حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحق الأول: حق الله تعالى
هذا الحق أحق الحقوق وأوجبها وأعظمها؛ لأنه حق الله تعالى الخالق العظيم المالك المدبر لجميع الأمور،حق الملك الحق المبين الحي القيوم الذي قامت به السماوات والأرض، خلق كل شيء فقدره تقديرا بحكمة بالغة، حق الله الذي أوجدك من العدم ولم تكن شيئا مذكورا، حق الله الذي رباك بالنعم وأنت في بطن أمك في ظلمات ثلاث لا يستطيع أحد من المخلوقين أن يوصل إليك غذاءك ومقومات نموك وحياتك، أدر لك الثديين، وهداك النجدين، وسخر لك الأبوين، أمدك وأعدك.. أمدك بالنعم والعقل والفهم، وأعدك بقبول ذلك والانتفاع به: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [النحل: 78].
فلو حجب عنك فضله طرفة عين لهلكت، ولو منعك رحمته لما عشت، فإذا كان هذا فضل الله عليك ورحمته بك فإن حقه عليك أعظم الحقوق، لنه إيجادك وإعدادك وإمدادك، إنه لا يريد منك رزقًا ولا طعامًا: {لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} [طـه:132].
وإنما يريد منك شيئا واحدا مصلحته عائدة إليك، يريد منك أن تعبده وحده لا شريك له: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ} [الذريات:56-58] يريد منك أن تكون عبدا له بكل معاني العبودية، كما أنه هو ربك بكل معاني الربوبية، عبدًا متذللًا خاضعا له، ممتثلا لأمره مجتنبا لنهيه مصدقا بخبره، لأنك تري نعمه عليك سابغة تتري، أفلا تستحي أن تبدل هذه النعم كفرًا.
لو كان لأحد من الناس عليك فضل لاستحييت أن تبارزه بالمعصية وتجاهره بالمخالفة، فكيف بربك الذي كل فضل عليك فهو من فضله؟ وكل ما يندفع عنك من سوء فمن رحمته: {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ} [النحل:53].
وأن هذا الحق الذي أوجبه الله لنفسه ليسير سهل على من يسر الله له، ذلك بان الله لم يجعل فيه حرجا ولا ضيقا ولا مشقةً قال الله تعالى: {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ} [الحج:78]. إنه عقيدة مثلي وإيمان بالحق وعمل صالح مثمر، عقيدة قوامها المحبة والتعظيم وثمرتها الإخلاص والمثابرة، خمس صلوات في اليوم والليلة يكفر الله بهن الخطايا ويرفع بهن الدرجات ويصلح بهن القلوب والأحوال يأتي بهن العبد بحسب استطاعته: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} [التغابن: من الآية16] الآية.
قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لعمران بن حصين وكان عمران مريضا: (صل قائمًا، فإن لم تستطع فقاعدًا، فإن لم تستطع فعلى جنب) [أخرجه البخاري، كتاب أبواب تقصير الصلاة، باب إذا لم يطق قاعدًا صلى على جنب (1117).].
زكاة هي جزء يسير من مالك تدفع في حاجة المسلمين للفقراء والمساكين وابن السبيل والغارمين وغيرهم من أهل الزكاة.
صيام شهر واحد في السنة، ومن كان مريضا أو على سفر فعدة من أيام آخر، ومن لم يستطع الصيام لعجز دائم يطعم مسكينا عن كل يوم.
حج البيت الحرام مرة واحدة في العمر للمستطيع.
هذه هي أصول حق الله تعالى وما عداها فإنما يجب لعارض: كالجهاد في سبيل الله، أو لأسباب توجيه كالنصر للمظلوم.
أنظر يا أخي هذا الحق اليسير عملا والكثير أجرا إذا قمت فيه كنت سعيدا في الدنيا والآخرة ونجوت من النار ودخلت الجنة: {فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ} [آل عمران: من الآية185].
رد: حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة
الحق الثاني: حق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
وهذا الحق هو اعظم حقوق المخلوقين، فلا حق لمخلوق أعظم من حق رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال الله تعالى: {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح:8-9] الآية.
ولذلك يجب تقديم محبة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على محبة جميع الناس حتى على النفس والولد والوالد. قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) [أخرجه البخاري كتاب الإيمان باب حب الرسول صلى الله عليه وسلم من الإيمان (15) ومسلم كتاب الإيمان باب وجوب محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر من الأهل والولد والناس أجمعين....(44) ].
ومن حقوق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ توقيره واحترامه وتعظيمه التعظيم اللائق به من غير غلو ولا تقصير فتوقيره في حياته توقير سنته وشخصه الكريم وتوقيره بعد مماته توقير سنته وشرعه القويم ومن رأي توقير الصحابة وتعظيمهم لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عرف كيف قام هؤلاء الأجلاء الفضلاء بما يجب عليهم لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال عروة بن مسعود لقريش حينما أرسلوه ليفاوض النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في الصلح في قصة الحديبية، قال: دخلت على الملوك، كسري وقيصر والنجاشي فلم أرَ أحدا يعظمه أصحابه مثل ما يعظم أصحاب محمد محمدا، كان إذا أمرهم ابتدروا أمره وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوءه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون إليه النظر تعظيما له.
هكذا كانوا يعظمونه رضي الله عنهم مع ما جبله الله عليه من الأخلاق الكريمة ولين الجانب وسهولة النفس، ولو كان فظا غليظًا لنفضوا من حوله.
وإن من حقوق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تصديقه فيما أخبر به من الأمور الماضية والمستقبلة وامتثال ما به أمر واجتناب ما عنه نهي وزجر، والإيمان بأن هديه أكمل الهدي وشريعته أكمل الشرائع وأن لا يقدم عليها تشريعًا أو نظاما مهما كان مصدره: {فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا} [النساء:65] {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].
ومن حقوق النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الدفاع عن شريعته وهديه بما يستطيع الإنسان من قوة بحسب ما تتطلبه الحال من السلاح، فإذا كان العدو يهاجم بالحجج والشبه فمدافعته بالعلم ودحض حججه وشبهه وبيان فسادها، وإن كان يهاجم بالسلاح والمدافع فمدافعته بمثل ذلك.
ولا يمكن لأي مؤمن أن يسمع من يهاجم شريعة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أو شخصه الكريم ويسكت على ذلك مع قدرته على الدفاع.
رد: حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة
الحق الثالث: حقوق الوالدين
لا ينكر أحد فضل الوالدين على أولادهما، فالوالدان سبب وجود الولد وله عليهم حق كبير فقد ربياه صغيرا وتعبا من أجل راحته وسهرا من أجل منامه، تحملك أمك في بطنها وتعيش على حساب غذائها وصحتها لمده تسعة أشهر غالبا، كما أشار الله إلى ذلك: {أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْن} [لقمان: من الآية14] الآية. ثم بعد ذلك حضانة ورضاع لمدة سنتين مع التعب والعناء والصعوبة.
والأب كذلك يسعي لعيشك وقوتك من حين الصغر حتى تبلغ أن تقوم بنفسك، ويسعي بتربيتك وتوجيهك وأنت لا تملك لنفسك ضرا ولا نفعا، ولذلك أمر الله الولد بوالديه إحسانًا وشكرا، فقال تعالى: {وَوَصَّيْنَا الْأِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان:14]. وقال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23-24].
إن حق الوالدين عليك أن تبرهما وذلك بالإحسان إليهما قولا وفعلًا بالمال والبدن. تمتثل أمرهما في غير معصية الله وفي غير ما فيه ضرر عليك، تلين لهما القول وتبسط لهما الوجه وتقوم بخدمتهما على الوجه اللائق بهما، ولا تتضجر منهما عند الكبر والمرض والضعف، ولا تستثقل ذلك منهما فإنك سوف تكون بمنزلتهما، سوف تكون أبًا كما كانا أبوين، وسوف تبلغ الكبر عند أولادك إن قدر لك البقاء كما بلغاه عندك، وسوف تحتاج إلى بر أولادك كما احتاجا إلى برك، فإن كنت قد قمت ببرهما فأبشر بالأجر الجزيل، والمجازاة بالمثل، فمن بر والديه بر به أولاده، ومن عق والديه عق به أولاده، والجزاء من جنس العمل فكما تدين تدان، ولقد جعل الله مرتبة حق الوالدين مرتبة كبيرة عالية حيث جعل حقهما بعد حقه المتضمن لحقه وحق رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء: من الآية36] الآية. قال تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: من الآية14]. وقدم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بر الوالدين على الجهاد في سبيل الله كما في حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: (قلت يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله؟ قال: الصلاة على وقتها قلت: ثم أي؟ قال: بر الوالدين قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل الله) [أخرجه البخاري كتاب مواقيت الصلاة باب فضل الصلاة لوقتها (527) ومسلم كتاب الإيمان باب بيان كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال (85).]. وهذا يدل على اهمية حق الوالدين الذي أضاعه كثير من الناس، صاروا إلى العقوق والقطيعة فتري الواحد منهم لا يري لأبيه ولا لأمه حقًا، وربما احتقرهما وازدراهما وترفع عليهما وسيلقي مثل هذا جزاءه العاجل أو الآجل.
رد: حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة
الحق الرابع: حق الأولاد
الأولاد تشمل البنين والبنات وحقوق الأولاد كثيرة من أهمها التربية وهي: تنمية الدين والأخلاق في نفوسهم حتى يكونوا على جانب كبير من ذلك، قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} [التحريم:6] الآية. وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله ومسؤول عن رعيته) [أخرجه البخاري كتاب الجمعة باب الجمعة في ا لقري والمدن (893) ومسلم كتاب الإمارة باب فضلة الإمام العادل وعقوبة الجائر (1827).]. فالأولاد أمانة في عنق الوالدين وهما مسؤولان عنهم يوم القيامة، وبتربيتهم التربية الدينية والأخلاقية يخرج الوالدان مكن تبعة هذه الرعية، ويصلح الأولاد فيكونوا قرة عين الأبوين في الدنيا والآخرة يقول الله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور:21]. ألتناهم: أي نقصناهم: ويقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به من بعده أو ولد صالح يدعوا له) [أخرجه مسلم كتاب الوصية باب ما يلحق الإنسان من الثواب بعد وفاته (1631).]. فهذا من ثمرة تأديب الولد إذا تربي تربية صالحة أن يكون نافعا لوالديه حتي بعد الممات.
ولقد استهان كثير من الوالدين بهذا الحق فأضاعوا أولادهم ونسوهم، كأن لا مسئولية لهم عليهم لا يسألون أين ذهبوا؟ ولا متى جاءوا؟ ولا من أصدقائهم وأصحابهم؟ ولا يوجهونهم إلى الخير ولا ينهونهم عن الشر. ومن العجب أن هؤلاء حريصون كل الحرص على أموالهم بحفظها وتنميتها والسهر على ما يصلحها مع إنهم ينمون هذا المال ويصلحون لغيرهم غالبا أما الأولاد فليسوا منهم في شيء مع أن المحافظة عليه أولي وأنفع في الدنيا والآخرة. وكما أن الوالد يجب عليه تغذية جسم الولد بالطعام والشراب وكسوة بدنه باللباس كذلك يجب عليه أن يغذي قلبه بالعلم والإيمان ويكسو روحه بلباس التقوى فذلك خير.
ومن حقوق الأولاد أن ينفق عليهم بالمعروف من غير إسراف ولا تقصير؛ لأن ذلك من واجب أولاده عليه ومن شكر نعمة الله عليه بما أعطاه ممن المال، وكيف يمنعهم المال في حياته ويبخل عليهم به ليجمعه لهم فيأخذونه قهرا بعد مماته؟ حتى لو بخل عليهم بما يجب فلهم أن يأخذوا من ماله ما يكفيهم بالمعروف كما أفتي بذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هند بنت عتبة.
ومن حقوق الأولاد أن لا يفضل أحدا منهم على أحد في العطايا والهبات فلا يعطي بعض أولاده شيئا ويحرم الآخر، فإن ذلك من الجور والظلم والله لا يحب الظالمين، ولأن ذلك يؤدي إلى تنفير المحرومين وحدوث العداوة بينهم وبين الموهوبين، بل ربما تكون العداوة بين المحرومين وبين آبائهم. وبعض الناس يمتاز أحد من أبنائه على الآخرين بالبر والعطف والديه، فيخصه والده بالهبة والعطية من أجل ما امتاز به من البر ولكن هذا غير مبرر للتخصيص فالمتميز بالبر لا يجوز أن يعطي عوضا عن بره، لأن أجر بره على الله، ولأن تمييز البار بالعطية يوجب أن يعجب ببره ويري له فضلا وأن ينفر الآخرين ويستمر في عقوقه، ثم إننا لا ندري فقد تتغير الأحوال فينقلب البار عاقا والعاق بارًا، لأن القلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء.
وفي الصحيحين صحيح البخاري ومسلم عن النعمان بن بشير أن أباه بشير بن سعد وهبه غلاما فأخبر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بذلك فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (أكل ولدك نحلته مثل هذا؟ قال: لا. قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأرجعه) [أخرجه البخاري كتاب الهبة باب الهبة للولد (2587) ومسلم كتاب الهبات باب كراهة تفضيل بعض الأولاد في الهبة (1623/9).]. وفي رواية: (اتقوا واعدلوا بين أولادكم) [أخرجه البخاري كتاب الهبة باب الاشهاد في الهبة (2587) ومسلم في الموضع السابق (1623/13).]. وفي لفظ: (أشهد على هذا غيري، فإني لا أشهد على جور) [أخرجه البخاري كتاب الهبة الشهادات باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد (2650) ومسلم في الموضع السابق (1623/14).]. فسمي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تفضيل بعض الأولاد على بعض جورا والجور ظلم وحرام.
لكن لو أعطي بعضهم شيئا يحتاجه والثاني لا يحتاجه مثل أن يحتاج أحد الأولاد إلى أدوات مكتبة أو علاج أو زواج فلا بأس أن يخصه بما يحتاج إليه لأن هذا التخصيص من اجل الحاجة فيكون كالنفقة.
ومتي قام الوالد بما يجب عليه للولد من التربية والنفقة فإنه حري أن يوفق الولد للقيام ببر والده ومراعاة الحقوق، ومتي فرق الوالد بما يجب عليه من ذلك كان جديرا بالعقوبة بأن ينكر الولد حقه ويبتلي بعقوقه جزاء وفاقا وكما تدين تدان.
رد: حقوق دعت إليها الفطرة وقررتها الشريعة
الحق الخامس: حقوق الأقارب
للقريب الذي يتصل بك في القرابة كالأخ والعم والخال وأولادهم وكل من ينتمي إليك بصلة فله حق هذه القرابة بحسب قربه، قال تعالى: {وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ} [الإسراء: من الآية26]. الآية وقال: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى} [النساء: من الآية36]. فيجب على كل قريب أن يصل قريبه بالمعروف ببذل الجاه والنفع البدني والنفع المالي، بحسب ما تتطلبه قوة القرابة والحاجة وهذا ما يقتضيه الشرع والعقل والفطرة.
وقد كثرت النصوص في الحث على صلة الرحم وهو القريب، والترغيب في ذلك، ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (إن الله خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة. فقال الله: نعم أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك؟ قالت: بلي. قال: فذلك لك). ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ} [محمد:22- 23] [أخرجه البخاري في كتاب الأدب باب من وصل وصله الله (5987) ومسلم كتاب البر والصلة والآداب باب صلة الرحم وتحؤيم قطيعتها (2554).]. وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه) [أخرجه البخاري كتاب الأدب باب إكرام الضيف وخدمته إياه بنفسه (6138).].
وكثير من الناس مضيعون لهذا الحق مفرطون فيه، تجد الواحد منهم لا يعرف قرابته بصلة، لا بالمال ولا بالجاه ولا بالخلق وتمضي الأيام والشهور من رآهم ولا قام بزيارتهم ولا تودد إليهم بهدية، ولا دفع عنهم ضرورة أو حاجة، بل ربما أساء إليهم بالقول أو بالفعل |أو بالقول والفعل جميعا، يصل البعيد ويقطع القريب.
ومن الناس من لا يصل أقاربه إن وصلوه ويقطعهم إذا قطعوه. وهذا ليس بواصل في الحقيقة إنما هو مكافئ للمعروف بمثله وهو حاصل للقريب وغيره، فإن المكافأة لا تختص بالقريب، والواصل حقيقة هو: الذي يصل قرابته لله ولا يبالي سواء وصلوه أم لا، كما في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها) [ أخرجه البخاري كتاب الأدب باب ليس الواصل بالمكافئ (5991). ]. وسأله رجل فقال: (يا رسول الله إن لي قرابة أصلهم ويقطعونني، واحسن إليهم ويسيئون إليّ، وأحلم عليهم ويجهلون عليّ فقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لئن كنت كما قلت فكأنما تسفهم المل ّ، ولا يزال معك من الله ظهير عليهم ما دمت على ذلك) [أخرجه مسلم كتاب البر والصلة والآداب باب صلة الرحم وتحريم قطيعتها (2558).]. رواه مسلم.
ولو لم يكن في صلة الرحم إلا أن الله يصل الواصل في الدنيا والآخرة فيمده بالرحمة وييسر له الأمور ويفرج عنه الكربات. مع ما في صلة الرحم من تقارب الأسر وتوادهم وحنو بعضهم على بعض ومعاونة بعضهم البعض في الشدائد والسرور والبهجة والحاصلة بذلك كما هو مجرب معلوم. وكل هذه الفوائد تنعكس حينما تحل القطيعة ويحصل التباعد.