عودة ليوسف المغلوب على أمره 000 ودين الملك

عودة ليوسف المغلوب على أمره 000 ودين الملك
بسم الله الرحمن الرحيم
طرحنا في المشاركة الأولى: يوسف المغلوب على أمره 00 يصبح عليه السلام عزيز مصر، سؤالين، وسنجيب إن شاء الله تعالى في هذه المدونة عن السؤال الأول، وستكون إجابة السؤال الثاني في التي تليها0
السؤال الأول: كيف لنبي أن يعمل تحت إمرة حاكم كافر؟
لقد رضي نبي الله يوسف عليه السلام العمل في ظل الملك الذي كان في زمنه0
وأنه لم يستطع أخذ أخيه في دين الملك، فأخذه بحكم إخوته على من يفعل فعله قبل أن يعرفوا أن السقاية قد دست في رحل أخيهم؛ قال تعالى: (قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) وقال تعالى: (00 كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاء اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) يوسف0
فكيف يرضى نبي من أنبياء الله المعصومين فعل ذلك؟
الجواب على ذلك لا يكون إلا من كتاب الله تعالى، وباللغة التي أنزلها الله تعالى بها كتابه المعجزة 000 والرجوع إلى الإسرائيليات فيها من الخطورة التي لا تستبين أحيانًا للعالم 00 فكيف بقليل العلم أو الجاهل؟!
الجواب على ذلك؛ أن الدين يطلق على الشرع، ويطلق على العادة؛ وتطبيق أوامر الدين والالتزام بها يجعلها عادة عند صاحبها لا يألف غيرها، ويثقل عليه الخروج عنها0
فعندما يؤدي الفاعل الأفعال ويكررها ويلتزم بها ويتمسك بها ولا يخرج عنها، تصبح هذه الأفعال دينًا له، كانت من شرع الله، أو ضلالات، وشركًا بالله، قال تعالى : (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) 00 لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6) الكافرون 00 لذلك يقال: هذا ديني وديدني، أي عادتي التي لا أخرج عنها0
والدِين: الطاعة، والذل، ومن ذلك قول الرسول صلى الله عليه وسلم: [أُريد من قريش كلـمة تَدينُ لهم بها العرب أَي تطيعهم وتـخضع لهم]، والمدين/ المملوك، لأنه يستطيع الخروج عن أمر صاحبه، ومن ذلك تفسير قوله تعالى: (فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ(87)، ويوم الدين: يوم محاسبة الناس، وإلزامهم بجزاء أفعالهم، والمدينة البلدة التي يلزمها أهلها، ولا يرحلون عنها، ولا يفعلون كفعل أهل البادية في تنقلاتهم0
ولزم بيان العلاقة بين الدِين (بكسر الدال) والدَين (بفتح الدال)؛ فالدِين إن أريد به شرع الله، فيؤخذ ممن بلَّغه الشرع، ويحاسب على الخروج عنه، وإن كان الدِين بمعنى العادة فيحاسبه الناس على الخروج عنه؛ إما لمخالفته لهم، وإما مخالفته لما عودهم عليه0
وأما الدَين؛ فإن يأخذه من مال غيره، ويحاسب عليه بوجوب الوفاء، ورد الَدَين لصاحبه عند حلول أجله التي يستحق فيه، فهو ليس بأجرة، ولا هبة، ولا عطية، أو جزاء أو000 أما ماله الخاص الذي يملكه، فله حرية إنفاقه دون الخشية من المحاسبة عليه، وينسى أنه أنفقه، ولا يعد يذكر إنفاقه له 00 خلاف الدَين الذي يأخذه من مال غيره000 وللمزيد راجع مادة (دين) في لسان العرب0
وكان من عادة هذا الملك أنه لا يظلم عنده أحد؛ ويحقق في أي شكوى ترفع إليه، ولو كانت من عبد لأحد السادة، وسجين فوق ذلك؛
فقد قال يوسف عليه السلام لرسول الملك: (00ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) يوسف، فلم يهمل الملك الأمر، وأحضر النسوة، وهن نساء عليا القوم، وحقق معهن: (قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ 00(51) يوسف، ولو كان غير هذا الملك ويرجع رسوله بهذا الرد لأرسل إليه من يجره إليه جرًا0
فلو أخذ يوسف عليه السلام أخاه عنوة من إخوته، فسيرفعون شكواهم للملك، ولن يكون حكمه إلا برد أخيه إلى إخوته، وعند ذلك لن يستطيع الاحتفاظ به0
أما القول بكفر هذا الملك، فلا دليل على صحته، والذي يفهم من سورة يوسف عليه السلام خلاف ذلك؛
- فالرؤيا التي أُريها من الله عز وجل هي لإنقاذ رعيته، وتدبير أمرهم قبل أن يقع القحط، ويكون فيه هلاكهم، والملك هو الذي بيده تنفيذ السياسة الاقتصادية التي ستتخذ من أجل ذلك، فلو كان الملك كافرًا، ورعيته مثله كافرة، لما كتب الله عز وجل لهم النجاة من الهلاك في القحط،
- لجوئه إلى الملأ لعبير الرؤيا، وكيف كان ردهم عليه الذي يدل على مدى حرية التعبير لديهم؛ (يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44) يوسف0
هو سماها رؤيا، وهم سموها أضغاث أحلام، والرؤيا من علم الله، والواو في الرسم العثماني سقطت في الكلمتين، وكتبت الهمزة على السطر، لأن الواو في الاستعمال العربي والجذري تشير إلى الداخل والباطن، والرؤيا ليست آتية من باطن النفس بل هي علم يلقى فيها إلقاء وليس منها 00 أي من الله تعالى00 فسقطت الواو ليطابق صورة الكلمة واقع الدلالة0
- العدل الذي أبداه بالتحقيق في شكوى يوسف عليه السلام السجين عنده، ولم يهمل شكوى مستعبد مسجون عنده0
- سجن يوسف عليه السلام دلالة على وجود هيئة تحكم في القضايا دون الرجوع إلى الملك؛ قال تعالى: (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) يوسف 000 وقد طلب يوسف عليه السلام من السجين الذي نجا أن يرفع شكواه للملك، فلم يفعل، ولم يخرج يوسف من السجن، قال تعالى: (وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) يوسف0
- أنه لا يجبر أحدًا عنده على شيء؛ 000 فقد جعل الخيرة ليوسف عليه السلام دون أن يحدد له مهمة معينة؛ بقوله: (فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) يوسف، فاختار يوسف عليه السلام ما يحسنه: (قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) يوسف،
-وحرصه على اختيار أهل الأمانة والوفاء، عندما تبين له عفة يوسف عليه السلام، ووفاءه لسيده، الامتناع عن خيانته بشدة، بل قبول السجن على الخيانة : (وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي 00 (54) يوسف0
- إقرار امرأة العزيز بالتوحيد أمامه في استغفارها: (وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53) يوسف، ما يدل على أنه إمَّا على التوحيد مثلها، أو أنه لا يلزم رعيته بدين محدد0
هذه علامات كلها تدل على صلاح الملك، فكيف يحكم عليه بالكفر؟!
وغير ذلك أن العمل الذي تولاه يوسف عليه السلام هو عمل إداري متعلق بتنظيم ما يدخل في الخزائن، وما يخرج منها في أمر طارئ، وليس عمله من باب العمل بأحكام منبثقة عن عقيدة،
وكذلك فإن الآية دلت على أنه لم يحتكم إلى دين الملك في مسألة أخيه لو أريد بالدين غير الشرع الذي عليه يوسف عليه السلام0
بل قبول يوسف عليه السلام أن يكون وزيرًا للملك في هذا الشأن الذي قبله دلالة على صلاح الملك، وتوحيده لله، ولو كان الأمر على خلاف ذلك لما قبل العمل تحت إمرته، بل لا يفعله من هم دونه 000 فكيف بنبي معصوم، وهو الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم؛ يوسف بن يعقوب بن إسحق بن إبراهيم عليهم الصلاة والسلام0
000أبو مسلم العرابلي