تحقيق التوازن في الحياة خيال أم حقيقة؟
كثيرٌ من الناس يتحدثون عن النجاح في الحياة، وتختلف وجهات النظر في تقييم النجاح؛ فهناك مَن يظن أن النجاح في أمرٍ ما لا بُدَّ أن يطغى على النواحي الأخرى، فيرَون أن مَن أراد أن ينجح في عمله فلا بُدَّ أن يأتي ذلك على حساب أسرته وصحته بل ودينه، وهؤلاء الذين يقولون بذلك بعدما يحققون شيئًا من التفوق في أعمالهم يصبحون - هم أنفسهم - ضحايا، فيكتشفون أنهم ليسوا سعداء؛ فيقرر بعضهم اعتزال العمل والناس، ويعزم البعض على الإغراق في الشهوات والملذَّات والبحث عنها؛ ظنًّا منه أن فيها السعادة، وينوي البعض الآخر الانتحار؛ والسبب الرئيس وراء هذه الحيرة هو الجهل بطبيعة الإنسان، فالإنسان - فيما أراه - له أركان أربعة وهي: الروح، والعقل، والجسد، والعاطفة، وهذه الأركان هي مثل أرجل المنضدة الأربع، إذا انكسرت إحداها تسقط المنضدة ولا بد.
والذي يتأمل آيات الكتاب العزيز يتبين له كيف يتناول القرآن هذه الأركان جميعًا، فالجانب الروحي يتمثل في علاقة العبد بربه، والإيمان به وبرسله وكتبه، والتوكل عليه والرضا بقضائه، والصبر على بلائه والشكر لنعمائه، وهذا الضرْب كثير في القرآن.
وأما الجانب العقلي فكثير أيضًا؛ فالله - عز وجل - يعرض الحجج العقلية والمنطقية على البشر، ويضرب لهم الأمثال، ويدعوهم للتفكر والتدبر والتذكر، والتأمل في أنفسهم وفي الكون من حولهم، وفي خلق السماوات والأرض، ثم يقرر ربنا - سبحانه وتعالى - أن الآيات لا يفقهها ولا يعيها إلا الذين يعقلون، والذين يفقهون، والذين يعلمون، أما جانب الجسد فقد عالجه القرآن أيضًا؛ يقول - تعالى -: {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلاَ تُسْرِفُوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} [الأعراف: 31]، ويقول - تعالى -: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} [الأعراف: 32]، ويقول - تعالى -: {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا} [النساء: 3]، وقال - تعالى -: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27]، ويقول - تعالى -: {لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} [البقرة: 286].
وكذلك جانب العاطفة تناوله القرآن، ومن ذلك عاطفة الأم تجاه ولدها؛ فقال - تعالى -: {وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلاَ أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [القصص: 10]، ومنه عاطفة الأب تجاه ولده؛ فقال - تعالى -: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ} [يوسف: 84].
ومنه العاطفة بين الزوجين: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} [الروم: 21]، ومنه العاطفة في الدين؛ قال - تعالى -: {وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الحشر: 9].
وهذه بعض النماذج من كتاب الله - عز وجل - والتي تدل على أن دعوة الإسلام هي دعوة للتوازن في الأركان الأربعة جميعًا؛ لذلك فشريعة الإسلام هي الشريعة الوحيدة التي تصلح لتحكم الكون؛ لأن الذي شرعها هو خالق الكون: {أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك: 14].
لكن يبقى السؤال مطروحًا: هل تحقيق التوازن أمر ممكن أم مستحيل؟ وأول خطوة للإجابة عن هذا السؤال هي معرفة معنى التوازن وأركانه، وها نحن قد عرفناه - على الأقل من وجهة نظري القاصرة - يبقى لنا أن نفعل هذه الأركان جميعًا في يومنا وليلتنا، حتى يصبح التوازن المنشود واقعًا نلمسه ونعيشه ونجني من ثماره.
فإذا قلنا: إن اليوم 24 ساعة فكيف نقسم هذه النواحي الأربع خلاله، مع مراعاة أمر النية التي تجعل من العادات عبادات؟ قال المصطفى - صلى الله عليه وسلم -: ((وفي بضع أحدكم صدقة))، وكذلك قد تتداخل تلك الأركان في عمل واحد، لكن بطريقة نظرية افتراضية نقول: لنجعل للجسد 10 ساعات، تشمل النوم والطعام ونحو ذلك، يتبقى من اليوم 14 ساعة، يمكن أن تقسم على الأركان الثلاثة الباقية على النحو التالى؛ على سبيل المثال: للروح 4ساعات، وتشمل الصلوات المفروضة والنوافل وقراءة القرآن، والذكر والدعاء وقراءة شيء من كتب الرقائق، مثل "مدارج السالكين"؛ لابن القيم، أو غيره، يتبقى 10 ساعات، فيمكن أن نجعل للعقل 8ساعات، فإذا كانت ساعات العمل 6 ساعات - والمفترض أن ساعات العمل هي ساعات يتألَّق فيها العقل - يمكن استثمار ساعتين في القراءة أو الكتابة أو نحو ذلك مما يثري العقل، وإذا كانت ساعات العمل 8 ساعات، فيمكن استثمار أوقات الراحات أو الفراغ بين ساعات العمل في شيء مما ذكرت.
يبقى لنا ساعتان للركن العاطفي، وهذه يقضيها المرء مع أهله وأولاده، أو آبائه أو إخوانه، أو في السعي في حاجة مسكين أو محتاج، أو في عيادة مريض، ونحو ذلك مما يعالج قسوة القلب ويضمن يقظة العاطفة.
بالطبع هذا التقسيم - كما قلت – نظري؛ للرد فقط على مَن يشكك في تحقيق التوازن، وكذلك هذا التقسيم لن يناسب العالم أو الداعية أو الكاتب، ومَن كان في مضمارهم؛ فهؤلاء لا يغنيهم هذا التقسيم ولا يناسبهم، ويفضل أن تكون الساعات التي يمضيها الناس في أعمالهم في المكاتب والمحاكم والمتاجر تكون بعضها أو كلها يصرفونها في شؤون مهمتهم؛ إذ لا يعقل أن مَن تصدَّر لتعليم الناس الدين، أو لِمَن يعمل في اكتشاف علمي ينفع به المسلمين، أو لِمَن يصنف ويحقق أن يكون يومه كسائر الناس.
والله أعلم.
وسيم الهلالي نصر الدين
رد: تحقيق التوازن في الحياة خيال أم حقيقة؟
رد: تحقيق التوازن في الحياة خيال أم حقيقة؟
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صناع الحياة
شكرا لمرورك العطر على مشاركتي أخي الفاضل صناع الحياة