التحايل على الشريعة وتتبع الرخص
بسم الله الرحمن الرحيم
التحايل على الشريعة وتتبع الرخص
محمد الغباشي
الاحتيال صِفةٌ مذمومة قبيحة، تُنقِص مِن قدْر صاحبها عندَ الله وعندَ الناس، بل وتُشوِّه صورته فيما بينه وبين نفْسه، هذا إنْ مارسه الإنسانُ في حقِّ أخيه الإنسان، فاستولى به على ماله أو شيءٍ من ممتلكاته بغير وجْه حق، أما إنْ كان الاحتيالُ والالْتِفاف على الشريعة والحلال والحرام؛ للتنَصُّل من التكاليف الشرعيَّة، وإعطاء مسوِّغات غير مقْنِعة للتفلُّت من أحكام الشريعة، فهذا أذمُّ وأقْبح من سَلفِه؛ فالمخادعة إنْ ساغتْ في حقِّ البشَر وانطلتْ عليهم، وظنوا بصاحبها التَّقْوى واتِّباعَ الشَّرْع، فإنَّها لا تَنْطَلي على الله تعالى، فهو يعلم السِّرَّ وأخْفَى، ويحيط بمكنونات البشَر وخفاياهم ومراداتهم: ﴿ أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ﴾ [الملك: 14].
وفي مَوْسم الحج - وهو أحد مواسمِ الرُّخَص - الشرعية منها وغير الشرعية - تكثُر الاستفسارات والاستفتاءات حولَ شعائر الحج، وما يجوز منها وما لا يجوز، والرُّخَص التي يمكن أن يترخَّص بها الإنسان للتخفُّفِ من أعباء الحجِّ ومتاعبه؛ لذلك يلجأ كثيرون إلى مَن يُخفِّف عنهم تلك الأعباء، بالترخيص في ترْك بعض الشعائر أو التخفُّفِ منها، بحجَّة أنَّ ذلك من الشرع، وأنَّه نوعُ تيسيرٍ على العامَّة والضعفاء، وأنَّ النبي - عليه السلام - رخَّص لكثيرين بقوله: ((افعلْ ولا حرَجَ)).
وهذا حقٌّ مُبَطَّنٌ بالباطل في أحيانٍ كثيرة؛ فالدِّين يُسْرٌ ولا شكَّ، وما خُيِّر النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - بيْن أمرين إلا اختار أيسرَهما بلا جدال، ولكن ينبغي أن يكون ذلك منضبطًا بضوابطِ الشرع، لا بالأهواء والميول الشخصية، فاختيار أيسرِ الأمرين كان دأب النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - حقًّا، ولكن ما لم يكن ذلك الأيسرُ إثمًا، فإنْ كان إثمًا كان أبعدَ الناس عنه، وهذا هو الضابطُ في المسألة، ألاَّ يكون أحدُ الأمرين إثمًا أو مخالفًا لهَدْيه - عليه السلام - وما عليه صحابتُه الكرام، أو مخالفًا للشريعة الغَرَّاء وما اقْتَضَتْه قواعدُها العامَّة، فإنْ كان هذا اليسير أو الأيسر على غيرِ الهَدي النبوي، فإنَّه ليس مقْصودًا في النصوص الشرعيَّة، إنَّما المقصود أن يكون اليسيرُ على الهَدْي، فإنْ لم يكن كذلك لَم يكن مِن الخيارات المَطْروحة مِن حيثُ الأصلُ.
وهذه مسألةٌ في غاية الأهمية؛ فينبغي على غير طالِب العِلمِ أو غيرِ الفقيه أن يجتهدَ في تحديد الشخصية التي تصلُح لإفتائه؛ فالعاميُّ ليس له إلمام بالنظر في الأدلَّة الشرعية والمفاضَلة بينها، ولا لديه الآليَّاتُ الشرعيَّة التي عنْ طريقها يُمكنه استنباط الأحكام مِن النُّصوص، ولا حتى مجرَّد القُدرة على الحُكم بصحَّة النَّص وثبوته مِن عدمها، وعليه فإنَّه مُكلَّف باختيار مَن يثق في ديانته وتمكُّنِه مِن استنباط الأحكام والمُفاضَلة بين النصوص، أمَّا تتبُّعه للأقوال الشاذَّة أو المرْجوحة التي لا سندَ شرعيًّا لها، ولا دليلَ عليها؛ إراحةً لنفسه من عناء اتِّباع الدليل، أو استثقالاً للأقوال الراجحة في المسائل المختلفة، فهذا اتِّباعٌ للهوى، واحتيال على الشَّرْع يُذَمُّ صاحبُه، ويستحقُّ العقوبة.
ولكن هذه المسألة - أعني: اختيار المفتي أو الفقيه - باتتْ هي الأخرى محلَّ اختلاف بيْن العامة، أو حتى بين العاملين للدِّين، أو إنْ شئت فقل: محل اتباع للأهواء هي الأخرى، فإنْ كان العامي قد قَصُر به جهلُهُ وقِلَّةُ ذات يدِه العِلمية عن إدراك دقَّة العالم أو الفقيه، ومدى تمسُّكِه بالنص الصحيح واتِّباعه للدليل، فإنَّ العاملين للدِّين وطلبةَ العِلم ليسوا كذلك، فيَنبغي ألاَّ تُحرِّكهم انتماءاتهم "الحزبية"، وميلُهم القلبي لعالِم دون آخَرَ عن اتباع الحق واستقصائه، وهذا شأنُ المصلحين من السَّلَف والخَلَف؛ حيث كان الدليل الشرعي حاديَهم، يُنير لهم طريقَهم، ويُزيل عنهم جهالتَهم، بغضِّ النظر عمَّن أخذ به، أهو في معسكرهم أم في معسكر غيرهم، على مذهبهم أم على مذهب غيرهم.
إلا أنَّ بعض طلبة العلم والعاملين للدِّين هم أقربُ إلى العامة منهم إلى المتعلِّمين، حيث تُحرِّكهم أهواؤهم، وتَحدُوهم أفكارهم، وتسيطر عليهم انتماءاتُهم، فعلَى الرغم مما يُرى من بعضهم مِن ثقافة واطِّلاع في ميادينَ كثيرة، إلا أنَّ "ثقافتهم" الشرعية - إنْ صحَّ التعبير- من الضحالة بمكان، بل يُمكننا أن نقول: إنَّ بعضَهم يسلُك مسلكًا من التساهُل في الالتزام بالأحكام الشرعيَّة عن قصْد منه - أو عن جهل - بهدَف إظهار الجانبِ الإيجابي مِن الإسلام - هكذا يرون - فإنْ قدَّر الله لهم أن يكون شيخُهم وإمامهم - المعتمد لديهم - من المتساهلين الذين قد يُسايرون الواقِعَ أحيانًا، ويسيرون على الدَّرْب أحيانًا أخرى، ساروا على نهْج التساهُل والتميُّع نفسه، بل صار ذلك سليقةً في طبائعهم؛ حتى ضيَّعوا كثيرًا من الدِّين بحجَّة الأخْذ بقول الشيخ؛ فهو لديهم عالِمٌ مجتهد.
وفي المقابل إنْ قدَّر اللهُ لآخرين أن يكون شيخُهم وعالمهم - المعتمد لديهم - من المتشدِّدين في كلِّ كبيرة وصغيرة - ونقصد بذلك مَن يُقيم الناس على مبادئ الاحتياط ويُلزِمهم بها - ساروا على نهجِ التشديد، لا على النفس فقط، ولكن على الآخرين كذلك، فألْزَموا أنفسَهم وغيرَهم بأمور زائدة على الشريعة، واحتياطاتٍ بلا مسوِّغ، وألْزموا بها غيرَهم دون سندٍ شرعي، أو دليل صحيح.
ولا شكَّ أنَّ كِلاَ الفريقين مخطِئ، فالزيادة في الشريعة والانتقاص منها على نَفْسِ المسافة مِن الافتئات على الدِّين، والأَوْلى منهما والأصوبُ أن يَتَّبع الإنسانُ الدليل الصحيح مِن كتاب ربِّه تعالى، وسُنَّة نبيه - عليه السلام - دون الالْتفات إلى زلاَّت العلماء أو أخطائهم، أو انتماءاتِهم التي قد تُملي عليهم أحيانًا الأخْذَ بقولٍ مرجوح أو بغيْر دليل، فلكلِّ عالم زلَّة، ولكل جَوادٍ كَبْوة، أما تتبُّع زلاَّت العلماء وترخيصاتهم فهو مِن النفاق، كما أكَّد ذلك سلفُنا الصالحون.
وهناك مِن الناس مَن يَظلُّ يتردَّد على المفتين - العلماء منهم والجهَّال - حتى يصلَ إلى مَن يفتيه بما يوافِق هواه، فيأخذ فَتواه ويَطير بها في الآفاقِ فرحًا أنْ وصل إلى مرادِه، وهذا هو الهوى المذموم، بل على الإنسانِ أن يختارَ مفتيَه بعناية ودقَّة، فإنْ أفتاه سلَّم لأمرِ الله تعالى دون حرَج في نفسه أو استثقالٍ للتكليف.
إنَّ طلبةَ العلم أو العاملين للدِّين بما لديهم مِن مبادئ وأساسيات علميَّة - أو حتى ثقافة إسلاميَّة عامَّة على أقلِّ تقدير - يُمكنهم أن يتبيَّنوا من دقَّة المفتين ومدى اتِّباعهم للحق؛ من خلالِ سلوكياتهم وعملهم الموافِق للكتاب والسُّنَّة؛ فالعلماء الربَّانيون أشدُّ الناس تمسكًا بدِينهم، وأكثر الناس بُعدًا عن شهواتِ الدنيا ومتاعها، بالإضافةِ إلى كون أقوالهم وفتاواهم تَنطلق من مشكاةٍ واحدة مع أقوالِ وفتاوى السابقين، فلا يخالفون إجماعًا، ولا يَشُذُّون عن القافلة، بل يأتي كلامُهم على السِّياق ذاته، ينسجون على منوالِ مَنْ سبَقَهم مِن أهل العلم، وبذلك يُعرَفون.
فإذا استقرَّ المستفتي على مفتيه، وتيقَّن مِن سَيْره على النهج، فعليه أن يَحذر من الشذوذات والزلاَّت التي قد تصدُر عن المفتي، وهي قليلةٌ قليلةٌ لدَى أهل الحق، ولكن يظهر شذوذُها ومخالفتها للسياق العامِّ مِن حرجٍ يجده العامِّيُّ في قلْبه، وشعور عميق بأنَّ في الفتوى ما يَثلِمُها، هذا بالإضافة إلى مخالفتِها للأدلَّة الشرعيَّة والأصول العامَّة للإسلام، فهنا عليه أن يُراجِع المفتي أو يطلب دليلَه في المسألة، ولا بأسَ أن يستشير مَنْ حوله مِن طلبة العِلم الموثوقين.
لقدْ شاع بيْن الكثيرين مِن العاملين للدِّين مطالعةُ الدراسات المتعمِّقة حولَ الإسلام والمقارنة بيْن نِظامه وغيره من الأنظمة الوضعيَّة الأخرى، سواء أكان ذلك في السياسة أم الاجتماع أم الاقتصاد، أم غير ذلك مِن المجالات، وهذا ولا شكَّ أمرٌ مهم، بل قد يكون مِن فروض الأعيان أو الكِفايات، ولكن طغيان جانبٍ مِن جوانب العلوم على جانبٍ آخَرَ من شأنه أن يُحدِث بلبلةً وتخبُّطًا لدَى المثقَّف أو العامل للدِّين، حيث إنَّه يكثر المطالعة والدِّراسة لهذا الجانب دون أن يكون لديه الأساسيات العِلمية التي يَبني عليها استيعابَه للفِكْرة أولاً ثم نقْده لها تاليًا، فما لم تكن لديه الأرضيةُ والقاعدةُ التي يرصُّ عليها أحجارَ العلوم لم تثبُت، فضلاً عمَّا إذا كانتْ هذه العلوم موافقةً للمنهج الحق مِن الأساس أم لا.
قد تكون الهجماتُ المستغربة والعلمانية قويةً على المجتمع الإسلامي، الأمر الذي يَفرِض علينا مُواجهتَها بمِثل حُجَّتها، ودراسة مناهجها الوضعيَّة العقيمة وفضْحَها أمامَ العامَّة، بذِكْر مساوئها ومزايا النِّظام الإسلامي، ولكن ذلك ينبغي ألا يُنسيَنا الاهتمامَ بأن يكون لدَى الكلِّ حدٌّ ولو أدْنى مِن العلوم الشرعية التي تَقِي المسلمَ مِن الزلل، وتربأ به عن الشَّطَط، وبذلك يجمع الدارسُ بيْن صفاء المنهج والعِلم به - ولو بحدِّه الأدنى - وبين معرفةِ الواقِع والإلْمام به ودرايته، وبهما يحصُل التوازن الذي يُتَّقَى به التشوُّه الفِكري الذي قد يقع بسبب تنمية جانبٍ على حساب جانبٍ آخَر.
ويترتَّب على هذه المسألة مسألةٌ أخرى، وهي شموليةُ المنهج الإسلامي وهيمنتُه على حياة الفَرْد، من أدنى أمر مِن شؤون حياته إلى أعلاها، ونضرِب لذلك مثالاً - وإنْ كان يسيرًا إلا أنَّه يُبرِز مدى ما وصَل إليه حالُ الترخُّص بيْن بعض العاملين للدِّين - وهو مظهرٌ من مظاهرِ الالتزام عندَ النساء، ففيما مضَى مِن زمان كان هناك اتِّفاق بيْن جميع الفصائل على حدٍّ أدنى مِن الزيِّ تلبسه المرأة المسلمة، وهو الخمار، ذلك الذي يُغطِي الرأس وينزل إلى ما فوقَ الرُّكْبة أو أعلى مِن ذلك قليلاً، وبعضُ النساء كُنَّ يرتدين النقاب فوقَ الخمار أو الجلباب؛ وذلك انطلاقًا من الخلاف الدائرِ في المسألة حولَ تغطية وجه المرأة، ولكن الآن بِتْنَا نرى عجبًا، حيث نرى مِن بعض الكاتبات والناشِطات والعاملات للدِّين حُسْنَ المناظرة، والمعلومات الغزيرة المتكاثِرة في الموضوعات المهمَّة الجوهريَّة في الدِّين، ونلمس منهنَّ تحمُّسًا كبيرًا وتضحيةً في سبيلِ دعوتهنَّ، ونشاطًا ليس لدى الكثيرين، ثم نفاجأ بأنهنَّ لا يختلفنَ إطلاقًا في زِيهنَّ عن أية امرأة مسلِمة أخرى، بل قد تقلُّ إحداهن في (حِشمتها) عن حِشمة الكثيرات مِن النساء المسلمات، وذلك بحُجَّة وجودِ فتوى مِن العالم الفلاني تُجيز ذلك، أو تَصِفه على أقلِّ تقدير بالكراهة لا الحُرْمة، في الوقت الذي كان فيه هذا الزِّيُّ - أعني: الخمار - شعارًا يُميِّز الأختَ العاملة لدِين الله تعالى عن غيرها، فضلاً عن النِّقاب.
أضِفْ إلى ذلك التوسُّع الكبير المشاهَد في العلاقات بيْن الرِّجال والنِّساء والشباب والفتيات - وأعني بهم: المنتمين للعمل الدعوي - ويَظهر ذلك جيدًا على منتديات الإنترنت، وموقع "فيس بوك" و"تويتر"، وغيرها مِن المواقع الاجتماعيَّة الأخرى، حيث لا يُكتفَى بالتصفُّح والقراءة والتعليقات الجادَّة، ولكن يقَع بين الجِنسين كثيرٌ مِن الحديث والمزاح الذي لا فائدةَ فيه، ولا طائل مِن ورائه إلا مجرَّد الترويح عنِ النفس، وهو أمرٌ لم نعهدْه إلا بيْن الرجال بعضِهم وبعض، أو بيْن النساء بعضهنَّ وبعض.
وهذا مجرَّد مثال مِن أمثلة كثيرة على شَرْعَنة الترخُّص بالرُّخَص الواهية، ومَن أراد الاستزادة، فالأمثلةُ على ذلك كثيرة.
رد: التحايل على الشريعة وتتبع الرخص
رد: التحايل على الشريعة وتتبع الرخص
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة صناع الحياة
شكرا لمرورك العطر على مشاركتي أخي الفاضل صناع الحياة