قذف المحصنات من كبائر الذنوب
لقد حرّم الله تعالى على المسلم الاستطالة في عرض أخيه المسلم ( وسواء في هذا الحكم الرجال والنساء ) .
قال تعالى : ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) [ الأحزاب : 58 ] .
والمعنيّون بالوعيد في هذه الآية هم الذين يستطيلون في أعراض المسلمين ظلماً وعدواناً ( أي ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه " فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبيناً " وهذا هو البَهت الكبير : أن يحكيَ أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم ) كما قال ابن كثيرٍ في تفسيره .
وقال جلّ وعلا : ( إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ) [ النور : 23 ] .
قال ابن جرير : ( نَزَلَتْ هَذِهِ الآيَة فِي شَأْن عَائِشَة , وَالْحُكْم بِهَا عَامّ فِي كُلّ مَنْ كَانَ بِالصِّفَةِ الَّتِي وَصَفَهُ اللَّه بِهَا فِيهَا .
وَإِنَّمَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْلَى تَأْوِيلاته بِالصَّوَابِ ; لأَنَّ اللَّه عَمَّ بِقَوْلِهِ : " إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَات الْغَافِلات الْمُؤْمِنَات " كُلّ مُحْصَنَة غَافِلَة مُؤْمِنَة رَمَاهَا رَامٍ بِالْفَاحِشَةِ , مِنْ غَيْر أَنْ يَخُصّ بِذَلِكَ بَعْضًا دُون بَعْض , فَكُلّ رَامٍ مُحْصَنَة بِالصِّفَةِ الَّتِي ذَكَرَ اللَّه جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي هَذِهِ الآيَة فَمَلْعُون فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَة وَلَهُ عَذَاب عَظِيم , إِلا أَنْ يَتُوب مِنْ ذَنْبه ذَلِكَ قَبْل وَفَاته , فَإِنَّ اللَّه دَلَّ بِاسْتِثْنَائِهِ بِقَوْلِهِ : "إلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْد ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا" عَلَى أَنَّ ذَلِكَ حُكْم رَامِي كُلّ مُحْصَنَة بِأَيِّ صِفَة كَانَتْ الْمُحْصَنَة الْمُؤْمِنَة الْمَرْمِيَّة , وَعَلَى أَنَّ قَوْله : "لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَ الآخِرَة وَ لَهُمْ عَذَاب عَظِيم" مَعْنَاهُ : لَهُمْ ذَلِكَ إِنْ هَلَكُوا وَلَمْ يَتُوبُوا ) .
وروى أبو داود في سننه وأحمد في مسنده بإسنادٍ صحيحٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ).
والمنهي عنه في هذا الحديث هو إطالة اللسان في عرض المسلم ؛ باحتقاره والترفع عليه , والوقيعة فيه بنحو قذفٍ أو سبٍ , وإنما يكون هذا أشد تحريماً من المراباة في الأموال لأن العرض أعز على النفس من المال ، كما قال أبو الطيب العظيم آبادي في (عون المعبود) .
ولمّا كان القذف من أشنع الذنوب ، وأبلغها في الإضرار بالمقذوف والإساءة إليه ، كان التحذير منه في القرآن الكريم شديداً ، ومقروناً بما يردع الواقع فيه من العقوبة .
قال تعالى : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [ النور : 4 ] .
قال الإمام الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية : يقول تعالى ذكره : والذين يشتمون العفائف من حرائر المسلمين , فيرمونهن بالزنا , ثم لم يأتوا على ما رموهن به من ذلك بأربعة شهداء عدول يشهدون عليهن أنهم رأوهن يفعلن ذلك , فاجلدوا الذين رموهن بذلك ثمانين جلدة , ولا تقبلوا لهم شهادة أبداً , وأولئك هم الذين خالفوا أمر الله وخرجوا من طاعته ففسقوا عنها .
وقال الحافظ ابن كثيرٍ رحمه الله : هذه الآية الكريمة فيها بيان حكم جلد القاذف للمحصنة ؛ وهي : الحرة البالغة العفيفة فإذا كان المقذوف رجلا فكذلك يجلد قاذفه أيضا ، وليس فيه نزاع بين العلماء ... وأوجب الله على القاذف إذا لم يُُقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام :
أحدها : أن يجلد ثمانين جلدة .
الثاني : أنه ترد شهادته أبداً .
الثالث : أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس .
والقذف الذي يوجب الحد هو الرمي بالزنا أو اللواط أو ما يقتضيهما كالتشكيك في الأنساب والطعن في الأمّهات تصريحاً على الراجح ( وهو مذهب أبي حنيفة والشافعي) ، لا تعريضاً ولا تلميحاً (خلافاً لمذهب الإمام مالك ومن وافقه ) ، إلاّ إن أقرّ المعرّض بأن مراده هو القذف الصريح .
قال الإمام القرطبي في تفسير آية النور : ( للقذف شروط عند العلماء تسعة : شرطان في القاذف ؛ وهما : العقل والبلوغ ; لأنهما أصلا التكليف , إذ التكليف ساقط دونهما .
وشرطان في الشيء المقذوف به , وهو : أن يقذف بوطء يلزمه فيه الحد , وهو الزنى واللواط ; أو بنفيه من أبيه دون سائر المعاصي .
وخمسة من المقذوف ؛ وهي : العقل والبلوغ والإسلام والحرية والعفة عن الفاحشة التي رمي بها ، كان عفيفاً من غيرها أم لا ) .
قلتُ : والحال المذكورة في السؤال هي من قبيل الطعن في الأعراض بالتعريض والتلميح ، وتعتبر قذفاً موجباً للحدّ عند المالكيّة ، ولا تعتبر كذلك عند الحنفيّة والشافعيّة كما تقدّم ، وفي كلتي الحالتين فإن الوقوع في الأعراض بالتلميح أو التصريح من الذنوب الكبائر ، الموجبة للتوبة واستباحة من تسببت في الإساءة إليه ، قبل أن يأتي يوم لا ينفع فيه مالٌ ولا بنون إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ .
والتوبة من القذف كالتوبة من الغيبة من حيث حكمها وكيفيّتها وشروط قبولها ، وقد بسطناها في مكان آخر ، فليرجع إليها من أراد الاستزادة .
هذا ، والله المستعان ، وعليه التكلان
والحمد لله ربّ العالمين .
رد: قذف المحصنات من كبائر الذنوب
شكرا وبارك الله فيك لك مني أجمل تحية عطره
رد: قذف المحصنات من كبائر الذنوب