-
رد: تفسير القران الكريم
قصة موسى عليه السلام
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51)وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا(52)وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا(53)}
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى} أي اذكر يا محمد لقومك في القرآن العظيم خبر موسى الكليم {إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا} أي استخلصه الله لنفسه، واصطفاه من بين الخلق لكلامه {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا} أي من الرسل الكبار، والأنبياء الأطهار، جمع الله له بين الوصفين الجليلين، وإنما أعاد لفظ "كان"لتفخيم شأن النبي المذكور {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الأَيْمَنِ} أي نادينا موسى من جهة جبل الطور من ناحية اليمين حين كلمناه بلا واسطة {وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا} أي أدْنيناه للمناجاة حين كلمناه، قال ابن عباس: أُدني موسى من الملكوت ورُفعت له الحُجُب حتى سمع صريف الأقلام، قال الزمخشري: شبّهه بمن قرَّبه بعض العظماء للمناجاة حيث كلَّمه بغير واسطة ملك {وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا} أي وهبنا له من نعمتنا عليه أخاه هارون فجعلناه نبياً إجابة لدعائه حين قال {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} جعلناه له عضُداً وناصراً ومعيناً.
قصة إسماعيل وإدريس عليهما السلام
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولا نَبِيًّا(54)وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا(55)وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا(56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا(57)}
{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ} أي اذكر يا محمد في القرآن العظيم خبر جدّك "إسماعيل" الذبيح ابن إبراهيم، وهو أبو العرب جميعاً {إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ} أي كان صادقاً في وعده، لا يعد بوعدٍ إلا وفى به، قال المفسرون: وذُكر بصدق الوعد وإِن كان موجوداً في غيره من الأنبياء تشريفاً وإِكراماً، ولأنه عانى في الوفاء بالوعد ما لم يعانه غيره من الأنبياء، فمن مواعيده الصبر وتسليم نفسه للذبح فلذلك أثنى الله عليه {وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا} أي جمع الله له بين الرسالة والنبوة، قال ابن كثير: وفي الآية دليل على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق لأنه إِنما وُصف بالنبوة فقط، وإِسماعيل وصف بالنبوة والرسالة، ومن إسماعيل جاء خاتم المرسلين محمد صلى الله عليه وسلم {وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ} أي كان يحث أهله على طاعة الله، وبخاصة الصلاة التي هي عماد الدين، والزكاة التي بها تتحقق سعادة المجتمع {وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا} أي نال رضى الله، قال الرازي: وهذا نهاية المدح لأن المرضيَّ عند الله هو الفائز في كل طاعاته بأعلى الدرجات {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} أي اذكر يا محمد في الكتاب الجليل خبر إدريس إنه كان ملازماً للصدق في جميع أحواله، موحى إليه من الله، قال المفسرون: إدريس هو جد نوح، وأول مرسل بعد آدم، وأول من خط بالقلم ولبس المخيط، وكانوا من قبل يلبسون الجلود، وقد أنزل الله عليه ثلاثين صحيفة {وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا} أي رفعنا ذكره وأعلينا قدره، بشرف النبوة والزلفى عند الله.
من صفات الأنبياء: خشية الله والسجود له
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا(58)}
{أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ} أي أولئك المذكورون هم أنبياء الله ورسله الكرام، الذين قصصنا عليك خبرهم في هذه السورة -وهم عشرة أولهم زكريا وآخرهم إدريس - وهم الذين أنعم الله عليهم بشرف النبوة {مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ} أي من نسل آدم كإِدريس {وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ} كإِبراهيم فإِنه من ذرية سام بن نوح {وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ } كإِسماعيل وإِسحاق ويعقوب {وَإِسْرَائِيلَ} أي ومن ذرية إسرائيل وهو "يعقوب" كموسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى {وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا} أي وممن هديناهم للإِيمان واصطفيناهم لرسالتنا ووحينا {إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَانِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا} أي إذا سمعوا كلام الله سجدوا وبكوا من خشية الله مع ما لهم من علو الرتبة، وسموِّ النفس، والزلفى من الله تعالى، قال القرطبي: وفي الآية دلالة على أن لآياتِ الرحمن تأثيراً في القلوب.
صفات خلق الأنبياء وجزاء التائبين
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا(59)إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا(60)جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا(61)لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا(62)تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا(63)}
{فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ} أي جاء من بعد الأتقياء قومٌ أشقياء، تركوا الصلوات وسلكوا طريق الشهوات {فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا} أي سوف يلقون كل شرٍّ وخسارٍ ودمار، قال ابن عباس: غيٌّ وادٍ في جهنم، وإِن أودية جهنم لتستعيذ بالله من حره {إِلا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا} أي إلا من تاب وأناب وأصلح عمله {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} أي فأولئك يُسعدون في الجنة ولا يُنقصون من جزاء أعمالهم شيئاً {جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَانُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ} أي هي جنات إقامة التي وعدهم بها ربهم فآمنوا بها بالغيب قبل أن يروها تصديقاً بوعده تعالى {إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا} أي إن وعده تعالى بالجنة آتٍ وحاصلٌ لا يُخلف {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلا سَلامًا} أي لا يسمعون في الجنة شيئاً من فضول الكلام، لكنْ يسمعون تسليم الملائكة عليهم على وجه التحية والإِكرام، والاستثناء منقطع {وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} أي ولهم ما يشتهون في الجنة من أنواع المطاعم والمشارب بدون كدٍّ ولا تعب، ولا تنغصٍ ولا انقطاع {تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا} أي هذه الجنة التي وصفنا أحوال أهلها هي التي نورثها لعبادنا المتقين.
تنزيل الوحي يكون بأمر الله عز وجل
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا(64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا(65)}
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلا بِأَمْرِ رَبِّكَ} هذا من كلام جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين احتبس عنه فترةً من الزمن والمعنى: ما نتنزّل إلى الدنيا إلا بأمر الله وإذنه {لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ} أي لله جل وعلا جميع الأمر، أمر الدنيا والآخرة، وهو المحيط بكل شيء لا تخفى عليه خافية، ولا يعزب عنه مثقال ذرة، فكيف نقدم على فعل شيء إلا بأمره وإِذنه؟ {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} أي لا ينسى شيئاً من أعمال العباد {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ} أي هو ربُّ العوالم علويها وسفليها فاعبده وحده {وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ} أي اصبر على تكاليف العبادة {هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا} أي هل تعلم له شبيهاً ونظيراً؟
من شبه المشركين إنكار البعث
{وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا(66)أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا(67)فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا(68)ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عِتِيًّا(69)ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا(70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا(71)ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا(72)}
المنـَاسَبــَة:
لما ذكر تعالى طائفةً من قصص الأنبياء للعظة والاعتبار، وكان الغرضُ الأساسي للسورة الكريمة إثبات قدرة الله على الإِحياء والإِفناء، وإثباتُ يوم المعاد، ذكر تعالى هنا بعض شبهات المكذبين للبعث والنشور وردَّ عليها بالحجج القاطعة، والبراهين الساطعة، وختم السورة الكريمة ببيان مآل السعداء والأشقياء.
سَبَبُ النّزول:
عن خباب بن الأرت قال: كنتُ رجلاً قيناً -أي حداداً- وكان لي على العاص بن وائل دينٌ فأتيتُه أتقاضاه، فقال: لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد، فقلت: لا والله لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث -أي تموت الآن وتبعث أمامي وهذا من باب المستحيل، قال: فإني إذا متُّ ثم بُعثتُ جئتني ولي ثمَّ مالٌ فأعطيتك، فأنزل الله {أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأُوتينَّ مالاً وولداً} .
{وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} أي يقول الكافر الذي لا يصدق بالبعث بعد الموت على وجه الإِنكار والاستبعاد: أئذا متُّ وأصبحت تراباً ورفاتاً فسوف أُخرج من القبر حياً؟ قال ابن كثير: يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته، واللام "لسوف" للمبالغة في الإنكار، وهو إنكار منشؤه غفلة الإنسان عن نشأته الأولى، أين كان؟ وكيف كان؟ ولو تذكّر لعلم أن الأمر أيسر مما يتصور {أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئًا} أي أولاَ يتذكر هذا المكذّب الجاحد أول خلقه فيستدل بالبداءة على الإِعادة؟ ويعلم أن الله الذي خلقه من العدم قادرٌ على أن يعيده بعد الفناء وتشتت الأجزاء؟ قال بعضُ العلماء: لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجةٍ في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها، إذْ لا شكَّ أنَّ الإِعادة ثانياً أهونُ من الإِيجاد أولاً، ونظيره قوله {قل يُحييها الذي أنشأها أول مرة} {فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ} أي فوربك يا محمد لنحشرنَّ هؤلاء المكذبين بالبعث مع الشياطين الذين أغروهم، قال المفسرون: يُحشر كل كافر مع شيطان في سلسلة {ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا} أي نحضر هؤلاء المجرمين حول جهنم قعوداً على الركب من شدة الهول والفزع، لا يطيقون القيام على أرجلهم لما يدهمهم من شدة الأمر {ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ} أي لنأخذنَّ ولننتزعنَّ من كل فرقةٍ وجماعة ارتبطت بمذهب {أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَانِ عِتِيًّا} أي من منهم أعصى لله وأشد تمرداً، والمراد أنه يؤخذ من هؤلاء المجرمين ليقذف في جهنم الأعتى فالأعتى، قال ابن مسعود: يُبدأ بالأكابر جرماً {ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا} أي نحن أعلم بمن هم أحق بدخول النار، والاصطلاء بحرها، وبمن يستحق تضعيف العذاب فنبدأ بهم {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا} أي ما منكم أحدٌ من برٍ أو فاجر ألاّ وسيرد على النار، المؤمن للعبور والكافر للقرار {كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا} أي كان ذلك الورود قضاءً لازماً لا يمكن خُلفه {ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا} أي ننجّي من جهنم المتقين بعد مرور الجميع عليها {وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} أي ونترك الظالمين في جهنم قعوداً على الركب، قال البيضاوي: والآية دليلٌ على أن المراد بالورود الجثوُّ حواليها، وأن المؤمنين يفارقون الفجرة إلى الجنة بعد نجاتهم، ويبقى الفجرة فيها على هيئاته
من شبههم أيضاً مباهاتهم بحسن حالهم في الدنيا
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا(73)وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا(74)قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا(75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا(76)}
{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ} أي وإِذا قرئت على المشركين آيات القرآن المبين، واضحات الإِعجاز، بينات المعاني {قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} أي قال الكفرة المترفون لفقراء المؤمنين أيُّ الفريقين: - نحن أو أنتم - أحسنُ مسكناً، وأطيب عيشاً، وأكرم منتدى ومجلساً؟ قال البيضاوي: إن المشركين لما سمعوا الآيات الواضحات وعجزوا عن معارضتها، أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا والاستدلال بزيادة حظهم فيها على فضلهم وحسن حالهم لقصور نظرهم، فردَّ الله عليهم بقوله {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا} أي وكثير من الأمم المكذبين بآياتنا أهلكناهم بكفرهم كانوا أكثر من هؤلاء متاعاً، وأجمل صورةً ومنظراً، فكما أهلكنا السابقين نهلك اللاحقين، فلا يغترَّ هؤلاء بما لديهم من النعيم والمتاع {قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَانُ مَدًّا} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أنهم على حق: من كان في الضلالة منا ومنكم فليمهله الرحمن فيما هو فيه، وليدعْه في طغيانه، حتى يلقى ربه وينقضي أجله، قال القرطبي: وهذا غايةٌ في التهديد والوعيد {حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ} أي حتى يروا ما يحلُّ بهم من وعد الله {إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ} أي إِمَّا عذاب الدنيا بالقتل والأَسر، أو عذاب الآخرة بما ينالهم يوم القيامة من الشدائد والأهوال {فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُندًا} أي فسيعلمون عندئذ حين تنكشف الحقائق أي الفريقين شرُّ منزلة عند الله، وأقل فئة وأنصاراً، هل هم الكفار أم المؤمنون ؟ وهذا في مقابلة قولهم {خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا} {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} أي ويزيد الله المؤمنين المهتدين، بصيرةً وإِيماناً وهداية {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا} أي والأعمال الصالحة التي تبقى لصاحبها ذخراً في الآخرة خير عند الله من كل ما يتباهى به أهل الأرض من حيث الأجر والثواب {وَخَيْرٌ مَرَدًّا} أي وخير رجوعاً وعاقبة، فإن نعيم الدنيا زائل ونعيم الآخرة باقٍ دائم.
قصة العاص بن وائل وجحوده بآيات ربه
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالا وَوَلَدًا(77)أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا(78)كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا(79)وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا(80)}.
{أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَدًا} نزلت في العاص بن وائل، والاستفهام للتعجب أي تعجَّب يا محمد من قصة هذا الكافر الذي جحد بآيات الله وزعم أن الله سيعطيه في الآخرة المال والبنين {أطَّلَعَ الْغَيْبَ} أي هل اطَّلع على الغيب الذي تفرَّد به علاّم الغيوب؟ {أَمْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} أي أم أعطاه الله عهداً بذلك فهو يتكلم عن ثقةٍ ويقين؟ {كَلا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ} ردٌّ عليه، ولفظةُ "كلاَّ" للردع والزجر أي ليرتدع ذلك الفاجر عن تلك المقالة الشنيعة فسنكتب ما يقول عليه {وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا} أي سنزيد له في العذاب ونطيله عليه جزاء طغيانه واستهزائه، ونضاعف له مدد العذاب مكان الإِمداد بالمال والولد {وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا} أي ونرثه ما يخلفه من المال والولد بعد إهلاكه، ويأتينا وحيداً لا مال معه ولا ولد، ولا نصير له ولا سند.
اتخاذ الكفار الأصنام آلهة ليعزوا بهم من دون الله
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا(81)كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا(82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا(83)فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا(84)يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا(85)وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا(86)لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا(87)}
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا} أي واتخذ المشركون أصناماً عبدوها من دون الله لينالوا بها العزَّ والشرف {كَلا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا} أي ليس الأمر كما ظنوا وتوهموا فإِن الآلهة التي عبدوها ستبرأ من عبادتهم ويكونون لهم أعداء يوم القيامة {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا} أي ألم تر يا محمد أنَّا سلَّطنا الشياطين على الكافرين تُغريهم إغراءً بالشر، وتهيّجُهم تهييجاً حتى يركبوا المعاصي قال الرازي: أي تغريهم على المعاصي وتحثُّهم وتهيّجهم لها بالوساوس والتسويلات {فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا} أي لا تتعجل يا محمد في طلب هلاكهم فإِنه لم يبق له إلا أيام وأنفاس نعدُّها عليهم عدّاً ثم يصيرون إلى عذاب شديد قال ابن عباس: نعدُّ أنفاسهم في الدنيا كما نعدُّ عليهم سنيَّهم {يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا} أي يوم نحشر المتقين إلى ربهم معزَّزين مكرَّمين، راكبين على النوق كما يفد الوفود على الملوك منتظرين لكرامتهم وإِنعامهم {وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا} أي ونسوق المجرمين كما تُساق البهائم مشاةً عطاشاً كأنهم إبلٌ عطاش تُساق إلى الماء وفي الحديث (يُحشر الناس يوم القيامة على ثلاث طرائق: راغبين، وراهبين، واثنان على بعير، وثلاثة على بعير، وأربعة على بعير، وعشرة على بعير، وتُجُّر بقيتهم إلى النار، تقيل معهم حيث قالوا، وتبيت معهم حيث باتوا) {لا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ} أي لا يشفعون ولا يُشفع لهم {إِلا مَنْ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا} الاستثناء منقطع أي لكنْ من تحلَّى بالإِيمان والعمل الصالح فإِنه يملك الشفاعة، قال ابن عباس: العهدُ "شهادة أن لا إله إلا الله".
الرد على من نسب الولد إلى الله
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا(88)لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا(89)تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا(90)أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا(91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَانِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا(92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا(93)لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا(94)وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا(95)}
{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا} أي النصارى ومن زعم أن الملائكة بنات الله {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا} أي لقد أتيتم أيها المشركون بقولٍ منكر عظيم تناهى في القبح والشناعة {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} أي تكاد السماوات تتشقَّق من هول هذا القول ) وَتَنشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا} أي وتنشقُّ كذلك الأرض وتندكُّ الجبال وتُهدُّ هداً استعظاماً للكلمة الشنيعة {أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَانِ وَلَدًا} أي ما يليق به سبحانه اتخاذ الولد، لأن الولد يقتضي المجانسة ويكون عن حاجة، وهو المنزَّه عن الشبيه والنظير، والغني عن المعين والنصير {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِلا آتِي الرَّحْمَانِ عَبْدًا} أي ما من مخلوقٍ في العالم العلوي والسفلي إلا وهو عبدٌ لله، ذليلٌ خاضعٌ بين يديه، منقادٌ مطيع له كما يفعل العبيد {لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا} أي علم عددهم وأحاط علمه بهم فلا يخفى عليه شيء من أمورهم {وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} أي وكل فردٍ يأتي يوم القيامة وحيداً فريداً، بلا مالٍ ولا نصير، ولا معين ولا خفير.
محبة المؤمنين وإهلاك المعاندين
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا(96)فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا(97)وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا(98)}
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَانُ وُدًّا} لما ذكر أحوال المجرمين ذكر أحوال المؤمنين والمعنى سيحدث لهم في قلوب عباده الصالحين محبةً ومودة، قال الربيع: يحبُّهم ويحببهم إلى الناس {فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا} أي فإِنما يسرنا يا محمد هذا القرآن بلسانك العربي تقرأه، وجعلناه سهلاً يسيراً لمن تدبره، لتبشّر به المؤمنين المتقين، وتخوّف به قوماً معاندين شديدي الخصومة والجدال {وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ} أي كم من الأمم الماضية أهلكناهم بتكذيبهم الرسل، و"كم" للتكثير {هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ} أي هل ترى منهم أحداً؟ {أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا} أي أو تسمع لهم صوتاً خفياً؟ والمعنى أنهم بادوا وهلكوا وخلت منهم الديار، وأوحشت منهم المنازل، فكما أهلكنا أولئك نهلك هؤلاء.
-
رد: تفسير القران الكريم
سورة طه
إنزال القرآن رحمة وسعادة
قصة موسى عليه السلام وتكليمه ربه بالوادي المقدس:
معجزة العصا وانقلابها إلى حية
معجزة اليد وانقلابها إلى ضوء كضوء الشمس
نعم الله على سيدنا موسى عليه السلام قبل النبوة
توجيهات الله لموسى وهارون في دعوة فرعون
الحوار بين فرعون وموسى عليه السلام حول الربوبية
اتهام موسى بالسحر
جمع فرعون السحرة وتحذير موسى لهم
المبارزة بين موسى والسحرة وإعلان إيمانهم علناً
المسير ببني إسرائيل وإغراق فرعون وجنوده ونعم الله على بني إسرائيل
مفاجأة موسى لربه وفتنة السامري
معاتبة موسى لهارون على تأليه العجل
أخذ العبرة من قصص الماضين وجزاء المعرض عن القرآن
أحوال الجبال والناس يوم القيامة
أنزل الله القرآن عربياً وأمر نبيه بعدم العجلة بقراءته عند تلاوة جبريل
قصة إخراج آدم من الجنة من وراء وسوسة الشيطان
الاعتبار بهلاك الأمم الماضية، والصبر على أذى المشركين وعدم الالتفات إلى متعهم، وأمر الأهل بالصلاة
اقتراح المشركين الإتيان بمعجزة أخرى غير مكتفين بمعجزة القرآن
بَين يَدَي السُّورَة
سورة طه مكية، وغرضُها تركيز أصول الدين "التوحيد، والنبوة، والبعث والنشور".
* في هذه السورة الكريمة تظهر شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، في شدّ أزره، وتقوية روحه، حتى لا يتأثر بما يُلقى إليه من الكيد والعناد، والاستهزاء والتكذيب، ولإِرشاده إلى وظيفته الأساسية، وهي التبليغ والتذكير، والإِنذار والتبشير، وليس عليه أن يجبر الناس على الإِيمان.
* عرضت السورة لقصص الأنبياء، تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وتطميناً لقلبه الشريف، فذكرت بالتفصيل قصة "موسى وهارون" مع فرعون الطاغية الجبار، ويكاد يكون معظم السورة في الحديث عنها وبالأخص موقف المناجاة بين موسى وربه، وموقف تكليفه بالرسالة، وموقف الجدال بين موسى وفرعون، وموقف المبارزة بينه وبين السحرة، وتتجلى في ثنايا تلك القصة رعايةُ الله لموسى، نبيّه وكليمه، وإِهلاك الله لأعدائه الكفرة المجرمين.
* وعرضت السورة لقصة آدم بشكل سريع خاطف، برزت فيه رحمة الله لآدم بعد الخطيئة، وهدايته لذريته بإِرسال الرسل مبشرين ومنذرين، ثم ترك الخيار لهم لاختيار طريق الخير أو الشر.
* وفي ثنايا السورة الكريمة تبرز بعض مشاهد القيامة، في عبارات يرتجف لها الكون، وتهتز لها القلوب هَلعاً وجزعاً، ويعتري الناس الذهولُ والسكون {وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا}.
* وعرضت السورة ليوم الحشر الأكبر، حيث يتم الحساب العادل، ويعود الطائعون إلى الجنة، ويذهب العصاة إلى النار، تصديقاً لوعد الله الذي لا يتخلف، بإِثابة المؤمنين وعقاب المجرمين.
* وختمت ببعض التوجيهات الربانية للرسول صلى الله عليه وسلم في الصبر وتحمل الأذى في سبيل الله حتى يأتي نصر الله.
التسمَية:
سميت "سورة طه" وهو اسم من أسمائه الشريفة عليه الصلاة والسلام، تطييباً لقلبه، وتسليةً لفؤاده عما يلقاه من صدود وعناد، ولهذا ابتدأت السورة بملاطفته بالنداء {طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى}.
إنزال القرآن رحمة وسعادة
{ طه(1)مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى(2)إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى(3)تَنزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا(4)الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى(5)لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى(6)وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى(7)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى(8)}.
{طه مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} الحروف المقطعة للتنبيه إلى إعجاز القرآن، وقال ابن عباس: معناها يا رجل، ومعنى الآية: ما أنزلنا عليك يا محمد القرآن لتشقى به إنما أنزلناه رحمة وسعادة، رُوي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل عليه القرآن صلَى هو وأصحابه، فأطال القيام، فقالت قريش: ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى، فنزلت هذه الآية {إِلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى} أي ما أنزلناه إِلا عظة وتذكيراً لمن يخشى الله ويخاف عقابه، وهو المؤمنُ المستنير بنور القرآن {تَنزِيلا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلا} أي أنزله خالقُ الأرض، ومبدعُ الكون، ورافع السماوات الواسعة العالية، والآية إِخبارٌ عن عظمته وجبروته وجلاله، قال أبو حيّان: ووصفُ السماوات بالعُلى دليلٌ على عظمة قدرة من اخترعها إِذ لا يمكن وجود مثلها في علُوِّها من غيره تعالى {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} أي ذلك الربُّ الموصوف بصفات الكمال والجمال هو الرحمن الذي استوى على عرشه استواءً يليق بجلاله من غير تجسيمٍ، ولا تشبيه، ولا تعطيل، ولا تمثيل كما هو مذهب السلف {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى} أي له سبحانه ما في الوجود كلِّه: السماواتُ السبعُ، والأرضون، وما بينهما من المخلوقات، وما تحت التراب من معادن ومكنونات، الكلُّ ملكُه وتحت تصرفه وقهره وسلطانه.
{وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى} أي وإِن تجهرْ يا محمد بالقول أو تخفه في نفسك فسواءٌ عند ربك، فإِنه يعلم السرَّ وما هو أخفى منه كالوسوسة والهاجس والخاطر .. والغرضُ من الآية طمأنينة قلبه عليه السلام بأن ربه معه يسمعه، ولن يتركه وحيداً يواجه الكافرين بلا سند فإِذا كان يدعوه جهراً فإِنه يعلم السرَّ وما هو أخفى، والقلب حين يستشعر قرب الله منه، وعلمه بسرِّه ونجواه يطمئن ويرضى ويأنس بهذا القرب الكريم {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى} أي ربكم هو الله المتفرد بالوحدانية، لا معبود بحق سواه، ذو الأسماء الحسنة التي هي في غاية الحُسن، وفي الحديث (إِن للهِ تسعةً وتسعين اسماً، من أحصاها دخل الجنة).
قصة موسى عليه السلام وتكليمه ربه بالوادي المقدس
{ وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى(9)إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى(10)فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى(11)إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى(12)وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى(13)إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي(14)إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى(15)فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى(16) }.
{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى} الاستفهام للتقرير وغرضه التشويق لما يُلقى إِليه أي هل بلغك يا محمد خبر موسى وقصته العجيبة الغريبة؟ {إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لأهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا} أي حين رأى ناراً، فقال لامرأته أقيمي مكانك فإِني أبصرتُ ناراً، قال ابن عباس: هذا حين قضى الأجل وسار بأهله من مدين يريد مصر، وكان قد أخطأ الطريق، وكانت ليلة مظلمة شاتية، فجعل يقدح بالزناد فلا يخرج منها شرَرٌ، فبينما هو كذلك إِذْ بصر بنارٍ من بعيد على يسار الطريق، فلما رآها ظُنها ناراً وكانت من نور الله {لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ} أي لعلي آتيكم بشعلة من النار تستدفئون بها {أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} أي أجد هادياً يدلني على الطريق {فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ} أي فلما أتى النار وجدها ناراً بيضاء تتّقد في شجرة خضراء وناداه ربُّه يا موسى: إِني أنا ربُّك الذي أكلمك فاخلع النعلين من قدميك رعايةً للأدب وأَقْبل {إِنَّكَ بِالْوَادِي الْمُقَدَّسِ طُوًى} أي فإِنك بالوادي المطهَّر المبارك المسمّى طوى {وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى} أي اصطفيتك للنبوة فاستمع لما أُوحيه إِليك، قال الرازي: فيه نهايةُ الهيبة والجلالة فكأنه قال: لقد جاءك أمر عظيم هائل فتأهبْ له واجعل كل عقلك وخاطرك مصروفاً إِليه {إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدْنِي} أي أنا الله المستحق للعبادة لا إِله غيري فأفردني بالعبادة والتوحيد {وَأَقِمْ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} أي أقم الصلاة لتذكرني فيها، قال مجاهد: إِذا صلّى ذكر ربه لاشتمالها على الأذكار، وقال الصاوي: خصَّ الصلاة بالذكر وإِن كانت داخلةً في جملة العبادات لعظم شأنها، واحتوائها على الذكر، وشغل القلب واللسان والجوارح، فهي أفضل أركان الدين بعد التوحيد {إِنَّ الساعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} أي إِن الساعة قادمة وحاصلةٌ لا محالة أكاد أخفيها عن نفسي فكيف أطلعكم عليها؟ قال المبرِّد: وهذا على عادة العرب فإِنهم يقولون إِذا بالغوا في كتمان الشيء: كتمته حتى من نفسي أي لم أطلع عليه أحداً {لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى} أي لتنال كلُّ نفسٍ جزاء ما عملت من خير أو شر، قال المفسرون: والحكمة من إِخفائها وإِخفاء وقت الموت أن الله تعالى حكم بعدم قبول التوبة عند قيام الساعة وعند الاحتضار، فلو عرف الناس وقت الساعة أو وقت الموت، لاشتغلوا بالمعاصي ثم تابوا قبل ذلك، فيتخلصون من العقاب، ولكنَّ الله عمَّى الأمر، ليظلَّ الناس على حذر دائم، وعلى استعداد دائم، من أن تبغتهم الساعة أو يفاجئهم الموت {فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهَا} أي لا يصرفنَّك يا موسى عن التأهب للساعة والتصديق بها من لا يوقن بها {وَاتَّبَعَ هوَاهُ} أي مالَ مع الهوى وأقبل على اللذائذ والشهوات ولم يحسب حساباً لآخرته {فَتَرْدَى} أي فتهلك فإِن الغفلة عن الآخرة مستلزمة للهلاك.
معجزة العصا وانقلابها إلى حية
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى(17)قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى(18)قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى(19)فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى(20)قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى(21) }
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} أي وما هذه التي بيمينك يا موسى؟ أليست عصا؟ والغرض من الاستفهام التقريرُ والإِيقاظُ والتنبيهُ إِلى ما سيبدو من عجائب صنع الله في الخشبة اليابسة بانقلابها إِلى حية، لتظهر لموسى القدرة الباهرة، والمعجزة القاهرة، قال ابن كثير: إِنما قال له ذلك على وجه التقرير، أي أمّا هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها؟ فسترى ما نصنع بها الآن؟ {قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا} أي أعتمد عليها في حال المشي {وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي} أي أهزُّ بها الشجرة وأضرب بها على الأغصان ليتساقط ورقها فترعاه غنمي {وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} أي ولي فيها مصالح ومنافع وحاجات أُخَرى غير ذلك، قال المفسرون: كان يكفي أن يقول هي عصاي ولكنه زاد في الجواب لأن المقام مقام مباسطة وقد كان ربه يكلمه بلا واسطة، فأراد أن يزيد في الجواب ليزداد تلذذاً بالخطاب، وكلام الحبيب مريحٌ للنفس ومُذْهبٌ للعَناء {قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى} أي اطرح هذه العصا التي بيدك يا موسى لترى من شأنها ما ترى! {فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حيَّةٌ تَسْعَى} أي فلما ألقاها صارت في الحال حية عظيمة تنتقل وتتحرك في غاية السرعة، قال ابن عباس: انقلبت ثعباناً ذكراً يبتلع الصخر والشجر، فلما رآه يبتلع كل شيءٍ خافه ونفر منه وولَى هارباً، قال المفسرون: لما رأى هذا الأمر العجيب الهائل، لحقه ما يلحق البشر عند رؤية الأهوال والمخاوف، لا سيما هذا الأمر الذي يذهب بالعقول، وإِنما أظهر له هذه الآية وقت المناجاة تأنيساً له بهذه المعجزة الهائلة حتى لا يفزع إِذا ألقاها عند فرعون لأنه يكون قد تدرَّب وتعوَّد {قَالَ خُذْهَا وَلا تَخَفْ} أي قال له ربه: خذْها يا موسى ولا تخفْ منها { سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الأُولَى} أي سنعيدها إلى حالتها الأولى كما كانت عصا لا حيَّة، فأمسكها فعادت عصا.
معجزة اليد وانقلابها إلى ضوء كضوء الشمس
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى(22)لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتِنَا الْكُبْرَى(23)اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(24)قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي(25)وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي(26)وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي(27)يَفْقَهُوا قَوْلِي(28)وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي(29)هَارُونَ أَخِي(30)اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي(31)وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي(32)كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا(33)وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا(34)إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا(35)}
{وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى} أي أدخل يدك تحت إِبطك ثم أخرجها تخرج نيرة مضيئة كضوء الشمس والقمر من غير عيب ولا برص، قال ابن كثير: كان إِذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر من غير برصٍ ولا أذى {آيَةً أُخْرَى} أي معجزة ثانية غير العصا {لِنُرِيَكَ مِنْ ءاياتِنَا الْكُبْرَى} أي لنريك بذلك بعض ءاياتنا العظيمة .. أراه الله معجزتين "العصا، واليد" وهي بعض ما أيَّده الله به من المعجزات الباهرة، ثم أمره أن يتوجه إلى فرعون رأس الكفر والطغيان {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أي اذهب بما معك من الآيات إِلى فرعون إِنه تكبَّر وتجبَّر وجاوز الحدَّ في الطغيان حتى ادَّعى الألوهية {قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي} أي وسِّعْه ونوِّره بالإِيمان والنُبوّة {وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي} أي سهّلْ عليَّ القيام بما كلفتني من أعباء الرسالة والدعوة {وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي} أي حلَّ هذه اللُّكْنة الحاصلة في لساني حتى يفهموا كلامي، قال المفسرون: عاش موسى في بيت فرعون فوضعه فرعون مرة في حِجْرهِ وهو صغير فجرَّ لحية فرعون بيده فهمَّ بقتله، فقالت له آسية: إِنه لا يعقل وسأريك بيان ذلك، قدّمْ إِليه جمرتين ولؤلؤتين، فإِن أخذ اللؤلؤة عرفت أنه يعقل، وإِن أخذ الجمرة عرفت أنه طفل لا يعقل، فقدَّم إِليه فأخذ الجمرة فجعلها في فيه فكان في لسانه حَبْسة {وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي هَارُونَ أَخِي} أي اجعل لي معيناً يساعدني ويكون من أهلي وهو أخي هارون {اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي} أي لتقوِّي به يا رب ظهري {وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي} أي اجعله شريكاً لي في النبوة وتبليغ الرسالة {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا} أي كي نتعاون على تنزيهك عما لا يليق بك ونذكرك بالدعاء والثناء عليك {إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا} أي عالماً بأحوالنا لا يخفى عليك شيء من أفعالنا، طلب موسى من ربه أن يعينه بأخيه يشدُّ به أزره، لما يعلم منه من فصاحة اللسان، وثبات الجنَان، وأن يشركه معه في المهمة لما يعلم من طغيان فرعون وتكبره وجبروته.
نعم الله على سيدنا موسى عليه السلام قبل النبوة
{ قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى(36)وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى(37)إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى(38)أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي(39)إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى(40)}
{قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى} أي أُعطيت ما سألتَ وما طلبتَ، ثم ذكّره تعالى بالمنن العظام عليه {وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى} أي أنعمنا عليك يا موسى بمنَّة أخرى غير هذه المنة {إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى} أي ألهمناها ما يُلهم ممّا كان سبباً في نجاتك {أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ} أي ألهمناها أن أَلْقِ هذا الطفل في الصندوق ثم اطرحيه في نهر النيل، ثم ماذا؟ ومن يتسلمه؟ { فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ} أي يلقيه النهر على شاطئه ويأخذه فرعون عدوي وعدوُّه قال أبو حيّان: {فَلْيُلْقِهِ} أمرٌ معناه الخبر جاء بصيغة الأمر مبالغة إِذْ الأمر أقطع الأفعال وأوجبها {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي} أي زرعتُ في القلوب محبتك بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك حتى أحبَّك فرعون، قال ابن عباس: أحبَّه الله وحببَّه إِلى خلقه {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} أي ولتُربّى بعين الله بحفظي ورعايتي {إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ} أي حين تمشي أختك وتتَّبع أثرك فتقول لآل فرعون حين طلبوا لك المراضع: هل أدلكم على من يضمن لكم حضانته ورضاعته؟ قال المفسرون: لمّا التقطه آل فرعون جعل لا يقبل ثدي امرأة لأن الله حرَّم عليه المراضع، وبقيت أُمه بعد قذفه في اليم مغمومة، فأمرت أخته أن تتَّبع خبره، فلما وصلت إلى بيت فرعون ورأته قالت: هل أدلكم على امرأة أمينة فاضلة تتعهد لكم رضاع هذا الطفل؟ فطلبوا منها إِحضارها، فأتت بأم موسى، فلما أخرجت ثديها التقمه، ففرحت زوجة فرعون فرحاً شديداً، وقالت لها: كوني معي في القصر فقالت: لا أستطيع أن أترك بيتي وأولادي ولكنْ آخذه معي وآتي لك به كل حين فقالت: نعم وأحسنت إِليها غاية الإِحسان فذلك قوله تعالى {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ} أي رددناك إِلى أمك لكي تُسرَّ بلقائك، وتطمئن بسلامتك ونجاتك، ولكيلا تحزن على فراقك {وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ} أي قتلت القبطي حين أصبحت شاباً فنجيناك من غمّ القتل وصرفنا عنك شرَّ فرعون وزبانيته، وفي صحيح مسلم: وكان قتله خطأً {وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا} أي ابتليناك ابتلاءً عظيماً بأنواعٍ من المِحن {فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ} أي مكثت سنين عديدة عند شعيب في أرض مدين {ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى} أي جئت على موعدٍ ووقت مقدر للرسالة والنبوة.
المنَاسَبَة:
لما ذكر تعالى نعمته على موسى باستجابة دعائه وإِعطائه سُؤْله، ذكر هنا ما خصَّه به من الاصطفاء والاجتباء، وأمره بالذهاب إِلى فرعون مع أخيه هارون لتبليغه دعوة الله، ثم ذكر ما دار من الحوار بين موسى وفرعون وما كان من أمر السحرة وسجودهم لله رب العالمين.
توجيهات الله لموسى وهارون في دعوة فرعون
{وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي(41)اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي(42)اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى(43) فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى(44)قَالاَ رَبَّنَا إِنَّنَا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى(45)قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى(46)فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى(47)إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى(48) }
{وَاصْطَنَعْتكَ لِنَفْسِي} أي اخترتك لرسالتي ووحيي {اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} أي اذهب مع هارون بحججي وبراهيني ومعجزاتي، قال المفسرون: المراد بالآيات هنا اليد والعصا التي أيّد الله بها موسى {وَلا تَنِيَا فِي ذِكْرِي} أي لا تفترا وتقصِّرا في ذكر الله وتسبيحه، قال ابن كثير: والمراد ألاّ يفترا عن ذكر الله بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون، ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له {اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى} أي تجبَّر وتكبَّر وبلغ النهاية في العتُو والطغيان {فَقُولا لَهُ قَوْلا لَيِّنًا } أي قولا لفرعون قولاً لطيفاً رفيقاً {لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى} أي لعله يتذكر عظمة الله أو يخاف عقابه فيرتدع عن طغيانه {قَالا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى} أي قال موسى وهارون: يا ربنا إِننا نخاف إِن دعوناه إِلى الإِيمان أن يعجِّل علينا العقوبة، أو يجاوز الحدَّ في الإِساءة إِلينا {قَالَ لا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} أي لا تخافا من سطوته إِنني معكما بالنصرة والعون أسمع جوابه لكما، وأرى ما يفعل بكما {فَأْتِيَاهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ} أي إِنا رسولان من عند ربك أرسلنا إِليك، وتخصيصُ الذكر بلفظ {رَبِّكَ} لإِعلامه أنه مربوبٌ وعبدٌ مملوك لله إِذْ كان يدَّعي الربوبية { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلا تُعَذِّبْهُمْ} أي أطلقْ سراح بني إِسرائيل ولا تعذبهم بتكليفهم بالأعمال الشاقة {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ} أي قد جئناك بمعجزة تدل على صدقنا {وَالسَّلامُ عَلَى مَنْ اتَّبَعَ الْهُدَى} أي والسلامة من عذاب الله لمن اهتدى وآمن بالله، قال المفسرون: لم يقصد به التحية لأنه ليس بابتداء الخطاب وإِنما قصد به السلام من عذاب الله وسخطه {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي قد أخبرنا الله فيما أوحاه إِلينا أن العذاب الأليم على من كذَّب أنبياء الله وأعرض عن الإِيمان.
الحوار بين فرعون وموسى عليه السلام حول الربوبية
{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى(49)قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى(50)قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى(51)قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى(52)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى(53)كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى(54)مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى(55)}.
{قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى} أي قال فرعون: ومنْ هذا الربُّ الذي تدعوني إِليه يا موسى؟ فإِني لا أعرفه؟ ولم يقل: من ربيّ لغاية عتوّه ونهاية طغيانه بل أضافه إِلى موسى وهارون {فَمَنْ رَبُّكُمَا} {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} أي ربُّنا هو الذي أبدع كل شيءٍ خَلقه ثم هداه لمنافعه ومصالحه، وهذا جوابٌ في غاية البلاغة والبيان لاختصاره ودلالته على جميع الموجودات بأسرها، فقد أعطى العين الهيئة التي تطابق الإِبصار، والأُذُن الشكل الذي يوافق الاستماع، وكذلك اليد والرجل والأنف واللسان، قال الزمخشري: ولله درُّ هذا الجواب ما أخصره وأجمعه وأبينه لمن ألقى الذهن ونظر بعين الإِنصاف { قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الأُولَى} أي ما حال من هلك من القرون الماضية لِم لَمْ يُبعثوا، ولم يُحاسبوا إِن كان ما تقول حقاً؟ قال ابن كثير: لما أخبر موسى بأن ربه الذي أرسله هو الذي خلق ورزق، وقدَّر فهدى، شرع فرعون يحتج بالقرون الأولى كأنه يقول: ما بالهم إِذْ كان الأمر كذلك لم يعبدوا ربَّك بل عبدوا غيره؟ {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} أي قال موسى: علم أحوالها وأعمالها عند ربي مسطرٌ في اللوح المحفوظ {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنسَى} أي لا يخطئ ربي ولا يغيب عن علمه شيءٌ منها .. ثم شرع موسى يبينّ له الدلائل على وجود الله وآثار قدرته الباهرة فقال {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأرْضَ مَهْدًا} أي جعل الأرض كالمهد تمتهدونها وتستقرون عليها رحمة بكم {وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلا} أي جعل لكم طُرقاً تسلكونها فيها لقضاء مصالحكم {وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي أنزل لكم من السحاب المطرَ عذباً فراتاً {فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى} أي فأخرج بذلك الماء أنواعاً من النباتات المختلفة الطعم والشكل والرائحة كلُّ صنف منها زوج، وفيه التفاتٌ من الغيبة إِلى المتكلم تنبيهاً على عظمة الله {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} أي كلوا من هذه النباتات والثمار واتركوا أنعامكم تسرح وترعى من الكلأ الذي أخرجه الله، والأمر للإِباحة تذكيراً له بالنِّعم { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} أي إِنَّ فيما ذُكر لعلامات واضحة لأصحاب العقول السليمة على وجود الله ووحدانيته {مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ} أي من الأرض خلقناكم أيها الناس وإليها تعودون بعد مماتكم فتصيرون تراباً {وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} أي ومن الأرض نخرجكم مرة أخرى للبعث والحساب.
اتهام موسى بالسحر
{وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءاياتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى(56) قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى(57)فَلَنَأْتِيَنَّ كَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى(58)قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى(59)}.
ثم أخبر تعالى عن عتوِّ فرعون وعناده فقال {وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ ءاياتِنَا كُلَّهَا} أي والله لقد بصَّرْنا فرعون بالمعجزات الدالة على نبوةّ موسى من العصا، واليد، والطوفان، والجراد، وسائر الآيات التسع {فَكَذَّبَ وَأَبَى} أي كذَّب بها مع وضوحها وزعم أنها سحر، وأبى الإِيمان والطاعة لعتوِّه واستكباره {قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى} أي قال فرعون: أجئتنا يا موسى بهذا السحر لتخرجنا من أرض مصر؟ {فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ} أي فلنعارضنَّك بسحرٍ مثل الذي جئت به ليظهر للناس أنك ساحر ولستَ برسول {فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا} أي عيِّنْ لنا وقت اجتماع {لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى} أي لا نخلف ذلك الوعد لا من جهتنا ولا من جهتك ويكون بمكان معيَّن ووقت معيَّن {قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى} أي قال موسى: موعدنا للاجتماع يوم العيد - يومُ من أيام أعيادهم - وأن يجتمع الناس في ضحى ذلك النهار، قال المفسرون: وإِنما عيَّن ذلك اليوم للمبارزة ليظهر الحق ويزهق الباطل على رؤوس الأشهاد، ويشيع ذلك في الأقطار بظهور معجزته للناس.
جمع فرعون السحرة وتحذير موسى لهم
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى(60)قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى(61)فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى(62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى(63)فَأَجْمِعُو ا كيدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى(64)}.
{فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى} أي انصرف فرعون فجمع السَّحرة ثم أتى الموعد ومعه السحرة وأدواتهم وما جمعه من كيد ليطفئ نور الله، قال ابن عباس: كانوا اثنين وسبعين ساحراً مع كل ساحر منهم حبال وعصىّ {قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ} أي قال موسى للسحرة لما جاء بهم فرعون: ويلكم لا تختلقوا على الله الكذب فيهلككم ويستأصلكم بعذاب هائل {وَقَدْ خَابَ مَنْ افْتَرَى} أي خسر وهلك من كذب على الله.. قدَّم لهم النصح والإِنذار لعلَّهم يثوبون إلى الهُدى، ولما سمع السَّحرة منه هذه المقالة هالهم ذلك ووقعتْ في نفوسهم مهابته ولذلك تنازعوا في أمره {فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى} أي اختلفوا في أمر موسى فقال بعضهم: ما هذا بقول ساحر وأخفوا ذلك عن الناس وأخذوا يتناجون سرّاً {قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا} أي قالوا بعد التناظر والتشاور ما هذان إِلاّ ساحران يريدان الاستيلاء على أرض مصر وإِخراجكم منها بهذا السحر {وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمْ الْمُثْلَى} أي غرضُهما إِفسادُ دينكم الذي أنتم عليه والذي هو أفضل المذاهب والأديان، قال الزمخشري: والظاهر أنهم تشاوروا في السرِّ وتجاذبوا أهداب القول ثم قالوا { إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ} فكانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام وتزويره خوفاً من غلبة موسى وهارون لهما وتثبيطاً للناس من اتباعهما {فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا} أي أحْكموا أمركم واعزموا عليه ولا تتنازعوا وارموا عن قوسٍ واحدة، ثم ائتوا إلى الميدان مصطفين ليكون أهيب في صدور الناظرين {وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنْ اسْتَعْلَى} أي فاز اليوم من علا وغلب، قال المفسرون: أرادوا بالفلاح ما وعدهم به فرعون من الإنعامات العظيمة والهدايا الجزيلة مع التقريب والتكريم كما قال تعالى {أَئِنَّ لَنَا لأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ}.
المبارزة بين موسى والسحرة وإعلان إيمانهم علناً
{ قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى(65)قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى(66)فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى(67)قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى(68)وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى(69)فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى(70)قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا(72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى(73)إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا(74)وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا(75)جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أبداً وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى(76)}
{قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى} أي قال السحرة لموسى: إِمَّا أن تبدأ أنتَ بالإِلقاء أو نبدأ نحنُ؟ خيرَّوه ثقةً منهم بالغلبة لموسى لأنهم كانوا يعتقدون أنَّ أحداً لا يقاومهم في هذا الميدان {قَالَ بَلْ أَلْقُوا} أي قال لهم موسى: بل ابدأوا أنتم بالإِلقاء، قال أبو السعود: قال ذلك مقابلةً للأدب بأحسنَ من أدبهم حيث بتَّ القول بإِلقائهم أولاً، وإِظهاراً لعدم المبالاة بسحرهم ليُبرزوا ما معهم، ويستفرغوا أقصى جهدهم وقصارى وسعهم، ثم يُظهر الله سلطانه فيقذف بالحق على الباطل فيدمغه {فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى} في الكلام حذفٌ دلَّ عليه المعنى أي فألقوا فإِذا تلك الحبال والعصيُّ التي ألقوها يتخيلها موسى ويظنُّها - من عظمة السحر - أنها حياتٍ تتحرك وتسعى على بطونها، والتعبيرُ يوحي بعظمة السحر حتى إن موسى فزع منها واضطرب {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى} أي أحسَّ موسى الخوف في نفسه بمقتضى الطبيعة البشرية لأنه رأى شيئاً هائلاً {قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأَعْلَى} أي قلنا لموسى: لا تخفْ ممّا توهمت فإِنك أنت الغالب المنتصر {وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا} أي أَلقِ عصاك التي بيمينك تبتلعْ بفمها ما صنعوه من السحر { إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ} أي إِنَّ الذي اخترعوه وافتعلوه هو من باب الشعوذة والسحر {وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} أي لا يسعد الساحر حيث كان ولا يفوز بمطلوبه لأنه كاذب مضلِّل {فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى} أي فألقى موسى عصاه فابتلعت ما صنعوا فخرَّ السحرة حينئذٍ سجداً لله ربّ العالمين لما رأوا من الآية الباهرة، قال ابن كثير: لما ألقى موسى العصا صارت ثعباناً عظيماً هائلاً، ذا قوائم وعُنق ورأس وأضراس، فجعلت تتَّبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق شيئاً إِلا ابتلعته، والناس ينظرون إِلى ذلك عياناً نهاراً، فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه علموا علم اليقين أن هذا ليس من قبيل السحر والحيل وأنه حقٌّ لا مرية فيه، فعند ذلك وقعوا سجداً لله، فقامت المعجزة واتضح البرهان، ووقع الحق وبطل السحر، قال ابن عباس: كانوا أول النهار سحرة، وفي آخر النهار شهداء بررة {قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ} أي قال فرعون للسحرة: آمنتم بموسى وصدقتموه بما جاء به قبل أن أسمح لكم بذلك وقبل أن تستأذنوني؟ {إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ} أي إِنه رئيسكم الذي علَّمكم السحر فاتفقتم معه لتذهبوا بملكي، قال القرطبي: وإِنما أراد فرعون بقوله هذا أن يُلبِّس على الناس حتى لا يتبعوهم فيؤمنوا كإِيمانهم، ثم توعَّدهم وهدَّدهم بالقتل والتعذيب، فقال {فَلأقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ} أي فوالله لأقطعنَّ الأيدي والأرجل منكم مختلفات بقطع اليد اليمنى، والرجل اليسرى أو بالعكس {وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي لأعلقنكم على جذوع النخل وأقتلنكم شرَّ قِتْلة {وَلَتَعْلَمنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى} أي ولتعلمُنَّ أيها السحرة من هو أشدُّ منا عذاباً وأدوم، هل أنا أم ربُّ موسى الذي صدقتم به وآمنتم {قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ} أي قال السحرة: لن نختارك ونفضّلك على الهدى والإِيمان الذي جاءنا من الله على يد موسى ولو كان في ذلك هلاكنا {وَالَّذِي فَطَرَنَا} قسمٌ بالله أي مقسمين بالله الذي خلقنا {فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ} أي فاصنع ما أنت صانع {إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} أي إِنما ينفذ أمرك في هذه الحياة الدنيا وهي فانية زائلة ورغبتنا في النعيم الخالد، قال عكرمة: لما سجدوا أراهم الله في سجودهم منازلهم في الجنة فلذلك قالوا ما قالوا {إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا} أي آمنا بالله ليغفر لنا الذنوب التي اقترفناها وما صدر منا من الكفر والمعاصي {وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ} أي ويغفر لنا السحر الذي عملناه لإِطفاء نور الله { وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي والله خيرٌ منك ثواباً وأبقى عذاباً، وهذا جوابُ قوله {ولتعلمُنَّ أيُّنا أشدُّ عذاباً وأبقى} {إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ} هذا من تتمة كلام السحر عظةً لفرعون أي من يلقى ربه يوم القيامة وهو مجرمٌ باقترافه المعاصي وموته على الكفر، فإِن له نار جهنم {لا يَمُوتُ فِيهَا وَلا يَحْيَا} أي لا يموت في جهنم فينقضي عذابه، ولا يحيا حياة طيبة هنيئة {وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ} أي ومن يلقى ربه مؤمناً موحّداً وقد عمل الطاعات وترك المنهيات {فَأُوْلَئِكَ لَهُمْ الدَّرَجَاتُ الْعُلا} أي فأولئك المؤمنون العاملون للصالحات لهم المنازل الرفيعة عند الله {جَنَّاتُ عَدْنٍ} بيانٌ للدرجات العُلى أي جناتُ إِقامة ذات الدرجات العاليات، والغُرف الآمنات، والمساكن الطيبات {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي تجري من تحت غرفها وسُرُرها أنهار الجنة من الخمر والعسل، واللَّبن، والماء {خَالِدِينَ فِيهَا أبداً} أي ماكثين في الجنة دوماً لا يخرجون منها أبداً {وَذَلِكَ جزَاءُ مَنْ تَزَكَّى} أي وذلك ثواب من تطهَّر من دنس الكفر والمعاصي، وفي الحديث (الجنة مائة درجة، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض، والفردوس أعلاها درجة فإِذا سألتم الله فاسألوه الفردوس).
المناسَبَة:
لا تزال الآيات الكريمة تتحدث عن قصة موسى وفرعون، وتشير الآيات هنا إِلى عناية الله تعالى بموسى وقومه، وإِنجائهم وإِهلاك عدوهم، وتذكّرهم بنعم الله العظمى ومننه الكبرى على بني إِسرائيل، وما وصّاهم به من المحافظة على شكرها وتحذيرهم من التعرض لغضب الله بكفرها، ثم تذكر الآيات انتكاس بني إِسرائيل بعبادتهم العجل، وقد طوى هنا ما فصَّل في ءايات أخر.
-
رد: تفسير القران الكريم
المسير ببني إسرائيل وإغراق فرعون وجنوده ونعم الله على بني إسرائيل
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى(77)فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ(78)وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى(79)يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى(80)كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى(81)وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى(82)}
{وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي} أي أوحينا إِلى موسى بعد أن تمادى فرعون في الطغيان أنْ سرْ ببني إِسرائيل ليلاً من أرض مصر {فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا} أي اضرب البحر بعصاك ليصبح لهم طريقاً يابساً يمرون عليه {لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى} أي لا تخاف لحاقاً من فرعون وجنوده، ولا تخشى الغرق في البحر {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} أي فلحقهم فرعون مع جنوده ليقتلهم فأصابهم من البحر ما أصابهم، وغشيهم من الأهوال ما لا يعلم كُنهه إِلا الله، والتعبير يفيد التهويل لما دهاهم عند الغَرق {وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى} أي أضلهم عن الرشد وما هداهم إِلى خيرٍ ولا نجاة، وفيه تهكم بفرعون في قوله {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} خطابٌ لبني إِسرائيل بعد خروجهم من البحر وإِغراق فرعون وجنوده، والمعنى اذكروا يا بني إِسرائيل نعمتي العظيمة عليكم حين نجيتكم من فرعون وقومه الذين كانوا يسومونكم سوء العذاب {وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الأَيْمَنَ} أي وعدنا موسى للمناجاة وإِنزال التوراة عليه جانب طور سيناء الأيمن، وإنما نسبت المواعدة إِليهم لكون منفعتها راجعة إِليهم إِذْ في نزول التوراة صلاحُ دينهم ودنياهم {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى} أي رزقناكم وأنتم في أرض التيه بالمنِّ وهو يشبه العسل، والسلوى وهو من أجود الطيور لحماً تفضلاً منا عليكم .. وفي هذا الترتيب غايةُ الحسن حيث بدأ بتذكيرهم بنعمة الإِنجاء، ثم بالنعمة الدينية، ثم بالنعمة الدنيوية {كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} أي وقلنا لكم كلوا من الحلال اللذيذ الذي أنعمتُ به عليكم {وَلا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي} أي لا تحملنكم السعة والعافية على العصيان لأمري فينزل بكم عذابي {وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى} أي ومن ينزل عليه غضبي وعقابي فقد هلك وشقي {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} أي وإِني لعظيم المغفرة لمن تاب من الشرك وحسُن إِيمانه وعمله، ثم استقام على الهدى والإِيمان، وفي الآية ترغيب لمن وقع في وهدة العصيان ببيان المخرج كيلا ييأس.
مفاجأة موسى لربه وفتنة السامري
{ وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى(83)قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى(84)قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ(85)فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي(86)قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ(87)فَأَخْرَ جَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ(88)أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا(89)}
{وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى} أيْ أيُّ شيءٍ عجَّل بك عن قومك يا موسى؟ قال الزمخشري: كان موسى قد مضى مع النقباء الذين اختارهم من قومه إِلى الطور على الموعد المضروب ثم تقدمهم شوقاً إِلى كلام ربه {قَالَ هُمْ أُولاءِ عَلَى أَثَرِي} أي قومي قريبون مني لم أتقدمهم إِلا بشيء يسير وهم يأتون بعدي {وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى} أي وعجلتُ إِلى الموضع الذي أمرتني بالمجيء إِليه لتزداد رضىً عني .. اعتذر موسى أولا،ً ثم بيَّن السبب في إِسراعه قبل قومه وهو الشوق إِلى مناجاة الله ابتغاءً لرضى الله {قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ} أي ابتليناهم بعبادة العجل من بعد ذهابك من بينهم {وَأَضَلَّهُمْ السَّامِرِيُّ} أي وأوقعهم السامريُّ في الضلالة بسبب تزيينه لهم عبادة العجل، وكان السامري ساحراً منافقاً من قومٍ يعبدون البقر، قال المفسرون: كان موسى حين جاء لمناجاة ربه قد استخلف على بني إِسرائيل أخاه هارون، وأمره أن يتعهدهم بالإِقامة على طاعة الله، وفي أثناء غيبة موسى جمع السامريُّ الحليَّ ثم صنع منها عجلاً ودعاهم إِلى عبادته فعكفوا عليه وكانت تلك الفتنة وقعت لهم بعد خروج موسى من عندهم بعشرين يوماً {فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا} أي رجع موسى من الطور بعدما استوفى الأربعين وأخذ التوراة غضبان شديد الحزن على ما صنع قومه من عبادة العجل {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا} أي ألم يعدْكم بإِنزال التوراة فيها الهدى والنور؟ والاستفهام للتوبيخ {أَفَطَالَ عَلَيْكُمْ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي} أي هل طال عليكم الزمن حتى نسيتم العهد أم أردتم بصنيعكم هذا أن ينزل عليكم سخط الله وغضبه فأخلفتم وعدي؟ قال أبو حيان: وكانوا وعدوه بأن يتمسكوا بدين الله وسنّة موسى عليه السلام، ولا يخالفوا أمر الله أبداً، فأخلفوا موعده بعبادتهم العجل {قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا} أي ما أخلفنا العهد بطاقتنا وإِرادتنا واختيارنا بل كنا مكرهين {وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا} أي حملنا أثقالاً وأحمالاً من حُليِّ آل فرعون فطرحناها في النار بأمر السامري، قال مجاهد: أوزاراً: أثقالاً وهي الحلي التي استعاروها من آل فرعون {فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ} أي كذلك فعل السامري ألقى ما كان معه من حلي القوم في النار، قال المفسرون: كان بنو إِسرائيل قد استعاروا من القبط الحُليّ قبل خروجهم من مصر، فلما أبطأ موسى في العودة إِليهم قال لهم السامري: إِنما احتُبس عليكم لأجل ما عندكم من الحلي فجمعوه ودفعوه إِلى السامري، فرمى به في النار وصاغ لهم منه عجلاً، ثم ألقى عليه قبضةً من أثر فرس جبريل عليه السلام فجعل يخور فذلك، قوله تعالى {فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ} أي صاغ لهم السامري من تلك الحليّ المذابة عجلاً جسداً بلا روح له خوارٌ وهو صوت البقر {فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ} أي هذا العجل إِلهكم وإِله موسى فنسي موسى إِلهه هنا وذهب يطلبه في الطور، قال قتادة: نسي موسى ربه عندكم، فعكفوا عليه يعبدونه، قال تعالى رداً عليهم وبياناً لسخافة عقولهم في عبادة العجل {أَفَلا يَرَوْنَ أَلا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلا وَلا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلا نَفْعًا} أي أفلا يعلمون أن العجل الذي زعموا أنه إِلههم لا يردُّ لهم جواباً، ولا يقدر أن يدفع عنهم ضراً أو يجلب لهم نفعاً فكيف يكون إِلهاً؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع.
معاتبة موسى لهارون على تأليه العجل
{ وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وإن رَبَّكُمْ الرَّحْمَانُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي(90)قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى(91)قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا(92)أَلا تَتَّبِعَنِي أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي(93)قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي(94)قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ(95)قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي(96)قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا(97)إِنَّما إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا(98)}.
{وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ} أي قال لهم هارون ناصحاً ومذكراً من قبل رجوع موسى إِليهم: إِنما ابْتُليتُم وأُضللتم بهذا العجل { وإن رَبَّكُمْ الرَّحْمَانُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي} أي وإِنَّ ربكم المستحقَّ للعبادة هو الرحمن لا العجل، فاقتدوا بي فيما أدعوكم إِليه من عبادة الله، وأطيعوا أمري بترك عبادة العجل {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} أي قالوا: لن نزال مقيمين على عبادة العجل حتى يعود إِلينا موسى فننظر في الأمر {قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلا تَتَّبِعَنِي}؟ في الكلام حذفٌ أي فلما رجع موسى ووجدهم عاكفين على عبادة العجل امتلأ غضباً لله وأخذ برأس أخيه هارون يجره إِليه، وقال له: أيُّ شيء منعك حين رأيتهم كفروا بالله أن لا تتبعني في الغضب لله والإِنكار عليهم والزجر لهم عن ذلك الضلال؟ { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} أي أخالفتني وتركت أمري ووصيتي؟ قال المفسرون: وأمرهُ هو ما كان أوصاه به فيما حكاه تعالى عنه {وَقَالَ مُوسَى لأخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} {قَالَ يَبْنَؤُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلا بِرَأْسِي} أي قال له هارون استعطافاً وترقيقاً: يا ابن أمي - أي يا أخي - لا تأخذ بلحيتي ولا بشعر رأسي، قال ابن عباس: أخذ شعر رأسه بيمينه ولحيته بشماله من شدة غيظه وفرط غضبه لأن الغيرة في الله ملكته {إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ} أي إني خفت إن زجرتُهم بالقوة أن يقع قتالٌ بينهم فتلومني على ذلك وتقول لي: لقد أشعلتَ الفتنة بينهم {وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} أي لم تنتظرْ أمري فيهم، فمن أجل ذلك رأيتُ ألاّ أفعل شيئاً حتى ترجع إِليهم لتتدارك الأمر بنفسك، قال ابن عباس: وكان هارون هائبا مطيعاً له {قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ} أي ما شأنك فيما صنعت؟ وما الذي حملك عليه يا سامري؟ {قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ} أي قال السامريُّ: رأيتُ ما لم يروه وهو أن جبريل جاءك على فرس الحياة فأُلقي في نفسي أن أقبض من أثره قبضة فما ألقيتُه على شيءٍ إِلا دبَّت فيه الحياة {فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا} أي قبضت شيئاً من أثر فرس جبريل فطرحتها على العجل فكان له خوار {وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي} أي وكذلك حسَّنتْ وزيَّنَتْ لي نفسي {قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ} أي قال موسى للسامري: عقوبتك في الدنيا ألاّ تمسَّ أحداً ولا يمسَّك أحد، قال الحسن: جعل الله عقوبة السامري ألا يماسَّ الناسَ ولا يمسّوه عقوبة له فيالدنيا وكأنَّ الله عز وجل شدَّد عليه المحنة {وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ} أي وإِنَّ لك موعداً للعذاب في الآخرة لن يتخلَّف {وَانظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا} أي انظر إِلى هذا العجل الذي أقمت ملازماً على عبادته {لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا} أي لنحرقنَّه بالنار ثم لنطيرنَّه رماداً في البحر لا يبقى منه عين ولا أثر {إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي يقول موسى لبني إِسرائيل: إِنما معبودكم المستحق للعبادة هو الله الذي لا ربَّ سواه {وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي وسع علمه كلَّ شيء فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء.
أخذ العبرة من قصص الماضين وجزاء المعرض عن القرآن
{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا(99)مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا(100)خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا(101)يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا(102)يَتَخَافَتُون َ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا(103)نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا(104) }
{كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ} أي كما قصصنا عليك يا محمد خبر موسى مع فرعون وما فيه من الأنباء الغريبة، كذلك نقص عليك أخبار الأمم المتقدمين {وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا} أي أعطيناك من عندنا قرآناً يتلى منطوياً على المعجزات الباهرة، قال أبو حيّان: امتن تعالى عليه بإِيتائه الذكر المشتمل على القصص والأخبار، الدال على معجزات أُوتيها عليه السلام {مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا} أي من أعرض عن هذا القرآن فلم يؤمن به ولم يتَّبع ما فيه، فإِنه يحمل يوم القيامة حملاً ثقيلاً، وذنباً عظيماً يثقله في جهنم {خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلا} أي مقيمين في ذلك العذاب بأوزارهم، وبئس ذلك الحمل الثقيل حملاً لهم، شُبِّه الوزرُ بالحمل لثقله {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا} أي يوم ينفخ إسرافيل في الصور النفخة الثانية، ونحشر المجرمين إلى أرض المحشر زُرق العيون سود الوجوه، قال القرطبي: تُشوه خلقتُهم بزرقة العيون وسواد الوجوه {يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا عَشْرًا} أي يتهامسون بينهم ويسرُّ بعضهم إِلى بعض قائلين: ما مكثتم في الدنيا إِلا عشر ليال، قال أبو السعود: استقصروا مدة لبثهم فيها لما عاينوا الشدائد والأهوال {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلا يَوْمًا} أي نحن أعلم بما يتناجون بينهم إِذ يقول أعقلهم وأعدلهم قولاً ما لبثتم إِلا يوماً واحداً.
أحوال الجبال والناس يوم القيامة
{ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا(105)فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا(106)لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا(107)يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا(108) يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا(109)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا(110)وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا(111)وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْمًا(112) }.
{وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} أي ويسألونك عن حال الجبال يوم القيامة فقل لهم: إِن ربي يفتِّتها كالرمل، ثم يرسل عليها الرياح فيطيرّها {فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا} أي فيتركها أرضاً ملساء مستوية لا نبات فيها ولا بناء {لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا} أي لا ترى فيها انخفاضاً ولا ارتفاعاً {يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِي لا عِوَجَ لَهُ} أي في ذلك اليوم العصيب يتَّبع الناس داعي الله الذي يدعوهم لأرض المحشر يأتونه سراعاً لا يزيغون عنه ولا ينحرفون {وَخَشَعَتْ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَانِ} أي ذلَّت وسكنت أصوات الخلائق هيبةً من الرحمن جل وعلا {فَلا تَسْمَعُ إِلا هَمْسًا} أي لا تسمع إِلا صوتاً خفياً لا يكاد يُسمع، وعن ابن عباس: هو همسُ الأقدام في مشيها نحو المحشر {يَوْمَئِذٍ لا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَانُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلا} أي في ذلك اليوم الرهيب لا تنفع الشفاعة أحداً إِلاّ لمن أذن له الرحمن في أن يشفع له، ورضي لأجله شفاعة الشافع، وهو الذي كان في الدنيا من أهل لا إِله إِلا الله، قاله ابن عباس {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي يعلم تعالى أحوال الخلائق فلا تخفى عليه خافية من أمور الدنيا وأمور الآخرة {وَلا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} أي لا تحيط علومهم بمعلوماته جل وعلا {وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ} أي ذلت وخضعتْ وجوه الخلائق للواحد القهار جبار السماوات والأرض الذي لا يموت، قال الزمخشري: المراد بالوجوه وجُوه العصاة، وأنهم إِذا عاينوا يوم القيامة الخيبة والشقوة وسوء الحساب، صارت وجوهُهم عانيةً أي ذليلة خاضعة مثل وجوه العُناة وهم الأسارى كقوله {سيئت وجوه الذين كفروا}، {وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا} أي خسر من أشرك بالله، ولم ينجح ولا ظفر بمطلوبه {وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي من قدَّم الأعمال الصالحة بشرط الإِيمان {فَلا يَخَافُ ظُلْمًا وَلا هَضْما} أي فلا يخاف ظلماً بزيادة سيئاته، ولا بخساً ونقصاً لحسناته.
أنزل الله القرآن عربياً وأمر نبيه بعدم العجلة بقراءته عند تلاوة جبريل
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا(113)فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا(114)}.
{وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي مثل إِنزال الآيات المشتملة على القصص العجيبة أنزلنا هذا الكتاب عليك يا محمد بلغة العرب ليعرفوا أنه في الفصاحة والبلاغة خارج عن طوق البشر {وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ} أي كررنا فيه الإِنذار والوعيد {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا} أي كي يتقوا الكفر والمعاصي أو يحدث لهم موعظة في القلوب ينشأ عنها امتثال الأوامر واجتناب النواهي {فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ} أي جلَّ الله وتقدَّس الملك الحق الذي قهر سلطانه كل جبار عّما يصفه به المشركون من خلقه {وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ} أي إِذا أقرأك جبريل القرآن فلا تتعجل بالقراءة معه، بل استمعْ إِليهِ واصبر حتى يفرغَ من تلاوته وحينئذٍ تقرأه أنت، قال ابن عباس: كان عليه السلام يبادر جبريل فيقرأ قبل أن يفرغ جبريل من الوحي حرصاً على حفظ القرآن ومخافة النسيان فنهاه الله عن ذلك، قال القرطبي: وهذا كقوله تعالى {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا} أي سلِ الله عز وجل زيادة العلم النافع، قال الطبري: أمره بمسألته من فوائد العلم ما لا يعلم.
قصة إخراج آدم من الجنة من وراء وسوسة الشيطان
{ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا(115)وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى(116)فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى(117)إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى(118)وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى(119)فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى(120)فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى(121)ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى(122)قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى(123)وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى(124)قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا(125)قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءاياتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى(126)وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى(127)}.
{وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ} أي وصيناه أن لا يأكل من الشجرة من القديم {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} أي نسي أمرنا ولم نجد له حزماً وصبراً عمّا نهيناه عنه {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى} يذكر تعالى تشريف آدم وتكريمه وما فضّله به على كثير من الخلق، أي واذكر يا محمد حين أمرنا الملائكة بالسجود لآدم سجود تحيةٍ وتكريم فامتثلوا الأمر إِلا إِبليس فإِنه أبى السجود وعصى أمر ربه، قال الصاوي: كررت هذه القصة في سبع سور من القرآن تعليماً للعباد امتثال الأوامر، واجتناب النواهي وتذكيراً لهم بعداوة إِبليس لأبيهم آدم {فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ} أي ونبهنا آدم فقلنا له إِن إِبليس شديد العداوة لك ولحواء {فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى} أي لا تطيعاه فيكون سبباً لإِخراجكما من الجنة فتشقيان، وإِنما اقتصر على شقائه مراعاةً للفواصل ولاستلزام شقائه لشقائها، قال ابن كثير: المعنى إِيّاك أن تسعى في إِخراجك من الجنة فتتعب وتشقى في طلب رزقك، فإِنك ههنا في عيشٍ رغيد، بلا كلفةٍ ولا مشقة {إِنَّ لَكَ أَلا تَجُوعَ فِيهَا وَلا تَعْرَى} أي إِنَّ لك يا آدم ألاَّ ينالك في الجنة الجوعُ ولا العريُ {وَأَنَّكَ لا تَظْمَأُ فِيهَا وَلا تَضْحَى} أي ولك أيضاً ألاّ يصيبك العطش فيها ولا حر الشمس، لأن الجنة دار السرور والحبور، لا تعب فيها ولا نصب، ولا حر ولا ظمأ بخلاف دار الدنيا {فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ} أي حدَّثه خفيةً بطريق الوسوسة {قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لا يَبْلَى} أي قال له إِبليس اللعين: هل أدلك يا آدم على شجرةٍ من أكل منها خُلّد ولم يمت أصلاً، ونال المُلك الدائم الذي لا يزول أبداً؟ وهذه مكيدة ظاهرها النصيحة ومتى كان اللعين ناصحاً؟ {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} أي أكل آدم وحواء من الشجرة التي نهاهما الله عنها فظهرت لهما عوراتهما، قال ابن عباس: عريا من النور الذي كان الله تعالى قد ألبسهما إِياه حتى بدت فروجهما {وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجنَّةِ} أي شرعاً يأخذان من أوراق الجنة ويغطيان بها عوراتهما ليستترا بها {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى} أي خالف آدم أمر ربه بالأكل من الشجرة فضلَّ عن المطلوب الذي هو الخلود في الجنة حيث اغتر بقول العدوّ، قال أبو السعود: وفي وصفه بالعصيان والغِواية - مع صغر زلته - تعظيمٌ لها وزجرٌ بليغ لأولاده عن أمثالها {ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} أي ثم اصطفاه ربه فقرَّبه إِليه وقبل توبته وهداه إِلى الثبات على التوبة والتمسك بأسباب الطاعة {قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ} أي قال الله لآدم وحواء: إِنزلا من الجنة إِلى الأرض مجتمعين، بعضُ ذريتكما لبعض عدوٌّ بسبب الكسب والمعاش واختلاف الطبائع والرغبات، قال الزمخشري: لما كان آدم وحواء أصلي البشر جُعلا كأنهما البشر في أنفسهما فخوطبا مخاطبتهم {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى} أي فإِن جاءكم من جهتي الكتب والرسل لهدايتكم {فَمَنْ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى} أي فمن تمسَّك بشريعتي واتَّبع رسلي فلا يضلَّ في الدنيا ولا يشقى في الآخرة قال ابن عباس: ضمن الله تعالى لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألاّ يضلَّ في الدنيا، ولا يشقى في الآخرة وتلا الآية {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا} أي ومن أعرض عن أمري وما أنزلته على رسلي من الشرائع والأحكام فإِن له في الدنيا معيشةً قاسية شديدة وإِن تنعَّم ظاهره {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} أي ونحشره في الآخرة أعمى البصر، قال ابن كثير: من أعرض عن أمر الله وتناساه فإِن له حياة ضنكاً في الدنيا، فلا طمأنينة له ولا انشراح لصدره، بل صدره ضيِّقٌ حرج لضلاله وإِن تنعَّم ظاهره ولبس ما شاء، وأكل ما شاء، وسكن حيث شاء، فإِن قلبه في قلقٍ وحيرة وشك، وقيل: يُضيَّق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} أي قال الكافر: يا رب بأي ذنبٍ عاقبتني بالعمى وقد كنت في الدنيا بصيراً؟ {قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ ءاياتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى} أي قال الله تعالى له: لقد أتتك ءاياتنا واضحة جلية فتعاميتَ عنها وتركتها، وكذلك تُترك اليوم في العذاب جزاءً وفاقاً {وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ} أي ومثل ذلك الجزاء الموافق للخيانة والتكذيب بآيات الله نعاقب من أسرف بالانهماك في الشهوات، ولم يصدّق بكلام ربه وآياته البينات {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} أي عذاب جهنم أشدُّ من عذاب الدنيا لأنَّ عذابها أدوم وأثبت لأنه لا ينقطع ولا ينقضي.
الاعتبار بهلاك الأمم الماضية، والصبر على أذى المشركين وعدم الالتفات إلى متعهم،
وأمر الأهل بالصلاة
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى(128)وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى(129)فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى(130)وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى(131)وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى(132)}.
{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ} أي أفلم يتبيَّن لكفار مكة الذين كذبوك كم أهلكنا قبلهم من الأمم الخالية المكذبين لرسلهم {يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ} أي يرون مساكن عاد وثمود ويعاينون آثار هلاكهم أفلا يتعظون ويعتبرون؟ {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النُّهَى} أي إِنَّ في آثار هذه الأمم البائدة لدلالات وعِبراً لذوي العقول السليمة {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى} أي لولا قضاءُ الله بتأخير العذاب عنهم ووقتٌ مسمَّى لهلاكهم لكان العذاب واقعاً بهم قال الفراء: في الآية تقديم وتأخيرٌ والمعنى ولولا كلمةٌ وأجلٌ مسمَّى لكان لزاماً أي لكان العذاب لازماً لهم، وإِنما أخَّره لتعتدل رؤوس الآي {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي فاصبر يا محمد على ما يقول هؤلاء المكذبون من قومك {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} أي صلّ وأنت حامد لربك قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، وقبل غروبها صلاة العصر {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} أي وصلِّ لربك في ساعات الليل وفي أول النهار وآخره {لَعَلَّكَ تَرْضَى} أي لعلَّك تُعطى ما يرضيك، قال القرطبي: أكثر المفسرين أن هذه الآية إشارة إِلى الصلوات الخمس {قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ} صلاة الصبح {وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} صلاة العصر {وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ} صلاة العشاء {وَأَطْرَافَ النَّهَارِ} صلاة المغرب والظهر، لأن الظهر في آخر طرف النهار الأول، وغروب الشمس آخر طرف النهار الأخير {وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ} أي لا تنظر إِلى ما متعنا به أصنافاً من الكفار من نعيم الدنيا وبهرجها الخادع {زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنيَا} أي زينة الحياة الدنيا {لِنَفْتنَهُمْ فِيهِ} أي لنبتليهم ونختبرهم بهذا النعيم حتى يستوجبوا العذاب بكفرهم {وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي ثواب الله خير من هذا النعيم الفاني وأدوم، قال المفسرون: الخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به أُمته لأنه عليه السلام كان أزهد الناس في الدنيا وأشدَّ رغبة فيما عند الله {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} أي وأْمر يا محمد أهلك وأمتك بالصلاة واصبر أنت على أدائها بخشوعها وآدابها { لا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ} أي لا نكلفك أن ترزق نفسك وأهلك بل نحن نتكفل برزقك وإِياهم {وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى} أي العاقبة الحميدة لأهل التقوى، قال ابن كثير: أي حسن العاقبة وهي الجنة لمن اتقى الله.
اقتراح المشركين الإتيان بمعجزة أخرى غير مكتفين بمعجزة القرآن
{وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأولَى(133)وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ ءاياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى(134)قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنْ اهْتَدَى(135)}
{وَقَالُوا لَوْلا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ} أي قال المشركون هلاّ يأتينا بمعجزة تدل على صدقه؟ {أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الأُولَى} أي أولم يكتفوا بالقرآن المعجزة الكبرى لمحمد عليه السلام المحتوي على أخبار الأمم الماضية؟ والاستفهام للتوبيخ والتقريع، قال أبو حيّان: اقترح المشركون ما يختارون على ديدنهم في التعنت فأجيبوا بأن هذا القرآن الذي سبق التبشير به في الكتب الإِلهية السابقة أعظم الآيات في الإِعجاز وهو الآية الباقية إِلى يوم القيامة {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ} أي لو أنا أهلكنا كفار مكة من قبل نزول القرآن وبعثة محمد عليه السلام {لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا} أي لقالوا يا ربنا هلاّ أرسلت إِلينا رسولاً حتى نؤمن به ونتَّبعه {فَنَتَّبِعَ ءاياتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} أي فنتمسك بآياتك من قبل أن نذلّ بالعذاب ونفتضح على رؤوس الأشهاد، قال المفسرون: أراد تعالى أن يبيّن أنه لا حجة لأحد على الله بعد إِرسال الرسل وإِنزال الكتب فلم يترك لهم حجة ولا عذراً {قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المكذبين كلٌ مناومنكم منتظر دوائر الزمان ولمن يكون النصر {فَتَرَبَّصُوا} أمر تهديد أي فانتظروا العاقبة والنتيجة {فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ} أي فستعلمون عن قريب من هم أصحاب الطريق المستقيم هل نحن أم أنتم؟ {وَمَنْ اهْتَدَى} أي اهتدى إِلى الحق وسبيل الرشاد ومن بقي على الضلال، قال القرطبي: وفي هذا ضربٌ من الوعيد والتخويف والتهديد ختمت به السورة الكريمة.
-
رد: تفسير القران الكريم
سورة الأنبياء
غفلة الناس عن الحساب يوم القيامة
بشرية الرسل عليهم الصلاة والسلام
تهديد الكفار بالهلاك نتيجة ظلمهم كما فعل بسلفهم
توبيخ المشركين وذمهم وإثبات الوحدانية
الإنكار الشديد على من اتخذ آلهة مع الله
توبيخ آخر للمشركين على عدم تدبرهم ءايات الكون الدالة على وجود الإله الواحد
لم يكتب الخلود لأحد من الخلائق ومجيء القيامة بغتة
حفظ الله للبشر وعدله في حسابهم
إتيان موسى وهارون التوراة وتنزيل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم
إنكار إبراهيم عبادة الأصنام ودعوته إلى التوحيد
نقاش إبراهيم مع قومه حول تكسير الأصنام
نجاة سيدنا إبراهيم عليه السلام من النار
تنجية إبراهيم ولوط إلى الأرض المقدسة - الشام
قصة لوط عليه السلام وإعطاؤه النبوة
قصة نوح عليه السلم
قصة داود وسليمان عليهما السلام
قصة أيوب عليه السلام
قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل عليهم السلام
قصة يونس عليه السلام وابتلاع الحوت له
قصة زكريا ويحيى عليهما السلام مع قصة مريم
وحدة الرسالات السماوية
مصير الكافرين والمؤمنين في الآخرة وطي السماء
محمد صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة
بَين يَدَي السُّورَة
هذه السورة مكية وهي تعالج موضوع العقيدة الإِسلامية في ميادينها الكبيرة "الرسالة، الوحدانية البعث والجزاء" وتتحدث عن الساعة وشدائدها، والقيامة وأهوالها، وعن قصص الأنبياء والمرسلين.
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن غفلة الناس عن الآخرة، وعن الحساب والجزاء، بينما القيامة تلوح لهم وهم في غفلةٍ عن ذلك اليوم الرهيب، وقد شغلتهم مغريات الحياة عن الحساب المرقوب.
* ثم انتقلت إلى الحديث عن المكذبين، وهم يشهدون مصارع الغابرين، ولكنهم لا يعتبرون ولا يتعظون، حتى إِذا ما فاجأهم العذاب، رفعوا أصواتهم بالتضرع والاستغاثة ولكن هيهات.
* وتناولت السورة دلائل القدرة في الأنفس والآفاق، لتنبه على عظمة الخالق المدبر الحكيم، فيما خلق وأبدع، ولتربط بين وحدة الكون، ووحدة الإِله الكبير.
* وبعد عرض الأدلة والبراهين، الشاهدة على وحدانية رب العالمين، تذكر السورة حال المشركين وهم يتلقون الرسول عليه السلام بالاستهزاء والسخرية والتكذيب، وتعقّب على ذلك بسنة الله الكونية في إِهلاك الطغاة المجرمين.
* ثم تتناول السورة الكريمة قصص بعض الرسل، وتتحدث بالإِسهاب عن قصة إِبراهيم عليه السلام مع قومه الوثنيّين، في أسلوب مشوّق، فيه من نصاعة البيان، وقوة الحجة والبرهان ما يجعل الخصم يقر بالهزيمة في خنوعٍ واستسلام، وفي قصته عبر وعظات.
* وتتابع السورة الحديث عن الرسل الكرام فتتحدث عن "إِسحاق، ويعقوب، ولوط، ونوح، وداود، وسليمان، وأيوب، وإِسماعيل، وإِدريس، وذي الكفل، وذي النون، وزكريا، وعيسى" بإِيجاز مع بيان الأهوال والشدائد التي تعرضوا لها، وتختم ببيان رسالة سيد المرسلين محمد بن عبد الله المرسل رحمة للعالمين.
التســـميَــــة:
سميت "سورة الأنبياء" لأن الله تعالى ذكر فيها جملةً من الأنبياء الكرام في استعراضٍ سريع، يطول أحياناً ويقصر أحياناً، وذكر جهادهم وصبرهم وتضحيتهم في سبيل الله، وتفانيهم في تبليغ الدعوة لإِسعاد البشرية.
غفلة الناس عن الحساب يوم القيامة
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ(1)مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ(2)لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ(3)قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ بَلْ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ(5)مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ(6) }.
{اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ} أي قرب ودنا وقت حساب الناس على أعمالهم { وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ} أي وهم مستغرقون في الشهوات، غافلون عن ذلك اليوم الرهيب، لا يعملون للآخرة ولا يستعدون لها كقول القائل: الناس في غفلاتهم: ورَحى المنيَّة تطحن، وإِنما وصف الآخرة بالاقتراب لأن كل ما هو آتٍ قرب {مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} أي ما يأتيهم شيءُ من الوحي والقرآن من عند الله متجدّد في النزول فيه عظةٌ لهم وتذكير {إِلا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} أي إِلاّ استمعوا القرآن مستهزئين قال الحسن: كلما جُدّد لهم الذكرُ استمروا على الجهل {لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ} أي ساهيةً قلوبهم عن كلام الله، غافلةً عن تدبر معناه {وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا} أي تناجى المشركون فيما بينهم سراً { هَلْ هَذَا إِلا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ} أي قالوا فيما بينهم خفيةً هل محمد الذي يدّعى الرسالة إِلا شخص مثلكم يأكل الطعام ويمشي في الأسواق ؟ {أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ} أي أفتقبلون السحر وأنتم تعلمون أنه سحر ؟ قال الألوسي: أرادوا أن ما أتى به محمد عليه السلام من قبيل السحر، وذلك بناءً على ما ارتكز في اعتقادهم أن الرسول لا يكون إِلا ملكاً وأن كل ما جاء به من الخوارق من قبيل السحر وعنوا بالسحر القرآن {قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ} أي قال محمد صلى الله عليه وسلم إِنَّ ربي لا يخفى عليه شيء مما يقال في السماء والأرض {وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي السميع بأقوالكم، العليم بأحوالكم، وفي هذا تهديدٌ لهم ووعيد {بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلامٍ} هذا إِضرابٌ من جهته تعالى وانتقال إلى ما هو أشنع وأقبح حيث قالوا عن القرآن إِنه أخلاط منامات {بَلْ افْتَرَاهُ} أي اختلقه محمد من تلقاء نفسه {بَلْ هُوَ شَاعِرٌ} أي بل محمد شاعر وما أتى به شعر يخيل للسامع أنه كلام رائع مجيد قال ابن جزي: حكى عنهم هذه الأقوال الكثيرة ليظهر اضطراب أمرهم وبطلان أقوالهم فهم متحيرون لا يستقرون على شيء {فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الأَوَّلُونَ} أي فليأتنا محمدٌ بمعجزةٍ خارقة تدل على صدقه كما أُرسل موسى بالعصا وصالح بالناقة {مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ} أي ما صدَّق قبل مشركي مكة أهل القرى الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات بل كذبوا فأهلكهم الله أفيصدّق هؤلاء بالآيات لو رأوها ؟ كلا قال أبو حيان: وهذا استبعادٌ وإِنكار أي هؤلاء أعتى من الذين اقترحوا على أنبيائهم الآيات فلو أعطيناهم ما اقترحوا لكانوا أضلَّ من أولئك واستحقوا عذاب الاستئصال ولكنَّ الله تعالى حكم بإِبقائهم لعلمه أنه سيخرج منهم مؤمنون.
بشرية الرسل عليهم الصلاة والسلام
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ(7)وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ(8)ثُمَّ صَدَقْنَاهُمْ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ(9)لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ(10) }.
{وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلا رِجَالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ} أي وما أرسلنا قبلك يا محمد إِلا رسلاً من البشر لا ملائكة فكيف ينكر هؤلاء المشركون رسالتك ويقولون: ما هذا إِلا بشر مثلكم؟ {فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ} أي فاسألوا يا أهل مكة العلماء بالتوراة والإِنجيل هل كان الرسل الذين جاؤوهم بشراً أم ملائكة ؟ إِن كنتم لا تعلمون ذلك {وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ} أي ما جعلنا الأنبياء أجساداً لا يأكلون ولا يشربون كالملائكة بل هم كسائر البشر يأكلون ويشربون، وينامون ويموتون {وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ} أي ما كانوا مخلَّدين في الدنيا لا يموتون {ثُمَّ صَدَقْنَاهُمْ الْوَعْدَ فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ} أي ثم صدقنا الأنبياء ما وعدناهم به من نصرهم وإِهلاك مكذبيهم وإِنجائهم مع أتباعهم المؤمنين {وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ} أي وأهلكنا المكذبين للرسل، المجاوزين الحدَّ في الكفر والضلال، وهذا تخويفٌ لأهل مكة {لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ} اللام للقسم أي والله لقد أنزلنا إِليكم يا معشر العرب كتاباً عظيماً مجيداً لا يماثله كتاب في شرفُكم وعزُّكم {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تعقلون هذه النعمة فتؤمنون بما جاءكم به محمد عليه السلام ؟
تهديد الكفار بالهلاك نتيجة ظلمهم كما فعل بسلفهم
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ(11)فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ(12)لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ(13)قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(14)فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ(15)وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ(16)لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ(17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ(18)وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ(19)يُسَبّ ِحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ(20) }.
{وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً} أي وكثيراً أهلكنا من أهل القرى الذين كفروا بآيات الله وكذبوا رسله { وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ} أي وخلقنا أمة أخرى بعدهم {فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ} أي فلما رأوا عذابنا بحاسة البصر وتيقنوا نزوله إذا هم يهربون فارين منهزمين قال أبو حيان: لما أدركتهم مقدمة العذاب ركبوا دوابّهم يركضونها هاربين منهزمين {لا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ} أي تقول لهم الملائكة استهزاءً: لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إِلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور ولين العيش {وَمَسَاكِنِكُمْ} أي ارجعوا إِلى مساكنكم الطيبة {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} أي لعلكم تُسألون عما جرى عليكم، وهذا كله من باب الاستهزاء التوبيخ {قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي قالوا يا هلاكنا ودمارنا إِنا كنا ظالمين بالإِشراك وتكذيب الرسل، اعترفوا وندموا حين لا ينفعهم الندم {فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} أي فما زالت تلك الكلمات التي قالوها يكررونها ويردّدونها {حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ} أي حتى أهلكناهم بالعذاب وتركناهم مثل الحصيد موتى كالزرع المحصود بالمناجل {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لاعِبِينَ} أي لم نخلق ذلك عبثاً وباطلاً وإِنما خلقناهما دلالةً على قدرتنا ووحدانيتنا ليعتبر الناس ويستدلوا بالخلق على وجود الخالق المدّبر الحكيم {لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا} قال ابن عباس: هذا ردٌّ على من قال اتخذ الله ولداً والمعنى لو أردنا أن نتخذ ما يُتلهى به من زوجةٍ أو ولد {لاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا} أي لاتخذناه من عندنا من الحور العين أو الملائكة {إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ} أي لو أردنا فعل ذلك لاتخذنا من لدنا ولكنه منافٍ للحكمة فلم نفعله {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ} أي بل نرمي بالحق المبين على الباطل المتزعزع فيقمعه ويُبطله {فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ} أي هالك تالف {وَلَكُمْ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ} أي ولكم يا معشر الكفار العذاب والدمار من وصفكم الله تعالى بما لا يجوز من الزوجة والولد {وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي وله جلَّ وعلا جميع المخلوقات ملكاً وخلقاً وتصرفاً فكيف يجوز أن يشرك به ما هو عبدٌ ومخلوق له ؟ {وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ} أي والملائكة الذين عبدتموهم من دون الله لا يتكبرون عن عبادة مولاهم ولا يَعْيَون ولا يملُّون {يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ} أي هم في عبادة دائمة ينزّهون الله عما لا يليق به ويصلّون ويذكرون الله ليل نهارّ لا يضعفون ولا يسأمون.
توبيخ المشركين وذمهم وإثبات الوحدانية
{ أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ(21)لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(22)لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ(23)أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ(24) }.
{أَمْ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الأَرْضِ هُمْ يُنشِرُونَ} لما ذكر الدلائل على وحدانيته وأن من في السماوات والأرض ملكٌ له وأن الملائكة المقربين في طاعته وخدمته عاد إِلى ما كان عليه من توبيخ المشركين وذمهم وتسفيه أحلامهم، و{أَمْ} منقطعة بمعنى بل والهمزة فيها استفهام معناه التعجب والإِنكار والمعنى هل اتخذ هؤلاء المشركين آلهةً من الأرض قادرين على إِحياء الموتى ؟ كلا بل اتخذوا آلهةً جماداً لا تتصف بالقدرة على شيء فهي ليست بآلهة على الحقيقة لأن من صفة الإله القدرةُ على الإِحياء والإِماتة {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلا اللَّهُ لَفَسَدَتَا} هذا برهان على وحدانيته تعالى أي لو كان في الوجود آلهة غير الله لفسد نظام الكون كله لما يحدث بين الآلهة من الاختلاف والتنازع في الخلق والتدبير وقصد المغالبة، ألا ترى أنه لا يوجد ملِكان في مدينة واحدة، ولا رئيسان في دائرة واحدة ؟ {فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزّه الله الواحد الأحد خالق العرش العظيم عما يصفه به أهل الجهل من الشريك والزوجة والولد {لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ} أي لا يسأل تعالى عمّا يفعل لأنه مالك كل شيء والمالك يفعل في ملكه ما يشاء، ولأنه حكيم فأفعاله كلُّها جارية على الحكمة، وهم يُسألون عن أعمالهم لأنهم عبيد {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً} كرَّر هذا الإِنكار استعظاماً للشرك ومبالغة في التوبيخ أي هل اتخذوا آلهة من دون الله تصلح للعبادة والتعظيم ؟ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ } أي قل يا محمد لأولئك المشركين ائتوني بالحجة والبرهان على ما تقولون {هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِي وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي} أي هذا الكتاب الذي معي والكتب التي من قبلي كالتوراة والإِنجيل ليس فيها ما يقتضي الإِشراك بالله، ففي أي كتابٍ نزل هذا ؟ في القرآن أم في الكتب المنزّلة على سائر الأنبياء ؟! فما زعمتموه من وجود الآلهة لا تقوم عليه حجة لا من جهة العقل ولا النقل، بل كتب الله السابقة شاهدة بتنزيهه عن الشركاء والأنداد {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ} أي بل أكثر المشركين لا يعلمون التوحيد فهم معرضون عن النظر والتأمل في دلائل الإِيمان.
المنَــاسَــبَــة:
لما بيَّن تعالى أحوال المشركين وأقام الأدلة والبراهين على وحدانية الله وبطلان تعدد الآلهة، ذكر هنا أن دعوة الرسل جميعاً إِنما جاءت لبيان التوحيد ثم ذكر بقية الأدلة على قدرة الله ووحدانيته في هذا الكون العجيب.
سـبَبَ النّزول :
مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان وأبي جهل وهما يتحدثان، فلما رآه أبو جهل ضحك وقال لأبي سفيان : هذا نبيُّ بني عبد مناف !! فغضب أبو سفيان وقال : ما تنكر أن يكون لبني عبد منافٍ نبيٌّ ؟ فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إِلى أبي جهل وقال له : ما أراك منتهياً حتى يصيبك ما أصاب عمَّك الوليد بن المغيرة فنزلت {وإِذا رآك الذين كفروا إِنْ يتخذونك إِلا هُزُواً..} الآية.
الإنكار الشديد على من اتخذ آلهة مع الله
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا فَاعْبُدُونِ(25)وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ(26)لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ(27)يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ(28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ(29)}
{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ } أي وما بعثنا قبلك يا محمد رسولاً من الرسل { إِلا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا أَنَا} أي إِلا أوحينا إِليه أنه لا ربَّ ولا معبود بحق سوى الله {فَاعْبُدُونِ} أي فاعبدوني وحدي وخصوني بالعبادة ولا تشركون معي أحداً {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَانُ وَلَدًا} أي قال المشركون اتخذ الله من الملائكة ولداً قال المفسرون: هم حيٌّ من خزاعة قالوا: الملائكة بنات الله {سُبْحَانَهُ } أي تنزَّه الله وتقدَّس عما يقول الظالمون {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ} أي بل هم عبادٌ مبجَّلون اصطفاهم الله فهم مكرمون عنده في منازل عالية، ومقاماتٍ سامية وهم في غاية الطاعة والخضوع {لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} أي لا يقولون شيئاً حتى يقوله شأنهم شأن العبيد المؤدبين وهم بطاعته وأوامره يعلمون لا يخالفون ربهم في أمرٍ من الأوامر {يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي علمه تعالى محيط بهم لا يخفى عليه منهم خافية {وَلا يَشْفَعُونَ إِلا لِمَنْ ارْتَضَى} أي لا يشفعون يوم القيامة إِلا لمن رضي الله عنه وهم أهل الإِيمان كما قال ابن عباس: هم أهل شهادة لا إِله إِلا الله {وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ} أي وهم من خوف الله ورهبته خائفون حذرون لأنهم يعرفون عظمة الله قال الحسن: يرتعدون من خشية الله {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ} أي ومن يقل من الملائكة إني إلهٌ ومعبودٌ مع الله {فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} أي فعقوبته جهنم قال المفسرون: هذا على وجه التهديد وعلى سبيل الفرض والتقدير لأن هذا شرط والشرطُ لا يلزم وقوعه والملائكة معصومون {كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} أي مثل ذلك الجزاء الشديد نجزي من ظلم وتعدى حدود الله.
توبيخ آخر للمشركين على عدم تدبرهم ءايات الكون الدالة على وجود الإله الواحد
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ(30)وَجَعَلْنَ ا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ(31)وَجَعَلْنَ ا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ ءاياتِهَا مُعْرِضُونَ(32)وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ(33)}
{أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا} استفهام توبيخ لمن ادعى مع الله آلهة وردٌّ على عبدة الأوثان أي أولم يعلم هؤلاء الجاحدون أن السماوات الأرض كانتا شيئاً واحداً ملتصقتين ففصل الله بينهما ورفع السماء إِلى حيث هي وأقرَّ الأرض كما هي ؟ قال الحسن وقتادة : كانت السماوات والأرض ملتزقتين ففصل الله بينهما بالهواء وقال ابن عباس: كانت السماوات رتقاً لا تمطر، وكانت الأرض رتقاً لا تُنبت ففتق هذه بالمطر، وهذه بالنبات {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} أي جعلنا الماء أصل كل الأحياء وسبباً للحياة فلا يعيش بدونه إِنسان ولا حيوان ولا نبات {أَفَلا يُؤْمِنُونَ} أي أفلا يصدّقون بقدرة الله ؟ {وَجَعَلْنَا فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ } أي جعلنا في الأرض جبالاً ثوابت لئلا تتحرك وتضطرب فلا يستقر لهم عليها قرار {وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} أي وجعلنا في هذه الجبال مسالك وطرقاً واسعة كي يهتدوا إِلى مقاصدهم في الأسفار قال ابن كثير: جعل في الجبال ثُغراً يسلكون فيها طرقاً من قطر إِلى قطر، وإِقليم إِلى إِقليم، كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلاً بين هذه البلاد وهذه فيجعل الله فيها فجوةً ليسلك الناس فيها من ههنا إِلى ههنا {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا} أي جعلنا السماء كالسقف للأرض محفوظة من الوقوع والسقوط وقال ابن عباس: حفظت بالنجوم من الشياطين {وَهُمْ عَنْ ءاياتِهَا مُعْرِضُونَ} أي والكفار عن الآيات الدالة على وجود الصانع وقدرته من الشمس والقمر والنجوم وسائر الأدلة والعبر معرضون لا يتفكرون فيما أبدعته يد القدرة من الخلق العجيب والتنظيم الفريد الدال على الحكمة البالغة والقدرة الباهرة قال القرطبي: بيَّن تعالى أن المشركين غفلوا عن النظر في السماوات وآياتها، من ليلها ونهارها، وشمسها وقمرها، وأفلاكها ورياحها، وما فيها من القدرة الباهرة إِذ لو نظروا واعتبروا لعلموا أن لها صانعاً قادراً واحداً يستحيل أن يكون له شريك {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي وهو تعالى بقدرته نوَّع الحياة فجعل فيها ليلاً ونهاراً هذا في ظلامه وسكونه، وهذا بضيائه وأنسه، يطول هذا تارة ثم يقصر أُخرى وبالعكس، وخلق الشمس والقمر آيتين عظيمتين دالتين على وحدانيته {كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} أي كلٌّ من الشمس والقمر والنجوم والكواكب والليل والنهار يجرون ويسيرون بسرعة كالسابح في الماء.
لم يكتب الخلود لأحد من الخلائق وإتيان القيامة بغتة
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ(34)كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ(35)وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ(36)خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ ءاياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ(37)وَيَقُ ولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ(39)بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ(40)وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون(41)}.
{وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ} أي وما جعلنا لأحدٍ من البشر قبلك يا محمد البقاء الدائم والخلود في الدنيا { أَفَإِيْنْ مِتَّ فَهُمْ الْخَالِدُونَ} أي فهل إِذا متَّ يا محمد سيخلَّدون بعدك في هذه الحياة ؟ لا لن يكون لهم ذلك بل كلٌّ إِلى الفناء قال المفسرون: هذا ردٌّ لقول المشركين {شاعرٌ نتربص به ريب المنون} فأعلم تعالى بأن الأنبياء قبله ماتوا وتولى الله دينه بالنصر والحياطة، فهكذا نحفظ دينك وشرعك {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} أي كل مخلوقٍ إِلى الفناء ولا يدوم إِلا الحيُّ القيوم {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} أي ونختبركم بالمصائب والنِّعم لنرى الشاكر من الكافر، والصابر من القانط قال ابن عباس: نبتليكم بالشدة والرخاء، والصحة والسَّقم، والغنى والفقر، والحلال والحرام، والطاعة والمعصية، والهدى والضلال وقال ابن زيد: نختبركم بما تحبون لنرى كيف شكركم، وبما تكرهون لنرى كيف صبركم !! {وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} أي وإِلينا مرجعكم فنجازيكم بأعمالكم {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلا هُزُوًا} أي إِذا رآك كفار قريش كأبي جهل وأشياعه يسخرون منك ويقولون { أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ} استفهام فيه إِنكار وتعجيب أي هذا الذي يسب آلهتكم ويُسفّه أحلامكم ؟ {وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَانِ هُمْ كَافِرُونَ} أي وهم كافرون بالله ومع ذلك يستهزئون برسول الله قال القرطبي: كان المشركون يعيبون من جحد إِلهية أصنامهم وهم جاحدون لإِلهية الرحمن، وهذا غاية الجهل {خُلِقَ الإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ} أي رُكّب الإِنسان على العَجلة فخُلق عجولاً يستعجل كثيراً من الأشياء وإِن كانت مضرَّة قال ابن كثير: والحكمة في ذكر عجلة الإِنسان ههنا أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلى الله عليه وسلم وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلوا ذلك ولهذا قال {سَأُرِيكُمْ ءاياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ} أي سترون انتقامي واقتداري على من عصاني فلا تتعجلوا الأمر قبل أوانه {وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي ويقول المشركون على سبيل الاستهزاء والسخرية: متى هذا العذاب الذي يعدنا به محمد إِن كنتم يا معشر المؤمنين صادقين فيما أخبرتمونا به، قال تعالى {لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمْ النَّارَ وَلا عَنْ ظُهُورِهِمْ} أي لو عرف الكافرون فظاعة العذاب حين لا يستطيعون دفع العذاب عن وجوههم وظهورهم لأنه محيط بهم من جميع جهاتهم لما استعجلوا الوعيد قال أبو حيّان: وجواب {لَوْ} محذوف لأنه أبلغ في الوعيد وأهيب وقدَّره الزمخشري بقوله: لما كانوا بتلك الصفة من الكفر والاستهزاء والاستعجال ولكنَّ جهلهم هو الذي هوَّنه عندهم {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ} أي لا ناصر لهم من عذاب الله {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ} أي بل تأتيهم الساعة فجأة فتدهشهم وتحيرهم {فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلا هُمْ يُنظَرُونَ} أي فلا يقدرون على صرفها عنهم ولا يُمهلون ويُؤخرون لتوبةٍ واعتذار {وَلَقَدْ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ} تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن استهزاء المشركين أي والله لقد استهزئ برسلٍ أولي شأن خطير وذوي عدد كثير من قبلك يا محمد {فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون} أي فنزل وحلَّ بالساخرين من الرسل العذاب الذي كانوا يستهزئون به قال أبو حيان: سلاّه تعالى بأنَّ من تقدَّمه من الرسل وقع من أممهم الاستهزاء بهم، وأن ثمرة استهزائهم جَنَوْها هلاكاً وعقاباً في الدنيا والآخرة فكذلك حال هؤلاء المستهزئين.
حفظ الله للبشر وعدله في حسابهم
{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَانِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ(42)أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ(43)بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ(44)قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ(45)وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(46)وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ(47)}.
{قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَانِ} أي قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين من يحفظكم من بأس الرحمن في أوقاتكم؟ ومن يدفع عنكم عذابه وانتقامه إِن أراد إِنزاله بكم؟ وهو سؤال تقريع وتنبيه كيلا يغْترُّوا بما نالهم من نعم الله {بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ} أي بل هؤلاء الظالمون معرضون عن كلام الله ومواعظه لا يتفكرون ولا يعتبرون {أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} أي ألهم آلهة تمنعهم من العذاب غيرنا ؟ {لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنفُسِهِمْ} أي لا يقدرون على نصر أنفسهم، فكيف ينصرون عابديهم ؟{ وَلا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ} أي وليست هذه الآلهة تستطيع أن تجير نفسها من عذاب الله لأنها في غاية العجز والضعف قال ابن عباس: يُصحبون: يُجارون أي لا يُجيرهم منا أحد لأن المجير صاحب لجاره {بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلاءِ وَآبَاءهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمْ الْعُمُرُ} أي متعنا هؤلاء المشركين وآباءهم من قبلهم بما رزقناهم من حطام الدنيا حتى طالت أعمارهم في رخاء ونعمة وحسبوا أن ذلك يدوم فاغتروا بذلك {أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا} أي أفلا ينظرون فيعْتبرون بأننا نأتي أرضهم فننقصها من أطرافها بالفتح على النبي وتسليط المسلمين عليها ؟ {أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ} استفهام بمعنى التقريع والإِنكار أي أفهم الغالبون والحالة هذه أم المغلوبون؟ بل هم المغلوبون الأخسرون الأرذلون {قُلْ إِنَّمَا أُنذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ} أي قل لهم يا محمد إِنما أخوفكم وأحذركم بوحيٍ من الله لا من تلقاء نفسي، فأنا مبلّغٌ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال {وَلا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنذَرُونَ} أي ولكنكم أيها المشركون لشدة جهلكم وعنادكم كالصُمّ الذين لا يسمعون الكلام والإِنذار فلا يتعظون ولا ينزجرون {وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ} أي ولئن أصابهم شيء خفيف مما أُنذروا به من عذاب الله ولو كان يسيراً {لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} أي ليعترفنَّ بجريمتهم ويقولون: يا هلاكنا لقد كنا ظالمين لأنفسنا بتكذيبنا رسل الله {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} أي ونقيم الموازين العادلة التي توزن بها الأعمال في يوم القيامة {فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا} أي فلا يُنقص محسنٌ من إِحسانه، ولا يُزاد مسيٌ على إِساءته {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا} أي وإِن كان العمل الذي عملته زِنَةُ حبةٍ من خردل جئنا بها وأحضرناها قال أبو السعود: أي وإِن كان في غاية القلة والحقارة، فإِن حبة الخردل مثلٌ في الصغر {وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ} أي كفى بربك أن يكون محصياً لأعمال العباد مجازياً عليها قال الخازن: والغرضُ منه التحذير فإِن المحاسب إِذا كان في العلم بحيث لا يمكن أن يشتبه عليه شيء، وفي القدرة بحيث لا يعجز عن شيء فحقيق بالعاقل أن يكون على أشدّ الخوف منه.
إتيان موسى وهارون التوراة وتنزيل القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ(48)الَّذِي نَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ(49)وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ(50)}.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ} أي ولقد أعطينا موسى وهارون التوراة الفارقة بين الحق والباطل والهدى والضلال نوراً وضياءً وتذكيراً للمؤمنين المتقين {الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ} أي هم الذين يخافون الله ولم يروه لأنهم عرفوا بالنظر والاستدلال أن لهم رباً عظيماً قادراً يجازي على الأعمال فهم يخشونه وإِن لم يروه {وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ} أي وهم من أهوال القيامة وشدائدها خائفون وجلون {وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ} أي وهذا القرآن العظيم كتاب عظيم الشأن فيه ذكرٌ لمَنْ تذكّر، وعظة لمن اتعظ، كثير الخير، أنزلناه عليكم بلغتكم {أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ} أي أفأنتم يا معشر العرب منكرون له وهو في غاية الجلاء والظهور ؟ قال الكرخي: الاستفهام للتوبيخ والخطابُ لأهل مكة فإِنهم من أهل اللسان يدركون مزايا الكلام ولطائفه، ويفهمون من بلاغة القرآن ما لا يدركه غيرهم مع أن فيه شرفهم وصيتَهم فلو أنكره غيرهم لكان لهم مناصبته وعداؤه.
-
رد: تفسير القران الكريم
إنكار إبراهيم عبادة الأصنام ودعوته إلى التوحيد
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ(51)إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ(52)قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ(53) قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(54)قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ(55)قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ(56)وَتَاللّ َهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ(57)فَجَعَلَهُ مْ جُذَاذًا إِلا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ(58)}.
المنَــاسَـبَــة:
لمّا ذكر تعالى الدلائل على التوحيد والنبوة والمعاد أتبع ذلك بذكر قصص الأنبياء، وما نال كثيراً منهم من الابتلاء تسليةً للرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم ليتأسّى بهم في الصبر واحتمال الأذى في سبيل الله تعالى، وتوطين النفس على مجابهة المشركين أعداء الله.
{وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} أي والله لقد أعطينا إِبراهيم هُداه وصلاحه إِلى وجوه الخير في الدين والدنيا {مِنْ قَبْلُ} أي من صغره حيث وفقناه للنظر والاستدلال إِلى وحدانية ذي الجلال {وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ} أي عالمين أنه أهلٌ لما آتيناه من الفضل والنبوة {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ} هذا بيانٌ للرشد الذي أُوتيه إِبراهيم من صغره أي حين قال لأبيه آزر وقومه المشركين ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها ؟ وفي قوله { مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ} تحقيرٌ لها وتصغيرٌ لشأنها وتجاهل بها مع علمه بتعظيمهم لها {قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءنَا لَهَا عَابِدِينَ} أي نعبدها تقليداً لأسلافنا قال ابن كثير: لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال { قَالَ لَقَدْ كُنتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي لقد كنتم وأسلافكم الذين عبدوا هذه الأصنام في خطأٍ بيّن بعبادتكم إِياها إِذ هي جمادات لا تنفع ولا تضر ولا تسمع {قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاعِبِينَ} أي هل أنت جادُّ فيما تقول أم لاعب ؟ وهل قولك حقٌّ أم مزاح ؟ استعظموا إِنكاره عليهم، واستعبدوا أن يكون ما هم عليه ضلالاً، وجوَّزوا أن ما قاله على سبيل المزاح لا الجد فأضرب عن قولهم وأخبر أنه جادٌّ فيما قال غير لاعب {قَالَ بَل رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} أي ربكم الجدير بالعبادة هو ربَّ السماوات والأرض الذي خلقهنَّ وأبدعهنَّ لا هذه الأصنام المزعومة {وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} أي وأنا شاهد للهِ بالوحدانية بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة كالشاهد الذي تقطع به الدَّعاوى {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ} أي وأقسمُ بالله لأمكرنَّ بآلهتكم وأحتالنَّ في وصول الضر إِليها بعد ذهابكم عنها إِلى عيدكم قال المفسرون: كان لهم عيد يخرجون إِليه في كل سنة ويجتمعون فيه فقال آزر لإِبراهيم: لو خرجت معنا إِلى عيدنا أعجبك ديننا!! فخرج معهم إِبراهيم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إِلى الأرض وقال إِني سقيم أشتكي رجلي فتركوه ومضوا ثم نادى في آخرهم {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} فسمعها رجلٌ فحفظها {فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا} أي كسَّر الأصنام حتى جعلها فتاتاً وحُطاماً {إِلا كَبِيرًا لَهُمْ} أي إِلا الصنم الكبير فإِنه لم يكسره قال مجاهد: ترك الصنم الأكبر وعلَّق الفأس الذي كسر به الأصنام في عنقه ليحتجَّ به عليهم {لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ} أي لعلَّهم يرجعون إِلى الصنم فيسألونه عمن كسَّر الأصنام فيتبين لهم عجزه وتقوم الحجة عليهم.
نقاش إبراهيم مع قومه حول تكسير الأصنام
{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ(59)قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ(60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ(61)قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ(62)قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ(63)فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ(64)ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ(65)}.
{قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنْ الظَّالِمِينَ} في الكلام محذوفٌ تقديره: فلما رجعوا من عيدهم ونظروا إِلى آلهتهم ورأوا ما فُعل بها قالوا على جهة البحث والإِنكار والتشنيع والتوبيخ: إِنَّ من حطَّم هذه الآلهة لشديد الظلم عظيم الجرم لجراءته على الآلهة المستحقة للتعظيم والتوقير {قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ} أي قال من سمع إِبراهيم يقول {وَتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} سمعنا فتى يذكرهم بالذم ويسبُّهم ويعيبهم يسمى إِبراهيم فلعله هو الذي حطَّم الآلهة ! {قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ} أي قال نمرود وأشراف قومه أحضروا إِبراهيم بمرأى من الناس حتى يروه، والغرضُ أن تكون محاكمته على رؤوس الأشهاد بحضرة الناس كلهم ليكون عقابه عبرة لمن يعتبر {لعلهم يشهدون} أي لعلهم يحضرون عقابه ويرون ما يصنع به {قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ} أي هل أنتَ الذي حطَّمت هذه الآلهة يا إِبراهيم ؟ {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} أي قال إِبراهيم بل حطَّمها الصنم الكبير لأنه غضب أن تعبدوا معه هذه الصغار فكسرها، والغرض تبكيتُهم وإِقامة الحجة عليهم ولذا قال {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنطِقُونَ} أي اسألوا هذه الأصنام من كسرها ؟ إِن كانوا يقدرون على النطق قال القرطبي: والكلام خرج مخرج التعريض وذلك أنهم كانوا يعبدونهم ويتخذونهم آلهة من دون الله كما قال إِبراهيم لأبيه {لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئاً} فقال إِبراهيم {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } ليقولوا إِنهم لا ينطقون ولا ينفعون ولا يضرون فيقول لهم فلم تعبدونهم ؟ فتقوم عليهم الحجة منهم كما يجوز فرض الباطل مع الخصم حتى يرجع إِلى الحق من نفسه فإِنه أقرب في الحجة وأقطع للشبهة {فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ} أي رجعوا إِلى عقولهم وتفكروا بقلوبهم {فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمْ الظَّالِمُونَ} أي الظالمون في عبادة ما لا ينطق {ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ} أي انقلبوا من الإِذعان إِلى المكابرة والطغيان {لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلاءِ يَنطِقُونَ} أي قالوا في لجاجهم وعنادهم: لقد علمتَ يا إِبراهيم أن هذه الأصنام لا تتكلم ولا تجيب فكيف تأمرنا بسؤالها ؟ وهذا إِقرار منهم بعجز الآلهة، وحينئذٍ توجهت لإِبراهيم الحجة عليهم فأخذ يوبخهم ويعنّفهم.
نجاة سيدناإبراهيم عليه السلام من النار
{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ(66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(67) قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ(68)قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ(69)وَأَرَادُ وا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ(70)}.
{قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلا يَضُرُّكُمْ} أي أتعبدون جمادات لا تضر ولا تنفع ؟ {أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي قبحاً لكم ونتناً لكم وللأصنام التي عبدتموها من دون الله {أَفَلا تَعْقِلُونَ} أي أفلا تعقلون قبح صنيعكم ؟ {قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانصُرُوا آلِهَتَكُمْ} لمّا لزمتهم الحجة وعجزوا عن الجواب عدلوا إِلى البطش والتنكيل فقالوا: احرقوا إِبراهيم بالنار انتقاماً لآلهتكم ونصرةً لها {إِنْ كُنتُمْ فَاعِلِينَ} أي إِن كنتم ناصريها حقاً {قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ} أي ذات بردٍ وسلامة وجاءت العبارةُ هكذا للمبالغة قال المفسرون: لما أرادوا إِحراق إِبراهيم جمعوا له حطباً مدة شهر حتى كانت المرأة تمرض فتنذر إِن عوفيت أن تحمل حطباً لحرق إِبراهيم، ثم جعلوه في حفرة من الأرض وأضرموها ناراً فكان لها لهب عظيم حتى إِن الطائر ليمرُّ من فوقها فيحترق من شدة وهجها وحرها، ثم أوثقوا إِبراهيم وجعلوه في منجنيق ورموه في النار، فجاء إِليه جبريل فقال: ألك حاجة؟ قال أمّا إِليك فلا، فقال جبريل: فاسأل ربك، فقال: "حسبي من سؤالي علمه بحالي" فقال الله: يا نار كوني برداً وسلاماً على إِبراهيم، ولم تحرق النار منه سوى وثاقه وقال ابن عباس: لو لم يقل الله {وَسَلامًا} لآذى إِبراهيم بردها {وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا} أي أرادوا تحريقه بالنار {فَجَعَلْنَاهُمْ الأَخْسَرِينَ} أي أخسر الناس وأخسر من كل خاسر حيث كادوا لنبيّ اللهِ فردَّ الله كيدهم في نحورهم.
تنجية إبراهيم ولوط إلى الأرض المقدسة - الشام -
{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ(71)وَوَهَب ْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ(72)وَجَعَلْنَا هُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ(73) }.
{وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ} أي ونجينا إِبراهيم مع ابن أخيه لوط حيث هاجرا من العراق إِلى الشام التي بارك الله فيها بالخِصب وكثرة الأنبياء ووفرة الأنهار والأشجار قال ابن الجوزي: وبركتُها أن الله عزَّ وجل بعث أكثر الأنبياء منها وأكثر فيها الخِصب والأنهار {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} أي أعطينا إِبراهيم -بعدما سأل ربه الولد- إسحاق وأعطيناه كذلك يعقوب نافلةً أي زيادة وفضلاً من غير سؤال قال المفسرون: سأل إِبراهيم ربه ولداً فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة وزيادة على ما سأل لأنَّ ولد الولد كالولد {وَكُلا جَعَلْنَا صَالِحِينَ} أي وكلاً من إِبراهيم وإِسحاق ويعقوب جعلناه من أهل الخير والصلاح {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} أي جعلناهم قدوةً ورؤساء لغيرهم يرشدون الناس إِلى الدين بأمر الله {وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ} أي أوحينا إِليهم أن يفعلوا الخيرات ليجمعوا بين العلم والعمل {وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ} أي وأمرناهم بطريق الوحي بإِقامة الصلاة وإِيتاء الزكاة، وإِنما خصهما بالذكر لأن الصلاة أفضلُ العبادات البدنية، والزكاة أفضلُ العبادات المالية {وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ} أي موحدين مخلصين في العبادة.
قصة لوط عليه السلام وإعطاؤه النبوة
{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ(74)وَأَدْخَلْن َاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ(75)}.
{وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا} أي وأعطينا لوطاً النبوة والعلم والفهم السديد قال ابن كثير: كان لوط قد آمن بإِبراهيم عليه السلام واتَّبعه وهاجر معه كما قال تعالى {فآمن له لوطٌ وقال إِني مهاجرٌ إِلى ربي} فآتاه الله حُكماً وعلماً وأوحى إِليه وجعله نبياً وبعثه إِلى "سدوم" فكذبوه فأهلكهم الله ودمَّر عليهم كما قصّ خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز {وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ} أي خلَّصناه من أهل قرية سدوم الذين كانوا يعملون الأعمال الخبيثة كاللواط وقطع السبيل وغير ذلك {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ} أي كانوا أشراراً خارجين عن طاعة الله {وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي أدخلناه في أهل رحمتنا لأنه من عبادنا الصالحين.
قصة نوح عليه السلام
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(76)وَنَصَرْنَا هُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ(77)}.
{وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} أي واذكر قصة نوح حين دعا على قومه من قبل هؤلاء الأنبياء المذكورين، دعا عليهم بالهلاك حين كذبوه بقوله {ربّ لا تذَرْ على الأرض من الكافرين ديَّاراً} {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أي استجبنا دعاءه فأنقذناه ومن معه من المؤمنين - ركاب السفينة - من الطوفان والغرق الذي كان كرباً وغماً شديداً يكاد يأخذ بالأنفاس {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} أي منعناه من شر قومه المكذبين فنجيناه وأهلكناهم {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} أي كانوا منهمكين في الشرّ فأغرقناهم جميعاً ولم نُبْق منهم أحداً.
قصة داود وسليمان عليهما السلام
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ(78)فَفَهَّمْنَ اهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ(79)وَعَلَّمْنَ اهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ(80)وَلِسُلَيْم َانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ(81)وَمِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ(82)}.
{وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} أي واذكر قصة داود وسليمان حين يحكمان في شأن الزرع {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} أي وقت رعت فيه غنم القوم ليلاً فأفسدته {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} أي كنا مطَّلعين على حكم كلٍ منهما عالمين به {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} أي علمنا وألهمنا سليمان الحكم في القضية {وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} أي وكلاً من داود وسليمان أعطيناه الحكمة والعلم الواسع مع النبوة قال المفسرون: تخاصم إِلى داود رجلان دخلت غنم أحدهما على زرع الآخر بالليل فأفسدته فلم تُبق منه شيئاً، فقضى بأن يأخذ صاحب الزرع الغنم، فخرج الرجلان على سليمان وهو بالباب فأخبراه بما حكم به أبوه فدخل عليه فقال: يا نبيَّ الله لو حكمتَ بغير هذا كان أرفق للجميع ؟ قال: وما هو ؟ قال: يأخذ صاحب الغنم الأرض فيصلحها ويبذرها حتى تعود زرعها كما كان، ويأخذ صاحب الزرع الغنم وينتفع بألبانها وصوفها ونسلها، فإِذا خرج الزرع رُدَّت الغنم إِلى صاحبها والأرض إِلى ربها فقال له داود: وُفّقت يا بُنيَّ وقضى بينهما بذلك فذلك قوله تعالى {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} {وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ} أي جعلنا الجبال والطير تسبّح مع داود إِذا سبّح قال ابن كثير: وذلك لطيب صوته بتلاوة الزبور فكان إِذا ترنّم بها تقف الطير في الهواء فتجاوبه وتردُّ عليه الجبال تأويباً وإِنما قدَّم ذكر الجبال على الطير لأن تسخيرها وتسبيحها أعجب وأغرب وأدخل في الإِعجاز لأنها جماد {وَكُنَّا فَاعِلِينَ} أي وكنا قادرين على فعل ذلك {وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ} أي علمنا داود صنع الدروع بإلانة الحديد له قال قتادة: أول من صنع الدروع داود وكانت صفائح فهو أول من سردها وحلَّقها {لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ} أي لتقيكم في القتال شرَّ الأعداء {فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ} استفهامٌ يراد به الأمر أي اشكروا الله على ما أنعم به عليكم، ولما ذكر تعالى ما خصَّ به نبيه داود عليه السلام ذكر ما خصَّ به ابنه سليمان فقال {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً} أي وسخرنا لسليمان الريح عاصفةً أي شديدة الهبوب {تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا} أي تسير بمشيئته وإِرادته إِلى أرض الشام المباركة بكثرة الأشجار والأنهار والثمار، وكانت مسكنه ومقر ملكه {وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ} أي وكنا عالمين بجميع الأمور فما أعطيناه تلك المكانة إِلا لما نعلمه من الحكمة {وَمِنْ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ} أي وسخرنا لسليمان بعض الشياطين يغوصون في الماء ويدخلون أعماق البحار ليستخرجوا له الجواهر واللآلئ {وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ} أي ويعملون أعمالاً أخرى سوى الغوص كبناء المدن والقصور الشاهقة والأمور التي يعجز عنها البشر {وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ} أي نحفظهم عن الزيغ عن أمره أو الخروج عن طاعته.
قصة أيوب عليه السلام
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ(83)فَاسْتَج َبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ(84) }.
المنَــاسـَبـَـة:
لما ذكر تعالى جملةً من الأنبياء "إبراهيم، نوح، لوط، داود، سليمان" وما نال كثيراً منهم من الابتلاء، ذكر هنا قصة أيوب وابتلاء الله له بأنواع المحن ثم أعقبها بذكر محنة يونس وزكريا وعيسى وكلُّ ذلك بقصد التسلية للرسول صلى الله عليه وسلم ليتأسى بهم.
سَبَبُ النزّول:
عن ابن عباس قال: لما نزل قوله تعالى {إِنكم وما تعبدون من دون الله حصبُ جهنم} شقَّ ذلك على كفار قريش وقالوا: شتم آلهتنا وأتوا ابن الزَّبعري وأخبروه فقال: لو حضرتُه لرردتُ عليه قالوا: وما كنت تقول له ؟ قال أقول له: هذا المسيح تعبده النصارى، وهذا عزيز تعبده اليهود، أفهما من حصب جهنم ؟ فعجبت قريش من مقالته ورأوا أنَّ محمداً قد خصم فأنزل الله {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ}.
{وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ} أي واذكر قصة نبيّ الله أيوب حين دعا ربَّه بتضرع وخشوع {أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ} أي نالني البلاء والكرب والشدة قال المفسرون: كان أيوب نبياً من الروم، وكان له أولاد ومال كثير، فأذهب الله ماله فصبر، ثم أهلك الأولاد فصبر، ثم سلَّط البلاء والمرض على جسمه فصبر فمر عليه ملأ من قومه فقالوا: ما أصابه هذا إِلا بذنب عظيم فعند ذلك تضرَّع إِلى الله فكشف عنه ضره {وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} أي أكثرهم رحمة فارحمني، ولم يصرّح بالدعاء ولكنه وصف نفسه بالعجز والضعف، ووصف ربه بغاية الرحمة ليرحمه، فكان فيه من حسن التلطف ما ليس في التصريح بالطلب {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي أجبنا دعاءه وتضرعه { فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ} أي أزلنا ما أصابه من ضر وبلاء {وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} قال ابن مسعود: مات أولاده وهم سبعة من الذكور وسبعة من الإِناث فلما عوفي أُحيوا له وولدت له امرأته سبعة بنين وسبع بنات. والمعنى أعطيناه أهله في الدنيا ورزقناه من زوجته مثل ما كان له من الأولاد والأتباع {رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا} أي من أجل رحمتنا إِيّاه {وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ} أي وتذكرة لغيره من العابدين ليصبروا كما صبر قال القرطبي: أي وتذكيراً للعُبَّاد لأنهم إِذا ذكروا بلاء أيوب ومحنته وصبره وطّنوا أنفسهم على الصبر على شدائد الدنيا مثل ما فعل أيوب وهو أفضل أهل زمانه، يُروى أنَّ أيوب مكث في البلاء ثمان عشرة سنة فقالت له امرأته يوماً: لو دعوتَ الله عز وجل فقال لها: كم لبثنا في الرخاء ؟ فقالت: ثمانين سنة فقال: إِني أستحيي من الله أن أدعوه وما مكثت في بلائي المدة التي مكثتها في رخائي.
قصة إسماعيل وإدريس وذي الكفل عليهم السلام:
{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ(85)وَأَدْخَ لْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ(86)}.
{وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ} واذكر لقومك قصة إِسماعيل بن إِبراهيم وإِدريس بن شيث وذا الكفل {كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} أي كل هؤلاء الأنبياء من أهل الإِحسان والصبر، جاهدوا في الله وصبروا على ما نالهم من الأذى {وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا} أي أدخلناهم بصبرهم وصلاحهم الجنة دار الرحمة والنعيم { إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ} أي لأنهم من أهل الفضل والصلاح.
قصة يونس عليه السلام وابتلاع الحوت له
{وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ(87)فَاسْتَج َبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ(88) }
{وَذَا النُّونِ} أي واذكر لقومك قصة يونس الذي ابتلعه الحوت، والنونُ هو الحوتُ نُسب إِليه لأنه التقمه {إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا} أي حين خرج من بلده مغاضباً لقومه إِذ كان يدعوهم إِلى الإِيمان فيكفرون حتى أصابه ضجر منهم فخرج عنهم ولذلك قال الله تعالى {ولا تكن كصاحب الحوت} ولا يصح قول من قال: مغضباً لربه قال أبو حيان: وقولُ من قال مغاضباً لربه يجب طرحه إِذ لا يناسب منصب النبوة وقال الرازي: لا يجوز صرف المغاضبة إِلى الله تعالى لأن ذلك صفة من يجهل كون الله مالكاً للأمر والنهي، والجاهلُ بالله لا يكون مؤمناً فضلاً عن أن يكون نبياً، ومغاضبتُه لقومه كانت غضباً لله، وأنفةً لدينه، وبغضاً للكفر وأهله {فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ} أي ظنَّ يونس أنْ لن نضيّق عليه بالعقوبة كقوله {ومن قُدر عليه رزقُه} أي ضُيّق عليه فيه فهو من القدر لا من القُدرة قال الإِمام الفخر الرازي: من ظنَّ عجز الله فهو كافر، ولا خلاف أنه لا يجوز نسبة ذلك إِلى آحاد المؤمنين فكيف إِلى الأنبياء عليهم السلام ! روي أنه دخل ابن عباس على معاوية فقال له معاوية: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقتُ فيها فلم أجدْ لي خلاصاً إِلا بك، فقال: وما هي ؟ قال: يظنُّ نبيُّ الله يونس أن لن يقدر الله عليه ؟ فقال ابن عباس: هذا من القدْر لا من القُدرة {فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ} أي نادى ربه في ظلمة الليل وهو في بطن الحوت قال ابن عباس: جمعت الظلمات لأنها ظلمة الليل، وظلمةُ البحر، وظلمةُ بطن الحوت {أَنْ لا إِلَهَ إِلا أَنْتَ} أي نادى بأن لا إِله إِلا أنت يا رب {سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} أي تنزَّهت يا ربّ عن النقص والظلم، وقد كنتُ من الظالمين لنفسي وأنا الآن من التائبين النادمين فاكشفْ عني المحنة وفي الحديث (ما من مكروبٍ يدعو بهذا الدعاء إِلا استجيب له) {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ } أي استجبنا لتضرعه واستغاثته ونجيناه من الضيق والكرب الذي ناله حين التقمه الحوت {وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ} أي كما نجينا يونس من تلك المحنة ننجي المؤمنين من الشدائد والأهوال إِذا استغاثوا بنا.
قصة زكريا ويحيى عليهما السلام مع قصة مريم
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ(89)فَاسْتَج َبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ(90) وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ(91)}.
{وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} أي واذكر يا محمد خبر رسولنا زكريا حين دعا ربه دعاء مخلص منيب قائلاً: ربّ لا تتركني وحيداً بلا ولد ولا وارث قال ابن عباس: كان من سنُّه مائة وسنُّ زوجته تسعاً وتسعين {وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ} أي وأنت يا رب خير من يبقى بعد كل من يموت قال الألوسي: وفيه مدحٌ له تعالى بالبقاء، وإشارة إلى فناء من سواه من الأحياء، واستمطارٌ لسحائب لطفه عز وجل {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} أي أجبنا دعاءه {وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى} أي رزقناه ولداً اسمه يحيى على شيخوخته {وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ} أي جعلناها ولوداً بعد أن كانت عاقراً وقال ابن عباس: كانت سيئة الخُلُق طويلة اللسان فأصلحها الله تعالى فجعلها حسنة الخُلُق {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} أي إِنما استجبنا دعاء من ذُكر من الأنبياء لأنهم كانوا صالحين يجدّون في طاعة الله ويتسابقون في فعل الطاعات وعمل الصالحات {وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا} أي طمعاً ورجاءً في رحمتنا وخوفاً وفزعاً من عذابنا {وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} أي كانوا متذللين خاضعين لله يخافونه في السر والعلن {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي واذكر مريم البتول التي أعفت نفسها عن الفاحشة وعن الحلال والحرام كقوله {وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُنْ بَغِيًّا} قال ابن كثير: ذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى لأن تلك مربوطة بهذه فإِنها إِيجاد ولدٍ من شيخ كبير قد طعن في السن وامرأة عجوز لم تكن تلد في حال شبابها، وهذه أعجب فإِنها إِيجاد ولدٍ من أنثى بلا ذكر ولذلك ذكر قصة مريم بعدها {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} أي أمرنا جبريل فنفخ في فتحة درعها - قميصها - فدخلت النفخة إِلى جوفها فحملت بعيسى، وأضاف الروح إِليه تعالى على جهة التشريف {وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ} أي وجعلنا مريم مع ولدها عيسى علامةً وأعجوبة للخلق تدل على قدرتنا الباهرة ليعتبر بها الناس.
وحدة الرسالات السماوية
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ(92)وَتَقَطَّ عُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ(93)فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ(94)وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ(95)حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ(96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ(97) }.
{إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي دينكم وملتكم التي يجب أن تكونوا عليها أيها الناس ملةٌ واحدة غير مختلفة وهي ملة الإِسلام، والأنبياء كلهم جاؤوا برسالة التوحيد قال ابن عباس: معناه دينكم دينٌ واحد {وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} أي وأنا إِلهكم لا ربَّ سواي فأفردوني بالعبادة {وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ} أي اختلفوا في الدين وأصبحوا فيه شيعاً وأحزاباً فمن موحّد، ومن يهودي، ونصراني ومجوسّي {كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ} أي رجوعهم إِلينا وحسابهم علينا قال الرازي: معنى الآية جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قِطعاً كما تتوزع الجماعة الشيء ويقتسمونه تمثيلاً لاختلافهم في الدين وصيرورتهم فرقاً وأحزاباً شتى {فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي من يعمل شيئاً من الطاعات وأعمال البرّ والخير بشرط الإِيمان {فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ} أي لا بُطلان لثواب عمله ولا يضيع شيء من جزائه {وَإِنّا لَهُ كَاتِبُونَ} أي نكتب عمله في صحيفته والمراد أمر الملائكة بكتابة أعمال الخلق {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} قال ابن عباس: أي ممتنعٌ على أهل قرية أهلكناهم أن يرجعوا بعد الهلاك إِلى الدنيا مرة ثانية وفي رواية عنه {أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} أي لا يتوبون قال ابن كثير: والأول أظهر وقال أبو حيّان: المعنى وممتنع على أهل قرية قدرنا إِهلاكهم لكفرهم رجوعهم في الدنيا إِلى الإِيمان إِلى أن تقوم الساعة فحينئذٍ يرجعون {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ} أي حتى إِذا فتح سدُّ يأجوج ومأجوج {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ} أي وهم لكثرتهم من كل مرتفع من الأرض ومن كل أكمة وناحية يسرعون النزول والمرادُ أن يأجوج ومأجوج لكثرتهم يخرجون من كل طريق للفساد في الأرض {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ} أي اقترب وقت القيامة قال المفسرون: جعل الله خروج يأجوج ومأجوج علماً على قرب الساعة. قال ابن مسعود: الساعة من الناس بعد يأجوج ومأجوج كالحامل المتمّم لا يدري أهلُها متى تفْجؤهم بولدها ليلاً أو نهاراً {فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا} الضمير للقصة والشأن أي فإِذا شأن الكافرين أنَّ أبصارهم شاخصة من هول ذلك اليوم لا تكاد تطرف من الحيرة وشدة الفزع { يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا} أي ويقولون يا ويلنا أي يا حسرتنا وهلاكنا قد كنا في الدنيا في غفلةٍ تامة عن هذا المصير المشؤوم واليوم الرهيب {بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ} أضربوا عن القول السابق وأخبروا بالحقيقة المؤلمة والمعنى لم نكن في غفلةٍ حيث ذكَّرتنا الرسلُ ونبَّهتنا الآيات بل كنا ظالمين لأنفسنا بالتكذيب وعدم الإِيمان.
مصير الكافرين والمؤمنين في الآخرة وطيّ السماء
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ(98)لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ(99)لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ(100)إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ(101)لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ(102) لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ(103)يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ(104)وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ(105)إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ(106)}.
{إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي إِنكم أيها المشركون وما تعبدونه من الأوثان والأصنام{حَصَبُ جَهَنَّمَ} أي حطب جهنم ووقودها قال أبو حيان: الحَصب ما يحصب به أي يُرمى به في نار جهنم، وقبل أن يُرمى به لا يُطلق عليه حصبٌ إِلا مجازاً {أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} أي أنتم داخلوها مع الأصنام، وإِنما جمع الله الكفار مع معبوداتهم في النار لزيادة غمّهم وحسرتهم برؤيتهم الآلهة التي عبدوها معهم في عذاب الجحيم {لَوْ كَانَ هَؤُلاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا} أي لو كانت هذه الأصنام التي عبدتموها آلهةً ما دخلوا جهنم {وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ} أي العابدون والمعبدون كلهم في جهنم مخلَّدون {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ} أي لهؤلاء الكفرة في النار زفير وهو صوت النَّفس الذي يخرج من قلب المغموم وهو يشبه أنين المحزون والمكلوم {وَهُمْ فِيهَا لا يَسْمَعُونَ} أي لا يسمعون في جهنم شيئاً لأنهم يُحشرون صُماً كما قال تعالى {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عُمياً وبُكماً وصُماً} قال القرطبي: وسماعُ الأشياء فيها روح وأُنس، فمنع الله الكفار ذلك في النار وقال ابن مسعود: إِذا بقي من يُخلَّد في نار جهنم جعلوا في توابيت من نار، فيها مسامير من نار فلا يسمعون شيئاً، ولا يرى أحد منهم أنه يُعذَّب في النار غيره ثم تلا الآية {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى} أي سبقت لهم السعادة {أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} أي هم عن النار مبعدون لا يصلون حرَّها ولا يذوقون عذابها قال ابن عباس: أولئك أولياء الله يمرون على الصراط مرّاً أسرع من البرق ويبقى الكفار فيها جثياً {لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا} أي لا يسمعون حسَّ النار ولا حركة لهبها وصوتها {وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ} أي وهم في الجنة دائمون، لهم فيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين {لا يَحْزُنُهُمْ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} أي لا تصيبهم أهوال يوم القيامة والبعث لأنهم في مأمنٍ منها {وَتَتَلَقَّاهُمْ الْمَلائِكَةُ} أي تستقبلهم الملائكة على أبواب الجنة يهنئونهم قائلين {هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ} أي هذا يوم الكرامة والنعيم الذي وعدكم الله به فأبشروا بالهناء والسرور {يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ} أي اذكر يوم نطوي السماء طياً مثل طيّ الصحيفة على ما كتب فيها قال ابن عباس: كطيّ الصحيفة على ما فيها، فاللام بمعنى " على" { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ} أي نحشرهم حفاةً عُراة غُرْلاً على الصورة التي بدأنا خلقهم فيها وفي الحديث (إِنكم محشورون إِلى الله حفاةً عُراةً غُرلاً ألاَ وإِنَّ أول الخلائق يُكسى يوم القيامة إِبراهيم عليه السلام .. ) الحديث {وَعْدًا عَلَيْنَا} أي وعداً مؤكداً لا يُخلف ولا يبدّل لازم علينا إِنجازه والوفاء به {إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ} أي قادرين على ما نشاء، وهو تأكيد لوقوع البعث {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ} أي سجلنا وسطرنا في الزبور المنزل على داود {مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ} أي من بعد ما سطرنا على اللوح المحفوظ أزلاً {أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِي الصَّالِحُونَ} أي أن الجنة يرثها المؤمنون الصالحون قال ابن كثير: أخبر سبحانه في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ويُدخلهم الجنة وهم الصالحون وقال القرطبي: أحسن ما قيل فيها أن يراد بها أرض الجنة لأن الأرض في الدنيا قد ورثها الصالحون وغيرهم وهو قول ابن عباس ومجاهد ويدل عليه قوله تعالى {وقالوا الحمد لله الذي صدقنا وعْده وأورثنا الأرض} وأكثر المفسرين على أن المراد بالعباد الصالحين أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وقال مجاهد: الزبور: الكتب المنزلة، والذكرُ أمُّ الكتاب عند الله {إِنَّ فِي هَذَا لَبَلاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ} أي إِنَّ في هذا المذكور في هذه السورة من الأخبار والوعد والوعيد والمواعظ البالغة لكفايةً لقوم خاضعين متذللين لله جل وعلا، المؤثرين لطاعة الله على طاعة الشيطان.
محمد صلى الله عليه وسلم الرحمة المهداة
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ(107)قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108)فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ(109)إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ(110)وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ(111)قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ(112)}.
{وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} أي وما أرسلناك يا محمد إِلا رحمة للخلق أجمعين وفي الحديث (إِنما أنا رحمةٌ مهداة) فمن قَبِلَ هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إِنما أوحى إِليَّ ربي أنَّ إِلهكم المستحق للعبادة إِله واحد أحد فرد صمد {فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} استفهام ومعناه الأمر أي فأسلموا له وانقادوا لحكمه وأمره {فَإِنْ تَوَلَّوْا} أي فإِن أعرضوا عن الإِسلام {فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ} أي فقل لهم أعلمتكم بالحق على استواءٍ في الإِعلام لم أخصَّ أحداً دون أحد {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ} أي وما أدري متى يكون ذلك العذاب ؟ ولا متى يكون أجل الساعة ؟ فهو واقع لا محالة ولكنْ لا علم لي بقربه ولا ببعده {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ} أي اللهُ هو العالم الذي لا يخفى عليه شيء، يعلم الظواهر والضمائر، ويعلم السرَّ وأخفى، وسيجازي كلاً بعمله {وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ} أي وما أدري لعل هذا الإِمهال وتأخير عقوبتكم امتحانٌ لكم لنرى كيف صنيعكم {وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ} أي ولعلَّ هذا التأخير لتستمعوا إِلى زمنٍ معين ثم يأتيكم عذاب الله الأليم {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أي احكم بيني وبين هؤلاء المكذبين وافصل بيننا بالحق {وَرَبُّنَا الرَّحْمَانُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} أي أستعين بالله على الصبر على ما تصفونه من الكفر والتكذيب .. ختم السورة الكريمة بأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتفويض الأمر إِليه وتوقع الفرج من عنده، فهو نعم الناصر ونعم المعين.