المعازف وما يتعلق بها من أحكام2
أدلة التحريم من السنة النبوية الشريفة:
قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ليكونن من أمَّتي أقوام يستحلون الْحِرَ والحرير والخمر والمعازف، ولينزلن أقوامٌ إلى جنب عَلَمٍ، يَروحُ عليهم بسَارِحة لهم، يأتيهم لحاجة، فيقولون: ارجعْ إلينا غدًا، فيبيتهم الله، ويَضَعُ العلم، ويَمسخ آخرين قردة وخنازير إلى يوم القيامة))؛ (رواه البخاري تعليقًا، برقم: 5590، ووصله الطبراني والبيهقي، وراجع السلسلة الصحيحة للألباني، 91).
وقد أقرَّ بصحة هذا الحديث أكابرُ أهل العلم، منهم الإمام ابن حبان، والإسماعيلي، وابن الصلاح، وابن حجر العسقلاني، وشيخ الإسلام ابن تيمية، والطحاوي، وابن القيم، والصنعاني، وغيرهم كثير.
وقال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "ولم يصنع من قدح في صحة هذا الحديث شيئًا، كابن حزم نصرة لمذهبه الباطل في إباحة الملاهي، وزعم أنَّه منقطع؛ لأن البخاري لم يصلْ سنده به"، وقال العلامة ابن الصلاح - رحمه الله -: "ولا التفاتَ إليه؛ (أي: ابن حزم) في رده ذلك، وأخطأ في ذلك من وجوه، والحديث صحيح معروف الاتِّصال بشرط الصحيح"؛ (غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب لإمام السفاريني).
وفي الحديث دليلٌ على تحريم آلات العزف والطرب من وجهين: أولهما: قوله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: "يستحلون"، فإنَّه صريح بأن المذكورات - ومنها المعازف - هي في الشرع محرمة، فيستحلها أولئك القوم.
ثانيًا: قرن المعازف مع ما تم حرمته، وهو الزنا والخمر والحرير، ولو لم تكن محرمة – أي: المعازف - لما قرنها معها"؛ (السلسلة الصحيحة، للألباني، 1/140 - 141 بتصرف)؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: "فدل هذا الحديث على تحريم المعازف، والمعازف هي آلات اللهو عند أهل اللغة، وهذا اسم يتناول هذه الآلات كلها"؛ (المجموع).
وروى الترمذي في سننه عن جابر - رضي الله عنه - قال: "خرج رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - مع عبدالرحمن بن عوف إلى النَّخيل، فإذا ابنه إبراهيم يجود بنفسه، فوضعه في حجره، ففاضت عيناه، فقال عبدالرحمن: أتبكي وأنت تنهى عن البكاء؟ قال: ((إنِّي لم أنهَ عن البكاء، وإنَّما نهيت عن صوتين أحمقين فاجرين: صوت عند نَغمةِ لَهْوٍ ولعب ومزامير شيطان، وصوت عند مصيبة: خمش وجوه وشق جيوب ورنة))"؛ (قال الترمذي: هذا الحديث حسن، وحسنه الألباني، صحيح الجامع: 5194)
• وقال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صوتان ملعونان: صوت مزمار عند نعمة، وصوت ويل عند مصيبة))؛ (إسناده حسن، السلسلة الصحيحة: 427).
• وعن رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه قال: ((ليكونن في هذه الأمة خسف، وقذف، ومسخ، وذلك إذا شربوا الخمور، واتَّخذوا القينات، وضربوا بالمعازف))؛ (صحيح بمجموع طرقه، السلسلة الصحيحة: 2203).
• قال - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله حرم على أمتي الخمر، والميسر، والْمِزْرَ، والكُوبَة، والقِنِّين، وزادني صلاة الوتر))؛ (صحيح، صحيح الجامع: 1708).
الكوبة هي الطبل، أمَّا القنين هو الطنبور بالحبشية؛ (غذاء الألباب).
وروى أبو داود في سننه عن نافع أنه قال: "سمع ابن عمر مزمارًا، قال: فوضع أصبعيه على أذنيه، ونأى عن الطريق، وقال لي: يا نافع، هل تسمع شيئًا؟ قال: فقلت: لا، قال: فرفع أصبعيه من أذنيه، وقال: كنت مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسمع مثل هذا، فصنع مثل هذا"؛ (حديث صحيح، صحيح أبي داود: 4116).
وعلق على هذا الحديث الإمام القرطبي قائلاً: "قال علماؤنا: إذا كان هذا فعلهم في حقِّ صوت لا يَخرج عن الاعتدال، فكيف بغناء أهل هذا الزمان وزمرهم؟!"؛ (الجامع لأحكام القرآن، للقرطبي).
أقوال أئمة أهل العلم:
قال الإمام عمر بن عبدالعزيز - رضي الله عنه -: "الغناء مبدؤه من الشيطان، وعاقبته سخط الرحمن"؛ (غذاء الألباب).
ولقد نقل الإجماع على حرمة الاستماع إلى الموسيقا والمعازف جمعٌ من العلماء، منهم: الإمام القرطبي، وابن الصلاح، وابن رجب الحنبلي.
فقال الإمام أبو العباس القرطبي: الغناء ممنوع بالكتاب والسنة، وقال أيضًا: "أمَّا المزامير والأوتار والكوبة (الطبل)، فلا يختلف في تحريم استماعها، ولم أسمع عن أحد ممن يعدُّ قوله من السَّلف وأئمة الخلف من يُبيح ذلك، وكيف لا يُحرَّم وهو شعار أهل الخمور والفسوق، ومهيج الشهوات والفساد والمجون؟! وما كان كذلك لم يشك في تحريمه، ولا تفسيق فاعله وتأثيمه"؛ (الزواجر عن اقتراف الكبائر، لابن حجر الهيثمي).
وقال ابن الصلاح: الإجماع على تحريمه، ولم يثبت عن أحد ممن يعتدُّ بقوله في الإجماع والاختلاف أنه أباح الغناء؛ قال القاسم بن محمد - رحمه الله -: الغناء باطل، والباطل في النار.
وقال الحسن البصري - رحمه الله -: إنْ كان في الوليمة لهو - أي: غناء ولعب - فلا دعوة لهم؛ (الجامع للقيرواني).
قال النحاس - رحمه الله -: هو ممنوع بالكتاب والسنة، وقال الطبري: وقد أجمع علماء الأمصار على كراهة الغناء، والمنع منه.
ويقول الإمام الأوزاعي - رحمه الله -: لا تدخل وليمة فيها طبل ومعازف؛ قال ابن القيم - رحمه الله - في بيان مذهب الإمام أبي حنيفة: "وقد صرَّح أصحابه بتحريم سماع الملاهي كلها كالمزمار والدُّف، حتى الضرب بالقضيب، وصرَّحوا بأنه معصية توجب الفسق وتُرَدُّ بها الشهادة، وأبلغ من ذلك قالوا: إن السماع فسق، والتلذذ به كفر، وورد في ذلك حديثٌ لا يصح رفعه، قالوا: ويجب عليه أنْ يجتهد في ألا يسمعه إذا مرَّ به أو كان في جواره"؛ (إغاثة اللهفان).
ورُوي عن الإمام أبي حنيفة أنه قال: الغناء من أكبر الذُّنوب التي يجب تركها فورًا، وقد قال الإمام السفاريني في كتابه غذاء الألباب معلقًا على مذهب الإمام أبي حنيفة: "وأمَّا أبو حنيفة، فإنه يكره الغناء، ويَجعله من الذنوب، وكذلك مذهب أهل الكوفة سفيان وحماد وإبراهيم والشعبي وغيرهم، لا اختلاف بينهم في ذلك، ولا نعلم خلافًا بين أهل البصرة في المنع منه".
وقد قال القاضي أبو يوسف تلميذ الإمام أبي حنيفة حينما سُئِلَ عن رجل سمع صوتَ المزامير من داخل أحد البيوت، فقال: "ادخل عليهم بغير إذنهم؛ لأنَّ النَّهي عن المنكر فرض".
أمَّا الإمام مالك، فإنَّه نهى عن الغناء وعن استماعه، وقال - رحمه الله - عندما سئل عن الغناء والضرب على المعازف: "هل من عاقل يقول بأنَّ الغناء حق؟ إنَّما يفعله عندنا الفُسَّاق"؛ (تفسير القرطبي).
والفاسق في حكم الإسلام لا تقبل له شهادة ولا يصلي عليه الأخيار إن مات؛ بل يصلي عليه غوغاء الناس وعامتهم.6قال ابن القيم - رحمه الله - في بيان مذهب الإمام الشافعي - رحمه الله -: "وصرح أصحابه - أي: أصحاب الإمام الشافعي - العارفون بمذهبه بتحريمه، وأنكروا على من نسب إليه حلَّه، كالقاضي أبي الطيب الطبري، والشيخ أبي إسحاق وابن الصباغ"؛ (إغاثة اللهفان).
وسئل الشافعي - رضي الله عنه - عن هذا، فقال: "أول من أحدثه الزنادقة في العراق حتى يلهوا الناس عن الصلاة وعن الذِّكر"؛ (الزواجر عن اقتراف الكبائر).
قال ابن القيم - رحمه الله -: "وأمَّا مذهب الإمام أحمد، فقال عبدالله ابنه: سألت أبي عن الغناء، فقال: الغناء ينبت النفاق بالقلب، لا يعجبني، ثم ذكر قول مالك: إنما يفعله عندنا الفساق"؛ (إغاثة اللهفان).
وسئل - رضي الله عنه - عن رجل مات وخلَّف ولدًا وجارية مُغنية، فاحتاج الصبي إلى بيعها، فقال: تباع على أنَّها ساذجة، لا على أنَّها مغنية، فقيل له: إنَّها تساوي ثلاثين ألفًا، ولعلها إن بيعت ساذجة تساوي عشرين ألفًا، فقال: لا تباع إلا أنَّها ساذجة، قال ابن الجوزي: "وهذا دليل على أن الغناء محظور؛ إذ لو لم يكن محظورًا ما جاز تفويت المال على اليتيم"؛ (الجامع لأحكام القرآن).
ونص الإمام أحمد - رحمه الله - على كسر آلات اللهو كالطنبور وغيره إذا رآها مكشوفة، وأمكنه كسرها؛ (إغاثة اللهفان).
يقول شيخ الإسلام: "مذهب الأئمة الأربعة: أنَّ آلات اللهو كلها حرام، فقد ثبت في صحيح البخاري وغيره: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أخبر أنه سيكون من أمته من يستحل الحِرَ والحرير والخمر والمعازف، وذكر أنَّهم يمسخون قردة وخنازير، و"المعازف" هي الملاهي - كما ذكر ذلك أهل اللغة - جمع معزفة، وهي الآلة التي يعزف بها؛ أي: يصوت بها، ولم يذكر أحد من أتباع الأئمة في آلات اللهو نزاعًا.
إلاَّ أن بعض المتأخرين من أصحاب الشافعي ذكر في اليراع وجهين، بخلاف الأوتار ونحوها؛ فإنَّهم لم يذكروا فيها نزاعًا.
وأمَّا العراقيون الذين هم أعلم بمذهبه وأتبع له، فلم يذكروا نزاعًا، لا في هذا ولا في هذا، بل صنف أفضلهم في وقته، أبو الطيب الطبري شيخ أبي إسحاق الشيرازي في ذلك مصنفًا معروفًا، ولكن تكلموا في الغناء المجرد عن آلات اللهو: هل هو حرام، أو مكروه، أو مباح؟ وذكر أصحاب أحمد لهم في ذلك ثلاثة أقوال، وذكروا عن الشافعي قولين، ولم يذكروا عن أبي حنيفة ومالك في ذلك نزاعًا.
وذكر زكريا بن يحيى الساجي - وهو أحد الأئمة المتقدِّمين المائلين إلى مذهب الشافعي -: أنَّه لم يخالف في ذلك من الفقهاء المتقدمين إلا إبراهيم بن سعد من أهل البصرة، وما ذكره أبو عبدالرحمن السلمي وأبو القاسم القشيري وغيرهما: عن مالك وأهل المدينة في ذلك فغلط.
وإنَّما وقعت الشبهة فيه؛ لأنَّ بعضَ أهل المدينة كان يحضر السماع إلاَّ أن هذا ليس قول أئمتهم وفقهائهم؛ بل قال إسحاق بن عيسى الطباع: سألت مالكًا عمَّا يترخص فيه أهل المدينة من الغناء، فقال: إنَّما يفعله عندنا الفُسَّاق، وهذا معروف في كتاب أصحاب مالك، وهم أعلم بمذهبه ومذهب أهل المدينة من طائفة في المشرق، لا علم لها بمذهب الفقهاء؛ (مجموع الفتاوى، 3/44).
قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: "إنَّك لا تَجد أحدًا عُنِيَ بالغناء وسماع آلاته إلا وفيه ضلال عن طريق الهدى علمًا وعملاً، وفيه رغبة عن استماع القرآن إلى استماع الغناء"، وقال عن الغناء: "فإنه رُقية الزنا، وشركُ الشيطان، وخَمْرة العقول، ويَصُدُّ عن القرآن أكثر من غيره من الكلام الباطل؛ لشدة ميل النفوس إليه ورغبتها فيه".
قال الشيخ عبدالعزيز بن باز - رحمه الله -: "إنَّ تزويد الإذاعة بالأغاني والطرب وآلات الملاهي فساد وحرام بإجماع مَن يعتد به من أهل العلم، وإن لم يصحب الغناء آلة اللهو، فهو حرام عند أكثر العلماء.
وقد علم بالأدلة المتكاثرة أنَّ سماع الأغاني والعكوف عليها، ولا سيما بآلات اللهو، كالعود والموسيقا ونحوهما - من أعظم مكايد الشيطان ومصايده التي صاد بها قلوب الجاهلين، وصدَّهم بها عن سماع القرآن الكريم، وحبب إليهم العكوف على الفسوق والعصيان، والغناء هو قرآن الشيطان ومزماره ورقية الزنا واللواط، والجالب لأنواع الشر والفساد".
وبذلك يتبين لنا أقوال أئمة العلماء وإقرارهم على حُرمة الغناء والموسيقا والمنع منهما.
• وبعد ذكر هذه النُّقول من كلام أهل العلم يتبيَّن لنا لماذا قلنا: إنَّ الخلاف فيها - أي المعازف - واهٍ لا يَحتاج لطول نقاش ورد على المخالف، فالحق أبلج والباطل لجلج.
حكم سماع النشيد المصحوب بالمعازف (عن طريق المؤثرات الصوتية):
المؤثرات الصوتية:
هي أصوات معازف وموسيقا لم تتكوَّن من الآلات الموسيقية المعروفة، وإنَّما تكونت من جهاز (الحاسوب)، أو من حنجرة شخص مع المضخمات والآلات، فتخرج كأصوات الموسيقا، كالضرب على (المكروفونات)؛ ليخرج صوت كصوت الطبل.
• أعتبر دعوى الخلاف في المسألة على اعتبار الآلة، فقد اتفق الفريقان على أن هذه الأجهزة لا تسمى آلات معازف عرفًا ولا لغة، كما لا يقال على المسجل والمذياع وإن صدرت عنهما المعازف، فقد تستخدم هذه الآلات والبرامج في أمور مباحة.
• والجواب أنَّ النهي ورد في سماع المعازف، ولم يَختلف الفريقان في أن الصادر عن هذه الأصوات عزف لغة وعرفًا، وأن العلة الظاهرة في المنع موجودة فيهما، فإمَّا أن يمنعا معًا أو يُباحا معًا؛ لأنَّ الشَّرع لا يُفرق بين المتماثلين، ولا يَجمع بين المختلفين، وهو ما يسمى عند الأصوليين: القياس بإلغاء الفارق.
يقول ابن القيم: "وكذلك القياس بإلغاء الفارق، وهو: ألاّ يكون بين الصورتين فرق مُؤثِّر في الشرع، فمثل هذا القياس أيضًا لا تأتي الشريعة بخلافه، وحيث جاءت الشريعة باختصاص بعض الأحكام بحكمٍ يُفارق به نظائره فلا بُدَّ أن يختص ذلك النوع بوصف يوجب اختصاصه بالحكم، ويَمنع مساواته لغيره، لكن الوصف الذي اختص به ذلك النَّوع قد يظهر لبعض الناس وقد لا يظهر، وليس من شرط القياس الصحيح أنْ يعلم صحته كل أحد"؛ (إعلام الموقعين، 2/24).
• فإنْ كانت هذه المؤثرات ليست شبيهة بالموسيقا، ولا يحصل بها الترنُّم، كأصوات السيارات، وسقوط الأشياء، وكسر الزجاج، فلا مانع منها؛ لانتفاء علة المنع، وهو صدور العزف عنها.
• وأما الدفُّ، فالخلاف فيه معروف، وسنذكر - إنْ شاء الله - كلام أهل العلم فيه، فحكم المؤثرات الصوتية الشبيهة بصوته كحكمه سواء بسواء.
• وقد يُعتبر فارق الآلة في إنكار المنكر، فلو جاز تكسير آلات المعازف، كما نص عليه بعض أهل العلم، فلا يجوز تكسير هذه الأجهزة، بل يَجب الانتفاع بها فيما يباح.
الاستثناء في باب المعازف وما يلحق بها في الحكم:
• الدُّفُّ: بضم الدال وتشديد الفاء، وهو أفصح وأشهر، ورُوي بالفتح أيضًا: "وهو آلة من آلات الملاهي، مدور من جلد، لا خروقَ فيه ولا جلاجل، وما سوى ذلك، فهو حرام بلا خلاف عند عامَّة أهل العلم".
وبهذا قال ابن حجر - رحمه الله - في "الفتح"، (2/440) عن حقيقة الدف: "هو الكِرْبال - بكسر الكاف - وهو الذي لا جلاجلَ فيه، فإن كانت فيه فهو المزهر".
وقال الشوكاني - رحمه الله - في "نيل الأوطار"، (6/337): "قال الإمام يحيى: دف الملاهي مُدوَّر جلده من رِقٍّ أبيضَ ناعم، في عرضه سلاسل، يسمى: الطار، له صوت يطرب لحلاوة نغمته، وهذا لا إشكالَ في تحريمه وتعلق النهي به.
وأمَّا دف العرب، فهو على شكل الغِرْبال؛ خلا أنه لا خروقَ فيه، وطوله إلى أربعة أشبار، فهو الذي أراده - صلى الله عليه وسلم - لأنَّه المعهود حينئذ".
وقال الْمُبَارْكَفُوريُّ - رحمه الله - "تحفة الأحوذي"، (10/122)، مؤكدًا حقيقة الدف: "الدف: هو ما يطبل به، والمراد به الدف الذي كان في زمن المتقدمين، وأمَّا ما فيه الجلاجل، فينبغي أن يكون مكروهًا اتفاقًا"؛ انتهى (نقلاً عن كتاب الكف عن الضرب بالدف، للشيخ ذياب بن سعد الغامدي).
• اتَّفق غالب أهل العلم على جواز الدُّف المعهود عند العرب للنِّساء في أوقات مخصوصة: العيد، والعُرس، وقدوم غائب، والوفاء بالنَّذر، وفيما دون ذلك وقع الخلاف، والراجح المنع.
والحكم بالمنع مبني على ثلاث مقدمات ونتيجة:
1- الأصل في الدف أنه من المعازف لغة وشرعًا.
2- المعازف منهي عنها بالكتاب والسنة.
3- الخروج عن الأصل يحتاج لدليل.
4- وعليه؛ فكل ما لم يرد النص بإباحته؛ كضرب الدُّف في غير الأوقات التي شرع فيها من النساء، أو ضرب الدف للرجال - فهو باقٍٍ على أصل المنع؛ لأنَّه ليس فيه دليل ينهض للنظر والاستدلال.
قال شيخ الإسلام - رحمه الله -: "وبالجملة قد عرف بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - لم يشرع لصالحي أمَّته وعُبَّادهم وزُهَّادهم أن يجتمعوا على استماع الأبيات الملحنة مع ضرب بالكف أو ضرب بالقضيب أو الدف".
كما لم يُبحْ لأحد أن يخرج عن متابعته واتِّباع ما جاء به من الكتاب والحكمة، لا في باطن الأمر ولا في ظاهره، ولا لعامي ولا لخاصي، ولكن رخَّص النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في أنواعٍ من اللهو في العُرس ونحوه، كما رخَّص للنساء أنْ يضربن بالدف في الأعراس والأفراح.
وأمَّا الرجال على عهده، فلم يكن أحدٌ منهم يضرب بدف، ولا يصفق بكف، بل قد ثبت عنه في الصحيح أنه قال: ((التصفيق للنساء، والتسبيح للرجال))، ((ولعن المتشبهات من النساء بالرجال، والمتشبهين من الرجال بالنساء)).
ولما كان الغناء والضرب بالدف والكف من عمل النِّساء، كان السلف يسمون من يفعل ذلك من الرجال مخنَّثًا، ويسمون الرجال المغنين مخانيث، وهذا مشهور في كلامهم، ومن هذا الباب حديث عائشة - رضي الله عنها - لما دخل عليها أبوها - رضي الله عنه - في أيام العيد وعندها جاريتان من الأنصار تُغنِّيان بما تقاولت به الأنصار يوم بُعاث، فقال أبو بكر - رضي الله عنه - أبمزمار الشيطان في بيت رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم؟! وكان رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - معرضًا بوجهه عنهما، مقبلاً بوجهه الكريم إلى الحائط، فقال: ((دعهما يا أبا بكر، فإنَّ لكل قوم عيدًا، وهذا عيدنا أهل الإسلام)).
ففي هذا الحديث بيان أنَّ هذا لم يكن من عادة النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - وأصحابه الاجتماع عليه، ولهذا سماه الصديق مزمار الشيطان، والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أقرَّ الجواري عليه؛ معلِّلاً ذلك بأنه يوم عيد، والصغار يرخص لهم في اللعب في الأعياد؛ كما جاء في الحديث: ((ليعلم المشركون أنَّ في ديننا فسحة))، وليس في حديث الجاريتين أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - استمع إلى ذلك.
والأمر والنهي إنَّما يتعلق بالاستماع، لا بمجرد السماع، كما في الرُّؤية فإنه إنَّما يتعلق بقصد الرُّؤية لا بما يحصل منها بغير الاختيار، وكذلك في اشتمام الطيب إنَّما ينهى المحرم عن قصد الشم، فأما إذا شم ما لم يقصده، فإنه لا شيء عليه، وكذلك في مباشرة المحرمات كالحواس الخمس: من السمع والبصر والشم والذوق واللمس.
إنَّما يتعلق الأمر والنَّهي من ذلك بما للعبد فيه قصد وعمل، وأمَّا ما يحصل بغير اختياره، فلا أمرَ فيه ولا نَهي، وهذا مما وجه به الحديث الذي في السنن عن ابن عمر: أنَّه كان مع النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فسمع صوتَ زمارة راعٍ، فعدل عن الطريق، وقال: ((هل تسمع؟ هل تسمع؟)) حتى انقطعَ الصوت، فإنَّ من الناس مَن يقول: بتقدير صحة هذا الحديث لم يأمر ابن عمر بسدِّ أذنيه، فيجاب بأنه كان صغيرًا أو يجاب بأنه لم يكن يستمع، وإنَّما كان يسمع، وهذا لا إثم فيه.
وإنَّما النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - فعل ذلك؛ طلبًا للأفضل والأكمل، كمن اجتاز بطريق، فسمع قومًا يتكلمون بكلام محرم، فسد أذنيه؛ كي لا يسمعه، فهذا حسن، ولو لم يسد أذنيه، لم يأثم بذلك، اللهم إلا أنْ يكون في سماعه ضرر ديني لا يندفع إلا بالسد.
فإذا عُرِف هذا، فاعلم أنَّه لم يكن في عُنفوان القرون الثَّلاثة المفضَّلة: لا بالحجاز، ولا بالشام، ولا باليمن، ولا مصر، ولا المغرب، ولا العراق، ولا خراسان - من أهل الدِّين والصلاح والزهد والعبادة مَن يَجتمع على مثل سماع المكاء والتَّصدية، لا بدُف، ولا بكف، ولا بقضيب، وإنَّما أحدث هذا بعد ذلك في أواخر المائة الثانية، فلما رآه الأئمة أنكروه، فقال الشافعي - رضي الله عنه -: خلفت ببغداد شيئًا أحدثته الزَّنادقة يسمونه "التغبير"، يصدون به الناس عن القرآن، وقال يزيد بن هارون: ما يغبِّر إلا الفاسق، ومتى كان التغبير؟
وسئل عنه الإمام أحمد فقال: أكرهه هو محدث، قيل: أنجلس معهم؟ قال: لا، وكذلك سائر أئمة الدين كرهوه، وأكابر الشيوخ الصالحين لم يحضروه، فلم يحضره إبراهيم بن أدهم، ولا الفضيل بن عياض، ولا معروف الكرخي، ولا أبو سليمان الداراني، ولا أحمد بن أبي الحواري والسري السقطي وأمثالهم.
والذين حضروه من الشيوخ المحمودين تركوه في آخر أمرهم، وأعيان المشايخ عابوا أهله، كما فعل ذلك عبدالقادر والشيخ أبو البيان وغيرهما من المشايخ، وما ذكره الشافعي - رضي الله عنه - من أنه من إحداث الزَّنادقة كلامُ إمامٍ خبيرٍ بأصول الإسلام، فإنَّ هذا السماع لم يرغب فيه ويدعو إليه في الأصل إلاَّ من هو متهم بالزندقة؛ (مجموع الفتاوى، 3/44).
قال الشيخ ابن باز في مجموع فتاويه (3/423 - 424): "إنَّما يستحب ضرب الدف في النكاح للنِّساء خاصَّة؛ لإعلانه والتمييز بينه وبين السفاح، ولا بأسَ بأغاني النِّساء فيما بينهن مع الدف إذا كانت تلك الأغاني ليس فيها تشجيعٌ على مُنكر، ولا تثبيط عن واجب، ويشترط أنْ يكون ذلك فيما بينهن من غير مخالطة للرِّجال، ولا إعلان يؤذي الجيران، ويشق عليهم، وما يفعله بعض الناس من إعلان ذلك بواسطة المكبر، فهو منكر؛ لما في ذلك من إيذاء المسلمين من الجيران وغيرهم، ولا يجوز للنساء في الأعراس ولا غيرها أن يستعملن غيرَ الدف من آلات الطرب، كالعود والكمان والرباب وشبه ذلك، بل ذلك منكر، وإنَّما الرخصة لهن في استعمال الدف خاصة. أمَّا الرجال فلا يجوز لهم استعمال شيء من ذلك، لا في الأعراس، ولا في غيرها، وإنَّما شرع الله للرِّجال التدرب على آلات الحرب، كالرمي، وركوب الخيل، والمسابقة بها، وغير ذلك من أدوات الحرب، كالتدرُّب على استعمال الرماح والدرق والدبابات والطائرات، وغير ذلك كالرمي بالمدافع والرشاش والقنابل، وكل ما يعين على الجهاد في سبيل الله".
قال ابن حجر: معلقًا على حديث: ((أعلنوا هذا النِّكاح، واجعلوه في المساجد، واضربوا عليه بالدُّفوف)): استدل بقوله: ((واضربوا)) على أنَّ ذلك لا يختص بالنساء، لكنَّه ضعيف، والأحاديث القوية فيها الإذن في ذلك للنساء، فلا يلحق بهن الرجال؛ لعموم النهي عن التشبُّه بهن.
المؤثرات التي لا تشبه الموسيقا ولا يحصل بها ترنم:
الأصوات الطبيعيَّة: كخرير الماء، وصوت الريح، وصوت الحيوانات، كصهيل الفرس، وصوت العصافير، وصوت آدمي من بكاء أو ضحك، أو أصوات المدافع والقذائف، وأصوات السيارات، وسقوط أشياء، وكسر زجاج...
فلو كانت مسجلة حقيقة من الواقع، أو مُؤلفة عن طريق برامج لا عزف فيها، فلا بأسَ بمن صنعها أو سمعها، أمَّا إذا كانت من صنع معازف، فهي محرمة على من ألَّفها، لا مَن سمعها؛ لأنه لم يسمع محرمًا، ومثاله في الفقه تحريمُ فعل من حَوَّل الخمرَ خلاًّ، وإباحة الخل لآكله؛ لأنه أكل حلالاً.
الانحراف بالنشيد (البديل الإسلامي):
بعد أن كانت الأناشيد أشعارًا ذات معانٍ راقية تسمو بالنَّفس، وتدعو إلى مكارم الأخلاق، وتحثُّ على الجهاد والعمل الصالح، لا يصاحبها معازف، ولا تخرج عن حدها - تطوَّر النشيد، وركب قطار الإنشاد فريقان: أهل البدع والأهواء من الصوفية، ومن سار على دربهم من المنتسبين للعمل الإسلامي والمخدوعين بهم، وأهل الفسق والفجور ممن يزعمون أنَّهم من التائبين والتائبات، لَمَّا رَأَوْا أن بضاعتهم في الغناء راكدة آسنة لجؤوا بكل ما تحمله قلوبُهم من زيغ، وقالوا: أسلمة الأغاني، فلم يجدوا لهم كثيرَ أتباع، فقالوا: البديل الإسلامي، فدخلت دعواهم على كثير من الناس، واستخدمت المعازف والمؤثرات على أعلى صورة، لم يكن ليتخيلها أحد ممن حرَّم المعازف، أو حتى أباحها؛ بحيث لا يشك صاحب دين في تحريمها، بل ولا صاحب مروءة في فسادها، ثم كثرت الفرق الإنشاديَّة، ولم يقف الحدُّ عند ذلك، بل نافست النساءُ الرجالَ، ونزلن الميدان، فظهرت أولاً أناشيد للأطفال، ثم تطور الأمر، فأنشدت الفتاة البالغةُ، وتدخلت البرامج لتحويل الصوت لصوت طفلة عذبة الصوت، كمجموعة ما يسمى بالطفل والبحر ونحوها، ثم رفع الحياء، وأنشدت الفتاة البالغة، ثم ظهرت الفرق النِّسائية المعروفة والمعلنة، وكانت أولاً للعرس بين النِّساء، ثم صارت شرائطَ تُباعُ، ويكتب عليها للنِّساء فقط، ثم خروج منشدات ينشدن على وقع المؤثرات الصوتيَّة مع رقص بالسامبا.
ولا زال خطُّ الانحراف يزداد يومًا بعد يوم، ولمَ لا؟! فَقَد حذَّرنا الله - تعالى - فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ} [النور: 21]، واسمع من خطوات الشيطان: ظهور امرأة في نشيد أحد المنشدين في الفيديو كليب الإسلامي! الديسكو الإسلامي! الدبكة الإسلامية!
والطامة على أهل الإسلام أنَّ الأمر لم يصبح مقصورًا على المنشدين والمنشدات، بل انبرت له أقلامٌ من صحافةٍ وإعلامٍ وتعليمٍ، وعقدت له النَّدوات والمؤتمرات، وقامت برعايته أنظمة وحكام تغدق الأموال وتحفظه وترعاه؛ لأن به يتحقق الأمل المنشود؛ {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا} [النساء: 27].
ولكن هل يرضى الشيطان بأقل من الكفر؛ قال تعالى: {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الحشر: 16]، فإن الشيطان لما استطاع أنْ يَزُجُّ بحملة كتاب الله إلى دنس المعازف والألحان، ناسين أنَّ مَن وَهَبَهم الصوت الجميلَ، والمنظر البديع، سبحانه قادرٌ على تغييره - أتى الشيطان بما هو أعظم، فقد رأينا اليومَ مَن يدعو إلى تسجيل القرآن بخلفية موسيقية هادئة، فلما وجد أن القلوبَ لا زالت تحمل قدسية للقرآن مهَّد لها بقُراء يقرؤون القرآن على خلفيَّة موسيقية، ثم تحذف الموسيقا بعد تمام التلاوة، والدليل كما يزعم شيطان الإنس: "ليس منا من لم يتغنَّ بالقرآن".
يقول الشيخ الألباني - رحمه الله -: "وإنِّي لأذكر جيدًا أنَّني لما كنت في دمشق - قبل هجرتي إلى هنا (عمان) بسنتين - أنَّ بعض الشباب المسلم بدأ يتغنَّى ببعض الأناشيد السليمة المعنى، قاصدًا بذلك معارضة غناء الصوفية بمثل قصائد البوصيري وغيره، وسجل ذلك في شريط، فلم يلبث إلا قليلاً حتى قرن معه الضَّرب على الدف، ثم استعملوه في أول الأمر في حفلات الأعراس على أساس أن (الدف) جائز فيها، ثم شاع الشريط، واستنسخت منه نسخ، وانتشر استعماله في كثير من البيوت، وأخذوا يستمعون إليه ليلاً ونَهَارًا، بمناسبة وبغير مناسبة، وصار ذلك سلواهم وهِجِّيرَاهم، وما ذلك إلاَّ مِن غلبة الهوى والجهل بمكايد الشيطان، فصرفهم عن الاهتمام بالقرآن وسماعه، فضلاً عن دراسته، وصار عندهم مهجورًا، كما جاء في الآية الكريمة؛ قال الحافظ ابن كثير في تفسيره، (3/317): "يقول تعالى مخبرًا عن رسوله ونبيه محمد - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنَّه قال: {يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا} [الفرقان: 30].
وذلك أن المشركين كانوا لا يسمعون القرآن ولا يستمعونه؛ كما قال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ} [فصلت: 26] الآية، فكانوا إذا تُلِيَ عليهم القرآن، أكثروا اللغط والكلام في غيره؛ حتَّى لا يسمعوه، فهذا من هُجرانه، وترك الإيمان به، وترك تصديقه من هجرانه، وترك تدبُّره وتفهمه من هجرانه، وترك العمل به وامتثال أوامره واجتناب زواجره من هجرانه، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول أو غناء أو لهو، أو كلام أو طريقة مأخوذة من غيره - من هجرانه".
يقول الشيخ محمد بن صالح العثيمين - رحمه الله -: "أرى الأناشيد الإسلاميَّة تغيرت عن مجراها سابقًا، كانت بأصوات غير فاتنة، لكنَّها صارت الآن بأصوات فاتنة، وأيضًا فخمت على أنغام الأناشيد الخبيثة الفاسدة، وقالوا: إنَّها يصحبها الدف، وهذا كله يقتضي أنَّ الإنسان ينبغي أن يبتعد عنها، لكن لو جاءنا إنسانٌ ينشد أناشيدَ لها هدف، وليس فيها شيء من سفاسف الأمور، وبصوته وحدَه من دون آلات لهو - هذا لا بأسَ به، وقد كان حسان بن ثابت ينشد الشِّعر في مسجد النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم"؛ (دروس وفتاوى الحرم المدني عام 1416 هـ، السؤال رقم: 18).
وقال - رحمه الله - أيضًا: "الأناشيدُ الإسلامية كَثُرَ الكلام حولها، وأنا لم أستمع إليها منذ مدة طويلة، وهي أول ما ظهرت كانت لا بأسَ بها، ليس فيها دفوف، وتُؤدَّى تأدية ليس فيها فتنة، وليست على نغمات الأغاني المحرمة، لكن تطورت، وصار يسمع منها قرع يُمكن أن يكون دُفًّا، ويُمكن أن يكون غير دف، كما تطورت باختيار ذوي الأصوات الجميلة الفاتنة، ثم تطورت أيضًا حتى أصبحت تُؤدَّى على صفة الأغاني المحرمة؛ لذلك أصبح في النفس منها شيء وقلق، ولا يُمكن للإنسان أنْ يفتي بأنها جائزة على كل حال، ولا بأنَّها ممنوعة على كل حال، لكن إنْ خلت من الأمور التي أشرت إليها، فهي جائزة، أمَّا إذا كانت مصحوبة بدف، أو كانت مختارًا لها ذوو الأصوات الجميلة التي تفتن، أو أديت على نغمات الأغاني الهابطة - فإنه لا يَجوز الاستماع إليها"؛ (الصحوة الإسلامية ص 185).
وقال الشيخ صالح الفوزان - حفظه الله -: "أمَّا ما تسمونه بالأناشيد الإسلاميَّة، فقد أعطي أكثر مما يستحق من الوقت، والجهد، والتنظيم، حتَّى أصبح فنًّا من الفنون، يحتل مكانًا من المناهج الدراسية، والنَّشاط المدرسي، ويقوم أصحاب التسجيل بتسجيل كميات هائلة منه للبيع والتوزيع، حتى ملأ غالب البيوت، وأقبل على استماعه كثير من الشباب والشابات، حتى شغل كثيرًا من وقتهم، وأصبح استماعه يزاحم تسجيلات القرآن الكريم، والسنة النبوية، والمحاضرات، والدروس العلمية المفيدة"؛ (البيان لأخطاء بعض الكتاب، ص342).
فما البديل الشرعي؟
أولاً: لا بُدَّ أن يعلم كل مسلم ومسلمة أنَّ الإسلام يعني الاستسلام لله - عزَّ وجلَّ - دون منازعة ولا اعتراض بقبول شرعه والتزام أمره؛ قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء: 65]، وقال سبحانه: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُبِينًا} [الأحزاب: 33]، وقال سبحانه: {وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ * وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ * وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ * أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} [النور: 47-52].
ثانيًا: على كل داعية أنْ يُوقن أنه لن يصلحَ أمرَ هذه الأمة إلا بما صَلَحَ به أولُها، وأن جمع أكبر عدد من المؤيِّدين - ولو على حساب الدين - لم يكن سمت أهل القرون الأولى من الصحابة والتابعين، وأنَّ النية الصالحة لا تصحح العمل الفاسد، وأنَّ الوسائل لها حكم المقاصد، فالغاية الصحيحة لا بُدَّ أن يتخذ لها وسيلة مشروعة.
ثالثًا: على المسلم ألا يغترَّ بالأسماء الرنانة، وينظر للحقائق بعين بصير؛ فعن يزيد بن عميرة - صاحب معاذ - أن معاذًا - رضي الله عنه - كان يقول كلما جلسَ مجلسَ ذِكْرٍ: اللهُ حَكَمٌ عَدْلٌ، تبارك اسمه، هلك المرتابون، فقال معاذ بن جبل يومًا في مجلسٍ جلسَه: وراءكم فِتَنٌ يكثر فيها المال، ويفتح فيها القُرآن، حتى يأخذه المؤمن والمنافق، والْحُرُّ والعبد، والرجل والمرأة، والكبير والصغير، فيوشك قائلٌ أنْ يقولَ: فما للناسِ لا يتبعونني، وقد قرأت القرآن؟! والله ما هم بمتبعيَّ حتى أبتدعَ لهم غيره، فإياكم وما ابتدع، فإنَّ ما ابتدع ضلالةٌ، واحذروا زيغةَ الحكيم، فإنَّ الشيطان قد يقول كلمةَ الضَّلال على فم الحكيم، وقد يقول المنافق كلمة الحق، قال: قلت له: وما يدريني - يرحمك الله - أنَّ الحكيم يقول كلمةَ الضلالةِ، وأن المنافق يقول كلمةَ الحق؟ قال: اجتنب من كلام الحكيم المشتبهات التي تقول: ما هذه؟ ولا ينئينَّك ذلك منه، فإنه لعله أنْ يُراجِع، ويَتلَقَّى الحقَّ إذا سمعه، فإن على الحقِّ نورًا".
رابعًا:البديل عن كل صور الجاهلية هو التزام ما أمر الله به؛ قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا * ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا} [النساء: 70].
يقول ابن القيم - رحمه الله -: "فعوض عباده المؤمنين بالأذان عن النَّاقوس والطنبور، كما عوضهم دعاءَ الاستخارة عن الاستقسام بالأزلام، وعوضهم بالقرآن وسماعه عن قرآن الشيطان وسماعه وهو الغناء والمعازف، وعوضهم بالمغالبة بالخيل والإبل والبهائم عن الغلابات الباطلة، كالنرد والشطرنج والقمار، وعوضهم بيوم الجمعة عن السبت والأحد، وعوضهم الجهادَ عن السياحة والرهبانية، وعوضهم بالنِّكاح عن السفاح، وعوضهم بأنواع المكاسب الحلال عن الرِّبا، وعوضهم بإباحة الطيبات من المطاعم والمشارب عن الخبيث منها، وعوَّضهم بعيد الفطر والنَّحر عن أعياد المشركين، وعوَّضهم بالمساجد عن الكنائس والبيع والمشاهد، وعوَّضهم بالاعتكاف والصيام وقيام الليل عن رياضات أهل الباطل من الجوع والسَّهر والخلوة التي يعطل فيها دين الله، وعوضهم بما سنه لهم على لسان رسوله عن كل بدعة وضلالة"؛ (أحكام أهل الذمة، 3/1239).
ويقول - رحمه الله -: "وكل سماع في القرآن مَدَح الله أصحابه، وأثنى عليهم، وأمر به أولياءه، فهو هذا السماع، وهو سماع الآيات لا سماع الأبيات، وسماع القرآن لا سماع مزامير الشيطان، وسماع كلام رب الأرض والسماء لا سماع قصائد الشُّعراء، وسماع المراشد لا سماع القصائد، وسماع الأنبياء والمرسلين لا سماع المغنين والمطربين.
فهذا السماع حادٍ يَحدو القلوب إلى جوار علاَّم الغيوب، وسائق يسوق الأرواح إلى ديار الأفراح، ومحرك يثير ساكن العزمات إلى أعلى المقامات وأرفع الدرجات، ومنادٍ ينادي للإيمان، ودليل يسير بالركب في طريق الجنان، وداعٍ يدعو القلوب بالمساء والصباح من قبل فالق الإصباح: حي على الفلاح، حي على الفلاح.
فلم يعدم من اختار هذا السماع؛ إرشادًا لحجة، وتبصرة لعبرة، وتذكرة لمعرفة، وفكرة في آية، ودلالة على رشد، وردًّا على ضلالة، وإرشادًا من غيٍّ، وبصيرة من عمى، وأمرًا بمصلحة، ونهيًا عن مضرة ومفسدة، وهداية إلى نور، وإخراجًا من ظلمة، وزجرًا عن هوى، وحثًّا على تُقًى، وجلاء لبصيرة، وحياة لقلب، وغذاءً، ودواءً، وشفاءً، وعصمة، ونجاة، وكشفَ شبهة، وإيضاحَ برهان، وتحقيقَ حقٍّ، وإبطال باطل.
ونحن نرضى بحكم أهل الذَّوق في سماع الأبيات والقصائد، ونُناشدهم بالذي أنزل القرآن هدًى وشفاء، ونورًا وحياة: هل وجدوا ذلك أو شيئًا منه في الدُّف والمزمار، ونغمة الشادن ومطربات الألحان، والغناء المشتمل على تهييج الحب المطلق، الذي يشترك فيه مُحب الرحمن، ومحب الأوطان، ومحب الإخوان، ومحب العلم والعرفان، ومحب الأموال والأثمان، ومحب النِّسوان والْمُردان، ومحب الصلبان، فهو يثير من قلب كل مشتاق ومحب لشيء ساكنه، ويزعج قاطنه، فيثور وَجْدُه، ويبدو شوقه، فيتحرك على حسب ما في قلبه من الحب والشَّوق والوجد بذلك المحبوب، كائنًا ما كان، ولهذا تَجِدَ لهؤلاء كلهم ذوقًا في السماع، وحالاً ووجدًا وبكاء.
ويا لله العجب! أيُّ إيمانٍ ونور وبصيرة وهدًى ومعرفة تَحصل باستماع أبياتٍ بألحان وتوقيعات، لعلَّ أكثرها قيل فيما هو مُحرَّم يبغضُه الله ورسوله، ويعاقب عليه، مِن غزل وتشبيب بمن لا يَحل له من ذكر أو أنثى؟!
فإنَّ غالبَ التغزُّل والتشبيب إنَّما هو في الصور المحرمة، ومن أندر النادر تغزُّل الشاعر وتشبيبه في امرأته وأَمَتِه وأم ولده، مع أنَّ هذا واقع، لكنه كالشعرة البيضاء في جلد الثَّور الأسود، فكيف يقع لمن له أدنى بصيرة وحياة قلب أنْ يتقرَّب إلى الله، ويزداد إيمانًا وقربًا منه وكرامة عليه بالتذاذه بما هو بغيض إليه، مقيت عنده، يمقت قائله والراضيَ به؟! وتترقى به الحال حتى يزعم أنَّ ذلك أنفع لقلبه من سماع القرآن والعلم النافع وسنة نبيه، يا لله!
إنَّ هذا القلب مخسوف به، ممكور به، منكوس لم يصلح لحقائق القرآن وأذواق معانيه ومطالعة أسراره، فبلاه بقرآن الشيطان"؛ (مدارج السالكين، 1/485).
من أبصر الحقَّ واهتدى، فقد نجا، ومن عَمِيَ عنه، فقد ضل سعيه، وخسر، وأعظم منه خسرانًا مَن بان له الحقُّ، فأعرض عنه وأبى.
فيا مَن يرجو لقاء ربِّه، إنْ بصَّرك الله بالحقِّ - وذلك فضل يؤتيه من يشاء - فاحْمَدِ الله، والتزم بما أمرك به، تكن من السُّعداء في الدنيا والآخرة.
أسأل الله أن نكون ممن يستمعُ القول فيتبع أحسنه... اللهم آمين.
أبو مريم محمد الجريتلي
رد: المعازف وما يتعلق بها من أحكام2
جزاك الله خيرا على النقل الرائع
رد: المعازف وما يتعلق بها من أحكام2
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الرسام ع
جزاك الله خيرا على النقل الرائع
شكرا لمرورك على مشاركتي
رد: المعازف وما يتعلق بها من أحكام2
رد: المعازف وما يتعلق بها من أحكام2
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صناع الحياة
الشكر لك أخي صناع الحياة على تواصلك الدائم