيا لكثير من الامراض النفسية كالتقوقع والكآبة والوحدة والخوف ولقد ضرب لنا عليه السلام في ذلك مثلا بليغا يوم قال " لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا" والطير أمة كالانسان والنمل والنحل تسري علينا وعليها سائر السنن والاسباب وهي محايدة لا تجامل مؤمنا ولا تعادي كافرا بل الناموس هو " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك". ولو أحصيت ميزان كل خاسر في هذه الدنيا خسارة دينية أو دنيوية لوقفت على أن السبب الاكبر وليس الوحيد طبعا هو نقص التوكل أو فقدانه بالكلية وكم من شاطر باهر ماهر في هذه الدنيا كان مفتاحه نجاحه التوكل والمضاء وقوة الارادة وعدم اليأس وإمتطاء الامل وليس كالمؤمن جديرا بالتوكل وبالنجاح لان إيمانه يدفعه إلى ذلك .
العلاقة بين الكثرة والخيرية والتوكل والفلاح في الدنيا والاخرة : يرسم الحديث علاقة بين كل ذلك متينة فكأنه يريد القول بأن التوكل بنبذ الرقية المنكورة والتطير المفرغ للقلب والمخنع للعقل مؤذن بالفلاح في هذه الدنيا بما يوفره من إرادة وعزم وحزم ونبذ للتردد وعدم إعتراف بالهزيمة وذلك في شأن المؤمنين إمارة فلاح في الجمع بين الدين وبين الدنيا وبما يوفره كذلك من تنافس بين الناس فينتج عن ذلك الكثرة ومعلوم أن الامة الاسلامية هي أكثر الامم في الاخرة تعدادا وبما يوفره كذلك من خيرية ناتجة عن صحة التوكل وصحة التنافس وصحة الكثرة ومعلوم أن الامة هي كذلك خير الامم وهي خيرية مشروطة بشروط سورة آل عمران وهي ثلاث ونتيجة كل ذلك هي أن التوكل بما يوفره من تعمير للدنيا ثم من تنافس على الخير وكثرة وخيرية ليس له من جزاء في الاخرة سوى الجنة بمضاء لا يعرف حسابا ولا عذابا وهو متناسب مع ذلك المضاء الذي كان عليه أولئك المتوكلون في الدنيا فلا يليق بهم أمام الجنة سوى إرتفاع مخافر الحساب والعذاب من طريقهم لان طريقهم عبدوه في الدنيا بالتوكل فجزاهم الله بمضاء التوكل ونبذ التردد في الاخرة كذلك والجزاء من جنس العمل وهؤلاء من عموم الامة يمكن لك أنت أن تكون منهم .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الثانية والعشرون
أخرج الشيخان عن أسامة أنه عليه السلام قال " مررت ليلة أسري بي بأقوام تقرض شفاههم بمقاريض من نار فقلت من هؤلاء يا جبريل قال خطباء أمتك الذين لا يقولون ما لايفعلون ".
ـــــــــــــــــ
من شواهده " ياأيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولواما لا تفعلون".
موضوعه: أكبر الذنوب فتنة الناس فالفتنة أشد وأكبر من القتل : يختلف الناس في معنى مخالفة العمل للقول هنا هيئة وأثرا ولكن لحسم الاختلاف تقريبا وترجيحا وليس منعا لتعدد الافهام لابد من الاتفاق منذ البداية على أمور منها أن عقاب الخطباء يوم القيامة بقرض شفاههم بالنار عقاب شديد وعذاب أليم فلا بد أن يكون العمل السابق له كبيرا شديدا أليما كذلك وإلا لانتفى العدل عن الله سبحانه وبذا يتبين لي والله أعلم أن ذلك العقاب الاليم الشديد إنما إستحقه أهله من الخطباء بحكم سعة الاثر وإمتداده بين الناس وإحداث الفتنة بين الناس ولاشك أن الفتنة بصريح القرآن الكريم أشد وأكبر من القتل لان القتل يصيب الابدان أما الفتنة فتصيب العقول والارواح وهذه مقدمة في الاعتبار على الابدان فتلك أوعية وهذه جواهر وتلك جنود مجندة وهذه قيادات وبالتالي فإن الخطباء إستحقوا ذلك تبعا لسعة أثر وإمتداد القتل المعنوي الذي بثوه بين الناس فترهلت بهم الهمم وإنصرفت عن الحق أفئدتهم وإلى سفساف الامر إهتماماتهم إذ لو كان إختلاف العمل عن القول في هذه الحالة محصورا في خويصات الخطباء وأشخاصهم ففسدوا ولم يفسدوا لما كان جزاؤهم بمثل ذلك الذل وتلك المهانة فالنار مخزية مذلة مهينة ماديا ومعنويا حتى لو أصابت أدنى الاعضاء إنفعالا بألمها فما بالك والنار تقرض الشفاه فتورمها وتقطعها وتفسد هيئة الوجه بأسره بعد ذلك ولا يحرص الانسان حال تعرضه للعذاب والضرب على شئ حرصه على وجهه وهامته ولا يختفي المرء من الناس لعطب في يده أو رجله مهما كان مؤلما وكبيرا ولكن بسبب خدش صغير بسيط في وجهه . ولم تكن عقابات الالسنة والافواه والشفاه التي أشاعت الفتنة بين الناس فخلطت الحق بالباطل وعرضت العمل للنهك والقول للخذلان سوى جزاء وفاقا فأثر الفتنة بين الناس نار تحصد الاديان والقيم وكذلك أثر النار في الشفاه تحصد هيئات الوجوه الحسان وتخطم الخراطيم وتبشع المناظر .
تحرير القول في مخالفة العمل للقول : لو رجعنا إلى القرآن الكريم وتحديدا إلى سورة الصف التي إفتتحها الله سبحانه بهذا النداء " ياأيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لاتفعلون إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص "لالفينا فيما ثبت وصح من أسباب النزول أن بعض الناس كانوا يقولون لو فرض الله علينا الجهاد والقتال لجاهدنا وقاتلنا فنهاهم الله عن ذلك وكأنه يريد أن يردهم إلى أن الموفق إلى الخير هو وحده سبحانه وأن المؤمن ليس جديرا بإيمانه سوى إعتقاده بأن تخلي الله عنه في كل لحظة مهلكة وأن توسيده لحظ نفسه لا يغني عنه شيئا مهما كان شاطرا وقصة قارون القائل " إنما أوتيته على علم عندي " خير درس في حيوية الذلة بين يديه سبحانه وذلك هو مخ التوكل ويم اليقين ومحك الثقة . وسياق الايات ينبئ بأن مخالفة العمل للقول أشد حرمة بقدر تفريقها للصف أو أن رص الصف في كل الاحوال مقدم على الاختلاف سيما إذا كان الاختلاف ناشئا عن الاكثار من القول وتمطيط الجدل فيه والتشدق في أمر لم يحن أوانه ولو إستصحبنا هذا المعنى من سياق آيات سورة الصف وسحبناه على معنى مناقضة العمل للقول في الحديث الذي نحن بصدده فإنه آن لنا أن نفيئ إلى أن إختلاف العمل عن القول لئن كان دوما ممقوتا فإنه أشد مقتا عندما يكون مفرقا للصفوف مهما كانت ضعيفة أو قليلة التماسك أو كان باثا للفتنة بين الناس ولاشك أن الفتنة وتفريق الصف صنوان ولو لم يكن للفتنة التي يبثها خطباء السوء سوى إثم تفريق الصفوف لكانت أشد وأكبر من القتل . غير أن الناس سيما اليوم يذهبون مذاهب شتى في تأويل مخالفة العمل للقول وأغلبها في الحقيقة ناشئة إما من النظرة المثالية التي عادة ما تسيطر على المتدينين وإما من النظرة التشاؤمية اليائسة التي عادة ما تسيطر على المتضايقين من الصحوات وحركات تجدد التدين . إذ ليس مطلوبا من الانسان أن يعمل كل ما يدعو إليه ولم يفعل ذلك حتى الانبياء من أولي العزم لانهم محصورون بالزمان والمكان والعمر وسائر المحددات ومن عادة الشعارات والدعوات أن تكون عامة شاملة كاملة متكاملة مطلقة تسع مالا يحصى من الاحقاب زمانا ومكانا ولايتسنى ربما إلى يوم القيامة لجيل تطبيق ذلك ليس تقصيرا ولكن لظروف معلومة تحول دون ذلك كما أنه ليس مطلوبا على وجه الالزام والوجوب الحتمي أن يفعل الداعي كل ما يدعو إليه حتى لو إستطاع ذلك في حياته الخاصة وليس ملاما أن يدعو إلىالكمالات في كل مجال من الحياة ثم لا يأتي منها سوى ما تطيقه عزيمته هل الداعي سوى بشر يضعف ويقوى وتنسحب عليه سائر المنسحبات على الناس من مثله ولكن الممقوت أبدا في حق الداعي والخطيب وسائر المصلحين هو أن يأمر بالقطعيات الكبرى المعلومة ثم لا يأتيها هو جبنا أو بخلا أو تكاسلا أو ضعفا مهينا فضلا عن أن يكون ذلك نفاقا أو إرادة لفتنة الناس وبث اليأس من صلاحية ما يدعو إليه قولا أو أن ينهي عن الكبائر الكابرة المعروفة ثم يأتيها عن ضعف همة وخوار عزيمة وتشهيا وتهتكا والانكى من ذلك كله أن يكون ذلك كله سواء كان إتيانا للكبائر الكابرة أو تأخرا عن العزائم القطعية الثابتة في الملا وعلى مرأى من الناس وبإرادة المجاهرة بالعصيان والتحلل والتخلف دون تستر ولا حياء . وبذلك يكون تأويلنا لمخالفة العمل للقول على أساس بث الفتنة سواء أرادها الخطيب أو الداعي مع سابق إضمار وإشاعة للفتنة والفاحشة بين الناس تهوينا للصفوف وتفريقا لها أو لم يرد شرها ولكن تهتكه وتأخره وإسفافه جر إلى ذلك دون قصد منه ... يكون تأويلنا لذلك إذن على أساس الفتنة وتوهين الصفوف بالنتيجة سواء أراد أم لم يرد هو التأويل الاقرب إلى فظاعة العقاب المشار إليه في الحديث أما لو كان الداعي أو الخطيب يدعو إلىكل خير وينهى عن كل شر ولكن عزيمته تخونه من حين لاخر دون نفاق منه ولا سوء نية في توهين صفوف الناس ولا بثا للفتنة بينهم شريطة أن يتحرى التستر وعدم المجاهرة بما يفرق الصف ويبث الفتنة ويفسد فكرة صلاحية تطبيق الفضائل في أذهان الناس ... إن ذلك لا يدرجه في عداد الذين يقولون ما لايفعلون والله أعلم .
عزيمة الدعوة إلى الخير والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والاصلاح لا تنسخ : لامناص لطلبة العلم من فهم النصوص أي نصوص الوحي وسائر ما يقال حقيقة من خطابات يهمنا فهمها فهما تكامليا يقوم على الجمع ثم الجمع ترجيحا حال الاختلاف ولكن الممقوت منهم قطعا هو دعوى النسخ ولا نسخ والمغالاة في الفهم الجزئي على نحو يستحيل معه إعادة إنتظام البناء التشريعي الاسلامي ضمن جمالاته وكمالاته وبهاءاته التي تسحر العقلاء مبنى ومعنى وفي هذا الحديث لو فهمناه فهما ضيقا أو قل مغاليا في التحوط والبعد عن الشبهات بعد الخائفين لا بعد الاتقياء الراشدين لال الامر بنا إلى نسخ عزائم الدعوة إلىالخير والامر بالمعروف والنهي عن المنكر والاصلاح بدعوى أني لا أستطيع فعل كل ما أقول أو الانتهاء عن كل ما أنهى عنه دون تمييز في ذلك بين صغير وكبير وآني ومؤجل ومجهور به ومستتر وبين ذي الاثر السيء بين الناس وبين غيره وهو مدخل شيطاني لا يريد إبليس سواه منا خاصة إذ له مع كل واحد منا سياسة محكمة فيها الضوابط والوسائل والمقاصد والاهداف والخطط والبرامج ومقادير تنزيلها يوميا وعلى مراحل ولو تخلى كل الخطباء والوعاظ والدعاة والمصلحين عن دورهم خوفا من الاندراج تحت أثافي مخالفة العمل للقول لانهدم الدين وتوهنت الصفوف وعمت الفتنة ولاشك أن تلك عقلية كنسية مؤداها أن القسيس لا يخطئ أو أنه مغفور له أما عندنا فليس الداعي إلى الخير سوى واحد منا لا يزيد علينا سوى بعلم بل في الاعم الاغلب بقدرة على بث العلم والشجاعة في بثه .
أول الخطباء المعنيون بذلك اليوم دعاة التطبيع والذلة وخصم الشريعة : بداية لابد من تقديم الاعلاميين اليوم على الخطباء لاتساع دورهم وإمتداد كلمتهم وسائر الفنانين وصناع الناس فالعبرة بالعمل والاثر وليس بالاسم ونهاية لابد من تقديم آثام التطبيع مع العدو المحتل والذلة أمام المستبدين وخصم الشريعة لفائدة التغريب والعلمنة على سائر ما دونها لعظم أثرها والله أعلم.
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الثالثة والعشرون
أخرج الجماعة عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال " الايمان بضع وستون شعبة أعلاها لاإله إلاالله وأدناها إماطة الاذى عن الطريق " وفي رواية " بضع وسبعون شعبة ".
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــ
موضوعه : صلاحية الايمان لكل زمان ومكان وحال وإنسان وجمعه بين الوحدة والتنوع: هل أن المعدود هنا في بضع وستين أو بضع وسبعين هو للحقيقة أم للمبالغة والتكثير والتعبير عن الاختلاف والتنوع ومراعاة سائر الاحوال ؟ في مثل ذلك سعة لاختلاف الافهام الذي لا ينصلح للانسان حال بسواه ومن العلماء من حمل ذلك على الحقيقة وألف فيها ما يراه من شعب الايمان فلا شغب بحكم أن اللغة تحتمل ذلك والشرع كذلك ولكن الاهم من ذلك هو أن الايمان يجمع بين أمرين ما جمع بينهما شئ إلا خالطه التوفيق وهما الوحدة والتنوع فالايمان هنا بحسب هذا الحديث واحد في موضوعه الاكبر ومقصده الاعظم لانه عبر عنه بصيغة المفرد فليس ثمة أكثر من إيمان واحد مطلقا عبر الزمان والمكان من لدن آدم إلى أن يرث الله الارض ومن عليها ولئن إختلف الناس في بعض فروعه فإن أصوله محكمة وأشد منها إحكاما معانيه ومراداته التي هي ليست سوى إصلاح حال الانسان في كل دوائره وإمتداداته إنصلاحا ينصلح معه محيطه الادنى فالابعد وليس الايمان من الميوعة بمكان حتى يؤول بما لا ترتضيه العقول السليمة ولا الفطر الجبلية فهو كائن له أركان وروح ومقصد وحياة يمرض ويصمد ويموت ويستعلي ويصلح ويوحد وذلك بإعتبار إستقبال الانسان له فهما وعملا وتجديدا ووقاية وعلاجا وتثميرا ووحدة الايمان تلك لا تمنع من تبدل هيئاته وتحول أشكاله وصوره وهو تحول لا يختاره الانسان عادة ولكن تحتمه الظروف المحيطة فالسجين مثلا لا يفعل وحدة إيمانه في جمع الناس ولا في تعليمهم ولا في مشاركتهم أفراحهم وأتراحهم ولكن يفعله في الصبر وفي تلاوة القرآن وفي ذكر الله سبحانه وفي ما يتاح له وما سواه ممن يختلف معه في الوضع والقوة والضعف يفعله في ما يتاح له كذلك غير أن تلك الوحدة الايمانية بسائر أنواع عطاءاتها بحسب حال كل مؤمن وطائفة وعصر مشروطة بالتقاء الناس جميعا على أرض فكرية ثابتة لا تتزعزع من الثوابت العقدية والخلقية والسلوكية الفردية والجماعية وبذلك فان أعلى شعب الايمان هنا وهي شهادة التوحيد في علاقة وحدوية مع أدنى شعبة فيه وهي إماطة الاذى عن الطريق إذ لو أماط الاذى عن الطريق كافر ما عد مؤمنا لا في عرف الناس ولا في حساب الله سبحانه برغم أنه أسدى للناس خدمة قد تحفظ عليهم حياتهم وأموالهم لذلك كانت أعمال الكافر نافعة في الدنيا للناس غير منجية له من العذاب يوم القيامة إلا أن يشاء ربك غير ذلك فهو فعال لما يريد سبحانه فالوحدة إذن قائمة أشد القيام بين سائر شعب الايمان سواء كانت ستين أو سبعين حقيقة أو أكثر أو أقل وهي قائمة على ثبات من الامر وهي كذلك متنوعة يأتي المؤمن منها ما قدر عليه شريطة الاخلاص لله سبحانه في كل ذلك وإجتناب الابتداع المذموم في أمر وقفه الشرع توقيفا لا يرضى عنه زيادة ولا منه نقصانا كالعبادات وهيئاتها وأزمانها وما إلى ذلك ولولا ذلك التنوع الايماني لجمد العقل على صورة واحدة فتعطلت سنة الحياة وتوقفت قوانين الحركة وما هي بفاعلة ولكن يتوقف الانسان فيهلك وينحط ولا يجديه بعد ذلك أنه سمين الجثة أو كثير العدد والعلو المعبر عنه بشهادة التوحيد ليس هو سوى الارض الفكرية الثابتة التي يقف عليها كل المؤمنين ثم يصدر كل واحد منهم بحسب ما يتاح له إلى الاصلاح ويغدو كل عمل بعد ذلك شعبة من شعب الايمان كلما توفر فيه الصدور عن شهادة التوحيد إخلاصا وإتباعا لسنة محمد عليه السلام وترمز شعبة إماطة الاذى عن الطريق هنا إلى كل عمل صغير قد لا يستغرق لحظات غير أنه ليس ثمة من عمل صغير في سائر شعب الايمان كلما كان العمل وليد بيئته الشرعي يستوجبه الزمان والمكان والحال والعرف والقوة ولو لم يتوفر ذلك لسائر الناس لم يكن الله عادلا بين خلقه فالمقعد مثلا لا يقدر على ما يقدر عليه غيره والفقير أمام الغني وصاحب السلطان الفكري أمام مغمد القلم والسجين أمام الحر ولذلك لو سئلت أي عمل أفضل فلا تقل سوى أنه ما يتاح لك في وقتك ضمن شهادة التوحيد و مقتضياتها المعروفة بإخلاص وإتباع إذ لو ظللت تعدد فضل العمل ما فرغت منه لان الافضلية أفضلية زمان ومكان وحاجة وليس لافضلية مطلقة سوى شهادة التوحيد وما كان لازما من لوازمها حتما محتوما كالعبادات مثلا وراجع في ذلك نطرية إبن القيم في فقه مراتب الاعمال وواجب الوقت .
ماهو السر في كون شهادة التوحيد أعلى شعب الايمان ؟: لابد أن يكون ذلك تابعا لاثرها في حياتنا وإلا لم تحز كل ذلك الفضل والعلوية . وهي كذلك لانها روح المؤمن حقيقة لا مجازا فروحك التي بين جنبيك هي من روح الله سبحانه منفوخة فيك وبذا أنت مكرم لا بسواها وهو ذاته سبحانه الذي رحمك بروح أخرى تعطي لحياتك معنى وهي من روحه هو أيضا لانها تعبر عن وحدانيته سبحانه وهي أخص صفاته بعد تفرده بالالوهية سيما أن الالوهية هي الجانب التوحيدي الذي إختلف فيه الناس حديثا وقديما كثيرا إذ لا يكثر من يجادل في ربوبيته سبحانه ولكن يكثر من يجادل في ألوهيته وحكمه وولايته وأولويته أمره وأحقية نهيه كما أن توحيد الالوهية فعل بشري يختاره الانسان رغبا ورهبا لانه يعنى بعبادة الانسان ربه في حياته بأسرها إبتداء من خاطرة النفس الغائرة حبا وكرها إلى إتباع أمره ونهيه فيما وافق هواه أو خالفه مرورا بالصبر على قضائه إيمانا بعدله وحكمته ولو كان صبرا على مصيبة قاسية ليس للانسان المصاب فيها ناقة ولاجمل ولكنها من صميم قدره سبحانه وحق قضائه . فبالخلاصة فإن السر في كون التوحيد هو أعلى شعب الايمان كامن في أنه ـ أي التوحيد ـ عبادة إنسانية إختيارية لا إكراه فيها من ناحية ومن كونه يلون الحياة البشرية بأسرها بلون الحكمة والعدل والرحمة وسائر الصفات الالهية التي يمكن للانسان أن يتشبه بها وهو لون يغير طعم الحياة برسالته كما تغير الشمس لون الدنيا بضوئها من ناحية ثانية وأيضا من كون التوحيد هو قاعدة المشروعية الاخلاقية لكل عمل إنساني بما يضفي عليه من نكهة الاخلاص الذي ينفع صاحبه وينفع الناس من حوله إذ بدون أخلاق فإن الاعمال سرعان ما تبور حقيقة أو يبور نفعها من جهة ثالثة ومن جهة رابعة وأخيرة هنا فإن سر التوحيد في كونه أعلى شعب الايمان هو أنه يوحد الله به الانسان ذاتا وفردا فيكتسب القوة والشجاعة والمضاء والعزم والارادة ويوحد به الناس أجمعين فتقل الخصومات والحروب ويسود العدل والاخوة ويوحد به مناشط الناس فوق الارض فلا يهدم بعضها بعضا . وتوحيد بهذا الفهم وذلك الاداء والتحمل قمين بالتربع على عرش شعب الايمان فهو شعبة القيادة كالرأس بالنسبة لبقية الجسم هيكلا والعقل والقلب بالنسبة لبقية الملكات الفطرية معنى فرأس الامر الاسلام أي خلوص التوحيد معنى وأداء وتحملا كما قال عليه السلام ولو طعم المؤمن عمله بقطرة واحدة من رحيق التوحيد الخالص أداء والمخلص فهما لحولته بركة التوحيد إلى قمة عبادة الانبياء.
الايمان هو نفع الناس حتى في أدنى شعبه : معلوم أنه كان يمكنه عليه السلام أن يضرب مثلا آخر لادنى شعب الايمان فهي كثيرة لا تحصى إذ كان يمكنه أن يبحث عن أدنى شعب الايمان في الحياة الشخصية للانسان لان من عادة الانسان أن يبدأ بإصلاح نفسه ويهتم بما يليه أولا بأول ومعلوم أنه عليه السلام لا ينطق عن الهوى بمعنى أنه لم يضرب هذا المثل عن أدنى شعب الايمان بدون سابق تفكير أو ساقه على غير أفضل وجه ممكن . إذا كان كل ذلك محل إتفاق بين المؤمنين فإن العبرة من قوله عليه السلام بأن أدنى شعب الايمان إماطة الاذى عن الطريق هي أن رسالة الايمان نفع الناس والحث على الايثار والخدمة الاجتماعية حتى في أدنى شعب الايمان فكأن نفع الناس لا ينفك عن المؤمن من أعلى شعبة إلى أدناها وذلك لو راجعت الاسلام لالفيته جليا فهو دين يقوم على الجماعة والوحدة والاغاثة ورص الصف دوما حتى أنه عليه السلام كرم الاشعريين أيما تكريم حينما قال " فأنا منهم وهم مني " وهو تكريم لا يخلعه عليه السلام علىكل من هب ودب من أهل الفضل والمعروف وليس السر في تلك الوحدة التي جمعت بينه وبينهم سوى أنهم " كانوا إذا أرملوا في الغزو جمعوا ما عندهم فأقتسموه بينهم بالسوية ".
الخلاصة : الايمان واحد في جذره متنوع في ثمره أعلاه عند الله توحيدا خالصا وفاء للفطرة وأدناه خدمة الناس والسعي في حاجتهم فهو يربط السماء بالارض ولا فضل لاعلاه على أدناه إلا بالاخلاص والاتباع وليس فيه دون أو هوان أو صغر فكله كبير عظيم
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الرابعة والعشرون
أخرج الشيخان عن الام الكريمة عائشة رضي الله عنها أنه عليه السلام قال "يغزو جيش الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الارض يخسف بأولهم وآخرهم فقالت " وسوقتهم " قال يخسف بأولهم وآخرهم ثم يبعثون على نياتهم ".
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
موضوعه : حفظ الدين موكول إليه سبحانه وآيات ذلك لا تحصى والقلب خزانة شخصية :
إختلف العلماء في وقوع تلك النبوءة من عدمه ولسنا الان بصدده والاولى الالتفات إلى المعاني الغزيرة التي جاء بها الحديث وهي درسان بليغان أولهما أن حفظ الدين تكفل به هو سبحانه وذلك عبر ما نعلم وما لا نعلم وما لانعلم قسمان قسم يمكن علمه وقسم لا يمكن علمه وبداية لا بد من توسيع دائرة حفظ الذكر حتى لا يقصر عن الرسم القرآني فنضيق الواسع من جهة ونلجأ إلى تمحلات وتأويلات سقيمة إذا ما تعلق الامر بمتعلقات الذكر فهل السنة منه وهل أصول العلم الشرعي كإجماعات الناس منه وهل التراث منه وهل رموز الدين كالكعبة وما يحيط بها من شعائر الحج والمساجد والجمع والاعياد منه وهل تدين الناس قوة وضعفا وكثرة وقلة منه ؟ والحقيقة أن حفظ الذكر لا تقتصر على الرسم القرآني بل يتعداه بالضرورة إلى حفظ سائر ما لا يقوم الدين بسواه من حركات تدين ورموز عبادة وعلوم لا بل إني أقول أن حفظ الذكر يمر حتما عبر حفظ الانسان سيما الامة الاسلامية إذ الامة هي الوصية والقيومة على حفظ الدين ولك أن تقول أن الانسان هو أمضى أقدار الله سبحانه في الارض وأكبر أسبابه وأعلى سننه في التغيير وحفظ الذكر وإنتاج النسل العابد والقيام على الناس بالقسط والشهادة فحفظ الذكر إذن يقتضي بالضرورة حفظ من عهد إليه بحفظه ونشره والدعوة إليه وهو الانسان وخاصة المؤمن وخاصة في بعده الجماعي وذلك هو مقصدي من قولي بأنه سبحانه يحفظ ذكره بما نعلم ولو أتيحت لك فرصة لزيارة مطبعة المصحف الشريف بالمملكة السعودية لوقفت أكثر من غيرك بالحس علىمعنى تكفله سبحانه بحفظ الذكر وأنت لا تدري بمن ينصر الله دينه ولا بمن يحفظ ذكره ورب إنسان يسخره لذلك وهو كاره لامضاء إرادة ماضية أما ما لانعلم اليوم أو غدا من وسائل حفظ الله لذكره سبحانه فلا سبيل إلى الحديث عليها الان ولا سبيل إليها غير أن الايمان بالغيب إلى حد اليقين أو بالاحرى عين اليقين خير مساعد على ذلك . ورب تدين أو رمز أو جزء من الذكر ينتهكه أعداء الله سبحانه فتتوهم أن إرادة حفظ الذكر تعطلت بحكم صلف المتجبرين غير أن حفظ الذكر هو الذي إقتضى ذلك لابتلائك أنت هل تكون حارسا في ثكنة حفظ الذكر أم متفرجا ثم يقيض الله سبحانه لذكره حقيقة ومقتضيات من يحفظه فالانسان مكرم بقيامه على حفظ الذكر الذين به تقوم الحياة وينصلح الانسان وتمضي إرادة الله .أما الدرس الثاني من الحديث فهو أن الاعمال بالنيات كما أخبر عليه السلام والنية محلها القلب ونتعرض لذلك فيما يلي .
الاصلاح يبدأ من القلب والنية تورد صاحبها النعيم والجحيم : قال العلماء أن حديث النية " إنما الاعمال بالنيات " الذي إفتتح به أغلب أهل السنن والحديث مصنفاتهم هو نصف الدين وقال آخرون هو ثلثة أو ربعه وقال بعضهم أن مدار الدين على حديثين هما " إنما الاعمال بالنيات " لصلاح باطن الانسان وزكاة النفس وتأمين الجبهة الداخلية ضد غزوات إبليس وجنده من الانس والجن و" من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد " لصلاح ظاهر الانسان وتأمين جبهته الخارجية ضد الوقوع في البدعة المحرمة المذمومة فالحديثان كفيلان بصلاح الباطن والظاهر معا وذلك هو مراد الاسلام أي إخلاص سريرة وطهارة طوية في سره وإتباع لمحمد عليه السلام في علنه وبذلك تكون فاتحة الكتاب قد كثفت وركزت المعنى الاول من العبادة حين خلصتها لله سبحانه بمعنى الاعتقاد وبمعنى العمل " إياك نعبد وإياك نستعين " وزادت إلى ذلك بتمييز العبادة والاستعانة عن صراط الذين غضب عليهم وهم بنو إسرائيل لهدمهم ركن الاخلاص بإفساد النية في حادثات صيد السبت وتذويب الشحم وغيرها وعن صراط الضالين وهم النصارى لهدمهم ركن الاتباع برفع عيسى عليه السلام إلى درجة الالوهية وبنوة الله سبحانه . وما ورد في السنة من قصص تؤكد أن النية الحسنة ترفع صاحبها إلى العلا ولو مع قليل عمل بل أحيانا مع شبه إنعدامه خاصة عند حالكات الليالي وأنها تركسه في الدركات السفلى ولو مع كثير عمل لكثير لا يحصى ومثل المنفق ماله على الزانية والسارق والغني ممن لا يستحقون واحد ومثل من حرق نفسه خوفا من حساب ربه له واحد آخر ومثل الحسنات والسيئات في الحديث الصحيح ثالث يؤكد أن النية الحسنة لوحدها حسنة مؤهلة للزكاة أي الزيادة إلى عشرة أضعاف بل إلى سبعمائة ضعف والامر مازال في مستوى الهم والخاطرة فما بالك لو عزره العمل .
السر في أولوية عمل القلب على غيره هي القاعدة الاولى في التغيير الاسلامي : تغيير النفس : لاتحسبن أن شريعة الاسلام بذلك تمشي على غير هدى من العقل والمنطق بل هي تبرهن على ذلك بمنتهى الرشد الفكري والسر في أولوية عمل القلب على عمل الجارحة هو ما أكده القرآن في قضية التغيير الاسلامي حين وضع قاعدتها الاولى فقال " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " وهي قاعدة عملية ونظرية في الان ذاته فأما عمليا فإن من يخلو قلبه من الايمان بالله بإخلاص وحسن فقه فإنه سرعان ما يبور عمله سواء رضا بالدون من جانبه أو محقا للبركة منه أو لعامل آخر يجعل الناس ينفضون من حوله فتذهب أعماله على ضخامتها هباء منثورا كسراب بقيعة لا يطفئ ظمأ عطشان وأما نظريا فإن الانسان يحتاج في الطريق إلى تغيير واقعه المعقد المركب إلى يقين داخلي لا يتزعزع ويبث الامل في الناس من حوله ويقيه شر السقوط يوم النكبة وهذا كثير في التاريخ الغابر والحاضر فإذا ما قال العلماء أنه بإستقراء الشريعة تبين أن عمل القلب صلاحا وطلاحا أغزر من عمل الجارحة فليس معنى ذلك بالمعيار الديني الجزائي في الاخرة فحسب بل ينسحب ذلك أول ما ينحسب على المعيار الدنيوي النفعي المادي الملموس ولكن يقاس ذلك بعطاء الاجيال والقرون والامم والاحقاب البعيدة لا بمقياس عمر جيل أو إنسان . ولذلك عادة لا تجد في القصص القرآني إنتصارات على يد الانبياء إنما الاغلب هو قصص الصبر والاخلاص والثبات وكأن الوحي يريد أن يبعث برسالة مؤداها أن عبادة الانسان الاولى هي إصلاح النفس ومحاولة إصلاح الواقع فإذا علم الله إخلاصا في النفس وصبرا عركته المحن فإن سبل النصر وإهلاك المخالفين لا حصر لها عند ربك سبحانه .
الظالم لا بد مخسوف به يوما والراكن إلى إضعف الايمان كذلك لولا شفاعة النية : من دروس الحديث أيضا أن الظالم سيما الذي تجاوز بغيه الحدود لابد مخسوف به يوما والظلم دركات ولاشك ولكن أشقاه محادة الله سبحانه وتكريس الحياة للتشبه به سبحانه في كبريائه وألوهيته كما فعل فرعون أو الطعن في مقدساته العظمى المعروفة عند الناس جميعا مؤمنهم وكافرهم كهدم الكعبة والاستهانة بالقرآن الكريم والنيل من الرسل والانبياء عليهم السلام جميعا وسائر كتبهم والسخرية من المعتقدات الكبرى كالبعث ومشاهده أو من العبادات الطقوسية المعلومة كالصلاة وما إليها ثم يأتي بعد ذلك مباشرة هدم بنيان الرحمان سبحانه وهو الانسان سواء ماديا بالضرب والحبس والقتل أو معنويا بشن الفتنة والغش والخديعة والزور والكذب والتضليل وهل يصدق واحد منا اليوم أن أكابر الاساقفة من يهود ونصارى لا يعرفون محمدا عليه السلام كلا فإن إيمانهم به يتجاوز إيماننا نحن به آلاف المرات بحكم تبحرهم في كتبهم المبشرة به ولكنه الكبر سيما إذا عرف عقودا طويلة بذلك وربما ليس كالكبر داء وبيلا يدفع بالملايين المملينة من بني آدم إلى النار والعياذ بالله . فالخلاصة أن الظلم دركات وأشده ما كان متجها إلى الثوابت الكبرى كالالوهية والاديان والعقائد والعبادات والانسان ولكل إنسان حظه منه وللمؤمن كذلك " ومنهم ظالم لنفسه " وهم من ورثة الكتاب ومن أهل الجنة ولكنه ظلم للنفس أي ظلم معاصي وشهوات لا إستكبار فيها ولا شبهات . والظالم أبدا مخسوف به ولكن اليوم تغير قانون الخسف المادي فالخسف اليوم معنوي يجده الظالم خوفا وذلا وإضطرابا وأمراضا نفسية وسوء خاتمة والراكن إلى أضعف الايمان كثيرا ما يلقى ذات المصير لولا شفاعة النية فكأن الله سبحانه رحمة به يعذبه مع المركون إليه في الدنيا ثم يختلف المصيرغدا .
الخلاصة : لايغرنك تقلب الظالمين في البلاد والدنيا فالخسف المهين ناظرهم ضحى وهم يلعبون ولكن عليك بنفسك تزكية وإخلاصا وعملا وإصلاحا وتأهيلا لبذل الخير للناس فإن إلتزمت أضعف الايمان دون عذر مقبول عند ربك فأرقب خسفا والاخرة عند ربك للمتقين .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الخامسة والعشرون
أخرج الشيخان عن أبي هريرة أنه عليه السلام قال " إن عبدا أصاب ذنبا فقال يا رب إني أذنبت ذنبا فأغفره لي فقال له ربه علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا آخر فقال يا رب إني أصبت ذنبا آخر فأغفره لي فقال ربه علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به فغفر له ثم مكث ما شاء الله ثم أصاب ذنبا آخر فقال يارب إني أصبت ذنبا فأغفر لي فقال ربه علم عبدي أن له ربا يغفر الذنب ويأخذ به غفرت لعبدي فليعمل ما شاء ".
موضوعه : عنوان الاسلام الامل وعدو الاسلام اليأس واليائس من الرحمان هالك قبل الهلاك: يمكن أن يقول المرء بإطمئنان غامر أن أكبر الذنب يأتيه المؤمن هو اليأس من رحمة الله سبحانه بالغ ما بلغت فواحشه حتى ملات قراب الارض نتنا فناطحت السماء ونازلت الثريا وذلك لا ينافي أن أكبر ذنب هو الشرك لان ذلك في حق غير المؤمن فلا يقال أن أعظم ذنب يأتيه المؤمن هو الشرك لان المؤمن لو أشرك حبط عمله وخرج من عداد المؤمنين وكلما كان في عداد المؤمنين فإن أكبر الاثام طرا في حقه هو اليأس من رحمة الله سبحانه ومصداق ذلك قوله "إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون " والكافرون هنا إما كافرون حقيقة أو كافرو نعمة ومرد ذلك حجم اليأس منه سبحانه وأثر ذلك في النفس والحياة وقد تغشى المؤمن ولا ريب لفحات يأس عاتية في ساعات العسرة غير أنها عابرة سرعان ما تنقشع ويجليها صيب الايمان وطيب اليقين وتنزل غيوث الصبر وبردات الثبات أما الكافر أيا كان صنفه فاليأس من رحمته سبحانه يجثم على قلبه لا يفارقه ولاشك أن خيطا رقيقا دقيقا يفصل بين بعض المؤمنين الذين طبع اليأس على قلوبهم وبين الكفار الذين إربدت قلوبهم بالكلية لذلك قال عليه السلام محذرا من زمن الفتنة " يصبح الرجل مؤمناويمسي كافرا" ولذلك كان عليه السلام كثير الدعاء " اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك " وأخبر أن القلوب بين إصبعين من أصابع الرحمان يقلبها كيف يشاء .
التوبة هي العبادة المشتركة الوحيدة بين سائر المخلوقات مطلقا لا يستنكف عنها روح ولا حجر: يمكن للمرء أن يتعجب كيف يتوب جبريل أمين الوحي وأقرب الملك المفطور على الطاعة إلى الباري سبحانه وكيف يتوب الانبياء والمرسلون سيما أهل العزم منهم وكيف يتوب الحجر والشجر والنهر والوبر ولو نظرت في السبب لبطل العجب والسبب هو أن المتوب إليه لا يقدره مخلوق حق قدره ولا روح الوحي وأمينه جبريل فضلا عمن سواه إذ لو ذكرت نعمة واحدة من نعمه التي بسطها على الوجود إنشاء وخلقا وتدبيرا لم نتعرف إلىاليوم إلا على قطرة من محيط هادر مائج متلاطم منه لالفيت أن العقل ببصره وباصرته يرجع إليك خاسئا وهو حسير بعد جولة في الافاق البعيدة ليس بظافر منها بغنم كبير ولو تدبر المرء في تضحية والدته من أجله لظل يخفض كل أجنحة الرحمة ليل نهار صباح مساء ثم لا يشعر أنه موفيها أجر حركة غير محسوبة منه جنينا في بطنها أقضت مضجعها شهرا فماذا لو تدبر في نعمة من أوجده وسواه ورزقه وسخر له كل شئ حتى الكواكب والاكوان التي لم يكتشفها العلم بعد ولكن الذي يحجب عنا ذلك حقا هو الغفلة التي لا تعني سوى نبذ التفكر والتدبر والتأمل ولو تعجبت كيف يتوب الحجر ومم يتوب لالفيت أنه يتوب مسبحا لا يفتر كالملك المقرب تسبيحا لا نفقهه ولكن نؤمن به فما الذي يجعله يسبح ربما عبر الحركة الالكترونية الدائرية التي لا تهدأ توجب ثم تسلب وهو لا يعقل ولا يشعر بنعمة ربه عليه ولو تدبرت لاستعصى التدبر على العقل ولكن للحجر الاصم روحا تحب بدليل قوله عليه السلام " أحد جبل يحبنا ونحبه " وبدليل سلام الشجر والحجر عليه عليه السلام والقاعدة المحكمة في ذلك أن كل مخلوق هو أبدا مدين لخالقه شاكرا لولي نعمته إن كرها كالحجر والملك أو طوعا كالانسان والجان وتلك هي مقتضيات شهادة التوحيد إذ أنه سبحانه إله في الارض بحجرها وشجرها وإله في السماء بملكها وبسائر ما لا نعلم منها وألوهيته لا تقتصر على العقلاء ولا على غيرهم بل هي عامة شاملة فسبحان من يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته وسبحان من يقلب الليل والنهار وسبحان من جعل في ذلك عبرة لاولي الابصار . فالتوبة بالخلاصة هي العبادة الوحيدة المشتركة بين سائر المخلوقات طرا عاقلها وغير عاقلها وهي كذلك لان المتوب إليه قهار خلاق متكبر ولي نعمة لا تعرف حتى تحصى وما عرف منها لا يحصى وما حصي منها لا يشكر شكر وفاء ولكن شكر ذلة وحمد . ولذلك لا تتعجب كيف كان عليه السلام يستغفره سبحانه ويتوب إليه في اليوم أكثر من مائة مرة أي بمعدل مرة كل ربع ساعة تقريبا على مدار العمر .
أملاح القلب الحي : خوف ورجاء : القلب بيولوجيا مضغة وظيفتها مسك وضبط وتصريف السيولة الدموية في الجسم الحي بمثابة الخزان المركزي في معمل كبير أما معنويا فهو تلك اللطيفة الروحية التي بها نتعاطف حبا وكرها وأملا وخوفا ولضمان حياته الروحية لابد له من مراقبة تكوينه المزدوج من خوف من باريه سبحانه ورجاء فيه فالقلب ملك له وحده وسائر ملكاتنا الفطرية إذ يملك الانسان لبدنه ربما أمرا أما روحه فهي من روح الله وديعة فيه مستودعة يقلبها هو كيف يشاء ويتوفاها متى يشاء وهو الذي بناها على ملحين في الظاهر متناقضين ولكنها في الباطن متلازمين لحياة القلوب إذ الخوف وحده يقنط من فضله سبحانه والرجاء وحده يؤمن من مكره والانسان بحكم إزدواجية تكوينه بخلاف الملك والشيطان فضلا عن الحجر والشجر لا يستقيم حاله بدون إصطحاب الازدواج في كل شئ ولاشغب من لدن الذين لا يوقنون لان الانسان مفطور على الخوف فإن خاف ممن يملك له الضر كان خوفه مقبولا ومعقولا وفي محله ثم هو يؤمنه من الخوف من غيره وسائر من غيره لا يستحق الخوف منه إلا خوفا من دابة أو عدو فهو خوف لا ينال من صفاء التوحيد لانه فطرة تحفظ غريزة حب البقاء ولا شغب أيضا لان الانسان مفطور على الحب أي الامل والرجاء فإن أحب ورجا وأمل في من يملك له شيئا فشخصيته النفسية سوية مطمئنة ثابتة مؤهلة للصمود أمام العاتيات وهو سبحانه يملا صدور أعدائه منه مهابة لذلك نصر عليه السلام بالرعب مسيرة شهر وأن أمل في عاجز مثله فهو طفولي التفكير يطمع في حبة حلوى من كهل يقدم عليه وذلك مبلغ الذين لا يوقنون من العلم وليس بالضرورة أن يظل الملحان الخوف والرجاء في ميزان القلب بالتساوي حجما وأثرا ولكن لا بد لكل واحد منهما من قدر محدد يضمن الحياة القلبية السوية والماسك بينهما الميزان دون طغيان ولا إخسار هو الفالح حقا فإنه لا يأمن مكرالله إلا القوم الخاسرون ولا ييأس من روح الله إلا الكافرون إلا حال المنية قال العلماء بأن ميزان القلب من المستحسن أن يفيض إلى جانب الرجاء وحتى في هذا المقام فلا بأس من قدر من الخوف والدليل أن الرجل الذي أمر بحرقه بعد موته غفر الله له لخوفه منه لا لرجائه فيه والتوسط مظنة الصواب أبدا حال الحياة وحال الموت والله أعلم .
تحرير القول في قوله " فليفعل ما يشاء " : لامناص من جمع النصوص بعضها إلى بعض فيفسر بعضها بعضا وإلا حكمنا الرؤية المجزأة القاصرة فضللنا وأضللنا وقوله في نهاية الحديث فليفعل ما يشاء معناه كلما كان مستغفرا تائبا بعد الذنب فليواصل في ذنبه وليواصل في توبته ولاشك أن التوبة تغلب بالحساب العملي الذنب لانها مؤهلة للتكاثر إلى أضعاف مضاعفة تصل إلى حد سبعمائة ضعف بل أكثر بل أكثر مما يحصى أما الذنب فإنه مؤهل للاندثار بمجرد التوبة وربما يلبث رصيدا جامدا لساعات طويلة فإن لم تضعه توبة كتب ذنبا واحدا وبالتالي فإن الشقي في الدنيا والاخرة ليس من يذنب ولكن الشقي فيهما هو من لا يتوب من ذنبه لانه لو تاب من ذنب واحد لمحى عنه تسعة ذنوب أخرى فلا يغلب عسر واحد يسرين أبدا ولكن يغلب الشقي نفسه فيهلكها وهو يحسب أنه يحسن صنعا وقال العلماء أنه رب ذنب ورث ندما خير من طاعة ورثت غرورا ولو تدبرت توبة الله على قاتل مائة نفس كاملة حتى أنه زوى له الارض لتختلسه أرض الرحمة من أرض العذاب لما يئست من رحمته سبحانه يوما وإن أردت زيادة أمل فأذكر أنه سبحانه لم يخصص للتوبة لا زمانا ولا مكانا ولا حالا ولا قربانا وليس لها من شروط سوى إنقشاع الغفلة وذكر الله والاستغفار فالباب دوما مفتوح بل ليس ثمة باب أصلا فهو معك أينما كنت وكيفما كنت ورب تائب رحم الله به جمعا غفيرا ينظر إليه أنه سبب البلاء كما ورد في قصة موسى وأصحابه حين يستسقون الغمام فالتوبة أمل لا يحتاج إلى لسان ولا إلى قلم ولا إلى هيئة بل إلى قلب ييقظ بعد غفلة يبدل الحياة بأسرها من ليل أسود يملاه اليأس إلى ضحى أبهر يتلالا نورا فهل تجد هذا في دين غير دين الاسلام ولدى رب غير الرحمان سبحانه فخذها إليك فأنت بذلك مكرم محرر من نفسك وأحص مظاهر تكريمك لا تحصيها .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة السادسة والعشرون
أخرج الشيخان عن إبن أبي وقاص رضي الله عنه أنه عليه السلام قال " أعظم المسلمين جرما من سأل عن شئ لم يحرم فحرم على السائل من أجل مسألته ".
ـــــــــــــــ
من شواهده " ياأيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم ".
موضوعه : لامكان في الاسلام لاهل الضيق والعنت والعسر وتحريم الطيبات : الناس أول من تنسحب عليهم سنن الله الغلابة الماضية في الكون وفي الاجتماع ومنها نواميس التعدد والاختلاف والتنوع وأقوى سنة كونية وإجتماعية مطلقا تخطم سائر ما يليها هي سنة الزوجية وأول وظائف سنة الزوجية خدمة توحيد الله سبحانه فهو وحده تعالى الواحد الاحد الفرد الصمد وكل ما سواه متعدد من إنس وجان وملك ونبي وكون ومادة ومعنى مما علمنا ومما لم نعلم . والناس ألوان في البشرة وألوان في المزاج والعاطفة والاهتمام وغلبة المد لا يمنع ذلك أن يكونوا من بطن واحدة فهذا موسى وهارون عليهما السلام عرف الاول بسرعة الغضب بينما كان الشقيق ميالا إلى الحلم ولولا ذلك ما تحركت الحياة ولما نفذت إرادة الله سبحانه فالتمايز والتفاضل والاصطفاء قوانين ضرورية لحصول التدافع المانع من فساد الارض ويوم يزول تقوم القيامة وتنتصب المحكمة العليا . والاسلام شريعة مبناها السماحة والسعة والمرونة وخطابها المعروف والفضل والاحسان ولونها مسايرة الفطرة التي فطر الله عليها الكون بأسره والانسان ليس سوى جزء من الكون الفسيح " منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى " وشريعة الاسلام لما جاءت ناسخة لما قبلها من الاديان مهيمنة عليها فلتخط للناس خط التوسط والعدل والرحمة والحنيفية الابراهيمية العتيدة وذلك لا يتأتى إلا عبر دحر صراط المغضوب عليهم من بني إسرائيل بما فيه من إلتواء لا يليق بسوى الحرباوات والثعالب وطمس صراط الضالين منهم عن نهج عيسى عليه السلام المتبرئ من عقيدة التثليث بما فيه من غلو وتشدد لا يليق بأولى الالباب وذوي النهى .
فلسفة التشريع الاسلامي لحمتها اليسر وسداها البشر : نصيحتي لطلبة العلم الشرعي دوما الاقبال على الاصول قبل الفروع والرؤوس قبل الذيول والمقاصد قبل الاجزاء والكليات قبل التفاصيل والقرآن قبل السنة والانسان قبل الجان والدنيا قبل الاخرة والصحيح الصريح قبل الظني والمحكمات والاجماعات قبل المتشابهات والمنفردات ولابد لي من التأكيد على لفظ " قبل " هنا حتى لا يفهم ضدها وهو " بدل " . وليس كالغوص في الفروع التي لاهل النظر فيها ألف قول وقول مذهبا للفقه سيما إذا إبتدأ الطالب مشواره العلمي بها ولك أن تتصور أن التشريع الاسلامي وكل تشريع في الحقيقة بمثابة شجرة أو قصر هل تسأل عن عمره ومادة بنائه ومكانه وسائر ما يحدد هويته الاستراتيجية والمعمارية قبل إقتنائه أم تراك سائلا عن طول ظله في حر الظهيرة أو مادة طلائه أو الفوانيس الفاخرة التي تزين قببه العالية لذلك قال العلماء بأنه لم يطعم حلاوة الفقه من لم يتعرف على إختلاف الفقهاء ولو زدتك على ذلك لقلت لك لم يطعم حلاوة طلب العلم من فرط في معرفة سبب إختلافهم ولذلك قال العلامة إبن خلدون أن أصول الفقه هو منطق الاسلام فكيف لطالب علم فضلا عمن يتصدى للدعوة والمجالس العلمية أن يرشد الناس ويفتيهم ويتفاعل معهم ويبين محاسن الدين الذي يدعو إليه إذا كان لا يحيط بحد أدنى من أصول الفقه والمقاصد ويتوسع بعد ذلك لاقبله شيئا فشيئا في العلوم مبتدئا بالقرآن لا بالسنة وكل من إطلع على قدر من ذلك فإن اليسر في الشريعة والبشر فيها يلوحان له كبرق وامض فضاح للظلمة بشار بطاميات الغيوث .
اليسر لا يعني التهتك والبشر لا يعني تذويب الفوارق بين الاديان : اليسرضده العسر وليس التحلل من تكاليف الدين ولكن اليسر يعني أمرين إثنين أولهما أن أصل التشريع يسر من عقائد الايمان العظمى المبنية على العقل لا على النقل وعلى الاصالة لا على التقليد فهي مفهومة معقولة مبررة مبرهنة تصدقها الفطر السليمة وتتحمس لها العقول الحليمة لا تتحمل التجريدات المنطقية والمماحكات الفلسفية الغامضة يجدها الاعرابي في بعرة بعيره كما يجدها الطبيب النطاسي في قطرات مخبره ويظل اليسر مصاحبا لها في العبادة والخلق والمعاملة وذلك من خلال مسايرة الفطرة وتلبية مصالح الناس أما ثاني الامرين الذي يعنيه اليسر هو أن الانسان في حال الضرورة أو الحاجة أو العجز بسائر صوره الموروث والمكتسب والاصيل والطارئ يجد في الشريعة السمحة اليسيرة بقعة تحت ضوء الشمس يتدين فيها تدينا قد يسبق بالاخلاص من حول السماوات شآبيب رحمة منزلة على العباد . واليسر والبشر هما لونا الوسطية التي جاء بها الاسلام وليس يسيرا على الانسان ال"أكثر شئ جدلا " الالتزام بالوسطية دوما لانها إمتحان وليس كل من يترشح للامتحان بفائز لولا أن الوسطية ليست نقطة لا تتسع لسوى قدم واحدة .
لم كان السؤال الباغي جرما وما الحد بينه وبين السؤال البرئ : أذكرك بداية بأن الكبائر لم ينص القرآن سوى على أصولها العظمى وتناولت السنة سوى جزء يسير من تفاصيلها لانها سنة عملية تعالج الحالات ولا تفترض المشكلات وليس ذلك عيبا في التشريع ولكنه دوما يفسح للعقل مساحة يختبره فيها مضبوطا بالاصول والسؤال من هذا القبيل كبيرة بصريح الحديث المتفق عليه بل هو جريمة وقد يأتي المؤمن جريمة بل جرائم والعبرة بالتوبة والتوبة توبتان توبة فهم وتوبة عمل والاولى أولى وأبقى وأعصم والثانية لها تبع والاسلام لا يتحمل ضربين من النفوس الاولى تلك التي مرد عليها بنو إسرائيل أي الالتواء وليس مجرد العصيان أو قل العصيان الذي يريد أن يتخذ له فلسفة ومنطقا تماما كمعصية إبليس في مقابل معصية آدم وهي في الاصل نفوس المنافقين لذلك تجد اليوم وبالامس وغدا العلاقة النفسية حميمية بين النفاق واليهود نظرا وواقعا أما الضرب الثاني من النفوس التي لا يتحملها الاسلام فهي تلك التي تحترف الجدل وتجعل الحياة مسرحا خصبا من التصنع والتكلف والتعمق والتشدق والغلو في الكلام الفارغ الذي يفرق الجماعات ويصرف إلى سفساف الامر وهذه النفوس موجودة بكثرة فينا نحن الامة الاسلامية قديما وحديثا وغدا ربما يكون ذلك إبتلاء لاولى النهى فينا والانسان مبتلى أولا من قبل أخيه الانسان ولقد كان التشريع الاسلامي صارما إزاء هؤلاء حتى أن رجلا سأله عليه السلام فيما إذا كان الحج مفروضا على الناس مرة في العام فسكت عليه السلام فلم يفهم السائل من سكوته عليه السلام سوى أن يعيد ذات السؤال الغبي وسكت عليه السلام ثانية وظل الامر على تلك الوتيرة حتى قال عليه السلام " لو قلت نعم لوجبت " ونهره صارفا إياه عن مثل هذا التقعر ومثل تلك الحوادث في حياته عليه السلام كثير لا يحصى حتى أنه نبهنا عليه السلام بأن إحدى الامور التي بسببها ضل بنو إسرائيل " كثرة مسائلهم وإختلافهم على أنبيائهم " فالربط وثيق جدا بين تفريع المسائل النظرية التي لا طائل من ورائها سوى النهم الفارغ وحب الاطلاع وإرواء غليل النفس الامارة بالسوء وبين الاختلاف المؤذن بالفرقة وذها ب الريح وليس من عادة المكثرين من الاسئلة الفارغة الالتزام بل هو إدمان على الفراغ واللغو وحب الاختلاف بغير أسس علمية معقولة تماما كمدمن خمر أو فاحشة أخرى ولا ريب أن الفواحش العقلية أشد خطرا وليس الشرك سوى فاحشة عقلية تورد صاحبها النار بخلاف الفاحشة العملية كالزنا فهو أقل شأنا من الكفر. فالسؤال الفارغ إذن هو مرض نفسي والناس دوما بعالمهم وجاهلهم يعلمون فطرة ودون حاجة إلى تعليم الفرق بين صاحب السؤال الفارغ وبين صاحب السؤال الواجب أو البرئ وكان الصحابة يسألون ويجيبهم الوحي وبين السؤال الفارغ وبين السؤال الواجب أو المباح ثمة سؤال برئ عادة ما يكون صاحبه ليس محترف جدل ولكنه يغلب عليه الغباء وليس هو كذلك مذموما وينفع معه التعليم .
القرآن الكريم مليئ بالقصص الناهي عن السؤال الفارغ : تجد ذلك مثلا في أعظم سورة أي البقرة في قصة البقرة وفي قصة شبيهة بذلك لدى المشركين " ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولاحام ..." وذلك رغم أنه ليس من عادة المشركين إحتراف الاسئلة الفارغة سوى من يريد منهم نسج صلة بين شركه وبين ملة إبراهيم عليه السلام ولكنه قليل .
الخلاصة : كفى بالسؤال الفارغ جرما أنه يحرم ما أحل الله وكفى بالمسلمين تميزا عن بني إسرائيل أنهم جادون في حياتهم ملتزمون بأبجدياتها الاولى فالاولى دون صرم لحبالها وكفى شرفا للاسئلة الصحيحة أنها تصنع الحياة وتحرر الناس والاوطان وتعلي القيم والمثل .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة السابعة والعشرون
أخرج الشيخان أنه عليه السلام قال " كل أمتي معافى إلا المجاهرين ".
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــ
من شواهده " إن الله لايحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم " و" إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والاخرة ".
موضوعه : إنما السبيل على الدعاة إلى الفساد والافساد في الارض لا على أهل الحياء والستر: الانسان مفطور على الفجور إنفطاره على الخشوع إبتلاء منه سبحانه ولا يصلحه سوى ذلك وليس لملك ولا لشيطان سبيلا لتعمير الارض بما أراد الله لذلك أستخلف الانسان خلقا فريدا والمؤمن يأتي من الفواحش ما يأتي فهو غير معصوم ولا معنى لهواه لو لم يظل معه في حرب سجال وبغير ذلك لا معنى للحياة ولا للجنة ولا للنار ولا لسائر النواميس المودعة في الكون وذلك أمر ينسحب على أخلص العباد فالصحابة عليهم الرضوان جميعا كانوا يقولون للمعلم الاكبر عليه السلام " إن الواحد منا تحدثه نفسه بما لو خير بينه وبين أن تخسف به الارض لاختار هذه " فقال لهم عليه السلام " إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدثت بها نفوسها مالم تحدث أو تفعل " وفسر بعض العلماء ذلك بأنه ضرب من ضروب الاكراه المقصود في قوله " إن الله تجاوز لي عن أمتي الخطأ والنسيان وما أستكرهوا عليه " ولايملك الانسان لجم خاطرته فلا تحدث نفسها بشر لان ذلك لا يعني سوى إنتفاء التكليف عنه والتكليف شرف لا ينتفي سوىعمن حرم نعمة العقل . ذلك إذن هو مستوى سائر البشر سوىالمعصومين ولاعصمة في ديننا سوى للانبياء وهو مستوى له وظيفة هي من لازمات التكليف والابتلاء والحياة فهو مقبول وتجبره التوبة ويليه مستوى آخر يتمثل في غلبة الهوى وتقحم الشهوات والمطلوب هنا هو التستر وحفظ نهر الحياء أن ينضب وكل إنسان ولاشك واقع فيماحرم الله سبحانه والتوبة تجب ذلك والتوبة من قريب وهي توبة يحبها الله سبحانه هي التوبة عن سوء أتاه المؤمن في غير ملا من الناس . أما المستوى الثالث المنكور جدا فهو التحول من العصيان بستر وحياء وخوف من الرقابة الاجتماعية وعدم تقدير لاخطار إشاعة الفاحشة في الناس إلى التبجح بالمعصية والتبرج بالسوء والاعلان بالفساد وسواء كان ذلك بنية بث الميوعة في الصفوف المرصوصة أو المفككة أو بعدم وجود نية معقودة فإن الامران سيان من حيث النتيجة إذ أن المجاهرة بالمعاصي من شأنها إشاعتها بين الناس وتوهين صفوف قوافل الدعوة إلى الخير ويزداد الامر سوء في حال تعرض الجماعة أي جماعة الامة أو جماعاتها شعوبا وقبائل ومجتمعات إلى الضعف والدون والهوان وتربص العدو من الداخل أو من الخارج ولاشك أن نية الدعوة إلى الفساد ومزاولة خطط الافساد في الارض مستوى رابع أشد مقتا ولا يستوي المتهتك بحسن نية ظانا أن الامر يتعلق به شخصيا مع الداعي إلى الفتنة المتمترس وراء الهيئات والقوى والعصبيات يخطط للفساد والافساد ولكن عدم إستواءهما لا يعني أن النتيجة ليست واحدة لذلك فكلاهما ممقوت منكور .
ماهو العفو الذي يناله العاصي المستتر والفاجر المتدثر بسربال الحياء : الحديث يحمل بشارة لنا جميعا إذ لا مناص لنا من الفجور في حياتنا الشخصية في ستر من العيون إن بالتخلف عن واجب شرعي أوبإتيان معصية كبيرة أو صغيرة أو خلاف في بيت الزوجية تكاد تتصدع منه الجدر وهي بشارة نحتاجها جميعا كلما إلتزمنا الاستتار بالمعصية والتدثر بسرابيل الحياء ذلك أن النفس لا يرويها ذنب مهما كبر بل تظل تطلب الرتع في أعراض الناس وعورات النساء وأموال البشر بطغيان لا يضاهى فليس لفجورها حد أبدا ولكن لجامها دوما في يدك فإن أرخيت رتعت وإن فطمت أمسكت . والعفو الذي هو مناط البشارة هنا له معنيان معنى قرب توبة الله على العاصي المستتر إذ المذنب بمثابة المدين كلما كانت ديونه قليلة قريبة يسر على دائنه العفو عنه وكلما كانت ثقيلة غابرة عسر عليه ذلك والله لا يعسر عليه نسف قرب ( جمع قربة ) الارض والسماء ذنوبا ولكن ذلك يتطلب توبة نصوحا فالمسألة ليست متعلقة برحمة الرحمان سبحانه بل متعلقة بأهلية العاصي البعيد الغريق السحيق على التوبة والعفو هنا في معناه الاول هو يسر التوبة من لدن العاصي القريب الجديد الصغير وذلك بحكم أن ذنوبه مستترة لم تضاعفها المجاهرات وتمددها التبرجات وتوسعها التهتكات ولم يعرف بها بين الناس والناس شهود على الناس بالخير والشر وهم شهود محكمون في الارض وفي السماء بصريح نصوص كثيرة من الوحي الكريم أما المعنى الثاني للعفو الذي يتمتع به العاصي الحيي فهو يتعلق بالمقتضى القانوني والاجتماعي لحياة العاصي بين الناس ففي المجتمعات التي تقيم وزنا للفضيلة وتنصب فيها من يقيم الحق ويبطل الباطل ويعاقب المجرم ويقدم الطيب يتعرض العاصي المجاهر سيما في المعاصي التي تستوجب حدودا أو تعازير أو قصاصا جاء بها الوحي العظيم والعاصي الحيي معافى من ذلك لانه ستر نفسه فستره الله حتى لو أصاب حدا من حدود الله إلا أن يقدم هو نفسه للعدالة ويقر . فبالخلاصة فإن معنى العفو الذي يتمتع به العاصي الحيي يتعلق بقرب عفو الله عنه بحكم قربه وستره وصغره وعدم إشاعته بين الناس وجزاء على حيائه كما يتعلق بعدم وقوعه تحت طائلة القانون وذلك حتى لو قلنا أن عذاب الحدود في الدنيا كفارات . أما المجاهر المتبرج المتهتك غير المبالي بمعاصيه الداعي بسلوكه أو بخطته إلى إشاعة الفاحشة والفتنة توهينا للصفوف وإعتداء على شعائر الله وشرائعه فليس يتمتع بعفو حتى يصلح ما أفسده بعمله وماهو بفاعل سيما في زمان تحولت فيه الدنيا إلى بيت بلوري صغير يعيش فيه ستة مليارات من البشر كأنهم جماعة صغيرة علىمائدة طعام واحدة يتنادمون .
عواقب المجاهرة بالفساد وخيمة على صاحبها وعلى الناس لذلك إستحقت الاستثناء من العفو: النفس صفحة بيضاء تولد على الفطرة أي معترفة بربها غير أنك لو نقبت فيها وحفرت لالفيت أنها مؤهلة للامتلاء بالفجور أو بالشكر بذات القدر وصاحبها بعد ذلك وهي وديعة عنده مسؤول عليها وعلى كسبها والعبرة دوما بالحصيلة النهائية لا بأي حصيلة أخرى والعبرة دوما كذلك بالغالب لا بالمغلوب كما أنه لاشك أن كل معصية تورث في النفس رصيدا إضافيا في بنك الفاحشة وكل طاعة تحسب في بنك الطاعة وبما أن القلب هو أمير النفس وقائدها فإنه تبعا لحالة النفس ورصيدها في إحدى البنكين يأمر العضو بالطاعة أو بالمعصية وبذا تتحول النفس إلى فرس جامح راكض يقود الانسان بأسره إما إلى الهلاك أو إلى السعادة فإذا إمتلا الانسان فسادا في نفسه فإنه ليس من الممكن له حتى لو أراد ذلك أن يعمر محيطه بغير الفساد إذ هو كوب لا يعرف الفراغ سيلون ما حوله بريحه ولونه وطعمه وسيتحول من فاسد في نفسه إلى مفسد في محيطه الاصغر فالاكبر وستتحول الفاحشة فيه إلى طالبة لشرعية دينية تستر بها عوراتها أمام النقاد ولو تمكن من قوة أو عصبية أو حماية ما فإنه سيستخدم ذلك لاضفاء الشرعية على فساده ثم على إفساده ولو تمكن في الارض أكثر لاشاع الاستبداد والخوف فيتحول الناس معه إلى قطعان مائجة وربما عبدته من دون الله والخلاصة أن المعصية الواحدة لوتحولت من الستر إلى الجهر ثم حالفتها الظروف فكبرت وإمتدت وتوسعت لملات الدنيا فسادا وإفسادا وتعطل الخير وأصبح المعروف منكر والمنكر معروفا وعندها تظل معاول البناء والرشد تدوي قرونا طويلة ثم لا تأتي بشئ يذكر وتموت أجيال غفيرة تتقلب من ظلمات إلى ظلمات . فليس مناسبا للعدل إذن والحال تلك سوى أن يستثنى صاحب تلك المعصية المجاهرة من العفو سواء بمعنى عفو الله أو عفو الناس الذين يقيمون الميزان .
أمثلة حية معاصرة للمجاهرة بالسوء وفتنة الناس وقلب الحقائق : الامثلة كثيرة في واقعنا منها أن خير سبيل لوأد الحركة الاسلامية هو تجفيف منابع الدين من الحياة الخاصة والعامة ومنها أن تحرير المرأة يمر حتما عبر تحررها من ربقة تكاليف الاسلام ومنها أن الشعب يحتاج إلى الحرية الاقتصادية لا إلى الحرية الدينية والفكرية والسياسية ومنها أن الاسلام دين التطرف والارهاب ومنها أن الامة ليست خير أمة أخرجت للناس ومنها أن محضن الديمقراطية هو العلمانية وليس أي نظام آخر ولو كان إسلاميا ومنها أن الدين مكبل للتنمية بتحريم الربا وللحرية بتحريم الزنا ومنها أن القوانين الوضعية أصلح لنا اليوم من قوانين الاسلام ومنها أن مقاومة المحتل إرهاب وإعتداء وأن الرضى بالاستبداد رضىبالقضاء والقدر .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الثامنة والعشرون
أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال " سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل وشاب نشأ في عبادة الله ورجلان تحابا في الله إجتمعا عليه وتفرقا عليه ورجل قلبه معلق بالمساجد إذا خرج منها حتى يعود إليها ورجل دعته إمرأة ذات مال وجمال فقال إني أخاف الله ورجل ذكر الله خاليا ففاضت عيناه ورجل أنفق في سبيل الله مالا فلم تعلم شماله ماذا أنفقت يمينه ".
ـــــــــــــــــ
شواهده الايات الجامعة المحيطة بأكثر خصال المؤمن كأية البر في البقرة مثلا وغيرها كثير.
موضوعه : ظل الايمان في الدنيا طريق إلى ظل الله يوم القيامة .
ـــــــــــــــ: شعب الايمان متعددة لا تحصى وكلها سبل إلى الجنة .
ـــــــــــــــ: المؤمن عابد وهو إمام وعابد وهو أخ للانسان وعابد وهو يعرك المال والزينة.هذا حديث جامع شامل بحكم إحاطته بمعاقد حياة الانسان فهو يتناول الشأن السياسي بتعبيرنا المعاصر ويجمع إليه شؤون الشباب وما يتعلق بها من تنشئة وتربية وتعليم وكذلك شؤون الاخوة الانسانية المبنية على الحب وشؤون العبادة سيما الصلاة وشؤون الجماعة من خلال صلاة الجماعة وقضايا الجمال والزينة ومتاع الدنيا بالعلاقة مع الجبهة الداخلية للانسان صحة وقوة وضعفا وترهلا وقضايا المال والكسب وعدالة التوزيع الاقتصادي . وهل الانسان فردا وجماعة سوى قلب يحب وينكر وأسرة تتربى مع مطلع كل شمس على قيمة معينة من الصلاح أو الفساد وتعايش مع الاخر المختلف فيما هو دون الدين أو فيما هو فوقه ضمن جماعة إما أن تتآخى وإما أن تتخاصم وكسب دنيوي أبرز ما فيه المرأة والمال وبعد سياسي إما أن يسوده العدل وإما الظلم.
فالاصناف السبعة من الامة تغطي سائر مظاهر حياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاخلاقية والسلوكية والعبادية .
العدل أرحب الابواب لظل الله يوم القيامة فكيف السبيل إلى الامامة العادلة : الترتيب الوارد في الحديث النبوي ليس إعتباطيا فكل شئ عند رسوله عليه السلام بقدر مقدور وحديثه عن الامامة العادلة في المقام الاول يعني أمرين لا ثالث لهما أولهما أن الانسان مكرم بالامامة في الدين والدنيا معا وكل مؤمن هو إمام لمن يليه من المؤمنين أقل منه حظا فضلا لمن سواهم فإن لم يطعم ذلك فليس له من الامامة من قطمير وليست الامامة تعني العصمة بل تعني رجحان رصيد بنك الايجابية على رصيد بنك السلبية كما تعني القيومية على تكاليف التعليم والتوجيه والارشاد والقدوة والبذل والثبات والاخلاص وخاصة عند الازمات والنكبات فالانسان خلق ليكون إماما لا مأموما فمن أمن فلا مناص له من تقمص مكانه منها ومن أبى فهو مكرم أبدا أما المعنى الثاني لايراده عليه السلام مقام الامامة العادلة في الدرجة الاولى فهو أن العدل صنو الامامة وقرينها الذي لا ينفصل عنها فالانسان إمام بالعدل والعدل خلق يتحرق عليه قلب مؤمن يرجو ما عند الله سبحانه ويخاف عذابه قبل أن يكون محصورا في ناحية سياسية لحياة شعب أو أمة تماما كالشورى فكلها في الاسلام أخلاق كالكرم والشجاعة والحياء . لماذا يكون باب الامامة العادلة أرحب أبواب ظل الله سبحانه ؟ لان الله أودع في كونه ناموسا إسمه " أحب الناس إليه سبحانه أنفعهم لعباده " ولاشك أن الامام عامة أنفع الناس لعباده فكيف إذاكان ذلك الامام يتبوأ مقام القيادة السياسية فلا ريب أنه بإمامته وبعدله معا يكون أكثر الناس للناس نفعا ومن ثم إلى الله قربا. وفي ظني أن الله برحمته سبحانه يجزي كل من عمل بإخلاص وجد وعلم وبصيرة لا بتنكب وغوغائية علىدرب توفير شروط قيام الامامة العادلة عملا بقانون " الدال على الخير كفاعله ".وبالنظر إلى واقعنا المعاصر فإن العمل الجماعي علىدرب توفير تلك الشروط كفيل بتوفير سائر السبل الستة الاخرى المفضية إلى ظله سبحانه يوم القيامة فبالعدل يجد المسجد تحت الشمس مكانا والعابد فيه حرية وكذلك الناكح تعففا والكاسب مالا بسطا وخفضا والتآخي إمتدادا الخ...
الاسرة هي البوابة الرحبة ا لثانية إلى ظله سبحانه : الشاب الناشئ في عبادة الله سبحانه لابد له من أسرة تكتب بمداد الود ونور الرحمة ثم تنجب الولد فتربيه بالقول والعمل وتتعاون في ذلك مع البيئة الصالحة وكل صالح سليل أسرة صالحة كنحلة تضع للناس شفاء ولذلك فإن الامة بخير كلما كانت فيها مؤسسة الاسرة وقيم التربية والتعليم والتعاون وسائر ما يتعلق بها مصونة وكل إعتداء على قيمة الاسرة سواء في جانب الام أم الابوة أم الطفولة والشباب هو إعتداء على مستقبل الامة أي مستقبل الاسلام أي مستقبل البشرية جمعاء ورغم أن محضن الاسرة لا يكفي اليوم خاصة لتنشئة الشاب العابد بحكم تغول وظائف البيئات الاخرى وخاصة الاعلام الكار بجحافله يحتكر التنشئة والتربية ويفتكها من الاسرة رغبا ورهبا في قعر بيت الاسرة فإنه لا مناص من تثبيت دعائم الاسرة وفق قيم الاسلام إستبعادا لاكثر الاخطار وتحملا لادناها وبالخلاصة فإن الاسرة التي عينها عليه السلام في الدرجة الثانية هي آخر قلاع الامة وحصونها.
الاخوة الانسانية هي البوابة الثالثة إلى ظله سبحانه : الاخوة البشرية بل الكونية قبل أن تكون واجبا شرعيا أو ضرورة واقعية هي حقيقة سننية وسببية وخلقية وكونية وإجتماعية في المنظور الاسلامي بحكم قانون " ياأيها الناس إتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ". ومن شأن الوحدة الاصلية أن تورث الحب فإذا أبى ذلك آب لعدم إعترافه بذلك فإن الحب يستحيل تعاونا فإن إستحال ذلك آن أوان التعايش السلمي وليس بعد ذلك حبة خردل من إنسانية وليس بعد ذلك سوى الاحتراب المشروع والمقتول فيه شهيد والظالم فيه باغ عاد . ولم إحتلت الاخوة هذه الدرجة المتقدمة ؟ ليس ذلك لسواد عينيها بل لوظائفها ومقاصدها وهي إرجاع الناس إلى الاصل الاول الاصيل أي الوحدة الخلقية فضلا عن وحدة المصير والرسالة وهي كذلك تنمية موارد التعاون بين الناس على الخير وهي كذلك تضييق مجالات الاحتراب وفتح مساحات السلام والحرية فكيف لا يجازى المجاهدون في ساحة المؤاخاة الانسانية بنية تحقيق تلك المقاصد العظمى النبيلة بوضعهم في أقرب الطوابير إلى ظله سبحانه يوم لا ظل إلا ظله . وربما الاهم من ذلك كله أو هو من صلبه هو أن الانسان أول مايتبلى في الانتصار على هوى نفسه الامار له دوما بالرفعة على غيره فإن قمع هواه ووصل درجة الحب فالتآخي فالتعاون فبث السلام فقد إنتصر في الساحة المحددة للمعركة الازلية وما دونها ثانوي صغير ومثل هذا الجهاد يجازى بذلك بل باكثر منه.
المسجد والجماعة هي البوابة الرابعة إلى ظله سبحانه : أروع سؤال يسأله الانسان الناجح هو لم كانت الصلاة عماد الدين ولم كان الدين عماد الاسلام ولم كان الاسلام عماد الحياة ولم كانت الحياة عماد الوجود ؟ والجواب بإقتضاب شديد هو أن الصلاة كفيلة لو إلتزم بها المصلي قلبا وقالبا وليس طغيانا لهذا على ذاك أو إخسارا لهذا من ذاك بإرجاع الانسان إلى أصله أي إلى روح الله فيه وكلما فعل ذلك بوعي وإلتزام إنقمعت دواعي الطغيان فيه فبسقت أشواق الانسانية فيه فنفع نفسه ونفع الناس ولو ترك سدى لرتع في بيداء الفواحش وركض فمات شر ميتة كما ماتت الضفدعة النهمة تورما من شرب الماء فالانسان بدون صلاة هو عدو نفسه حتما وحتى يتعدى نفع الصلاة إلى الناس فرض الله سبحانه علينا مرة واحدة في الاسبوع صلاة جماعة وهي صلاة الظهر من يوم الجمعة ورغب فيما دون ذلك من الصلاة وخاصة في الاعياد والمناسبات وليس ذلك لسوى إشعار الانسان أنه يعيش في جماعة لها عليه حقا وله عليها حقا وهو إشعار يقول بأن المؤمن مهما كان مصليا وعابدا ومخلصا فإنه معرض حتما للبوار لو لم يعبد مع سائر ا لعابدين وهذا الضرب من المعاني اليوم نحسب أنه أشد بروزا لما آلت إليه حياتنا من تعقد وتشابك وتجمع يستحيل معه الانفراد والتفرد والابتعاد والتقوقع وخير ما يرفع عز المسلمين ويبني هيبتهم المساجد الفاخرة العظيمة المتألقة بمآذنها تجبى إليها نفائس الدنيا من كل صوب وحدب إيذانا بأن المسجد مكان عبادة محرم لا يحسن غير رفع شعائره وتعظيم حرماته تصدح تكبيراته فتوقظ النومان وتنبه الغفلان وتبعث على الامل وتنشر التوحيد وما يعمرها من مناشط بعد ذلك كفيل بتحرير العقول وتزكية النفوس والعض بالنواجذ على التجمع والوحدة خير يحفظ على المسلمين بركة الله عليهم لذلك إستحق أهل الصلاة والمساجد الفيء إلى ظله الممدود سبحانه .
ثلاث بوابات أخرى نعجل فيها القول : الانفاق والعفاف وحياة القلب : لم يبتلينا سبحانه بأشد من المال والمرأة فالفائز فيهما سوي الخلق والنفس ناجح في دنياه مستحق لظله سبحانه أما المترف النهم فيهما كالذباب فهو لما حشر نفسه فيه وليس لدمعة خالصة له سبحانه من جزاء سوى ظل ممدود وماء مسكوب فهي أحق بالامن يوم يفزع الامنون من مكره في الدنيا .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة التاسعة والعشرون
أخرج الشيخان عن أبي موسى أنه عليه السلام قال " علىكل مسلم صدقة قيل أرأيت إن لم يجد قال يعتمل بيديه فينفع نفسه ويتصدق قيل أرأيت إن لم يستطع قال يعين ذا الحاجة والملهوف قيل أرأيت إن لم يستطع قال يأمر بالمعروف أو بالخير قيل أرأيت إن لم يفعل قال يمسك عن الشر فإنها صدقة ".
ـــــــــــــــــــــــــ ـ
موضوعه : الايجابية طعم الحياة حدها الاقصى نفع الناس وحدها الادنى الامساك عن الشر: أمران لا مراء فيهما ولابد من إستيعابهما فقها في الحياة أولهما أن الاسلام شعب عديدة لا تحصى لان مشارب الحياة الانسانية لا تحصى غير أنها آئلة قطعا إلى نهر واحد منه تنهل وتكرع وهو نهر التوحيد أما ثاني الامرين فهو أن مناشط الانسان تستعصي عن الحصر تتلون بلون الزمان والمكان وسائر المتغيرات فإذا كان ذلك كذلك فيما يخص الاسلام والانسان فإن الاوفق هو الاخذ بعين الاعتبار دوما سنن التعدد والتنوع في كليهما ومن ذا يأتي التكامل المطلوب بين الناس الذين قال عنهم سبحانه أن ألوانهم مختلفة تماما كخلقه من الجبال والانعام .
عدد أيام السنة بعدد مفاصل الانسان فمن أحيا كل يوم نفسا أعتق نفسه من النار : ورد في الحديث أنه على كل سلامى أي مفصل من جسم الانسان صدقة وعددها كما قرر العلماء هو بعدد أيام السنة وعلى ذات النحو تجري كثير من الاوامر والنواهي ومندوبات الدين تجانسا بين خلق الله سبحانه وتماثلا كيف لا والاصل واحد والباري أحد وهو تطابق يوحي بالجمال والتناسق والبديع فكأن خلق الزينة ملح لا يفارق التشريع حتى في أدق معانيه وتفاصيله وذلك ييسر على الانسان حساب قدر ما أعتق من نفسه من النار لحساب جنة الخلد كما ييسر على الانسان الشعور بالاخوة وكل سلامى منه تهمس إليه مع مطلع كل فجر وغروب كل شفق أن صنوي من فلان جائع أو ظامئ أو جاهل أو أسير أو مريض فلا بد من فعل شئ لانقاذ حياته وفي إنقاذ حياته إنقاذ لحياتي في الدنيا ثم في الاخرة وليس ذلك من بديع البلاغة أو ساحر البيان مما يفعل الشعراء بل هو لب الحقيقة أم أنك نسيت قوله سبحانه " وإن من شئ إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم ".
الكون مسرح مسخر للكسب فلم التبطل ولم الاحتكار : بداية لابد من تصحيح فهم تلفاه سقيما تتهامس به الافواه وهو أنه عليه السلام في مدحه للعمل والكسب من كد اليمين والعمل باليد ونسبة ذلك الفخر إلى سيدنا داوود عليه السلام إنما يزري بسائر الكسوب المترتبة من عمل العقل والفكر وربما التجارة وحصر أطيب الكسب في دائرة ضيقة هي دائرة العمل باليد حقيقة لا حكما والانكى من ذلك أن هذا الضرب من النفوس الضيقة تفهم نهيه في المقابل عن العمل بالمحراث بإعتباره أنه ما دخل بيت قوم إلا أورثهم الفقر أو الذل ـ إن صح ـ فهما آخر يتعارض مع طيب كسب اليد ولو تفرست معي قليلا لالفيت عشرات من الاثار يختلط فيها السليم مع العليل هذه تمدح الزراعة وهذه تذمها وما إلى ذلك وسفينة النجاة في ذلك كله هو الاعتصام بالصحيح الصريح ففيه كفاية وألف كفاية ولا نلقي بالبقية في البحر بل نعمل فيه مباضع العقول خير ما كرمنا الله به أما الاحتطاب بليل بهيم فموقع لا محالة في سموم الافاعي وأسأل به من تأبط شرا ولا ينبئك مثل خبير . تلك إذن أكذوبة بعض المتدينين وأنت عليم بالاخرى من لدن بعض المتسيبين وهي أن الارض ضاقت رزقا بأهلها والحل الوحيد الاوحد هو قتل الانسان قبل أن يولد وفي طور الولادة وبعد الولادة بإسم تنظيم النسل وتحديده وبإسم الهندسة العمرانية والتخطيط السكاني ولو تفرست قليلا لالفيت أن ذلك هو ذات الفرية المجرمة التي كان يأتيها المشركون فمن المتحضر يا ترى ومن أولى بالرقي أم أن قانون " أكفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر " أصبح لاغ لا عبرة له ؟ فما ضاقت لعمري أرض بأهلها ولا بلاد بسكانها وما ضاق وربي رب بخلقه ولكنها أخلاق الناس تضيق فتحل الاثرة ثم تتحول عند من ظنوا أنهم خطموا خراطيم العلم وأنوف المعرفة بأناملهم إلى فلسفة في الحياة تقضي بوأد الانسان حيا فلا تحسبن أن ربك سبحانه بغافل عنهم بل هو الان يئدهم وربي كما يئدون خلقه ولكنه وأد خفي لا يشعر به سوى أهله أما غيرهم فيأخذهم كما تأخذ الاحلام المزعجة النائم بغتة أو في ضحاه لاهيا أو قائلا . وليس الحائل دون العامل بيديه أو بعقله أو بكليهما لنفع نفسه ونفع الناس من حوله سوى أمران أولهما القعود والتواكل من لدن الانسان وثانيهما إحتكار الارض بخيراتها من قبل الطغيان متمثلا في المنع من السفر أو الاتجار أو العمل أو حرية القول بكل الصور الممكنة حتى لو غطى القانون عوراتها.
فالخلاصة أن الارض أودع فيها باريها تكريما للانسان وإبتلاء له في ذات الان معايش سكانها وما قلوا أوكثروا سوى بإرادته سبحانه فالامر هنا أمر خلق من عدم فلا تجهل جهل العابثين وليس على الانسان سوى السير في مناكبها طلبا للعبرة وللكسب معا ودون ذلك لغو هاذر .
النبي الاكرم عليه السلام أول من شرع الخدمة بديلا عن المال وعن العجز : لو تدبرت الحديث مرة أخرى لالفيت أن الدرجة الثالثة بعد التصدق لمن يملكه وبعد العمل الباعث على التصدق هي درجة الخدمة وهي كلمة مستخدمة اليوم سيما في القطاع الاقتصادي ومجال العمل وما في حكم ذلك أو قريبا منه ومن ذلك القطاع الخدماتي أو القطاع الثالث بعد القطاع الاولى أي قطاع الصناعات الثقيلة والمواد الاولية المعدنية وبعد القطاع الثاني أي قطاع التحويليات وقوله عليه السلام بأن من عجز عن الصدقة أو عن العمل الباعث عليها فليس له أن يتدثر بالعجر بل عليه أن يستخدم طاقاته الاخرى البدنية والنفسية والعقلية لاسداء خدمة لملهوف كغريق مثلا أو ذي حاجة مطلقا وهي خدمة لا تسدي مالا ولا شيئا متقوما ولكنها تسدي خدمة كالارشاد مثلا والحمل على الدابة وذات العجلات وكل ما لا يتطلب سوى إعمال العقل أو البدن أو كليهما للانجاد وكثير من الناس اليوم منا نحن يستهين بهذا الضرب من الصدقة وهو جهل مطبق ليس بالدين بل بالدنيا بإعتبار أن نصف إقتصاديات ما يسمى بالعالم الثالث اليوم على الاقل هو من كسب قطاع الخدمات وليس ذلك فضلا بل تخلفا ولكن لا نتحدث فيه الان ورب خدمة بديلا عن إنفاق مال أنقذت ملايين مملينة من الملهوفين والغرقى والمنكوبين سيما في المجال التعليمي والطبي والاغاثي عامة فليس الناس متساوون في حاجاتهم وليس أولو الفضل كذلك في كسوبهم ولكن المؤكد هو أن الباري سبحانه جعل الناس بعضهم لبعض خدما فلو خدم كل واحد منا غيره المحتاج بما عفت عنه يداه فحسب لتحصل لكل الناس الحد الادنى من الحاجة البشرية وذلك هو بعض معاني " وبارك فيها وقدر فيها أقواتها " و" لكم فيها معايش ".
الان جاء دور الخدمة العقلية : الامر بالمعروف أو بالخير ينتمي إلى قطاع الصدقات النفسية أو الخدمات العقلية وذلك بديلا عن الصدقات المادية المشار إليها في بداية الحديث فالناس كما تعلم تنسحب عليهم سنن التفاضل كأشد ما تنسحب والناس كما تعلم بحاجة إلى الخدمات العقلية والصدقات النفسية حاجتهم إلى الصدقات المالية والخدمات المادية بل أشد وأغلب الاعمال التي من المفترض أن تقوم عليها الحكومات والمنظمات تنتمي إلى الخدمات العقلية والصدقات النفسية لان تحرير الانسان عقلا يفضي حتما إلى تحرره جسدا ونفسا وعاطفة وفردا وجماعة ومالا .
أضعف الايمان في سلم نفع النفس ونفع الناس هو ملازمة الحدود الفاصلة بين الايجابية والسلبية: الايجابية التي عبر عنها الاسلام بالامامة طلبها الباري سبحانه من الناس وهو يعلم أنهامقام متقدم لا يتسنى إعتلاؤه من كل من هب ودب فلم يجعلها نقطة لا تتسع لقدم واحدة فحسب بل مدها مد الارض لتكثير صنف الائمة وأهل الايجابية وجعل بعد ذلك مسرحا خصبا لمن غلبه هواه فتدحرج القهقرى غير أنه نبه إلى أضعف الايمان وهو الحد الفاصل بين الايجابية وبين السلبية وسماه الامساك عن الشر وهو في الحقيقة سلبية ولكن لم يسمه كذلك بعثا للامل في نفس ساكنه لعله يلحق بمن يتقدمه ولا تظنن أن مقام أضعف الايمان هذا يسير على صاحبه الثبات عليه دون الارتكاس إلى أولى درجات الشر ومثل الشرع ذلك في حديث أخر صحيح بمن يرعى حول الحمى وهو راع يوشك يوما لا محالة أن يقع في الحمى المحرم وربما لمن رعى النعم منا وقد فعلت ذلك في صباي أشد إدراكا للمسألة فالراعي سيما عام القحط حريص على نعمه يتسور بها منابت الكلا ولا يظفر بها في الغالب سوى في الحمى المصون المترع ثمرا فيظل قلبه يخفق مع كل لقطة كلا سيما من الماعز المعروف بالمشاكسة بخلاف الضأن ولا يأمن أبدا أن اللقطة التالية لا تصيب ثمرا مصونا . فالكاف عن الشر لا يمكنه المكوث عنده كثيرا فهو إما ساقط في الشر أو صاعد إلى الخير لذلك لا يأمن على نفسه الثبات على التصدق بالكف من شره عن الناس فإن فعل فهو قوي ولكنها قوة ضعيف الايمان .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الثلاثون
أخرج الشيخان عن معقل بن يسار رضي الله عنه أنه عليه السلام قال " ما من عبد يسترعيه الله رعية يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته إلا حرم الله عليه الجنة ".
ـــــــــــــــــــ
من شواهده " إن الله يأمركم أن تؤدوا الامانات إلىأهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل".
موضوعه : المسؤولية في الاسلام تكليف وإلتزام وغرم وأمانة لا يولاها الضعيف ولا الخائن: من حيث المبدإ فإن كل مسلم هو مسؤول لا محالة عبر عنه عليه السلام بأنه راع فرعاية النفس في الحياة مسؤولية مشتركة بين كل الناس ثم يتفاوت الناس في ذلك ولعل أول إلتزام بعد ذلك مباشرة هو أمانة الاسرة من لدن الزوجين ثم تتدرج المسؤوليات حتى تصل حد الامام الاول أو الخليفة ولا معنى للاسامي إلا بما تحوي من قيم الالتزام ومثل الامانة وسمو الرعاية . فإن قلت لم؟ قيل لك بأن الله سبحانه ولا يسأل عما يفعل بنى الكون وخلق الخلق على ذلك الاساس ومنه إرسال الانبياء فالناس لابد لهم من نصب مسؤوليات يتعاونون على القيام بها لامندوحة لحياتهم مهما تعربت بواديها وبعدت مشارقها عنها ولابد لتلك المسؤوليات من أمناء يصطفون لها فهي بإختصار سنة عتيدة من سنن الاجتماع البشري وأبرز التاريخ أن قيامها ولوعلى ضرب من الظلم اليسير أصلح للناس وأقل شرا عليهم من غيابها وهي بماهي سنة إجتماعية ماضية لا تغيب فالفراغ فيها ليس فراغا بل هو ممتلئ سواء بما أحب الناس أم بما كرهوا .
إمرأة تضع نظرية الامانة في الارض : المرأة معروفة في القرآن الكريم الذي صدقها وتبنى قولها وهي إحدى بنتي شعيب عليه السلام زوج موسى عليه السلام وذلك في قولها " يا أبت إستأجره إن خير من إستأجرت القوي الامين " . فهل لك أن تعترض على أن صاحب نظرية الامانة وفلسفة المسؤولية في الاسلام ليست سوى إمرأة ضعيفة ترعى نعم أبيها وتسقيه من ماء مدين في زمن يحسب الناس اليوم وقد فتنتهم المكتشفات والمخترعات أن الحضارة والرقي والتقدم حكرا عليهم وليس من عمر من الاسلاف سوى قطعان من الهمج المستعرب لا يبعد أن يكون سليلا لقبائل الوندال الجرمانية المتوحشة في القديم ؟ أم أنك تحسب أن سوق القرآن الكريم لتلك اللفتة الكريمة كان بغير قدر مقدور ؟ أم أن حسابها في علم التفسير والمعاني ليس بذي ذكر؟
ولك أن تعلم أن تلك المرأة العظيمة ليست راقصة شهيرة في مفحش هوليود ولا حقيرة من الحقيرات اللائي يملان قصور الحكم اليوم فجورا وكذبا بل هي بنت بيت نبوة بما يعني أن بيوت التقوى أجدر بوضع نظريات المعرفة وفلسفات العلوم وتنظيم الحياة ولك أن تعلم أن الجمع بين مهنة الرعي والسقي وبين إنتاج الافكار العظيمة وصياغة النظم الكبيرة كالجمع بين السمن والعسل لا يزيدهما الجمع إلا إئتلافا وقوة فليس من مقتضيات التقدم الكاذب الفاجر اليوم أن يكون منفصلا عن الاعمال اليدوية وهي عند المجرمين وضيعة تأثرا بعلاقة طبقة النبلاء بطبقة العبيد.
دعامتا النظرية : القوة والامانة : لاشك أن كل مسؤول هو أجير سواء عمل بأجر أم إبتغاء رضوان الله تعالى ومن عادة المسؤول المؤمن الجمع بين الاجرين فإذا ما بني الفقه السياسي وسائر الفقه المتعلق بالمسؤولية والامانة والالتزام وخدمة الشأن العام في سائر المجالات والقطاعات على أساس أن المسؤول أجير مؤتمن إستأجره أهل ذلك المجال لخدمة حوائجهم وترتيبها وفق أصول مأصولة بينوها له فإن تلك الاجارة تصبح عقدا كامل الاركان بين الناس وبين المسؤول فمن وفى وجد الوفاء ومن غدر خيانة أو قصر تكاسلا أو ضعف جبنا وجد الاخرى أي الاقالة وربما المحاكمة والعقاب والعذاب . وهو عقد لا يمضيه سوى المسؤول المتوافر على خصلتين لا بد له منهما كحاجة الحداد للمطرقة والطبيب للمبضع وهما القوة العقلية وربما البدنية كذلك ولكن الاولى مقدمة والقوة الخلقية النفسية وهي نظرية نسجتها تلك المرأة العظيمة راعية النعم وساقية مدين تنسحب على كل أجير ومسؤول ومؤتمن ومتعاقد وراع مطلقا فما بالك إذاكان الراعي المستأجر مؤتمنا على مصير شعب أو أمة ووطن وبلاد في يوم كريهة وتربص ولذلك تجد ما يبعث على السخرية في تراثنا عندما يحاول تفكير الانحطاط إقناعك بشتى الحيل الفقهية المستهجنة بجواز ولاية المفضول مع وجود الفاضل وبجواز حكم القهر والغلبة وبشتى الاقذار الفكرية المبررة لاغلظ جرم حرمه الله على نفسه وهو الظلم والتظالم ولك أن تسأل لم حرمه على نفسه وهو الحكيم العادل سبحانه وتجاب بأن ذلك ورد مورد التغليظ والتوثيق العظيمين الكبيرين لعل الناس يقترفوا كل ما عن لهم سوى تبادل التظالم وحفر منقبة للظلم في الفقه وفي التراث ولا تراجعني يرحمك الله في الظروف المحيطة بمن قال بذلك حتى لا أراجعك بأن الثورات الكبرى والزلازل الفكرية العظمى إنما تنبعث من رحم ظلمات التنكب عن المنهج الاقوم ولك في رسالات الانبياء جميعا سيما رسالة محمد عليه السلام خير دليل ولكنه الضعف الذي تناسى وهو يشيد للمرأة قبرا في قعر قبوها المظلم تصلي فيه لوحدها سرا متلفعة بالسواد أن التي شيدت نظرية لنسف المقولات التراثية الفقهية العرجاء كالتي نحن بصددها ليست سوى أمرأة قامت على شأن بيتها داخله وخارجه وعلى شأن التفكير العقلي المنطقي وهي بعد ذلك سليلة بيت التقوى والنبوات من شعيب مدين إلى موسى بطل القرآن الكريم عليهم جميعا السلام .
تحرير القول في تيوقراطية فاجرة بإسم " يسترعيه الله ": أنت تعلم أن نظام الحكم الاسلامي اليوم يحاصر ويصادر بإسم أنه حكم إلهي تيوقراطي لا مكان فيه للانسان حرية وعقلا وإجتهادا وهو مطعن أصاب الفكر الاسلامي المعاصر بما لا يحصى من الهزات ومن تلك الهزات من يجد لها في دنيا الواقع أسرا حاكمة وعائلات مالكة وجمهوريات مورثة وملكيات تحكم القمع وتوزع الظلم بإسم نسبة جيفها القذرة إلى العترة النبوية ولا تجد تلك البيوت العنكبوتية حين تهاجم سوى التمترس وراء مقولة أن الله هو الذي إسترعاها الامر إن قضاء وقدرا أو قرابة بالبيت النبوي أو كما تغصب الارض في بلادنا تحت قانون " حائز ومتصرف " وكما تغصب المرأة في الجاهلية الغابرة والحاضرة بإسم الحماية وملك اليمين . والاسترعاء الالهي الوارد في الحديث هنا لا يتعدى معناه الكوني القدري إلى المعنى الشرعي فضلا على أن يحوز الرضى وهو من باب قوله " وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها " فهل يعني أن الله سبحانه يأمر بالفسق ؟ كلا ولكن المعنى أن الامر توجه إلى السنن العليا الحاكمة بإذنه سبحانه فتعمل بقاعدة أن الفسوق يورث الترف وهذا يورث الاهلاك وكل ذلك من إرادته سبحانه ويستوي المعنى حتى لو قرأت بتضعيف ميم " أمرنا " ولك أن تراجع الامر عند إبن تيمية فهو خير من ميز بين المشيئة الكونية القدرية وبين المشيئة الشرعية . فالاسترعاء هنا دوما قدر مقدور وإرادة مرادة من الله لا يشذ عنها لا كافر ولا مؤمن ولا يعفي ذلك صاحب الفجور فيه إكتسابا وتصرفا من المسؤولية .
لم إستحق الغاصب للمسؤولية سوء العذاب يوم القيامة : الغش خلة خسيسة لا تتلفع بها سوى النفوس الجبانة المليئة أثرة وأنانية العابدة لذواتاتها إلى حد تشمئز منه العابدات والمعبودات على حد سواء لذلك ورد في الحديث " من غش فليس منا " وليس من غشنا لان الغش محرم حتى ضد غيرنا إلا خديعة حرب ضد ظالم . ولك أن تتصور أن من إستأجره شعب بأسره أو أمة بأسرها لم يجمع إليه من القوة ومن الامانة سوى إجادة الغش ضد من يدفعون له من عرق جبينهم أجرته كاملة . هذا جزاء وفاق لانه ينتصر لكل مغشوش من الشعب والامة على مدى عقود طويلة لا تقل في أيامنا عن الخمسة .إن غاشا مثل هذا لا شك أنه نهب مال الناس فبددها على شهواته وعرض الناس فأغدق عليهم من صنوف العذاب مالا يوجد إلا في النار يوم القيامة وباع الارض والوطن والبلاد وسائر القيم والمثل من دين وعروبة وحياء لاشد أعداء الناس عداوة ممن فصل القرآن الكريم فيهم .
أول خطوات الغش للرعية هو غش الانتخابات وما بعدها ليس سوى فرع عنها : لابد من الاتفاق مسبقا على أن من تسلق المسؤولية على الناس قلوا أو كثروا بالاساليب القذرة غير جدير بإسترعاء الله سبحانه بمعنى إسترعاء الرضى وإنتظار التسديد والتوفيق والوحي صريح في ذلك حين قال " ثلاث لا ترفع صلاتهم فوق رؤوسهم شبرا : رجل أم قوما وهم له كارهون ..." ولو فعلنا خلاف ذلك لما زدنا قرفا على قرف تراث قال بشرعية الغلبة والقهر والمفضول وبعورة صوت المرأة ولا يحسبن أحد أننا مجرد قردة وببغاوات حسبنا إجادة التقليد فما لذلك كرمنا الله وإستخلفنا وأستأمننا وإبتلانا .
الخلاصة هي أن الراضين بالغش والخديعة من المسؤول سيما في أمرهم العام ليسوا ببعيدين عن النار إلا أن ينكروا ثم ينكروا ثم ينكروا حتى يفتح الله بينهم وبين الغاش ولو بعد دهر بعيد
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الواحدة والثلاثون
أخرج الشيخان عن إبن عمر أنه عليه السلام قال " أيما رجل قال لاخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما ".
ـــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
من شواهده " إجتنبوا كثيرا من الظن " و " ... وأن تقولوا على الله ما لاتعلمون ". وغيرها كثير.
موضوعه : التكفير أشد الزلازل حصدا لاول ثابت بعد التوحيد وهي الاخوة وهو سلاح البله : لو إتفقنا بداية على بديهية معلومة من الحياة بالضرورة لاغنتنا عن تحبير المجلدات في هذا الموضوع وليست تلك سوى أن هذا الحديث الصحيح صريح في إعتبار أن كل رجل أو إمرأة قال بلسانه لرجل آخر أو إمرأة عرف عنه الايمان ولو مع إتيان كل الموبقات التي لا يحيط بها عقل يا كافر فهو بين أمرين لا ثالث لهما : إما أن يكون المعني كذلك حقا عند الله سبحانه وإما أن يكون غير ذلك أي فاسقا ألف مرة ومرة وعاص ومنافق سلوك وباغ وعاد ومحارب وظالم حتى النخاع لكل من خلق الله فوق الارض وفي كل هذه الحالات فالقائل نقل نفسه ببساطة لا يفعلها غير البله والمجانين من الايمان الكفيل بفوزه بالجنة في الاخرة لبث ما لبث في النار لتخليصه من كبائره وموبقاته ومن حقوق الناس عليه إلى الكفر الكفيل بخلوده في النار كائنا ما كانت أعماله برا وإنفاقا وإحسانا ومعروفا وعبادة وبكاء وطوافا ونفعا للناس . إني أظن أن كل عاقل يطلع على هذا الحديث يرعوي وينزجر ويتصور نفسه أنه كان يقف على شفا جرف هار يكاد ينهار به في نار جهنم وهو لا يشعر أو هو يلعب ويلهو بجانب تمساح ضخم جائع يهم بإبتلاعه في كل آن ولحظة إني والذي نفسي بيده كلما قلبت هذا النص الصحيح الصريح في حياتنا اليوم المليئة بتبادل التكفير أقف مشدوها حائرا لدقائق طويلة متسائلا بيني وبين نفسي كيف يبيح عاقل لنفسه إتهام كائنا من كان بالكفر وهو يعلم علم اليقين أن كل تهمة بالكفر لا تصيب صاحبها المناسب بالتحديد ووفق علم الله وليس علم البشر مرتدة عليه هو مباشرة ودون أدنى تمحل أو تأويل أو كذب .
تحرير القول في الكفر المقصود هنا : صحيح أن بعض العلماء قالوا بأن الكفر المرتد هنا على صاحبه القاذف للمؤمن بالكفر وما هو كذلك هو كفر دون الكفر الاكبر المخرج من الملة وليس ذلك بمسلم ولا بعيد عن المعارضة فهو تأويل لئن إتسعت له اللغة والشرع معا فإن من شأن التهوين من جرم هذه الفرية القاضية بقذف مؤمن بما هو منه فار وهو الكفر أن يجرئ ضعاف الايمان والنفوس المعقدة غير السوية على خلخلة أركان الاخوة الانسانية وخاصة في دائرة أهل الايمان ولا شك أن مآل تأويل مماثل حتى لو كان له مساغ لغة وشرعا ليس هو سوى توهين النفوس القاذفة وإستمرائها لبث الفتنة في الصفوف وتفريق الجماعات وإذهاب الريح وشغل النفوس المقذوفة بالدفاع عن نفسها ومن يتوانى في الدفاع عن إيمانه أغلى كسبه في هذه الدنيا ومن صبر عن ذلك من النفوس المقذوفة ظلما وزورا فإن قذفا شبيها يشغل النفوس العاملة لخير البشرية وفتح دروب الحرية والحق والعدل وتوطيد أركان الاخوة والتعاون والتعمير والاحسان بأولويات ثانوية وبذا تتأخر الجماعة وتنحل الامة ويجد العدو المتربص فرصة للاغراء والاغواء. وبعد ذلك من أدرانا أن هذا التأويل مقبول عند الله سبحانه فلو حكم بيننا يوم القيامة فيما كنا فيه نختلف وقالت محكمته العليا والاخيرة وهي منتصبة بين الجنة والنار أن من رمى مؤمنا بالكفر يوما فقد كتبته في لوحي كافرا مذ قالها ومصيره معلوم طبعا فهل نمنح يومها فرصة للترجيح بين القولين هل الكفر المرتد في هذا الحديث الصحيح هو كفر أكبر أم كفرنعمة لا بل هب أنه كفر أصغر أو كفر نعمة أليس إشتراك الالفاظ والمعاني مؤذن بإشتراك المصائر والمآلات وما هو الفرق يوم القيامة بين كافر أصغر وآخر أكبر . إني لا أرى أن تأويلا مماثلا خادما لحالنا وأرنو إلى دهاقنة العلم وأساطين الفقه في حياتنا اليوم أن يؤول إجتهادهم في هذا الامر إلى ما يوطد عرى مفككة ووشائج مهزوزة فإعتبار مآلات الفتاوى والاقوال والاجتهادات وما يليها من أعمال مرعي عند هؤلاء وهو ما جعل الفاروق عليه الرضوان يختار في التطليق بالثلاث عدم الامضاء رعاية لحال الناس مخالفا ما كان سابقا والحاصل أن رعاية حال الناس مرعي دوما كلما كان الامر يحتمل التأويل قولا وعملا .
المنهج القرآني يحارب الظلم أكثر من حربه على الكفر : إن تعجب فإن عجبك لا ينقضي من الناس الذين يبنون سائر أنظمتهم الكبيرة والصغيرة خارج المنهج القرآني ويحسب هؤلاء وغيرهم كثير أن القرآن إنجيل يجمع حزمة من الاوامر والنواهي وماعدا ذلك فلا مكان له في الحياة أو هو زائد عليها وعلى كل حال لا مجال للانتفاع به كأنه لغو وهذر وهذا منهج في الفهم سقيم لئن غرس إيمانا فإنه سرعان ما يفرغه من كل مضمون حياتي إيجابي عبر عنه القرآن بقوله " أو كسبت في إيمانها خيرا " وكثير من المؤمنين اليوم لا يكسبون من إيمانهم الصحيح صوريا وميكانيكيا خيرا لا لانفسهم ومن باب أولى لغيرهم . ولو قلبت القرآن عدا ومعنى لالفيت خلاف ما يعتقده أغلب المسلمين اليوم وهوأن حملة الاسلام على الكفر ليس أشد منها والحقيقة أن حملة الاسلام الاشد هي على الظلم وفيه تفصيل لا يتسع له الان مجالنا رغم أهميته بل إنه يتسع لظلم المؤمنين وفي المقابل فإن الحملة على الكفر بسائر أنواعه أقل من ذلك بكثير وهي حملة تستهدف النظرية التي يصدر عنها الكفر يعرضها القرآن ثم يحاورها ثم ينصر حجته مقنعا كل من يقرأه بخلاف الحملة على الظلم فإنه لا يعرض لهم حجة ولا يناقشها بل يهجم عليها مباشرة مبررا ذلك بأن الظلم لا يستند إلى حجة من عقل أو منطق أو تجربة أو تاريخ ولكن يصدر عن نفس مريضة ولك أن تحصي بنفسك ذلك جامعا بين المعنى والمبنى وليس أعز علي وعليك من الحكمة التي نطق بها الفقيه المجاهد المرحوم إبن تيميه وهي أن كل ما ورد عن الكفر والكافرين في القرآن الكريم أو جله على الاقل بحسب السياق إنما يقصد به الظلم وليس مجرد الكفر . فلو وقفنا بأنفسنا على هذه الحقيقة في المنهج القرآني وتمييزه بين الظلم وبين الكفر وإعتباره أن الظلم أشد عليه من الكفر لان الاول محارب متحرك والثاني عادة مسالم مهادن فإنه علينا أن نصوغ عقولنا وفق هذا المنهج فندمغ بالظلم كل ظالم حتى لو كان في منتهى الطاعة والخشوع وكفى به دامغا لاحدا ونفر من القذف بالكفر فرارنا من المجذوم ومن كل مرض معد وآفة قاتلة وهل ثمة من شر في هذه الدنيا أشد عليك من أن ترمي من تكره بالكفر فيرتد إليك قذفك فيكتبك الله كائنا من كنت عبادة وحبا وكذبا في سجل الكفرة فلا يقبل منك صرفا ولا عدلا وأنت في نفسك وبين الناس أمير المصلحين وسيد الناس ورائد القوم تتزين بك المجالس .
الحكمة في هذا الجزاء المهين لقاذف أخيه بالكفر : هل تحسب أن الله سبحانه لما أجرى هذا القول على لسان نبيه عليه السلام لاعبا حاشاه سبحانه بل في ذلك ما يعلم من الحكم وأولها أن نعمة الايمان ونقمة الكفر مصدرها الاول هو سبحانه فهو يهدي من يشاء ويضل من يشاء ولئن نازعه عبده في ذلك فلن يبقى له أمر آخر غير قابل للمنازعة فيه ولذلك لم يكن جزاء أجدر بالمتألي عليه سبحانه بكتبه في سجل الكافرين وملاقاة مصيرهم لان العبد وإيمانه ملك له سبحانه فكأن المكفر لغيره يعز بالايمان من يشاء ويذل بالكفر من يشاء ونصب نفسه إلها في الارض وثاني تلك الحكم أن أكبر إعتداء على الانسان هو أن تنزع عنه أعز ما يملك وهو خياره الشخصي الحر في كونه كافرا أو مؤمنا فهو إعتداء على الارادة والحرية وسائر مظاهر كرامة الانسان وهل ثمة رساميل في الدنيا توازي حبة خردل من رساميل الايمان حتى ينزعها متهور بجرة قلم عن مؤمن يقتل نفسه في سبيل إيمانه وثالث تلك الحكم هي أن القذف بالكفر خاصة في مجتمع المؤمنين مؤذن ولا ريب بنشوب حرائق الفتنة بين الناس ومن يملك نفسه وقد قذف بالكفر ومن يلجم غضبه وقد رمي في أعز ما يملك ولو تكاثرت النفوس المكفرة فإن ذهاب الريح على الابواب تفتح فيلج هو ويتبعه العدو المتربص ويذهب الوطن ثم الايمان ويصول الظلم والكفر ويصبح الاحرار عبيدا والسبب الاول في كل ذلك قذف بالكفر من غلام بالكاد إحتلم لم يعلم عن كتاب الله ولا سنة رسوله عليه السلام بالكاد شيئا سوى ظاهرا من القول لا يغني ولا يسمن من جوع والحكم في الحقيقة كثيرة وكلها كفيلة بترتيب مثل هذا الجزاء على ذلك التكفير . وأكرر القول بأن الله علمنا في كتابه أن لنا أن نقذف بما سوى ذلك من فسق وشبهة وظلم وسائر ما يعن لك فإن أصبنا فبها ونعمت وإن أخطأنا فالخطب أدنى جلالة .
الخلاصة : أناشد كل مسلم ومسلمة يؤمن بالله واليوم الاخر الابتعاد عن قذف غيره بالكفر إبتعاده عن النار لئلا يقع في النار وهو لا يعلم وله في ما دون ذلك من ظلم وفسق مسرحا رحبا والاولى من ذلك كله كما أرشد عليه السلام حتى حيال الشيطان فما بالك بمن دونه البسملة بدل اللعن تلك هي الايجابية الاسلامية وصدق من قال " بدل لعن الظلام أشعل شمعة ".
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الثانية والثلاثــــــون
أخرج البخاري عن إبن عباس أنه عليه السلام قال " نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ ".
ــــــــــــــــــــــ
من شواهده الايات بصيغة المسارعة والمسابقة والتنافس على المغفرة في آل عمران وغيرها .
موضوعه : الانسان تاجر رساميله الصحة والفراغ ومسرحه الارض وبضاعته الخير : قبل البداية لابد من إلقاء نظرة على معنى الحديث وهو معنيان يختلفان بداية ويلتقيان نتيجة وهذا كثير في اللغة والشرع والبصر به بصر بفقه الحياة والغفلة عنه تورث الاحادية ونبذ سنة التعدد ومن ثم ضيق الفهم فالغرور فالتكفير فالاقصاء فالقتل فالاحتراب فذهاب الريح فدعوة العدو المتربص والنتيجة باهرة اليوم في العراق وفي غيره . المعنى الاول للحديث هو أن الغبن معناه النقص أو الانقطاع بالكلية وبناء عليه يكون المعنى أن كثيرا من الناس بحكم إرتباطاتهم الاسرية أو المهنية مغبونون في أوقات فراغهم أي لا يجدونها فيخصصون جزء منها للصلاة والذكر وعيادة المرضى وزيارة الرحم وفعل الخير عامة أو يكونون مرضى أو يشكون نقصا في مؤهلاتهم الصحية مما يحول دونهم ودون القيام بأفعال الخير تلك على وجه مرضي أو مقبول في حده الادنى كتهنئة أو تعزية وهذا المعنى الاول هو المتبادر بداهة وهو أكثر جريانا على ألسنة الناس أما المعنى الثاني فهو أن الغبن يتخذ له شكلا آخر وهو توفر الصحة والفراغ عند فريق آخر من الناس بشكل مناسب يساعد على فعل الخير ونفع الناس والنفس والعناية بالاسرة ولكن شهواتهم وغفلاتهم واللهث وراء أهوائهم المتقلبة تحول دونهم ودون ذلك وهو مظهر آخر من مظاهر الغبن وهو موجود بيننا بكثرة بل ربما يفوق عددا وعدة الغبن بمعناه السابق والمعنيان يختلفان إبتداء إختلافا بينا ظاهرا فواحد معناه النقص أو الانقطاع والاخر معناه الوفرة مع عدم الاستغلال ولكنهما يلتقيان بالنتيجة إنتهاء إلتقاء بينا ظاهرا إذ كلاهما لا يقدر لا علىنفع نفسه بالتزكية ولا على نفع غيره بالمشاركة والتعاون والمواساة غير أنه إلتقاء في الدنيا وظاهرها وهذا الذي يهمنا في قولنا بأن المعنيين محتملين وملتقيين أما في الاخرة وأجرها فإن الالتقاءين يختلفان من جديد وذلك بحسب نية كل من صاحبيهما ومعلوم أن النية في الاسلام تبلغ بصاحبها سوء وأجرا ما لا تبلغ به كثير من أعماله فإذا كان المغبون في صحته وفراغه رغما عنه لا بسبب إتباع الهوى لا ينوي فعل الخير في قلبه ولا يجدد ذلك مع توفر كل فرصة سانحة يهتبلها الناس من حوله ويحرمها هو فالفرق بينه وبين صاحب المعنى الاخر من الغبن ليس كبيرا والله أعلم .
نعم الله سبحانه لاتحصى والصحة والفراغ من أكبرها على الانسان : قال تعالى " وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها " وهو تحد يشبه تحد الاتيان بالقرآن أو بشئ منه لا بل إن أحصاء أو عد نعمة واحدة غير ممكن فلو تفرست قليلا أو كثيرا في نعمة الصحة البدنية مثلا لالفيت عجبا إذ لوعلمت مثلا أن ملايين مملينة من الاجهزة الوريدية الدقيقة جدا في شكل شعيرات تعجز عنها أدق المكبرات المرئية إحصاء وفرزا تمكنك من الابصار بخطر أمامك فيتولى عقلك صرفك عنه أو بخير إلى جانبك تحوزه لطفقت مسبحا له سبحانه حامدا ساجدا على نعمائه وأشد ما يكون ذلك حين تبصر بتلك الشعيرات ذاتها أعمى يتعثر أو يمشي الهوينا أو يقع على الارض فريسة للاخطار وقس على ذلك سائر النعم فالسمع كذلك يتم عبر أجهزة دقيقة معقدة مركبة مما لا يحصى من العضلات والعلاقات ولو تدبرت في الجهاز التنفسي لوقفت مشدوها أمام هذا النفس الذي يزود رئتيك بالحياة فتسري في سائر بدنك وهو لا يتوقف ليل نهار صباح مساء سواء كنت يقظا أم نائما أم غافلا أم منتبها أم غاضبا أم فرحا أم كافرا أم مسلما فهلا سألت يوما من يرد ذلك النفس الذي لولاه لاصبحت جثة هامدة سرعان ما يدركها النتن فتوارى التراب وينخرها الدود ولو إطلع عاشق ولهان على حبيبة مليحة جميلة ساحرة وهي في قبر عفن مظلم عاثت فيه الحشرات عيثان الجراد في الحرث النضر وقد تحلل منها ذلك القوام الممشوق لادرك أن الحب الاول والاكبر ما ينبغي صرفه لغير مصدر الحب والجمال ولي النعمة سبحانه ومن مشكاته ينبجس حب المليحات وعشق الساحرات أما لو إنقطع الحب عن أصله فهو إله معبود . ولاشك أن أكبر نعم الله سبحانه على الانسان قبل ذلك وكله نعمة العقل التي بها جاء الايمان فحاول عد نعمه سبحانه عليك فإذا توقف بك العد فتوقف وعندها أنظر في مردودها عليك ومما يغذي ذلك النظر في حال المحروم من تلك النعم أذ بضدها تتميز الاشياء والنظر إلى الاسفل في النعمة كفيل بحمل القلب على التسبيح والتحميد والتهليل والتكبير والذكر والتحميد يملا الميزان وليس أشقى عليك وعلي من لؤم الغفلة فبالغفلة وحدها يتيه المؤمن ويشرك بربه وبها وحدها يكفر الكافر .
من معاني الحديث : توفير شروط التجارة الرابحة أي القوة البدنية والنفسية وتنظيم جدول الحياة: الايجابيون من الناس ينظرون دوما إلىالجانب الايجابي من كل خطاب بمعنى أنه إذا ورد خطاب بصيغة السلب فإنه يتدبر تكاليف ذلك ثم يبادر إلى بناء جانبه الايجابي ولو طبقنا هذا الان عمليا لقلنا بأنه عليه السلام يريد أن يقول لنا " من أراد بلوغ الدرجات العلى في تجارته مع ربه سبحانه نجاحا في الدنيا وفلاحا وفوزا في الاخرة فما عليه إلا أن يهتم بكسب القوة البدنية التي تمكنه من الضرب في الارض ونفع الناس وبكسب القوة العقلية التي تمكنه من القدرة على التخطيط وعلى وضع البرامج المنظمة لحياة الانسان فوق الارض إذ العمر قصير والاعمال لا تحصى ". وخير علاقة تبنيها كمتدين بينك وبين نفسك وبينك وبين الله وبينك وبين الناس طرا هي علاقة التاجر الذي لا يحرص على شئ حرصه على الكسب وعلى الفراغ . ولاشك أنك تعلم أن الاسلام وضع لنا برنامجا عمليا يوميا وأسبوعيا وسنويا يحفظ علينا قوتنا البدنية بدء من الطهارة للصلاة بسائر أنواع الطهارة وخاصة المائية إضافة إلى خلال الفطرة والاستعداد لصلاة الجمعة والاعياد وكذلك صيام رمضان في الحد الادنى ومناسك الحج والترغيب في العمل والكد ورياضة الجسم والتربية على بعض الرياضات الخشنة كالفروسية والرماية والجهاد فلو إقتصر المسلم على الحد الادنى من العبادات لحافظ على بدنه قويا فما بالك لو تنفل وأتى المستحب وسعى على رزق عياله وشارك الناس في حياتهم فإنه في عداد الاقوياء بدنا دون ريب . ولاشك أنك تعلم أن القوي أعبد إلى الله فهو يصلي ويقوم ويصوم ويكسب المال فيتصدق ويعين الضعيف ويجاهد ويدعو ويأتي سائر الاعمال التي تتطلب قوة بدنية وينتصر لبلاده في المباريات الرياضية الدولية تنافسا علىإعلاء كلمة الاسلام في كل محفل بخلاف الضعيف الذي بالكاد يسجد ويصوم ويده دوما سفلى فلا طواف ولا سعي ولا قدرة على الاغاثة والاسلام بما هو دين الجهاد والمجاهدة ونفع الناس والانتصار لقضايا الحق والعدل والحرية والسلام يفرض على المسلم أول ما يفرض قوة بدنية . ثم يأتي دور القوة العقلية التي بها يمكنك النظر في أوقات شغلك وفراغك وواجباتك فتقدر على تنظيم وقتك وهو يحتاج قوة عقلية فما بالك لو كنت مسؤولا عن جماعة أو بيت أو كتيبة كشفية أو بلاد فإن تلك القوة تصبح نافعة أي قوتك العقلية التي تمكنك من حسن التخطيط ثم قوتك النفسية التي تمكنك من رفع مستوى الارادة لتعبئة فراغك بالخير " وإذا فرغت فانصب ".
من معاني الحديث : تفريغ الرواحل للسهر على مستقبل الامة : المعاني التي يمكن أن نستنبطها من الحديث النبوي الكريم لا تحصى وتلك هي مزية لفظ الوحي قرآنا وسنة إذ هو عليه السلام كما قال عن نفسه أوتى جوامع الكلم وهي معجزة عربية مضافا إليها معجزة النبوة ومن تلك المعاني أنه عليه السلام يحضنا على توفير فرص الفراغ للعناية بالشأن العام للناس فإذا جمعت إلى ذلك معنى ما ينبغي أن يغيب عنك يوما وهو أن الاسلام دين الجماعة لا دين الفرد المبتعد المبعد البعيد عنها المنكفئ عن نفسه فإنك تدرك أنه عليه السلام يحرضنا على تفريغ من لابد من تفريغه من إهتماماته الشخصية سيما في طلب الرزق من أجل إحكام مخطط العبادة الايجابية الفعالة الكفيلة برفع مستوى الامة والناس أجمعين وإحلال السلام والقوة والنهضة والنماء والمؤاخاة وسائر معاني الخير وخاصة تفريغ الرواحل أي القيادات التي يمكنها تعبئة تلك الفراغات الكثيرة وإنتاج النظريات والافكار وتحشيد الطاقات العاملة ورسم الاستراتيجيات وهو أمر يعمل به من يريدون لاممهم التقدم في دنيا الغرب أما عندنا فمازال ينظر إلى المتفرغ بلا أجر فضلا عن أجر زهيد لا يغني ولايسمن من جوع على أنه متطفل كالاعشاب الطفيلية لا يصلح لسوى العيش على حساب عيش الاخرين فهل نحن أقرب أو أبعد من المنهج النبوي.
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الثالثة والثلاثــون
أخرج البخاري عن إبن عمر عليهما الرضوان أنه عليه السلام قال في شأن النذر " لايأتي بخير إنما يستخرج به من البخيل ".
ــــــــــــــــــ
من شواهده " يوفون بالنذر " و" أو نذرتم من نذر " .
موضوعه : تخليص الايمان يتطلب الترغيب عن النذر من جهة وتوفير البديل الاسلامي كذلك: لو قلت بأن الاسلام هو دين الايمان فحسب لما جانبت صوابا أبدا وذلك على معنى أن أول ما جاء الاسلام يحاربه ليس هو سوى إنحراف العقول وفساد القلوب بإعتبار أن القلوب والعقول هي غرفة القيادة في الانسان والانسان هو غرفة القيادة في الحياة فتفسد الحياة أو تصلح بصلاح الانسان أو فساده وهذا يفسد ويصلح بصلاح أو بفساد عقله وقلبه وماسوى ذلك خدم وجند لا يعرف سوى الطاعة والاتباع . وكذلك على معنى أن الايمان في الاسلام ليس جزء ولا قطعة ولا مكونا من كل بل هو كل شئ بمعنى أنه الروح الحية التي تنفخ الحياة في الانسان عقلا وقلبا ونفسا والناس يخطؤون سواء كانوا معلمين أو متعلمين حين يقدمون الايمان على أساس أنه جزء من الاسلام أو عنصر من عناصره وعادة ما يفعل ذلك المعلمون بغرض دراسي منهجي كما يفكك المعلم معادلة رياضية ما لتيسير فهمها من قبل تلاميذه ثم يعيد تركيبها وكلما إرتقى العمر والتجربة والعلم بالتلميذ يصبح أعرف بحقيقة تلك المعادلات وأثرها في الحياة وهذا مجرب عند كل من ينخل ما كان قد تعلمه في سنوات الصبا الاولى في بعض المواد أما خطأ المتعلمين فهو عندما يتوقفون طول حياتهم عند ذلك التفكيك دون إعادة تركيب وخاصة حين لا يبذلون جهدا إضافيا في إتجاه رصد العلاقة بين سائر تلك المكونات وهو ما يبث فينا المنهج الجزئي للفهم وهو أخطر منهج يمكن أن يأتي على عقولنا فتتذرر الموجودات فيها ثم في الحياة ويؤول بنا المطاف إلى من آمن فلم يكسب في إيمانه خيرا والعياذ بالله . الاسلام إذن هو الايمان علىمعنى أن الايمان ليس جزء منه كالعبادة والمعاملة والخلق بل هو تلك الروح السارية الحية في العبادة وفي الخلق وفي المعاملة تحيل الانسان من كائن إلى كائن تماما كما تحول عمر من كائن وحشي يقدم على وأد فلذة كبده بيده تحت الارض حية لا تأخذه رأفة بدموعها ولا بتوسلاتها لمجرد أنها أنثى إلى كائن جمع بين قوة النفس وقوة العقل وقوة البدن وبين الصلاح وبين الاصلاح وبين الامامة وبين سائر الفضائل التي يمكن أن تتحلى بها نفس وليس ذلك لانه فهم الاسلام على أنه أجزاء مبعثرة فيها الايمان وفيها العبادة وما إلى ذلك ولكن لانه فهم الاسلام على أنه حياة يحكمها الايمان أينما حلت وكيفما كانت ويخطئ الناس عندما يستشهدون على أن الايمان أمر مستقل بذاته شأنه شأن العبادات وسائر الاجزاء بأركانه الخمسة أو الستة متناسين أن ركن الشئ ليس كل شئ فيه فهل ترضى لنفسك أن تعيش في بناية ليس فيها سوى الاركان فالايمان مبنيا على أركانه فحسب لا يكسب لصاحبه خيرا ينفع به نفسه والناس ولكن بسقفه وزينته ومحاسنه ومكارمه يتحول إلى روح حية تعمر العقل والقلب والحياة وزاد الطين بلة أن حركة علم الكلام في القرون التالية للخلافة الراشدة وهو يجابه الغزوات الفكرية من كل صوب وحدب جمد على ضرب واحد من ضروب الدفاع عن الملة وهو الضرب التجريدي الفلسفي ولو وجدنا لذلك مبررا تبعا للظروف الفكرية ا لسائدة يومها فإن الانكى حقا هو أن الانحطاط داهم المسلمين وهم على تلك الحال من الدفاع بأدوات غريبة عن الادوات القرآنية فجمدت الحياة قرونا طويلة ولما حلت النهضة الحديثة أفاق المسلمون ومتاحفهم العلمية مملوءة بذلك التراث فأستبعد مصطلح الايمان الذي ظل القرآن يستخدمه وكذلك السنة النبوية وحل محله مصطلح العقيدة بديلا أوحد وهكذا ظن الناس أن العقيدة التي هي في الاصل الايمان جزء من الاسلام شأنها شأن العبادة والخلق والمعاملة فنشأت إرجائية مقيتة ثم تتالت عوامل الهدم . والملاحظ أن القرآن وكذلك السنة لم يستخدما ولو مرة واحدة تعريفا تجريديا للايمان بل ظلا يذكران الايمان كقيمة عقلية ومثال قلبي معلقا دوما وأبدا بآثاره العملية وذلك دون أدنى إستثناء ولو مرة واحدة وحتى أركان الايمان لم يطل في ذكرها كثيرا وخاصة في متنها الخماسي أو السداسي بل ظل يؤكد على التوحيد والنبوة والبعث وذلك من خلال الكون والقصة والمثل وليس تقريرا تجريديا .
لماذا أقر الاسلام النذر ولم يشرعه وماهو بديله في الجاهلية وفي الاسلام : كان النذر في الجاهلية ممارسة دائبة من المشركين لالهتهم وكان النذر عبادة مألوفة عندهم فلا يتحرك الجاهلي حركة حتى يستأذن إلهه وينذر له خيرا إن وفقه وهو أمر كفيل بقتل العقل قتلا ولو قتل من الانسان عقله فقد قتلت إرادته ثم حياته ثم جماعته وحل الخراب محل العمار فكانت رسالة الاسلام متجهة إلى إنقاذ أولئك الغرقى فدعاهم إلى التوحيد محرر العقول ومعمر القلوب وباعث الارادات ومكرم الانسان ودعاهم إلى التوكل بدل النذر والمضاء والحسم والعزم وشحذ الارادة بدل أمرين أولهما تعليق الفلاح على الالهة الكاذبة وثانيهما التواكل والكسل والايمان الكاذب بالقضاء والقدر وإعدام حرية الانسان وإرادته بدعوى الايمان بالقضاء والقدر ووصل حد إعتبار الانسان قدرا مقدورا وسنة مسنونة وسببا مسببا علق عليه مشيئة الكفر والايمان والفلاح والطلاح والتعمير والتخريب وسائر ما يؤهله للقيام برسالته تحت لواء الحرية البشرية وتحرر الارادة الانسانية . فبديل الاسلام إذن عن النذر للالهة وتعليق الفلاح على رضاها وعلى موت الارادة وقتل الحرية وموت الانسان هو عقيدة التوحيد والتوكل والحرية والارادة والكرامة وقوة النفس وشمائل العزم والحزم والمضاء والثقة والامل واليقين وعقيدة القضاء والقدر بمضمونها الصحيح لا المشوه وأغلبه اليوم مشوه عند أغلب المسلمين وهو ما يفسر هزائمنا في فلسطين والعراق وساحات أخرى كالعلم مثلا. ولما كان منهج الاسلام حيال الامور التي كانت تشكل عقدة حياة الانسان في الجاهلية هو منهج ثلاثي يقوم على الاخبار وعلى الانشاء وعلى الاقرار ولما كان مناسبا وفق سنة التشريع في التدرج وتجفيف منابع السوء شيئا فشيئا إنتهاج منهج الاقرار حيال عادة النذر فإنه أقر النذر فلم يأمر به ولو مرة واحدة ولم يثن على إنشائه ولو مرة واحدة ولكنه مدح الموفين به فحسب ولم يكن حتى ذلك سوى في مواضع لا تزيد عن الثلاثة في القرآن أما السنة فإنها كانت صحيحة صريحة في النهي عنه وهو نهي ربما لا يرتقي إلى درجة التحريم فضلا عن الكراهة لا تنزيها ولا تحريما وهو نهي معلل كما هو وارد هنا بإعتبار أنه لا يأتي بخير وإنما يستخرجه من البخيل وهو إيماء فيه ما فيه من الكراهة والترغيب عنه وذلك لمراعاة حال الناس في الايمان تفاوتا فمن كان في بداية إيمانه أو منحدرا من بيئة عملتها النذر لا يحسن سوى إقرار نذره الحلال طبعا دون الحرام دون تشجيعه على ذلك والحث على وفائه حال إنشائه لان الوفاء بالنذر الحلال يعلم النفس المسؤولية والالتزام لا الميوعة وإعتبره في المقابل يمينا لابد من تكفيره أو الوفاء به أما من حسن إسلامه وتأهل لمقام الامامة فإنه لا يحسن به النذر إنما التوكل وحسن فقه الايمان بعقيدة القضاء والقدر والثقة واليقين الامل في الله سبحانه ثم في كرامته وإرادته وحريته وموقعه .
النذر ليس صنو الايمان العتيد : الايمان والنذر لا يتناقضان ولكن لا يتجانسان كثيرا لان الناذر من المسلمين لله مثلا شيئا لو أحرز كذا وهو النذر المعلق وهو الاكثر ليس مملوء ثقة ويقينا وأملا في ربه سبحانه فكأنه يدعم ذلك النقص بمال ينفقه جزاء ما بسط الله عليه من نعمة أو أخر من ضر وبدلا عن النذر يجدر بالمؤمن الممتلئ وتوكلا ومضاء ورضى بقسمة ربه سبحانه شكر الله سبحانه بعد كل توفيق بإتيان الخير سواء إنفاقا أو ما إلى ذلك من سائر صور الشكر وخاصة العملي المتعدي نفعه للناس المحتاجين إليه ولا يجدر بالدعاة النكير على كثير من المسلمين اليوم الذين أصبح النذر في حياتهم رقما مرقوما والاوفق الارشاد إلى أن بديل الاسلام عن النذر حتى الاسلامي منه الشكر بسائر صوره حتى لا يكتب المؤمن من البخلاء عند الله سبحانه ويكفيك أنه عليه السلام لم ينذر قط وهو أشد الناس فقها وعلما ورسوخا وعبادة وهكذا نجد أن الاسلام حريص على الايمان بمعناه الشامل الباعث للحياة في سائر أركان العقل والقلب والنفس والحياة والجماعة فلا يرضى أن يخدش بإعتباره رأسمال الانسان بأدنى شئ حتى لو كان حلالا وليس الحلال في درجة واحدة من الحلية ذلك أن الايمان لو خدش خدشا صغيرا جدا فإنه لفرط حساسيته لا يسمح لشرايين العقل والقلب والنفس والحياة إستمداد الروح منه فيمرض الانسان .
الخلاصة : إيمانك رأسمالك لا تدع النذر ينال منه وبديلا عنه عليك بالتوكل والقوة النفسية واليقين والثقة والامل والرجاء والمضاء وتحرير الارادة ثم بشكر ولي النعمة سبحانه ويكفيك أنه لا يأتي بخير وأن صاحبه ليس بعيدا عن البخل ولكن توخ الحكمة في النهي عنه وتبيان محاسن بديله ومكاره فعله
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الرابعة والثلاثـــون
أخرج مسلم ومالك عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال " إذا سمعتم الرجل يقول هلك الناس فهو أهلكهم ".
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ
موضوعه : اليائس جرثومة تنخر المجتمع ببث يأسه والاسلام دين الامل في الله وفي الناس : قال العلماء بأن لفظ " أهلكهم " يؤول على وجهين إما بمعنى ساهم بقوله في هلاكهم فهي فعل ماضي وإما بمعنى أنه أشدهم هلاكا فهي على وزن المبالغة أفعل وكالعادة يختلفان المعنيان في البداية وفي المبنى ولكن يلتقيان في النتيجة وفي الجوهر . وللبداية من البداية لا بد من القول بأن غالب أسماء الله سبحانه وصفاته منتمية إلى دنيا الامل والرحمة لا إلى الغضب والانتقام فهو سمى نفسه الرحمان وإحتكر ذلك وحرمه حرمة الشرك والكفر والظلم على غيره الذي يصل ما يصل من معاني الرحمة والرأفة والحنان والقرب والرفق ولكن لا يصل إلى حد رحمة الرحمان سبحانه وذلك متأت من ذات الله سبحانه وذات مخلوقاته فهو لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين والانسان وحده يتعرض لموجات من الفرح والغضب قد تفسق به عن عقله وبصيرته فيطغى وذلك من مقتضى تكوينه المزدوج أما هو سبحانه فهو واحد أحد فرد لا يكنه الانسان ذاته فيفكر فيها ولكن يدله عقله لو تدبر في الكون والخلق والنفس والافق على أنه سبحانه ليس كمثله شئ لا في سمعه ولا في بصره ولا في رحمته ولا في غضبه حتى إنه سبحانه لم يسم نفسه مرة واحدة في القرآن الكريم الذي هو أحكم من السنة بالغ ما بلغت صحتها وصراحتها وحاكم عليها من فوق المعذب ولا المنتقم بل إنصرفت أسماء القهر وما في حكمها إلى قهره الاصلي بحكم ربوبيته لسائر مخلوقاته فهو قهر قدري بتعبير إبن تيمية لا شرعي ولكن سمى نفسه فيما لا يحصى من المواضع الغفار والتواب والحليم وسائر ما يفيد المبالغة والكثرة بل سبقت رحمته غضبه حتى قال بعض المحققين أن النار فانية بخلاف الجنة أما صفة الجبر فمعناها التوبة فالجبار هو المعوض والراتق أي التائب ولابد لك لما لا يتسع المجال له هنا وهو جولة واسعة في أسمائه وصفاته قم بنفسك بتقسيمها وترتيبها وأهمس إليك بالاكتفاء في ذلك بالقرآن ففيه الكثير ويعصمك من التيه في ضعيف الرواية وستظفر بنتيجة باهرة مؤداها أن صفة الرحمة أغلب له سبحانه حتى تعليقا على كفر الكافرين وإليك مثالا واحدا وعليك البقية ورد في سورة الاحزاب ولم يرد في غيرها تقريبا ترتيبا لجزاء على غير مقتضى السياق " ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إن الله كان غفورا رحيما ". وبذلك نقول بإطمئنان بأن الله لفرط رحمته سبحانه وحكمته وعدله بنى الكون بأسره على أساس الرحمة لا على أساس النقمة فكانت الشرائع والنبوات كذلك والرحمة من شأنها بعث الامل لا اليأس وبث الرجاء لا القنوط وتلك مسلمة كونية وبديهية دينية وثابت من ثوابت الخلق الاسلامي عقيدة وشريعة وعملا.
الامل في الله سبحانه باعث على الامل في أكرم بنائه وهو الانسان : يعسر على أكثر المسلمين اليوم ولعلك تضيف إليهم كثيرا من العاملين للاسلام تصور كون الثقة في ا لانسان والامل في توبته أمر يحتمله التدين أو كيف يكون ذلك فرعا عن الامل في الله سبحانه وستعارض معارضة بإسم الدين مخاصمة جريئة بأن الله رحمان رحيم أما الانسان وخاصة الكافر والفاسق والعاصي وكذلك الظالم والجاني فلا أمل فيه ولا رجاء بل إن ذلك شرك لانك وصفت العبد الفاني بما وصفت به الرحمان المعبود الباقي ولن تجد في دنيانا اليوم سوى ثقافة في الاسرة وسائر ما يليها من بيئات سواء إدعت الحداثة أو التقليد تغذي ذلك فقل لي كيف تفعل ؟ لا مناص لك من اللوذ بالقرآن والسنة وتطبيقات الخلافة الراشدة وسائر المواطن اللامعة في تاريخنا وفيها تجد أن الامل في الله معناه الامل في هدايته للناس إلى الدين الحق و توفيق المهتدين إلى حسن الالتزام الفردي ثم إلى الاجتماع على الخير ثم إلى التصدي لدعوة الناس على أساس أن الهادي هو سبحانه وأن الانسان الداعي وسيلة بثها الله في كونه لهداية عبده غير أن أكثر المسلمين اليوم يظنون أن معنى الامل في الله لا يتجاوز الرجاء في مزيد من توفيقهم هم في شؤونهم الخاصة والشخصية الدينية والعامة ولو لم يكن الامل في الله لايقتضي الامل في عبده بما هو سنة وسبب وقدر من أقداره ينفذ بها إرادته لما أنزله الجنة أول ما خلقه ولما تاب عليه بعد عصيانه فيها ولما ألهمه التوبة أصلا ولما كرمه بالعقل وبالدين وبالجماعة وبتسخير الكون له ولما فتح مصاريع أبواب رحمته في كل ساعة من ليل ونهار يدعوه فيها إلى التوبة ولما قيض له النبوات والرسالات والاصلاحات تهديه وإنقاص الارض من حوله يهديه فبالخلاصة الجامعة المانعة في كون الامل في الله تقتضي بالضرورة الامل في عبده مطلقا مؤمنا وكافرا هي أن الانسان سنة وسبب وقدر وقضاء وإرادة من الله سبحانه يهدي بعضه بعضا ويعين بعضه بعضا فكلما كان الامل في الانسان كبيرا كانت الحركة من أجل ترشيد سيره جادة دائبة وكلما كان اليأس منه خاصة في دنيا غير المسلمين أو المتسيبين من المسلمين كبيرا كانت خطى ترشيده ثقيلة تمشي الهوينا بل هي بالتجربة الواقعية تسلمه لاعدائه من الجهل والفقر والمرض فالحياد حيال الامل في الانسان لا وجود له إما أن تكون مملوء أملا فيه فلا تستقيم لك حياة بسوى ذلك وإما أن تكون مملوء يأسا منه فيقودك ذلك علمت أم جهلت إلى اليأس من خالقه سبحانه وعندها تنفصم العروة الوثقى فتهلك.
بعد أمة محمد عليه السلام لاوجود لهلاك كامل مطلق للناس : من معاني الحديث بعد تثبيته لمعاني الامل والرجاء في الله وفي عباده سواء بسواء ونبذ اليأس من الناس الدافع إلى البعد عنهم والانكفاء دونهم ثم إلى إعلان الحرب عليهم ... أنه بعد ورود الرسالة الخاتمة الاخيرة للعناية الرحمانية إلى الناس أجمعين إلى يوم القيامة ضمن كتاب يجمع بين الفطرة وبين العقل وبين الكتاب وبين الميزان لا وجود لهلاك كامل مطلق لكل الناس وذلك على معنى أن الامة هي بمثابة قطعة ملح في قدر البشرية وهو ملح قد يفقد بعض فعاليته ولكنه يبقى دوما حتى في أحلك فترات الانحطاط ملحا صالحا لتعديل ذوق قدر البشرية لذلك كانت الدعوة في الاسلام ركنا من أركان الاسلام وليس عملا تطوعيا منفولا أو مستحبا خاصة على المستوى الجماعي العام وليس ذلك مرتبط بالكم فالملح لو إستوى حجمه مع حجم الطعام المراد تعديل مزاجه لاستحال أجاجا لا يطعم ولكن كان الملح دوما في الطعام صغير الحجم جدا لان تأثيره أكبر من حجمه بكثير وذلك هو مثل الامة بما تحويه من شهادة على الناس بالعلم والقوة والامانة قد يكون حجمها كما هو الحال اليوم لا يزيد عن الخمس ولكنه يعدل ذوق الاخماس الاربعة الاخرى رغم المرض والفقر والجهل في الامة ماديا ومعنويا بل إن حركة كبيرة اليوم من الاخماس الاخرى تهرع إلى الخمس المالح في زمن لا يفهم فيه الانسان حتى المؤمن معنى ذلك والحال أن ذلك الخمس هو في نظر العالمين اليوم مصدر الارهاب والتطرف والعدوان فما بالك لو تحررت الامة وإستعاد ملحها فعاليته فبالخلاصة فإن القول من لدن كائن من كان رسوخا في العلم ونبوغا في الفقه بهلاك الناس سواء كانوا مؤمنين أو غير مؤمنين قول مردود بصريح النص وبتجربة الواقع ولا يعكس سوى عقدة نفسية مبرحة يأسا تحول صاحبها إلى جرثومة مفسدة في جسم صحيح فالقائل هو أهلك الناس بهذا المعنى وهو باعث لعقدته النفسية ولمرضه العقلي في صفوف الناس مثبط لاراداتهم محبط لعزائمهم في فعل الخير بالمعنى الاخر ل" أهلكهم " بفتح الكاف .
الخلاصة : الاسلام دين الامل والرجاء والثقة واليقين في الله وفي ما خلق الله سيما في الانسان المكرم المستأمن على كلمة الله والانسان وهو حامل تلك الامانة لا ييأس منه إلا من إستبد به اليأس وقتلته السلبية فهو مؤهل لعداوة الناس إما بإنكار فريضة الدعوة أصلا أو التهوين من شأنها أو بمهاجمة رموزها ومؤسساتها وأفكارها وإما بالفرار إلى خويصة النفس والاثرة والانانية واليائس من الانسان يائس من رب الانسان وأكثر الناس أملا في الله أكثرهم عملا لربطهم بربهم سبحانه أما دعوى ذلك دون ذلك فكذب فاحش والناس بعد الرسالة الاخيرة لا يهلكون بالجملة فملح الامة يظل يعدل مزاج قدرهم على قدر فعاليته وخير رد على يأس اليائسين من الله ومن عباده مؤمنين وكفارا هو إعادة إنتاج الملح المكون من الامر بالمعروف والنهي عن المنكر والايمان بالله .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الخامسة والثلاثـــون
أخرج البخاري عن أبي هريرة أنه سمع عليه السلام يقول " كانت إمرأتان معهما أبناءهما جاء الذئب فذهب بإبن إحداهما فقالت صاحبتها إنما ذهب الذئب بإبنك وقالت الاخرى إنما ذهب بإبنك فتحاكمتا إلى داوود فقضى به للكبرى فخرجتا على سليمان إبنه فاخبرتاه فقال إئتوني بالسكين أشقه بينكما فقالت الصغرى لا تفعل يرحمك الله هو إبنها فقضى به للصغرى ".
من شواهده " وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب "و"من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ".
موضوعه : الحكمة ذروة الرشد العقلي وهي من صفاته سبحانه فكيف تكتسب ؟ وصف سبحانه نفسه بأنه حكيم وفي ذلك معنيان يتكاملان أولهما وضع الامور والاشياء في نصابها من جميع الجوانب دون إخسار ولا طغيان علم الانسان ذلك أم جهله رغم أنه مطالب بعلم ما يستطيع منه إذ العلم بذلك يساعد على حسن التدين وحسن العبادة وخاصة في المصائب الخارجة عن نطاق الانسان كالزلازل والخسوف وما في حكم ذلك وثانيهما شد أركان الكون بما فيه من الخلق بسائر أنواعه شدا متناسقا بديعا يضفي عليه الزينة والجمال والقيام بدوره في آن واحد . والحكمة من مقتضيات الالوهية والربوبية والوحدانية وما إلى ذلك لان غير الحكيم أو الحكيم المعرض للطيش لا يعبده الناس ولا يثقون فيه ولا ينتظرون منه الخير وفاقد الشئ لا يعطيه كما تقول العرب . والله دعانا كثيرا إلى التشبه بصفاته التي يمكن لنا فيها ذلك فهو رحمان دعانا إلى الرحمة وحكيم دعانا إلى الحكمة وقوي دعانا إلى القوة ولكنه متكبر لم يدعونا إليه بل دعانا إلى ضده وهو واحد لم يدعونا إليه بل دعانا إلى الازدواج والتعدد ولا يتسع المجال هنا لمزيد من التفصيل . والحكمة هي صفة بشرية وزعها الله سبحانه على سائر عباده بالتساوي إبتداء من حيث الوراثة عن آدم عليه السلام وذلك من مقتضيات التأهيل للخلافة والتعمير والعبادة والاستئمان والقابلية للتعلم فهي بهذا المعنى وسيلة للعبادة والتعمير وسائر مقاصد الخالق من الخلق . والحكمة هي صفة عقلية إبتداء وذلك هو ما يرجح عندي أن المدارك العقلية حاكمة على ما سواها ودونها في الجهاز الانساني قلبا وفطرة ونفسا وعاطفة وذوقا ولا يعطل ذلك من قولك أن تبادل التعاطي بين كل تلك الملكات الباطنية سجال وذلك فيما يخص علاقاتها الداخلية أما لو نظرت إليها من خارجها فإن الارجح والله أعلم أن الملكات العقلية هي غرفة القيادة الاولى في الجهاز الانساني قد تعضلها الاهواء العاطفية تمكينا لارادة الله سبحانه في التركيب المزدوج للانسان ولا ريب ولكن تلك الملكات العقلية تضمن للانسان إحياء غرائزة الضامنة لبقائه حيا قويا وذلك ما يجعلها الاقوى رغم ورود الاهواء ومما يجعل ذلك الترجيح قائما عندي كذلك هو أن أكبرالقضايا الوجودية في الحياة منوطة بالملكات العقلية لا بغيرها إبتداء وأصلا لا بالنظر التكاملي الكلي فإذا كان ذلك كذلك فإنه لا مناص من القول بأن العقل هو الحاكم على سائر مكونات الجهاز البشري حكم قهر قابل للانخرام ولكن ليس دوما ولا في كل المطالب وتبعا لذلك فإن العقل درجات في الناس وهو درجات في ذات الفرد الواحد تبعا لعوامل كثيرة كالسن والتجربة وترويض الجهاز العقلي نظرا ونقدا وتفكيكا وجمعا ومقارنة وبيئة وغلبة هوى وغير ذلك كثير ولا ريب أن الحكمة بما هي وضع كل أمر وكل شئ في كل زمان وكل مكان وكل حال في وضعه الطبيعي المناسب حجما وتقديما وتأخيرا هي أرفع العطاء العقلي وذروة الرشد الفكري وهي نتيجة الصفاء العقلي ولاشك أن الصفاء العقلي ليس مجردا ولا مستقلا عن صفاء أو درن بقية مكونات الجهاز البشري فالحكمة بإختصار شديد هي بنت العقل في تفكيره وهو في أشد حالات صفائه ورشده .
الانسان حكيم بمعنى غلبة الحكمة عليه لا بمعنى العصمة : غلا بعض الناس في معنى الحكمة وطلبها فتعلق بالتفكير المثالي فيها لذلك قال بالعصمة في دنيا البشر خارج دائرة النبوات وهذا وهم يعكس عجزا وهروبا غير أن إتجاهه كان صوب اليمين لا الشمال وبالنتيجة يستويان كما غلا آخرون في إمتهان العقل الانساني فبنوا فلسفاتهم على موت الانسان ولسنا الان بمعرض هذا ولكن لا بد من تثبيت أصل أصيل لا بد منه قبل النظر بعد حين في أسباب الحكمة وهو أن الحكمة البشرية مفارقة للحكمة الالهية التي قال بها أهل المدرسة الباطنية أو الحقيقة وصلتهم بالعصمة البشرية خارج دائرة النبوات وطيدة فحكمة الانسان ليس معناها عصمته عن الخطأ كبيره وصغيره لان ذلك خاصا بالنبوات وقبل ذلك بالالوهية والانسان حكيم بمعنى غلبة الرشد العقلي على سائر تصرفاته في حياته رغم أخطائه الكثيرة كما أن الانسان الحكيم هو كذلك مقارنة بعامة الناس وذلك هو المذهب الواقعي للحكمة والرشد العقلي وسطا بين مثالية جانحة إلى الالوهية والنبوات أو يأس هارب من الناس .
كيف يكتسب الانسان الحكمة وكيف ينميها وهل يكون الكافر أحكم من المؤمن ؟: إتفقنا على أن الانسان بطبعه حكيم بقدر يحفظ عليه حياته على الاقل كما إتفقنا على أن الحكمة البشرية لا تعني العصمة ولنا الان أن نبسط القول في شروط إكتساب الحكمة أو بالاحرى تنميتها وتغذيتها لان أصلها مغروز في الانسان وأول تلك الشروط رد الانسان وجوده ورسالته إلى أصلهما أي إلى الخالق سبحانه أي الايمان المبني على النظر لا على التقليد ولا الحشو وثاني تلك الشروط تزكية النفس بمقتضى تكاليف الايمان وصياغة الجهاز البشري بأسره وفق الايمان والاسلام والاحسان بقدر المستطاع طبعا وثالث تلك الشروط إستصحاب المنهج القرآني في العلاقة مع الحياة بحلوها ومرها وهو منهج يقوم على التفكير المبني على صحة الملاحظة ثم على النقد والنقد يستلزم التشريح والتحليل والتفكيك والتركيب ثم على المقارنة ثم على حسن الاختيار وسائر ذلك في المعقولات ثم هو منهج يقوم على التزكية النفسية بقمع الاثرة وتقديم الايثار وتغليب التقوى وقمع الفجور ثم هو منهج يقوم على تقوية الارادة وتعريضها للامتحان بدل الركون إلى الدفء ورابع تلك الشروط هي إستصحاب قوى الفطرة سواء بما يحفظ على الانسان حياته أو بما يسمو بروحه وإرادته وعقله ونفسه أو بما يلبي داعيات غرائزه بطهر دون فحش وعدل دون ظلم وخامس تلك الشروط خوض غمار الحياة بتوكل وعزم وحزم دون تردد ولا خوف فرحا بالنجاح وعدم رضى بالهزيمة وبأمل لا يعرف الحدود وسادس تلك الشروط الحياة ضمن جماعة لابد فيها من أسرة في البداية ثم من بيئات تليها ونبذ حياة الوحدة والانانية والفردانية وسابع تلك الشروط تخصيص وقت ومال وجهد بدني وعقلي ونفسي لخدمة الناس وقضاياهم العامة وثامن تلك الشروط التسلح بالصبر الجميل كائنا ما كانت النكبات والهزائم وتأخرت ما تأخرت الكسوب والغنائم وتاسع تلك الشروط المداومة على العلم والتعلم والتدرب وإكتساب المهارات وعقلية التطور والتجدد والاضافة وعاشر تلك الشروط أمران اولهما المداومة على المحاسبة وهي بلغة الاسلام التوبة والمراجعة والتقويم وثانيهما وضع السن والتجربة في الاعتبار فالحكمة تكبر بهما وتصغر بدونهما . تلك هي الشروط العشرة لتغذية رصيد الحكمة فينا وهي أصول وليست فروعا . هل يكون الكافر أحكم من المؤمن ؟ بلى وكلا في الان ذاته : بلى في شؤون الدنيا وكلا في الميزان النهائي العام للحياة .فالحكمة في تسخير الدنيا لسعادة الانسان رصيد وزعه سبحانه بالسوية على الناس أجمعين " كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك " ويمكن للكافر برشده العقلي أن يسمو بذلك إلى حدود لا تضاهى غير أن الامر يختلف عند التعامل مع الانسان روحا وقلبا ونفسا وعاطفة وذوقا وجماعة فعندها قد تحضر الحكمة قليلا عند غير المؤمن ولكنها عند المؤمن أشد حضورا أما في حصيلة الميزان الاجمالية الاخيرة للحياة فلا شك أن المؤمن مهما كانت أخطاؤه مالم يتورط في مظالم قاسية أو كثيرة خاصة في حق غيره أكثر حكمة من غيره رغم أن غيره بملاصقته لقيم محايدة كالعدل والحرية يمكن أن يصيب من وعاء الحكمة شيئا كبيرا جدا فلا يفصل بينه وبين رأس الحكمة سوى توحيد الله سبحانه وهذا اليوم لا يغيب عن مراقب منصف.
ماالذي جعل سليمان هنا أحكم الناس : الجواب صريح في أن ذلك راجع إلى فقهه عليه السلام لمكونات الجهاز البشري وخاصة الجانب النفسي منه ففقه الانسان وهو نصف فقه الحياة من لدنه عليه السلام هو الذي جعله يتربع فوق عرش الحكمة في قضائه ولو كان في عصرنا فإن الحكمة تختلف فهي ليست سوى تحليل السوائل البدنية لكل من الولدين والمرأتين وهي تنبئك عن الحقيقة فلكل عصر حكمته أو قل سبله في تنمية الحكمة فرأس الحكمة إذن هو فقه النفس فالانسان فالدين فالحياة فالوجود على مستوى كلي على الاقل وبالضرورة وليس على مستوى تفصيلي .
الخلاصة : المؤمن مرشح أكثر من غيره لتغذية الحكمة التي أودعها الله فيه غير أنه لا يحتكرها لان غير المؤمن هو أيضا عبد الله ربما يرتد المؤمن فيكون هو له مرشدا وعقلك مصنع الحكمة فبقدر إستخدامه في الدين والدنيا معا تتغذى الحكمة وبقدر تعطيله تتعطل .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة السادسة والثلاثــــــــــــــــــ ـون
أخرج البخاري أنه عليه السلام أمرزيدا بن ثابت بتعلم السريانية لغة يهود .
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
موضوعه : الفريضة الغائبة اليوم هي فريضة الترجمة فهي قنطرة العبور بيننا وبين الناس : ثمة أمر أساسي لايجوز لنا الاختلاف عليه مطلقا وهو أن كلمة الله الاخيرة للبشرية التي جاء بها الاسلام في القرآن الكريم والسنة النبوية ليست خاصة بالمؤمنين بها سوى خصوصية مسؤوليتهم على تبليغها للناس كافة ويحسب بعض الناس أن القرآن بما إحتوى من نداءات تقرب من مائة تخص الذين آمنوا هو كتاب المؤمنين وقبل ذلك ينسى كل واحد فينا نفسه قبل إسلامه أو التزامه بالاسلام كأن لم ينصب الناس من حولك يرجون فيئك إلى الله سبحانه فلما فئت أغلقت باب الهداية ولم تحسن سوى رمي الناس بالكفر والضلال والسفاهة والظلم والفسق والشبهة والاعراض والناظر في القرآن الكريم
يلفى أنه يخاطب الناس لفظا ومعنى بقدر مخاطبته للمؤمنين سيما في جانبه المكي المعول عليه في إنشاء الايمان وتحرير العقل ولو رجعت مثلا إلى سورتي يونس والحج فحسب لالفيت عجبا فيونس نبي عربي والحج عبادة إسلامية فما هو السر ؟ والامر ذاته ينسحب على أهل الكتاب خاصة في سورة آل عمران التي كادت تتمحض لهم أي النصارى بالكلية فمن يبلغ كل تلك النداءات للناس ولاهل الكتاب ؟ ألسنا نحن مكلفون بذلك ؟
حركة الترجمة في الاتجاهين سفير بيننا وبين الناس تدير الحوار وتزيل سوء الفهم : سوء الفهم اليوم بيننا وبين الناس أجمعين طبق الافاق بفعل تحول العالم بأسره إلى غرفة نوم واحدة صغيرة تجمع ستة مليارات من البشر ويخطئ المسلمون حين يظنون أن العيب في غيرهم الذي لا يجهد نفسه لحسن فهمهم أذ هم أنفسهم لم يفعلوا شيئا كثيرا لفهم غيرهم وحسبك أن تعلم أن أغلب الشعوب الاروبية اليوم مثلا وفق إحصاء أخير تظن أن الفلسطينيين هم من قام بالاعتداء على أرض الاسرائيليين وذلك لا يناقض ما قالته ذات تلك الشعوب في ذات الفترة الزمنية تقريبا من أن شارون هو سبب حالة الطوارئ السائدة في العالم وليس من سبيل لازالة سوء الفهم بيننا وبين الناس سوى القيام على حركة ترجمة واسعة النطاق تتبناها مؤسسات رسمية وشعبية كبيرة ويدعمها أهل الخير بأموالهم ويتفرغ لها المختصون إختيارا للمادة وترتيبا لاولوياتها وتكون في الاتجاهين من المؤلفات الباسطة لمفاهيم الاسلام بأي لغة كتبت إلى اللغات العالمية السائدة ومن هذه إلى اللغات الاكثر إستخداما كالعربية والتركية والفارسية والفرنسية أما البكاء على فقدان الحوار بيننا وبين الناس وعزوف السياسيين منا ومنهم عنه وتهرب رجال الدين منهم عنه وما إلى ذلك فلا يجدي لسبب واحد بسيط وهو أننا بحاجة إلى حوار الناس في كل الاديان وبكل اللغات وفي كل الاصقاع ومهما كان قربهم أو بعدهم عنا فنحن المنتدبون من الاسلام كلمة الله الاخيرة إلى الناس إلى حوار الناس وهدايتهم وتقديم بضاعتنا إليهم وكل حوار لا يستفيد منه سوانا فوق هذه البسيطة كائنا ما كان رد فعل طرف الحوار .
لا نجاح لدعوة تهمل لغة الدنيا اليوم وخاصة الانقليزية : الدنيا اليوم تتكلم إنجليزي لا عربي أحببنا أم كرهنا ولم يأت ذلك صدفة بل جزاء وفاقا فالمنتصر ولو بقانون الغلبة والقوة والقهر يفرض دوما لغته ولا يجدينا التغني بلغة القرآن وإبراز محاسنها لان ذلك ليس محل خلاف بيننا ولكن يجدينا تعلم الانجليزية تعليما يمكننا من نشر الدعوة بلسانها ترجمة في الاتجاهين وحوارا ولا يجدينا ذلك لو إقتصر على مئات أو آلاف من الدعاة بل يجب علينا رفع شعار نعمل على تحقيقه وهو أن الداعية الجاهل بالانجليزية يشكو نقصا حادا لا بد له من تلافيه وأن الاندماج بدعوتنا بين الناس لا يتم سوىعبر الانجليزية وبعدها لا بدلنا من الفرنسية التي يتكلم بها نصف سكان القارة الافريقية وهي لغة التنصير الذي يبتلع المسلمين هناك وبعدها لا بد لنا من الاسبانية لغة القارة الاميريكية الجنوبية بأسرها سيما أننا نشترك معهم وهم ملايين مملينة في لعنة العالم الثالث والحقيقة أن قائمة اللغات التي لابد لدعوتنا منها طويلة فمنها التركية التي يرطن بها سائر المسلمين في الجمهوريات السوفياتية المستقلة وعين تركيا عليهم صباح مساء خاصة أن إستعادة التركية للحروف العربية ليس مستحيلا بعد قرون أخرى تتغير فيها المعطيات الاستراتيجية وبالمناسبة فإن عنايتنا بما نسميه تجوزا لتيسير الفهم ليس إلا اللغات الاسلامية كالفارسية التي تستخدم الحروف العربية والاردية وأهلها يعدون بمئات الملايين متواضعة جدا وليست اللغات الاروبية الاخرى سوى الانجليزية والفرنسية والاسبانية بحكم سيطرتها الدولية ببعيدة عن إحتضان دعوتنا . وللاتراك مثل جميل جدا يقول بأن صاحب اللسان الواحد أي اللغة الواحدة هو رجل واحد وصاحب اللسانين هو رجلان ولا نعدم لو إجتهدنا وخططنا وصبرنا أن يكون منا ألف داعية في العقد القادم كل واحد منهم ثلاثة رجال أم تظنون أنه عليه السلام لو كان بيننا اليوم هل تراه يأمرنا بالسريانية أي العبرية أم بالانجليزية أم بأكثر من ذلك ؟
حذق اللغة يخدم الحوار والترجمة والدعوة والاهم من ذلك كله معرفة الناس حضارات وثقافات: يظن بعض الناس أن حذق لغة ما يكفي لاتقاء شر أهلها وينسبون المعنى إليه عليه السلام ولست مطلعا بما فيه الكفاية على صحة الرواية غير أن المؤكد حال صحتها أن أكثر الناس اليوم يغرس فيهم ذلك تصورا سلبيا متشائما مغلوطا عن الناس فلا يندفع من إندفع منهم بمحض الصدفة دون تخطيط دعوي إلى تعلم اللغة سوى لابطال مؤامرات أهلها ضدنا وأنت ترى معي الحيز الضيق الذي حشر هؤلاء أنفسهم فيه والاسلام أوسع من ذلك بكثير حتى لو ضم إليه هذا المعنى الذي لايتفق معه كثيرا . والحقيقة أن حذق أي لغة يمكن من أمر آخر مهم جدا لا يجده سوى من عالجه وعاشه وهو أن اللغة هي لون تفكير أهلها ووعاء حضارتهم والمعبر عن ثقافتهم وبنك تقاليدهم وعاداتهم وليس ذلك في جانب الامثال منها فحسب ولكن كذلك في طريقة بناء جملتها وتوالدها والتعبير عن سائر المواقف والمشاهد والحاذق لها بإختصار يصبح أكثر إدراكا لطريقة تفكير أهلها يما يناسبه من التفكير عند حوارهم والتفاعل معهم بذات الطريقة فلا يصبح غريبا بينهم وهذا أمر أول من يدركه من عاش بينهم عقدين من الزمان فما فوق من أهل التفكير والاهتمام بقضايا الانسان لا مجرد من يعيش بينهم لجمع المال أو التلذذ بالطيبات أو الخبائث ولك أن ترصد هذا في الحوارات الكبيرة أو الموسعة وهذا الشرط لابد منه لحسن فهم الناس فحذق اللغة وحده لا يقوم على ذلك ولك أن تتعرف على ذلك مثلا في مناهج تفسير القرآن الكريم فالناس مثلا لا يفهمون من قوله " ولاتجعل يدك مغلولة إلىعنقك ولا تبسطها كل البسط " لو ترجمت حرفيا شيئا لذلك يجب ترجمتها معنويا ذلك أن الاية تتحدث عن معنى بلغة قوم مخصوصين وهذا كثير في سائر اللغات فبالخلاصة فإن على المثقفين المسلمين في أروبا والغرب معرفة الناس من حولهم حضارات وثقافات وتقاليد وعوائد وتاريخا ومكونات نفسية وطرائق في التفكير والسلوك فإن ذلك يساعد على حسن الفهم ومن ثم حسن الحوار وكسر حواجز سوء الفهم فإذا قمنا بذلك فإنه آن لنا أن نقول " إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء " أما قبل ذلك فلا .
ترجمة القرآن الكريم لا تعفينا من ترجمة معانيه وتفاسيره وسائر شروحه وخاصة الموضوعية : يظن بعض الناس أن ترجمة القرآن الكريم سواء ترجمة معاني أو حرفيا يعفي المسلمين من ترجمة ما سواه وهو خطأ ليس لتلافي نقائص تلك الترجمات فحسب بل لان القرآن الكريم لا يتناول موضوعا ما فيوفيه في سورة أو موضع فضلا عن آية أو سياق وإنما يقوم على ما يسمى التثنية أي عرض أفكاره مثنى مثنى في مواضع متعددة ومتباعدة لذلك كان التفسير الموضوعي اليوم خادما لتقديم الصورة القرآنية المتكاملة في موضوع ما عند العرب وذات الامر يجب أن يقدم لغيرهم ولا يتم ذلك سوىعبر ترجمة الكتب التي تتناول قضية ما من خلال القرآن ولك في كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة خير مثال سيما أنه إلتزم الصحيح من السنة والامثلة كثيرة لا تحصى وهو من شأنه مساعدة غير العربي على رسم صورة واضحة صحيحة عن موضوع ما إنطلاقا من القرآن وصحيح السنة .
الخلاصة هي إذن أن الدعوة الاسلامية فريضة وضرورة وهي معيار خيريتنا وما لايتم الواجب إلا به فهو واجب وعليه فإن القيام من أهل الاختصاص اللغوي والشرعي والفكري والشعبي والرسمي والمالي على حركة ترجمة واسعة منظمة طويلة المدى في الاتجاهين وخاصة للغات العالم اليوم كالانجليزية والفرنسية والاسبانية فضلا عن اللغات المسماة إسلامية واللغات الاروبية ... واجب مفروض يحقق أكثر ما نحن اليوم بأشد الحاجة إليه وهو : إزالة سوء الفهم بيننا وبين الناس دعما للحوار الحضاري بين الناس وجهل الناس بنا لا يساويه أو يفوقه سوى جهلنا نحن بهم والترجمة خير مفاتيح الحوار وحسن الفهم وإزالة أسباب التوتر
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة السابعة والثلاثون
أخرج البخاري وإبن ماجه وغيرهما عن أبي هريرة عليه الرضوان أنه عليه السلام قال " قال الله تعالى ثلاثة أنا خصمهم : رجل أعطي بي ثم غدر ورجل باع حرا فأكل ثمنه ورجل إستأجر أجيرا فأستوفى منه ولم يعطه حقه ".
ــــــــــــــــ
حديث قدسي شواهده كثيرة في القرآن منها " أوفوا بالعقود " و" ولقد كرمنا بني آدم " الخ ...
موضوعه : التقوى خير حارس لقيم الوفاء بالعقود وكرامة الانسان والعدل الاجتماعي : لو يعلم الناس عمق الجراحات الثخينة التي خلفتها العلمانية وأخواتها وبناتها في جسمنا الذي للتو بالكاد يتخلص من بعض نكبات الركود وهجمات الانحطاط لما فرط واحد منا بعد اليوم في معلوم من الدين بالضرورة حسن فهم يثبته أمام العاصفات الهائجات وحد أدنى من التصديق العملي قدر المستطاع يزين حياته ويرشد بوصلة إتجاهه فيها إلى مرافئ الامان وشطآن السلام ولعل أكبر لطخة خلفتها العلمانية بما هي فصل نكد بين الدين والحياة أحيانا أو بين الدين والشأن العام للناس أحيانا أخرى هي أن قضايا الوفاء بالعقود وأداء الامانات والعدل الاجتماعي والتنمية الاقتصادية وسائر ما يتصل بالحياة العامة للناس تنتمي إلى تدبيراتهم وتخطيطاتهم هم دون أدنى تدخل من وحي سماوي لا في مستوى الاصول والمقاصد والكليات ولا في مستوى الفروع والجزئيات والذيول وهو التفكير الذي أدى فيما بعد أو قبل إلى القول بأن الاديان بأسرها وأولها الاسلام لا يحض على سوى الاسترقاق والاستعباد والظلم والحيف والوقوف إلى جانب المترفين والملوك والنبلاء ولا ينمي رصيد المظلومين في هذه الدنيا بسوى الاغراء بالاخرة والتسلية عنهم بجنة الخلد ثم تطور الامر إلى أيامنا العجاف هذه فأصبح الاسلام لا يحض على سوى التطرف الفكري والارهاب الاعمى ونحن على وشك ولوج مرحلة يحاكم فيها مؤمن يسكن شغاف الجبال يتلو في الفجر ما يفيد أنه على الصراط المستقيم وغيره من المغضوب عليهم أو الضالين وآخر يخرج زكاة ماله من بيدره يوم حصاده فكلاهما يحرض على الارهاب الدولي هذا بلسانه وذاك بماله ولم لا يكون الاعتقاد في الغيب والتضرع إلى قوة غيبية لا يراها أحد منا من فوق جبل عرفات بثا للتفرقة العنصرية والدينية بين الناس وتفكيكا لعرى المجتمع الدولي القائم على حقوق الانسان والديمقراطية وليس ذلك من وحي قلم متشائم أو شاعر ردحت به أوهام الظنون بعيدا بل هو مصداق لقوله " ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن إستطاعوا " بل هو إمضاء لارادته سبحانه القائمة على سنن التدافع الذي به يتميز الطيب من الخبيث والغلبة لاقواهما .
كفى قيم الوفاء بالعقود والعدل الاجتماعي وكرامة الانسان فخرا أنها تخاصم بقوة الله : لم يرد هذا التعبير كثيرا لا في القرآن ولا في السنة وليس نصا فحسب بل حتى معنى فإن من عادة القرآن والسنة ترتيب غضب أو عذاب أو حد أو عقاب أو لعنة أو إزدراء وإهانة على مرتكبي كبائر الاثم والفواحش أما إذا ما إستحق الامر إعلان الحرب كما هو في الربا ومعاداة ولاية الله سبحانه أو إعلان الخصومة فلابد أن يكون غضبه سبحانه قد أنذر بالاهلاك لان المخاصم بفتح الصاد لم يعد في دائرة المخالفين العاديين بل دفع بنفسه إلى محادة قوة لا تحاد وهي قوته سبحانه ولك أن تتصور للحظة صغيرة جدا أن كائنا من كان ولو كان سائر الانس والجان يقف ليخاصم الله سبحانه وهو سبحانه يعلن خصومته له . تصور ذلك في نفسك . ألست تجد هلاكا مريعا وميتة لعن لمن فعل ذلك رغم الانذار والامهال ؟ وخصومة الله سبحانه هنا تعني أمرين أولهما أنه مهلك أولئك يوم القيامة بالعذاب الشديد وهو عذاب لا ينال سائر المخالفين ولا أهل النار فهي دركات ومن مقتضيات هذا المعنى الاول كذلك تسليط عيشة ضنكة في هذه الدنيا على هؤلاء حتى وهم في حلل يسارهم وأبهة عروشهم كلما كانوا يعيشون والخوف يملا أجوافهم أما المعنى الثاني فهو أن الله بإعلان خصومته لهذا الصنف من الظالمين يكلف عباده الطائعين بإعلان تلك الخصومة الالهية ذاتها وتحويلها إلى واقع لانه يبتلي بعضنا ببعض وكل ما أمر به حيال الناس إنما كلفنا نحن به سيما وقد إنقطعت المعجزات النبوية وجاء القرآن الكريم يعلن أن سائر المعجزات قد ولى زمانها ولم يبق منها سوى معجزتين إلى يوم القيامة : معجزة القرآن بهديه ونظمه وسائر ما حواه ومعجزة الانسان بما هو قدر إلهي ماض وسنة رحمانية مطردة وسبب من أسباب إرادته سبحانه.
المؤمن مطالب إذن بإعلان الخصومة ضد هذا الضرب من الظلم بإسم الله سبحانه : أول ما سيثير فزع الذين إمتلات أجوافهم بغضا للهدي الاسلامي سواء عن عدم فهم حسن أو عن سوء مضمر لفرط ما تشربت نفوسهم الافكار المعادية للفطرة هو القول بأن المؤمن يخاصم بإسم الله كيف والحكم الديني التيوقراطي الذي بالكاد دفعوا به من أبواب المملكة البشرية ينذر بالعودة من شبابيكها ولا بد من توضيح مناسب هنا مفاده أن الحديث بإسم الله يعني أمرين في المطلق أولهما ما هو مبثوث بيننا اليوم ونحسب أننا أشد حربا عليه ألف مرة ومرة من أولئك الذين يتخذونه تعلة واهية لطرد الاديان سيما الاسلام خاتمها والمهيمن عليها وهو مزاولة الظلم بتزكية إلهية وهو أشد أنواع الظلم والقهر طرا ولا شك أن كل حر مهما كان متدينا تقيا عابدا يفضل العيش في جمهورية علمانية بالمعنى الصحيح للعلمانية المحايدة حيال الاديان والمعتقدات الشخصية والشعائر التعبدية تقيم حدا أدنى من العدل والحرية وكرامة الانسان على العيش في أخرى تحكم بإسم الاسلام وشريعته وهي لا تزيد على تحويلك عبدا للسلطان فلا عقل ولا إجتهاد ولا إختلاف. أما ثاني معاني إسم الله فهو الحركة في الحياة إصلاحا من منطلق فهم معين لكتاب الله وسنة نبيه عليه السلام يقوم على التوحيد وعلى كرامة الانسان وعلى تسخير الدنيا لسعادته وعلى الجهاد من أجل قيم الحق والعدل والحرية ولم الاستنكاف من القول بأن ذلك العمل هو بإسم الله سبحانه ونحن مطالبون بالقراءة أي بالعلم بإسم ربك ونبدأ سائر حياتنا جملة وتفصيلا بإسم الله أما لو نجحت العلمانية في دحرجتنا إلى حد إستبعاد إسم الله مبنى ومعنى من أعمالنا فتلك بداية الطريق: طريق أفولنا وطريق تألقها .
العمل على درب تحرير الانسان بالتكريم والعدل وأولوية العقود غير الظالمة بين الناس جهاد : يجب الاقرار منا جميعا بأن الجهاد ذروة سنام الاسلام نيل منه طورا منا بسوء فهم وتضييق لدائرته وصورته وهيئته ومقصده وطورا من عدوه الاصيل وتلك هي مهمته فاللوم علينا ومن صور ذلك التضييق لمجالاته إستبعاد العمل السلمي فرادى أو ضمن مؤسسات بالفكر والعلم لبث ثقافة الاسلام في قضية الانسان تحريرا وتكريما وكيف يكون الامر على غير ذلك والرحمان سبحانه هنا ينصب نفسه خصما خصيما لمن باع حرا وأكل ثمنه ولمن إستأجر أجيرا فلم يوفه حقه ؟ والاولى بنا أن نفهم الجهاد على أنه دوائر متكاملة لا متقابلة وليس اليوم أجدب لثقافتنا وأقحط لعملنا من ضربين من التفكير أحدهما يستبعد التكامل لحساب الانفصال والاخر يستبعد الشمول لحساب التجزئة .
من صور ذلك الجهاد تفعيل المجتمعات ضمن مؤسسات سياسية وحقوقية وإجتماعية وإغاثية:إذا إتفقنا أن إعلان الخصومة الالهية هنا تعني ذروة غضبه سبحانه وأن ذلك لا يترتب من لدن الحكيم سبحانه إلا على ما كان ضرره بالانسان فادحا لا يجبر وأن ثلاث صور معينة لذلك هي غدر العقود وخيانة الامانات وإسترقاق الانسان وغصب ماله وأن إعلان الخصومة الالهية تعني فيما يلينا إعلانها من جانبنا لاننا المستأمنون على تنفيذ إرادته سبحانه وأن ذلك جهاد يبوأنا ذروة سنام المجد ... فإن من صور ذلك العمل الجماعي الدائب من أجل تفعيل المجتمعات في شتى الاقطار في مؤسسات شعبية وحكومية سياسية وحقوقية ونقابية وإجتماعية وإنسانية وإغاثية وفكرية وثقافية وإعلامية تقوية لمطالب الاجتماع والوحدة وفرضا لمطالب سن التشريعات الاجتماعية العادلة والتغطيات الاجتماعية المكرمة للانسان ولمطالب المشاركة الشعبية الواسعة في إختيار الحكام والمسؤولين ومحاسبتهم وعزلهم ومطالب التظلم عبر المؤسسات القضائية المستقلة والعادلة قانونا وممارسة وتنفيذا ومطالب حرية الكلمة والتعبير ومطالب التضامن الاهلي في السراء والضراء .
الخلاصة : الله خلقنا وأورثنا الارض مسخرة لنستعمرها وإبتلانا بسنن وأسباب منها التعدد والتدافع لا تصلح حياتنا بسواها وأعلن خصومته ضد كل صور إسترقاق الانسان في عقله وفي ماله وفي حرية عقوده وتصرفاته وإستأمننا على تنفيذ تلك الخصومة وهو جهاد عظيم لا ينقطع زمانه وخير سلاح فيه تفعيل المجتمعات ضمن مؤسسات سياسية وإعلامية وإجتماعية وثقافية ونقابية وتربوية تشد عود الجماعة وتنشر ثقافة الحرية والعدل والكرامة وتضيق من مساحات التظالم وتنتزع التنازلات من المؤسسات الدولية والاقليمية والمحلية القائمة على الظلم يوما بعد يوم مقابل التضحيات والاعمال والمصابرات والمغالبات جيلا بعد جيل ولا بديل عن ذلك بسوى الاستسلام لطغيان خصماء الله سبحانه وعربدة الظلم ويومها نورث الاحفاد حشفا وكيلة سوء
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الثامنة والثلاثـــــــــــون
أخرج الشيخان عن حذيفة رضي الله عنه أنه عليه السلام قال" أحصوا لي كم نفسا يلفظ الاسلام".
ــــــــــــــــــــــ
من شواهده " لقد أحصاهم وعدهم عدا " وغيرها كثير .
موضوعه : ليس الانسان رقما هائما على وجه الارض بل هو مادة التخطيط والاحصاء وهدفه: الناظر في سيرة محمد عليه السلام تنبسط أمامه مقدمات التخطيط البشري جارية تسري كيف لا والوحي الكريم يربيه على أن سائر ما في الكون مما علمنا ومما لم نعلم بقدر مقدور حجما وزمانا ومكانا وحالا لا بل كيف لا وهو أول من تعلم من القرآن الكريم أن التخطيط الالهي لسريان الخلق والكون بأسره وفق إرادته سبحانه من جهة ووفق ما تحتاجه الحياة الانسانية من جهة أخرى على قانون الزوجية لا بل كيف لا والارادة الرحمانية تقول " ولو بسط الله الرزق لعباده لبغوا في الارض ولكن ينزل بقدر ما يشاء " كما تقول " يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما " وغير ذلك كثير ليعلمنا أن الله أعد الكون للانسان وفق نظام بديع متناسق خاضع للتخطيط والاحصاء والتقدير وهو يعلمنا ذلك لنتعلم منه درسا في تصريف حياتنا لا لنتسلى بسماعه أو لنكتفي منه بتسبيح الله والاقرار بعظمته فذلك أول الدروس تزكية للنفس ولكن العقل له حظ منها ولا ريب وهو حظ الفقه والعلم وللارادة من ذلك أيضا حظ وللاسرة وللجماعة وذلك هو بعض معاني صمدانيته سبحانه بمعنى صمود كل شئ إليه محتاجا أي حجه إليه ملبيا بالنفس ومتعلما بالعقل ومتشبها بالارادة ولو نظرت في القصص القرآني النبوي وغير النبوي الغابر منه والحاضر لالفيت أن التخطيط الرحماني سابق لاعداد الانسان الذي أنزل الجنة ليحيا في الارض بعد ذلك وريحها يداعبه لا يفارق إلا شقيا أو محروما وسابق لاعداد النبوات وأنظر إن شئت في قصة موسىعليه السلام الذي كان قتله لمن ليس من قومه سببا إراديا إلهيا في توليته الرسالة بعد خروجه من مصر وزواجه من بنت شعيب ولك في التخطيط الالهي لنبوة محمد عليه السلام عبرة وأي عبرة تخريجا طاهرا من ولد آدم خيارا من خيار على مدى أحقاب من الزمن لا يعلمها إلا الله سبحانه وما سوى ذلك كثير تقف الاقلام دونه كليلة والخلاصة في ذلك بأسره أن الانسان في التخطيط الالهي للحياة والكون ليس رقما في ثوب ولا في دابة هائما على وجهه في الارض لا يعرف من أين جاء وكيف ولا إلى أين يسير ولا لم كماقال أبوماضي وله اليوم بيننا أحفاد وحكومات ومنظمات بل الانسان وفق ذلك التصور كائن محرم مصون مكرم يخطط لسعادته ونبذ شقوته ويعلم كيف يحيا فالاحصاء والتخطيط والعد إنما هو من أجل الانسان وهو هنا عليه السلام يعلمنا أن الانسان عنده هو مادة الاحصاء والتخطيط وهو غايته وهدفه في الان ذاته فالانسان قوة وكثرة وحالا وسائر ما تترى عليه المتغيرات يشكل قوة تعمر الارض وتبطل الباطل وتحق الحق وعلى أساس تلك ا لقوة البشرية تعقد التحالفات والمصالحات وتشن الحروب دفعا للظلم وفتحا لحرية الكلمة وينتصر للمستضعفين وتدشن مشاريع النماء والرخاء وعلى ذلك المنطق المكرم للانسان بنى الاسلام فلسفته على أساس تكثير النسل لان في كثرته قوة وعلى تحرير العقل وتزكية النفس وبناء لحمة الجماعات والشعوب والقبائل وسائر الروابط فالانسان في الاسلام ليس فما فاغرا يستهلك دون إنتاج ولا عطاء كل على مولاه أينما يوجهه لا يأت بخير بل هو معول بناء في الارض فلحا يستخرج خيراتها بإسم ربه فيأكل ويتصدق وينخرط في مشاريع الخير أما حين تعوز الظالمين مصاصي الدماء الحيلة في مزيد من إمتصاص الدماء المحرمة فإنهم يعمدون إلى حيلة شيطانية سموها تحديد النسل بحكم شح الموارد وهم يجهلون أو يتجاهلون أن الانسان مورد بل هو سيد الموارد الذي يجني خيراتها ويبنيها بعقله ويوزعها بعدله غير أن المسلمين اليوم منخرطون في تلك الحيلة التي تهد كيانهم وتبيد خضراءهم وتحصد رعيهم وتأكل ريعهم كل ذلك وهم خمس البشرية فماذا لو عملت فيهم تلك المخططات مباضعها المهلكة فأصبحوا بعد عقود أو قرون قلة قليلة لا تزيد على بضع ملايين أليس عندها لا يزيدون على كونهم عبيدا أنكادا وأجناسا أنجاسا تسترقهم الهمجية الغربية بإسم الديمقراطية وحقوق الانسان فلا ترضى بهم حتى ذرا صغيرا تطأه الاقدام وهو يلتقط فتات الموائد الفاجرة . فهل من حركة ثقافية إسلامية صحيحة تضع أمر الانسان وأمر تحديد النسل وتنظيمه وسياسات التنمية العمرانية في إطارها الاسلامي غير طاغ ولا خاسر؟
الدرس النبوي : الاحصاء بداية صحيحة لكل تخطيط ناجح : يمكن أن تقول أن ذلك بديهية البديهيات ولكن يجب أن تعلم أن ما جعل ذلك من البدهيات هو تقدم التجربة الانسانية وتطور العلوم التقنية في ميادين التخطيط ولكن لتدرك قيمة ذلك في ذلك ا لزمن الذي يتوزع فيه الناس وهم أقلية قليلة على مساحات شاسعة من الارض البيداء ذات الجبال الصخرية السوداء عليك أن تفهمه في إطاره الزماني والمكاني وذلك هو مفتاح كل فهم سليم غير منزوع من سياقه ولا مسقط على واقع آخر صلته به واهية ضعيفة . ومعلوم أن نظام الاحصاء السكاني لم تأخذ به البشرية سوى منذ عقود أو قرون قليلة ومعلوم كذلك أن كل المخططات الانمائية في المستويين المعنوي الروحي من تعليم وثقافة وفكر وفن والمادي إنما تعتمد على الاحصائيات والارقام الصحيحة الثابتة المفصلة والمجدولة والمرتبة حسب أكثر ما يمكن من معايير التوزيع والتقسيم ولاشك أنه عليه السلام لما أمر بالاحصاء إنما كان يخطط لامر ما تحتل فيه القوة البشرية مكانتها الاولى .
المسلمون اليوم أقل الناس عناية بعلوم الاحصاء والتخطيط وأكثرهم إهمالا لانتاجية الانسان : لا يجوزلنا التوقف هنا عند أمره عليه السلام بالاحصاء لان التوقف عند ذلك ضرب من الحمق إذ الاعمال بمآلاتها ومقاصدها وغاياتها وليس الاحصاء مهما يكن صحيحا ودقيقا وثابتا وعلميا سوى وسيلة من وسائل علم التخطيط وليس التخطيط سوى وسيلة من وسائل التنمية البشرية روحا ومادة وليس ذلك كله سوى وسيلة من وسائل تعمير الارض وإحلال التعارف بين الناس وإفشاء السلام ونبذ الحرب وتحريك الحياة . ولك أن تنظر اليوم في حالنا بين الامم مقارنة مع ما يجب أن نكون عليه بين قرآن أول ما نطق بقوله " إقرأ بإسم ربك " وبين نبي كريم عليه السلام قال " أحصوا لي كم نفسا تلفظ الاسلام " وليس لك أن تبالغ في القول بأن العوائق الخارجية كانت فوق الحصر والقوة علىنحو عطلت فينا كل منحى للتقدم والنهضة وإكتساب القوة بسائر مظاهرها لان المبالغة في ذلك لا تجدي كثيرا وإنما الذي يجدي حقا هو ما هو حقيقة هويتنا حيال قضايا الاحصاء والتخطيط والتقدم والنهضة والنماء والرخاء والانسان والجماعة والقوة والشورى والصناعات والشهود والامامة والقيادة والكرامة والعدل والتحرر وماهي حقيقتنا نحن اليوم بثقافتنا وبسلوكنا حيال ذلك وكيف نستعيد الالتحام بين المثال المأمول والواقع غير المرضي تحديا للعوائق الداخلية والخارجية على حد سواء والتوسط مظنة ا لصواب أبدا . والاسئلة أكثر من أن تحصى فمنها كم نحن اليوم وكم منا يصلي بإنتظام وكم من أمي ونصف متعلم وجامعي وماهي أهم إتجاهات ا لتفكير فينا حيال كثير من القضايا الملحة وما هو معدل الاعمار فينا وحضور الطفولة والشباب والمرأة واليد العاملة وأكثرها عطاء في الاقتصاديات ونسب المديونيات ومصادرها وأسبابها وموانع الحد منها والمعطيات التاريخية والجغرافية والقيمية والمناخية والبشرية والمائية في أوطاننا وقناطير مقنطرة من الاسئلة التي تتطلب إحصائيات صحيحة ثابتة دقيقة تبنى عليها المخططات الانمائية ولو قدر لك أن تعيش لاشهر قليلة في أي مدينة ألمانية مثلا وإطلعت على عناية القوم هنا بعلوم الاحصاء والتخطيط التي لا تفرط حتى في كميات الناموس التي يمكن أن تجتاح واديا لادركت البون الشاسع بيننا وبين الناس ولرددت مع الشاعر " كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول ".
الانكى من ذلك أن ثقافة الاحصاء والتخطيط في أذهان إسلامية كثيرة شغب على القدر: ربما تكون تلك الثقافة البائسة في طريقها إلى الزوال بنشوء عوامل كثيرة منها التعليم والاعلام وتقارب الناس مكانا بحكم الثورة التقنية وثورة الاتصالات ولكن أردت التذكير بأن أمة تركها نبيها عليه السلام على ثقافة الاحصاء والتخطيط وكتابها معها يأمر بالقراءة والعلم ثم تدركها تلك الثقافة التي لا تليق بالحشرات التي تعمل بثقافة الاحصاء والتخطيط كالنمل والنحل لهي أمة حفرت بينها وبين التقدم والنهضة أخاديد غائرة لولا أنه سبحانه كتب عليها التجدد والاصلاح .
أين نصيب الحركة الاسلامية من علوم الاحصاء والتخطيط ؟: كان هذا السؤال هو مرادي من الحلقة بإعتبار أن الحركة الاسلامية المعاصرة مستأمنة على سعادة الانسان عقلا ونفسا وعلى حماية الاوطان لحمة وسدى بحكم ما تختزنه من مشروع خام مؤهل لذلك لا هو جاهز للتطبيق الفوري في كل مجال ولاهو غائم ملامح الهوية غير متميز ولكن حان وقت التوقف ويجدر بي طرح السؤال على كل مهتم بالموضوع فلي معه سجالات حوار مقبلة إن شاء الله تعالى .
الخلاصة : الحركة الاسلامية المعاصرة مسؤولة عن إنتاج الاحصائيات الصحيحة الدقيقة المفصلة في أكثر مجال ممكن ودون ذلك يظل تخطيطها بناء ورقيا على صفحة ماء فالزمان لغته الاحصاء والتخطيط وليس رسم الاماني ونثر الزفرات .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة التاسعة والثلاثون
أخرج البخاري عن إبن عباس عليهما الرضوان أنه عليه السلام قال في شأن الايام العشر الاولى من ذي الحجة " ما من أيام العمل الصالح أحب فيها إلى الله من هذه الايام فقال الصحابة ولا الجهاد قال ولا الجهاد إلا رجل خرج في سبيل الله بنفسه وماله فلم يعد بذلك من شئ ".
ــــــــــــ
موضوعه : الزمان مناسبات مختلفة الاسعار ومواسم مختلفة الرخاء وفرص متاحة لكل الناس : ليس الزمان متساوي القيمة بل مختلف القدر وكذلك المكان والانسان كسبا لا أصلا والحكم من ذلك كثيرة منها توسيع دائرة التعدد ومنها إتاحة الفرصة للانسان المحاط به لمرض أو فسق أو فقر أو ما سوى ذلك للحوق بالناس في مواسم الحصاد الغانمة فمن فاته خير هذه السنة تتيح له التالية ما فاته ومن غنم خيرها تقدم عليه فرصة موالية لمضاعفة الغنم وذلك من معاني رحمته بالناس سبحانه سيما أن سعر كل زمن وكل مكان وكل عمل وكل شر معلومة فلا غرر في بضاعة الله سبحانه التي بينت الاشهر الحرم وفضل الاماكن الحرم والانسان مثله في ذلك مثل التاجر المضارب برساميله في الاسواق فبالخلاصة فإن سنة التفاضل بين سائر الكائنات والموجودات في خدمة الانسان الذي تعتوره سائر مواقع الفلاح وتخترمه مواضع العسر ولو كان كل ذلك متساويا في الكسب لا في الاصل طبعا لانتفى معنى الابتلاء والاصطفاء والتنافس ولغرقت الحياة في أتون من السلبية والركود والتماثل الذي لا يحرك متغيرا ولا يطور جامدا ولا يكسب معدوما ولا يغني فقيرا ولا يعلم جاهلا ولا يؤمل يائسا .
أخصب المواسم عشريتان : عشرية ليالي رمضان وعشرية أيام ذي الحجة : ثمة أمر في البداية لاحظته منذ سنوات غير بعيدة غير أني لم أقف له على حكمة في نفسي أما في ميزانه سبحانه فهو مملوء حكما وليس ذلك سوى أن أرفع مواسم الحصاد بالنسبة للمؤمن الساعي إلى خير نفسه وخير الناس تنتمي كلها إلى النصف الثاني من السنة فالانسان يقضي صفر والربيعين والجمادين دون حرمة لزمان ولا لعيد معتبر وهو ما يساوي النصف الاول من السنة غير محرم وما إن يهل رجب حتى تهجم عليه مع بداية النصف الثاني من السنة سائر الاعياد والمناسبات بأشهرها الحرم الاربعة وبرمضان سيما عشريته الاخيرة الحاوية لافضل ليالي العمر طرا وهي ليلة القدر في أوتارها وذلك عدا شعبان وتتجدد مع ذي القعدة وذي الحجة الحاوي لافضل أيام العمر طرا وهو يوم عرفة في ختام عشريته الاولى موضوع حديثنا لهذه الحلقة وذلك عدا شوال والناظر في ذلك يجد أن الفاصل الزمني بين أفضل ليلة وأفضل يوم أو بين العشريتين المباركتين ليس سوى شهرين ولاشك أن في الامر سرا ولكن ماهو ؟ وكأن المؤمن يخلد إلى ضرب من العبادة المعتادة في حدودها الدنيا أو بما تيسر من نوافلها فضلا عن عباداته العامة الاخرى سعيا في الارض وجهادا علىمدى خمسة أشهر كاملة أي نصف السنة تقريبا ثم يجلب عليه نصفها الثاني بعدد قياسي من المناسبات والاعياد ومواسم الخير وجني الحصاد ناهيك أنه يؤدي فيها فريضتين كبيرتين وهما الصيام والحج وربما الزكاة لمن يرتب ذلك في رأس العام الهجري وليس ثمة فاصل زمني أبدا بين العبادتين الكبيرتين فبمجرد إنتهاء رمضان تبدأ أشهر الحج وهي شوال وذي القعدة وذي الحجة . ومعلوم أنه سبحانه أقسم في سورة الفجر بإحدى العشريتين .غير أنه من المؤكد أن التشريع في كل ذلك متناغم مع عبرة الختام والعبرة دوما بالختام في العمل وفي العمر خيرا كان أم شرا وهو بالمناسبة ليس تشريعا دينيا فحسب بل تشريع كوني وفطري ناهيك أن العقول أخذت به في التنظيمات التعليمية والتربوية مما ينبئك بأن الاصل النابع واحد أما من حرم النظرة التوحيدية الحازمة لاشلاء فرقها الظلم أو مزقتها التجزيئيات فقد حرم خيرا كثيرا . ولعل سر ذلك أن الانسان يختم عامه برتعه طويلا وعلى مناسبات متفرقة غير متباعدة كثيرا في مواسم الانتاج وفرة وجودة فرمضان بختامه والعام بختامه شهرا حراما وعشرية هي أرفع المواسم قدرا والمؤمن يختم عامه بالصيام ثم بالحج وربما بالزكاة أيضا فإن عاش للقابل منح فرصة من الراحة على مدى نصف عام تقريبا وإن مات مات على خير والله تعالى أعلم .
لاعدول عن نظرية إبن القيم في مراتب الاعمال أو فقه الاولويات : لاشك أنه عليه السلام عندما سئل ولا الجهاد أراد تثبيت موقع الجهاد في ذروة سنام العمل كيف لا والناس يجودون بجهودهم وأموالهم أما المجاهد فيجود بنفسه وروحه التي بين جنبيه وهي أغلى ما يملك فطرة مفطورة وإرادة منه سبحانه مرادة غيرأنه بعد تثبيت موقع الجهاد في الذروة والسنام عاد فثبت ما قاله قبل حين وهو أن أفضل زمن يحتضن العمل الصالح هو هذه الايام العشر من ذي الحجة وذلك حين أتى بصورة من الجهاد نادرة جدا وهي الخروج إلى الجهاد بالمال والنفس فلا رجوع منه لا بالنفس ولا بالمال وهذا يحيلنا إلى نظرية إبن القيم عليه رحمة الله سبحانه في مراتب الاعمال أو فقه الاولويات وذلك حين قال بأن الزمان والمكان والحال هي محددات أفضل العمل وكذلك أسوأه وذلك طبعا للمؤمن من ناحية وبعد تثبيت القاعدة الايمانية من ناحية ثانية والاركان العبادية المعلومة من ناحية ثالثة حتى لا يتسلل أعداء المشروع الاسلامي بإسم إنتحال المقاصد لهدمه من الداخل على رؤوس أصحابه وهم ينظرون محملقين من قلة فقه ولا نفصل هنا في الامر ويرجى الرجوع إلى مظانه المحققة وهي نظرية عظيمة الفائدة جدا لانها تجعل من الامة أمة ديناميكية متحركة لا تغفل متغيرات الزمان والمكان والحال قوة وضعفا وقلة وكثرة إستصلاحا وإستحسانا وسدا لذرائع الفساد وفتحا لذرائع الخير ومعنى ذلك أن المؤمن فردا وجماعة لا يحدثون ثورة في مسار حياتهم بمجرد دخول الايام العشر الاولى من ذي الحجة سوى بمعنى البحث عن الاحسان في الاعمال الراتبة من جهة وتسييجها بما يستطاع من الاعمال الصالحة الاخرى سواء تلك التي تتناول الشأن الشخصي كنوافل العبادات والتلاوة والذكر والتفكر والبر أو التي تتعدى إلى الناس نفعا كالسعي في حاجتهم فرحا وترحا فلا يجمد المجاهدون في فلسطين والعراق مثلا أسلحتهم بحكم هذا الحديث ولا يجمد طلبة العلم وطلبة المال أعمالهم كذلك ولكنه إحسان يزين الايمان ويعزر الاسلام وساعات إضافية من العمل أجرها يفوق الساعات العادية تمضى في سائر العمل الصالح وأصلحه طبعا ما كان متعدي النفع للناس بعد نفع النفس وخاصة تزكية وعقلا وإرادة .
عينات من العمل الصالح لتعمير هذه المواسم : لابد من إستصحاب فكرة أولية مهمة وهي أن العمل الصالح أكبر وأوسع من أن يحيط به محيط لان الاحداث غير متناهية والنصوص متناهية إذ لو ظللت تعدد العمل الصالح سواء فيما ورد في النصوص أو فيما تعلق به خيالك تصورا أو تجربة لما فرغت من ذلك ومن مشاكلنا في تديننا اليوم أن الوعاظ ومن في حكمهم يعينون قائمة إسمية في العمل الصالح لتعمير مثل هذه المواسم وكأنها وصفة من طبيب وهذا وهم والاولى الاكتفاء بالاشارة والتذكير وفتح الافاق أمام الاعمال متعدية النفع للناس والمحرضة على الاجتماع وتلبية نداء التوحد والاغاثة أما أن يعتكف الصالح على العمل الصالح الشخصي في هذه المواسم دون أدنى إهتمام بأمر الناس دعوة وهداية وتفكيرا وتعاونا وإغاثة وبعثا للامل وتوحيدا للصف وتوهينا لارهاب الظالمين فهو فهم سقيم لئن كتب صاحبه من الصالحين فإن مقام المصلحين قد فاته والله في كتابه إمتدح المصلحين أكثر من إمتداحه للصالحين ولئن كسب صاحبه لنفسه منه خيرا فإن خيرا أكبر فاته عملا بقاعدة أن الخلق عيال الله وأحبهم إليه أنفعهم لعياله أما أنفعهم لنفسه أهملهم لعياله فهو أدنى درجة .
ــ نافلة الصلاة جبرا لنقص المكتوبة ومن ذا الذي يقيم فينا الصلاة إقامة وأكثرنا يصلي ليس أكثر.
ــ نافلة الصيام وخاصة العاشر منها لغير الحاج الذي يفوت المنسك إن صام وهو ضعيف .
ــ التلاوة وخاصة مصحوبة بالتدبر والفهم والخشوع وقواعدها وآدابها
ــ الذكر وخاصة ذكر القلب المعزر باللسان وخاصة في المناسبات اليومية المعروفة والمأثورة وإدبار الصلاة والنجم .
ــ التفكر في ملكوته سبحانه وهي عبادة لا يأتيها منا غير قليل وهي عمدة الايمان تجديدا .
ــ الانفاق في سبيل الله وخاصة إدخال الفرح على قلوب الارامل والثكالى واليتامى ممن لايجد إضحى في يوم العيد أو لايجد هدايا لاطفاله .
-
رد: مــــائة مصباح من مشكاة النبــــوة
الحلقة الاربعون
أخرج البخاري عن أنس أنهم مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرا فقال عليه السلام " وجبت " ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شرا فقال " وجبت " فقال عمر ما وجبت ؟ فقال " هذا أثنيتم عليه خيرا فوجبت له الجنة وهذا أثنيتم عليه شرا فوجبت له النار أنتم شهداء الله في الارض".
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
من شواهده " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " و" هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين ".
موضوعه : القبول في السماء يمر عبر القبول في الارض من لدن المؤمنين على الاقل : سرت فينا فكرة خاطئة تظاهرت على إذكائها ظروف معروفة مفادها أن رضى الرحمان سبحانه مهره سخط الناس وكلما كان سخط الناس عليك كبيرا كلما إقتربت منه سبحانه والعكس صحيح دوما وهي فكرة لها أساس في الحقيقة في بعض النصوص ولكن إنتزاع الافكار المجردة من سياقاتها النصية ثم غرسها غريبة عن سياقاتها الواقعية عمل وخيم العواقب إذ كل ما جاء يثبت هذه الفكرة كان دوما في معرض قصة نبي يجابه معارضة ضارية من لدن حفنة من المستفيدين من الاوضاع القديمة بينهم وبين عالم الافكار والقيم والحجج ما بين المشرق والمغرب فكان الوحي ينزل يثبت النبي والذين آمنوا معه عبر تعريفهم بأن مجلبة رضى الرحمان سبحانه أوفى لهم وأجزل من رضى غيره وأن سخط الكافرين به سيما الظالمين منهم مآله البوار وكان ذلك دوما حيال الساخطين عليهم من غير المؤمنين مهما كان إيمانهم ضعيفا أو متخاذلا ولم يأت وحي أبدا بترغيب المؤمنين عن المؤمنين حتى حال إقتراف الكبائر والمعاصي بل والموبقات المهلكات بل حتى حال الظلم أسخط شئ عنده سبحانه وأبغض فعل لديه تعالى ويمكن أن نقول بإطمئنان كبير بأن الله سبحانه حرض المؤمنين دوما على الالتحام بهموم الناس وقضاياهم مهما كانت موغلة في الصغر حتى أنه خصص للناس في كتابه النصيب الاوفى فظل يخاطبهم دوما بالخطاب الرقيق الرفيق الحبيب غير الخالي طبعا عن الترغيب والترهيب كيف لا وهو المؤيد بالوحي عليه السلام ظل يؤمر دوما طيلة عقد كامل من الزمن صحبة المعذبين من أصحابه بإقام الصلاة وكف الايدي ليس عن الايذاء بل عن رد الايذاء وكيف لدين ينشد الانتشار في الناس أن يأمر أتباعه برد الصاع صاعين فضلا عن صاع واحد وكيف لنبي لو سأل ربه تطبيق الاخشبين على مكة بمن فيها وما فيها لاهلكت في جزء من مليار جزء من ثانية واحدة على بكرة أبيها غير أنه آثر دوما الصبر وتحمل الاذى إن كل ذلك ليوحي بما لا يدع مجالا للشك بأن الخطاب الاسلامي يقوم على أن القبول في السماء عنده سبحانه عبر القبول في الارض وهو قبول لدى الطائفتين ونتيجته واحدة أما طائفة المؤمنين فبالحدب عليها تبصرة وتعاونا ونصيحة وصبرا وسعيا في الحاجة وتجاوزا عن المعسر وأما طائفة الكافرين غير الظالمين طبعا فبإثبات بالقول والعمل بأن الدعوة قوية بحجتها وصبر أهلها تجادل بأدب وتعطي بسخاء من لا يخشى الفقر تظل صامدة تعرض بضاعتها المعزرة بحجتها البيضاء الناصعة دون إستجابة لاي إستدراج من إستدراجات رد الفعل والعنف فضلا عن الظلم ثم الثبات على ذلك عقودا طويلة والنتيجة هي واحدة عند الطائفتين وهي ما عبر عنه بقوله " وإستيقنتها أنفسهم " غير أنه يقين يفصح عن نفسه عند المؤمنين بالشكر والعرفان والحمد له سبحانه والطاعة لنبيه عليه السلام بينما يلتزم الجحود عند الاخرين وهو جحود ليس عاما بل سرعان ما يلتقط المؤمن في إثر المؤمن من أولئك وإلا ما الذي جعل الدعوة الاسلامية تبتدأ بواحد ثم بعدد أصابع اليد الواحدة ثم أربعين شخصا علىمدى ثلاث سنوات متتالية ثم خمسمائة والف يوم العد والاحصاء ثم يموت عن عشرة أضعاف هذا العدد عليه السلام واليوم تجدها بمعدل واحد عن كل خمس نسمات فوق اليابسة ولن تزال تتقدم عددا وعدة بل لن تزيدها الضربات غير إمتداد فكيف لو قيضت لها الاقدار جيشا لجبا من خيرة الدعاة المدججين بحجج مقنعة وأساليب في الحركة إنسانية ومتطورة ؟ فبالخلاصة فإن فكرة تدفع المتدين إلى هجران الناس ليقترب من ربه لهي فكرة مسيحية دجلية كاذبة لا يتسع لها الاسلام ولئن أنبتتها ظروف معروفة ربما تعود يوما وتهيمن فإن المؤكد أن أقرب الناس إلى الناس هو المتدين .
الناس شهداء بعضهم على بعض في الارض في الدين والدنيا على حد سواء :كثيرا ما ينقاد الناس تحت تأثير النظرة المثالية ولم يأت القرآن إلا لمحاربتها في مقابل إعلائه لشأن الواقعية البشرية فتلفاه يرد مثلا على شبهات غير المؤمنين الذين قالوا بأنه سبحانه لو أرسل ملكا لامنوا بقوله " ولو أنزلناه ملكا لجعلناه رجلا وللبسنا عليهم ما يلبسون " إذ لو أنزل ملكا يخاطبهم لتذرعوا بأن الملك مفطور على الطاعة لا تغشاه الشهوات فهو ينتمي إلى عالم غير عالمهم ويدعوهم إلى أمر مناقض لفطرتهم التي لم يختاروها هم بل إختارهم خالقهم عليها ومما ورد في ذلك أيضا قوله " هو الذي أيدك بنصره وبالمؤمنين " وأزعم أن أكثر من نصف من يقرأ القرآن اليوم فضلا عمن لا يقرأه لا يتوقفون أصلا أو بما فيه الكفاية لقوله " وبالمؤمنين " وهي إشارة إنفردت بها هذه الاية التي تؤكد أن نصر الله لنبيه عليه ا لسلام وهو من هو تمر حتماعبر المؤمنين أي عبر الناس وهو مسلك يشجع المؤمن وريث محمد عليه السلام على عدم التفريط في الناس لانهم مصدر نصره ليس بعد الله فحسب بل إن نصره خاصة وقد ولى عهد المعجزات سوى بالقرآن والانسان لا يتأتىإلا عبر الناس ومما ورد في ذلك كذلك قوله " إلا بحبل من الله وحبل من الناس " ومعناها أن الذلة المضروبة على الكافرين الظالمين تستثني منهم صنفين : من آمن ومن دخل في الجوار وهو حبل الناس وسائر التفاسير الاخرى تدور في فلك هذا المعنى ولاشك أن إنبساط قوة الاسلام إلى حد تأمين تخومه وخضد شوكة المحاربين له مما يؤمن من إستجار منهم به مؤذن بمهابته ودخول الناس فيه أفواجا كما وقع بعد الحديبية وبعد الفتح والناس المادون لحبل الاجارة هنا ليسوا سوى المؤمنين فالمؤمن عامل أنس للناس ولولا أن المجال يضيق لزدتك بأن الله تعبدنا في عقودنا المدنية وسائر ما في حكمها بشهادة الناس ومنهم غير المؤمنين في كثير من الحالات فمن شهد له الناس بالصلاح فهو آمن ومن شهد عليه الناس بغير ذلك فهو ليس كذلك وهو حكم لا ينفذ إلى البواطن طبعا ولكنه ينزل الناس منازلهم في الدنيا وليس للمؤمن مكان يفعل فيه إيمانه ويحفظ فيه دينه ونفسه وماله وعرضه وعقله سوى الدنيا فهي وسيلته إلى الاخرة يؤمنها بشهادة الناس له وهي ليست شهادة تشترىبالرياء وبالرشاوى وبالنفاق وبالمال ولا يعبد الانسان ربه ويتعاون مع الناس وهو ينشدها بل هي من المحصولات الطبيعية بحكم عيش الناس بعضهم مع بعض .
شهادة الله على الناس في الارض لاتخص قرنا دون قرن ولا مكانا دون آخر : قد يشغب بعض المتعنتين من أولى الاحلام الصغيرة على ذلك بأن شهداء الله على الناس في أرضه هم صحابته عليهم السلام فحسب دون غيرهم لعلو كعبهم وفضلهم وهذا لا دليل عليه أولا بل كل الخطاب الاسلامي يتجه نحو الامة قاطبة دون تخصيص قرن على قرن ولا مكان على مكان ولو حكمنا ذلك لقلنا بمفهوم المخالفة كما يقول الاصوليون بأن الله سبحانه ليس عادلا في حكمه إذ بعث في أهل الجاهلية نبيا منهم فخصهم بالقرب وخص مكانهم وزمانهم بالفضل وما عدا ذلك هو فتات لا يصل ما وصل إليه أولئك من الفضل فكيف يكون بعد ذلك رب العالمين ومتصفا بالعدل وكيف يكون دينه لا يفضل أبيض عن أسود وهو يفضل الاول عن الاخر ومعاصر النبوة عن غيره وذلك فضلا على أن النصوص التي جاءت تمتدح من جاء بعده وآمن به وجاهد كثيرة ومنها قوله " والذين جاؤوا من بعدهم ..." وكلنا جئنا من بعدهم أي المهاجرين والانصار في سورة الحشر وهل إنداحت الدعوة حتى طبقت الارض أو كادت إلا بعد القرون الاولى وغير ذلك كثير فالانسان هو الانسان والله هو الله والدين هو الدين والقيم هي هي ولا عبرة بغير ذلك كلما نهل العابد من شآبيب الاخلاص وحسن الفقه ونشر الدعوة والنصح للناس بحسب القدرة .
فالخلاصة هي إذن أن شهادة الناس لك أو عليك في الدنيا ماضية وليس ذلك من باب الرياء وطلب رضى الناس بسخط الله سبحانه بل إن رضاه سبحانه يمر حتماعبر رضى الناس أو على الاقل السعي في حاجتهم المادية والمعنوية هداية للعامي وإغاثة للملهوف وخاصة في دائرة المؤمنين والناس العقلاء ليسوا من الحمق بمكان حتى يشهدوا في أغلبهم لك بالخير على كبير فسقك فضلا عن كفرك أو عليك بالشر على واسع فضلك وحسن سيرتك بينهم إلا في حالة هجرانهم في مساجدهم وأفراحهم وأتراحهم ونوائبهم فإن فعلت فاللوم عليك ولن تكون في الاخرة حتى على فرض إيمانك صاحب حظ كبير .