-
رد: تفسير القران الكريم
سورة الصافات
إعلان وحدانية الله تعالى
تزيين السماء بالكواكب
إثبات المعاد: الحشر والنشر والقيامة
مسؤولية المشركين في الآخرة
جزاء كل من الكافرين والمؤمنين
عقاب الظالمين وأنواع عذابهم
قصة نوح عليه السلام
قصة إبراهيم عليه السلام وتحطيم الأصنام
إبراهيم عليه السلام والذبيح إسماعيل
قصة موسى وهارون عليهما السلام
قصة إلياس عليه السلام
قصة لوط عليه السلام
قصة يونس عليه السلام
الرد على مزاعم المشركين
جُنْد الله هم المنصورون
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة الصافات من السور المكية التي تعنى بأصول العقيدة الإِسلامية "التوحيد، الوحي، البعث والجزاء" شأنها كشأن سائر السور المكية التي تهدف إلى تثبيت دعائم الإِيمان.
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن الملائكة الأبرار، الصافات قوائمها في الصلاة، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله، الزاجرين للسحاب يسوقونه حيث شاء الله .. ثم تحدثت عن الجنِّ وتعرضهم للرجم بالشهب الثاقبة، رداً على أساطير أهل الجاهلية في اعتقادهم بأن هناك قرابةً بين الله سبحانه وبين الجن، وتحدثت السورة عن البعث والجزاء وإِنكار المشركين له، واستبعادهم للحياة مرة ثانية بعد أن يصبحوا عظاماً ورفاتاً.
* وتأكيداً لعقيدة الإِيمان بالبعث ذكرت السورة قصة "المؤمن والكافر" والحوار الذي دار بينهما في الدنيا، ثم النتيجة التي آل إليها أمر كلٍ منهما بخلود المؤمن في الجنة، وخلود الكافر في النار.
* واستعرضت السورة الكريمة قصص بعض الأنبياء، بدءاً بنوح، ثم إِبراهيم، ثم إسماعيل، ثم قصة موسى وهارون، ثم إلياس ولوط، وذكرت بالتفصيل قصة "الإِيمان والابتلاء" في حادثة الذبيح إسماعيل، وما جرى من أمر الرؤيا للخليل إبراهيم حين أمر بذبح ولده ثم جاءه الفداء، تعليماً للمؤمنين كيف يكون أمر الانقياد والاستسلام لأمر أحكم الحاكمين.
* وختمت السورة الكريمة ببيان نصرة الله لأنبيائه وأوليائه في الدنيا والآخرة، وأنَّ العاقبة للمتقين.
التسميَة:
سميت السورة "سورة الصافات" تذكيراً للعباد بالملأ الأعلى من الملائكة الأطهار، الذين لا ينفكون عن عبادة الله {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} وبيان وظائفهم التي كلفوا بها.
إعلان وحدانية الله تعالى
{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا(1)فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا(2)فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا(3)إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ(4)رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ(5)}
{وَالصَّافَّاتِ صَفًّا} افتتح تعالى هذه السورة بالقسم ببعض مخلوقاته، إظهاراً لعظم شأنها، وكبر فوائدها، وتنبيهاً للعباد على جلالة قدرها، والمعنى: أقسم بهذه الطوائف من الملائكة، الصافات قوائمها في الصلاة، أو أجنحتها في ارتقاب أمر الله، قال ابن مسعود: هم الملائكة تصف في السماء في العبادة والذكر صفوفاً، وفي الحديث (ألا تصفُّون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ قلنا: وكيف يا رسول الله؟ قال: يُتمون الصفوف المتقدمة، ويتراصون في الصَف) أقسم تعالى بالملائكة تنبيهاً على جلالة قدرهم، وكثرة عبادتهم، فهم مع عظيم خلقهم ورفعة شأنهم لا ينفكون عن عبادة الله، يصطفون للعبادة كاصطفاف المؤمنين في الصلاة، مع الخشوع والخضوع للعزيز الجبار، الذي دانت له الخلائق، وخضعت لجلال هيبته الرقاب، بما فيهم حملةُ العرش والملائكة الأطهار {فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا} أي الملائكة التي تزجر السحاب، يسوقونه إلى حيث شاء الله، من الزجر بمعنى السوق والحث {فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا} وصفٌ ثالثٌ للملائكة الأبرار، إشادةً بذكر محاسنهم ومناقبهم العلوية أي وأقسمُ بالملائكة التالين لآيات الله على أنبيائه وأوليائه، مع التسبيح والتقديس والتحميد والتمجيد {إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ} هذا هو المقسم عليه أي إِن إِلهكم الذي تعبدونه -أيها الناس- إله واحدٌ لا شريك له، قال مقاتل: إِن الكفار بمكة قالوا: أجعل الآلهة إلهاً واحداً؟ وكيف يسع هذا الخلق إله فرد؟ فأقسم الله بهؤلاء تشريفاً، ثم بيَّن تعالى معنى وحدانيته وألوهيته فقال {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي هو تعالى خالق السماوات والأرض ومالكهما وما بينهما من المخلوقات والموجودات، فإِن وجودهما وانتظامهما على هذا النمط البديع، من أوضح الدلائل على وجود الله ووحدانيته {وَرَبُّ الْمَشَارِقِ} أي وهو رب مشارق الشمس ومقاربها في الشتاء والصيف، قال الطبري: واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالة الكلام عليه.
تزيين السماء بالكواكب
{إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ(6)وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ(7)لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ(8)دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ(9)إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ(10)}
ثم أخبر عن قدرته بتزيين السماء بالكواكب، بعد أن أخبر عن وحدانيته فقال {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} أي زينا السماء القريبة منكم بالكواكب المنيرة المضيئة، التي تبدو وكأنها جواهر تتلألأ {وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ} أي وللحفظ من كل شيطان عاتٍ متمرد، خارج عن طاعة الله، قال قتادة: خلقت النجومُ لثلاث: رجوماً للشياطين، ونوراً يُهتدى بها، وزينةً للسماء الدنيا، وقال أبو حيان: خصَّ السماء الدنيا بالذكر لأنها هي التي تُشاهد بالأبصار، وفيها وحدها يكون الحفظ من الشياطين {لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإ الأَعْلَى} أي لا يقدرون أن يستمعوا إلى الملائكة الذين هم في العالم العلوي، وقيل المعنى: لئلا يتسمَّعوا إلى الملأ الأعلى {وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ} أي ويُرجمون بالشهب من كل جهةٍ يقصدون السماء منها {دُحُورًا} أي طرداً لهم عن السماع لأخبار السماء، قال الطبري: أي مطرودين، من الدحر وهو الدَّفعُ والإِبعاد {وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبًٌ} أي ولهم في الآخرة عذاب موصول لا ينقطع {إِلا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ} أي إلاَّ من اختلس شيئاً مسارقةً {فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ} أي فلحقه شهاب مضيءٌ، نافذ بضوئه وشعاعه فأحرقه، قال المفسرون: قد يخطف الشيطان المارد خطفةً سريعة مما يدور في الملأ الأعلى، فيتبعه شهابٌ يلاحقه في هبوطه فيصيبه ويحرقه حرقاً، قال القرطبي: وليست الشهب التي يرجم بها الشياطين من الكواكب والثوابت، لأن الثابتة تجري ولا تُرى حركاتها، وهذه الشهب تُرى حركاتها.
إثبات المعاد: الحشر والنشر والقيامة
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ(11)بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ(12)وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ(13)وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ(14)وَقَال ُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ(15)أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ(16)أَوَآبَ اؤُنَا الأوَّلُونَ(17)قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ(18)فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ(19)وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ(20)هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ(21)}
{فَاسْتَفْتِهِمْ} أي فسلْ يا محمد هؤلاء المنكرين للبعث {أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا}؟ أي أيهم أقوى بنيةً وأشد خلْقاً هل هم أم السماوات والأرض وما بينهما من الملائكة والمخلوقات العظيمة العجيبة؟ {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ} أي من طينٍ رخوٍ لزج لا قوة فيه، قال الطبري: وإِنما وصفه باللزوب لأنه ترابٌ مخلوطٌ بماء، وكذلك خُلِق ابنُ آدم من ترابٍ وماء، ونار وهواء، والترابُ إِذا خُلط بماءٍ صار طيناً لازباً، والغرضُ من الآية إِقامةُ البرهان على إعادة الإِنسان، فالذي خلقه من العدم وخلق هذه الخلائق، قادرٌ على إعادة الأجسام بعد الفناء {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ} أي بل عجبتَ يا محمد من تكذيبهم للبعث مع رؤيتهم آثار قدرة الله الباهرة، وهم يسخرون مما تقول لهم في ذلك، قال أبو السعود: المعنى عجبتَ من قدرة الله تعالى على هذه الخلائق العظيمة وإِنكارهم للبعث، وهم يسخرون من تعجبك وتقريرك للبعث {وَإِذَا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ} أي وإِذا وُعظوا بالقرآن وخوّفوا به، لا يتعظون ولا يتدبرون {وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ} أي وإِذا رأوا آية باهرة، أو معجزة قاهرة تدل على صدقك كانشقاق القمر، وتكليم الشجر والحجر، يبالغون في السخرية أو يدعون غيرهم للسخرية والاستهزاء {وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلا سِحْرٌ مُبِينٌ} أي ما هذا الذي جئتنا به يا محمد إلا سحر واضح بيِّن، قال في البحر: والإِشارة بـ "هذا" إلى ما ظهر على يديه عليه السلام من الخارق المعجز {أَءِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} الاستفهام للإِنكار والاستهزاء أي أئذا أصبحت أجسادنا بالية، وتفتَّتت أجزاؤها إلى تراب وعظام سوف نبعث؟ {أَوَآبَاؤُنَا الأوَّلُونَ} أي أو ءاباؤنا الأولون كذلك سيُبعثون؟ قال الزمخشري: أي أيبعث أيضاً ءاباؤنا؟ وهذا زيادة في استبعاد الأمر، يعنون أنهم أقدم، فبعثُهم أبعدُ وأبطل {قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ} أي قل لهم نعم تُبعثون وأنتم صاغرون{فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ} أي وما هي إِلا صيحة واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور للقيام من القبور {فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ} أي فإِذا هم قيامٌ في أرض المحشر ينظر بعضهم إلى بعض، قال القرطبي: الزجرةُ: الصيحةُ وهي النفخةُ الثانية، وسميت زجرة لأن مقصودها الزجر، كزجر الإِبل، والخيل عند السَّوق .. ثم أخبر تعالى عن حسرتهم وندامتهم عند معاينتهم أهوال القيامة فقال {وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ} أي يا هلاكنا وخسارتنا هذا هو يوم الجزاء والحساب!! فتقول لهم الملائكة على سبيل التوبيخ والتقريع {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} أي هذا يوم الفصل بين الخلائق الذي كنتم تنكرون وتكذبون به، قال البيضاوي: الفصلُ: القضاءُ والتفريق بين المحسن والمسيء.
مسؤولية المشركين في الآخرة
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ(22)مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ(23)وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ(24)مَا لَكُمْ لا تَنَاصَرُونَ(25)بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ(26)وَأَقْ بَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ(27)قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ(2)قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ(29)وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ(30)فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ(31)فَأَغْوَي ْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ(32)فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ(33)إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ(34)إِنَّ هُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ(35)وَيَقُ ولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ(36)بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ(37)}
{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ} أي اجمعوا الظالمين واشباههم من العصاة والمجرمين، كل إنسان مع نظرائه، قال القرطبي: الزاني مع الزاني، وشارب الخمر مع شارب الخمر، والسارق مع السارق، وقال ابن عباس: اجمعوا الظالمين ونساءهم الكافرات، وعنه: المراد به أشباههم من العصاة {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي وما كانوا يعبدون من الأوثان والأصنام، وذلك زيادةً في تحسيرهم وتخجيلهم {فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ} أي فعرفوهم طريق الجحيم ووجهوهم إليها، وفي لفظ {اهْدُوهُمْ} تهكم وسخرية، فإِذا لم يهتدوا في الدنيا إلى الصراط المستقيم، فليهتدوا اليوم إلى صراط الجحيم {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} أي احبسوهم عند الصراط لأنهم سيسألون عن جميع أقوالهم وأفعالهم، ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ {مَا لَكُمْ لا َتَنَاصَرُونَ} أي ما لكم لا ينصر بعضكم بعضاً وأنتم هنا جميعاً؟ وكلكم في حاجة إلى الناصر والمعين؟ قال المفسرون: هذا إشارة إلى قول أبي جهل يوم بدر "نحن جميعٌ منتصر" وأصل {تَنَاصَرُونَ} تتناصرون حذفت إحدى التاءين تخفيفاً، قال تعالى {بَلْ هُمْ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ} أي بل هم اليوم أذلاء منقادون، عاجزون عن الانتصار، سواء منهم العابدون والمعبودون {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} أي أقبل الرؤساء والأتباع يتلاومون ويتخاصمون، قال أبو السعود: وسؤالهم إنما هو سؤال توبيخ بطريق الخصومة والجدال {قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ} أي قال الأتباع منهم للمتبوعين: إِنكم كنتم تأتوننا من قبل الحقِّ، وتزينون لنا الباطل، وتصدوننا عن اتباع طريق الهدى، قال الطبري: أي كنتم تأتوننا من قبل الدين والحق، فتخدعوننا بأقوى الوجوه، قال: واليمين في كلام العرب: القوة والقدرة كقول الشاعر:
إِذا ما رايةٌ رفعت لمجدٍ تلقَّاها عرابةُ باليمين
وقيل: المراد تأتوننا بطريق الوسوسة عن يميننا كما هو المعتاد في حالة الوسوسة بالأسرار غالباً {قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} أي يقول لهم الرؤساء: لم نحملكم نحن على الضلال ولم نمنعكم من الإِيمان، بل كفرتم ولم تؤمنوا باختياركم، قال ابن كثير: أي ليس الأمر كما تزعمون، بل كانت قلوبكم منكرةً للإِيمان، قابلةً للكفر والعصيان {وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ} أي ما كان لنا عليكم من قوة وقدرة نقهركم بها على متابعتنا {بَلْ كُنتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ} أي بل كان فيكم فجور وطغيان واستعداد للعصيان، فلذلك استجبتم لنا واتبعتمونا {فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا} أي فوجب علينا جميعاً وعيد الله لنا بالعذاب {إِنَّا لَذَائِقُونَ} أي فإِنا لذائقو هذا العذاب لا محالة {فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ} أي فزينا لكم الباطل، ودعوناكم إلى الغيّ لأننا كنا على غيٍّ وضلال، قال تعالى مخبراً عن حالهم {فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} أي فإِنهم يوم القيامة مشتركون في العذاب، كما كانوا مشتركين في الغواية، ولكنْ كما قال تعالى {ولن ينفعكم اليوم إِذْ ظلمتُم أنكم في العذاب مشتركون} {إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} أي مثل هذا الفعل بهؤلاء نفعل بالأشقياء المجرمين، ثم بيَّن تعالى السبب فقال {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} أي إِذا قيل لهم قولوا {لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ} يتكبَّرون ويتعظَّمون {وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ} أي ويقولون عندما يُدعون إلى التوحيد: أنترك عبادة الأوثان لقول شاعرٍ مجنون؟ يعنون بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم قال تعالى رداً عليهم {بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ} أي ليس الأمرَ كما يفترون بل جاءهم محمد بالتوحيد والإِسلام الذي هو الحقُّ الأبلج، وجاء بمثل ما جاء به الرسل قبله، قال أبو حيان: جمع المشركون بين إِنكار الوحدانية، وإِنكار الرسالة، ثم خلطوا في كلامهم بقولهم "شاعر مجنون" فإِن الشاعر عنده من الفهم والحذق ما ينظم به المعاني الغريبة، ويصوغها في قالب الألفاظ البديعة، ومن كان مجنوناً لا يصل إلى شيء من ذلك، فكلامهم تخليط وهذيان.
جزاء كل من الكافرين والمؤمنين
{إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ(38)وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(39)إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(40)أُوْلَئ ِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ(41)فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ(42)فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ(43)عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ(44)يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ(45)بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ(46)لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ(47)وَعِنْدَهُم ْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ(48)كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ(49)فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ(50)قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ(51)يَقُولُ أَءنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ(52)أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءنَّا لَمَدِينُونَ(53)قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ(54)فَاطَّلَع َ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ(55)قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ(56)وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ(57)أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ(58)إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ(59)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(60)لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ(61)}
{إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الأَلِيمِ} أي إِنكم أيها المجرمون لمعذبون أشد العذاب {وَمَا تُجْزَوْنَ إِلا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي لا تُعاقبون إلا جزاء مثل عملكم، قال الصاوي: لأن الشر يكون جزاؤه بقدره، بخلاف الخير فجزاؤه بأضعاف مضاعفة .. ولمّا ذكر شيئاً من أحوال الكفار وعذابهم، ذكر شيئاً من أحوال المؤمنين ونعيمهم، على طريقة القرآن في الموازنة بين الفريقين ترغيباً وترهيباً فقال {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} الاستثناء منقطع أي لكن عباد الله المُخلَصين الموحدين، فإِنهم لا يذوقون العذاب، ولا يناقشون الحساب، بل يتجاوز الله عن سيئاتهم، يُجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف .. ثم أخبر عن جزائهم فقال {أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ} أي أولئك الأخيار الأبرار لهم رزقهم في الجنة صباحاً ومساءً كما قال تعالى {ولهم رزقُهم فيها بكرةً وعشياً} وقال أبو السعود: معلوم الخصائص من حسن المنظر، ولذة الطعم، وطيب الرائحة، ثم فسر الرزق بقوله {فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ} أي فواكهُ متنوعة من جميع ما يشتهون، وهم في الجنة معزَّزون مكرَّمون، وخصَّ الفواكه بالذكر لأن كل ما يُؤكل في الجنة إِنما هو على سبيل التفكه والتلذذ {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} أي في رياضٍ وبساتين يتنعمون فيها {عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} أي على أسرَّة مكلَّلة بالدر والياقوت، تدور بهم كيف شاؤوا، قال مجاهد: {مُتَقَابِلِين} أي لا ينظر بعضُهم إلى قفا بعض تواصلاً وتحابباً {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} لما ذكر الطعام أعقبه بذكر الشراب أي يطوف عليهم خدم الجنة بكأسٍ من الخمر من نهر جارٍ خارج من عيون الجنة، قال الصاوي: وصف به خمر الجنة لأنه يجري كالماء النابع، وقال ابن عباس: كل كأسٍ في القرآن فهي الخمر، والمعين هي الجارية {بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ} أي هذه الخمر بيضاء ذات لذةً للشاربين، يلتذ بها من شربها، قال الحسن: خمر الجنة أشد بياضاً من اللبن {لا فِيهَا غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ} أي ليس فيها ما يغتال عقولهم فيفسدها، ولا هم يسكرون بشربها كما تفعل خمر الدنيا، قال ابن كثير: نزَّه الله سبحانه خمر الجنة التي هي في خمر الدنيا، من صداع الرأس، ووجع البطن، وذهاب العقل، فخمر الجنة طعمها طيب كلونها، والمراد بالغول هنا صُداع الرأس قاله ابن عباس، وقال قتادة: هو صداع الرأس ووجع البطن وتلك أجمل أوصاف الشراب، التي تحقق لذة الشُّرَّاب، وتنفي أكداره وأضراره، فلا خُمار يصدع الرؤوس،ولا سكر ولا عربدة يُذهب لذة الاستمتاع كما هي الحال في خمرة الدنيا {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} أي وعندهم الحور العين، العفيفات اللواتي قصرن أعينهن على النظر إلى أزواجهن، فلا ينظرن إلى غيرهم حياءً وعفةً، قال ابن عباس: {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن {عِينٌ} أي وهنَّ مع العفة واسعات جميلات العيون، قال الطبري: أي نُجل العيون جمع عيناء وهي المرأة الواسعة العين مع الحسن والجمال، وهي أحسن ما تكون من العيون {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} أي كأنهن اللؤلؤ المكنون في أصدافه، قاله ابن عباس واستشهد بقوله تعالى {وحورٌ عينٌ كأمثال اللؤلؤ المكنون} وقال الحسن: {المكنون} المصون الذي لم تمسَّه الأيدي .. والغرضُ أنهنَّ مع هذا الجمال الباهر، مصونات كالدُّر في أصدافه، مع رقةٍ ولطفٍ ونعومة {كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ} لا تبتذله الأيدي ولا العيون، والعربُ تشبّه المرأة بالبيضة لصفائها وبياضها، قال أبو حيان: ذكر تعالى في هذه الآيات أولاً الرزق وهو ما تتلذذ به الأجسام، وثانياً الإِكرام وهو ما تتلذذ به النفوس، ثم ذكر المحل وهو جنات النعيم، ثم لذة التآنس والاجتماع {عَلَىسُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} وهو أتم للسرور وآنس، ثم ذكر المشروب وهو الخمر التي تدار عليهم بالكؤوس ولا يتناولونها بأنفسهم، ثم ختم باللذة الجسدية - أبلغ الملاذ - وهي التآنس بالنساء ثم أخبر تعالى عما يتحدث به أهل الجنة للأنس والسرور، وهم على موائد الشرب يتلذذون بكل ممتع، وينعمون بتجاذب أطراف الحديث فقال {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ} أي جلسوا يتحدثون عما جرى لهم في الدنيا، يتذاكرون نعيمهم وحال الدنيا وثمرة الإِيمان {قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ} أي قال قائل من أهل الجنة إني كان لي في الدنيا صديقّ وجليس ينكر البعث {يَقُولُ أَءنَّكَ لَمِنْ الْمُصَدِّقِينَ} أي يقول لي أتصدِّق بالبعث والجزاء؟ {أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَءنَّا لَمَدِينُونَ}؟ أي هل إِذا متنا وأصبحنا ذراتٍ من التراب وعظاماً نخرة، أئنا لمحاسبون ومجزيون بأعمالنا؟ يقول ذلك على وجه التعجب والتكذّيب والاستبعاد {قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ}؟ أي قال ذلك المؤمن لإِخوانه في الجنة: هل أنتم مطَّلعون إلى النار لننظر كيف حال ذلك القرين؟ قال تعالى {فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ} أي فنظر فأبصر صاحبه الكافر في وسط الجحيم يتلظى سعيرها {قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ} أي فخاطبه المؤمن شامتاً وقال له: واللهِ لقد قاربت أن تهلكني بإِغوائك {وَلَوْلا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنْ الْمُحْضَرِينَ} أي ولولا فضلُ الله عليَّ بتثبيتي على الإِيمان، لكنتُ معك في النار محضراً ومعذباً في الجحيم، ثم يخاطبه مستهزءاً ساخراً كما كان ذلك الكافر يستهزئ به في الدنيا {أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلا مَوْتَتَنَا الأولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ}؟ أي هل لا تزال على اعتقادك بأننا لن نموت إلا موتةً واحدة ، وأنه لا بعث ولا جزاء ولا حساب ولا عذاب؟ وهو أسلوب ساخر لاذع يظهر فيه التشفي من ذلك القرين الكافر، والتحدث بنعمة الله عليه، قال تعالى {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي إن هذا النعيم الذي ناله أهل الجنة لهو الفوز العظيم {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} أي لمثل هذا الجزاء الكريم يجب أن يعمل العاملون ويجتهد المجتهدون. قال المفسرون: أشارت الآيات الكريمة إلى قصة شريكين كان لهما ثمانية آلاف درهم، فكان أحدهما يعبد الله ويقصِّر في التجارة والنظر إلى أمور الدنيا، وكان الآخر مقبلاً على تكثير ماله فانفصل من شريكه لتقصيره، وكان كلما اشترى داراً أو جارية أو بستاناً أو نحو ذلك عرضه على المؤمن وفخر عليه بكثرة ماله، وكان المؤمن إِذا سمع ذلك يتصدَّق بنحو من ذلك ليشتري له به قصراً في الجنة، فإِذا لقيه صديقه قال ما صنعت بمالك؟ قال: تصدقت به لله! فكان يسخر منه ويقول: أئنك لمن المصدِّقين؟ فكان أمرهما ما قصَّ الله علينا في كتابه العزيز.
عقاب الظالمين وأنواع عذابهم
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ(62)إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ(63)إِنَّهَ ا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ(64)طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ(65)فَإِنَّه ُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ(66)ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ(67)ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ(68)إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءاباءهُمْ ضَالِّينَ(69)فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ(70)وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ(71)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ(72)فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ(73)إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(74)}
{أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ} أي أنعيم الجنة خيرٌ ضيافةً وعطاءً أم شجرة الزقوم التي في جهنم؟ أيهما خيرٌ وأفضل؟ فالفواكه والثمار طعام أهل الجنة، وشجرة الزقوم طعام أهل النار، والغرض منه توبيخ الكفار {إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ} أي إِنا جعلنا شجرة الزقوم فتنةً وابتلاءً لأهل الضلالة، قال المفسرون: لما سمع الكفارُ ذكر شجرة الزقوم قالوا: كيف يكون في النار شجرة، والنار تُحرق الشجر؟ وكان أبو جهل يقول لأصحابه: أتدرون ما الزقوم؟ إِنه الزُّبد والتمر، ثم يأتيهم به ويقول: تزقَّموا، هذا الذي يخوفنا به محمد {إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ} أي تنبت في قعر جهنم ثم هي متفرعة فيها {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ} أي ثمرها وحملها كأنه رؤوس الشياطين في تناهي القبح والبشاعة، قال ابن كثير: وإِنما شبهها برؤوس الشياطين، وإِن لم تكن معروفة عند المخاطبين، لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر {فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ} أي فإِن هؤلاء الكفار لشدة جوعهم مضطرون إلى الأكل منها حتى تمتلئ منها بطونهم، فهي طعامهم وفاكهتهم بدل رزق أهل الجنة، وفي الحديث (لو أن قطرةً من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم، فكيف بمن تكون طعامه)؟ {ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ} أي ثم إِن لهم بعدما شبعوا منها وغلبهم العطش لمزاجاً من ماء حار قد انتهت حرارته يشاب به الطعام -أي يخلط- ليجمع لهم بين مرارة الزقوم، وحرارة الحميم، تغليظاً لعذابهم {ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإلَى الْجَحِيمِ} أي ثم مصيرهم ومرجعهم إلى دركات الجحيم، قال مقاتل: الحميم خارج الجحيم، فهم يوردون الحميم لشربه ثم يردون إلى الجحيم، وقال أبو السعود: الزقوم والحميم نُزل يُقدَّم إِليهم قبل دخولها {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا ءاباءهُمْ ضَالِّينَ} أي وجدوهم على الضلالة فاقتدوا بهم {فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ} أي فهم يُسرعون في اتباع خطاهم من غير دليل ولا برهان، قال مجاهد: شبَّهه بالهرولة كمن يُسرع إِسراعاً نحو الشيء {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأوَّلِينَ} أي ضلَّ قبل قومك أكثر الأمم الماضية {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنذِرِينَ} أي أرسلنا فيهم رسلاً كثيرين يخوفونهم من عذاب الله ولكنهم تمادوا في الغيّ والضلال {فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ} أي فانظر يا محمد كيف كان مصير أمر هؤلاء المكذبين؟ ألم نهلكهم فنصيرهم عبرةً للعباد؟ {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي لكنْ عبادَ الله المؤمنين الذي أخلصهم تعالى لطاعته فإِنهم نجوا من العذاب.
قصة نوح عليه السلام
{وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ(75)وَنَجَّي ْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(76)وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ(77)وَتَرَكْنَ ا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ(78)سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ(79)إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(80)إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(81)ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ(82)}
ثم شرع في بيان قصة نوح فقال {وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} اللام موطئة للقسم أي وبالله لقد استغاث بنا نوحٌ لما كذبه قومه فلنعم المجيبون نحن له، وصيغة الجمع {الْمُجِيبُونَ} للعظمة والكبرياء، قال الصاوي: ذكر تعالى في هذه السورة سبع قصص: قصة نوح، وقصة إبراهيم، وقصة الذبيح إسماعيل، وقصة موسى وهارون، وقصة إلياس، وقصة لوط، وقصة يونس، وكل ذلك تسلية له صلى الله عليه وسلم وتحذيراً لمن كفر من أمته {وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} أي ونجيناه ومن آمن معه - أهلُه وأتباعُه - من الغرق، قال المفسرون: وكانوا ثمانين ما بين رجل وامرأة {وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمْ الْبَاقِينَ} أي وجعلنا ذرية نوح هم الذين بقوا في الأرض بعد هلاك قومه، قال ابن عباس: أهل الأرض كلُّهم من ذرية نوح، قال ابن جزي: وذلك لأنه لما غرق الناس في الطوفان، ونجا نوح ومن كان معه في السفينة، تناسل الناس من أولاده الثلاثة "سام، وحام، ويافث" {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} أي تركنا عليه ثناءً حسناً في كل أمة إلى يوم القيامة {سَلامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ} أي سلام عاطر من الله تعالى والخلائق على نوح باقٍ على الدوام بدون انقطاع {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي هكذا نجزي من أحسن من العباد، نبقي له الذكر الجميل إلى آخر الدهر {إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} أي كان مخلصاً في العبودية لله، كامل الإِيمان واليقين، قال في حاشية البيضاوي: علَّل هذه التكرمة السنية بكونه من أُولي الإِحسان، ثم علَّل كونه محسناً بأنه كان عبداً مؤمناً، إظهاراً لجلالة قدر الإِيمان وأصالة أمره، وجعل الدنيا مملوءةً من ذريته تبقية لذكره الجميل في ألسنة العالمين {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخَرِينَ} أي أغرقنا الكافرين الذين لم يؤمنوا بنوح عن آخرهم، فلم تبق منهم عينٌ تطرف ولا ذكرٌ ولا أثر.
قصة إبراهيم عليه السلام وتحطيم الأصنام
{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ(83)إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(84)إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ(85)أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ(86)فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ(87)فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ(88)فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ(89)فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ(90)فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ(91)مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ(92)فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ(93)فَأَقْبَل ُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ(94)قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ(95)وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ(96)قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ(97)فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ(98)وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ(99)رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ(100)فَبَشَّ رْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ(101)
ثم شرع تعالى في بيان قصة إبراهيم فقال {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ} أي وإِن من أنصار نوح وأعوانه وممن كان على منهاجه وسنته إبراهيم الخليل، قال البيضاوي: وكان بين نوح وإِبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، وكان بينهما نبيان هما "هود" و "صالح" صلوات الله عليهم أجمعين {إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي حين جاء ربه بقلبٍ نقي طاهر، مُخلص من الشك والشرك {إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ} أي حين قال لأبيه آزر وقومه موبخاً إيّاهم: ما الذي تبعدونه من الأوثان والأصنام؟ وهو إِنكار لهم وتوبيخ {أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ}؟ أي أتعبدون آلهة من دون الله من أجل الإِفك والكذب والزور؟ وإِنما قدَّم المفعول لأجله {أَئِفْكًا} على المفعول به لأجل التقبيح عليهم بأنهم على إِفكٍ وباطل في شركهم والأصل: أتريدون آلهة من دون الله إفكاً؟ قال القرطبي: والإِفكُ أسوأ الكذب وهو الذي لا يثبتُ ويضطرب {فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} استفهام توبيخ وتحذير أيْ أيَّ شيءٍ تظنون برب العالمين؟ هل تظنون أنه يترككم بلا عقاب وقد عبدتم غيره؟ قال الطبري: المعنى أي شيء تظنون أيها القوم أنه يصنع بكم إن لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ * فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ} لما وبخهم على عبادة غير الله أراد أن يريهم أن أصنامهم لا تضر ولا تنفع، وأراد أن يخلو بها حتى يكسرها، فاحتال للبقاء وعدم الخروج معهم إلى العيد، فنظر في السماء - على عادتهم حيث كانوا نجامين - وأوهمهم أن النجوم تدل على أنه سيسقم غداً فقال: إِني سقيم أي سأمرض إِن خرجتُ معكم، وهذا ليس بكذبٍ وإِنما هو من المعاريض الجائزة لمقصد شرعي كما ورد (إِنَّ في المعاريض لمندوحةً عن الكذب) أو أراد أنه سقيم القلب من عبادتهم للأوثان {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي فتركوه إِعراضاً عنه وخرجوا إِلى عيدهم {فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ} أي فلما ذهبوا وتركوه توجه إلى الأصنام ومال إليها في خفية، قال ابن كثير: أي ذهب إليها بعد ما خرجوا في سرعةٍ واختفاء {فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ}؟ أي ألا تأكلون من هذا الطعام؟ قال ابن كثير: وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاماً قرباناً لتُبارك لهم فيه {مَا لَكُمْ لا تَنطِقُونَ}؟ أي ما لكم لا تجيبوني على سؤالي، قال أبو حيان: وعرضُ الأكل عليها واستفهامها عن النطق إِنما هو على سبيل الهزء، لأنها منحطةٌ عن رتبة عابديها إِذ هم يأكلوها وينطقون بخلافها {فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ} أي فأقبل على الأصنام مستخفياً يحطمها بيمينه بفأسٍ كان معه، قال البيضاوي: وتقييدُه باليمين للدلالة على قوته، وقوةُ الآلة تستدعي قوة الفعل، وقال القرطبي: خصَّ الضرب باليمين لأنها أقوى والضربُ بها أشد {فَأَقْبَلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ} أي أقبلوا نحوه مسرعين كأن بعضهم يدفع بعضاً، فلما أدركوه قالوا: ويحكَ نحن نعبدها وأنت تكسرها؟ فأجابهم موبخاً {قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ} أي أتعبدون أصناماً نحتموها بأيديكم، وصنعتموها بأنفسكم؟ {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} أي واللهُ جل وعلا خلقكم وخلق عملكم، وكلُّ الأشياء مخلوقة له، فكيف تعبدون المخلوق وتتركون الخالق، أليس لكم عقل أيها الناسُ؟ قال ابن جزي: ذهب بعض المفسرين إلى أن {مَا} مصدرية والمعنى: اللهُ خلقكم وأعمالكم، وهذه الآية عندهم قاعدةٌ في خلق أفعال العباد، وذهب بعضهم إلى أن {ما} موصولة بمعنى الذي والمعنى: خلقكم وخلق أصنامكم التي تعملونها، وهذا أليقٌ بسياق الكلام، وأقوى في قصد الاحتجاج على الذين عبدوا الأصنام. {قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ} أي ابنوا له مكاناً وأضرموه ناراً ثم ألقوه في تلك النار المتأججة المستعرة، قال المفسرون: لما غلبهم إبراهيم عليه السلام في الحجة، مالوا إلى الغلبة بقوة البطش والشدة، وتشاوروا فيما بينهم ثم قرروا أن يطرحوه في النار انتصاراً لأصنامهم وآلهتهم {فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الأَسْفَلِينَ} أي أرادوا المكر بإبراهيم واحتالوا لإِهلاكه، فنجيناه من النار وجعلناها برداً وسلاماً عليه، وجعلناهم الأذلين المقهورين لأنه لم ينفذ فيه مكرهم، ولا كيدهم {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ} لما نجاه الله من النار، وخلّصه من كيد الفجار، هجر قومه واعتزلهم والمعنى إني مهاجر من بلد قومي إلى حيث أمرني ربي، قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع سارة إلى أرض الشام {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ الصَّالِحِينَ} أي ارزقني ولداً من الصالحين يؤنسني في غُربتي، قال ابن كثير: يريد أولاداً مطيعين يكونون عوضاً عن قومه وعشيرته الذين فارقهم {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} أي فاستجبنا دعاءه وبشرناه بغلامٍ يكون حليماً في كبره، قال أبو السعود: جمع الله له فيه بشارات ثلاث: بشارة أنه غلام، وأنه يبلغ أوان الحُلم، وأنه يكون حليماً، لأن الصغير لا يوصف بذلك، وأيُّ حلم يعادل حلمه عليه السلام حين عرض عليه أبوه الذبح فقال {يا أبتِ افعلْ ما تُؤمرْ ستجدني إِن شاء الله من الصابرين}!! وجمهور المفسرين على أن هذا الغلام المبشر به هو "إسماعيل" لأن الله تعالى قال بعد تمام قصة الذبيح {وبشرناه بإِسحاق نبياً من الصالحين} فدل ذلك على أن الذبيح هو إِسماعيل.
إبراهيم عليه السلام والذبيح إسماعيل
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ(102)فَلَمَّ ا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ(103)وَنَادَيْ نَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ(104)قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(105)إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ(106)وَفَدَيْنَ اهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ(107)وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ(108)سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ(109)كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(110)إِنَّه ُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(111)وَبَشّ َرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ(112)وَبَارَ كْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ(113)}
{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي فلما ترعرع وشبَّ وبلغ السنَّ الذي يمكنه أن يسعى مع أبيه في أشغاله وحوائجه، قال المفسرون: وهو سن الثالثة عشرة {قَالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} أي إني أُمرت في المنام أنْ أذبحك، قال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحيٌ وتلا الآية، وقال محمد بن كعب: كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظاً ورقوداً، لأن الأنبياء تنام عيونهم ولا تنام قلوبهم {فَانظُرْ مَاذَا تَرَى}؟ أي فانظر في الأمر، ما رأيك فيه؟ قال ابن كثير: وإنما أعلم ابنه بذلك ليكون أهون عليه، وليختبر صبره وجلَده وعزمه على طاعة الله تعالى وطاعة أبيه. فإن قيل: لم شاوره في أمرٍ هو حتمٌ من الله؟ فالجواب: أنه لم يشاوره ليرجع إلى رأيه، ولكنْ ليعلم ما عنده فيثبت قلبه ويوطِّن نفسه على الصبر، فأجابه بأحسن جواب {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ} أي امض لما أمرك الله به من ذبحي، فستجدني صابراً إِن شاء الله، وهو جواب من أُوتي الحلم والصبر وامتثال الأمر، والرضا بقضاء الله {فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي فلما استسلما - الأب والابن - لأمر الله، وصرعه على وجهه ليذبحه، قال ابن عباس: {تَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أكبَّه على وجهه {وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا} هذه جواب "لمَّا" والواو مقحمة أي ناديناه يا إِبراهيم قد نفَّذْت ما أُمرت به، وحصل المقصود من رؤياك بإِضجاعك ولدك للذبح، روي أنه أمرَّ السكين بقوته على حلقه مراراً فلم يقطع، قال الصاوي: والحكمة في هذه القصة أن إبراهيم اتخذه الله تعالى خليلاً، فلما سأل ربه الولد ووهبه له تعلقت شعبةٌ من قلبه بمحبة ولده، فأمر بذبح المحبوب لتظهر صفاء الخلة، فامتثل أمر ربه وقدَّم محبته على محبة ولده، قال ابن عباس: فلما عزم على ذبح ولده ورماه على شقه قال الإِبن: يا أبتِ اشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف ثيابك لئلا ينتضح عليها شيءٌ من دمي فتراه أمي فتحزن، وأحدَّ شفرتك وأسرعْ بها على حلقي ليكون الموت أهونَ عليَّ، وإِذا أتيتَ أمي فاقْرئْها مني السلام، وإِن رأيتَ أن تردَّ قميصي عليها فافعل فإِنه عسى أن يكون أسلى لها عني، فقال له إبراهيم: نعم العونُ أنت يا بني على أمر الله {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} تعليلٌ لتفريج الكربة أي كما فرجنا شدتك كذلك نجازي المحسنين بتفريج الشدة عنهم ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} أي إِن هذا لهو الابتلاء والامتحان الشاق الواضح، الذي يتميز فيه المخلص من المنافق {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي وفديناه بكبشٍ عظيم من الجنة فداءً عنه، قال ابن عباس: كبش عظيم قد رعى في الجنة أربعين خريفاً {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} أي وأبقينا عليه ثناءً حسناً إلى يوم الدين {سَلامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ} أي سلام منا على إِبراهيم عاطر كريم {كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} كرَّر ذكر الجزاء مبالغة في الثناء ثم علَّل ذلك بأنه كان من الراسخين في الإِيمان مع الإِيقان والاطمئنان {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنْ الصَّالِحِينَ} أي وبشرناه بغلامٍ آخر بعد تلك الحادثة هو إِسحق الذي سيكون نبياً، قال ابن عباس: بُشِّرَ بنبوته حين وُلد، وحين نُبّئ، وتكاد تكون الآية صريحةً في أن الذبيح هو "إِسماعيل" لا "إِسحاق" {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ} أي أفضنا على إِبراهيم وإِسحاق بركات الدنيا والدين {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} أي ومن ذريتهما محسنٌ ومسيء، قال الطبري: المحسنُ هو المؤمن، والظالم لنفسه هو الكافر، وقال أبو حيان: وفي الآية وعيدٌ لليهود ومن كان من ذريتهما ممن لم يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم وفيها دليل على أن البَرَّ قد يلد الفاجر ولا يلحقه من ذلك عيب ولا منقصة.
قصة موسى وهارون عليهما السلام
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ(114)وَنَجَّيْن َاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ(115)وَنَصَرْنَ اهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ(116)وَآتَيْ نَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ(117)وَهَدَ يْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ(118)وَتَرَ كْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ(119)سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ(120)إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(121)إِنَّه ُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(122)}
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} اللام موطئة للقسم أي وعزتنا وجلالنا لقد أنعمنا على موسى وهارون بأنواع النعم والمنافع الدينية والدنيوية ومنها نعمة النبوة والرسالة {وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنْ الْكرْبِ الْعَظِيمِ} أي ونجيناهما وقومهما -بني اسرائيل- من الغم والمكروه العظيم، وهو استعباد فرعون إياهم مع التعذيب بقتل الأبناء، واستحياء النساء {وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمْ الْغَالِبِينَ} الضمير يعود على موسى وهارون وبني إسرائيل أي ونصرناهم على أعدائهم -الأقباط- فكانوا الغالبين عليهم بعد أن كانوا تحت أيديهم مقهورين {وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ} أي أعطيناهما الكتاب البليغ في بيانه، الكامل في حدوده وأحكامه، وهو التوراة {وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} أي وهديناهما الطريق المستقيم الذي لا اعوجاج فيه، قال الطبري: وهو الإِسلام دينُ الله الذي ابتعث به أنبياءه {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخِرِينَ} أي تركنا عليهما الثناء الجميل، والذكر الحسن {سَلامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ} أي سلام منا على موسى وهارون {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِين * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} أي كذلك نفعل بمن أحسن وأخلص العبودية لله.
قصة إلياس عليه السلام
{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(123)إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ(124)أَتَدْعُون َ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ(125)اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابائِكُمْ الأوَّلِينَ(126)فَكَذَّبُ وهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ(127)إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(128)وَتَرَ كْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ(129)سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ(130)إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ(131)إِنَّه ُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ(132)}
{وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} أي وإِنَّ إلياس -أحد أنبياء بني إسرائيل- لمن الرسل الكرام الذين أرسلتهم لهداية الخلق، قال أبو السعود: هو إلياس بن ياسين من سبط هارون أخي موسى {إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ} أي حين قال لقومه من بني إسرائيل ألا تخافون الله في عبادتكم غيره؟ {أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ} أتعبدون هذا الصنم - المسمَّى بعلاً - وتتركون عبادة ربكم أحسن الخالقين؟ {اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ ءابائِكُمْ الأوَّلِينَ} أي تتركون عبادة أحسن الخالقين، الذي هو ربكم وربُّ ءابائكم السابقين، قال القرطبي: و "بعل" اسم صنم لهم كانوا يعبدونه وبذلك سميت مدينتهم بعلبك، والمعنى: أتدعون رباً اختلقتموه وهو هذا الصنم، وتتركون أحسن من يقال له خالق وهو "الله" ربكم وربَّ ءابائكم الأولين؟ {فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي فكذبوا نبيَّهم فإِنهم لمحضرون في العذاب {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي لكنْ عباد الله المؤمنين فإِنهم نجوا من العذاب {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} أي تركنا على إلياس الثناء الحسن الجميل إلى يوم الدين {سَلامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ} أي سلام منا عليه وعلى آل ياسين، قال المفسرون: المراد بـ {إِلْ يَاسِينَ} هو إلياس ومن آمن معه جمعوا معه تغليباً كما قالوا للمهلَّب وقومه المهلَّبون، واختار الطبري أنه اسم لإِلياس فيقال: إلياس، وإل ياسين مثل ميكال وميكائيل، وأن له اسمين فيسمى "إلياس" و{إِلْ يَاسِينَ} {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} تقدم تفسيره، وإِنما ختم الآيات بعد ذكر كل رسول بالسلام عليه، وبهاتين الآيتين الكريمتين لبيان فضل الإِحسان والإِيمان، وأن هؤلاء الرسل الكرام كانوا جميعاً من المتصفين بهذه الصفات، فلذلك استحقوا التحية والسلام، والذكر الحسن بين الأنام، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.
قصة لوط عليه السلام
{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(133)إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ(134)إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ(135)ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ(136)وَإِنَّكُم ْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ(137)وَبِاللَّ يْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ(138)}
{وَإِنَّ لُوطًا لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} أي وإِنَّ لوطاً لأحد رسلنا لهداية قومه {إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ} أي اذكر حين خلصناه من العذاب هو ومن امن معه من أهله وأولاده {إِلا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ} أي إلا امرأته الكافرة فإِنها لم تؤمن فكانت من الباقين في العذاب ومن الهالكين {ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخَرِينَ} أي ثم أهلكنا المكذبين من قومه أشدَّ إهلاك وأفظعه، وذلك بقلب قراهم حيث جعلنا عاليها سافلها وأمطرنا عليهم حجارة من سجيل، ولهذا عبَّر بـ {دَمَّرْنَا} {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ} أي وإِنكم يا أهل مكة لتمرون على منازلهم في أسفاركم وتشاهدون آثار هلاكهم صباحاً ومساءً، وليلاً ونهاراً {أَفَلا تَعْقِلُونَ}؟ أي أتشاهدون ذلك ثم لا تعتبرون ؟ ألا تخافون أن يصيبكم مثل ما أصابهم.
قصة يونس عليه السلام
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ(139)إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ(140)فَسَاهَم َ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ(141)فَالْت َقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ(142)فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ(143)لَلَب ِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(144)فَنَبَذْن َاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ(145)وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ(146)وَأَرْسَلْن َاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ(147)فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ(148)}
{وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنْ الْمُرْسَلِينَ} أي وإِن يونس لأحد رسلنا المبعوثين لهداية قومه {إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ} أي اذكر حين هرب إلى السفينة المملوءة بالرجال {فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنْ الْمُدْحَضِينَ} أي فقارع أهل السفينة فكان من المغلوبين بالقرعة فألقوه في البحر، قال المفسرون: إن يونس ضاق صدراً بتكذيب قومه، فأنذرهم بعذاب قريب، وغادرهم مغضباً لأنهم كذبوه، فقاده الغضب إِلى شاطئ البحر حيث ركب سفينة مشحونة، فناوأتها الرياح والأمواج، فقال الملاحون: ههنا عبدٌ أبق من سيده، ولا بدَّ لنجاة السفينة من إلقائه في الماء لتنجو من الغرق، فاقترعوا فخرجت القُرعة على يونس فألقوه في البحر {فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ} أي فابتلعه الحوت وهو آتٍ بما يُلام عليه من تخليه عن المهمة التي أرسله الله بها، وترك قومه مغاضباً لهم، وخروجه بغير إِذنٍ من ربه {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ} أي لولا أنه كان من الذاكرين الله كثيراً في حياته {لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي لبقي في بطن الحوت إلى يوم القيامة، وأصبح بطنه قبراً له فلم ينج أبداً، ولكنه سبَّح اللهَ واستغفره وناداه وهو في بطن الحوت بقوله: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين فاستجاب الله تضرعه ونداءه {فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ} أي فألقيناه من بطن الحوت على الساحل، بالأرض الفضاء التي لا شجر فيها ولا ظل، وهو سقيم مريض مما ناله من الكرب، قال عطاء: أوحى الله تعالى إلى الحوت إني قد جعلت بطنك له سجناً، ولم أجعله لك طعاماً، فلذلك بقي سالماً لم يتغير منه شيء {وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ} أي وأنبتنا فوقه شجرة لتظله وتقيه حرَّ الشمس، وهي شجرة القرع ذات الأوراق العريضة، قال ابن جزي: وإِنما خصَّ القرع بالذكر لأنه يجمع كبر الورق، وبرد الظل، والذبابُ لا يقربه، فإِن لحم يونس لما خرج من البحر كان لا يحتمل الذباب، وكان هذا من تدبير الله ولطفه، فلما استكمل قوته وعافيته ردَّه الله إلى قومه ولهذا قال {وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} أي وأرسلناه بعد ذلك إلى قومه الذين هرب منهم وهم مائة ألفٍ بل يزيدون، قال المفسرون: كانوا مائة وعشرين ألفاً، وقيل: وسبعين ألفاً، وهم أهل نينوى بجهة الموصل، و "أو" بمعنى بل أي بل يزيدون {فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ} أي فآمنوا بعد أن شاهدوا أمارات العذاب الذي وُعدوا به فأبقيناهم ممتعين في الدنيا إلى حين انقضاء آجالهم، قال ابن جزي: روي أنهم خرجوا بالأطفال وأولاد البهائم، وفرقوا بينهم وبين الأمهات، وناحوا وتضرعوا إلى الله، فرفع الله العذاب عنهم.
الرد على مزاعم المشركين
{فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ(149)أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ(150)أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ(151)وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(152)أَصْطَفَ ى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ(153)مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ(154)أَفَلا تَذَكَّرُونَ(155)أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ(156)فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(157)وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ(158)سُبْحَا نَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ(159)إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(160)فَإِنّ َكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ(161)مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ(162)إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ(163)وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ(164)وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ(165)وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ(166)وَإِن ْ كَانُوا لَيَقُولُونَ(167)لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنْ الأوَّلِينَ(168)لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ(169)فَكَفَ رُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(170)}
سبب النزول:
نزول الآية (158):
{وجعلوا بينه ..}: أخرج جويبر عن ابن عباس قال: أنزلت هذه الآيات في ثلاثة أحياء من قريش: سُليم، وخُزاعة، وجُهَيْنة: {وجعلوا بينه وبين الجنَّة نسباً}. ونقل الواحدي عن المفسرين أنهم قالوا : إن قريشاً وأجناس العرب : جُهَيْنة وبني سلمة، وخُزاعة، وبني مُلَيح قالوا: الملائكة بنات الله.
وأخرج البيهقي في شعب الإيمان عن مجاهد قال: قال كبار قريش: الملائكة بنات الله، فقال لهم أبو بكر الصديق: فمن أمهاتهم؟ قالوا، بنات سراة الجن، فأنزل الله {ولقد علمت الجنّة إنهم لمحضرون}.
نزول الآية (165):
{وإنا لنحن ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن يزيد بن أبي مالك قال: كان الناس يصلون متبددين، فأنزل الله: {وإنا لنحن الصَّافَون} فأمرهم أن يصفوا.
ولما انتهى من الحديث عن الرسل الكرام رجع إلى الحديث عن المكذبين من كفار مكة فقال {فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمْ الْبَنُونَ}؟ أي اسأل يا محمد واستخبر كفار مكة -على سبيل التوبيخ والتقريع لهم- كيف زعموا أن الملائكة بنات الله، فجعلوا للهِ الإِناث ولأنفسهم الذكور؟ إنهم يكرهون البنات ولا يرضون نسبتهنَّ لأنفسهم، فكيف يرضونها لله عز وجل ويختصون بالبنين؟ {أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ} توبيخٌ آخر على بهتانهم واستهزاء بهم وتجهيل أي أخلقنا الملائكة الأطهار حين خلقناهم، وجعلناهم إناثاً وهم شاهدون لذلك حتى يقولوا مثل هذا البهتان؟ {أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ} أي ألا فانتبهوا أيها الناس إن هؤلاء المشركين من كذبهم وافترائهم ينسبون إلى الله الذرية والولد {وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} أي وهم كاذبون قطعاً في قولهم الملائكة بناتُ الله، قال أبو السعود: والآية استئناف مسوقٌ لإِبطال أصل مذهبهم الفاسد، ببيان أن مبناه ليس إلا الإِفك الصريح، والافتراء القبيح، من غير أن يكون لهم دليلٌ قطعاً {أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ}؟ توبيخٌ وتقريع أي هل اختار جل وعلا البناتِ وفضلهن على البنين؟ {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}؟ تسفيهٌ لهم وتجهيل أيْ أيُّ شيء حصل لكم حتى حكمتم بهذا الحكم الجائر؟ كيف يختار لنفسه أخسَّ الجنسين على زعمكم؟ {أَفَلا تَذَكَّرُونَ}؟ أي أفليس لكم تمييز وإدراك تعرفون به خطأ هذا الكلام؟ قال أبو السعود: أي أفلا تتذكرون بطلان هذا ببديهة العقل، فإِنه مركوزٌ في عقل كل ذكي وغبي {أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ} توبيخ آخر أي أم لكم برهان بيّن وحجة واضحة على أن الله اتخذ الملائكة بناتٍ له؟ {فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي فأتوا بهذا الكتاب الذي يشهد بصحة دعواكم فيما تزعمون .. والغرضُ تعجيزهم وبيان أنهم لا يستندون -في أقوالهم الباطلة- على دليل شرعي، ولا منطق عقلي .. وينتقل إلى أسطورةٍ أُخرى لفَّقها المشركون، حيث زعموا أن هناك صلة بين الله سبحانه وبين الجنِّ، وأنه من التزاوج بين الله تعالى والجِنَّة ولدت الملائكة فيقول {وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا} أي جعل المشركون بين الله وبين الجنِّ قرابة ونسباً، حيث قالوا إنه نكح من الجنِّ فولدت له الملائكة {سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علواً كبيراً} ثم زعموا أن الملائكة إناث، وأنهن بنات الله {وَلَقَدْ عَلِمَتْ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ} أي لقد علمت الشياطين أنهم محضرون في العذاب، قال الصاوي: وهذا زيادة في تبكيتهم وتكذيبهم كأنه قيل: هؤلاء الذين عظمتموهم وجعلتموهم بنات الله، أعلمُ بحالكم وما يئول إليه أمركم {سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزَّه وتقدَّس الله عما يصفه به هؤلاء الظالمون {إِلا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} استثناء منقطع أي لكنْ عباد الله المخلصين فإِنهم ينزهون الله تعالى عما يصفه به هؤلاء {فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ} أي فإِنكم أيها الكفار وكل ما تعبدونه من الأصنام والشياطين لستم بقادرين على أن تُضلوا أحداً من عباد الله، إلاَّ من قضى الله عليه الشقاوة، وقدَّر أنه يدخل النار ويصلاها، ثم ذكر تعالى اعتراف الملائكة بالعبودية لله فقال {وَمَا مِنَّا إِلا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ} أي وما منا ملك إلا له مرتبة ومنزلة ووظيفة لا يتعداها، فمنا الموكَّل بالأرزاق، ومنا الموكَّل بالآجال، ومنَّا من يتنزل بالوحي، ولكلٍ منزلته من العبادة، والتقريب، والتشريف {وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ} أي الواقفون في العبادة صفوفاً {وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ} أي المنزهون الله سبحانه عن كل ما لا يليق بعظمته وكبريائه، نسبّح الله في كل وقت وحين، قال ابن جزي: وفي هذا الكلام الذي قالته الملائكة ردٌّ على من قال إنهم بناتُ الله، وشركاء الله، لأنهم اعترفوا على أنفسهم بالعبودية والطاعة لله، والتنزيه له جل وعلا {وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنْ الأوَّلِينَ * لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ * فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} الضمير لكفار قريش و{إِنْ} هي المخففة من "إنَّ" الثقيلة أي وإِن كان الحال والشأن أن كفار مكة كانوا -قبل أن ينزل عليهم القرآن- يقولون لو نزل علينا كتاب من كتب الأولين كالتوراة والإِنجيل لكنا أعظم إِيماناً منهم، وأكثر عبادةً وإِخلاصاً للهِ منهم، فلما جاءهم القرآن كفروا به ولهذا قال {فَكَفَرُوا بِهِ} أي فكفروا وكذبوا بالقرآن أشرف الكتب السماوية {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي فسوف يرون عاقبة كفرهم بآيات الله، وهو وعيد وتهديد.
جُنْد الله هم المنصورون
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ(171)إِنَّه ُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ(172)وَإِنّ َ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ(173)فَتَوَل َّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ(174)وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ(175)أَفَبِعَذ َابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ(176)فَإِذ َا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ(177)وَتَوَل َّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ(178)وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ(179)سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ(180)وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ(181)وَالْح َمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(182)}
سبب النزول:
نزول الآية (176):
{أفبعذابنا ..}: أخرج جويبر عن ابن عباس قال: قالوا: يا محمد، أرنا العذاب الذي تخوفنا به، عجّلْه لنا، فنزلت: {أفبعذابنا يستعجلون} وهو صحيح على شرط الشيخين.
{وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ} أي سبق وعدنا وقضاؤنا للرسل الكرام {إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنصُورُونَ} أي إِنهم هم المنصورون على أعدائهم، والإِشارة إلى قوله تعالى {كتبَ اللهُ لأغلبنَّ أنا ورسلي} {وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} أي وإن جندنا المؤمنين لهم الغالبون في الدنيا والآخرة، في الدنيا بالحجة والبرهان، وفي الآخرة بدخول الجنان، قال المفسرون: نصرُ الله للمؤمنين محقق، ولا يقدح في ذلك انهزامهم في بعض المعارك، فإِن القاعدة هي بالظفر والنصرة، وإِنما يُغلبون في بعض الأحيان بسبب تقصيرٍ منهم أو ابتلاءً ومحنة {فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ} أي أعرض عنهم يا محمد إلى مدة يسيرة، إلى أن تُؤمر بقتالهم {وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} أي وأبصرهم حين ينزل بهم العذاب، فسوف يبصرون عاقبة كفرهم {أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ}؟ استفهام إنكاري للتهديد أي أيستعجلون بعذاب الله؟ روي أنه لما نزل {فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} استهزءوا وقالوا متى هذا يكون؟ فنزلت الآية ثم قال تعالى {فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنذَرِينَ} أي لا يستبعدوا ذلك فإِن العذاب إِذا نزل بفناء المكذبين فبئس هذا الصباح صباحهم، شبهه بجيشٍ هجم عليهم وقت الصباح فقطع دابرهم {وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ* وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ} كرره تأكيداً للتهديد وتسلية للرسول صلى الله عليه وسلم {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزه وتقدس ذو العزة والجبروت عما يصفه به المشركون {وَسَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وسلامٌ منا على الرسل الكرام، والحمد لله في البدء والختام لله ربّ الخلائق أجمعين. نزَّه تعالى نفسه عما وصفه به الكفار مما لا يليق به سبحانه، فإِنه حكى عنهم في هذه السورة أقوالاً كثيرة شنيعة، وختم بتعميم السلام على الرسل الكرام وبحمده سبحانه، وهو تعليم للعباد.
-
رد: تفسير القران الكريم
سورة ص
مناقشة المشركين في عقائدهم
تذكير الكفار بما نال أسلافهم من العذاب
قصة داود عليه السلام
إثبات البعث، وحال المطيعين والعاصين ، وبيان فضل القرآن
قصة سليمان عليه السلام
قصة أيوب عليه السلام
قصة إبراهيم وذريته: إسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل عليهم السلام
عقاب الطاغين الأشقياء
بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإثبات الوحدانية
قصة آدم عليه السلام
حال الداعي والدعوة والقرآن
بَين يَدَي السُّورَة
*سورة ص مكية، وهدفها نفس هدف السور المكية، التي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية.
* ابتدأت السورة الكريمة بالقسم بالقرآن - المعجز المنزَّل على النبي الأمي، المشتمل على المواعظ البليغة، والأخبار العجيبة - على أن القرآن حق ، وأن محمداً نبيٌ مرسل.
* ثم تحدثت عن الوحدانية وإنكار المشركين لها، ومبالغتهم في العجب من دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم لهم إلى توحيد الله {اجعلَ الآلهةَ إلهاً واحداً؟ إنَّ هذا لشيء عجاب}.
* وانتقلت السورة لتضرب الأمثال لكفار مكة بمن سبقهم من الطغاة المتجبرين، الذين أسرفوا بالتكذيب والضلال، وما حل بهم من العذاب والنكال، بسبب إفسادهم وإجرامهم.
* ثم تناولت قصص بعض الرسل الكرام، تسليةً للنبي عليه الصلاة والسلام عما يلقاه من كفار مكة من الاستهزاء والتكذيب، وتخفيفاً لآلامه وأحزانه، فذكرت قصة نبي الله داود، وولده سليمان، الذي جمع الله له بين النبوة والملك، وما نال كلاً منهما من الفتنة والابتلاء، ثم أعقبتها بذكر فتنة أيوب، وإسحاق ويعقوب، وإسماعيل وذا الكفل، هكذا في عرضٍ سريع لبيان سنة الله، في ابتلاء أنبيائه وأصفيائه.
* وأشارت السورة الكريمة إلى دلائل القدرة والوحدانية، في هذا الكون المنظور وما فيه من بدائع الصنعة، للتنبيه على أن هذا الكون لم يخلق عبثاً، وأنه لا بدَّ من دار ثانية يجازى فيها المحسن والمسيء.
* وختمت السورة الكريمة ببيان وظيفة الرسول ومهمته الأساسية التي هي مهمة جميع الرسل الكرام.
التسميَة:
تسمى السورة الكريمة "سورة ص" وهو حرف من حروف الهجاء للإِشادة بالكتاب المعجز الذي تحدى الله به الأولين والآخرين، وهو المنظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية.
مناقشة المشركين في عقائدهم
{ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ(1)بَلْ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ(2)كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ(3)وَعَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(4)أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ(5)وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ(6)مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ(7)أَءنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ(8)أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ(9)أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ(10)جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ(11)}
سبب النزول:
نزول الآية (5):
{أجعل الآلهة ..}: أخرج أحمد والترمذي والنسائي والحاكم وصححه عن ابن عباس قال: مرض أبو طالب، فجاءته قريش، وجاءه النبي صلى الله عليه وسلم، فشكوه إلى أبي طالب، فقال: يا ابن أخي، ما تريد من قومك؟ قال: أريد منهم كلمة، تدين لهم بها العرب، وتؤدي إليهم العجم الجزية كلمة واحدة، قال: وما هي؟ قال: لا إله إلا الله، فقالوا: إلهاً واحداً؟ إن هذا لشيء عجاب، فنزل فيهم {ص والقرآن ..} إلى قوله: {بل لَمَّا يذوقوا عذاب}.
{ص} تقدم الكلام على الحروف الهجائية، وبيّنّا أن فيها الإِشارة إلى إعجاز القرآن {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} قسمٌ أقسم به الباري جل وعلا أي والقرآن ذي الشرف الرفيع، وذي الشأن والمكانة، وجواب القسم محذوف تقديره إن هذا القرآن لمعجز وإن محمداً لصادق، قال ابن عباس: {ذِي الذِّكْرِ} أي ذي الشرف {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} أي بل الكافرون في حميةٍ وتكبرٍ عن الإِيمان، وفي خلافٍ وعداوة للرسول عليه السلام، قال البيضاوي: أي ما كفر من كفر بالقرآن لخَللٍ وجده فيه بل الذين كفروا به {فِي عِزَّةٍ} أي استكبار عن الحق {وَشِقَاقٍ} أي خلاف للهِ ولرسوله ولذلك كفروا به {كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ} أي كم أهلكنا قبل أهل مكة من أمم كثيرة من القرون الخالية، لكبرهم عن الحق ومعاداتهم لرسلهم، قال أبو السعود: والآية وعيد لأهل مكة على كفرهم واستكبارهم ببيان ما أصاب من قبلهم من المستكبرين {فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ} أي فاستغاثوا واستجاروا عند نزول العذاب طلباً للنجاة، وليس الحينُ حينَ فرار أو مهرب ونجاة، قال ابن جزي: المعنى أن القرون الذين هلكوا دعوا واستغاثوا حين لم ينفعهم ذلك، إذ ليس الحين الذي دعوا فيه حين مناص أي مفر ونجاة من ناص ينوص إذا فرَّ، ولات بمعنى ليس وأصلها لا النافية زيدت عليها علامة التأنيث {وَعَجِبُوا أَنْ جَاءهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ} أي وعجب المشركون من بعثة محمد صلى الله عليه وسلم واستبعدوا أن يبعث الله رسولاً من البشر {وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} أي وقال كفار مكة: إن محمداً ساحرٌ فيما يأتي به من المعجزات {كَذَّابٌ} أي مبالغ في الكذب في دعوى أنه رسول الله، وإِنما وضع الاسم الظاهر {الْكَافِرُونَ} مكان الضمير "وقالوا" غضباً عليهم، وذماً لهم وتسجيلاً لجريمة الكفر عليهم، فإن هذا الاتهام لا يقوله إلا المتوغلون في الكفر والفسوق {أَجَعَلَ الآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا}؟ أي أزعم أن الربَّ المعبود واحد لا إله إلا هو؟ {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} أي إنَّ هذا الذي يقوله محمد - إنّ الإِله واحد - شي بليغٌ في العجب، قال ابن كثير: أنكر المشركون ذلك -قبَّحهم الله- وتعجبوا من ترك الشرك بالله، فإنهم كانوا قد تلقَّوا عن ءابائهم عبادة الأوثان وأُشربته قلوبهم، فلما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلع الأوثان وإفراد الإِله بالوحدانية، أعظموا ذلك وتعجبوا وقالوا: {أجعل الآلهة إلهاً واحداً إن هذا لشيء عجاب} قال المفسرون: إن قريشاً اجتمعوا وقالوا لأبي طالب: كُفَّ ابنَ أخيك عنا، فإِنه يعيب ديننا، ويذم آلهتنا، ويسفِّه أحلامنا، فدعاه أبو طالب وكلَّمه في ذلك، فقال صلى الله عليه وسلم: يا عم إنما أريد منهم كلمةً واحدة، يملكون بها العجم، وتدين لهم بها العرب، فقال أبو جهل والمشركون: نعم نعطيكها وعشر كلمات معها!! فقال قولوا "لا إله إلا الله" فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم ويقولون {أجعل الآلهة إلهاً واحداً ..}؟ فنزلت الآيات {وَانطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنْ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} أي وانطلق أشراف قريش ورؤساء الضلال فيهم، وخرجوا من عند الرسول صلى الله عليه وسلم يقول بعضهم لبعض: امشوا واصبروا على عبادة آلهتكم، ولا تطيعوا محمداً فيما يدعوكم إليه من عبادة الله الواحد الأحد {إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ} أي هذا أمرٌ مدبِّر، يريد من ورائه محمد أن يصرفكم عن دين ءابائكم لتكون له العزة والسيادة عليكم، فاحذروا أن تطيعوه {مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآخِرَةِ} أي ما سمعنا بمثل هذا القول في ملة النصرانية التي هي آخر الملل، فإنهم يقولون بالتثليث لا بالتوحيد، فكيف يزعم محمد أنَّ الله واحد؟ قال ابن عباس: يعنون بالملة الآخرة دينَ النصرانية، وقال مجاهد وقتادة: يعنون دين قريش أي ليس هذا في الدين الذي أدركنا عليه ءاباءنا {إِنْ هَذَا إِلا اخْتِلاقٌ} أي ما هذا الذي يدعيه محمد إلا كذب وافتراء، ثم أنكروا اختصاصه عليه السلام بالوحي من بينهم فقالوا {أَءنزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا}؟ الاستفهام للإِنكار أي هل تنزَّل القرآن على محمد دوننا، مع أن فينا من هو أكثر منه مالاً، وأعلى رياسةً؟ قال الزمخشري: أنكروا أن يختص صلى الله عليه وسلم بالشرف من بين أشرافهم ورؤسائهم، وهذا الإِنكار ترجمة عما كانت تغلي به صدورهم من الحسد على ما أوتي من شرف النبوة من بينهم {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي} إضرابٌ عن مقدر تقديره: إنكارهم للذكر ليس عن علم بل هم في شك منه فلذلك كفروا {بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ} اضراب انتقالي وغرضه التهديد والمعنى سبب شكهم أنهم لم يذوقوا العذاب إلى الآن، ولو ذاقوه لأيقنوا بالقرآن وآمنوا به {أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ}؟ هذا ردٌّ على المشركين فيما أنكروا من اختصاص محمد صلى الله عليه وسلم بالنبوة والمعنى هل عندهم خزائن رحمته تعالى حتى يعطوا النبوة من شاءوا، ويمنعوها من شاءوا؟ قال البيضاوي: يريد أن النبوة عطيةٌ من الله يتفضل بها على من يشاء من عباده، فإنه {الْعَزِيزِ} أي الغالب الذي لا يغلب {الْوَهَّاب} أي الذي له أن يهب ما يشاء لمن يشاء {أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا}؟ أي هل لهم شيء من ملك السماوات والأرض؟ وهو إنكار وتوبيخ {فَلْيَرْتَقُوا فِي الأَسْبَابِ} أي ان كان لهم شيء من ذلك فليصعدوا في المراقي التي توصلهم إلى السماء، وليدبروا شئون الكون؟ وهو تهكم بهم واستهزاء، قال الزمخشري: تهكم بهم غاية التهكم، فقال: إن كانوا يصلحون لتدبير الخلائق، والتصرف في قسمة الرحمة، وكان عندهم من الحكمة ما يميزون بها بين من هو حقيقٌ بالنبوة من غيره، فليصعدوا في المعارج التي يتوصلون بها إلى العرش،حتى يستووا عليه ويدبروا أمر العالم، وينزلوا الوحي على من يختارون، وهو غاية التهكم بهم {جُندٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الأَحْزَابِ} التنكير للتقليل والتحقير، و{مَا} لتأكيد القلة أي ما هم إلا جندٌ من الكفار، المتحزبين على رسل الله، هم عما قليلٍ يُهزمون ويُولون الأدبار، فلا تبال بما يقولون، ولا تكترث بما يهذون.
تذكير الكفار بما نال أسلافهم من العذاب
{كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ(12)وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ(13)إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ(14)وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ(15)وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ(16)}
ثم أخبر تعالى عما نال أسلافهم الكفار من العذاب والدمار، فقال {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الأَوْتَادِ} أي كذب قبل كفار قريش أممٌ كثيرون منهم قوم نوح، وقوم هود وهم قبيلة "عاد" وفرعون الجبار ذو الملك الثابت بالأوتاد أو ذو الجموع الكثيرة، قال بعض المفسرين: سمي بذي الأوتاد لأنه كان يوتد من يريد تعذيبه بأربعة أوتادٍ في يديه ورجليه ويتركه حتى يموت وقيل: لأنه صاحب الإِهرامات والمباني العظيمة الثابتة التي تقوم في الأرض كالأوتاد {وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الأَيْكَةِ} أي وكذبت ثمود وهم قوم صالح وقوم لوط، وأصحاب الأيكة أي الشجر الكثير الملتف وهم قوم شعيب {أُوْلَئِكَ الأَحْزَابُ} أي أولئك هم الكفار الذين تحزبوا على رسلهم فأهلكهم الله، فليحذر هؤلاء المكذبون لرسول الله أن يصيبهم ما أصاب أسلافهم {إِنْ كُلٌّ إِلا كَذَّبَ الرُّسُلَ} أي ما كل من هؤلاء الأحزاب والأمم إلا كذَّب رسوله الذي أُرسل إِليه { فَحَقَّ عِقَابِ} أي فثبت ووجب عليهم عقابي، وحذفت الياء مراعاة لرؤوس الآيات {وَمَا يَنظُرُ هَؤُلاءِ إِلا صَيْحَةً وَاحِدَةً} أي وما ينتظر هؤلاء المشركون كفار مكة إلا نفخة واحدة ينفخ فيها إسرافيل في الصور فيصعقون {مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ} أي ليس لها من توقف ولا تكرار، قال ابن عباس: أي ما لها من رجوع، قال المفسرون: أي أن هذه الصيحة إذا جاءت لا تستأخر ولو فترة قصيرة مقدار فواق ناقة وهي المسافة بين الحلبتين لأنها تجيء في موعدها المحدد، الذي لا يتقدم ولا يتأخر، قال الزمخشري: يريد أنها نفخة واحدة فحسب لا تثنى ولا تردد {وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ} أي وقال كفار مكة على سبيل الاستهزاء والسخرية: عجّلْ لنا يا ربنا نصيبنا من العذاب الذي وعدته لنا، قبل أن يجيء يوم القيامة إن كان الأمر كما يقول محمد، قال المفسرون: وإِنما قالوا هذا على سبيل الاستهزاء كقوله تعالى {ويستعجلونك بالعذاب}.
قصة داود عليه السلام
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ(17)إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ(18)وَالطَّي ْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ(19)وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ(20)وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ(21)إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ(22)إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ(23)قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ(24)فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ(25)يَادَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ(26)}
{اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ} أي اصبر يا محمد على تكذيبهم فإن الله ناصرك عليهم، قال الصاوي: وفيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتهديد للكفار {وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ ذَا الأَيْدِ} أي وتذكرْ عبدنا داود ذلك النبي الشاكر الصابر، ذا القوة في الدين، والقوة في البدن، فقد كان يصوم يوماً ويفطر يوماً، وكان يقوم نصف الليل {إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي كثير الرجوع والإِنابة إلى الله، والأوَّابُ: الرجَّاع إلى الله، قال أبو حيان: لما كانت مقالة المشركين تقتضي الاستخفاف بالدين، أمر تعالى نبيه بالصبر على أذاهم، وذكر قصصاً للأنبياء "داود، وسليمان، وأيوب" وغيرهم، وما عرض لهم فصبروا حتى فرج الله عنهم، وصارت عاقبتُهم أحسن عاقبة، فكذلك أنت تصبر ويؤول أمرك إلى أحسن مآل {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ} أي سخرنا الجبال لداود تسبح معه في المساء والصباح، وتسبيحُ الجبال حقيقةٌ وكان معجزةً لداود عليه السلام كما قال تعالى {يا جبالُ أوّبي معه والطير} {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ} أي وسخرنا له الطير مجموعة إليه تسبح معه، كلٌ من الجبال والطير رجَّاع إلى طاعته تعالى بالتسبيح والتقديس، قال ابن كثير: كانت الطير تسبّح بتسبيحه وترجّع بترجيعه، إذا مرَّ به الطير وهو سابح في الهواء فسمعه يترنم بقراءة الزبور يقف في الهواء ويسبّح معه، وكذلك الجبال الشامخات كانت تُرجّع معه وتسبّح تبعاً له، قال قتادة: {أَوَّابٌ} أي مطيع {وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ} أي قوينا ملكه وثبتناه بالهيبة والنصرة وكثرة الجنود {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ} أي أعطيناه النبوَّة والفهم والإِصابة في الأمور {وَفَصْلَ الْخِطَابِ} أي الكلام البيِّن الذي يفهمه من يُخاطب به، قال مجاهد: يعني إصابة القضاء وفهمه، وقال القرطبي: البيان الفاصل بين الحق والباطل، قال المفسرون: كان مُلك داود قوياً عزيزاً، وكان يسوسه بالحكمة والحزم معاً، ويقطع ويجزم برأيٍ لا تردد فيه مع الحكمة والقوة، وذلك غاية الكمال في الحكم والسلطان {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} هذا الاستفهام للتعجيب وتشويق السامع إلى ما يلقى إليه كما تقول لجليسك: هل تعلم ما وقع اليوم؟ تريد تشويقه لسماع كلامك، والمعنى هل أتاك يا محمد خبر الجماعة المتنازعين الذي تسوَّروا على دواد مسجده في وقت اشتغاله بالعبادة والطاعة؟ {إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ} أي حين دخلوا عليه من أعلى السور فخاف وارتعد منهم، قال المفسرون: وإنما فزع داود منهم لأنهم دخلوا عليه بغير إذن، ودخلوا من غير الباب، في وقت كان قد خصصه للعبادة {قَالُوا لا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} أي لا تخف منا فنحن فوجان مختصمان تعدَّى بعضنا على بعض {فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلا تُشْطِطْ} أي فاحكم بيننا بالعدل، ولا تجر ولا تظلم في الحكم {وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ} أي وأرشدنا إلى وسط الطريق يعني إِلى الطريق الحق الواضح {إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ} هذه بداية قصة الخصمين أي قال أحدهما: إن صاحبي هذا يملك تسعة وتسعين نعجة -وهي أنثى الضأن- وأملك أنا نعجة واحدة، قال المفسرون: وقد يكنى بها عن المرأة فيكون الغرض أن عنده تسعاً وتسعين امرأةً وعندي امرأة واحدة {فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا} أي ملكنِها واجعلها تحت كفالتي {وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ} أي غلبني في الخصومة، وشدَّد عليَّ في القول وأغلظ {قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ} أي قال له داود لقد ظلمك بهذا الطلب حين أراد انتزاع نعجتك منك ليكمل ما عنده إلى مائة {وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ} أي وإن الكثيرين من الشركاء ليتعدى بعضُهم على بعض {إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} أي إلا المؤمنين الذين يعملون الصالحات فإنهم لا يبغون وهم قليل {وَظنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ} أي علم وأيقن أنما اختبرناه بهذه الحادثة وتلك الحكومة {فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} أي طلب المغفرة من الله وخرَّ ساجداً لله تعالى، ورجع إليه بالتوبة والندم على ما فرط منه، قال أبو حيان: وذكر المفسرون في هذه القصة أشياء لا تناسب مناصب الأنبياء، ضربنا عن ذكرها صفحاً، والذي يدل عليه ظاهر الآية من أن المتسورين المحراب كانوا من الإِنس، دخلوا عليه من غير المدخل وفي غير وقت جلوسه للحكم، وأنه فزع منهم ظناً منه أنهم يغتالونه إذ كان منفرداً في محرابه لعبادة ربه، فلما اتضح له أنهم جاءوا في حكومة، وبرز منهم اثنان للتحاكم كما قصَّ الله تعالى فاستغفر من ذلك الظن، وخرَّ ساجداً لله عز وجل، ونحن نعلم قطعاً أن الأنبياء معصومون من الخطايا، إذ لو جوزنا عليهم شيئاً من ذلك لبطلت الشرائع ولم نثق بشيء مما يذكرون، فما حكى الله في كتابه يُمرُّ على ما أراده الله، وما حكى القُصَّاص مما فيه غضٌ من منصب النبوة طرحناه، ثم قال تعالى {فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ} أي فسامحناه وعفونا عنه ذلك الظن السيء بالرجلين، قال ابن كثير: أي غفرنا له ما كان منه مما يقال فيه: "حسناتُ الأبرار سيئات المقربين" {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى} وإِنَّ له لقربةً وكرامة بعد المغفرة {وَحُسْنَ مَآبٍ} أي وحسنمرجع في الآخرة {يَا دَاودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} أي استخلفناك على الناس لتدبير شئونهم ومصالحهم {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} أي فاحكم بينهم بالعدل وبشريعة الله التي أنزلها عليك {وَلا تَتَّبِعْ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي لا تتَّبع هوى النفس في الحكومات وغيرها فيضلك اتباع الهوى عن دين الله القويم، وشرعه المستقيم {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي إن الذين ينحرفون عن دين الله وشرعه لهم عذاب شديد يوم القيامة {بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ} أي بسبب نسيانهم وتركهم سلوك سبيل الله، وعدم إِيمانهم بيوم الحساب، لأنهم لو آمنوا به لأعدوا الزاد ليوم المعاد، قال أبو حيان: وجعلُه تعالى داود خليفةً في الأرض يدلُ على مكانته عليه السلام واصطفائه له، ويدفع في صدر من نسب إِليه شيئاً مما لا يليق بمنصب النبوة.
إثبات البعث، وحال المطيعين والعاصين ، وبيان فضل القرآن
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ(27)أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ(28)كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا ءاياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ(29)}
{وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً} أي ما خلقنا هذا الكون البديع بما فيه من المخلوقات العجيبة عبثاً وسُدى {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي إنّ خَلْقَ الكون عبثاً لا لحكمة هو ظنُّ الكفار الفجار الذين لا يؤمنون بالبعث والنشور {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} أي فويلٌ للكفار من عذاب النار، ثم وبخهم تعالى على هذا الظنِّ السيء فقال {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الأَرْضِ}؟ أي هل نجعل المؤمنين المصلحين كالكفرة المفسدين؟ {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} أي أم نجعل الأخيار الأبرار كالأشرار الفجار؟ والغرض: أنه لا يتساوى في حكمته تعالى المحسن مع المسيء، ولا البرُّ مع الفاجر، ففي الآية استدلال على الحشر والجزاء، وفيها أيضاً وعدٌ ووعيد، قال ابن كثير: بيَّن تعالى أنه ليس من عدله وحكمته أن يساوي بين المؤمنين والكافرين، وإذا كان الأمر كذلك فلا بدَّ من جزاء يُثاب به المطيع، ويعاقب به الفاجر، وقد دلت العقول السليمة على أنه لا بدَّ من جزاء ومعاد، فإِنا نرى الظالم والباغي يزداد مالُه وولدُه ونعيمُه ويموت دون عقاب، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده، فلا بدَّ في حكمة الحكيم العليم إنصاف هذا من هذا، وإِذا لم يقع هذا في هذه الدار، فتعيَّن أن هناك داراً أُخرى لهذا الجزاء والمواساة وهي الدار الآخرة .. ثم بيَّن تعالى الغاية من نزول القرآن وهي العمل والتفكر فقال {كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ} أي هذا الكتاب الذي أنزلناه عليك يا محمد كتابٌ عظيم جليل، كثير الخيرات والمنافع الدينية والدنيوية {لِيَدَّبَّرُوا ءاياتِهِ} أي أنزلناه ليتدبروا ءاياته ويتفكروا بما فيها من الأسرار العجيبة، والحكم الجليلة {وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} أي وليتعظ بهذا القرآن أصحاب العقول السليمة، قال الحسن البصري: واللهِ ما تدبُّره بحفظ حروفه وإِضاعة حدوده، حتى إنَّ أحدهم ليقول: واللهِ لقد قرأتُ القرآن فما أسقطتُ منه حرفاً، وقد أسقطه واللهِ كلَّه، ما يُرى للقرآن عليه أثرٌ في خُلُق ولا عمل .. اللهم اجعلنا ممن قرأه وتدبَّره وعمل بما فيه.
قصة سليمان عليه السلام
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(30)إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ(31)فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ(32)رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ(33)وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ(34)قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ(35)فَسَخَّرْن َا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ(36)وَالشَّيَاطِين َ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ(37)وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ(38)هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(39)وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ(40)}
{وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ} شروعٌ في بيان قصة سليمان بن داود عليهما السلام أي رزقنا عبدنا داود بالولد الصالح المسمَّى سليمان وأعطيناه النبوة، قال المفسرون: المراد بالهبة هنا هبة النبوة كما قال تعالى {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي في النبوة، وإلا فقد كان له أولاد كثيرون غيره {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي نعم العبدُ سليمان فإِنه كان كثير الرجوع إلى الله بالتوبة والإِنابة {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ} أي اذكر حين عُرض على سليمان عشية يوم من الأيام -أي بعد العصر- الخيل الواقفة على طرف الحافر، السريعة الجري، قال الرازي: وُصفت تلك الخيل بوصفين: الأول: الصفون وهو صفة دالة على فضيلة الفرس، والثاني: الجياد وهي الشديدة الجري، والمراد وصفها بالفضيلة والكمال في حالي الوقوف والحركة، فإِذا وقفت كانت ساكنة مطمئنة في مواقفها، وإِذا جرت كانت سراعاً في جريها {فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} أي آثرت حبَّ الخيل حتى شغلتني عن ذكر الله، قال المفسرون: عُرضت عليه آلاف من الخيل تركها له أبوه، فأُجريت بين يديه عشياً فتشاغل بحسنها وجريها ومحبتها عن ذكر له خاص حتى غابت الشمس {حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ} أي حتى غابت الشمس واختفت عن الأنظار {رُدُّوهَا عَلَيَّ} أي قال سليمان ردُّوا هذه الخيل عليَّ {فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالأَعْنَاقِ} أي فشرع يذبحها ويقطع أرجلها تقرباً إلى الله، لتكون طعاماً للفقراء لأنها شغلته عن ذكر الله، قال الحسن: لما رُدَّت عليه قال: لا والله لا تشغليني عن طاعة ربي ثم أمر بها فعقرت وكذلك قال السُّدِّيُّ، وأما قول من قال: إنها شغلته عن صلاة العصر حتى غابت الشمس فضعيف، لأنه لا يتصور من نبيٍ أن يترك صلاة العصر من أجل اشتغاله بالدنيا، والنصُّ صريح {عن ذكر ربي} {وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ} هذه إشارة إلى ابتلاء آخر لسليمان ابتلي به، ثم تاب وأناب من تلك الهفوة والزلة، ولعلَّ هذه الفتنة ما روي في الصحيح عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (قال سليمان: لأطوفنَّ الليلة على سبعين امرأة، كلُّ واحدة تأتي بفارس يجاهد في سبيل الله - ولم يقل: إن شاء الله- فطاف عليهن فلم تحمل إلا امرأة واحدة جاءت بشق رجل، والذي نفسي بيده: لو قال إن شاء الله لجاهدوا في سبيل الله فرساناً أجمعون) قال ابن كثير: "وقد أورد بعضُ المفسرين آثاراً كثيرة عن جماعةٍ من السلف، وأكثرها أوكلُّها متلقاة من الإِسرائيليات، وفي كثير منها نكارة شديدة" واختار الإِمام فخر الدين الرازي أن الفتنة المذكورة في الآية الكريمة يقصد بها فتنته في جسده، حيث إن سليمان ابتلي بمرضٍ شديد نحل منه وضعف، حتى صار لشدة المرض كأنه جسد ملقى على كرسي، قال والعرب تقول في الضعيف: إنه لحم على وضم، وجسم بلا روح، ثم أناب أي رجع إلى حالة الصحة {قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لا يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي} أي اغفر لي ما صدر مني وأعطني ملكاً واسعاً لا يكون لأحدٍ غيري ليكون دلالة على نبوتي {إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} أي واسع الفضل كثير العطاء {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ} أي فذللنا الريح لطاعته إجابةً لدعوته {تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ} أي تسير بأمره لينةً طيبة حيث قصد وأراد {وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ} أي وسخرنا له الشياطين كذلك تعمل بأمره، منهم من يستخدمه لبناء الأبنية الهائلة العجيبة، ومنهم من يغوص في البحار لاستخراج اللؤلؤ والمرجان {وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ} أي وآخرين من الشياطين - وهم المردة - موثقون في الأغلال، مربوطون بالقيود والسلاسل لكفرهم وتمردهم عن طاعة سليمان {هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي وقلنا له: هذا عطاؤنا الواسع لك، فأعطِ من شئت وامنعْ من شئت، لا حساب عليك في ذلك، لأنك مطلق اليد فيما وهب الله لك من سلطة ومن نعمة {وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ} أي وإِنّ له عندنا لمكانة رفيعة في الدنيا، وحسن مرجع في الآخرة.
قصة أيوب عليه السلام
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ(41)ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ(42)وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ(43)وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ(44)}
{وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ} هذه هي القصة الثالثة في هذه السورة، والإِضافة للتشريف أي اذكر يا محمد عبدنا الصالح أيوب عليه السلام، الذي ابتلي بأنواع البلاء فصبر. {إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ} أي حين نادى ربه متضرعاً إليه قائلاً إني مسني الشيطان بتعبٍ ومشقة، وألمٍ شديد في بدني، قال المفسرون: وإِنما نسبَ ذلك إلى الشيطانتأدباً مع الله تعالى، وإِن ْكانت الأشياء كلها خيرها وشرها من الله تعالى، وكان أيوب قد أُصيب في ماله وأهله وبدنه، وبقي في البلاء ثمان عشرة سنة، وقد تقدمت قصته {ارْكُضْ بِرِجْلِكَ} أي وقلنا له اضرب برجلك الأرض فضربها فنبعت له عين ماءٍ صافية {هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ} أي وقلنا له هذا ماءٌ تغتسل به، وشراب تشرب منه، فاغتسل منها فذهب ما كان بظاهر جسده، وشرب منها فذهب كل مرضٍ كان داخل جسده، قال أبو حيان {هَذَا مُغْتَسَلٌ} أي ما يُغتسل به {وَشَرَابٌ} أي ما يشرب منه، فباغتسالك يبرأ ظاهرك، وبشربك يبرأ باطنك، والجمهور على أنه نبعت له عينان، شرب من إحداهما واغتسل من الأُخرى فشفي {وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ} أي أحيا الله من مات من أولاده ورزقه مثلهم، قال الرازي: الأقرب أن الله تعالى متعه بصحته وبماله وقوَّاه حتى كثر نسله وصار أهله ضعف ما كان وأضعاف ذلك، وعن الحسن أنه أحياهم بعد أن هلكوا، وقال أبو حيان: الجمهور على أنه تعالى أحيا له من مات من أهله، وعافى المرضى، وجمع عليه من شتت منهم {رَحْمَةً مِنَّا} أي رحمةً منَّا به لصبره وإِخلاصه {وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} أي وعبرة لذوي العقول المستنيرة، قال ابن كثير: أي وذكرى لذوي العقول ليعلموا أن عاقبة الصبر الفرج {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} أي وقلنا له خذْ بيدك حزمة من القضبان الرفيعة فاضرب بها زوجتك لتبرَّ بيمينك ولا تحنث، قال المفسرون: كان أيوب قد حلف أن يضرب امرأته مائة سوطٍ إِذا برئ من مرضه، وسبب ذلك أنها كانت تخدمه في حالة مرضه، فلما اشتد به البلاء وطالت به المدة وسوس إليها الشيطان: إلى متى تصبرين؟ فجاءت إلى أيوب وفي نفسها الضجر فقالت له: إلى متى هذا البلاء؟ فغضب من هذا الكلام وحلف إن شفاه الله ليضربنها مائة سوط، فأمره الله أن يأخذ حزمةً من قضبانٍ خفيفة فيها مئة عود ويضربها بها ضربة واحدةً ويبرَّ في يمينه، ورحمةً من الله به وبزوجه التي قامت على رعايته، وصبرت على بلائه، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله وأطاعه ولهذا قال تعالى { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا} أي ابتليناه فوجدناه صابراً على الضراء {نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} أي نعم العبد أيوب إِنه كثير الرجوع إلى الله بالتوبة والإِنابة والعبادة.
قصة إبراهيم وذريته: إسحاق ويعقوب وإسماعيل واليسع وذي الكفل عليهم السلام
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ(45)إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ(46)وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ(47)وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ(48)هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ(49)جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمْ الأَبْوَابُ(50)مُتَّكِئِي نَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ(51)وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ(52)هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ(53)إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ(54)}
{وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأَيْدِي وَالأَبْصَارِ} أي اذكر يا محمد هؤلاء الأنبياء الأخيار وتأسَّ بهم، الذين جمعوا بين القوة في العبادة، والبصائر في الدين، قال الطبري: أي أهل القوة في عبادة الله، وأهل العقول المبصرة {إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ} أي خصصناهم بخصلةٍ خالصة عظيمة الشأن، هي عدم التفاتهم إلى الدنيا وتذكرهم للدار الباقية، قال مجاهد: جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم همٌّ غيرها {وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الأَخْيَارِ} أي وهم عندنا المختارون المجتبون على سائر الناس لأنها أخيار أبرار {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الأَخْيَارِ} أي واذكر يا محمد هؤلاء الرسل أيضاً وكلٌّ من خيرة الله فاقتد بهم في الصبر وتحمل الأذى في سبيل الله {هَذَا ذِكْرٌ} أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد من سيرة الرسل الكرام ذكرٌ جميلٌ لهم في الدنيا، وشرفٌ يذكرون به أبداً {وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ} أي وإِن لكل متقٍ لله مطيع لرسله لحسن مرجع ومنقلب، ثم فسره بقوله {جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمْ الأَبْوَابُ} أي جنات إقامة في دار الخلد والنعيم قد فتحت لهم أبوابها انتظاراً لقدومهم، قال الرازي: إن الملائكة الموكلين بالجنان إذا رأوا المؤمنين فتحوا لهم أبوابها، وحيوهم بالسلام، فيدخلون كذلك محفوفين بالملائكة على أعزِّ حال، وأجمل هيئة {مُتَّكِئِينَ فِيهَا} أي متكئين في الجنة على الأرائك وهي السرر الوثيرة { يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ} أي وهم متكئون على الأسرَّة يطلبون أنواع الفواكه، وألوان الشراب كعادة الملوك في الدنيا، قال ابن كثير: أي مهما طلبوا وجدوا، ومن أي أنواعه شاءوا أتتهم به الخدام، قال الصاوي: والاقتصار على دعاء الفاكهة للإِيذان بأن مطاعمهم لمحض التفكه والتلذذ دون التغذي لأنه لا جوع في الجنة {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} أي وعندهم الحور العين اللواتي لا ينظرن إلى غير أزواجهن أتراب أي في سنٍّ واحدة {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَاب} أي هذا جزاؤكم الذي وعدتم به في الدنيا {إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ} أي هذا النعيم عطاؤنا لأهل الجنة لا زوال له ولا انقطاع ولا انتهاء أبداً، قال في الظلال: يبدأ هذا المشهد بمنظرين متقابلين تمام التقابل في المجموع والأجزاء، وفي السِّمات والهيئات: منظر المتقين لهم {حسن مآب} ومنظر الطاغين لهم {شر مآب} فأما الأولون فلهم جنات عدن مفتحةً لهم الأبواب، ولهم فيها راحة الاتكاء، ومتعة الطعام والشراب، ولهم كذلك متعة الحوريات الشواب، وهنَّ مع شبابهن {قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ} لا يتطلعن ولا يمددن بأبصارهن، وكلهن شواب أتراب، وهو متاع دائم، ورزق من عند الله ما له من نفاد.
عقاب الطاغين الأشقياء
{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ(55)جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ(56)هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ(57)وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ(58)هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ(59)قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ(60)قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ(61)وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ(62)أَتَّخَذْن َاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ(63)إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ(64)}
{هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} {هَذَا} خبرٌ لمبتدأ محذوف تقديره الأمرُ هذا وهي بمنزلة أما بعد، ثم قال {وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} أي وإِنَّ للكافرين الذين كذبوا الرسل، لشرَّ منقلب يصيرون إليه في الآخرة ثم فسَّر هذا المصير بقوله {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ} أي جهنم يذوقونها ويصلون سعيرها، وبئست جهنم فراشاً ومهاداً لهم، قال ابن جزي: لما تمَّ ذكر أهل الجنة ختمه بقوله {هَذَا} ثم ابتدأ بذكر وصف أهل النار، وعنى بالطاغين الكفار {هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ} أي هذا هو العذاب الأليم فليذوقوه وهو الحميم أي الماء الحار المحرق، والغسَّاق وهو ما يسيل من صديد أهل النار، قال الطبري: في الآية تقديم وتأخير أي هذا حميم وغساق فليذوقوه، والحميمُ الذي أُغلي حتى انتهى حره، والغسَّاق ما يسيل من جلودهم من الصديد والدم {وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ} أي وعذابٌ آخر من مثل هذا العذاب المذكور كالزمهرير، والسموم، وأكل الزقوم لهم منه أنواع وأصناف .. ثم حكى ما يقال للرؤساء الطاغين إذا دخلوا النار فقال {هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَبًا بِهِمْ} أي تقول لهم خزنة جهنم: هذا جمع كثيف قد اقتحم معكم النار، ودخلوها بصحبتكم كما اقتحموا معكم في الجهل والضلال، لا أهلاً ولا مرحباً بهم {إِنَّهُمْ صَالُوا النَّارِ} أي إِنهم ذائقو النار، وداخلوها كما دخلتموها أنتم، قال الرازي: والاقتحامُ ركوبُ الشدة والدخولُ فيها، وهذا من كلام خزنة جهنم لرؤساء الكفرة عن أتباعهم، والعرب تقول لمن يدعون له: مرحباً أي أتيتَ رحباً في البلاد لا ضيِّقاً، ثم يدخلون عليها كلمة "لا" في دعاء السوء {قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} أي قال الأتباع للرؤساء الطغاة الذين أضلوهم بل أنتم لا أهلاً بكم ولا مرحباً، قال المفسرون: عندما يدخل الأتباع جهنم تتلقاهم الرؤساء بقولهم {لا مَرْحَبًا بِكُمْ } أي لا تلقون هنا رحباً ولا خيراً -وهذه تحية أهل النار- كما قال تعالى {كلما دخلت أمةٌ لعنت أختها} فعند ذلك يقول لهم الداخلون {بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَبًا بِكُمْ} وهذا على قول القائل "تحيةُ بينهم ضربٌ وجيع" فكذلك أهل النار يتلقون بعضهم باللعنات والشتائم بدل التحيات والسلام، ثم يعلِّل الأتباع ذلك بقولهم {أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ} أي أنتم قدمتم لنا هذا العذاب وكنتم السبب في ضلالنا، فبئس المنزل والمستقر لنا ولكم نار جهنم {قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ} هذا أيضاً من كلام الأتباع دعوا الله أن يضاعف العذاب لرؤسائهم الذين أوجبوا لهم العذاب فهو كقولهم {ربنا هؤلاء أضلونا فآتهم عذاباً ضعفاً في النار} والضعفُ زيادة المثل، قال البيضاوي: وقال الأتباع أيضاً {ربنا من قدّم لنا هذا فزده عذاباً ضعفاً} أي مضاعفاً وذلك أن يزيد على عذابه مثله فيصير ضعفين {وَقَالُوا مَا لَنَا لا نَرَى رِجَالاًكُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الأَشْرَارِ}؟ أي وقال الطغاة من رؤساء الكفر وأئمة الضلال: ما لنا لا نرى في النار هؤلاء الذين كنا نعدُّهم في الدنيا من الأشرار؟ يعنون بهم المؤمنين، قال ابن عباس: يريدون أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يقول أبو جهل: أين بلال، أي صهيب، أين عمار؟ أولئك في الفردوس! واعجباً لأبي جهل! مسكين، أسلم ابنه عكرمة، وابنته جويرية، وأسلمت أُمه، وأسلم أخوه وكفر هو، قال ابن كثير: هذا إِخبار عن الكفار في النار، أنهم يفتقدون رجالاً كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة وهم المؤمنون، يقول أبو جهل: ما لي لا أرى بلالاً وعماراً وصهيباً وفلاناً وفلاناً؟ وهذا ضربُ مثل وإلا فكل الكفار هذا حالهم، يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار، فلما دخلها الكفار افتقدوهم فلم يجدوهم، ثم قالوا {أتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأَبْصَارُ}؟ أي يؤنبون أنفسهم قائلين: أجعلنا هؤلاء المؤمنين في الدنيا هزءاً وسخرية؟ أم هم معنا في النار ولكن لا نراهم؟ قال البيضاوي: إنكار على أنفسهم وتأنيبٌ لها في الاستسخار من المؤمنين، كأنهم قالوا: ليسوا ههنا في النار؟ أما مالت عنهم أبصارنا فلا نراهم؟ قال تعالى {إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ} أي إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أقوال أهل النار وتخاصمهم، لهو الحقُّ الذي لابدَّ أن يتكلموا به، فنحن نخبرك عن تخاصمهم في جهنم، وعن أقوالهم وهم فيها، قال الرازي: وإِنما سمَّى الله تعالى تلك الكلمات تخاصماً لأن قول الرؤساء {لا مرحباً بهم} وقول الأتباع {بل أنتم لا مرحباً بكم} من باب الخصومة.
بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإثبات الوحدانية
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(65)رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ(66)قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ(67)أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ(68)مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ(69)إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ(70)}
{قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنذِرٌ} هذا شروع في بيان مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم وفي إثبات الوحدانية، والمعاد والجزاء، أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: إِنما أنا رسولٌ من رب العالمين، أُنذركم وأخوفكم من عذابه إن لم تؤمنوا، ولستُ بساحرٍ ولا شاعر ولا كاهن {وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أي وليس لكم ربٌ ولا معبود إلا الواحد الأحد، الغالب على خلقه، القاهر لكل شيء {رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي خالق جميع ما في الكون من الخلائق والعجائب، والمتصرف فيها بالإِيجاد والإِعدام {الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} أي الغالب على أمره الذي لا يُغلب، المبالغ في المغفرة لمن شاء من العباد، قال الرازي: لما ذكر أنه {قهار} وهذا مشعر بالترهيب والتخويف، أردفه بما يدل على الرجاء والترغيب وذكر ثلاث صفات دالة على الرحمة، والفضل والكرم وهي: "الرب، العزيز، الغفار" فكونه رباً مشعر بالتربية والإِحسان، وكونه عزيزاً مشعرٌ بأنه قادر على كل شيء ولا يعجزه شيء، وكونه غفاراً مشعر بالترغيب وأنه يرجى فضله وثوابه، فلو بقي الإِنسان على الكفر سبعين سنة، ثم تاب فإِن الله سبحانه يغفر له برحمته جميع ذنوبه، ويمحو اسمه من ديوان المذنبين، ويوصله إلى درجات الأبرار {قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ} أي قل لهم يا محمد: إن هذا القرآن الذي جئتكم به هو نبأ هام وأمر عظيم الشأن، أنتم عنه غافلون لا تلتفتون إليه ولا تعلمون قدره {مَا كَانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلإِ الأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ} أي من أين لي العلم باختلاف الملائكة في شأن خلق آدم لولا الوحي المنزل عليَّ؟ قال ابن جزي: والقصدُ الاحتجاج على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أخبر بأمور لم يكن يعلمها قبل ذلك، والإِشارة إلى اختصام الملائكة هو ما جاء في قصة آدم حين قال تعالى لهم {إني جاعل في الأرض خليفة} حسبما تضمنته قصته في مواضع من القرآن {إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ} أي ما يوحى إليَّ إلا لأني رسولٌ مرسل إليكم لأنذركم عذاب الله، ومعنى النذير المنذر المخوّف من عذاب الله.
قصة آدم عليه السلام
{إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ(71)فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ(72)فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ(73)إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ(74)قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ(75)قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ(76)قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ(77)وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ(78)قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ(79)قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ(80)إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ(81)قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ(82)إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ(83)قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ(84)لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ(85)}
ثم شرع تعالى في ذكر قصة آدم فقال {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ} أي اذكر حين أعلم ربك الملائكة أنه سيخلق إِنساناً من طين وهو آدم عليه السلام {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ} أي فإِذا أتممتُ خلقه ونفخت فيه الروح فاسجدوا إكراماً له وإِعظاماً، قال القرطبي: وهذا سجود تحية لا سجود عبادة {فَسَجَدَ الْمَلائكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} أي فسجد جميع الملائكة خضوعاً له وتعظيماً لأمر الله بالسجود له {إِلا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي لكن إبليس استكبر عن طاعة الله وأبى السجود لآدم فصار من الكافرين، قال ابن كثير: امتثل الملائكة كلهم سوى إبليس، ولم يكن منهم جنساً كان من الجن، فخانه طبعه وجبلته فاستنكف عن السجود لآدم، وخاصم ربه عز وجل فيه، وادعى أنه خيرٌ من آدم، فكفر بذلك وطرده الله عن باب رحمته، ومحل أنسه، وحضرة قدسه {قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}؟ أي قال له ربه: ما الذي صرفك وصدَّك عن السجود لمن خلقته بذاتي من غير واسطة أب وأُم؟ قال القرطبي: أضاف خلقه إلى نفسه تكريماً لآدم وإِن كان خالق كل شيء، كما أضاف إلى نفسه الروح، والبيت، والناقة، والمساجد، فخاطب الناس بما يعرفونه {أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْعَالِينَ}؟ أي استكبرتَ الآن عن السجود أم كنت قديماً من المتكبرين على ربك؟ وهذا على جهة التوبيخ له لاستنكافه عن السجود {قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ} أي قال اللعينُ أنا خير من آدم وأشرف وأفضل {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} أي لأنني مخلوق من النار، وآدم مخلوق من الطين، والنار خيرٌ من الطين، فكيف يسجد الفاضل للمفضول؟ {قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ} أي اخرج من الجنة فإِنك لعين مطرود من كل خيرٍ وكرامة {وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ} أي وأنت مبعدٌ عن رحمتي إلى يوم الجزاء والعقوبة ثم تلقى ما هو أفظع وأشنع من اللعنة {قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} أي أخرني وأمهلني إلى اليوم الذي تبعث فيه الخلائق من القبور، قال أبو السعود: أراد بذلك أن يجد فسحةً لإِغوائهم، ويأخذ منهم ثأره، وينجو من الموت بالكلية إذ لا موتَ بعد البعث فأجابه الله بأنه مؤخر إلى وقت النفخة الأولى لا إلى وقت البعث الذي طلبه {قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ * إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ} أي إِنك من الممهلين إلى وقت النفخة الأولى حيث يموت الناس وتنتهي مهمتك {قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلا عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِين} أي قال اللعين: أُقسم بعزتك لأُضلنَّ بني آدم أجمعين، إلا الذين أخلصتهم لعبادتك وعصمتهم مني {قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ} أي قال تعالى أقسم بالحقِّ ولا أقول إلا الحقَّ لأملأن جهنم منك ومن أتباعك، قال السُّدي: هو قسم أقسم الله به، وجملة "والحقَّ أقول" اعتراضية لتأكيد القسم.
حال الداعي والدعوة والقرآن
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ(86)إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ(87)وَلَتَع ْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ(88)}
{قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} أي قل لهم يا محمد: لا أسألكم على تبليغ الرسالة أجراً، ولست من الذين يتصنعون ويتحيلون حتى انتحل النبوة وأتقوَّل القرآن {إِنْ هُوَ إِلا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} أي ما هذا القرآن إلا عظة وذكرى للإِنس والجن والعقلاء {وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ} أي ولتعلمنَّ خبره وصدقه عن قريب، وهذا وعيدٌ وتهديد، قال الحسن البصري: يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين.
-
رد: تفسير القران الكريم
سورة الزُّمَر
تنزيل القرآن، والأمر بإخلاص العبادة لله
دلائل قدرته ووحدانيته وعظمته سبحانه وتعالى
حال المؤمن والكافر، لا يستويان؟
نصائح للمؤمنين ووعيد لعبدة الأصنام
إنزال الماء وإنبات الزرع
الهداية للإسلام
ضرب الأمثال للتذكير، وعربية القرآن
وعيد للمشركين ووعد للمؤمنين
تزييف طريقة عبدة الأوثان
مظاهر القدرة والعلم له عز وجل
تضرع الإنسان عند الشدة وجحوده عند النعمة
سعة مغفرة الله بغفرانه الذنوب وقبوله التوبة
حال المكذبين والمتقين يوم القيامة
دلائل الألوهية والتوحيد
نفختا الصور وأهوال الآخرة
مآل الأشقياء والسعداء
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة الزمر مكية، وقد تحدثت عن "عقيدة التوحيد" بالإِسهاب، حتى لتكاد تكون هي المحور الرئيسي للسورة الكريمة لأنها أصل الإِيمان، وأساس العقيدة السليمة، ومنبع كل عمل صالح.
* ابتدأت السورة بالحديث عن القرآن "المعجزة الكبرى" الدائمة الخالدة لمحمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وأمرت الرسول صلى الله عليه وسلم بإِخلاص الدين لله، وتنزيهه جل وعلا عن مشابهة المخلوقين، وذكرت شبهة المشركين في عبادتهم للأوثان واتخاذهم شفعاء، وردَّت على ذلك بالدليل القاطع.
* ثم ذكرت الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين، في إبداعه لخلق السماوات والأرض، وفي ظاهرة الليل والنهار، وفي تسييره للشموس والأقمار، وفي خلق الإِنسان في أطوار في ظلمات الأرحام، وكلُّها براهين ساطعة على قدرة الله ووحدانيته.
* وتناولت السورة موضوع العقيدة بوضوح وجلاء، وكشفت عن مشهد الخسران المبين للكفرة المجرمين في دار الجزاء، حيث يذوقون ألوان العذاب، وتغشاهم ظلل من النار من فوقهم ومن تحتهم.
* وذكرت السورة مثلاً يوضّح الفارق الكبير بين من يعبد إلهاً واحداً، ومن يعبد آلهةً متعددة لا تسمع ولا تستجيب، وهو مثلٌ للعبد الذي يملكه شركاء متخاصمون، والعبد الذي يملكه سيد واحد، ثم ذكرت حالة المشركين النفسية عندما يسمعون توحيد الله تنقبض قلوبهم، وإِذا سمعوا ذكر الطواغيت هشُّوا وبشُّوا.
* ثم جاءت الآيات طريَّة نديَّة تدعو العباد إلى الإِنابة لربهم، والرجوع إليه، قبل أن يداهمهم الموت بغتة، أو يفاجئهم العذاب من حيث لا يشعرون، وحينئذٍ يتوبون ويندمون في وقتٍ لا تنفع فيه توبة ولا ندم.
* وختمت السورة الكريمة بذكر نفخة الصعق، ثم نفخة البعث والنشور، وما يعقبهما من أهوال الآخرة وشدائدها، وتحدثت عن يوم الحشر الأكبر، حيث يساق المتقون الأبرار إلى الجنة زمراً، ويساق المجرمون الأشرار إلى جهنم زمراً، في مشهد هائل يحضره الأنبياء والصديقون والشهداء الأبرار، والوجود كله يتجه إلى ربه بالحمد والثناء في خشوع واستسلام.
التسميَــة:
سميت "سورة الزمر" لأن الله تعالى ذكر فيها زمرة السعداء من أهل الجنة، وزمرة الأشقياء من أهل النار، أولئك مع الإِجلال والإِكرام، وهؤلاء مع الهوان والصغار.
* * *
تنزيل القرآن، والأمر بإخلاص العبادة لله
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ(1)إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(2)أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ(3)لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ(4)}
سبب النزول:
نزول الآية (3):
{وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا}: أخرج جويبر عن ابن عباس في هذه الآية قال: أنزلت في ثلاثة أحياء: عامر وكنانة وبني سلمة، كانوا يعبدون الأوثان، ويقولون: الملائكة بناته، فقالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
{تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} أي هذا القرآن مُنَزَّلٌ من الله جل وعلا {الْعَزِيزِ} أي القادر الذي لا يُغلب {الْحَكِيمِ} أي الذي يفعل كل شيء بحكمةٍ وتقدير وتدبير {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ} أي نحن أنزلنا عليك يا محمد القرآن العظيم متضمناً الحق الذي لا مرية فيه، والصدق الذي لا يشوبه باطل أو هزل {فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} أي فاعبد الله وحده مخلصاً له في عبادتك، ولا تقصد بعملك ونيتك غير ربك {أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ} أي ألا فانتبهوا أيها الناس: إن الله تعالى لا يقبل إلا ما كان خالصاً لوجهه الكريم لأنه المتفرد بصفات الألوهية، المطَّلع على السرائر والضمائر، ومعنى "الخالص" الصافي من شوائب الشرك والرياء {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} أي وهؤلاء المشركون الذين عبدوا من دونه الأوثان يقولون {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} أي ما نعبد هذه الآلهة والأصنام إلا ليقربونا إلى الله قربى ويشفعوا لنا عنده، قال الصاوي: كان المشركون إذا قيل لهم: من خلقكم؟ ومن خلق السماواتِ والأرض؟ ومن ربكم ورب آبائكم الأولين؟ فيقولون: الله، فيقال لهم: فما معنى عبادتكم الأصنام؟ فيقولون: لتقربنا إلى الله زلفى وتشفع لنا عنده {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي يحكم بين الخلائق يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، فيدخل المؤمنين الجنة، والكافرين النار {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ} أي لا يوفق للهدى، ولا يرشد للدين الحق من كان كاذباً على ربه، مبالغاً في كفره، وفي الآية إشارة إلى كذبهم في تلك الدعوى {لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا} أي لو شاء الله اتخاذ ولد على سبيل الفرض والتقدير {لاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي لاختار من مخلوقاته ما يشاء ولداً على سبيل التبني - إذ يستحيل أن يكون ذلك في حقه تعالى بطريق التوالد المعروف - ولكنه لم يشأ ذلك لقوله {وما ينبغي للرحمن أن يتخذ ولداً} وقوله {مما يخلق} أي من المخلوقات التي أنشأها واخترعها {سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ} أي تنزه جل وعلا وتقدس عن الشريك والولد، لأنه هو الإِله الواحد الأحد، المنزَّه عن النظير والمثيل، القاهر لعباده بعظمته وجلاله، قال في التسهيل: نزَّه تعالى نفسه من اتخاذ الولد، ثم وصف نفسه بالواحد لأن الوحدانية تنافي اتخاذ الولد، لأنه لو كان له ولدٌ لكان من جنسه ولا جنس له لأنه واحد، ووصف نفسه بالقهار ليدل على نفي الشركاء والأنداد، لأن كل شيء مقهور تحت قهره تعالى، فكيف يكون شريكاً له.
دلائل قدرته ووحدانيته وعظمته سبحانه وتعالى
{خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ(5)خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنْ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ(6)إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(7)}
ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته وعظمته، فقال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ} أي خلقهما على أكمل الوجوه وأبدع الصفات، بالحق الواضح والبرهان الساطع {يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ} أي يغشي الليل على النهار، ويغشي النهار على الليل، وكأنه يلفُّ عليه لفَّ اللباس على اللابس، قال القرطبي: وتكويرُ الليل على النهار تغشيتُه إياه حتى يُذهب ضوءه، ويغشي النهار على الليل فيذهب ظلمته وهذا منقول عن قتادة وهو معنى قوله تعالى : يُغشي الليلَ النهار يطلبه حثيثاً {وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ} أي دلَّلهما لمصالح العباد {كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمًّى} أي كلٌ منهما يسير إلى مدة معلومة عند الله تعالى، ثم ينقضي يوم القيامة حين تكور الشمس وتنكدر النجوم {أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ} أي هو جل وعلا كامل القدرة لا يغلبه شيء، عظيم الرحمة والمغفرة والإِحسان، قال الصاوي: صُدِّرت الجملة بحرف التنبيه "ألا" للدلالة على كمال الاعتناء بمضمونها كأنه قال: تنبهوا يا عبادي فإِني أنا الغالب على أمري، الستَّار لذنوب خلقي فأخلصوا عبادتكم ولا تشركوا بي أحداً {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} أي خلقكم أيها الناس من نفسٍ واحدة هي آدم، وهذا من جملة أدلة وحدانيته، وانفراده بالعزة والقهر، وجميع صفات الألوهية {ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا} أي ثم خلق من آدم حواء ليحصل التجانس والتناسل، قال الطبري: المعنى: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ} يعني آدم {ثم خلق منها زوجها} يعني حواء خلقها من ضلعٍ من أضلاعه {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ} أي وأوجد لكم من الأنعام المأكولةوهي - الإِبل، والبقر، والغنم، والمعز، ثمانية أزواج من كل نوعٍ ذكراً وأنثى، قال قتادة: من الإِبل اثنين، ومن البقر اثنين، ومن الضأن اثنين، ومن المعز اثنين، كلُّ واحدٍ زوج، وسميت أزواجاً لأن الذكر زوج الأنثى، والأنثى زوج الذكر، قال المفسرون: والإِنزالُ عبارةٌ عن نزول أمره وقضائه {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ} أي يخلقكم في بطون أمهاتكم أطواراً، فإِن الإِنسان يكون نطفة، ثم علقة، ثم مضغة إلى أن يتم خلقه، ثم ينفخ فيه الروح فيصير خلقاً آخر {فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاثٍ} هي البطن، والرحم، والمشيمة وهو -الكيس الذي يغلّفُ الجنين- {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أي ذلكم الخالق المبدع المصوّر هو الله ربُّ العالمين، ربكم وربُّ ءابائكم الأولين {لَهُ الْمُلْكُ} أي له الملك والتصرف التام، في الإِيجاد والإِعدام {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود بحقٍ إلا الله ولا ربَّ لكم سواه {فَأَنَّى تُصْرَفُونَ}؟ أي فكيف تنصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره ؟ ثم بعد أن ذكَّرهم بآياته ونعمه، حذَّرهم من الكفر والجحود لفضله وإِحسانه فقال {إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ} أي إن تكفروا أبها الناس بعدما شاهدتم من آثار قدرته وفنون نعمائه، فإِن الله مستغنٍ عنكم وعن إيمانكم وشكركم وعبادتكم {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} أي لا يرضى الكفر لأحدٍ من البشر، قال الرازي: أشار تعالى إلى أنه وإِن كان لا ينفعه إيمان، ولا يضره كفران، إلا أنه يرضى بالكفر بمعنى أنه لا يمدح صاحبه ولا يثيبه عليه وإِن كان واقعاً بمشيئته وقضائه {وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ} أي وإِن تشكروا ربكم يرضى هذا الشكر منكم، لأجلكم ومنفعتكم لا لانتفاعه بطاعتكم، قال أبو السعود: عدم رضائه بكفر عباده لأجل منفعتهم ودفع مضرَّتهم، رحمة بهم لا لتضرره تعالى بذلك، ورضاه بشكرهم لأجلهم ومنفعتهم لأنه سبب فوزهم بسعادة الدارين، ولهذا فرَّق بين اللفظين فقال: "ولا يرضى لعباده الكفر" وقال هنا: "يرضه لكم" لأن المراد بالأول تعميم الحكم ثم تعليله بكونهم عباده {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} أي ولا تحمل نفسٌ ذنب نفس أخرى، بل كلٌ يؤاخذ بذنبه {ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ} أي ثم مرجعكم ومصيركم إليه تعالى {فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي فيحاسبكم ويجازيكم على أعمالكم {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي يعلم ما تكنه السرائر وتخفيه الضمائر، وفيه تهديدٌ وبشارة للمطيع.
حال المؤمن والكافر، لا يستويان ؟
{وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ(8)أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ(9)}
{وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرّ} أي وإِذا أصاب الإِنسان الكافر شدة من فقر ومرضٍ وبلاء {دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ} أي تضرع إلى ربه في إزالة تلك الشدة، مقبلاً إليه مخبتاً مطيعاً {ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} أي ثم إذا أعطاه نعمةً منه وفرَّج عنه كربته {نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ} أي نسي الضر الذي كان يدعو ربه لكشفه وتمرَّد وطغى {وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ} أي وجعل لله شركاء في العبادة ليصد عن دين الله وطاعته {قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً} أمرٌ للتهديد أي تمتع بهذه الحياة الدنيا الفانية، وتلذَّذ فيها وأنت على كفرك، عمراً قليلاً وزمناً يسيراً {إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ} أي فمصيرك إلى نار جهنم، وأنت من المخلدين فيها {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا} استفهام حذف جوابه لدلالة الكلام عليه أي أم من هو مطيع عابد في ساعات الليل يتعبد ربه في صلاته ساجداً وقائماً كمن أشرك بالله وجعل له أنداداً؟ قال القرطبي: بيَّن تعالى أن المؤمن ليس كالكافر الذي مضى ذكره {يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ} أي حال كونه خائفاً من عذاب الآخرة، راجياً رحمة ربه وهل الجنة، هل يستوي هذا المؤمن التقي مع ذلك الكافر الفاجر؟ لا يستويان عند الله، ثم ضرب مثلاً فقال {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}؟ أي هل يتساوى العالم والجاهل؟ فكما لا يستوي هذان كذلك لا يستوي المطيع والعاصي {إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} أي إنما يعتبر ويتعظ أصحاب العقول السليمة، قال الإِمام فخر الدين الرازي: واعلم أن هذه الآية دالة على أسرار عجيبة، فأولها أنه بدأ فيها بذكر العمل، وختم فيها بذكر العلم، أما العمل فهو القنوت، والسجود، والقيام، وأما العلم ففي قوله {هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ}؟ وهذا يدل على أن كمال الإِنسان محصورٌ في هذين المقصودين، فالعمل هو البداية، والعلم والمكاشفة هو النهاية، وفي الكلام حذف تقديره أمَّنْ هو قانتٌ كغيره؟ وإِنما حسن هذا الحذف لدلالة الكلام عليه، لأنه تعالى ذكر قبل هذه الآية الكافر، ثم مثَّل بالذين يعلمون، وفيه تنبيه عظيم على فضيلة العلم.
نصائح للمؤمنين ووعيد لعبدة الأصنام
{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ(10)قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ(11)وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ(12)قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ(13)قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي(14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ(15)لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ(16)وَالَّذِين َ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمْ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ(17)الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ(18) أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ(19)لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ(20}
سبب النزول:
نزول الآية (17 - 18):
{فَبَشِّرْ عِبَادِ}: أخرج جويبر عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت {لها سبعة أبواب} الآية، أتى رجل من الأنصار النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنَّ لي سبعة مماليك، وإني قد أعتقت لكل باب منها مملوكة، فنزلت فيه الآية: {فَبَشِّرْ عِبَادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }.
نزول الآية (17):
{وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ}: أخرج ابن أبي حاتم عن زيد بن أسلم أن هذه الآية نزلت في ثلاثة نفر، كانوا في الجاهلية يقولون: {لا إله إلا الله}: زيد بن عمرو بن نفيل، وأبي ذر الغفاري، وسلمان الفارسي.
{قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ} أي قل يا محمد لعبادي المؤمنين يجمعوا بين الإِيمان وتقوى الله وهي البعدُ عن محارم الله، قال المفسرون: نزلت في جعفر بن أبي طالب وأصحابه حين عزموا على الهجرة إلى أرض الحبشة والغرضُ منها التأنيس لهم والتنشيط إلى الهجرة ومعنى التقوى: امتثال الأوامر، واجتناب النواهي، وكأن العبد بذلك يجعل بينه وبين النار وقاية {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} أي لمن أحسن العمل في هذه الدنيا حسنة عظيمة في الآخرة وهي الجنة دار الأبرار {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} أي وأرض الله فسيحة فهاجروا من دار الكفر إلى دار الإِيمان، ولا تقيموا في أرضٍ لا تتمكنون فيها من إقامة شعائر الله {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي إنما يعطى الصابرون جزاءهم بغير حصر، وبدون عدد أو وزن، قال الأوزاعي: ليس يوزن لهم ولا يكال إنما يغرف غرفاً {قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ} أي قل يا محمد أُمرت بإِخلاص العبادة لله وحده لا شريك له، قال المفسرون: وإِنما خص الله تعالى الرسول بهذا الأمر لينبه على أنَّ غيره بذلك أحق فهو كالترغيب للغير {وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ} أي وأُمرت أيضاً أن أكون أولَ المسلمين من هذه الأمة، قال القرطبي: وكذلك كان، فإِنه أول من خالف دين ءابائه وخلع الأصنام وحطمها، وأسلم وجهه لله وآمن به ودعا إليه {قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ} أي وأخاف إِن عصيت أمره أن يعذبني يوم القيامة بنار جهنم، قال الصاوي: والمقصود منها زجر الغير عن المعاصي، لأنه صلى الله عليه وسلم إذا كان خائفاً مع كمال طهارته وعصمته فغيره أولى، وذلك سنة الأنبياء والصالحين حيث يخبرون غيرهم بما اتصفوا به ليكونوا مثلهم {قُلْ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي} أي قل لهم يا محمد لا أعبد إلا الله وحده، مخلصاً له طاعتي وعبادتي من كل شائبة، وليس هذا بتكرار لأن الأول إخبار بأنهصلى الله عليه وسلم مأمور بالعبادة، والثاني إخبار بخوفه من عذاب الله إن عصى أمره، والثالث إخبار بامتثاله الأمر مع إفادة الحصر كأنه يقول: أعبد الله ولا أعبد أحداً سواه {فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ} صيغة أمر على جهة التهديد والوعيد أي اعبدوا ما شئتم من دون الله من الأوثان والأصنام فسوف ترون عاقبة كفركم كقوله {اعملوا ما شئتم} {قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي حقيقة الخسران الذين خسروا أنفسهم وأهليهم، حيث صاروا إلى نار مؤبدة يصلون سعيرها يوم القيامة، فهؤلاء هم الخاسرون كل الخسران، قال ابن عباس: إنَّ لكل رجلٍ منزلاً وأهلاً وخدماً في الجنة، فإِن أطاع اللهَ أُعطي ذلك، وإِن كان من أهل النار حُرم ذلك، فخسر نفسه وأهله ومنزله {أَلا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي ألا فانتبهوا أيها القوم ذلك هو الخسرانُ الواضح الذي ليس بعده خسرانٌ! قال أبو حيان: بالغ في بيان الخسران بأداة التنبيه "ألاَ" وبالإِشارة إليه "ذلك" وتأكيده بأداة الحصر "هو" وتعريفه بأل ووصفه بأنه بيّن {الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} أي الواضح لمن تأمله أدنى تأمل، ثم لما ذكر خسرانهم في الدنيا ذكر حالهم ومآلهم في الآخرة فقال {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ} أي تغشاهم نار جهنم من فوقهم ومن تحتهم، وتحيط بهم من جميع جوانبهم، ومعنى الظلل أطباقٌ من نار جهنم، وتسميتها ظُللاً تهكمٌ بهم، لأنها محرقة والظلةُ تقي من الحر {ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ} أي ذلك العذاب الشديد الفظيع، إِنما يقصه تعالى ليخوف به عباده، لينزجروا عن المحارم والمآثم {يَاعِبَادِ فَاتَّقُونِ} أي يا أوليائي خافوا عذابي ولا تتعرضوا لما يوجب سخطي، قال الزمخشري: وهذه عظة من الله تعالى لعباده ونصيحة بالغة .. والحكمة من ذكر أحوال النار تخويف المؤمنين منها ليتقوها بطاعة ربهم {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا} لما ذكر وعيد عبدة الأوثان، ذكر وعد أهل الفضل والإِحسان، ممن احترز عن الشرك والعصيان، ليكون الوعد مقروناً بالوعيد، فيحصل كمال الترغيب والترهيب، والمعنى: والذين انتهوا عن عبادة الأوثان وطاعة الشيطان، وتباعدوا عنها كل البعد، قال أبو السعود: "الطاغوت" البالغ أقصى غاية الطغيان كالرحموت والعظموت، والمراد به الشيطان وصف به للمبالغة {وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ} أي رجعوا إلى طاعة الله وعبادته {لَهُمْ الْبُشْرَى} أي لهم البشرى السارة من الله تعالى بالفوز العظيم بجنات النعيم {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} أي فبشِّر عبادي المتقين الذين يستمعون الحديث والكلام فيتبعون أحسن ما فيه، قال ابن عباس: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح، فيتحدث بالحسن وينكف عن القبيح فلا يتحدث به .. وهذا ثناء من الله تعالى عليهم بنفوذ بصائرهم، وتمييزهم الأحسن من الكلام، فإِذا سمعوا قولاً تبصَّروه وعملوا بما فيه، وأحسنُ الكلام كلام الله وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم وإِنما وضع الظاهر {فَبَشِّرْ عِبَادِ} بدل الضمير {فبشرهم} تشريفاً لهم وتكريماً بالإِضافة إليه سبحانه {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمْ اللَّهُ} أي أولئك المتصفون بتلك الصفات الجليلة هم الذين هداهم الله لما يرضاه، ووفقهم لنيل رضاه {وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الأَلْبَابِ} أي وأولئك هم أصحاب العقول السليمة، والفطر المستقيمة {أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ} أي أفمن وجبت له الشقاوة من الله تعالى، وجوابه محذوفٌ دلَّ عليه ما بعده أي هل تقدر على هدايته؟ لا، ثم قال تعالى {أَفَأَنْتَ تُنقِذُ مَنْ فِي النَّارِ}؟ أي هل تستطيع يا محمد أن تنقذ من هو في الضلال والهلاك؟ قال القرطبي: كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرص على إِيمان قومه وقد سبقت لهم من الله الشقاوة فنزلت الآية، وقال ابن عباس: يريد "أبا لهب" وولده ومن تخلَّف من عشيرة النبي صلى الله عليه وسلم عن الإِيمان، وكرر الاستفهام "أفأنت" تأكيداً لطول الكلام والمعنى: أفمن حقَّ عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذه؟ {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ} أي لكنْ المؤمنون الأبرار، المتقون للهِ في الدنيا، المتمسكون بشريعته وطاعته {لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ} أي لهم في الجنة درجات عالية وقصورٌ شاهقة بعضها فوق بعض مبنية من زبرجدٍ وياقوت {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي تجري من تحت قصورها وأشجارها أنهار الجنة من غير أخدود {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} أي وعدهم الله بذلك وعداً مؤكداً لا يمكن أن يتخلف لأنه وعد العزيز القدير.
إنزال الماء وإنبات الزرع
{أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ(21)}
{ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أي ألم تر أيها الإِنسان العاقل أنَّ الله بقدرته أنزل المطر من السحاب {فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأَرْضِ} أي أدخله مسالك وعيوناً في الأرض وأجراه فيها، قال المفسرون: وهذا دليلٌ على أن ماء العيون من المطر، تحبسه الأرض ثم ينبع شيئاً فشيئاً، قال ابن عباس: ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء، ولكنْ عروق في الأرض تغيِّره { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ
زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي ثم يُخرج بهذا الماء النازل من السماء والنابع من الأرض أنواع الزروع، المختلفة الأشكال والألوان، من أحمر وأبيض وأصفر، والمختلفة الأصناف من قمح وأرز وعدس وغير ذلك، قال البيضاوي: {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ} أي أصنافه من بر وشعير وغيرهما، أو كيفياته من خضرة وحمرة وغيرهما { ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا} أي ثم ييبس فتراه بعد خضرته مصفراً { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا} أي ثم يصبح فتاتاً وهشيماً متكسراً {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ} أي إِنَّ فيما ذُكر لعظة وعبرة، ودلالةً على قدرة الله ووحدانيته لذوي العقول المستنيرة .. والآية فيها تمثيلٌ لحياة الإِنسان بالحياة الدنيا، فمهما طال عمر الإِنسان فلا بدَّ من الانتهاء، إلى أن يصير مصفر اللون، متحطم الأعضاء، متكسراً كالزرع بعد نضرته، ثم تكون عاقبته الموت، قال ابن كثير: هكذا الدنيا تكون خضرة ناضرة حسناء، ثم تعود عجوزاً شوهاء، وكذلك الشاب يعود شيخاً هرماً، كبيراً ضعيفاً، وبعد ذلك كله الموت، فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير.
الهداية للإسلام
{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(22)اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(23)أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَاكُنْتُمْ تَكْسِبُونَ(24)كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ(25)فَأَذَاقَه ُمْ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ(26)}
سبب النزول:
نزول الآية (23):
{اللَّهُ نَزَّلَ}: روى الحاكم وغيره عن سعد بن أبي وقاص قال: نزل على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فتلاه عليهم زماناً، فقالوا: يا رسول الله، لو حدثتنا؟ فنزل: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}. وعن ابن عباس: أن قوماً من الصحابة قالوا: يا رسول الله، حَدّثنا بأحاديث حسان وبأخبار الدهر، فنزل: { اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ}.
{ أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلإِسْلامِ} أي وسَّع صدره للإِسلام، واستضاء قلبه بنوره حتى ثبت ورسخ فيه { فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أي فهو على بصيرة ويقين من أمر دينه، وعلى هدىً من ربه بتنوير الحق في قلبه، وفي الآية محذوفٌ دلَّ عليه سياق الكلام تقديره كمن هو أعمى القلب، معرضٌ عن الإِسلام؟ قال الطبري: وتُرك الجوابُ اجتزاءً بمعرفة السامعين وبدلالة ما بعده وتقديره: كمن أقسى اللهُ قلبه وأخلاه من ذكره حتى ضاق عن استماع الحق، واتباع الهدى؟ {فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي فويلٌ للذين لا تلين قلوبهم ولا تخشع عند ذكر الله، بـ "ذكر الله" القرآن الذي أنزله الله تذكرة لعباده {أُوْلَئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي أولئك الذين قست قلوبهم في بعدٍ عن الحق ظاهر .. ولما بيَّن تعالى ذلك أردفه بما يدل على أنَّ القرآن سبب لحصول النور والهداية والشفاء فقال {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} أي اللهُ نزَّل القرآن العظيم أحسن الكلام، قال أبو حيان: والابتداءُ باسم "اللهُ" وإِسناد "نزَّل" لضميره، وفيه تفخيمٌ للمُنزل، ورفعٌ من قدره كما تقول: الملكُ أكرم فلاناً، فإِنه أفخم من أكرم الملك فلاناً، وحكمةُ ذلك البداءةُ بالأشرف {كِتَابًا مُتَشَابِهًا} أي قرآناً متشابهاً يشبه بعضه بعضاً في الفصاحة، والبلاغة، والتناسب، بدون تعارضٍ ولا تناقض {مَثَانِيَ} أي تُثنَّى وتكرر فيه المواعظ والأحكام، والحلال والحرام، وتُردَّد فيه القصص والأخبار دون سأم أو ملل قال الطبري: تُثنَّى – أي تكرر – فيه الأنباء والأخبار والقضاء والأحكام والحجج {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ} أي تعتري هؤلاء المؤمنين خشيةٌ، وتأخذهم قشعريرة عند تلاوة ءايات القرآن، هيبةً من الرحمن وإِجلالاً لكلامه { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} أي تطمئن وتسكن قلوبهم وجلودهم إلى ذكر الله، قال المفسرون: إنهم عند سماع ءايات الرحمة والإِحسان تلين جلودهم وقلوبهم وقال العارفون: إِذا نظروا إلى عالم الجلال طاشوا، وإِن لاح لهم أثرٌ من عالم الجمال عاشوا، قال ابن كثير: هذه صفة الأبرار عند سماع كلام الجبار، إِذا قرءوا ءايات الوعد والوعيد، والتخويف والتهديد، تقشعر جلودهم من الخشية والخوف وإِذا قرءوا ءايات الرحمة لانت جلودهم وقلوبهم، لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ} أي ذلك القرآن الذي تلك صفتُه هو هدى الله يهدي به من شاء من خلقه {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي ومن يخذلْه اللهُ فيجعل قلبه قاسياً مظلماً، فليس له مرشدٌ ولا هاد بعد الله {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي فمن يجعل وجهه وقاية من عذاب جهنم الشديد، وخبره محذوف تقديره كمن هو آمنٌ من العذاب؟ قال المفسرون: الوجه أشرف الأعضاء فإِذا وقع الإِنسان في شيء من المخاوف فإِنه يجعل يده وقاية لوجهه، وأيدي الكفار مغلولة يوم القيامة، فإِذا ألقوا في النار لم يجدوا شيئاً يتقونها به إلا وجوههم {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} أي وتقول خزنة جهنم للكافرين: ذوقوا وبال ما كنتم تكسبونه في الدنيا من الكفر والمعاصي {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمْ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ} أي كذَّب من قبلهم من الأمم السالفة فأتاهم العذاب من جهةٍ لا تخطر ببالهم {فَأَذَاقَهُمْ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي فأذاقهم الله الذُلَّ والصغار والهوان في الدنيا {وَلَعذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ} أي ولعذاب الآخرة الذي أُعدَّ لهم أعظم بكثير من عذاب الدنيا {لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} أي لو كان عندهم علمٌ وفهم ما كذبوا.
ضرب الأمثال للتذكير، وعربية القرآن
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ(27)قُرآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ(28)ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ(29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ(30)ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ(31)}
{وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أي ولقد بينا ووضحنا للناس في هذا القرآن من كل الأمثال النافعة، والأخبار الواضحة ما يحتاجون إليه {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} أي لعلهم يتعظون ويعتبرون بتلك الأمثال والزواجر {قُرآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} أي حال كونه قرآناً عربياً لا اختلاف فيه بوجه من الوجوه، ولا تعارض ولا تناقض {لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} أي لكي يتقوا الله ويجتنبوا محارمه .. ثم ذكر تعالى مثلاً لمن يشرك بالله ولمن يوحِّده فقال {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ} أي ضرب الله لكم أيها الناس هذا المثل: رجلٌ من المماليك اشترك فيه ملاكٌ سيئو الأخلاق، بينهم اختلاف وتنازع، يتجاذبونه في حوائجهم، هذا يأمره بأمرٍ وذاك يأمره بمخالفته، وهو متحيِّر موزّع القلب، لا يدري مَنْ يرضي؟ {وَرَجُلاً سَلَمًا لِرَجُلٍ} هذا من تتمة المثل أي ورجلاً آخر لا يملكه إلا شخص واحد، حسن الأخلاق، فهو عبد مملوك لسيد واحد، يخدمه بإِخلاص ويتفانى في خدمته، ولا يلقى من سيده إلا إِحساناً {هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً} أي هل يستوي هذا وهذا في حسن الحال، وراحة البال؟ فكذلك لا يتساوى المؤمن الموحِّد مع المشرك الذي يعبد آلهة شتى. قال ابن عباس: هذه الآية ضربت مثلاً للمشرك والمخلص، وقال الرازي: وهذا مثلٌ ضُرب في غاية الحُسن في تقبيح الشرك، وتحسين التوحيد {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} لما كان المثل بيناً واضحاً في غاية الجلاء والوضوح ختم به الآية والمعنى: الحمد لله على إقامة الحجة عليهم بل أكثر هؤلاء المشركين لا يعلمون الحق فهم لفرط جهلهم يشركون بالله {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} أي إنك يا محمد ستموت كما يموت هؤلاء، ولا يخلَّد أحد في هذه الدار {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} أي ثم تجتمعون عند الله في الدار الآخرة، وتختصمون فيما بينكم من المظالم وأمر الدنيا والدين ويفصل بينكم أحكم الحاكمين.
وعيد للمشركين ووعد للمؤمنين
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ(32)وَالَّذ ِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ(33)لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ(34)لِيُكَف ِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(35)أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(36)وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ(37)}
سبب النزول:
نزول الآية (36):
{وَيُخَوِّفُونَكَ}: أخرج عبد الرازق عن معمر: قال لي رجل: قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: لتكُفَّنَّ عن شتم آلهتنا أو لنأمرنها فلتُخبِّلنَّك، فنزلت: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}.
{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} الاستفهام إِنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله بنسبة الشريك له والولد {وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ} أي وكذَّب بالقرآن والشريعة وقت مجيئه من غير تدبر ولا تأمل؟ أي لا أحد أظلم ممن حاله ذلك، فإِنه أظلم من كل ظالم {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ}؟ أي أليس في جهنم مقام ومأوى لهؤلاء الكافرين المكذبين؟ والاستفهام هنا تقريري أي بلى لهم مأوى ومكان {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} أي وأما الذين جاءوا بالصدق وهم الأنبياء، والذين صدَّقوا به وهم المؤمنون أتباعُ الرسل {أُوْلَئِكَ هُمْ الْمُتَّقُونَ} أي فأولئك الموصوفون بالصفات الحميدة هم أهل التقوى والصلاح الذين يستحقون كل إحسان وإكرام {لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي لهم كل ما يشتهون في الجنة من الحور، والقصور، والملاذِّ، والنعيم {ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ} أي ذلك الذي ينالونه هو ثواب كل محسن، أحسن في هذه الحياة، قال بعض المفسرين: "الذي جاء بالصدق" هو محمد صلى الله عليه وسلم "وصدَّق به" هو أبو بكر رضي الله عنه، والاختيارُ أن يكون على العموم حتى يشترك في هذه الصفة كل الرسل الكرام، وكل من دعا إلى هذا الصدق عن عقيدة وإِيمان من أتباع الرسل، ويدل عليه {أُولئك هم المتقون} بصيغة الجمع، وهذا اختيار ابن عطية {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} أي هؤلاء الذين صدَّقوا الأنبياء سيغفر الله لهم ما أسلفوا من الأعمال السيئة فلا يعاقبهم بها {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ويثيبهم على طاعاتهم في الدنيا بحساب الأحسن الذي عملوه فضلاً منه وكرماً، قال المفسرون: العدلُ أن تُحسب الحسنات وتُحسب السيئات، ثم يكون الجزاء، والفضلُ هو الذي يتجلى به الله على عباده المتقين، فيكفر عنهم أسوأ أعمالهم، فلا يبقى لها حساب في ميزانهم، وأن يجزيهم أجرهم بحساب أحسن الأعمال، فتزيد حسناتُهم وتعلو وترجّح كفة الميزان، وهذا من زيادة الكرم والإِحسان {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}؟ الهمزة للتقرير أي أليس الله كافياً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم من شر من يريده بسوء؟ قال أبو السعود: هذه تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما قالت له قريش: لتكفن عن شتم آلهتنا، أو ليصبنك منها خبل أو جنون، وقال أبو حيان: قالت قريش: لئن لم ينته محمد عن سبِّ آلهتنا وتعييبنا لنسلِّطنها عليه فتصيبه بخبَل وتعتريه بسوء، فأنزل الله {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} أي هو كافٍ عبده، وإضافته إليه تشريفٌ عظيمٌ لنبيّه {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} أي ويخوفونك يا محمد بهذه الأوثان التي لا تضر ولا تنفع {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي ومن أشقاه الله وأضلَّه فلن يهديه أحدٌ كائناً من كان {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ} أي ومن أراد الله سعادته فهداه إلى الحق، ووفقه لسلوك طريق المهتدين، فلن يقدر أحدٌ على إضلاله {أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ}؟ أي هو تعالى منيع الجناب لا يُضام من لجأ إلى بابه، وهو القادر على أن ينتقم من أعدائه لأوليائه، لأنه غالب لا يُغلب، ذو انتقام من أعدائه، وفي الآية وعيدٌ للمشركين، ووعد للمؤمنين.
تزييف طريقة عبدة الأوثان
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ(38)قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ(39)مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ(40)}
سبب النزول:
نزول الآية (38):
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ }: روي عن مقاتل أن النبي صلى الله عليه وسلم سألهم، فسكتوا، فنزل ذلك. وقال غيره: قالوا: لا تدفع شيئاً قدّره الله، ولكنها تشفع، فنزلت.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} هذه الآية إقامة برهان على تزييف طريقة عبدة الأوثان أي ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين عمَّن خلق السماوات والأرضَ ليقولُنَّ اللهُ خالقهما، لوضوح الدليل على تفرده تعالى بالخالقية قال الرازي: إنَّ العلم بوجود الإِله القادر الحكيم، لا نزاع فيه بين جمهور الخلائق، وفطرةُ العقل شاهدةٌ بصحة هذا العلم، فإِنَّ من تأمل في عجائب أحوال السماوات والأرض، وفي عجائب أحوال النبات والحيوان وفي عجائب بدن الإِنسان وما فيه من أنواع الحِكَم الغريبة، والمصالح العجيبة، علم أنه لا بدَّ من الاعتراف بالإِله القادر الحكيم الرحيم، ولهذا أقر المشركون بوجود الله {قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي قل لهم يا محمد توبيخاً وتبكيتاً: أخبروني - بعد أن تحققتم أن خالق العالم هو الله- عن هذه الآلهة التي تعبدونها من دون الله {إِنْ أَرَادَنِي اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ}؟ أخبروني لو أراد الله أن يصيبني بشدة أو بلاء، هل تستطيع هذه الأصنام أن تدفع عني ذلك السوء والضُّرَّ؟ {أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ}؟ أي ولو أراد الله بي نفعاً من نعمة ورخاء هل تستطيع أن تمنع عني هذه الرحمة؟ والجواب محذوفٌ لدلالة الكلام عليه يعني فسيقولون: لا، لا تكشف السوء، ولا تمنع الرحمة {قُلْ حَسْبِي اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ} أي الله كافيني فلا ألتفت إلى غيره، وعليه وحده يعتمد المعتمدون، والغرضُ الاحتجاجُ على المشركين في عبادة ما لا يضرُّ ولا ينفع، وإِقامة البرهان على الوحدانية {قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ} أي اعملوا على طريقتكم من المكر والكيد والخداع {إِنِّي عَامِلٌ} أي إني عاملٌ على طريقتي، من الدعوة إلى الله وإظهار دينه {فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ} أي فسوف تعلمون لمن سيكون العذاب الذي يذل ويخزي الإِنسان {وَيَحِلُّ علَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ} أي وينزل عليه عذاب دائمٌ لا ينقطع وهو عذاب النار، هل هذا العذاب سيصيبني أو يصيبكم؟ والغرض التهديد والتخويف، قال أبو السعود: وفي الآية مبالغة في الوعيد، وإِشعارٌ بأن حاله عليه السلام لا تزال تزداد قوةً بنصر الله وتأييده، وفي خزي أعدائه دليل غلبته عليه الصلاة والسلام، وقد عذبهم الله وأخزاهم يوم بدر.
مظاهر القدرة والعلم له عز وجل
{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنْ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(41)اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ(42)أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ(43)قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(44)وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ(45)قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ(46)وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ(47)وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون(48)}
{إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ} أي نحن أنزلنا عليك يا محمد هذا القرآن المعجز في بيانه، الساطع في برهانه، لجميع الخلق، بالحقِّ الواضح الذي لا يلتبس به الباطل {فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا} أي فمن اهتدى فنفعه يعود عليه، ومن ضلَّ فضرر ضلاله لا يعود إلا عليه {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي لستَ بموكَّل عليهم حتى تجبرهم على الإِيمان، قال الصاوي: وفي هذا تسلية له صلى الله عليه وسلم والمعنى: ليس هداهم بيدك حتى تقهرهم وتجبرهم عليه، وإِنما هو بيدنا، فإِن شئنا هديناهم وإِن شئنا أبقيناهم على ما هم عليه من الضلال {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} أي يقبضها من الأبدان عند فناء آجالها وهي الوفاة الكبرى {وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا} أي ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها وهي الوفاة الصغرى، قال في التسهيل: هذه الآية للاعتبار ومعناها أن الله يتوفى النفوس على وجهين: أحدهما: وفاة كاملة حقيقية وهي الموت، والآخر: وفاة النوم لأن النائم كالميت، في كونه لا يُبصر ولا يسمع، ومنه قوله تعالى {وهو الذي يتوفاكم بالليل} وفي الآية عطف والتقدير: ويتوفى الأنفس التي لم تمت في منامها، وقال ابن كثير: أخبر تعالى بأنه المتصرف في الوجود كما يشاء، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى، بما يرسل من الحفظة - الملائكة - الذين يقبضونها من الأبدان، والوفاة الصغرى عند المنام {فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ} أي فيمسك الروح التي قضى على صاحبها الموتَ فلا يردها إلى البدن {وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي ويرسل الأنفس النائمة إلى بدنها عند اليقظة إلى وقت محدود، هو أجل موتها الحقيقي، قال ابن عباس: إنَّ أرواح الأحياء والأموات تلتقي في المنام، فتتعارف ما شاء الله لها، فإِذا أرادت الرجوع إلى أجسادها، أمسك الله أرواح الأموات عنده، وأرسل أرواح الأحياء إلى أجسادها، قال القرطبي: وفي الآية تنبيه على عظيم قدرته تعالى، وانفراده بالألوهية، وأنه يحيي ويميت، ويفعل ما يشاء، لا يقدر على ذلك سواه، ولهذا قال {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ} أي إن في هذه الأفعال العجيبة لعلامات واضحة قاطعة، على كمال قدرة الله وعلمه، لقومٍ يجيلون أفكارهم فيها فيعتبرون {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ} أمْ للإِضراب أي لم يتفكروا بل اتخذوا لهم شفعاء من الأوثان والأصنام، فانظر إلى فرط جهالتهم حيث اتخذوا من لا يملك شيئاً أصلاً شفعاء لهم عند الله، قال ابن كثير: هذا ذمٌ للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله -وهي الأصنام- والأوثان التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم، بلا دليل ولا برهان، وهي لا تملك شيئاً من الأمر، وليس لها عقل تعقل به، ولا سمعٌ تسمع به، ولا بصرٌ تبصر به، بل هي جمادات أسوأ حالاً بكثير من الحيوانات {قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلا يَعْقِلُونَ} الاستفهام توبيخي أي قل لهم يا محمد: أتتخذونهم شفعاء ولو كانوا على هذه الصفة جمادات لا تقدر على شيء، ولا عقل لها ولا شعور؟ {قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا} أي قل لهم : الشفاعة للهِ وحده، لا يملكها أحدٌ إلا الله تعالى، ولا يستطيع أحد أن يشفع إلا بإِذنه {لَهُ مُلْكُ السَّماوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو المتصرف في المُلك والملكوت، قال البيضاوي: أي هو تعالى مالك المُلكِ كله، لا يملك أحدٌ أن يتكلم في أمره دون إذنه ورضاه {ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي ثم مصيركم إليه يوم القيامة، فيحكم بينكم بعدله، ويجازي كلاً بعمله .. ثم ذكر تعالى نوعاً آخر من أفعالهم القبيحة فقال {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ} أي وإِذا أُفرد الله بالذكر، ولم يذكر معه آلهتهم وقيل أمام المشركين: لا إِله إلا اللهُ {اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ} أي نفرت وانقبضت من شدة الكراهة قلوب هؤلاء المشركين {وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} أي وإِذا ذكرت الأوثان والأصنام إِذا هم يفرحون ويُسرون، قال الإِمام فخر الدين الرازي: هذا نوع آخر من قبائح المشركين، فإِنك إِذا ذكرتَ الله وحده وقلت: لا إِله إلا الله وحده لا شريك له، ظهرتْ آثار النفرة من وجوههم وقلوبهم، وإِذا ذكرتَ الأصنام والأوثان ظهرت آثار الفرح والبشارة في قلوبهم وصدورهم، وذلك يدل على الجهل والحماقة، لأن ذكر الله رأس السعادات وعنوان الخيرات، وذكر الأصنام الجمادات رأسُ الجهالات والحماقات، فنفرتُهم عن ذكر الله، واستبشارهم بذكر الأصنام، من أقوى الدلائل على الجهل الغليظ، والحُمق الشديد {قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي قل يا الله يا خالق ومبدع السماوات والأرض {عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} أي يا عالم السرِّ والعلانية، يا من لا تخفى عليه خافية، مما هو غائب عن الأعين أو مشاهد بالأبصار {أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي أنت تفصل بين الخلائق بعدلك وقضائك، فافصل بيني وبين هؤلاء المشركين، قال أبو حيّان: لما أخبر عن سخافة عقولهم باشمئزازهم من ذكر الله، واستبشارهم بذكر الأصنام أمر رسوله أن يدعوه بأسمائه العظمى من القدرة والعلم ليفصل بينه وبين أعدائه، وفي ذلك وعيد للمشركين وتسلية للرسول عليه الصلاة والسلام، وقال الصاوي: أي التجئْ إلى ربك بالدعاء والتضرع فإِنه القادر على كل شيء {وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي ولو أنَّ لهؤلاء المشركين الذين ظلموا أنفسهم بتكذيب القرآن والرسول {مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ} أي لو ملكوا كل ما في الأرض من أموال، وملكوا مثل ذلك معه {لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي لجعلوا كل ما لديهم من أموال وذخائر، فديةً لأنفسهم من ذلك العقاب الشديد يوم القيامة {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} أي وظهر لهم من أنواع العقوبات ما لم يكن في حسابهم، قال أبو السعود: وهذه غايةٌ من الوعيد لا غاية وراءها، ونظيرها في الوعد {فلا تعلم نفسٌ ما أُخفي لهم من قُرَّة أعين} {وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي وظهر لهم في ذلك اليوم المفزع سيئات أعمالهم التي اكتسبوها {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءون} أي وأحاط ونزل بهم من كل الجوانب جزاء ما كانوا يستهزئون به، قال ابن كثير: أي أحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدنيا.
تضرع الإنسان عند الشدة وجحوده عند النعمة
{فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ(49)قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ(51)أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ(52)}.
{فَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا} أي فإِذا أصاب هذا الإِنسان الكافر شيءٌ من الشدة والبلاء، تضرَّع إلى الله وأناب إليه {ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا} أي ثم إذا أعطيناه نعمة منا تفضلاً عليه وكرماً {قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ} أي قال ذلك الإِنسان الكافر الجاحد إِنما أعطيته على علمٍ مني بوجوه المكاسب والمتاجر {بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ} أي ليس الأمر كما زعم بل هي اختبارٌ وامتحانٌ له، لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي؟ {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون أن إعطاءهم المال اختبار وابتلاء فلذلك يبطرون {قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} أي قال تلك الكلمة والمقالة الكفار قبلهم كقارون وغيره حيث قال {إنما اُوتيتُه على علمٍ عندي} {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي فما نفعهم ما جمعوه من الأموال، ولا ما كسبوه من الحُطام {فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي فنالهم جزاء أعمالهم السيئة {وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلاءِ} أي والذين ظلموا من هؤلاء المشركين - كفار قريش - {سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا} أي سينالهم جزاء أعمالهم القبيحة كما أصاب أولئك، قال البيضاوي: وقد أصابهم ذلك فإِنهم قد قُحطوا سبع سنين حتى أكلوا الجيف وقُتل ببدرٍ صناديدهم {وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ} أي وليسوا بفائتين من عذابها، لا يعجزوننا هرباً ولا يفوتوننا طلباً .. ثم ردَّ عليهم زعمهم فيما أوتوا من المال وسعة الحال فقال {أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ}؟ أي أولم يعلم هؤلاء المشركون أن الله يوسِّع الرزق على قوم، ويضيّقه على آخرين؟ فليس أمر الرزق تابعاً لذكاء الإِنسان أو غبائه، إِنما هو تابعٌ للقسمة والحكمة {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} أي إِن في الذي ذكر لعبراً وحججاً لقوم يصدِّقون بآيات الله، قال القرطبي: وخصَّ المؤمن بالذكر، لأنه هو الذي يتدبر الآيات وينتفع بها، ويعلم أن سعة الرزق قد يكون استدراجاً، وأن تقتيره قد يكون إعظاماً.
سعة مغفرة الله بغفرانه الذنوب وقبوله التوبة
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(53)وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ(54)وَاتَّبِعُ وا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ(55)أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ(56)أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ(57)أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ(58)بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ(59)
{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ} أخبر يا محمد عبادي المؤمنين الذين أفرطوا في الجناية على أنفسهم بالمعاصي والآثام {لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} أي لا تيأسوا من مغفرة الله ورحمته {إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا} أي إنه تعالى يعفو عن جميع الذنوب لمن شاء، وإِن كانت مثل زبد البحر {إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي عظيم المغفرة واسع الرحمة، وظاهر الآية أنها دعوة للمؤمنين إلى عدم اليأس من رحمة الله لقوله {قُلْ يَا عِبَادِي} وقال ابن كثير: هي دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإِنابة، وإِخبارٌ بأن الله يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها مهما كثرت {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ} أي ارجعوا إلى الله واستسلموا له بالطاعة والخضوع والعمل الصالح {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ} من قبل حلول نقمته تعالى بكم {ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ } أي ثم لا تجدون من يمنعكم من عذابه {وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ} أي اتبعوا القرآن العظيم، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، والزموا أحسن كتاب أنزل إليكم فيه سعادتكم وفلاحكم {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} أي من قبل أن ينزل بكم العذاب فجأة وأنتم غافلون، لا تدرون بمجيئه لتتداركوا وتتأهبوا {أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ} أي لئلا تقول بعض النفوس التي أسرفت في العصيان {يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ} أي يا حسرتي وندامتي على تفريطي وتقصيري في طاعة الله وفي حقه، قال مجاهد: يا حسرتا على ما ضيعت من أمر الله {وَإِنْ كُنْتُ لَمِنْ السَّاخِرِينَ} أي وإِنَّ الحال والشأن أنني كنت من المستهزئين بشريعة الله ودينه، قال قتادة: لم يكفه أن ضيَّع طاعة الله حتى سخر من أهلها {أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} "أو" للتنويع أ ي يقول الكافر والفاجر هذا أو هذا، والمعنى لو أن الله هداني لاهتديت إلى الحق، وأطعت الله، وكنت من عباده الصالحين، قال ابن كثير: يتحسر المجرم ويودُّ لو كان من المحسنين المخلصين، المطيعين لله عزَّ وجل {أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} أي أو تقول تلك النفس الفاجرة حين مشاهدتها العذاب لو أنَّ لي رجعةً إلى الدنيا لأعمل بطاعة الله، وأُحسن سيرتي وعملي {بَلَى قَدْ جَاءتْكَ ءاياتِي} هو جواب قوله {لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي} والمعنى بلى قد جاءك الهدى من الله بإِرساله الرسل، وإِنزاله الكتب {فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ} أي فكذبت بالآيات، وتكبرت عن الإِيمان، وكنت من الجاحدين، قال الصاوي: إن الكافر أولاً يتحسر، ثم يحتج بحجج واهية، ثم يتمنى الرجوع إلى الدنيا، ولو رُدَّ لعاد إلى ضلاله كما قال تعالى {ولو رُدُّوا لعادوا لما نهوا عنه وإِنهم لكاذبون}.
حال المكذبين والمتقين يوم القيامة
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ(60)وَي ُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ(61)}
{وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} أي ويوم القيامة ترى أيها المخاطب الذين كذبوا على الله بنسبة الشريك له والولد وجوههم سوداء مظلمة بكذبهم وافترائهم {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ} استفهام تقريري أي أليس في جهنم مقام ومأوى للمستكبرين عن الإِيمان، وعن طاعة الرحمن؟ بلى إنَّ لهم منزلاً ومأوى في دار الجحيم .. ولما ذكر حال الكاذبين على الله، ذكر حال المتقين لله فقال {وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوا بِمَفَازَتِهِمْ} أي وينجي الله المتقين بسبب سعادتهم وفوزهم بمطلوبهم وهو الجنة دار الأبرار {لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} أي لا ينالهم هلعٌ ولا جزع، ولا هم يحزنون في الآخرة، بل هم آمنون {في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر}.
دلائل الألوهية والتوحيد
{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ(62)لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ(63)قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ(64)وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ(65)بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ(66)وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ(67)}
سبب النزول:
نزول الآية (64):
{قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ...}؟: أخرج البيهقي في الدلائل عن الحسن البصري قال: قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: أتضلل ءاباءك وأجدادك يا محمد؟ فأنزل الله:{ قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ} إلى قوله:{من الشاكرين}. وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم، ويعبدوا معه إلهه، فنزلت: {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ..} الآية.
نزول الآية (67):
{وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ}: أخرج الترمذي وصححه عن ابن عباس قال: مرّ يهودي بالنبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تقول يا أبا القاسم إذا وضع الله السماوات على ذه- أي على إصبع -، والأرضين على ذه - أي على إصبع -، والماء على ذه - أي على إصبع -، والجبال على ذه - أي على إصبع -، فأنزل الله: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} الآية.
ثم عاد إلى دلائل الألوهية والتوحيد، بعد أن أفاض في الوعد والوعيد فقال {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي الله جل وعلا خالق جميع الأشياء وموجد جميع المخلوقات، والمتصرف فيها كيف يشاء، لا إله غيره ولا ربَّ سواه {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} أي هو القائم بتدبير كل شيء {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي بيده جل وعلا مفاتيح خزائن كل الأشياء، لا يملك أمرها ولا يتصرف فيها غيره، قال ابن عباس: "مقاليد" مفاتيح، وقال السدي: خزائن السماواتِ والأرض بيده {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ} أي والذين كذَّبوا بآيات القرآن الظاهرة، والمعجزات الباهرة، أولئك هم الخاسرون أشدَّ الخسران {قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونَي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ}؟ أي قل يا محمد أتأمرونني أن أعبد غير الله بعد سطوع الآيات والدلائل على وحدانيته يا أيها الجاهلون؟ قال ابن كثير: إن المشركين من جهلهم دعوا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم، ويعبدوا معه إلهه فنزلت الآية {وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ} اللام موطئة للقسم أي واللهِ لقد أوحي إليك وإِلى الأنبياء قبلك{قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} أي لئن أشركت يا محمد ليبطلنَّ ويفسدنَّ عملك الصالح {وَلَتكُونَنَّ مِنْ الْخَاسِرِينَ} أي ولتكونَنَّ في الآخرة من جملة الخاسرين بسبب ذلك .. وهذا على سبيل الفرض والتقدير، وإِلاّ فالرسول صلى الله عليه وسلم قد عصمه الله، وحاشا له أن يشرك بالله، وهو الذي جاء لإِقامة صرح الإِيمان والتوحيد، قال أبو السعود: والكلام واردٌ على طريقة الفرض لتهييج الرسل، وإِقناط الكفرة، والإِيذان بغاية شناعة الإِشراك وقبحه {بَلْ اللَّهَ فَاعْبُدْ} أي أخلص العبادة لله وحده، ولا تعبد أحداً سواه. {وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ} أي وكن من الشاكرين لإِنعام ربك {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ} أي وما عرفوا الله حق معرفته، ولا عظموه حق تعظيمه، قال أبو حيان: أي ما عظموه حق تعظيمه، وما قدروه في أنفسهم حق تقديره، إذ أشركوا معه غيره، وساووا بينه وبين الحجر والخشب في العبادة .. ثم نبههم على عظمته وجلالة شأنه فقال {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} الجملة حالية والمعنى ما عظَّموه حقَّ تعظيمه والحال أنه موصوف بهذه القدرة الباهرة، التي هي غاية العظمة والجلال. فالأرضُ مع سعتها وبسطتها يوم القيامة تحت قبضته وسلطانه {وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ } أي والسماوات مضمومات ومجموعات بقدرته تعالى قال الزمخشري: والغرض من هذا الكلام تصوير عظمته والتوقيف على كنه جلاله لا غير، من غير ذهاب بالقبضة واليمين إلى جهة وفي الحديث: " يقبض الله تعالى الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟" {سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكونَ} أي تنزَّه الله وتقدس عما يصفه به المشركون من صفاتِ العجز والنقص.
نفختا الصور وأهوال الآخرة
{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ(68)وَأَشْرَقَ تِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ(69)وَوُفِّيَت ْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ(70)}
ثم ذكر تعالى أهوال الآخرة فقال {وَنُفِخَ فِي الصُّورِ} هو قرنٌ ينفخ فيه إِسرافيل عليه السلام بأمر الله، والمراد بالنفخة هنا "نفخة الصَّعق" التي تكون بعد نفخة الفزع، قال ابن كثير: وهي النفخة الثانية التي يموت بها الأحياء من أهل السماواتِ والأرض {فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ} أي فخَّر ميتاً كل من في السماوات والأرض {إِلا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} أي إلاَّ من شاء الله بقاءه كحملة العرش، والحور العين والولدان {ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى} أي نُفخ فيه نفخةٌ أخرى وهي نفخةُ الإِحياء {فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ} أي فإِذا جميع الخلائق الأموات يقومون من القبور ينظرون ماذا يؤُمرون {وَأَشْرَقَتِ الأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا} أي وأضاءت أرض المحشر بنور الله يوم القيامة، حين تجلى الباري جل وعلا لفصل القضاء بين العباد {وَوُضِعَ الْكِتابُ} أي أحضرت صحائف أعمال الخلائق للحساب {وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ} أي وجيء بالأنبياء ليسألهم رب العزة عما أجابتهم به أممهم وبالشهداء وهم الحفظة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم، وقال السدي: هم الذين استشهدوا في سبيل الله {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أي وقُضي بين العباد جميعاً بالقسط والعدل {وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ} أي وهم في الآخرة لا يظلمون شيئاً من أعمالهم، لا بنقص ثواب، ولا بزيادة عقاب، قال ابن جبير: لا يُنقص من حسناتهم ولا يزاد على سيئاتهم {وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ} أي جوزي كل إنسانٍ بما عمل من خيرٍ أو شر {وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ} أي هو تعالى أعلم بما عمل كل إنسان، ولا حاجة به إلى كتاب ولا إلى شاهد، ومع ذلك تشهد الكتب إلزاماً للحجة.
مآل الأشقياء والسعداء
وَسِيقَ الَّذِينَ كفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءاياتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ(71)قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(72)وَسِ يقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ(73)وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ(74)وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}.
ثم فصَّل تعالى مآل كلٍ من الأشقياء والسعداء فقال {وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا} أي وسيق الكفرة المجرمون إلى نار جهنم جماعاتٍ جماعات، كما يساق الأشقياء في الدنيا إلى السجون {حَتَّى إِذَا جَاءوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أي حتى إِذا وصلوا إليها فتحت أبواب جهنم فجأة لتستقبلهم {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ ءاياتِ رَبِّكُمْ}؟ أي وقال لهم خزنة جهنم تقريعاً وتوبيخاً: ألم يأتكم رسلٌ من البشر يتلون عليكم الكتب المنزلة من السماء؟ {وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا}؟ أي ويخوفونكم من شر هذا اليوم العصيب؟ {قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ} أي قالوا بلى قد جاءونا وأنذرونا، وأقاموا علينا الحجج والبراهين، ولكننا كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشقاوة، قال القرطبي: وهذا اعتراف منهم بقيام الحجة عليهم، والمراد بكلمة العذاب قوله تعالى {لأملأنَّ جهنم من الجنَّة والناس أجمعين} {قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي قيل لهم ادخلوا جهنَّم لتصلوا سعيرها ماكثين فيها أبداً، بلا زوال ولا انتقال {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي فبئس المقام والمأوى جهنم للمتكبرين عن الإِيمان بالله وتصديق رسله {وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا} أي وسيق الأبرار المتقون لله إلى الجنة جماعاتٍ جماعات راكبين على النجائب، قال القرطبي: سوقُ أهل النار طردُهم إليها بالخزي والهوان، كما يفعل بالمجرمين الخارجين على السلطان، وسوقُ أهل الجنان سوقُ مراكبهم إلى دار الكرامة والرضوان، لأنه لا يُذهب بهم إلا راكبين، كما يفعل بالوافدين على الملوك، فشتَّان ما بين السوقين {حَتَّى إِذَا جَاءوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا} أي حتى إِذا جاءوها وقد فتحت أبوابُها كقوله تعالى {جنّاتُ عَدْنٍ مفتَّحةً لهم الأبوابُ} قال الصاوي: والحكمةُ في زيادة الواو هنا "وفُتحت" دون التي قبلها، أن أبواب السجون تكون مغلقة إلى أن يجيئها أصحاب الجرائم، فتفتح لهم ثم تُغلق عليهم، بخلاف أبواب السرور والفرح فإِنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها فناسب دخول الواو هنا دون التي قبلها {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ} أي وقال لهم حراس الجنة: سلامٌ عليكم أيها المتقون الأبرار {طِبْتُمْ} أي طهرتم من دنس المعاصي والذنوب، فادخلوا الجنة دار الخلود، قال البيضاوي: وجواب "إذا" محذوف، للدلالة على أنَّ لهم من الكرامة والتعظيم، ما لا يحيط به الوصف والبيان، قال ابن كثير: وتقديره إِذا كان هذا سُعِدوا، وطابوا، وسُرّوا وفرحوا بقدر ما يكون لهم من النعيم {وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} أي وقالوا عند دخولهم الجنة واستقرارهم فيها: الحمد لله الذي حقَّق لنا ما وعدنا به من دخول الجنة، قال المفسرون: والإِشارة إلى وعده تعالى لهم بقوله {تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً} {وَأَوْرَثَنَا الأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ} أي وملَّكنا أرض الجنة نتصرف فيها تصرف المالك في ملكه وننزل فيها حيث نشاء، لا ينازعنا فيها أحد {فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ} أي فنعم أجر العاملين بطاعة الله الجنة {وَتَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ} أي وترى يا محمد الملائكة محيطين بعرش الرحمن، محدقين به من كل جانب {يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي يسبحون الله ويمجدونه تلذذاً لا تعبداً {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} أي وقُضي بين العباد بالعدل {وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وقيل الحمد لله على عدله وقضائه، قال المفسرون: القائل هم المؤمنون والكافرون، المؤمنون يحمدون الله على فضله، والكافرون يحمدونه على عدله، قال ابن كثير: نطق الكون أجمعه، ناطقه وبهيمه، لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله، ولهذا لم يسند القول إلى قائل، بل أطلقه فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد.
-
رد: تفسير القران الكريم
سورة غافر
التسميَــة
مصدر إنزال القرآن، وحال المجادلين فيه
حال الملائكة الأطهار والمؤمنين الأبرار
أحوال الكفار يوم القيامة، والتذكير بقدرته تعالى
وصف يوم القيامة بأوصاف مخيفة
قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان وقارون
دفاع مؤمن آل فرعون عن موسى عليه السلام
تكبر فرعون بسؤاله عن إله موسى عليه السلام
متابعة الرجل المؤمن نصحه لقومه
مخاصمة الأسياد والاتباع في النار
نصرة الله لرسله على أعدائهم في الدنيا والآخرة
دلائل قدرته ووحدانيته
النهي عن عبادة غير الله، وبيان فضله على الإنسان
جزاء المجادلين بالباطل
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى
تذكير الله بنعمه
تهديد المكذبين المجادلين في ءايات الله
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة غافر مكية، وهي تُعنى بأمور العقيدة كشأن سائر السور المكية، ويكاد يكون موضوع السورة البارز هو المعركة بين "الحق والباطل" و"الهدى والضلال" ولهذا جاء جوُّ السورة مشحوناً بطابع العنف والشدة، وكأنه جو معركة رهيبة يكون فيها الطعن والنزال، ثم تسفر عن مصارع الطغاة فإِذا بهم حطام وركام.
* ابتدأت السورة الكريمة بالإِشادة بصفات الله الحسنى، وآياته العظمى، ثم عرضت لمجادلة الكافرين في ءايات الله، فمع وضوح الحق وسطوعه، جادل فيه المجادلون، وكابر فيه المكابرون.
* وعرضت السورة لمصارع الغابرين وقد أخذهم الله أخذ عزيز مقتدر، فلم يفلت منهم إنسان.
* وفي ثنايا هذا الجو الرهيب، يأتي مشهد حملة العرش، في دعائهم الخاشع المنيب.
* وتحدثت السورة عن بعض مشاهد الآخرة وأهوالها، فإِذا العباد واقفون للحساب، بارزون أمام الملك الديان، تغمرهم رهبة وخشوع، وإِذا القلوب لدى الحناجر تكاد لشدة الفزع والهول تنخلع، وفي ذلك الموقف الرهيب، واليوم العصيب، يلقى الإِنسان جزاءه إن خيراً فخير، وإِن شراً فشر.
* ثم يأتي الحديث عن قصة الإِيمان والطغيان، ممثلة في دعوة موسى عليه السلام لفرعون الطاغية الجبار، ففرعون يريد -بكبريائه وجبروته- أن يقضي على موسى وأتباعه خشية أن ينتشر الإِيمان بين الأقوام، وتبرز في ثنايا هذه القصة حلقة جديدة، لم تُعرض في قصة موسى من قبل، ألاَ وهي ظهور رجلٍ مؤمنٍ من آل فرعون يُخفي إِيمانه، يَصدع بكلمة الحق في تلطفٍ وحذر، ثم في صراحةٍ ووضوح، وتنتهي القصة بهلاك فرعون الطاغية الجبار بالغرق في البحر مع أعوانه وأنصاره، وبنجاة الداعية المؤمن وسائر المؤمنين.
* ثم تعرض السورة إلى بعض الآيات الكونية، الشاهدة بعظمة الله، الناطقة بوحدانيته وجلاله، الذي يشركون به ويكفرون بآياته، وتضرب مثلاً للمؤمن والكافر بالبصير والأعمى، فالمؤمن على نور من الله وبصيرة، والكافر يتخبط في الظلام.
* وتختم السورة الكريمة بالحديث عن مصارع المكذبين، والطغاة المتجبرين، ومشهد العذاب يأخذهم وهم في غفلتهم سادرون.
التسميَــة:
سميت "سورة غافر" لأن الله تعالى ذكر هذا الوصف الجليل - الذي هو من صفات الله الحسنى - في مطلع السورة الكريمة {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} وكرر ذكر المغفرة في دعوة الرجل المؤمن {وأنا أدعوكم إلى العزيز الغفار} وتسمى سورة المؤمن لذكر قصة مؤمن آل فرعون.
مصدر إنزال القرآن، وحال المجادلين فيه
{حم(1)تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(2)غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ(3)مَا يُجَادِلُ فِي ءاياتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ(4)كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ(5)وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ(6)}
سبب النزول:
نزول الآية (4):
{مَا يُجَادِلُ..}: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي مالك في قوله تعالى: {مَا يُجَادِلُ فِي ءاياتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا} قال: نزلت في الحارث بن قيس السهمي.
{حم} الحروف المقطَّعة للتنبيه على إعجاز القرآن، وللإِرشاد على أن هذا القرآن المعجز منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية {تَنزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} أي هذا القرآن تنزيلٌ من الله {الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي العزيز في ملكه، العليم في خلقه {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} أي الذي يعفو عن ذنوب العباد، ويقبل توبة العصاة لمن تاب منهم وأناب {شَدِيدِ الْعِقَابِ} أي شديد العقاب لمن تكبر وطغى، وأعرض عن طاعة المولى {ذِي الطَّوْلِ} أي ذي الفضل والإِنعام {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود بحقٍ إلا الله، ولا ربَّ في الوجود سواه {إِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي إليه وحده مرجع الخلائق فيجازيهم بأعمالهم، وإِنما قدَّم المغفرة والتوبة على العقاب، للإِشارة إلى سعة الفضل وأن رحمته سبقت عذابه، ثم لما ذكر أن القرآن هداية الله للعالمين، أعقبه بذكر المجادلين المعاندين فقال {مَا يُجَادِلُ فِي ءاياتِ اللَّهِ إِلا الَّذِينَ كَفَرُوا} أي ما يدفع الحق ويجادل في هذا القرآن - بعد وضوح ءاياته وظهور إعجازه - إلا الجاحدون لآياتِ الله، المعاندون لرسله {فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ} أي فلا تغترَّ أيها العاقل بتصرفهم وتقلبهم في هذه الدنيا، بالمساكن والمزارع، والممالك والتجارات، فإِنهم أشقى الناس، وما هم عليه من النعيم متاعٌ قليل، وظلٌ زائل، فإِني وإِن أمهلتهم لا أهملُهم، بل آخذهم بعد ذلك النعيم أخذ عزيز مقتدر، قال ابن جزي: والآية تسليةٌ للنبي صلىالله عليه وسلم، ووعيدٌ شديد للكفار {كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي كذَّب قبل كفار مكة أقوام كثيرون، منهم قوم نوح والأمم الذين تحزبوا على أنبيائهم ولم يقبلوا ما جاءوا به من عند الله كقوم عاد وثمود وفرعون وأمثالهم {وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ} أي وهمت كل أمةٍ من الأمم المكذبين أن يقتلوا رسولهم ويبطشوا به، قال ابن كثير: أي حرصوا على قتله بكل ممكن ومنهم من قتل رسوله {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} أي جادلوا رسلهم بالباطل ليزيلوا ويبطلوا به الحق الواضح الجلي {فَأَخَذْتُهُمْ} أي فأهلكتهم إهلاكاً مريعاً {فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ} استفهام تعجيب أي فكيف كان عقابي لهم؟ ألم يكن شديداً فظيعاً؟ {وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا} أي وكذلك وجبت كلمة العذاب على هؤلاء المكذبين من قومك، كما وجبت لمن سبقهم من الكفار {أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} أي لأنهم أهل النار، قال الطبري: أي كما حقَّ على الأمم التي كذبت رسلها وحلَّ بها عقابي، كذلك وجبت كلمة العذاب على الذين كفروا بالله من قومك لأنهم أصحاب النار.
حال الملائكة الأطهار والمؤمنين الأبرار
{الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ(7)رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(8)وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(9)}
ثم ذكر تعالى حال الملائكة الأطهار، والمؤمنين الأبرار، بعد أن ذكر الكفار والفجار فقال {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي هؤلاء العباد المقربون - حملةُ العرش - ومن حول العرش من أشراف الملائكة وأكابرهم، ممن لا يُحصي عددهم إلا الله، هم في عبادة دائبة لله، ينزهونه عن صفات النقص، ويثنون عليه بصفات الكمال {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} أي ويصدقون بوجوده تعالى، وبأنه لا إله لهم سواه، ولا يستكبرون عن عبادته، قال الزمخشري: فإِن قلت: ما فائدة قوله {وَيُؤْمِنُونَ بِهِ} ولا يخفى أن حملة العرش وجميع الملائكة يؤمنون بالله؟ فالجواب أن ذلك إظهار لفضيلة الإِيمان وشرفه والترغيب فيه {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا} أي وهم مع عبادتهم واستغراقهم في تسبيح الله وتمجيده، يطلبون من الله المغفرة للمؤمنين قائلين {رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} أي يا ربنا وسعت رحمتُك وعلمك كل شيء، قال المفسرون: وفي وصف الله تعالى بالرحمة والعلم - وهو ثناءٌ قبل الدعاء - تعليمُ العباد أدب السؤال والدعاء، فهم يبدؤون دعاءهم بأدبٍ ويستمطرون إحسانه وفضله وإِنعامه {فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ} أي فاصفح عن المسيئين المذنبين، التائبين عن الشرك والمعاصي، المتبعين لسبيل الحق الذي جاء به أنبياؤك ورسلك {وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ} أي واحفظهم من عذاب جهنم {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُم} أي أدخلهم جنات النعيم والإِقامة التي وعدتهم إياها {وَمَنْ صَلَحَ مِنْ ءابائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ} أي وأدخل الصالحين من الآباء والأزواج والأولاد في جنات النعيم أيضاً ليتم سرورهم بهم، قال ابن كثير: أي اجمع بينهم وبينهم لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في الجنة بمنازل متجاورة {إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي العزيز الذي لا يُغلب ولا يمتنع عليه شيء، الحكيم الذي لا يفعل إلا ما فيه الحكمة والمصلحة {وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ} هذا من تمام دعاء الملائكة أي احفظهم يا ربّ من فعل المنكرات والفواحش التي توبق أصحابها {وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ} أي ومن حفظته من نتائجها وعواقبها يوم القيامة، فقد لطفت به ونجيته من العقوبة {وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} أي وذلك الغفران ودخول الجنان، هو الظفر العظيم الذي لا ظفر مثله.
أحوال الكفار يوم القيامة، والتذكير بقدرته تعالى
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ(10)قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ(11)ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ(12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ ءاياتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ(13)فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ(14)رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ(15)يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ(16)الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ(17)}
ولما تحدث عن أحوال المؤمنين، ذكر شيئاً من أحوال الكافرين فقال {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي تناديهم الملائكة يوم القيامة على جهة التوبيخ والتقريع: لبغض الله الشديد لكم في الدنيا أعظم من بغضكم اليوم لأنفسكم {إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ} أي حين كنتم تُدعون إلى الإِيمان فتكفرون كبراً وعتواً، قال قتادة: بغضُ الله لأهل الضلالة حين عُرض عليهم الإِيمان في الدنيا فأبوا أن يقبلوه، أكبرُ مما مقتوا أنفسهم حين عاينوا عذاب الله {قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ} أي قال الكفار لما رأوا الشدائد والأهوال ربَّنا أمتَّنا مرتين، وأحييتنا مرتين {فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا} أي فاعترفنا بما جنيناه من الذنوب في الدنيا {فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ} أي فهل تردنا إلى الدنيا لنعمل بطاعتك؟ وهل تخرجنا من النار لنسلك طريق الأبرار؟ قال المفسرون: الموتةُ الأولى حين كانوا في العدم، والموتة الثانية حين ماتوا في الدنيا، والحياة الأولى حياة الدنيا، والحياة الثانية حياةُ البعث يوم القيامة، فهاتان موتتان وحياتان، وإِنما قالوا ذلك على سبيل التعطف والتوسل إلى رضى الله، بعد أن عاينوا العذاب، وقد كانوا يكفرون وينكرون، ولهذا جاء الجواب {ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ} أي ذلكم العذاب والخلود في جهنم بسبب كفركم وعدم إِيمانكم بالله، فإِذا دعيتم إلى التوحيد كفرتم {وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا} وإِن دعيتم إلى اللات والعزَّى وأمثالهما من الأصنام، آمنتم وصدَّقتم بألوهيتها {فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ} أي فالقضاء لله وحده، لا للأوثان والأصنام، ولا سبيل إلى نجاتكم، لأن الله هو المتعالي على خلقه، العظيم في ملكه الذي يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد .. ولما ذكر تعالى ما يوجب التهديد الشديد للمشركين، أردفه بذكر ما يدل على كمال قدرته وحكمته ليصير بمنزلة البرهان على عدم جواز عبادة الأوثان فقال {هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ ءاياتِهِ} أي الله جل وعلا هو الذي يريكم أيها الناس دلائل قدرته الباهرة في مخلوقاته، في العالم العلوي والسفلي الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنْ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلا مَنْ يُنِيبُ} أي وينزِّل لكم من السماء المطر بهذه الآيات الباهرة، وما يتفكّر كل هذه النعم ويشكرها إلا من يرجع إلى الله بالتوبة والإِنابة، والعمل الصالح البعيد عن الرياء والنفاق {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي فاعبدوا الله أيها المؤمنون مخلصين له العبادة والطاعة ولا تعبدوا معه غيره {وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} هذا للمبالغة أي اعبدوه وأخلصوا له قلوبكم، حتى ولو كره الكافرون ذلك، وغاظهم إخلاصهم وقاتلوكم عليه {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ } أي هذا الإله الذي تدعونه عظيم الشأن والسلطان، صاحب الرفعة والمقام العالي {ذُو الْعَرْشِ} أي صاحب العرش العظيم، لا شيء يشبهه من مخلوقات الله، قال ابن كثير: أخبر تعالى عن عظمته وكبريائه، وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها، وقد ذُكر أن العرش من ياقوتةٍ حمراء ولا يعلم سعته إلا الله، وقال أبو السعود: وكونُ العرش العظيم المحيط بأكناف العالم العلوي والسفلي، تحت ملكوته وقبضة قدرته، مما يقضي بكون علو شأنه وعظم سلطانه، في غايةٍ لا غاية وراءها {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ} أي ينزل الوحي على من شاء من خلقه، ويختص بالرسالة والنبوة من أراد من عباده، وإِنما سمَّى الوحي روحاً لأنه يسري في القلوب كسريان الروح في الجسد، قال القرطبي: سمَّاه روحاً لأن الناس يحيون به من موت الكفر كما تحيا الأبدان بالأرواح {لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ} أي ليخوِّف الرسول العباد، ويذكّرهم بيوم المعاد، حيث يلتقون جميعاً ليحاسبوا على أعمالهم، ويلتقي الخلق بالخالق في ساعة الحساب، قال قتادة: يلتقي فيه أهل السماء بأهل الأرض، والخالق والخلق {يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ} أي يوم هم ظاهرون بادون للعيان، لا شيء يكنُّهم ولا يظلّهم ولا يسترهم من جبلٍ أو أكمةٍ أو بناء، لأنهم في أرض مستوية هي أرض المحشر {لا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ} أي لا يخفى على الله شيء من أحوالهم وأعمالهم ولا من سرائرهم وبواطنهم، قال الصاوي: والحكمة في تخصيص ذلك اليوم - مع أن الله لا يخفى عليه شيء في سائر الأيام - أنهم كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم إذا استتروا بالحيطان مثلاً لا يراهم الله، وفي هذا اليوم لا يتوهمون هذا التوهم {لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؟ أي ينادي الله سبحانه والناسُ بارزون في أرض المحشر: لمن المُلكُ اليوم؟ ويسكت الخلائق هيبةً لله تعالى وفزعاً، فيجيب تعالى نفسه قائلاً {لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ} أي لله المتفرد بالملك، الذي قهر بالغلبة كل ما سواه، قال الحسن: هو تعالى السائل وهو المجيب، لأنه يقول ذلك حين لا أحد يجيبه، فيجيب نفسه {الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} أي في ذلك اليوم -يوم القضاء والفصل بين العباد - تُجازى كل نفسٍ بما عملت من خيرٍ أو شر {لا ظُلْمَ الْيَوْمَ} أي لا يُظلم أحد شيئاً، لا بنقص ثواب، ولا بزيادة عقاب {إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} أي سريعٌ حسابه، لا يشغله شأنٌ عن شأن، فيحاسب الخلائق جميعاً في وقتٍ واحد، قال القرطبي: كما يرزقهم في ساعةٍ واحدة، يحاسبهم كذلك في ساعةٍ واحدة، وفي الخبر: "لا ينتصف النهارُ حتى يقيل أهل الجنة في الجنة، وأهلُ النار في النار".
وصف يوم القيامة بأوصاف مخيفة
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ(18)يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ(19)وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(20)أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ(21)ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ(22)}
{وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ} أي خوّفهم ذلك اليوم الرهيب يوم القيامة، قال ابن كثير: "الآزفة" اسم من أسماء القيامة، سميت بذلك لقربها كقوله تعالى {أزفت الآزفة} {إِذْ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ} أي تكاد قلوبهم لشدة الخوف والجزع تبلغ الحناجر - وهي الحلوق - مكان البلعوم {كَاظِمِينَ} أي ممتلئن غماً وحسرةً شأن المكروب، قال في التسهيل: معنى الآية أن القلوب قد صعدت من الصدور لشدة الخوف حتى بلغت الحناجر، ويحتمل أن يكون ذلك حقيقةً أو مجازاً عبَّر به عن شدة الخوف، والحنجرة هي الحلق {مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} أي ليس للظالمين صديقٌ ينفعهم {وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ} أي ولا شفيع يشفع لهم لينقذهم من شدة العذاب {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ} أي يعلم جلَّ وعلا العين الخائنة بمسارقتها النظر إلى محرم، قال ابن عباس: هو الرجل يكون جالساً مع الناس، فتمرُّ المرأة فيسارقهم النظر إليها {وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} أي ويعلم السرَّ المستور تخفيه الصدور {وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ} أي يقضي ويحكم بالعدل {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} أي والذين يعبدونهم من دون الله من الأوثان والأصنام {لا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ} أي لا حكم لهم أصلاً فكيف يكونون شركاء لله؟ قال أبو السعود: وهذا تهكّمٌبهم لأن الجماد لا يقال في حقه يقضي أو لا يقضي {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي هو السميع لأقوال العباد، البصير بأفعالهم {أَوَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ}؟ أي أولم يعتبر هؤلاء المشركون في أسفارهم بما يرون من آثار المكذبين {فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ} أي فينظروا ما حلَّ بالمكذبين من العذاب والنكال؟ فإِنَّ العاقل من اعتبر بغيره {كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهمْ قُوَّةً} أي كانوا أشدَّ قوةً من هؤلاء الكفار من قومك {وَآثَارًا فِي الأَرْضِ} أي وأقوى آثاراً في الأرض من الحصون والقصور والجند الأشداء، ومع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد أهلكهم الله لما كذبوا الرسل {فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ} أي أهلكهم الله إهلاكاً فظيعاً بسبب إجرامهم وتكذيبهم رسل الله {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ} أي وما كان لهم أحد يدفع عنهم عذاب الله، ولا يقيهم من عقابه .. ثم ذكر تعالى سبب عقابه لهم فقال {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي ذلك العذاب بسبب أنهم كانت تأتيهم رسلهم بالمعجزات الباهرات، والآيات الساطعات الواضحات {فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ} أي فكفروا مع هذا البيان والبرهان فأهلكهم الله ودمَّرهم {إِنَّهُ قَوِيٌّ} أي إنه تعالى قويٌ لا يُقهر، ذو قوة عظيمة وبأسٍ شديد {شَدِيدُ العِقَابِ} أي إنّ عذابه أليم لمن عصاه، أعاذنا الله من عقابه وأجارنا من عذابه.
قصة موسى عليه السلام مع فرعون وهامان وقارون
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ(23)إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ(24)فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ(25)وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ(26)وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ(27)}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ} اللام موطئة للقسم أي والله لقد بعثنا رسولنا موسى بالآيات البينات، والدلائل الواضحات، وبالبرهان البيّن الظاهر وهو معجزة اليد والعصا {إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ} أي إلى فرعون الطاغية الجبار، ووزيره هامان، وقارون صاحب الكنوز والأموال، قال أبو حيّان: وخصَّ قارون وهامان بالذكر لمكانتهما في الكفر، ولأنهما أشهر أتباع فرعون {فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ} أي فقالوا عن موسى إنه ساحر فيما أظهر من المعجزات، كذَّاب فيما ادعاه أنه من عند الله، وصيغة كذَّاب للمبالغة {فَلَمَّا جَاءهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا} أي فلما جاءهم بالمعجزات الباهرة التي تدل على صدقه، والتي أيَّده الله بها {قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءهُمْ} أي اقتلوا الذكور لئلا يتناسلوا، واستبقوا الإِناث للخدمة، قال الصاوي: وهذا القتلُ غيرُ الأول، لأن فرعون بعد ولادة موسى أمسك عن قتل الأولاد، فلما بُعث موسى وعجز عن معارضته أعاد القتل في الأولاد ليمتنع الناس من الإِيمان، ولئلا يكثر جمعهم فيكيدوه، فأرسل الله عليهم أنواع العذاب كالضفادع والقُمَّل والدم والطوفان، إلى أن خرجوا من مصر فأغرقهم الله تعالى وجعل كيدهم في نحورهم {وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} أي وما تدبيرهم ومكرهم إلا في خسران وهلاك، لأن الله لا يوفّقهم فيما يكيدونه للمؤمنين {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى} أي قال فرعون الجبار: اتركوني حتى اقتلْ لكم موسى {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} أي وليناد ربه حتى يخلصه مني، وإِنما ذكره على سبيل الاستهزاء وكأنه يقول: لا يهولنكم ما يذكر من ربه فإِنه لا حقيقة له وأنا ربكم الأعلى، وغرضُه أن يوهمهم بأنه إِنما امتنع عن قتله رعايةً لقلوب أصحابه، قال أبو حيان: والظاهر أن فرعون لعنه الله كان قد استيقن أنه نبيٌ، وأن ما جاء به ءاياتٌ باهرة وما هو بسحر، ولكن الرجل كان فيه خبثٌ وجبروت وكان قتالاً سفاكاً للدماء لأهون شيء، فكيف لا يقتل من أحسَّ منه بأنه يهدّد عرشه ويهدم ملكه، ولكنه يخاف إن همَّ بقتله أن يُعاجل بالهلاك، وكان كلامه للتمويه على قومه وإيهامهم أنهم هم الذين يكفّونه، وما كان يكفُّه إلا شدةُ الخوف والفزع {إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} أي إني أخشى أن يغيّر ما أنتم عليه من عبادتكم لي إلى عبادة ربه {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} أي أو أن يثير الفتن والقلاقل في بلدكم، ويكون بسببه الهرجُ، وهذا كما قال المثل "صار فرعون واعظاً" {وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} أي إني استجرتُ بالله واعتصمتُ به ليحفظني {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ} أي من شر كل جبارٍ عنيد متكبر عن الإِيمان بالله، لا يصدِّق بالآخرة، قال في التسهيل: وإِنما قال {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} ولم يذكره باسمه ليشمل فرعون وغيره، وليكون فيه وصفٌ لغير فرعون بذلك الوصف القبيح.
دفاع مؤمن آل فرعون عن موسى عليه السلام
{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ(28)يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ(29)وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ(30)مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ(31)وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ(32)يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ(33)وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ(34)الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءاياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ(35)}
{وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ} قال المفسرون: كان هذا الرجل ابن عم فرعون وكان قبطياً يخفي إيمانه عن فرعون، فلما سمع قول الجبار متوعداً موسى بالقتل نصحهم بقوله {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ} استفهام إنكاري للتبكيت عليهم أي أتقتلون رجلاً لا ذنب له إلا لأجل أن قال: ربيَ الله من غير تفكرٍ ولا تأملٍ في أمره؟ {وَقَدْ جَاءكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ} أي والحال أنه قد أتاكم بالمعجزات الظاهرة التي شاهدتموها من عند ربكم {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} أي إن كان كاذباً في دعوى الرسالة فضرر كذبه لا يتعداه، قال القرطبي: ولم يكن ذلك لشكٍ منه في رسالته وصدقه، ولكنْ تلطفاً في الاستكفاف، واستنزالاً عن الأذى {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي وإِن كان صادقاً في دعواه أصابكم بعضُ ما وعدكم به من العذاب {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} أي لا يوفق للهداية والإِيمان من هو مسرفٌ في الضلال، مبالغ في الكذب على الله، قال الإِمام فخر الدين الراي: وفي هذا إشارة إلى رفع شأن موسى لأن الله هداه وأيده بالمعجزات، وتعريضٌ بفرعون في أنه مسرفٌ في عزمه على قتل موسى، كذَّاب في إِقدامه على ادعاء الإِلهية، والله لا يهدي من هذا شأنه وصفته، بل يبطله ويهدم أمره، وقال أبو حيّان: هذا نوعٌ من أنواع علم البيان يسميه علماؤنا "استدراج المخاطب" وذلك أنه لما رأى فرعون قد عزم على قتل موسى، وقومه على تكذيبه، أراد الانتصار له بطريق يُخفي عليهم بها أنه متعصبٌ له، وأنه من أتباعه، فجاءهم بطريق النصح والملاطفة فقال {أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً} ولم يذكر اسمه بل قال رجلاً ليوهمهم أنه لا يعرفه، ثم قال {أَنْ يَقُولَ رَبِّي اللَّهُ} ولم يقل رجلاً مؤمناً بالله أو هو نبيُ الله، إذ لو قال ذلك لعلموا أنه متعصب ولم يقبلوا قوله، ثم أتبعه بقوله {وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا} فقدَّم الكذب على الصدق موافقة لرأيهم فيه ثم تلاه بقوله {وَإِنْ يَكُ صَادِقًا} ولم يقل هو صادق وكذلك قال {يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} ولم يقل كلُّ ما يعدكم ولو قال ذلك لعلموا أنه متعصب له، وأنه يزعم نبوته وأنه يصدّقه، ثم أتبعه بكلام يفهم منه أنه ليس بمصدِّق له وهو قوله {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ} وفيه تعريضٌ بفرعون، إذ هو في غاية الإِسراف والكذب على الله، إذْ ادعى الألوهية والربوبية {يَا قَوْمِ لَكُمْ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ} كرر النصح مع التلطف والمعنى: أنتم غالبون عالون على بني إسرائيل في أرض مصر قد قهرتموهم واستعبدتموهم اليوم {فَمَنْ يَنصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا} أي فمن ينقذنا من عذاب الله وينجينا منه إن قتلتم رسوله، قال الرازي: وإِنما قال {يَنصُرُنَا}و{جَاءنَا} لأنه كان يُظهر لهم أنه منهم، وأنَّ الذي ينصحهم به هو مشارك لهم فيه .. وهنا تأخذ فرعون العزةُ بالإِثم، ويستبدُّ به الجبروت والطغيان {قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلا مَا أَرَى} أي ما أشير عليكم برأيٍ سوى ما ذكرتُه من قتل موسى حسماً لمادة الفتنة {وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلا سَبِيلَ الرَّشَادِ} أي وما أهديكم بهذا الرأي إلا طريق الصواب والصلاح {وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الأَحْزَابِ} أي أخشى عليكم مثل أيام العذاب التي عُذّب بها المتحزبون على الأنبياء {مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ} هذا تفسير للأحزاب أي مثل عادة قوم نوح وعاد وثمود وما أصابهم من العذاب والدمار بتكذيبهم لرسلهم {وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي والمكذبين بعد أولئك كقوم لوط {وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ} أي لا يعاقب العباد بدون ذنب، قال الزمخشري: أي إن تدميرهم كان عدلاً وقسطاً لأنهم استوجبوه بأعمالهم، وفيه مبالغة حيث جعل المنفي إرادة الظلم، ومن كان بعيداً عن إرادة الظلم، كان عن الظلم أبعد {وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ} خوَّفهم بعذاب الآخرة بعد أن خوفهم بعذاب الدنيا والمعنى إني أخاف عليكم من ذلك اليوم الرهيب يوم الحشر الأكبر، حيث ينادي المجرمون بالويل والثبور {دعوا هنالك ثُبُوراً} {يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ} أي تولون منهزمين من هول عذاب جهنم، قال المفسرون: إن الكفار إذا سمعوا زفير النار أدبروا هاربين، فلا يأتون قطراً من الأقطار إلا وجدوا الملائكة يتلقونهم يضربون وجوههم، فيرجعون إلى مكانهم فتتلقفهم جهنم {مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ} أي ليس لكم مانع ولا دافع يصرف عنكم عذاب الله {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} أي ومن يضلله اللهُ فليس له من يهديه إلى طريق النجاة {وَلَقَدْ جَاءكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ} أي ووالله لقد جاءكم يوسف بن يعقوب من قبل موسى بالمعجزات الظاهرات {فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءكُمْ بِهِ} أي فلَم تزالوا شاكين في رسالته كافرين بما جاء به من عند الله، قال المفسرون: المراد ءاباؤكم وأصولكم {حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً} أي حتى إذا مات قلتم على سبيل التشهّي والتمني من غير حجة ولا برهان لن يأتي أحد يدعي الرسالة بعد يوسف، قال أبو حيان: وليس هذا تصديقاً لرسالة يوسف، كيف وما زالوا في شك منه، وإِنما المعنى لا رسول من عند الله فيبعثه إلى الخلق، ففيه نفي الرسول ونفي بعثته {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ} أي مثل ذلك الضلال الفظيع يُضلُّ الله كل مسرفٍ في العصيان، شاكٍّ في الدين، بعد وضوح الحجج والبراهين {الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} هذا من تتمة كلام الرجل المؤمن والمعنى الذين يجادلون في شريعة الله بغير حجة وبرهان جاءهم من عند الله {كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا} أي عظُم بغضاً عند الله وعند المؤمنين جدالُهم بغير برهان، قال أبو حيّان: عدل الواعظ عن مخاطبتهم إلى الاسم الغائب، لحسنِ محاورته لهم واستجلاب قلوبهم، لئلا يفجأهم بالخطاب، وفي قوله {كبُر مقتاً} ضربٌ من التعجب والاستعظام لجدالهم، كأنه خارج عن حدِّ أمثاله من الكبائر {كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ} أي كما ختم على قلوب هؤلاء المجادلين كذلك يختم بالضلال على قلب كل متكبر عن الإِيمان، متجبرٍ على العباد، حتى لا يعقل الرشاد، ولا يقبل الحق، وإِنما وصف القلب بالتكبر والجبروت لكونه مركزهما ومنبعهما، وهو سلطان الأعضاء، فمتى فسد فسدت.
تكبر فرعون بسؤاله عن إله موسى عليه السلام
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ(36)أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ(37)}
{وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا} أي قال فرعون لوزيره هامان ابن لي قصراً عالياً، وبناءً شامخاً منيفاً، قال القرطبي: لما قال مؤمن آل فرعون ما قال، وخاف فرعون أن يتمكن كلامه في قلوب القوم، أوهم أنه يمتحن ما جاء به موسى من التوحيد، فأمر وزيره هامان ببناء الصرح {لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ} أي لعلي أصل وأنتهي إلى طرق السماوات وما يؤدي إليها، وكررها للتفخيم والبيان {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} أي فأنظر إلى إله موسى نظر عيان {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} أي وإِني لأعتقد موسى كاذباً في ادعائه أن له إلهاً غيري، قال أبو حيان: وبلوغُ أسباب السماوات غير ممكن، لكنَّ فرعون أبرزه في صورة الممكن تمويهاً على سامعيه، ولما قال {فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى} كان ذلك إقراراً بالإِله فلذلك استدرك هذا الإِقرار بقوله {وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِبًا} {وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ} أي ومثل ذلك التزيين زُيّن لفرعون عمله السيء حتى رآه حسناً {وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ} أي ومُنع بضلاله عن طريق الهدى {وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلا فِي تَبَابٍ} أي وما تدبير فرعون ومكره إلا في خسار وهلاك، خسر ملكه في الدنيا بالغرق، وفي الآخرة بالخلود في النار.
متابعة الرجل المؤمن نصحه لقومه
{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ(38)يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ(39)مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ(40)وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ(41)تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ(42)لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ(43)فَسَتَذْكُرُو نَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ(44)فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ(45)النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ(46)}.
{وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ} كرَّر مؤمن آل فرعون نصحه لهم بعد تلك المراوغة التي لقيها من فرعون، ودعا قومه إلى الإِيمان بالله الواحد الأحد، وكشف لهم عن قيمة الحياة الزائلة، وشوَّقهم إلى نعيم الحياة الباقية، وحذَّرهم من عذاب الله، ومعنى الآية: امتثلوا يا قوم أمري واسلكوا طريقي أرشدكم إلى طريق الفوز والنجاة -طريق الجنة- {يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ} أي ليست الدنيا إلا متاعاً زائلاً، لا ثبات له ولا دوام {وَإِنَّ الآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ} أي وإِن الدار الآخرة هي دار الاستقرار والخلود، التي لا زوال لها ولا انتقال منها، فإِما خلود في النعيم، أو خلود في الجحيم، قال القرطبي: ومراده بالدار الآخرة الجنة والنار لأنهما لا يفنيان {مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا} أي من عمل في هذه الدنيا سيئةً فلا يعاقب في الآخرة إلا بمقدارها دون زيادة، رحمة منه تعالى بالعباد {وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ} أي ومن فعل في الدنيا العمل الصالح سواءً كان ذكراً أو أنثى بشرط الإِيمان {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي فأولئك المحسنون يدخلون جنات النعيم، ويعطون جزاءهم بغير تقدير، بل أضعافاً مضاعفة فضلاً من الله وكرماً، فقد اقتضى فضله تعالى أن تضاعف الحسناتُ دون السيئات، قال ابن كثير: {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي لا يقدّر بجزاء، بل يثيبه الله ثواباً كثيراً عظيماً، لا انقضاء له ولا نفاد {وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ} ؟ أي ما لي أدعوكم إلى الإِيمان الموصل إلى الجنان، وتدعونني إلى الكفر الموصل إلى النار ؟ والاستفهام للتعجب كأنه يقول: أنا أتعجب من حالكم هذه، أدعوكم إلى النجاة والخير، وتدعونني إلى النار والشر؟ ثم وضَّح ذلك بقوله {تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ} أي تدعونني للكفر بالله، وأن أعبد ما ليس لي علمٌ بربوبيته، وما ليس بإِلهٍ كفرعون {وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ} أي وأنا أدعوكم إلى عبادة الله الواحد الأحد، العزيز الذي لا يُغلب، الغفَّار لذنوب العباد {لا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ} أي حقاً إنما تدعونني لعبادته {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلا فِي الآخِرَةِ} أي لا يصلح أن يُعبد لأنه لا يستجيب لنداء داعيه، ولا يقدر على تفريج كربته لا في الدنيا ولا في الآخرة {وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ} أي وأن مرجعنا إلى الله وحده فيجازي كلاً بعمله {وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ} أي وأن المسرفين في الضلال والطغيان سيخلدَّون في النار {فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ} أي فستذكرون صدق كلامي عندما يحل بكم العذاب، وهو تهديد ووعيد {وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ}أي أتوكل على الله، وأسلّم أمري إليه، قال القرطبي: وهذا يدل على أنهم هدَّدوه وأرادوا قتله {إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ} أي مطلع على أعمالهم، لا تخفى عليه خافية من أحوالهم {فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا} أي فنجاه الله من شدائد مكرهم، ومن أنواع العذاب الذي أرادوا إلحاقه به {وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ} أي ونزل بفرعون وجماعته أسوأ العذاب، وهو الغرق في الدنيا، والحرق في الآخرة، ثم فسَّره بقوله {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا} أي النار يُحرقون بها صباحاً ومساء، قال المفسرون: المراد بالنار هنا نار القبر وعذابهم في القبور بدليل قوله بعده {وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} أي ويوم القيامة يقال للملائكة: ادخلوا فرعون وقومه نار جهنم التي هي أشد من عذاب الدنيا.
مخاصمة الأسياد والاتباع في النار
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنْ النَّارِ(47)قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ(48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ(49)قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ(50)}
{وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ} أي واذكر حين يختصم الرؤساء والأتباع في نار جهنم {فَيقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا} أي فيقول الأتباع الضعفاء للرؤساء المستكبرين عن الإِيمان واتباع الرسل، إِنا كنا لكم في الدنيا أتباعاً كالخدم ننقاد لأوامركم، ونطيعكم فيما تدعوننا إليه من الكفر والضلال {فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ} ؟ أي فهل أنتم دافعون عنا جزءاً من هذا العذاب الذي نحن فيه؟ قال الرازي: علموا أن أولئك الرؤساء لا قدرة لهم على ذلك التخفيف، وإِنما مقصودهم من هذا الكلام المبالغة في تخجيل الرؤساء، وإِيلام قلوبهم، لأنهم سعوا في إيقاعهم في أنواع الضلالات {قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا} أي قال الرؤساء جواباً لهم: إنَّا جميعاً في نار جهنم، فلو قدرنا على إزالة العذاب عنكم لدفعناه عن أنفسنا {إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} أي قضى قضاءً مبرماً لا مردَّ له، بدخول المؤمنين الجنة، والكافرين النار، فلا نستطيع أن نفعل لكم شيئاً {وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ} لما يئس أهل النار بعضهم من بعض التجأوا إلى حراس جهنم يطلبون منهم التخفيف، قال البيضاوي: وإِنما وضع جهنم موضع الضمير {لِخَزَنَةِ جهَنَّمَ} بدلاً من "لخزنتها" للتهويل والتفظيع {ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ} أي أدعوا لنا الله أن يخفف عنا ولو مقدار يوم واحد من العذاب {قَالُوا أَوَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ}؟ أي أجابتهم الملائكة على سبيل التوبيخ والتقريع: ألم تأتكم الرسل بالمعجزات الظاهرات فكفرتم بهم وكذبتموهم؟ {قَالُوا بَلَى} أي قال الكفار بل جاءونا {قَالُوا فَادْعُوا} أي قالت لهم الملائكة: فادعوا اللهَ أنتم فإِنا لا نجترئ على ذلك، قال الرازي: وليس قولهم {فَادْعُوا} لرجاء المنفعة، ولكنْ للدلالة على الخيبة، فإِن الملائكة المقربين إذا لم يُسمع دعاؤهم، فكيف يسمع دعاء الكفار؟ ثم يصرّحون لهم بأنه لا أثر لدعائهم فيقولون {وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلا فِي ضَلالٍ} أي دعاؤكم لا ينفع ولا يجدي لأن دعاء الكافرين ما هو إلا في خسار وتبار.
نصرة الله لرسله على أعدائهم في الدنيا والآخرة
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ(51)يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ(52)وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ(53)هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ(54)فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ(55)إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءاياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ(56)}.
سبب النزول:
نزول الآية (56):
{إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ}: أخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: جاءت اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا الدجال، فقالوا: يكون منا في آخر الزمان، فعظَّموا أمره، وقالوا: يصنع كذا ويملكون به الأرض، فأنزل الله: {فِي ءاياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} فأمر نبيه أن يتعوذ من فتنة الدجال.
ومع أن الآية نزلت في مشركي مكة منكري البعث أو في اليهود كما تبين، فهي عامة في كل مجادل مبطل. لكن قال ابن كثير عما ذكره أبو العالية: وهذا قول غريب، وفيه تعسف بعيد، وإن كان قد رواه ابن أبي حاتم. والأصح أن الآية نزلت في المشركين والكفار عامة.
{إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي ننصر الرسل والمؤمنين بالحجة والظفر والانتقام لهم من الكفرة المجرمين في هذه الحياة الدنيا {وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ} أي وفي الآخرة يوم يحضر الأشهاد الذين يشهدون بأعمال العباد، من مَلك ونبيٍ ومؤمن، قال الرازي: الآية وعدٌ من الله تعالى لرسوله بأن ينصره على أعدائه في الحياة الدنيا وفي الآخرة {يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ} أي لا ينفع المجرمين اعتذارهم، قال ابن جرير: لا ينفع أهل الشرك اعتذارهم، لأنهم لا يعتذرون إلا بباطل {وَلَهُمْ اللَّعْنَةُ} أي الطردُ من رحمة الله {وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} أي ولهم جهنم أسوأ مرجع ومصير، قال ابن عباس: {سُوءُ الدَّارِ} سوءُ العاقبة {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى} أي والله لقد أعطينا "موسى بن عمران" ما يُهتدى به في الدين، من المعجزات والصحف والشرائع {وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ} أي أورثناهم العلم النافع والكتاب الهادي وهو "التوراة" {هُدًى وَذِكْرَى لأُولِي الأَلْبَابِ} أي هادياً وتذكرةً لأصحاب العقول السليمة {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي فاصبر يا محمد على أذى المشركين، فإِن وعد الله لك ولأتباعك بالنصر على الأعداء، حقٌ لا يمكن أن يتخلف، لأن الله لا يخلف الميعاد، قال الإِمام فخر الدين الرازي: لما بيَّن تعالى أنه ينصر رسله، وضرب المثال في ذلك بحال موسى، خاطب بعده رسوله بقوله {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} والمراد أنَّ الله ناصرك كما نصرهم، ومنجزٌ وعده لك كما أنجزه في حقهم {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ} أي واطلب المغفرة من ربك على ما فرط منك من ترك الأولى والأفضل، قال الصاوي: والمقصودُ من هذا الأمر تعليم الأمة ذلك، وإلا فرسول الله صلى الله عليه وسلم معصومٌ من الذنوب جميعاً، صغائر وكبائر قبل النبوة وبعدها على التحقيق، وقال ابن كثير: وهذا تهييجٌ للأمة على الاستغفار {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ} أي ودمْ على تسبيح ربك في المساء والصباح، قال الرازي: والمرادُ منه الأمرُ بالمواظبة على ذكر الله، وألاَّ يفتر اللسان عنه، حتى يصبح في زمرة الملائكة الأبرار، الذين {يسبّحون الليلَ والنهار لا يفْتُرون} والمرادُ بالتسبيح تنزيهُ اللهِ على كل ما لا يليق به، ثم نبه تعالى إلى السبب الدافع للكفار إلى المجادلة بالباطل فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءاياتِ اللَّهِ} أي يخاصمون في الآيات المنزلة {بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ} أي بلا برهانٍ ولا حجةٍ من الله {إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلا كِبْرٌ} أي ما في قلوبهم إلا تكبرٌ وتعاظم يمنعهم من اتباعك والانقياد إليك {مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ} أي ما هم بواصلين إلى مرادهم من إطفاء نور الله، ولا بمؤملين مقصدهم بالعلو عليك {فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} أي فالتجئ وتحصَّنْ بالله من كيدهم، فإن الله يدفع عنك شرهم، لأنه هو السميعُ لأقوالهم العليمُ بأحوالهم.
دلائل قدرته ووحدانيته
{لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ(57) وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ(58)إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ(59)وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ(61)ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ(62)كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ(63)اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ(64)هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ(65)}.
ثم ذكر تعالى الدلائل الدالة على قدرته ووحدانيته فقال {لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ} اللام لام الابتداء أي لخلقُ الله للسماواتِ والأرضِ وإِنشاؤُهما وابتداعهما من غير شيء أعظم من خلق البشر، فمن قدر على خلقهما مع عظمهما كيف يعجز عن خلق ما هو أحقر وأهون؟ قال ابن جزي: والغرض الاستدلال على البعث، لأن الإِله الذي خلقَ السماواتِ والأرض على كبرها، قادرٌ على إعادة الأجسام بعد فنائها {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون ذلك، لأنهم لا يتأملون لغلبة الجهل عليهم، وفرط غفلتهم واتباعهم لأهوائهم {وَمَا يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ} أي لا يتساوى المؤمن والكافر {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلا الْمُسِيءُ} أي ولا البرُّ والفاجر {قَلِيلاً مَا تَتَذَكَّرُونَ} أي لا تتعظون بهذه الأمثال إلا قليلاً قال ابن كثير: والمراد أنه كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئاً، والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره، كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار، والكفرة الفجار، ما أقلَّ ما يتذكر كثيرٌ من الناس؟ {إِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيهَا} أي إن القيامة آتيةٌ لا محالة، لا شك في ذلك ولا مرية {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يصدقون بمجيئها، ولذلك ينكرون البعث والجزاء، قال الرازي: والمراد بأكثر الناس الكفار الذين ينكرون البعث والقيامة {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أي ادعوني أجبْكم فيما طلبتم، وأعطكم ما سألتم، قال ابن كثير: ندب تعالى عباده إلى دعائه، وتكفَّل لهم بالإِجابة فضلاً منه وكرماً {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} أي إنَّ الذين يتكبرون عن دعاء الله سيدخلون جهنم أذلاء صاغرين .. ثم ذكر تعالى من آثار قدرته ووحدانيته، ما يلزم منه إفراده بالعبادة والشكر فقال {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا} أي الله جل وعلا بقدرته وحكمته هو الذي جعل لكم الليل مظلماً لتستريحوا فيه من تعب وعناء العمل بالنهار، وجعل النهار مضيئاً لتتصرفوا فيه بأسباب الرزق وطلب المعاش {إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} أي إنه تعالى متفضل على العباد، وهو صاحب الجود والإِحسان إليهم {وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يشكرون الله على إحسانه، ويجحدون فضله وإِنعامه {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} أي ذلكم المتفرد بالخلق والإِنعام هو الله ربكم، خالق كل الأشياء {لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي لا معبود في الوجود سواه {فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} أي فكيف تصرفون عن عبادة الخالق المالك إلى عبادة الأوثان؟ {كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} أي كذلك يُصرف عن الهدى والحق الذين جحدوا بآيات الله وأنكروها، قال الصاوي: وهذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم والمعنى لا تحزن يا محمد على إِنكار قومك فإِن من قبلهم فعل ذلك، ثم زاد في البيان ودلائل القدرة فقال {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ قَرَارًا} أي جعلها مستقراً لكم في حياتكم وبعد مماتكم، قال ابن عباس: جعلها منزلاً لكم في حال الحياة وبعد الموت {وَالسَّمَاءَ بِنَاءً} أي وجعل السماء سقفاً محفوظاً، كالقبة المبنية مرفوعة فوقكم {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي صوَّركم أحسن تصوير، وخلقكم في أحسن الأشكال، متناسبي الأعضاء، ولم يجعلكم كالبهائم منكوسين تمشون على أربع، قال الزمخشري: لم يخلق تعالى حيواناً أحسن صورةً من الإِنسان، وهذه مثل قوله تعالى {لقد خلقنا الإِنسان في أحسن تقويم}. {وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ} أي ورزقكم من أنواع اللذائذ {ذَلِكُمْ اللَّهُ رَبُّكُمْ} أي ذلكم الفاعل لهذه الأشياء والمنعم بهذه النعم هو ربكم لا إله إلا هو {فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي فتعالى وتمجَّد وتقدس ربُّ جميع المخلوقات الذي لا تصلح الربوبية إلاَّ له {هُوَ الْحَيُّ لا إِلَهَ إِلا هُوَ} أي هو تعالى المتفرد بالحياة الذاتية الحقيقية، الباقي الذي لا يموت، لا إله سواه {فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} أي فاعبدوه وحده مخلصين له العبادة والطاعة ظاهراً وباطناً قائلين {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي الثناء والشكر لله مالك جميع المخلوقات، لا للأوثان التي لا تملك شيئاً.
النهي عن عبادة غير الله، وبيان فضله على الإنسان
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ(66)هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(67)هُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ(68)}.
سبب النزول:
نزول الآية (66):
{قُلْ إِنِّي نُهِيتُ..}: أخرج جويبر عن ابن عباس أن الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة قالا: يا محمد، ارجع عما تقول بدين ءابائك، فأنزل الله: {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الآية.
ولما بيَّن صفات الجلال والعظمة، نهى عن عبادة غير الله فقال {قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي قل يا محمد إن ربي العظيم الجليل نهاني أن أعبد هذه الآلهة التي تعبدونها من الأوثان والأصنام، قال الصاوي: أمر تعالى نبيه أن يخاطب قومه بذلك زجراً لهم، حيث استمروا على عبادة غير الله، بعد ظهور الأدلة العقلية والنقلية {لَمَّا جَاءنِي الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي} أي حين جاءتني الآيات الواضحات من عنده، الدالة على وحدانيته، قال الرازي: والبيناتُ هي أن إله العالم قد ثبت كونه موصوفاً بصفات الجلال والعظمة، وصريح العقل يشهد بأن العبادة لا تليق إلا به، وأن جعل الحجارة المنحوتة والأخشاب المصورة، شركاء له في المعبودية مستنكرٌ في بديهة العقل {وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} أي وأمرت أن أذل وأخضع لله وحده، وأن أخلص له ديني، وأطهّر نفسي من عبادة غيره.
{هوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} هذا بيانٌ للأطوار التي مرَّ بها خلقُ الإِنسانِ أي هو جْل وعلا بقدرته الذي أوجدكم أيها الناس من العدم، فخلق أصلكم آدم من تراب، ثم خلق ذريته من النطفة وهي المنيُّ، ثم من علقة وهي الدم الغليظ، إلى آخر تلك الأطوار {ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً} أي ثم بعد أن ينفصل الجنين من بطن الأم يكون طفلاً {ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ} أي ثم لتبلغوا كمالكم في القوة والعقل، وهو سنُّ الأربعين {ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا} أي ثم لتصبحوا في سنِّ الهرم والشيخوخة، قال الإِمام فخر الدين الرازي: رتَّب تعالى عمر الإِنسان على ثلاث مراتب: الطفولة، وبلوغ الأشد، والشيخوخة، وهذا ترتيب مطابق للعقل، فإِن الإِنسان في أول عمره يكون في النمَّاء والنشوء وهو المسمى بالطفولة، إلى أن يبلغ إلى كمال النشوء من غير أن يحصل له ضعف، وهذا بلوغ الأشد، ثم يبدأ بالتراجع ويبدأ فيه الضعف والنقص، وهذه مرتبة الشيخوخة {وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ} أي ومنكم من يُتوفى قبل أن يخرج إلى العالم وهو السِّقطُ، وقال مجاهد: من قبلِ سنِّ الشيخوخة {وَلِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى} أي ولتصلوا إلى الزمان الذي حُدِّد لكل شخصٍ وهو الموتُ {وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي ولكي تعقلوا دلائل قدرته تعالى وتؤمنوا بأنه الواحد الأحد {هُوَ الَّذِي يُحْيِ وَيُمِيتُ} أي هو القادر جل وعلا على الإِحياء والإِماتة {فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} أي فإِذا أراد أمراً من الأمور فلا يحتاج إلى تعب وعناء، وإِنما يوجد فوراً دون تأخير، قال أبو السعود: وهذا تمثيلٌ لكمال قدرته، وتصوير لسرعة وجودها من غير أن يكون هناك أمرٌ ومأمور.
جزاء المجادلين بالباطل
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي ءاياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ(69)الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(70)إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ(71)فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ(72)ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ(73)مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ(74)ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ(75)ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(76)}.
ثم عاد إلى ذم المجادلين في ءايات الله بالباطل فقال {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ} الاستفهام للتعجيب أي ألا ترى أيها السامع وتعجبْ من حال هؤلاء المكابرين، الذين يجادلون في آيات الله والواضحة، كيف تُصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال؟ ثم بيَّنهم بقوله {الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا} أي الذين كذبوا بالقرآن، وبسائر الكتب والشرائع السماوية {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} وعيدٌ وتهديد أي سوف يعلمون عاقبة تكذيبهم {إِذْ الأَغْلالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلاسِلُ} أي حين يدخلون النار، وتربط أيديهم إلى أعناقهم بالأغلال والسلاسل {يُسْحَبُونَ* فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ} أي يسحبون بتلك السلاسل في الماء الحارِّ المسخّن بنار جهنم، ثم يُوقدون ويحرقون فيها، قال ابن كثير: ومعنى الآية أن السلاسل متصلة بالأغلال وهي بأيدي الزبانية، يسحبونهم على وجوههم تارةً إلى الحميم، وتارة إلى الجحيم كما قال تعالى {يطوفون بينها وبين حميم آنْ} {ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ثم قيل لهم تبكيتاً: أين هي الأوثان والأصنام التي كنتم تعبدونها وتجعلونها شركاء لله؟ {قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا} أي فيقولون: غابوا عن عيوننا فلا نراهم ولا نستشفع بهم {بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} أي بل لم نكن نعبد شيئاً، قال المفسرون: جحدوا عبادتهم، وإِنما فعلوا ذلك لحيرتهم واضطرابهم {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ} أي مثل إضلال هؤلاء المكذبين يضلُّ الله كل كافر {ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي ذلكم العذاب بما كنتم تظهرونه في الدنيا من السرور بالمعصية وكثرة المال وإِنفاقه في المحرمات {وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ} أي وبسبب بطركم وأشركم وخيلائكم، قال الصاوي: وهذا وإِن كان ذماً في الكفار، إلا أنه يجرُّ بذيله على كل من توسَّع في معاصي الله، فله من هذا الوعيد نصيب {ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} أي ادخلوا من أبواب جهنم السبعة المقسومة لكم ماكثين فيها أبداً {فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} أي بئست جهنم مقراً وسكناً للمستكبرين عن ءايات الله، المعرضين عن دلائل الإِيمان والتوحيد، وإِنما قال {مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ} ولم يقل فبئس مدخل المتكبرين وهو مقتضى النظم، لأن الدخول لا يدوم، وإِنما يدوم المثوى ولذا خصه بالذمِّ.
أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالصبر على الأذى
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ(77)وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ(78)}.
{فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي فاصبر يا محمد على تكذيب قومك لك، فإِن وعد الله بتعذيبهم كائنٌ لا محالة، قال الصاوي: هذا تسلية من الله لنبيه صلى الله عليه وسلم ووعدٌ حسن بالنصر له على أعدائه {فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ} أي إنْ أريناك بعض الذي نعدهم من العذاب، وجواب الشرط محذوفٌ تقديره فذلك هو المطلوب، او لتقرَّ به عينُك {أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ} أي أو نتوفينَّك يا محمد قبل إنزال العذاب عليهم، فإِلينا مرجعهم يوم القيامة فننتقم منهم أشدَّ الانتقام، ثم أخبره تعالى بأنباء الرسل تسليةً له عليه السلام فقال {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ} أي والله لقد بعثنا يا محمد رسلاً كثيرين قبلك، وأيدناهم بالمعجزات الباهرة فجادلهم قومهم وكذبوهم فتأسَّ بهم في الصبر على ما ينالك، قال القرطبي: عزَّاه تعالى بما لقيت الرسلُ من قبله {مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ} أي من هؤلاء الرسل من أخبرناك عن قصصهم مع قومهم، ومنهم من لم نخبرك عن قصصهم وأخبارهم {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي وما صحَّ ولا استقام لرسولٍ من الرسل أن يأتي قومه بشيء من المعجزات إلا بأمر الله، وهذا ردٌ على قريش حيث قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم اجعل لنا الصفا ذهباً وغير ذلك من مقترحاتهم {فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ} أي فإِذا جاء الوقت المسمّى لعذابهم أهلكهم الله {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ} أي خسر في ذلك الحين المعاندون الذين يجادلون في ءايات الله، ويقترحون المعجزات على سبيل التعنت.
تذكير الله بنعمه
{اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ(79)وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ(80)وَيُرِيكُم ْ ءاياتِهِ فَأَيَّ ءاياتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ(81)}.
ثم ذكَّرهم تعالى بنعمه فقال {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَنْعَامَ} أي الله جلَّ وعلا الذي لا تصلح الألوهية إلا له، هو الذي سخَّر لكم هذه الأنعام "الإِبل والبقر والغنم" وخلقها لكم ولمصلحتكم {لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي لتركبوا على ظهور بعض هذه الحيوانات، وتأكلوا من لحومها وألبانها، {وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ} أي ولكم في هذه الأنعام منافع عديدة في الوبر والصوف والشعر، واللبن والزبد والسمن {وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ} أي بحمل الأثقال في الأسفار البعيدة {وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} أي وعلى هذه الإِبل في البر، وعلى السفن في البحر تُحملون، وإِنما قرن بين الإِبل والسفن لما بينهما من شدة المناسبة حتى سميت الإِبل سفن البر أي ويريكم أيها الناس حججه وأدلته على وحدانيته في الآفاق والأنفس {فَأَيَّ ءاياتِ اللَّهِ تُنكِرُونَ} توبيخٌ لهم على إِنكارهم لوحدانيته مع ظهور ءاياته الكثيرة والمعنى أيَّ آية من تلك الآيات الباهرة والدلائل الكثيرة الساطعة تنكرون مع وضوحها وجلائها وكثرتها؟ فإِن هذه الدلائل لظهورها لا تقبل الإِنكار.
تهديد المكذبين المجادلين في ءايات الله
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(82)فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون(83)فَلَمَّ ا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ(84)فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّت اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ(85)}.
{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} الاستفهام إنكاري أي أفلم يسر هؤلاء المشركون في أطراف الأرض ليعرفوا عاقبة المتكبرين المتمردين، وآثار الأمم السالفة قبلهم، ماذا حلَّ بهم من العذاب والدمار بسبب كفرهم وتكذيبهم ؟ {كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الأَرْضِ} أي كانوا أكثر عدداً من أهل مكة، وأقوى منهم قوة، وآثارهم لا تزال باقية بعدهم من الأبنية والقصور والمباني الضخمة {فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي فلم ينفعهم ما كانوا يكسبونه من الأبنية والأموال شيئاً، ولا دفع عنهم العذاب {فَلَمَّا جَاءتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} أي فلما جاءتهم الرسل بالمعجزات الظاهرات، والآيات الواضحات {فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ} أي فرح الكفار بما هم عليه من العلم الدنيوي، الخالي عن نور الهداية والوحي، فرح بطرٍ وأشر، واغتروا بذلك العلم {وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءُون} أي نزل بهم جزاء كفرهم واستهزائهم بالرسل والآيات {فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} أي فلما رأوا شدة العذاب وعاينوا أهواله وشدائده قالوا آمنا بالله الواحد الأحد {وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ} أي كفرنا بالأصنام والأوثان التي أشركناها في العبادة مع الله {فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا} أي فلم يكن ينفعهم ذلك الإِيمان حين شاهدوا العذاب، لأنه إيمانٌ عن قسر وإِلجاء {سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ} أي سنَّ الله ذلك سنةً ماضيةً في العباد، أنه لا ينفع الإِيمان إذا رأوا العذاب {وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ} أي وخسر في ذلك الوقت الكافرون بربهم، الجاحدون لتوحيد خالقهم.
-
رد: تفسير القران الكريم
سورة فصلت
التسميَــة
إعراض المشركين عن القرآن، وإثبات بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم
دلائل قدرته ووحدانيته
تهديد المشركين بمثل صاعقة عاد وثمود
الكفار وكيفية عقابهم في الآخرة
حال الأشقياء المجرمين الصد عن سماع القرآن
وعد الله لأهل الاستقامة
آداب الدعاة إلى الله
دلائل قدرته الباهرة وحكمته البالغة
توعد الله الملحدين بعد ظهور الأدلة والبراهين
تعنت الكافرين ومكابرتهم للحق
علم الساعة مختص بالله تعالى
الإنسان وتبدلاته وفق الظروف والأحوال
التأمل في مخلوقات الله يوصل إلى الحق
بَين يَدَي السُّورَة
هذه السورة الكريمة مكية، وهي تتناول جوانب العقيدة الإِسلامية "الوحدانية، الرسالة، البعث والجزاء" وهي الأهداف الأساسية لسائر السور المكية التي تهتم بأركان الإِيمان.
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن، المنزَّل من عند الرحمن، بالحجج الواضحة، والبراهين الساطعة، الدالة على صدق محمد عليه الصلاة والسلام، فهو المعجزة الدائمة الخالدة للنبي الكريم.
* وتحدثت السورة عن أمر "الوحي والرسالة" فقررت حقيقة الرسول، وأنه بشرٌ خصَّه الله تعالى بالوحي، وأكرمه بالنبوة، واختاره من بين سائر الخلق ليكون داعياً إلى الله، مرشداً إلى دينه المستقيم.
* ثم انتقلت السورة للحديث عن مشهد الخلق الأول للحياة، خلق السماواتِ والأرض، بذلك الشكل الدقيق المحكم، الذي يلفت أنظار المعرضين عن ءايات الله، للنظر والتفكر والتدبر، ولكنَّ ظلمات الكفر هي التي تحول بينهم وبين الإِيمان، فالكون كله ناطق بعظمة الله، شاهد بوحدانيته جل وعلا.
* وعرضت السورة للتذكير بمصارع المكذبين، وضربت على ذلك الأمثلة بأقوى الأمم وأعتاها، قوم عاد الذين بلغ من جبروتهم أن يقولوا {من أشدُّ منَّا قوة}؟ وذكرت ما حلَّ بهم وبثمود من الدمار الشامل، والهلاك المبين، حين تمادوا في الطغيان وكذبوا رسل الله.
* وبعد الحديث عن المجرمين يأتي الحديث عن المؤمنين المتقين، الذين استقاموا على شريعة الله ودينه، فأكرمهم الله بالأمن والأمان في دار الجنان، مع النبيّين والصدّيقين، والشهداء والصالحين.
* ثم تحدثت السورة عن الآيات الكونية المعروضة للأنظار، في هذا الكون الفسيح، الزاخر بالحكم والعجائب، وموقف الملحدين بآيات الله، المتعامين عن كل تلك الآيات الظاهرة الباهرة.
وختمت السورة بوعد الله للبشرية، بأن يطلعهم على بعض أسرار هذا الكون في آخر الزمان، ليستدلوا على صدق ما أخبر عنه القرآن {سنريهم ءاياتنا في الآفاق، وفي أنفسهم، حتى يتبيَّن لهم أنه الحق، أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد}.
التسميَــة:
سميت "سورة فصّلت" لأن الله تعالى فصَّل فيها الآيات، ووضَّح فيها الدلائل على قدرته ووحدانيته، وأقام البراهين القاطعة على وجوده وعظمته، وخلقه لهذا الكون البديع الذي ينطق بجلال الله وعظيم سلطانه!
إعراض المشركين عن القرآن، وإثبات بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم
{حم(1)تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(2)كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءاياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ(3)بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ(4)وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ(5)قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ(6)الَّذِي نَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ(7)إِنَّ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ(8)}
{حم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن {تَنزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} أي هذا القرآن المجيد منزَّل من الرحمن الرحيم، أنزله جل وعلا رحمة بعباده، وإِنما خصَّ هذين الاسمين {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} إشارة إلى أن نزوله من أكبر النعم، ولا شك أن القرآن نعمة باقية إلى يوم القيامة {كِتَابٌ فُصِّلَتْ ءاياتُهُ} أي كتابٌ جامع للمصالح الدينية والدنيوية، بُيِّنت معانيه، ووُضِّحت أحكامه، بطريق القصص والمواعظ والأحكام والأمثال، في غاية البيان والكمال {قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي في حال كونه قرآناً عربياً، واضحاً جلياً نزل بلسان العرب {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي لقومٍ يفهمون تفاصيل ءاياته، ودلائل إعجازه، فإِنه في أعلى طبقات البلاغة، ولا يتذوق أسراره إلا من كان عالماً بلغة العرب {بَشِيرًا وَنَذِيرًا} أي مبشراً للمؤمنين بجنات النعيم، ومنذراً للكافرين بعذاب الجحيم {فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ} أي فأعرض أكثر المشركين عن تدبر ءاياته مع كونه نزل بلغتهم، فهم لا يسمعون سماع تفكر وتأمل، قال أبو حيان: المعنى أعرض أكثر أولئك القوم مع كونهم من أهل العلم، ولكن لم ينظروا النظر التام بل أعرضوا، فهم لإِعراضهم لا يسمعون ما احتوى عليه من الحجج والبراهين، وقال القرطبي: السورةُ نزلت تقريعاً وتوبيخاً لقريش في إِعجاز القرآن، فهم لا يسمعون سماعاً ينتفعون به، ثم أخبر تعالى عن عتوهم وضلالهم فقال {وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ} أي وقالوا للرسول صلى الله عليه وسلم حين دعاهم إلى الإِيمان: قلوبنا في أغطية متكاثفة، لا يصل إليها شيءٌ مما تدعون إليه من التوحيد والإِيمان {وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ} أي وفي آذاننا صممٌ وثقلٌ يمنعنا من فهم ما تقول، قال الصاوي: شبهوا أسماعهم بآذانٍ فيها صمَمٌ، من حيث إنها تمجُّ الحقَّ ولا تميل إلى استماعه {وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ} أي وبيننا وبينك يا محمد حاجز يمنع أن يصل إلينا شيء مما تقول، فنحن معذورون في عدم اتباعك، لوجود المانع من جهتنا وجهتك {فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ} أي اعملْ أنت على طريقتك، ونحن على طريقتنا، واستمرَّ على دينك فإِنا مستمرون على ديننا {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ} أي قل يا محمد لأولئك المشركين: لستُ إلا بشراً مثلكم خصّني الله بالرسالة والوحي، وأنا داعٍ لكم إلى توحيد خالقكم وموجدكم، الذي قامت الأدلة العقلية والشرعية على وحدانيته ووجوده، فلا داعي إلى تكذيبي {فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ} أي توجهوا إليه بالاستقامة على التوحيد والإِيمان، والإِخلاص في الأعمال، واسألوه المغفرة لسالف الذنوب {وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ} أي دمارٌ وهلاك للمشركين الذين لا يفعلون الخير، ولا يتصدقون ولا ينفقون في طاعة الله، قال القرطبي: قرَّعهم بالشح الذي يأنف منه الفضلاء، وفي الآية دلالة على أن الكافر يُعذَّب بمنع الزكاة مع عذابه على كفره، وقال ابن عباس: المراد زكاة الأنفس والمعنى: لا يطهرون أنفسهم من الشرك بالتوحيد، ولا يقولون لا إله إلا الله {وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ} أي كفروا بالبعث والنشور، وكذَّبوا بالحساب والجزاء، قال الصاوي: وإِنما خصَّ منع الزكاة وقرنه بالكفر بالآخرة، لأن المال شقيق الروح فإِذا بذله الإِنسان في سبيل الله كان دليلاً على قوته وثباته في الدين {إِنَّ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} لما ذكر حال الكفار ووعيدهم، أردفه بذكر حال المؤمنين وما لهم من الوعد الكريم والمعنى الذين صدَّقوا الله ورسوله، وجمعوا بين الإِيمان والعمل الصالح، لهم في الآخرة أجرٌ غير مقطوع عند ربهم، بل هو دائم مستمر بدوام الجنة.
دلائل قدرته ووحدانيته
{قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ(9)وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ(10)ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ(11)فَقَضَاهُنّ َ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ(12)}
ثم ذكر تعالى دلائل قدرته ووحدانيته فقال {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} الاستفهام للتوبيخ والتعجب أي كيف تكفرون بالله وهو الإِلهُ العليُّ الشأن، القادر على كل شيء، خالقُ الأرض في يومين؟ {وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا} أي تجعلون له شركاء وأمثالاً تعبدونها معه {ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ} أي ذلك الخالق المبدع هو ربُّ العالمين كلهم، فكيف يجوز جعل الأصنام الخسيسة شركاء له في الإِلهية والمعبودية؟ قال الصاوي: الاستفهام {أَئِنَّكُمْ} للإِنكار والتشنيع عليهم والمعنى : أنتم تعلمون أنه لا شريك له في العالم العلوي والسفلي، فكيف تجعلون له شريكاً ؟ {وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا} أي جعل في الأرض جبالاً ثوابت لئلا تميد بالبشر {وَبَارَكَ فِيهَا} أي أكثر خيرها بما جعل فيها من المياه، والزروع، والضروع {وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا} أي قدَّر أرزاق أهلها ومعاشهم، قال مجاهد: خلق فيها أنهارها وأشجارها ودوابها {فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ}أي في تمام أربعة أيام كاملة مستوية بلا زيادة ولا نقصان، للسائلين عن مدة خلق الأرض وما فيها {ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ} أي عمد إلى خلقها وقصد إلى تسويتها وهي بهيئة الدخان، قال ابن كثير: والمراد بالدخان بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض {فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أي استجيبا لأمري طائعتين أو مكرهتين {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ} أي قالت السماوات والأرض أتينا أمرك طائعين، قال الزمخشري: وهذا على التمثيل أي أنه تعالى أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المُطاع، والغرضُ تصوير أثر قدرته في المقدورات من غير أن يكون هناك خطاب وجواب، ومثله قول القائل: قال الحائطُ للمسمار لم تشقني؟ قال: سلْ من يدُقُّني، وروي عن ابن عباس قال: قال الله تعالى للسماء: أطلعي شمسك وقمرك ونجومك، وقال للأرض: شققي أنهارك وأخرجي شجرك وثمارك طائعتين أو كارهتين "قالتا أتينا أمرك طائعتين" واختاره ابن جرير {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} أي صنعهنَّ وأبدع خلقهن سبع سماواتٍ في وقت مقدَّر بيومين، فتمَّ خلق السماواتِ والأرض في ستة أيام، ولو شاء لخلقهنَّ بلمح البصر، ولكنْ أراد أن يعلّم عباده الحلم والأناة {وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا} أي أوحى في كل سماء ما أراده، وما أمر به فيها، قال ابن كثير: أي رتَّب في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة وما فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو {وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا} أي وزينَّا السماءَ الأولى القريبة منكم، بالكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض، وحرساً من الشياطين أن تستمع إلى الملأ الأعلى {ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ} أي ذلك المذكور من الخلق والإِبداع هو صنع الله، العزيز في ملكه، العليم بمصالح خلقه.
تهديد المشركين بمثل صاعقة عاد وثمود
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ(13)إِذْ جَاءتْهُمْ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(14)فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ(15)فَأَرْسَلْ نَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ(16)وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ(17)وَنَجَّيْن َا الَّذِينَ ءامنوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ(18)}.
{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ} أي فإِن أعرضوا عن الإِيمان بعد هذا البيان، فقل لهم: إني أخوفكم عذاباً هائلاً وهلاكاً مثل هلاك عاد وثمود، وعبَّر بالماضي إشارةً إلى تحققه وحصوله {إِذْ جَاءتْهُمْ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ} أي حين جاءتهم الرسلُ من كل جوانبهم، واجتهدوا في هدايتهم من كل جهة، وأعملوا فيهم كل حيلة، فلم يروا منهم إلا العتوَّ والإِعراض {أَلا تَعْبُدُوا إِلا اللَّهَ} أي بأن لا تعبدوا إلاّ اللهَ وحده {قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلائِكَةً} أي لو شاء ربُّنا إرسالَ رسولٍ لجعله ملكاً لا بشراً {فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي فإِنا كافرون برسالتكم، لا نتبعكم وأنتم بشرٌ مثلُنا، وفي قولهم {بما أُرسلتم} ضربٌ من التهكم والسخرية بهم {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} هذا تفصيلٌ لما حلَّ بعاد وثمود من العذاب أي فأمَّا عادٌ فبغوا وعتوا وعصوا، وتكبروا على عباد الله "هود" ومن ءامن منهم معه، بغير استحقاقٍ للتعظم والاستعلاء {وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً}؟ أي وقالوا اغتراراً بقوتهم لمّا خُوّفوا بالعذاب: لا أحد أقوى منا فنحن نستطيع أن ندفع العذاب عن أنفسنا بفضل قوتنا، قال أبو السعود: كانوا ذوي أجسام طوال، وخلق عظيم، وقد بلغ من قوتهم أن الرجل كان ينزع الصخرة من الجبل فيقتلعها بيده {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} جملة اعتراضية للتعجيب من مقالتهم الشنيعة والمعنى أغفلوا عن قدرة الله ولم يعلموا أن الله العظيم الجليل الذي خلقهم وخلق الكائنات، هو أعظم منهم قوةً وقدرة؟ {وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} أي وكانوا بمعجزاتنا يجحدون، قال الرازي: إنهم كانوا يعرفون أنها حقٌّ ولكنهم جحدوا كما يجحد المودعُ الوديعة {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا} أي فأرسلنا على عاد ريحاً باردة شديدة البرد، وشديدة الصوت والهبوب، تُهلك بشدة صوتها وبردها {فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} أي في أيامٍ مشئومات غير مباركاتٍ {لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي لكي نذيقهم العذاب المخزي المذل في الدنيا، قال الرازي: {عَذَابَ الْخِزْيِ} أي عذاب الهوان والذل، والسبب أنهم استكبروا عن الإِيمان، فقابل الله ذلك الاستكبار بإيصال الذل والهوان إليهم {وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لا يُنْصَرُونَ} أي ولعذابهم في الآخرة أعظم وأشدُّ إهانةً وخزياً من عذاب الدنيا، وليس لهم ناصر يدفع عنهم ذلك العذاب {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} أي وأمَّا ثمود فبيّنا لهم طريق الهدى، ودللناهم على سبيل السعادة، فاختاروا الضلالة على الهداية، والكفر على الإِيمان {فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ} أي فأخذتهم قارعة العذاب الموقع في الإِهانة والذل {بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} أي بسبب إجرامهم وطغيانهم وتكذيبهم لنبيّ الله "صالح"، قال ابن كثير: بعث الله عليهم صيحةً ورجفة وذلاً وهواناً، وعذاباً ونكالاً، بتكذيبهم صالح وعقرهم الناقة {وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ ءامنوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ} أي ونجينا صالحاً ومن ءامن به من ذلك العذاب.
الكفار وكيفية عقابهم في الآخرة
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ(19)حَتَّى إِذَا مَا جَاءوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ(20)وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(21)وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ(22)وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ(23)فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ(24)وَقَيَّ ضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ(25)}.
{وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ} أي واذكر يوم يُجمع أعداء الله المجرمون في أرض المحشر لسوقهم إلى النار {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يُحبس أولهم على آخرهم ليتلاحقوا ويجتمعوا، قال ابن كثير: تجمع الزبانية أولهم على آخرهم حتى يجتمعوا {حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا} أي حتى إذا وقفوا للحساب {شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي نطقت جوارحهم وشهدت عليهم بما اقترفوه من إجرامٍ وآثام، وفي الحديث (فيُختم على فيه - أي فمه - ثم يُقال لجوارحه انطقي، فتنطق بأعماله، ثم يُخلَّى بينه وبين الكلام فيقول: بُعداً لكُنَّ وسُحقاً، فعنكنَّ كنت أناضل) {وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا} أي وقالوا لأعضائهم وجلودهم توبيخاً وتعجباً من هذا الأمر الغريب: لم أقررتم علينا وشهدتم بما فعلنا وإِنما كنا نجادل وندافع عنكم؟ {قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ} أي قالوا معتذرين: ليس الأمر بيدنا وإِنما أنطقنا الله بقدرته، الذي ينطق الجماد والإِنسان والحيوان، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح {وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ} أي هو أوجدكم من العدم، وأحياكم بعد أن لم تكونوا شيئاً، فمن قدر على هذا قدر على إِنطاقنا {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي وإِليه وحده تُردون بالبعث، قال أبو السعود: المعنى ليس نطقنا بعجبٍ من قدرة الله، الذي انطق كل حي، فإِن من قدر على خلقكم وإِنشائكم أولاً، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ثانياً، لا يُتعجب من إِنطاقه لجوارحكم {وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ} أي وما كنتم تستخفون من هؤلاء الشهود في الدنيا حين مباشرتكم الفواحش، لأنكم لم تظنوا أنها تشهد عليكم، قال البيضاوي: أي كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضيحة، وما ظننتم أن أعضاءكم تشهد عليكم فما استخفيتم منها، وفيه تنبيهٌ على أن المؤمن ينبغي ألاَّ يمر عليه حالٌ إلا وعليه رقيب {وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ} أي ولكنْ ظننتم أن الله تعالى لا يعلم كثيراً من القبائح المخفية، ولذلك اجترأتم على المعاصي والآثام {وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمْ الَّذِي ظَنَنتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ} أي وذلك الظنُّ القبيح برب العالمين - أنه لا يعلم كثيراً من الخفايا - هو الذي أوقعكم في الهلاك والدمار فأوردكم النار {فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ} أي فخسرتم سعادتكم وأنفسكم وأهليكم، وهذا تمام الخسران والشقاء {فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ} أي فإِن يصبروا على العذاب فالنارُ مقامهم ومنزلهم، لا محيد ولا محيص لهم عنها {وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ} أي وإِن يطلبوا إرضاء الله، فما هم من المرضي عليهم، قال القرطبي: والعُتبى: رجوعُ المعتوب عليه إلى ما يُرضي العَاتب، تقول: استَعتبتُه فأعْتبني أي استرضيتُه فأرضاني {وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ} أي هيأنا للمشركين ويسَّرنا لهم قرناء سوء من الشياطين، ومن غواة الإِنس {فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ} أي حسَّنوا لهم أعمالهم القبيحة، الحاضرة والمستقبلة، قال ابن كثير: حسنوا لهم أعمالهم فلم يروا أنفسهم إلا محسنين {وَحَقَّ عَلَيْهِمْ الْقَوْلُ} أي ثبت وتحقق عليهم كلمة العذاب، وهو القضاء المحتَّم بشقائهم {فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ} أي في جملة أمم من الأشقياء المجرمين قد مضت من قبلهم، ممن فعلوا كفعلهم من الجنِّ والإِنس {إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ} تعليلٌ لاستحقاقهم العذاب أي لأنهم كانوا من الخاسرين في الدنيا والآخرة، فلذلك استحقوا العذاب الأبدي.
حال الأشقياء المجرمين الصد عن سماع القرآن
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ(26)فَلَنُذِيق َنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ(27)ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ(28)وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ(29)}
{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ} لما أخبر تعالى عن كفر عاد وثمود وغيرهم، أخبر عن مشركي قريش وأنهم كذبوا القرآن والمعنى قال الكافرون بعضهم لبعض لا تستمعوا لمحمد إذا قرأ القرآن، وتشاغلوا عنه {وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} أي ارفعوا أصواتكم عند قراءته حتى لا يسمعه أحد لكي تغلبوه على دينه، قال ابن عباس: قال أبو جهل إذا قرأ محمد فصيحوا في وجهه حتى لا يدري ما يقول {فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا} أي فوالله لنذيقنَّ هؤلاء الكفار المستهزئين بالقرآن عذاباً شديداً لا يخف ولا ينقطع {وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ} أي ولنجازينهم بشر أعمالهم، وسيء أفعالهم، أسوأ وأقبح الجزاء {ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ} أي ذلك العذاب الشديد - الذي هو أسوأُ الجزاء - هو نار جهنم جزاء المجرمين، أعداء الله ورسوله {لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ} أي لهم في جهنم دار الإِقامة، لا يخرجون منها أبداً {جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ} أي جزاءً لهم على كفرهم بالقرآن، واستهزائهم بآيات الرحمن، قال الرازي: وسمَّى لغوهم بالقرآن جحوداً لأنهم لما علموا أن القرآن بالغٌ إلى حد الإِعجاز، خافوا إنْ سمعه الناس أن يؤمنوا به، فاخترعوا تلك الطريقة الفاسدة، وذلك يدل على أنهم علموا كونه معجزاً إلا أنهم جحدوه حسداً {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا ربَّنَا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلانَا مِنْ الْجِنِّ وَالإِنْسِ} أي ويقول الكفار إذا دخلوا جهنم ربنا أرنا كل من أغوانا وأضلنا من الجن والإِنس، وإِنما جاء بلفظ الماضي "وقال" لتحققه، ومعناه المستقبل، قال أبو حيان: والظاهر أن المراد بـ {الَّذَيْنِ} يراد بهما الجنس أي كل مغوٍ من هذين النوعين {نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا} أي نطأْهما بأقدامنا انتقاماً وتشفياً {لِيَكُونَا مِنَ الأَسْفَلِينَ} أي ليكونا في الدرك الأسفل من النار، وهي أشد عذاب جهنم لأنها درك المنافقين.
وعد الله لأهل الاستقامة
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(30)نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ(31)نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ(32)}.
سبب النزول:
نزول الآية (30):
{إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ}: قال ابن عباس: نزلت هذه الآية في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أن المشركين قالوا: ربنا الله، والملائكة بناته، وهؤلاء شفعاؤنا عند الله، فلم يستقيموا. وقال أبو بكر: ربنا الله وحده لا شريك له، ومحمد صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، فاستقام.
وأخرج الترمذي والنسائي والبزار وغيرهم عن أنس بن مالك: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ: {إِنَّ الذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} قال: "قد قال الناس، ثم كفر أكثرهم، فمن مات عليها فهو ممن استقام".
ولما ذكر تعالى حال الأشقياء المجرمين، أردفه بذكر حال السعداء المؤمنين فقال {إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا} أي ءامنوا بالله إِيماناً صادقاً وأخلصوا العمل له، ثم استقاموا على توحيد الله وطاعته، وثبتوا على ذلك حتى الممات، عن عمر رضي الله عنه أنه قال على المنبر بعد أن تلا الآية الكريمة: "استقاموا واللهِ على الطريقة لطاعته، ثم لم يروغوا روغان الثعالب" والغرضُ: أنهم استقاموا على شريعة الله، في سلوكهم، وأخلاقهم وأقوالهم، وأفعالهم، فكانوا مؤمنين حقاً، مسلمين صدقاً، وقد سئل بعض العارفين عن تعريف الكرامة فقال: الاستقامةُ عينُ الكرامة، وعن الحسن أنه كان يقول: اللهمَّ أنت ربنا فارزقنا الاستقامة {تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمْ الْمَلائِكَةُ أَلا تَخَافُوا وَلا تَحْزَنُوا} أي تتنزل عليهم ملائكة الرحمة عند الموت بأن لا تخافوا ممَّا تقدمون عليه من أحوال القيامة، ولا تحزنوا على ما خلفتموه في الدنيا من أهلٍ ومالٍ وولد فنحن نخلفكم فيه {وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ} أي وأبشروا بجنة الخلد التي وعدكم الله بها على لسان الرسل، قال شيخ زاده: إن الملائكة تتنزَّل حين الاحتضار على المؤمنين بهذه البشارة أن لا تخافوا من هول الموت، ولا من هول القبر، وشدائد يوم القيامة، وإِن المؤمن ينظر إلى حافظيه قائمين على رأسه يقولان له: لا تخف اليوم ولا تحزن، وأبشر بالجنة التي كنت توعد، وإِنك سترى اليوم أموراً لم تر مثلها فلا تهولنك فإِنما يراد بها غيرك {نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ} أي تقول لهم الملائكة: نحن أنصاركم وأعوانكم في الدنيا والآخرة، نرشدكم إلى ما فيه خيركم وسعادتكم في الدارين {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ} أي ولكم في الجنة ما تشتهيه نفوسكم، وتقرُّ به عيونُكم من أنواع اللذائذ والشهوات، ولكم فيها ما تطلبون وتتمنون {نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ} أي ضيافة وكرامة من ربٍ واسع المغفرة، عظيم الرحمة لعباده المتقين.
آداب الدعاة إلى الله
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ(33)وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ(34)وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ(35)وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(36)}.
سبب النزول:
نزول الآية (33):
{وَمَنْ أَحْسَنُ..}: قال ابن عباس: هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، دعا إلى الإسلام، وعمل صالحاً فيما بينه وبين ربه، وجعل الإسلام نِحْلة: وقال أيضاً: هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نزول الآية (34):
{فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ..}: نزلت في أبي سفيان بن حرب، وكان عدوّاً مؤذياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فصار ولياً مصافياً.
{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} أي دعا إلى توحيد الله وطاعته، بقوله وفعله وحاله، وفعل الصالحات، وجعل الإِسلام دينه ومذهبه، قال ابن كثير: وهذه الآية عامة في كل من دعا إلى خير وهو في نفسه مهتدٍ، وقال الزمخشري: والآية عامة في كل من جمع بين هذه الثلاث: أن يكون مؤمناً معتقداً لدين الإِسلام، عاملاً بالخير، داعياً إليه، وما هم إلا طبقة العلماء العاملين {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ} أي لا يتساوى فعل الحسنة مع فعل السيئة، بل بينهما فرقٌ عظيم في الجزاء وحسن العاقبة {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي ادفع السيئة بالخصلة التي هي أحسن، مثل أن تدفع الغضب بالصبر، والجهل بالحلم، والإِساءة بالعفو، قال ابن عباس: ادفع بحلمك جهل من يجهل عليك {فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ} أي فإِذا فعلت ذلك صار عدوك كالصديق القريب، الخالص الصداقة في مودته ومحبته لك {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا} أي وما ينال هذه المنزلة الرفيعة، والخصلة الحميدة، إلاّ من جاهد نفسه بكظم الغيظ واحتمال الأذى {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} أي وما يصل إليها وينالها إلا ذو نصيب وافر من السعادة والخير {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ} أي وإن وسوس إليك الشيطان بترك ما أُمرت به من الدفع بالتي هي أحسن، وأراد أن يحملك على البطش والانتقام، فاستعذ بالله من كيده وشره {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} أي هو السميع لأقوال العباد، العليم بأفعالهم وأحوالهم.
دلائل قدرته الباهرة وحكمته البالغة
{وَمِنْ ءاياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ(37)فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ(38)وَمِنْ ءاياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(39)}
ثم ذكر تعالى دلائل قدرته الباهرة، وحكمته البالغة فقال {وَمِنْ ءاياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} أي ومن علاماته الدالة على وحدانيته وقدرته تعاقب الليل والنهار، وتذليل الشمس والقمر، مسخَّرين لمصالح البشر {لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ} أي لا تسجدوا للمخلوق واسجدوا للخالق، الذي خلق هذه الأشياء وأبدعها {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي إن كنتم تفردونه بالعبادة فلا تسجدوا لأحدٍ سواه {فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا} أي فإِن استكبر الكفار عن السجود لله {فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} أي فالملائكة الأبرار يعبدونه بالليل والنهار {وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ} أي لا يملّون عبادته.
{وَمِنْ ءاياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً} أي ومن البراهين والعلامات الدالة على وحدانيته وكمال قدرته، أنك ترى الأرض يابسة جرداء لا نبات فيها، تشبه الرجل الخاضع الذليل {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} أي فإِذا أنزلنا عليها المطر تحركت حركة شديدة وانتفخت وعلت بالنبات، وأخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار {إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى} أي إن الإِله الذي أحيا الأرض بعد موتها هو الذي يحيي الأموات ويبعثهم من القبور {إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه جل وعلا شيءٌ، فكما أخرج الزروع والثمار من الأرض المجدبة، فإِنه قادر على إحياء الموتى.
توعد الله الملحدين بعد ظهور الأدلة والبراهين
{إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي ءاياتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي ءامنا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(40)إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ(41)لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ(42)مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ(43)}.
ثم توعَّد تعالى من يلحد في ءاياته بعد ظهور الأدلة والبراهين على وجوده فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي ءاياتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا} أي إن الذين يطعنون في ءاياتنا، بالتحريف والتكذيب والإِنكار لها لا يغيب أمرهم عنا فنحن لهم بالمرصاد، وفيه وعيد وتهديد، قال قتادة: الإِلحادُ الكفر والعناد، وقال ابن عباس: هو تبديلُ الكلام ووضعه في غير موضعه {أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي ءامنا يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي أفمن يُطرح في جهنم مع الخوف والفزع أفضل أمَّنْ يكون في الجنة ءامناً من عذاب الله يوم القيامة؟ قال الرازي: والغرضُ التنبيهُ على أن الملحدين في ءايات الله يُلقون في النار، وأن المؤمنين بآيات الله يكونون ءامنين يوم القيامة، وشتَّان ما بينهما {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} أي افعلوا ما تشاءون في هذه الحياة، وهو تهديدٌ لا إباحة ملفوف بظل الوعيد، بدليل قوله تعالى {إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} أي هو تعالى مطّلع على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية من أحوالكم، وسيجازيكم عليها {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ} أي إن الذين كذبوا بالقرآن حين جاءهم من عند الله، وخبر "إنَّ" محذوفٌ لتهويل الأمر كأنه قيل: سيجازون بكفرهم جزاءً لا يكاد يوصف لشدة بشاعته وفظاعته {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ} أي وإِنه لكتاب غالب بقوة الحجة، لا نظير له لما احتوى عليه من الإِعجاز، يدفع كل جاحد، ويقمع كلَّ معاند {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} أي لا يتطرق إليه الباطل من جهةٍ من الجهات، ولا مجال للطعن فيه، قال ابن كثير: أي ليس للبطلان إليه سبيل، لأنه منزَّل من رب العالمين {تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} أي هو تنزيلٌ من إله حكيم في تشريعه وأحواله وأفعاله، محمود من خلقه بسبب كثرة نعمه .. ثم سلَّى تعالى نبيَّه على ما يصيبه من أذى الكفار فقال {مَا يُقَالُ لَكَ إِلا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ} أي ما يقول لك كفار قومك، إلاّ ما قد قال الكفار للرسل قبلهم من الكلام المؤذي، والطعن فيما أنزل الله، قال القرطبي: يُعزي نبيه ويُسلّيه من أذى وتكذيب قومه {إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ} أي إن ربك يا محمد لهو الغفور لذنوب المؤمنين، ذو العقاب الشديد للكافرين، ففوِّضْ أمرك إليه فإِنه ينتقم لك من أعدائك.
تعنت الكافرين ومكابرتهم للحق
{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ ءاياتُهُ ءاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامنوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ(44)وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ(45)مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ(46)}.
ثم ذكر تعالى تعنُّت الكافرين ومكابرتهم للحقِّ بعد سطوعه وظهوره فقال {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا} أي لو أنزلنا هذا القرآن بلغة العجم {لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ ءاياتُهُ} أي لقال المشركون: هلاَّ بُيّنت ءاياته بلسانٍ نفهمه وهلاَّ نزل بلغتنا {ءاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ}؟ استفهام إنكاري أي أقرآن أعجميٌ ونبيٌ عربي؟ قال الرازي: ذكروا أن الكفار كانوا يقولون لتعنتهم: هلاَّ نزل القرآن بلغة العجم؟! فأجيبوا بأن الأمر لو كان كما تقترحون لم تتركوا الاعتراض، ثم قال: والحقُّ عندي أن هذه السورة من أولها إلى آخرها كلام واحدٌ متعلق بعضُه ببعض، وقد حكى تعالى عنهم في أول السورة أنهم قالوا {قُلوبنا في أكنَّةٍ ممَّا تدعونا إليه} فردَّ تعالى عليهم هنا بأنه لو أنزل هذا القرآن بلغة العجم لكان لهم أن يقولوا: كيف أرسلت الكلام العجمي إلى القوم العرب!! ولصحَّ لهم أن يقولوا {قلوبُنا في إكنةٍ ممَّا تدعونا إليه} لأنا لا نفهمه ولا نحيط بمعناه!! اما وقد نزل بلغة العرب، وهم من أهل هذه اللغة، فكيف يمكنهم أن يقولوا ذلك؟ فظهر أن الآية على أحسن وجوه النظم {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ ءامنوا هُدًى وَشِفَاءٌ} أي قل لهم يا محمد: إن هذا القرآن هدى للمؤمنين من الضلالة، وشفاء لهم من الجهل والشك والريب {وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ} أي والذين لا يصدّقون بهذا القرآن، في آذانهم صممٌ عن سماعه، ولذلك تواصوا باللغو فيه {وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى} أي كما أن هذا القرآن رحمة للمؤمنين، هو شقاء وتعاسة على الكافرين كقوله تعالى {وننزّل من القرآن ما هو شفاءٌ ورحمة للمؤمنين، ولا يزيد الظالمين إلا خساراً} قال في حاشية البيضاوي: إن القرآن لوضوح ءاياته، وسطوع براهينه، هادٍ إلى الحق، ومزيل للريب والشك، وشفاء من داء الجهل والكفر والارتياب، ومن ارتاب فيه ولم يؤمن به، فارتيابه إِنما نشأ عن توغله في اتباع الشهوات، وتقاعده عن تفقد ما يُسعده وينجيه {أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ} أي أولئك الكافرون بالقرآن، كمن يُنادى من مكان بعيد، فإِنه لا يسمع ولا يفهم ما يُنادى به، وهذا على سبيل التمثيل، قال ابن عباس: يريد مثل البهيمة التي لا تفهم إلا دعاءً ونداءً {وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ} أي والله لقد أعطينا موسى التوراة فاختلف فيها قومه ما بين مصدِّقٍ لها ومكذِّب، هكذا حال قومك بالنسبة للقرآن، قال القرطبي: وهذا تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم أي لا يحزنك اختلاف قومك في كتابك، فقد اختلف من قبلهم في كتابهم، فآمن به قوم وكذَّب به قوم {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي ولولا أن الله حكم بتأخير الحساب والجزاء للخلائق إلى يوم القيامة لعذَّبهم وأهلكهم في الدنيا {وَإِنَّهُمْ لَفي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أي وإِن هؤلاء الكفار لفي شكٍ من القرآن، لتبلد عقولهم وعمى بصائرهم، موقع لهم في أشد الريبة والاضطراب {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} أي من عمل شيئاً من الصالحات في هذه الدنيا فإِنما يعود نفع ذلك على نفسه، ومن أساء في الدنيا فإِنما يرجع وبال ذلك وضرره عليه {وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ} أي وليس الله منسوباً إلى الظلم حتى يعذِّب بغير إساءة، فهو تعالى لا يعاقب أحداً إلا بذنبه وبجرمه، قال المفسرون: ليست صيغة "ظلاَّم" هنا للمبالغة، وإِنما هي صيغة نسبة مثل عطَّار، ونجَّار، وتمَّار، ولو كانت للمبالغة لأوهم أنه تعالى ليس كثير الظلم ولكنه يظلم أحياناً، وهذا المعنى فاسد لأنه يستحيل عليه الظلم جل وعلا.
علم الساعة مختص بالله تعالى
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ(47)وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ(48)}.
{إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي إليه تعالى وحده علم وقت الساعة لا يعلمه غيره قال الإِمام فخر الدين الرازي: أي لا يعلم وقت الساعة بعينه إلا اللهُ، ومناسبتُها لما قبلها أنه تعالى لما هدَّد الكفار بقوله {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا} ومعناه أن جزاء كل أحدٍ يصل إليه في يوم القيامة، فكأن سائلاً قال: ومتى يكون ذلك اليوم؟ فبيَّن تعالى أن معرفة ذلك اليوم لا يعلمه إلا الله {وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا} أي وما تخرج ثمرةٌ من الثمرات من غلافها ووعائها {وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلا تَضَعُ إِلا بِعِلْمِهِ} أي ولا تحمل أنثى جنيناً في بطنها. ولا تلده إلا ملتبساً بعلمه تعالى، لا يعزبُ عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي}؟ أي ويوم القيامة ينادي الله المشركين أين شركائي الذي زعمتم أنهم آلهة؟ وفيه تقريعٌ وتهكمٌ بهم {قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ} أي قال المشركون: أعلمناك وأخبرناك الآن بالحقيقة ما منّا من يشهد اليوم بأنَّ لك شريكاً، قال المفسرون: لما عاينوا القيامة تبرءوا من الأصنام وتبرأت الأصنام منهم، وأعلنوا إيمانهم وتوحيدهم في وقت لا ينفع فيه إِيمان {وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ} أي وغاب عنهم ما كانوا يعبدونه في الدنيا من الآلهة المزعومة {وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أي وأيقنوا أنه لا مهرب ولا مخلص لهم من عذاب الله.
الإنسان وتبدلاته وفق الظروف والأحوال
{لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ(49)وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ(50)وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَئا بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ(51)}
{لا يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ} أي لا يملُّ الإِنسان من سؤاله ودعائه بالخير لنفسه، كالمال والصحة والعز والسلطان {وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ} أي وإِن أصابه فقر أو مرض فهو عظيم اليأس، قانطٌ من روح الله ورحمته {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ} أي ولئن أعطيناه غنى وصحة من بعد شدة وبلاء {لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي} أي ليقولنَّ هذا بسعْيي واجتهادي، قال أبوحيان: سمَّى النعمة رحمة إذ هي من آثار رحمة الله {وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً} أي وما أعتقد أن القيامة ستكون {وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى} أي وعلى فرض أن القيامة حاصلة، فليحسننَّ إليَّ ربي كما أحسن إليَّ في هذه الدنيا قال ابن كثير: يتمنى على الله عز وجل مع إساءته العمل وعدم اليقين {فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا} أي فواللهِ لنعلِمنَّ هؤلاء الكافرين بحقيقة أعمالهم، ولنبصرنَّهم بإِجرامهم {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} أي ولنعذبنَّهم أشد العذاب، وهو الخلود في نار جهنم {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَئا بِجَانِبِهِ} أي وإِذا أنعمنا على الإِنسان أعرض عن شكر ربه، واستكبر عن الانقياد لأوامره، وشمخ بأنفه تكبراً وترفعاً {وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ} أي وإِذا أصابه المكروه فهو ذو دعاء كثير، يديم التضرع ويكثر من الابتهال، وهكذا طبيعة الإِنسان الجحود والنكران، يعرف ربه في البلاء وينساه في الرخاء، قال الرازي: استعير العرض لكثرة الدعاء، كما استعير الغلظ لشدة العذاب.
التأمل في مخلوقات الله يوصل إلى الحق
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ(52)سَنُرِيهِمْ ءاياتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(53)أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ(54)}.
{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ} أي قل لهم يا محمد: أخبروني يا معشر المشركين، إن كان هذا القرآن من عند الله، وكفرتم به من غير تأمل ولا نظر، كيف يكون حالكم؟ {مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ} الاستفهام إنكاري بمعنى النفي أي لا أحد أضلُّ منكم لفرط شقاقكم وعداوتكم، قال أبو السعود: وضع الموصول "من أضلُّ" موضع الضمير "منكم" شرحاً لحالهم، وتعليلاً لمزيد ضلالهم {سَنُرِيهِمْ ءاياتِنَا} أي سنظهر لهؤلاء المشركين دلالاتنا وحججنا على أن القرآن حقٌ منزل من عند الله {فِي الآفَاقِ} أي في أقطار السماواتِ والأرض من الشمس والقمر والنجوم، والأشجار والنبات وغير ذلك من العجائب العلوية والسفلية {وَفِي أَنْفُسِهِمْ} أي وفي عجائب قدرة الله في خلقهم وتكوينهم، قال القرطبي: المراد ما في أنفسهم من لطيف الصنعة، وبديع الحكمة، حتى سبيل الغائط والبول، فإِن الرجل يأكل ويشرب من مكان واحدٍ، ويتميز ذلك من مكانين، ومن بديع صنعة الله وحكمته في عينيه اللتين هما قطرة ماء، ينظر بهما من الأرض إلى السماء، مسيرة خمسمائة عام، وفي أذنيه اللتين يفرق بهما بين الأصوات المختلفة، وغير ذلك من بديع حكمة الله فيه {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ} أي حتى يظهر لهم أن هذا القرآن حق {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ}؟ أي أولم يكفهم برهاناً على صدقك أن ربك لا يغيب عنه شيء في الأرض ولا في السماء؟ وأنه مطَّلع على كل شيء لا تخفى عليه خافية؟ {أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ} ألا استفتاحٌ لتنبيه السامع إلى ما يقال أي ألا فانتبهوا أيها القوم إن هؤلاء المشركين في شكٍ من الحساب والبعث والجزاء، ولهذا لا يتفكرون ولا يؤمنون {أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} أي ألا فانتبهوا فإِنه تعالى قد أحاط علمه بكل الأشياء جملة وتفصيلاً، فهو يجازيهم على كفرهم.