-
رد: تفسير القران الكريم
سورة الشُّورَى
تنزيل الوحي من الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
مقاصد الوحي الإلهي
وحدة الأديان في أصولها
الأمر بالدعوة والاستقامة، ودحض حجج المجادلين
حتمية الجزاء للمؤمنين والظالمين، وقبول التوبة
مظاهر حكمة الله، وآياته الدالة على قدرته
صفات المؤمنين المستقيمين
النار وحال الكفار منها
الاستجابة لله عز وجل
الوحي وأقسامه
بَين يَدَي السُّوَرة
* هذه السورة الكريمة مكية، وموضوعها نفس موضوع السور المكية التي تعالج أمور العقيدة "الوحدانية، الرسالة، البعث، والجزاء" والمحور الذي تدور عليه السورة هو "الوحي والرسالة" وهو المقصد الأساسي للسورة الكريمة.
* تبتدئ السورة بتقرير مصدر الوحي، ومصدر الرسالة، فاللهُ ربُّ العالمين هو الذي أنزل الوحي على الأنبياء والمرسلين، وهو الذي اصطفى لرسالاته من شاء من عباده، ليخرجوا الإِنسانية من ظلمات الشرك والضلال، إلى نور الهداية والإِيمان.
* ثم تعرض لحالة بعض المشركين، ونسبتهم لله الذرية والولد، حتى إنَّ السماوات ليكدْن يتفطرن من هول تلك المقالة الشنيعة، وبينما هؤلاء المشركون في ضلالهم يتخبطون، إذا بالملأ الأعلى في تسبيحهم وتمجيدهم لله يستغرقون، وذلك للمقارنة بين كفر أهل الأرض وطغيانهم، وإِيمان أهل السماء وإِذعانهم.
* ثم تعود السورة للحديث عن حقيقة الوحي والرسالة، فتقرر أن الدين واحدٌ أرسل الله تعالى به جميع المرسلين، وأن شرائع الأنبياء وإِن اختلفت إلاَّ أن دينهم واحد، وهو الإِسلام الذي بعث به نوحاً وموسى وعيسى وسائر الرسل الكرام {شرع لكم من الدين ما وصَّى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى}.
* وتنتقل السورة للحديث عن المكذبين بالقرآن، المنكرين للبعث والجزاء، وتنذرهم بالعذاب الشديد في يومٍ تشيب له الرؤوس وتطير لهوله الأفئدة، بينما هم في الدنيا يهزؤون ويسخرون، ويستعجلون قيام الساعة.
* وبعد أن تتحدث السورة عن دلائل الإِيمان في هذا العالم المنظور، الذي هو أثر من آثار صنع الله الباهر وحكمته وقدرته، تدعو الناس إلى الاستجابة لدعوة الله والانقياد والاستسلام لحكمه قبل أن يفاجئهم ذلك اليوم العصيب، الذي لا ينفع فيه مال ولا قريب {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ}.
* وتختم السورة بالحديث عن الوحي وعن القرآن، كما بدأت به في مطلع السورة الكريمة، ليتناسق الكلام في البدء والختام {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ..} الآية.
التسميـَـة:
سميت "سورة الشورى" تنويهاً بمكانة الشورى في الإِسلام، وتعليماً للمؤمنين أن يقيموا حياتهم على هذا المنهج الأمثل الأكمل "منهج الشورى" لما له من أثر عظيم جليل في حياة الفرد والمجتمع كما قال تعالى {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ }.
تنزيل الوحي من الله على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
{حم(1)عسق(2)كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(3)لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ(4)تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ(5)وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ(6)}
{حم* عسق} الحروف المقطعة للتنبيه على إعجاز القرآن، وإثارة انتباه الإِنسان بحروف أولية، وبدءٍ غير مألوف {كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} أي مثل ما أوحى إليك ربك يا محمد هذا القرآن، أوحى إلى الرسل من قبلك في الكتب المنزلة، اللهُ العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي له ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} أي هو المتعالي فوق خلقه، المنفرد بالكبرياء والعظمة {تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ} أي تكاد السماواتُ يتشققن من عظمة الله وجلاله، ومن شناعة ما يقوله المشركون من اتخاذ الله الولد {وَالْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ} أي والملائكةُ الأبرار دائبون في تسبيح الله، ينزهونه عما لا يليق به {وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الأَرْضِ} أي ويطلبون المغفرة لذنوب من في الأرض من المؤمنين، قال في ابن جزي: والآية عمومٌ يراد به الخصوص لأن الملائكة إنما يستغفرون للمؤمنين من أهل الأرض، فهي كقوله تعالى {ويستغفرون للَّذين ءامنوا} {أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} أي ألاَ فانتبهوا أيها القوم إن الله هو الغفور لذنوب عباده، الرحيم بهم حيث لا يعاجلهم بالعقوبة مع كفرهم وعصيانهم، قال القرطبي: هيَّب وعظَّم جل وعلا في الابتداء، وألطف وبشَّر في الانتهاء {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَولِيَاءَ} أي جعلوا له شركاء وأنداداً {اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ} أي اللهُ تعالى رقيبٌ على أحوالهم وأعمالهم، لا يفوته منها شيءٌ، وهو محاسبُهم عليها {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ} أي وما أنت يا محمد بموكَّل على أعمالهم حتى تقسرهم على الإِيمان، إِنما أنت منذرٌ فحسب.
مقاصد الوحي الإلهي
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ(7)وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(8)أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(9)وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ(10)فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ(11)لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(12)}.
{وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} أي وكما أوحينا إلى الرسل قبلك أوحينا إليك يا محمد قرآناً عربياً معجزاً، بلسان العرب لا لبس فيه ولا غموض {لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا} أي لتنذر بهذا القرآن أهل مكة ومن حولها من البلدان، قال الإِمام فخر الدين الرازي: وأمُّ القُرى أصلُ القرى وهي مكة، وسميت بهذا الاسم إجلالاً لها، لأن فيها البيت ومقام إبراهيم، والعربُ تسمي أصل كل شيءٍ أمه، حتى يقال: هذه القصيدة من أمهات قصائد فلان {وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ} أي وتخوّف الناس ذلك اليوم الرهيب، يوم اجتماع الخلائق للحساب في صعيدٍ واحد {لا رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك في وقوعه، ولا محالة من حدوثه {فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ} أي فريقٌ منهم في جنات النعيم وهم المؤمنون، وفريق منهم في دركات الجحيم وهم الكافرون، حيث ينقسمون بعد الحساب إلى أشقياء وسعداء كقوله تعالى {فمنهم شقيٌ وسعيدٌ} {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} أي لو شاء الله لجعل الناس كلهم مهتدين، أهل دينٍ واحدٍ وملةٍ واحدة وهي الإِسلام، قال الضحاك: أهل دينٍ واحد، أهل ضلالةٍ أو أهل هُدى {وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} أي ولكنَّه تعالى حكيمٌ لا يفعل إلاَّ ما فيه المصلحة، فمن علم منه اختيار الهدى يهديه فيدخله بذلك في جنته، ومن علم منه اختيار الضلال يضلُّه فيدخله بذلك السعير ولهذا قال {وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي والكافرون ليس لهم وليٌّ يتولاهم يوم القيامة، ولا نصيرٌ ينصرهم من عذاب الله، قال أبو حيان: والآية تسليةٌ للرسول صلى الله عليه وسلم عمَّا كان يقاسيه من كفر قومه، وتوقيفٌ على أنَّ ذلك راجعٌ إلى مشيئته جل وعلا، ولكنْ من سبقت له السعادة أدخله في رحمته يعني دين الإِسلام {أَمْ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ} استفهامٌ على سبيل الإِنكار أي بل اتخذ المشركون من دون الله آلهة، يستعينون بهم، ويطلبون نصرهم وشفاعتهم؟ {فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ} أي فاللهُ وحده هو الوليُّ الحقُّ الناصرُ للمؤمنين، لا وليَّ سواه {وَهُوَ يُحْيِ المَوْتَى} أي هو تعالى القادر على إحياء الموتى، لا تلك الأصنام التي لا تضر ولا تنفع {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لا يعجزه شيء فهو الحقيق بأن يُتخذ ولياً دون من سواه {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ} أي وما اختلفتم فيه أيها المؤمنون من شيء من أمر الدنيا أو الدين، فالحكم فيه إلى الله جل وعلا، هو الحاكم فيه بكتابه أو بسنة نبيه عليه السلام {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي} أي الموصوف بهذه الصفات هو ربي وحده، وَليِّي ومالك أمري، قال القرطبي: وفيه إضمارٌ أي قل لهم يا محمد: ذلكم الذي يُحيي الموتى، ويحكم بين المختلفين هو ربّي {عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ} أي عليه وحده اعتمدت في جميع أموري {وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} أي وإِليه وحده أرجع في كل ما يعرض عليَّ من مشكلاتٍ ومعضلات، لا إلى أحدٍ سواه، قال الرازي: والعبارة تفيد الحصر أي لا أتوكل إلا عليه، ولا أنيب إلا إليه، وهو إشارة إلى تزييف طريقة من اتخذ غير الله ولياً .. ثم بيَّن تعالى صفاته الجليلة القدسية، التي هي من آثار ومظاهر الربوبية فقال {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي هو جل وعلا خالقهما ومبدعهما على غير مثالٍ سابق {جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا} أي أوجد لكم بقدرته من جنسكم نساءً من الآدميات {وَمِنْ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا} أي وخلق لكم كذلك من الإِبل والبقر والضأن والمعز أصنافاً، ذكوراً وإِناثاً {يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ} أي يكثّركم بسببه بالتوالد، ولولا أنه خلق الذكر والأنثى لما كان ثَمة تناسلٌ ولا توالدٌ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي ليس له تعالى مثيلٌ ولا نظير، لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فهو الواحد الأحد، الفردُ الصمد والغرضُ: تنزيهُ الله تعالى عن مشابهة المخلوقين، والكاف هنا لتأكيد النفي أي ليس مثله شيءٌ، قال ابن قتيبة: العربُ تقيم المثل مقام النفس فتقول: مثلي لا يُقال له هذا أي أنا لا يُقال لي هذا، ومعنى الآية ليس كالله جل وعلا شيءٌ، وقال القرطبي: والذي يُعتقد في هذا الباب أن الله - جلَّ اسمُه - في عظمته وكبريائه، وملوكته وحُسنى أسمائه، لا يشبه شيئاً من مخلوقاته، ولا يُشبَّه به أحد، وما أطلقه الشرع على الخالق والمخلوق فلا تشابه بينهما في المعنى الحقيقي، إذْ صفاتُ القديم - عزَّ وجلَّ - بخلاف صفات المخلوق، وإِذْ صفاتُهم لا تنفك عن الأعراض والأغراض، وهو تعالى منزَّه عن ذلك، وقد قال بعض المحققين: التوحيدُ إثباتُ ذاتٍ غير مشبهةٍ للذوات، ولا معطَّلة من الصفات، وزاد الواسطيُّ فقال: ليس كذاته ذات، ولا كاسمه اسم، ولا كفعله فعل، وهذا مذهب أهل الحق، أهل السنة والجماعة {وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} أي وهو تعالى السميع لأقوال العباد، البصير بأفعالهم {لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي بيده جل وعلا مفاتيح خزائنهما من المطر والنبات وسائر الحاجات {يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} أي يوسِّعُ الرزق على من يشاء، ويضيّق على من يشاء، حسب الحكمة الإِلهية {إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تعليل لما سبق أي لأن علمه تعالى محيط بكل الأشياء، فهو واسع العلم، يعلم إِذا كان الغنى خيراً للعبد أو الفقر.
وحدة الأديان في أصولها
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ(13)وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ(14)}
{شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ} أي سنَّ وبيَّن لكم أيها المؤمنون من الشريعة السمحة والدين الحنيف، ما وصَّى به الرسل، وأرباب الشرائع من مشاهير الأنبياء، كنوح ومحمد عليهما السلام {وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى} أي وما أمرنا به بطريق الإِلزام إبراهيم وموسى وعيسى من أصول الشرائع والأحكام، قال الصاوي: خصَّ هؤلاء بالذكر لأنهم أكابر الأنبياء، واحداً بعد واحد، وشريعةً إثر شريعة، حتى ختمها الله بخير الملل، ملةِ أكرم الرسل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، فتبيَّن أن شرعنا - معشر الأمة المحمدية - قد جمع جميع الشرائع المتقدمة في أصول الاعتقادات، وأصول الأحكام ولهذا قال تعالى {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} أي وصيناهم بأن أقيموا الدين الحق - دين الإِسلام - الذي هو توحيدُ الله وطاعتهُ، والإِيمان بكتبه ورسله، وبالبعث والجزاء، قال القرطبي: المراد اجعلوا الدين قائماً مستمراً محفوظاً من غير خلافٍ فيه ولا اضطراب، في الأصول التي لا تختلف فيها الشريعة وهي: التوحيد، والصلاة، والصيام، والزكاة، والحج، وغيرها، فهذا كله مشروع ديناً واحداً وملة متحدة. {كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} أي عظُم وشقَّ على الكفار ما تدعوهم إليه من عبادة الله، وتوحيد الواحد القهار {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ} أي اللهُ يصطفي ويختار للإِيمان والتوحيد من يشاء من عباده، ويهدي إلى دينه الحق من يرجع إلى طاعته، فيوفقه له ويقربه إليه رحمةً وإِكراماً {وَمَا تَفَرَّقُوا إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءهُمْ الْعِلْمُ} أي وما تفرَّق أهل الأديان المختلفة من اليهود والنصارى وغيرهم إلاّ من بعد ما قامت عليهم الحجج والبراهين من النبي المرسل إليهم {بَغْيًا بَيْنَهُمْ} أي ظلماً وتعدياً، وحسداً وعناداً {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} أي ولولا أن الله قضى بتأخير العذاب عنهم إلى يوم القيامة {لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لعجَّل لهم العقوبة في الدنيا سريعاً باستئصالهم، قال ابن كثير: أي لولا الكلمة السالفة من الله تعالى بإِنظار العباد إلى يوم المعاد لعجل لهم العقوبة سريعاً {وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي وإِن بقيَّة أهل الكتاب الذين عاصروا رسول الله صلى الله عليه وسلم من بعد أسلافهم السابقين {لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ} أي لفي شك من التوراة والإِنجيل، موقع لهم في أشد الحيرة والريبة، لأنهم ليسوا على يقين من أمر دينهم وكتابهم، وإِنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم، بلا دليل ولا برهان، قال البيضاوي: لا يعلمون كتابهم كما هو ولا يؤمنون به حق الإِيمان، فهم في شك مقلق.
الأمر بالدعوة والاستقامة، ودحض حجج المجادلين
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ ءامنتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(15)وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(16)اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ(17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ ءامنوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ(18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ(19)}.
سبب النزول:
نزول الآية (16):
{وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ..}: أخرج ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت { إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ} قال المشركون بمكة لمن بين أظهرهم من المؤمنين: قد دخل الناس في دين الله أفواجاً، فاخرجوا من بين أظهرنا، فعلامَ تقيمون بين أظهرنا؟ فنزلت: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} الآية.
{فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} أي فلأجل ذلك التفرق الذي حدث لأهل الكتاب، أمرناك يا محمد أن تدعو الناس إلى دين الحنيفية السمحة، الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك، فادع يا محمد إليه والزم النهج القويم مع الاستقامة كما أمرك ربك {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ} أي ولا تتبع أهواء المشركين الباطلة فيما يدعونك إليه من ترك دعوة التوحيد {وَقُلْ ءامنتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ} أي صدَّقت بكل كتاب أنزله الله تعالى، قال الرازي: يعني الإِيمان بجميع الكتب السماوية، لأن أهل الكتاب المتفرقين في دينهم ءامنوا ببعضٍ وكفروا ببعض {وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ} أي وأمرني ربي بأن أعدل بينكم في الحكم، قال ابن جزي: يعني العدل في الأحكام إذا تخاصموا إليه {اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} أي الله خالقنا جميعاً ومتولي أمورنا فيجب أن نفرده بالعبادة {لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي لنا جزاء أعمالنا ولكم جزاء أعمالكم، من خير أو شرٍّ، لا نستفيد من حسناتكم ولا نتضرر من سيئاتكم، قال ابن كثير: هذا تبرؤٌ منهم أي نحن برآء منكم كقوله تعالى {وإِن كذبوك فقل لي عملي ولكم عملكم، أنتم بريئون مما أعمل وأنا بريءٌ مما تعملون} {لا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} أي لا جدال ولا مناظرة بيننا وبينكم، فإِن الحقَّ قد ظهر وبَانَ، كالشمس في رابعة النهار، وأنتم تعاندون وتكابرون {اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} أي الله يجمع بيننا يوم القيامة لفصل القضاء، وإليه المرجع والمآب فيجازي كل أحدٍ بعمله من خير وشر، قال الصاوي: والغرضُ أن الحقَّ قد ظهر، والحجج قد قامت، فلم يبق إلا العناد، وبعد العناد لا حجة ولا جدل، والله يفصل بين الخلائق يوم المعاد، ويجازي كلاً بعمله {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ} أي يخاصمون في دينه لصدِّ الناس عن الإِيمان {مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ} أي من بعد ما استجاب الناسُ له ودخلوا في دينه {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي حجتهم باطلة لا ثبوت لها عند الله، قال ابن عباس: نزلت في طائفةٍ من بني إسرائيل همَّت برد الناس عن الإِسلام وإِضلالهم ومحاجتهم بالباطل {وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي وعليهم غضب عظيم في الدنيا، وعذابٌ شديد في الآخرة {اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الكِتَابَ} أي نزَّل القرآن وسائر الكتب الإِلهية متلبساً بالصدق القاطع، والحقِّ الساطع، في أحكامه وتشريعاته وأخباره {والميزان} أي ونزَّل الميزان أي العدل والإِنصاف قاله ابن عباس، قال المفسرون: وسمي العدلُ ميزاناً لأن الميزان يحصل به العدل والإِنصاف، فهو من تسمية الشيء باسم السبب {بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} أي وما ينبئك أيها المخاطب لعلَّ وقت الساعة قريب؟ فإِن الواجب على العاقل أن يحذر منها، ويستعدَّ لها، قال أبو حيان: ووجه اتصال الآية بما سبق أن الساعة يوم الحساب فكأنه قيل: أمركم الله بالعدل والتسوية قبل أن يفاجئكم اليوم الذي يحاسبكم فيه ويزن أعمالكم {يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِهَا} أي يستعجل بالقيامة المشركون الذين لا يصدّقون بها فيقولون على سبيل الاستهزاء: متى تكون؟ {وَالَّذِينَ ءامنوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا} أي والمؤمنون المصدّقون بها خائفون وجلون من قيامها {وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ} أي ويعلمون أنها كائنة وحاصلة لا محالة {أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ} أي الذين يجادلون في أمر القيامة في ضلال بعيد عن الحق، لإِنكارهم عدل الله وحكمته.
{اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ} أي بارٌّ رحيم بالخلق كثير الإِحسان بهم، يفيض عليهم من الخيرات والبركات مع عصيانهم، قال مقاتل: لطيف بالبر والفاجر حيث لم يهلكهم جوعاً بمعاصيهم {يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ} أي يوسِّع الرزق على من يشاء، قال القرطبي: وفي تفضيل قومٍ بالمال حكمة، ليحتاج البعضُ إلى البعض، وهذا من لطفه بالعباد، وأيضاً ليمتحن الغنيَّ بالفقير، والفقير بالغني كقوله تعالى {وجعلنا بعضكم لبعضٍ فتنة أتصبرون} {وَهُوَ الْقَوِيُّ} أي القادر على كل ما يشاء {العَزِيزُ} أي الغالبُ الذي لا يُغالب ولا يُدافع.
حتمية الجزاء للمؤمنين والظالمين، وقبول التوبة
{مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ(20)أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(21)تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ(22)ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ(23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(24)وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(25)وَيَسْتَجِ يبُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ(26)}
سبب النزول:
نزول الآية (23):
{قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ..}: قال قتادة: قال المشركون: لعلّ محمداً فيما يتعاطاه يطلب أجراً، فنزلت هذه الآية، ليحثهم على مودّته ومودة أقربائه.
ثم لما بيَّن كونه لطيفاً بالعباد، كثير الإِحسان إليهم، أشار إلى أن الإِنسان ما دام في هذه الحياة فعليه أن يسعى في طلب الخيرات لأسباب السعادة فقال {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} أي من كان يريد بعمله ثواب الآخرة ونعيمها، نزدْ له في أجره وثوابه، بمضاعفة حسناته {وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا} أي ومن كان يريد بعمله متاع الدنيا ونعيمها فقط، نعطه بعض ما يطلبه من المتاع العاجل ممَّا قُدر له {وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ} أي وليس له في الآخرة حظٌ من الثواب والنعيم، قال الزمخشري: سمَّى ما يعمله العامل مما يبتغي به الفائدة حرثاً على سبيل المجاز، وفرَّق بينهما بأن من عمل للآخرة ضوعفت حسناته، ومن عمل للدنيا أُعطي شيئاً منها لا ما يريده ويبتغيه، وقال ابن جزي: حرثُ الآخرة عبارة عن العمل لها، وكذلك حرث الدنيا، وهو مستعارٌ من حرث الأرض، لأن الحرَّاث يعمل وينتظر المنفعة بما عمل، ثم أخذ ينكر على الكفار عبادتهم لغير الله، مع أنه الخالق المتفضل على العباد فقال {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}؟ الاستفهام للتقرير والتوبيخ أي ألهؤلاء الكفار شركاء من الشياطين أو آلهة من الأوثان، شرعوا لهم الشرك والعصيان الذي لم يأمر به الله؟ قال شيخ زاده: وإِسنادُ الشرع إلى الأوثان وهي جمادات إسنادٌ مجازي، من إسناد الفعل إلى السبب، وسمَّاه ديناً للمشاكلة والتهكم {وَلَوْلا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ} أي لولا أنَّ الله حكم وقضى في سابق أزله أن الثواب والعقاب يكونان يوم القيامة لحكم بين الكفار والمؤمنين، بتعجيل العقوبة للظالم، وإِثابة المؤمن {وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي وإِن الكافرين الذين ظلموا أنفسهم بالكفر والعصيان لهم عذابٌ موجع مؤلم {تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا} أي ترى أيها المخاطب الكافرين يوم القيامة خائفين خوفاً شديداً من جزاء السيئات التي ارتكبوها في الدنيا {وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ} أي والجزاء عليها نازلٌ بهم يوم القيامة لا محالة، سواءً خافوا أو لم يخافوا {وَالَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ} أي والمؤمنون الصالحون في رياض الجنة يتمتعون، في أطيب بقاعها، وفي أعلى منازلها {لَهُمْ مَا يَشَاءونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي لهم في الجنات ما يشتهونه من أنواع اللذائذ والنعيم والثواب العظيم عند رب كريم، قال ابن كثير: فأين هذا من هذا؟ أين من هو في الذل والهوان، ممن هو في روضات الجنان؟ فيما يشاء من مآكل ومشارب وملاذ؟ ولهذا قال تعالى {ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ} أي ذلك النعيم والجزاء هو الفوز الأكبر الذي لا يوازيه شيء، قال القرطبي: أي الفضل الذي لا يوصف، ولا تهتدي العقول إلى حقيقة صفته، لأن الحقَّ جل وعلا إذا قال "كبير" فمن ذا الذي يقدر قدره ؟ {ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي ذلك الإِكرام والإِنعام هو الذي يبشر الله به عباده المؤمنين المتقين، ليتعجلوا السرور ويزدادوا شوقاً إلى لقائه {قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى} أي قل لهم يا محمد لا أسألكم على تبليغ الرسالة شيئاً من الأجر والمال، إلاَّ أن تحفظوا حقَّ القربى ولا تؤذوني حتى أبلغ رسالة ربي، قال ابن كثير: أي لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح مالاً، وإِنما أطلب أن تذروني حتى أبلغ رسالات ربي، فلا تؤدوني بما بيني وبينكم من القرابة، قال ابن عباس: يقول إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة، وتودُّوني في نفسي لقرابتي منكم {وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا} أي ومن يكتسب ويفعل طاعةً من الطاعات نضاعف له ثوابها {إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ} أي غفور للذنوب شاكر لإِحسان المحسن، لا يضيع عنده عمل العامل، ولهذا يغفر الكثير من السيئات، ويكثِّر القليل من الحسنات {أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}؟ أي بل أيقول كفار قريش إن محمداً اختلق الكذب على الله بنسبة القرآن إليه؟ قال أبو حيان: وهذا استفهام إنكار وتوبيخ للمشركين على هذه المقالة أي مثله لا يُنسب إلى الكذب على الله مع اعترافكم له قبل الصدق والأمانة {فَإِنْ يَشَأْ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} أي لو افتريت على الله الكذب كما يزعم هؤلاء المجرمون لختم على قلبك فأنساك هذا القرآن، وسلبه من صدرك، ولكنك لم تفتر على الله كذباً ولهذا أيَّدك وسدَّدك، قال ابن كثير: وهذه كقوله جل وعلا {ولو تقوَّل علينا بعض الأقاويل. لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين} وقال أبو السعود: والآيةُ استشهادٌ على بطلان ما قالوا ببيان أنه عليه السلام لو افترى على الله تعالى لمنعه من ذلك قطعاً، بالختم على قلبه بحيث لا يخطر بباله معنى من معانيه، ولم ينطق بحرفٍ من حروفه {وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ} أي يزيل الله الباطل بالكلية {وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ} أي ويثبتُ اللهُ الحق ويوضّحه بكلامه المنزل، وقضائه المبرم، وقال ابن كثير: بكلماته أي بحججه وبراهينه {إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} أي عالم بما في القلوب، يعلم ما تكنه الضمائر، وتنطوي عليه السرائر، وقال القرطبي: والمراد أنك لو حدثت نفسك أن تفتري الكذب لعلمه الله وطبع على قلبك {وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ} هذا امتنانٌ من الرحمن على العباد أي هو جل وعلا بفضله وكرمه يتقبل التوبة من عباده، إذا أقلعوا عن المعاصي وأنابوا بصدقٍ وإخلاص نيّة {وَيَعْفُو عَنْ السَّيِّئَاتِ} أي يصفح عن الذنوب صغيرها وكبيرها لمن يشاء {وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} أي يعلم جميع ما تصنعون من خيرٍ أو شر {وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ ءامنوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أي ويستجيب الله دعاء المؤمنين الصالحين، قال الرازي: أي ويستجيبُ اللهُ للمؤمنين إلاَّ أنه حذف اللام كما حذف في قوله {وإِذا كالوهم} أي كالوا لهم {وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ} أي ويزيدهم من جوده وكرمه فوق ما سألوا واستحقوا لأنه الجواد الكريم، البرُّ الرحيم {وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ} أي وأما الكافرون بالله فلهم العذاب الموجع الأليم في دار الجحيم.
مظاهر حكمة الله، وآياته الدالة على قدرته
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ(27)وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ(28)وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ(29)وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ(30)وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ(31)وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ(32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ(33)أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ(34)وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ(35)فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ ءامنوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ(36)}.
سبب النزول:
نزول الآية (27):
{وَلَوْ بَسَطَ }: أخرج الحاكم وصححه عن علي قال: نزلت هذه الآية في أصحاب الصُّفَّة: {وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ} وذلك أنهم قالوا: لو أن لنا، فتمنوا الدنيا والغنى. وقال خبَّاب بن الأرتّ: فينا نزلت هذه الآية - أي في أهل الصفَّة - وذلك أنا نظرنا إلى أموال بني قريظة والنضير وبني قينقاع، فتمنيناها.
نزول الآية (36):
{فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ}: عن علي رضي الله عنه: تصدَّق أبو بكر رضي الله عنه بماله كله، فلامه جمع، فنزلت. جاء في الحديث: أنه أنفق ثمانين ألفاً.
{وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الأَرْضِ } أي ولو وسَّع الله الرزق على عباده لطغوا وبغَوْا وأفسدوا في الأرض بالمعاصي والآثام، لأن الغنى يوجب الطغيان، قال ابن كثير: أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق، لحملهم ذلك على البغي والطغيان من بعضهم على بعض أشراً وبطراً، وقال قتادة: خير العيش ما لا يُلهيك ولا يُطغيك {وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ} أي ولكنه تعالى يُنزّل أرزاق العباد بما تقتضيه الحكمة والمصلحة كما جاء في الحديث القدسي (إنَّ من عبادي من لا يصلحُه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه، وإِن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر، ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه) {إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ} أي عالم بأحوالهم وما يصلحهم، فيعطي ويمنع، ويبسط ويقبض، حسبما تقتضيه الحكمة الربانية {وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا} تعديدٌ لنعمه على العباد أي هو تعالى الذي ينزّل المطر، الذي يغيثهم من الجدب، من بعد ما يئسوا من نزوله {وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ} أي ويبسط خيراته وبركاته على العباد {وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ} أي وهو الوليُّ الذي يتولى عباده، المحمود بكل لسان على ما أسدى من النعماء {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي ومن دلائل قدرته، وعجائب حكمته، الدالة على وحدانيته، خلقُ السماوات والأرض بهذا الشكل البديع {وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ} أي وما نشر وفرَّق في السموات والأرض من مخلوقات، قال ابن كثير: هذا يشمل الملائكة والإِنس والجن، وسائر الحيوانات على اختلاف أشكالهم وألوانهم وأجناسهم وأنواعهم، وقال مجاهد: هم الناسُ والملائكة {وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ} أي وهو تعالى قادر على جمع الخلائق للحشر والحساب والجزاء، في أيِّ وقتٍ شاء {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} أي وإنّ ما أصابكم أيها الناس من المصائب في النفس أو المال فإِنما هي بسبب معاصيكم التي اكتسبتموها، قال الجلال: وعبَّر بالأيدي لأن أكثر الأفعال تُزاول بها {وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ} أي ويصفح عن كثير من الذنوب فلا يعاقبكم عليها، ولو آخذكم بكل ما كسبتم لهلكتم وفي الحديث (لا يصيب ابن آدم خدش عود، أو عثرة قدمٍ، ولا اختلاجُ عرقٍ إلا بذنبٍ، وما يعفو عنه أكثر) {وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ} أي ولستم أيها المشركون فائتين من عذاب الله، ولا هاربين من قضائه، وإِن هربتم من أقطارها كل مهرب {وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} أي وليس لكم غير الله وليٌّ يتولى أموركم ويتعهد مصالحكم، ولا نصير يدفع عنكم عذابه وانتقامه.
{وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلامِ} أي ومن علاماته الدالة على قدرته الباهرة، وسلطانه العظيم، السفنُ الجارية في البحر كأنها الجبال من عظمها وضخامتها {إِنْ يَشَأْ يُسْكِنْ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ} أي لو شاء تعالى لأسكن الرياح وأوقفها فتبقى السفن سواكن وثوابت على ظهر البحر لا تجري {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} أي إن في تسييرها لعبراً وعظات لكل مؤمن صابر في البأساء، شاكرٍ في الرخاء، قال الصاوي: أي كثير الصبر على البلايا، عظيم الشكر على العطايا، وقال أبو حيان: وإِنما ذكر السفن الجارية في البحر، لما فيها من عظيم دلائل القدرة، من جهة أن الماء جسم لطيف شفاف، يغوص فيه الثقيل، والسفن تحمل الأجسام الثقيلة الكثيفة ومع ذلك جعل الله تعالى في الماء قوة يحملها بها ويمنعها من الغوص، ثم جعل الرياح سبباً لسيرها فإِذا أراد أن ترسو أسكن الريح فلا تبرح عن مكانها {أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا} أي وإِن يشأ يجعل الرياح عواصف فيغرق هذه السفن وأهلها بسبب ما اقترفوا من جرائم {وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ} أي ويتجاوز عن كثير من الذنوب فينجيهم الله من الهلاك {وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ} أي وليعلم الكفار المجادلون في آيات الله بالباطل، أنه لا ملجأ لهم ولا مهرب من عذاب الله، قال القرطبي: أي ليعلم الكفار إِذا توسطوا البحر وغشيتهم الرياح من كل مكان أنه لا ملجأ لهم سوى الله، ولا دافع لهم إن أراد الله إهلاكهم فيخلصون له العبادة {فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي فما أعطيتم أيها الناس من شيء من نعيم الدنيا وزهرتها الفانية، فإِنما هو نعيم زائل، تتمتعون به مدة حياتكم ثم يزول {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى} أي وما عند الله من الثواب والنعيم، خيرٌ من الدنيا وما فيها، لأنَّ نعيم الاخرة دائم مستمر، فلا تُقدِّموا الفاني على الباقي {لِلَّذِينَ ءامنوا} أي للذين صدَّقوا الله ورسوله وصبروا على تلك الملاذ في الدنيا {وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} أي واعتمدوا على الله وحده في جميع أمورهم.
صفات المؤمنين المستقيمين
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ(37)وَالَّذِين َ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ(38)وَالَّذِين َ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ(39)وَجَزَاء ُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ(40)وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ(41)إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(42)وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ(43)}.
سبب النزول:
نزول الآية (37):
{وَإِذَا مَا غَضِبُوا..} قيل: نزلت في عمر حين شُتم بمكة، وقيل : في أبي بكر حين لامه الناس على إنفاق ماله، وحين شُتم فحلُم.
نزول الآية (38):
{وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا..}: نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان، فاستجابوا وأقاموا الصلاة.
نزول الآيات (41 - 43):
ذكر الكلبي والفراء أنها نزلت أيضاً في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقد شتمه بعض الأنصار، فرد عليه، ثم أمسك.
{وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ} أي وهؤلاء المؤمنون هم الذين يجتنبون كبائر الذنوب كالشرك والقتل وعقوق الوالدين {وَالْفَوَاحِشَ} قال ابن عباس: يعني الزنى {وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ} أي إِذا غضبوا على أحدٍ ممَّن اعتدى عليهم عفوا وصفحوا، قال الصاوي: من مكارم الأخلاق التجاوز والحلم عند حصول الغضب، ولكن يشترط أن يكون الحلم غير مخلٍ بالمروءة، ولا واجباً كما إِذا انتهكت حرماتُ الله فالواجب حينئذٍ الغضب لا الحلم، وعليه قول الشافعي "من استُغضب ولم يغضب فهو حمار" وقال الشاعر: "وحلمُ الفتى في غير موضعه جهل" {وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ} أي أجابوا ربهم إلى ما دعاهم إليه من التوحيد والعبادة، قال البيضاوي: نزلت في الأنصار دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإِيمان فاستجابوا {وَأَقَامُوا الصَّلاةَ} أي أدوها بشروطها وآدابها، وحافظوا عليها في أوقاتها {وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ} أي يتشاورون في الأمور ولا يعجلون، ولا يُبرمون أمراً من مهمات الدنيا والدين إلا بعد المشورة {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} أي وينفقون مما أعطاهم الله بالإِحسان إلى خلق الله {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} أي ينتقمون ممن بغى عليهم، ولا يستسلمون لظلم المعتدي، قال إبراهيم النخعي: كانوا يكرهون أن يُذلّوا أنفسهم فتجترئ عليهم الفساق، قال أبو السعود: وهو وصفٌ لهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر الفضائل،وهذا لا ينافيوصفهم بالغفران فإِن كلاً في موضعه محمود {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} أي وجزاء العدوان أن ينتصر ممن ظلمه من غير أن يعتدي عليه بالزيادة، قال الإِمام فخر الدين الرازي: لما قال تعالى {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمْ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ} أردفه بما يدل على أن ذلك الانتصار يجب أن يكون مقيداً بالمثل دون زيادة، وإِنما سمَّى ذلك سيئة لأنها تسوء من تنزل به {فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} أي فمن عفا عن الظالم، وأصلح بينه وبين عدوه، فإِن الله يثيبه على ذلك الأجر الجزيل، قال ابن كثير: شرع تعالى العدل وهو القصاص، وندب إلى الفضل وهو العفو، فمن عفا فإِن الله لا يضيع له ذلك كما جاء في الحديث (وما زاد اللهُ تعالى عبداً بعفوٍ إلا زاده عزاً) {إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ} أي إنه جل وعلا يبغض البادئين بالظلم، والمعتدين في الانتقام {وَلَمَنْ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ} أي انتصر ممن ظلمه دون عدوان {فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ} أي فليس عليهم عقوبة ولا مؤاخذة، لأنهم أتوا بما أبيح لهم من الانتصار {إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} أي إنما العقوبة والمؤاخذة على المعتدين الذين يظلمون الناس بعدوانهم {وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ} أي ويتكبرون في الأرض تجبراً وفساداً، بالمعاصي والاعتداء على الناس في النفوس والأموال {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي أولئك الظالمون الباغون لهم عذاب مؤلم موجع بسبب ظلمهم وبغيهم {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} أي ولمن صبر على الأذى، وترك الانتصار لوجه الله تعالى، فإِن ذلك الصبر والتجاوز من الأمور الحميدة التي أمر الله بها وأكد عليها، قال الصاوي: كرَّر الصبر اهتماماً به وترغيباً فيه وللإِشارة إلى أنه محمود العاقبة.
النار وحال الكفار منها
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ(44)وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ ءامنوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ(45)وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ(46)}.
{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} أي ومن يضلله اللهُ فليس له ناصر ولا هادٍ يهديه إلى الحق {وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ} أي وترى الكافرين حين شاهدوا عذاب جهنم {يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} أي يطلبون الرجوع إلى الدنيا لهول ما يشاهدون من العذاب ويقولون: هل هناك طريق لعودتنا إلى الدنيا؟ قال القرطبي: يطلبون أن يُردُّوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله عز وجل فلا يجابون {وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَ } أي وتراهم أيها المخاطب يُعرضون على النار {خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} أي متضائلين صاغرين مما يلحقهم من الذل والهوان {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} أي يسارقون النظر خوفاً منها وفزعاً كما ينظر من قُدِّم ليقتل بالسيف، فإِنه لا يقدر أن ينظر إليه بملء عينه، قال ابن عباس: ينظرون بطرفٍ ذابلٍ ذليل، وقال قتادة والسدي: يُسارقون النظر من شدة الخوف {وَقَالَ الَّذِينَ ءامنوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي يقول المؤمنون في الجنة لما عاينوا ما حلَّ بالكفار: إن الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء، فإِنهم خسروا أنفسهم وأهليهم بخلودهم في نار جهنم {أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ} أي ألا إنهم في عذاب دائمٍ لا ينقطع {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي وما كان لهم من أعوان ونصراء ينصرونهم من عذاب الله كما كانوا يرجون ذلك في الدنيا {وَمَنْ يُضْلِلْ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} أي ومن يضلله اللهُ فليس له طريق يصل به إلى الحق في الدنيا، وإِلى الجنة في الآخرة، لأنه قد سُدَّت عليه طريق النجاة، قال ابن كثير: من يضلله الله فليس له خلاص.
الاستجابة لله عز وجل
{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ(47)فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ(48)لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ(49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ(50)}.
{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} أي استجيبوا أيها الناسُ إلى ما دعاكم إليه ربكم من الإِيمان والطاعة {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} أي من قبل أن يأتي ذلك اليوم الرهيب الذي لا يقدر أحدٌ على ردِّه، لأنه ليس له دافع ولا مانع {مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ} أي ليس لكم مفر تلتجئون إليه {وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} أي وليس لكم منكِرٌ يُنكِر ما ينزل بكم من العذاب، وقال أبو السعود: أي ما لكم إنكار لما اقترفتموه لأنه مدوَّن في صحائف أعمالكم وتشهد عليه جوارحكم {فَإِنْ أَعْرَضُوا } أي فإِن أعرض المشركون عن الإِيمان ولم يقبلوا هداية الرحمن {فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا} أي فما أرسلناك يا محمد رقيباً على أعمالهم ولا محاسباً لهم {إِنْ عَلَيْكَ إِلا الْبَلاغُ} أي ما عليك إلاَّ أن تبلغهم رسالة ربك وقد فعلت، قال أبو حيان: والآية تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وتأنيسٌ له، وإِزالةٌ لهمِّه بهم، ثم أخبر تعالى أن طبيعة الإِنسان الكفران لنعم الله فقال {وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا} المرادُ بالإِنسان الجنس بدليل قوله {وَإِنْ تُصِبْهُمْ} والمعنى إنا إذا أكرمنا الإِنسان بنعمةٍ من النعم من صحة وغنى وأمنٍ وغيرها بطر وتكبَّر {سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الإِنسَانَ كَفُورٌ} أي وإِن أصاب الناسَ جدبٌ ونقمة، وبلاءٌ وشدة، بسبب ما اقترفوه من آثام فإِن الإِنسان مبالغٌ في الجحود والكفران، ينسى النعمة ويذكر البلية، قال الصاوي: والحكمةُ في تصدير النعمة بـ "إذا" والبلاء بـ "إنْ" هو الإِشارة إلى أن النعمة محققة الحصول بخلاف البلاء، لأن رحمة الله تغلب غضبه، وقال الإِمام فخر الدين الرازي: نِعَمُ اللهِ في الدنيا وإِن كانت عظيمة إلا أنها بالنسبة إلى سعادة الآخرة كالقطرة بالنسبة إلى البحر فلذلك سمَّاها ذوقاً، فبيَّن تعالى أن الإِنسان إذا فاز بهذا القدر الحقير في الدنيا فإِنه يفرح بها ويعظم غروره بسببها ويقع في العجب والكبر، ويظن أنه فاز بكل المُنى، وذلك لجهله بحال الدنيا وبحال الآخرة {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ} أي هو تعالى المالك للكون كلِّه، علويه وسفليّه، والمتصرف فيه بالخلق والإِيجاد، كيفما شاء، والمقصودُ من الآية أن لا يغتر الإِنسان بما ملكه من المال والجاه، وأن يعلم أن الكل ملك الله وحده، وبيده مقاليد التصرف في السماوات والأرض، يعطي ويمنع، لا رادَّ لقضائه ولا معقّب لحكمه {يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا} أي يخص من شاء من عباده بالإِناث دون البنين {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ} أي ويخص من شاء بالذكور دون الإِناث {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا} أي يجعلهم إن شاء من النوعين فيجمع للإِنسان بين البنين والبنات {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا} أي ويجعل بعض الرجال عقيماً فلا يولد له، وبعض النساء عقيماً فلا تلد، قال البيضاوي: والمعنى يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة، على مقتضى المشيئة، فيهب لبعضٍ إمّا صنفاً واحداً من ذكر أو أنثى، أو الصنفين جمعاً، ويُعقم آخرين، والمراد من الآية بيان نفاذ قدرته تعالى في الكائنات كيف يشاء، ولهذا قال {إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} أي مبالغ في العلم والقدرة، يفعل ما فيه مصلحة وحكمة، قال ابن كثير: جعل تعالى الناس أربعة أقسام : منهم من يعطيه البنات، ومنهم من يعطيه البنين، ومنهم من يعطيه النوعين الذكور والإِناث، ومنهم من يمنعه هذا وهذا فيجعله عقيماً لا نسل له ولا ولد، فسبحان العليم القدير.
الوحي وأقسامه
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ(51)وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ(53)}.
سبب النزول:
نزول الآية (51):
{وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ..} سبب نزول هذه الآية أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيّاً، كما كلّمه موسى؟ فنزلت، وقال: لم ينظر موسى إلى الله تعالى.
ثم ذكر تعالى الوحي وأقسامه وأنواعه فقال: {وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا}أي وما صحَّ لأحدٍ من البشر أياً كان أن يكلمه الله إلا بطريق الوحي في المنام أو بالإِلهام، لأن رؤيا الأنبياء حقٌ كما وقع للخليل إبراهيم عليه السلام {إني أرى في المنام أني أذبحك} {أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ} أي أو يكلمه من وراء حجاب كما كلَّم موسى عليه السلام {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ} أي أو يرسل ملكاً فيبلغ الوحي إلى الرسول بأمره تعالى ما يشاء تبليغه كما نزل جبريل بالوحي على الأنبياء، قال ابن جزي: بيَّن تعالى في الآية أن كلامه لعباده على ثلاثة أوجه: أحدها الوحي بطريق الإِلهام أو المنام، والآخر أن يُسمعه كلامه من وراء حجاب، والثالث: الوحي بواسطة الملك، وهذا خاص بالأنبياء، والثاني خاص بموسى وبمحمد إذ كلمه الله ليلة الإِسراء، وأما الأول فيكون للأنبياء والأولياء، وقال الصاوي: وقد يقع الإِلهام لغير الأنبياء كالأولياء، غير أن إلهام الأولياء قد يختلط به الشيطان لأنهم غير معصومين، بخلاف الأنبياء فإِلهامهم محفوظ منه {إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ} أي إنه تعالى متعالٍ عن صفات المخلوقين، حكيم في أفعاله وصنعه، تجري أفعاله على موجب الحكمة {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا} أي وكما أوحينا إلى غيرك من الرسل أوحينا إليك يا محمد هذا القرآن، وسمَّاه روحاً لأن فيه حياة النفوس من موت الجهل، وكان مالك بن دينار يقول: يا أهل القرآن ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإِن القرآن ربيع القلوب كما أن الغيث ربيع الأرض {مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} أي ما كنت يا محمد تعرف قبل الوحي ما هو القرآن، ولا كنت تعرف شرائع الإِيمان ومعالمه على وجه التفصيل {وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} أي ولكن جعلنا هذا القرآن نوراً وضياءً نهدي به عبادنا المتقين {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي وإِنك يا محمد لترشد إلى دين قيمٍ مستقيم هو الإِسلام {صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} أي هذا الدين الذي لا اعوجاج فيه هو دينُ الله الذي له كل ما في الكون ملكاً وخلقاً وعبيداً {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأُمُورُ} أي ألا إلى الله وحده ترجع الأمور فيفصل فيها بين العباد بحكمه العادل وقضائه المبرم.
-
رد: تفسير القران الكريم
سورة الزّخْرُف
تأكيد عربية القرآن، وعقاب المستهزئين بالأنبياء
عبادة المشركين غير الله
البراءة من عبادة الأصنام، واختيار الله للأنبياء
حال المعرض عن ذكر الله، وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم
العبرة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون
العبرة من قصة عيسى عليه السلام
نِعَمُ الله على المؤمنين يوم القيامة
حال الأشقياء الفجار يوم القيامة
تنزيه الله تعالى عن الولد والشريك
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة الزخرف مكية، وقد تناولت أسس العقيدة الإِسلامية وأصول الإِيمان، "الإِيمان بالوحدانية، وبالرسالة، وبالبعث والجزاء" كشأن سائر السور المكية.
* عرضت السورة لإِثبات مصدر الوحي، وصدق هذا القرآن، الذي أنزله الله على النبيّ الأمي بأفصح لسانٍ، وأنصع بيان، ليكون معجزة واضحة للنبي العربي.
* ثم عرضت إلى دلائل قدرته تعالى ووحدانيته، منبثةً في هذا الكون الفسيح، في السماء والأرض، والجبال والوهاد، والبحار والأنهار، والماء الهاطل من السماء، والسفن التي تسير فوق سطح الماء، والأنعام التي سخرها الله للبشر ليأكلوا لحومها ويركبوا ظهورها.
* ثم تناولت السورة ما كان عليه المجتمع الجاهلي من الخرافات والوثنيات فقد كانوا يكرهون البنات، ومع ذلك اختاروا لله البناتِ سفهاً وجهلاً، فزعموا أن الملائكة بنات الله، فجاءت الآيات لتصحيح تلك الانحرافات، وردِّ النفوس إلى الفطرة، وإلى الحقائق الأولى القطعية.
* وتحدثت السورة بإِيجاز عن دعوة الخليل إبراهيم عليه السلام، الذي يزعم المشركون أنهم من سلالته وعلى ملته، فكذبتهم في تلك الدعوى، وبينت الآيات أن إبراهيم أول من تبرأ من الأوثان.
* ثم انتقلت إلى تفنيد تلك الشبهة السقيمة، التي أثارها المشركون حول رسالة محمد عليه السلام، فقد اقترحوا أن تتنزَّل الرسالة على رجلٍ من أهل الجاه والثراء، لا على يتيم فقير كمحمد صلى الله عليه وسلم فجاءت الآيات لتقرير أن الجاه والثراء ليسا ميزاناً لكرامة الإِنسان واستحقاقه المناصب الرفيعة، وأن الدنيا من الحقارة والمهانة بحيث لو شاء الله لأغدقها على الكافرين ومنعها عباده المؤمنين.
* وذكرت السورة قصة "موسى وفرعون" لتأكيد تلك الحقيقة السابقة، فها هو فرعون الجبار يعتز ويفخر على موسى بملكه وسلطانه، كما يعتز الجاهلون من رؤساء قريش على النبي صلى الله عليه وسلم ثم تكون نتيجته الغرق والدمار.
* وختمت السورة الكريمة ببيان بعض أحوال الآخرة وشدائدها وأهوالها، وبيان حال الأشقياء المجرمين، وهم يتقلِّبون في غمرات الجحيم.
التسميَــة:
سميت "سورة الزخرف" لما فيها من التمثيل الرائع - لمتاع الدنيا الزائل وبريقها الخادع - بالزخرف اللامع، الذي ينخدع به الكثيرون، مع أنها لا تساوي عند الله جناح بعوضة، ولهذا يعطيها الله للأبرار والفجار، وينالها الأخيار والأشرار، أما الآخرة فلا يمنحها الله إلا لعباده المتقين، فالدنيا دار الفناء، والآخرة دار البقاء.
تأكيد عربية القرآن، وعقاب المستهزئين بالأنبياء
{حم(1)وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ(2)إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ(3)وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ(4)أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ(5)وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ(6)وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِءون(7)فَأَهْلَك ْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ(8)}
{حم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن {وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ} قسمٌ أقسم الله به أي أُقْسمُ بالقرآن البيّن الواضح الجلي، المظهر طريق الهدى من طريق الضلال، المبيِّن للبشرية ما تحتاج إليه من الأحكام والدلائل الشرعية {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} هذا هو المقسم عليه أي أنزلناه بلغة العرب، مشتملاً على كمال الفصاحة والبلاغة، بأسلوب محكم، وبيانٍ معجز {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} أي لكي تفهموا أحكامه، وتتدبروا معانيه، وتعقلوا أن أسلوبه الحكيم خارج عن طوق البشر، قال البيضاوي: أقسم تعالى بالقرآن على أنه جعله قرآناً عربياً، وهو من البدائع البلاغية لتناسب القسم والمُقْسم عليه، تنبيهاً على أنه لا شيء أعلى منه فيقسم به، وهذا يدل على شرف القرآن وعزته بأبلغ وجهٍ وأدقه {وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا} أي وإِنه في اللوح المحفوظ عندنا {لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ} أي رفيع الشأن عظيم القدر، ذو حكمةٍ بالغةٍ ومكانةٍ فائقة، قال ابن كثير: بيَّن شرف القرآن في الملأ الأعلى، ليشرّفه ويعظّمه أهل الأرض أي وإِن القرآن في اللوح المحفوظ عندنا ذو مكانةٍ عظيمة، وشرف وفضل {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا} الاستفهام إِنكاري أي أنترك تذكيركم إعراضاً عنكم، ونعتبركم كالبهائم فلا نعظكم بالقرآن؟ {أَنْ كُنتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} أي لأجل أنكم مسرفون في التكذيب والعصيان؟ لا، بل نذكّركم ونعظكم به إلى أن ترجعوا إلى طريق الحق، قال قتادة: لو أن هذا القرآن رُفع حين ردَّه الأوائل لهلكوا، ولكنَّ الله برحمته كرَّره عليهم، ودعاهم إليه عشرين سنة، قال ابن كثير: وقول قتادة لطيف المعنى جداً وحاصلة أنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير، وإلى الذكر الحكيم، وإِن كانوا مسرفين معرضين عنه، بل يأمر به ليهتدي به من قدَّر هدايته، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته {وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الأَوَّلِينَ}؟ تسلية للنبي عليه السلام أي ما أكثر مَنْ أرسلنا مِنَ الأنبياء في الأمم الأولين؟ {وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزءُون} أي ولم يكن يأتيهم نبي إلا سخروا منه واستهزؤا به، قال الصاوي: وهذا تسلية له صلى الله عليه وسلم والمعنى تسلَّ يا محمد ولا تحزن فإِنه وقع للرسل قبلك ما وقع لك {فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا} أي فأهلكنا قوماً كانوا أشد قوة من كفار مكة وأعتى منهم وأطغى {وَمَضَى مَثَلُ الأَوَّلِينَ} أي وسبق في القرآن أحاديثُ إِهلاكهم، ليكونوا عظة وعبرة لمن بعدهم من المكذبين، قال الإِمام فخر الدين الرازي: إن كفار مكة سلكوا في الكفر والتكذيب مسلك من كان قبلهم، فليحذروا أن ينزل بهم مثل ما نزل بأولئك فقد ضربنا لهم مثَلَهم.
إقرار المشركين بمخلوقات الله ،ودعاء ركوب الدابة
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ(9)الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ(10)وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ(11)وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ(12)لِتَسْتَوُ وا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ(13)وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ(14)}.
{وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} أي ولئن سألتَ يا محمد هؤلاء المشركين من خلق السماواتِ والأرض بهذا الشكل البديع {لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ} أي ليقولُنَّ خلقهنَّ اللهُ وحده، العزيزُ في ملكه، العليمُ بخلقه، قال القرطبي: أقروا له بالخلق والإِيجاد، ثم عبدوا معه غيره جهلاً منهم وسفهاً .. ثم بيَّن تعالى لهم صفاته الجليلة، الدالة على كمال القدرة والحكمة فقال {الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ مَهْدًا} أي بسط الأرض وجعلها كالفراش لكم، تستقرون عليها وتقومون وتنامون {وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أي وجعل لكم فيها طُرُقاً تسلكونها في أسفاركم {لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا إلى قدرة الخالق الحكيم، مبدع هذا النظام العجيب {وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ} أي نزَّل بقدرته الماء من السماء بمقدارٍ ووزنٍ معلوم، بحسب الحاجة والكفاية، قال البيضاوي: أي بمقدار ينفع ولا يضر {فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا} أي فأحيينا به أرضاً ميتةً مقفرةً من النبات {كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ} أي كذلك نخرجكم من قبوركم كما نُخرج النبات من الأرض الميتة {وَالَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا} أي خلق جميع الأصناف من الحيوان والنبات وغير ذلك، قال ابن عباس: "الأزواج" الأصناف والأنواع كلها كالحلو والحامض، والأبيض والأسود، والذكر والأنثى {وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ} أي وسخَّر لكم من السفن في البحر، والإِبل في البر ما تركبونه في أسفاركم، قال ابن كثير: أي ذلَّلها وسخَّرها ويسَّرها لكم، لتأكلوا لحومها وتركبوا ظهورها {لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ} أي لتستقروا على ظهور هذا المركوب، سفينةً كانت أو جملاً {ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} أي وتتذكروا نعمة ربكم الجليلة عليكم حين تستقرون فوقها فتشكروه بقلوبكم {وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا} أي وتقولوا بألسنتكم عند ركوبكم: سبحان الله الذي ذلَّل ويسَّر لنا ركوب هذا المركوب {وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ} أي وما كنا قادرين ولا مطيقين لركوبه لولا تسخيره تعالى لنا {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُون} أي وإِنا إلى ربنا لراجعون، وصائرون إليه بعد الموت، قال في حاشية البيضاوي: وليس المراد من ذكر النعمة تصورها وإِخطارها في البال، بل المراد تذكر أنها نعمة حاصلةٌ بتدبير القادر العليم الحكيم، مستدعية لطاعته وشكره، فإِن من تفكر في أنَّ ما يركبه الإِنسان من الفُلْك والأنعام، أكثر قوةً وأكبر جثة من راكبه، ومع ذلك كان مسخراً لراكبه يتمكن من تصريفه إلى أيّ جانب شاء، وتفكر أيضاً في خلق البحر والريح وفي كونهما مسخرين للإِنسان مع ما فيهما من المهابة والأهوال، استغرق في معرفة عظمة الله تعالى وكبريائه، وكمال قدرته وحكمته، فيحمله ذلك الاستغراق على أن يقول متعجباً من عظمة الله {سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}.
عبادة المشركين غير الله
{وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ(15)أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ(16)وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ(17)أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ(18)وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ(19)وَقَالُو ا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ(20)أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ(21)بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ(22)وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ(23)قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ(24)فَانتَقَمْن َا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ(25)}.
سبب النزول:
نزول الآية (19):
{وجعلوا الملائكة ..}: أخرج ابن المنذر عن قتادة قال: قال ناس من المنافقين: إن الله صاهر الجن، فخرجت من بينهم الملائكة، فنزل فيهم: {وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً...}.
نزول الآية (22):
{بل قالوا: إنّا وجدنا آباءنا ..} حكى مقاتل أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة وأبي سفيان وأبي جهل وعتبة وشيبة ابني ربيعة من قريش، أي وكما قال هؤلاء فقد قال من قبلهم أيضاً، يعزّي نبيه صلى الله عليه وسلم.
ولما ذكر تعالى اعتراف المشركين بأن خالق السماوات والأرض هو رب العالمين، ذكر بعده ما يدل على سفههم وجهلهم في عبادة غير الله فقال {وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً} أي جعل المشركون لله ولداً حيث قالوا: الملائكةُ بنات الله {إِنَّ الإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ} أي إن القائل لهذا لمبالغٌ في الكفر، عظيم الجحود والطغيان، قال البيضاوي: أي ظاهر الكفران لأن نسبة الولد إليه تعالى من فرط الجهل به والتحقير لشأنه {أَمِ اتَّخَذَ ممَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ} إِنكارٌ وتعجبٌ من حالهم أي هل اتخذ تعالى لنفسه البنات، وخصَّكم واختار لكم البنين؟ قال ابن كثير: وهذا إنكار عليهم غاية الإِنكار، ثم ذكر تعالى تمام الإِنكار فقال {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً} أي وإِذا بُشِّر أحد المشركين بالأنثى التي جعلها مثلاً لله بنسبة البنات له {ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ} أي صار وجهه كأنه أسود من الكآبة والحزن، وهو ممتلئٌ غيظاً وغماً من سوء ما بُشّر به، قال الإِمام فخر الدين الرازي: والمقصودُ من الآية التنبيهُ على قلة عقولهم وسخافة تفكيرهم، فإِن الذي بلغ حاله في النقص إلى هذا الحدِّ كيف يجوز للعاقل إثباتُه لله تعالى؟ وقد روي عن بعض العرب أن امرأته وضعت أنثى فهجر البيت الذي فيه المرأة {أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ } أي أيجعلون للهِ من يُربَّى في الزينة وينشأ ويكبر عليها وهنَّ الإِناث؟ {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} أي ومن هو في الجدال غيرُ مظهرٍ لحجته لضعف رأيه؟ أوَمَنْ يكونُ هكذا يُنْسب إلى جناب الله العظيم؟ قال ابن جزي: والمقصد الرد على الذين قالوا الملائكةُ بنات الله، كأنه قال: أجعلتم للهِ من ينشأ في الحلية؟ يعني يكبر وينبت في استعمالها، وذلك صفةُ النقص، ثم أتبعها بصفة نقصٍ أُخرى فقال {وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ} يعني أن الأنثى إذا خاصمت أو تكلمت لم تقدر أن تبيّن حجتها لنقص عقلها، وقلّما تجد امرأة إلا تفسد الكلام، وتخلط المعاني، فكيف يُنسب لله من يتصف بهذه النقائص؟ وقال ابن كثير: المرأة ناقصة في الصورة والمعنى، فيكمل نقص ظاهرها وصورتها بلبس الحلي ليجبر ما فيها من نقص، كما قال بعض الشعراء:
وما الحليُ إلا زينـةٌ من نقيصـةٍ يتمِّم من حُسْنٍ إِذا الحُسْنُ قصَّرا
وأما نقصُ معناها فإِنها ضعيفةٌ عاجزةٌ عن الانتصار، كما قال بعض العرب وقد بُشِّر ببنت "ما هي بنعم الولد، نصرُها بكاءٌ، وبرُّها سرقة" {وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا} كفرٌ آخر تضمنه قولهم الشنيع أي واعتقد كفار العرب بأن الملائكة - الذين هم أكمل العباد وأكرمهم على الله - إناثٌ وحكموا عليهم بذلك {أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ } أي أحضروا وقت خلق الله لهم حتى عرفوا أنهم إناث؟ وهذا تجهيلٌ وتهكمٌ بهم {سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ} أي سنأمر الملائكة بكتابة شهادتهم الكاذبة في ديوان أعمالهم ويُسألون عنها يوم القيامة، وهو وعيدٌ شديدٌ مع التهديد، قال المفسرون: حكى تعالى عن كفار العرب ثلاثة أقوال شنيعة: الأول: أنهم نسبوا إلى الله الولد، الثاني: أنهم نسبوا إليه البناتِ دون البنين، الثالث: أنهم حكموا على الملائكة المكرمين بالأنوثة بلا دليل ولا برهان، فكذَّبهم القرآن الكريم في تلك الأقوال، ثم زادوا ضلالاً وبهتاناً فزعموا أنَّ ذلك برضى الله {وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} أي قالوا على سبيل السخرية والاستهزاء: لو شاء اللهُ ما عبدنا هؤلاء الملائكة ولا الأصنام، ولمَّا كانت عبادتنا واقعة بمشيئته فهو راضٍ بها، قال القرطبي: وهذا منهم كلمةُ حقٍّ أُريد بها باطل، فكل شيء بإِرادة الله، والمشيئةُ غير الرضى، ولا يصح الاحتجاج بالمشيئة، فإِنهم لو عبدوا الله بدل الأصنام لعلمنا أنَّ الله أراد منهم ذلك، وقد كذبهم الله بقوله {مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} أي ما لهم بذلك القول حجة ولا برهان {إِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} أي ما هم إلا يكذبون ويتقوَّلون على الله كذباً وزوراً {أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ} ردٌّ آخر عليهم، أي أم أنزلنا على هؤلاء المشركين كتاباً من قبل القرآن فهم بذلك الكتاب متمسكون يعملون بتوجيهاته؟ قال الإِمام فخر الدين الرازي: والمعنى: هل وجدوا ذلك الباطل في كتاب منزَّل قبل القرآن حتى يعوِّلوا عليه ويتمسكوا به؟ {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ} بل للإِضراب وهو الانتقال من كلام إلى آخر أي لم يأتوا بحجةٍ عقلية أو نقلية على ما زعموا بل اعترفوا بأنه لا مستند لهم سوى تقليد آبائهم الجهلة، قال أبو السعود: والأُمةُ: الدينُ والطريقةُ سميت أمةً لأنها تؤم وتقصد {وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} أي ونحن ماشون على طريقتهم مهتدون بآثارهم {وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ} أي وكما تبع هؤلاء الكفار آباءهم بغير حجة ولا برهان كذلك فعل من قبلهم من المكذبين، فما بعثنا قبلك رسولاً في أمةٍ من الأمم {إِلا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} أي إلا قال المتنعمون فيها الذين أبطرتهم النعمة، وأعمتهم الشهواتُ والملاهي عن تحمل المشاق في طلب الحق: إنا وجدنا أسلافنا على ملةٍ ودين، وإِنا مقتدون بهم في طريقتهم، قال البيضاوي: والآية تسليةٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ودلالةٌ على أن التقليد في نحو هذا ضلالٌ قديم، وأسلافُهم لم يكن لهم سندٌ منظور يُعتَدُّ به، وإِنما خصَّص المترفين بالذكر للإِشعار بأن التنعم وحبَّ البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد الأعمى، وذكر هنا {مُقْتَدُونَ} وهناك {مُهْتَدُونَ} تفنناً لأن معناهما واحد {قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ}؟ أي قال كل نبيٍّ لقومه حين أنذرهم عذاب الله: أتقتدون بآبائكم ولو جئتكم بدينٍ أهدى وأرشد مما كانوا عليه؟ {قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} أي قالوا إنا كافرون بكل ما أُرسلتم به من التوحيد والإِيمان والبعث والنشور {فَانتقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ} أي فانتقمنا من الأمم المكذبة بأنواع العذاب فانظر كيف صار حالهم ومآلهم!!
البراءة من عبادة الأصنام، واختيار الله للأنبياء
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ(26)إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ(27)وَجَعَلَهَ ا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(28)بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمْ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ(29)وَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ(30)وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ(31)أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمت رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(32)وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَايَظْهَرُونَ(33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ(34)وَزُخْرُف ًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ(35)}.
سبب النزول:
نزول الآيتين (31-32):
أخرج ابن جرير عن ابن عباس "أن العرب قالوا: وإذا كان النبِّي بشراً فغير محمد كان أحق بالرِّسالة: {لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} يكون أشرف من محمد، يعنون الوليد بن المغيرة من مكة، وعروة بن مسعود الثقفي من الطائف، فأنزل الله ردّاً عليهم: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ}".
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ} أي واذكر يا محمد حين قال إبراهيم الخليل لأبيه وقومه المشركين: إنني بريءٌ من هذه الأوثان التي تعبدونها من دون الله {إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ} أي لكنْ ربي الذي خلقني وأنشأني من العدم فإِنه يرشدني إلى الدين الحق، ويهديني إلى طريق السعادة {وَجَعَلَهَا كَلمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ} أي وجعل إبراهيم هذه الكلمة - كلمة التوحيد - باقيةً في ذريته فلا يزال فيهم من يوحِّد الله {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي رجاء أن يرجع إلى الإِيمان من أشرك منهم، قال مجاهد: "وجعلها كلمة" يعني "لا إله إلا الله" لا يزال في ذريته من يقولها إلى يوم الدين {بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلاءِ وَآبَاءهُمْ} أي بل متعتُ أهل مكة وآباءهم - وهم من عقب إبراهيم - بالإِمداد في العمر والنعمة، فاغتروا بالمهلة واشتغلوا بالتنعم واتباع الشهوات عن كلمة التوحيد {حَتَّى جَاءَهُمْ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ} أي حتى جاءهم القرآن ورسولٌ ظاهر الرسالة، مؤيدٌ بالمعجزات الباهرة من عند الله، قال الإِمام فخر الدين الرازي: وجه نظم الآية أنهم لما عوَّلوا على تقليد الآباء، ولم يتفكروا في الحجة، اغتروا بطول الإِمهال وإِمتاع الله إياهم بنعيم فأعرضوا عن الحق {وَلَمَّا جَاءهُمْ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ} أي ولمَّا جاءهم القرآن لينبههم من غفلتهم، ويرشدهم إلى التوحيد، ازدادوا عتواً وضلالاً فقالوا عن القرآن إنه سحر {وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ} أي ونحن كافرون به، لا نصدّق أنه كلام الله، قال أبو السعود: سمَّوا القرآن سحراً وكفروا به واستحقروا الرسول عليه السلام، فضمُّوا إلى كفرهم السابق معاندة الحق والاستهانة به {وَقَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ} أي وقال المشركون: هلاَّ أُنزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير في مكة أو الطائف!! قال المفسرون: يعنون "الوليد بن المغيرة" في مكة أو "عُروة بن مسعود الثقفي" في الطائف .. استبعدت قريش نزول القرآن على محمد وهو فقير يتيم، واقترحوا أن ينزل على أحد الرؤساء والعظماء، ظناً منهم أن العظيم هو الذي يكون له مال وجاه، وفاتهم أن العظيم هو الذي يكون عند الله تعالى عظيماً، وهم يعتبرون مقياس العظمة: الجاه والمال، وهذا رأي الجاهلين في كل زمانٍ ومكان، أما مقياسُ العظمة الحقيقية عند الله تعالى وعند العقلاء، فإِنما هو عظمة النفس، وسُموُّ الروح، ومَنْ أعظمُ نفساً وأسمى روحاً من محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام!! ولهذا ردَّ تبارك وتعالى عليهم بقوله {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ}؟ أي أهم يمنحون النبوة ويخصُّون بها من شاءوا من العباد، حتى يقترحوا أن تكون لفلان الغني، أو فلانٍ الكبير من الناس؟ {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي نحن بحكمتنا جعلنا هذا غنياً وهذا فقيراً، وفاوتنا بينهم في الأموال والأرزاق، وإِذا كان أمر المعيشة - وهو تافه حقير - لم نتركه لهم بل تولينا قسمته بأنفسنا، فكيف نترك أمر النبوة -وهو عظيم وخطير - لأهوائهم ومشتهياتهم!! قال ابن جزي: كما قسمنا المعايش في الدنيا كذلك قسمنا المواهب الدينية، وإِذا كنا لم نهمل الحظوظ الحقيرة الفانية، فأولى وأحرى ألا نُهمل الحظوظ الشريفة الباقية {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ} أي فاضلنا بين الخلق في الرزق والعيش، وجعلناهم مراتب: هذا غني، وهذا فقير، وهذا متوسط الحال {لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} أي ليكون كلٌ منهم مسخراً للآخر، ويخدم بعضهم بعضاً، لينتظم أمر الحياة، قال الصاوي: إن القصد من جعل الناس متفاوتين في الرزق، لينتفع بعضهم ببعض، ولو كانوا سواءً في جميع الأحوال لم يخدم أحدٌ أحداً، فيفضي إلى خراب العالم وفساد نظامه، وقال أبو حيان: وقوله تعالى {سُخرياً} بضم السين من التسخير بمعنى الاستخدام، لا من السخرية بمعنى الهزء، والحكمة هي أن يرتفق بعضهم ببعضٍ، ويصلوا إلى منافعهم، ولو تولَّى كل واحدٍ جميع أشغاله بنفسه ما أطاق ذلك، وضاع وهلك، وفي قوله {نَحْنُ قَسَمْنَا} تزهيدٌ في الإِكباب على طلب الدنيا، وعونٌ على التوكل على الله، وقال قتادة: تلقى ضعيف القوة، قليل الحيلة، عييَّ اللسان وهو موسَّع عليه في الرزق، وتلقى شديد الحيلة، بسيط اللسان وهو مقتَّر عليه في الرزق، وقال الشافعي:
ومن الدليل على القضاء وكونه بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
{وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} أي وإِنعامه تعالى عليك بالنبوة خيرٌ مما يجمع الناسُ من حطام الدنيا الفاني، ثم بيَّن تعالى حقارة الدنيا ودناءة قدرها عند الله فقال {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ} أي ولولا أن يرغب الناسُ في الكفر إذا رأوا الكافر في سعة من الرزق، ويصيروا أمةً واحدة في الكفر، لخصصنا هذه الدنيا بالكفار، وجعلنا لهم القصور الشاهقة المزخرفة بأنواع الزينة والنقوش، سقفها من الفضة الخالصة {وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} أي وجعلنا لهم مصاعدَ وسلالم من فضة عليها يرتقون ويصعدون {وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا} أي ولبيوتهم أبواباً من فضة وسرراً من فضة، زيادةً في الرفاهية والنعيم {عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ} أي على تلك الأسرَّة الفضية يتكئون ويجلسون {وَزُخْرُفًا} أي وجعلنا لهم زينةً من ستور ونمارق ونقوش، وقال ابن عباس: {وَزُخْرُفًا} ذهباً أي جعلنا لهم سقفاً وأبواباً وسرراً من فضة وذهب {وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} أي وما كل ذلك النعيم العاجل الذي نعطيه للكفار، إلاّ شيء يُتمتع به في الحياة الدنيا الزائلة الحقيرة {وَالآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ} أي والجنةُ وما فيها من أنواع الملاذ والنعم التي يقصر عنها البيان، هي خاصة بالمتقين لا يشاركهم فيها أحد، قال المفسرون: والآياتُ سِيقتْ لبيان حقارة الدنيا وقلة شأنها، وأنها من الهوان بحيث لولا الفتنة لخصَّ بها الكافرين، فجعل بيوت الكفرة ودرجها وسقوفها من ذهب وفضة، وأعطى الكافر كل ذلك النعيم في الدنيا لعدم حظه في الآخرة، ولكنه تعالى رحيم بالعباد فلذلك أغنى بعض الكفار وأفقر بعضهم، وأغنى بعض المؤمنين وأفقر بعضهم وفي الحديث (لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها جرعة ماء) قال الزمخشري: فإِن قلت: فحين لم يوسّع على الكافرين للفتنة التي كان يؤدي إليها التوسعة عليهم، من إطباق الناس على الكفر لحبهم الدنيا وتهالكهم عليها، فهلاَّ وسَّع على المسلمين ليطبق الناس على الإِسلام ؟ قلتُ التوسعةُ عليهم مفسدة أيضاً لما تؤدي إليها من دخول الناس في الإِسلام لأجل الدنيا وذلك من دين المنافقين، فكانت الحكمة فيما دبَّر، حيث جعل الفريقين أغنياء وفقراء، وغلَّب الفقر على الغنى.
حال المعرض عن ذكر الله، وتسلية النبي صلى الله عليه وسلم
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ(36)وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ(37)حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ(38)وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ(39)أَفَأَنْ تَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ(40)فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ(41)أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ(42)فَاسْتَم ْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(43)وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ(44)وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ(45)}.
{وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ} أي ومن يعرض ويتعام ويتغافل عن القرآن وعبادة الرحمن {نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا} أي نهيء ونيسّر له شيطاناً لا ينفك عن الوسوسة له والإِغواء كقوله تعالى{ألم تر أنَّا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزُّهم أزّاً} {فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ} أي فهو ملازم ومصاحب له لا يفارقه {وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ} أي وإِن الشياطين ليصدون هؤلاء الكفار الضالين عن طريق الهدى {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ} أي ويحسب الكفار أنهم على نور وبصيرة وهدايةٍ من أمرهم {حَتَّى إِذَا جَاءنَا} أي حتى إذا جاء الكافر مع قرينه وقد ربطا بسلسلةٍ واحدة {قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ} أي قال الكافر لقرينه: يا ليت بيني وبينك مثل بعد ما بين المشرق والمغرب، قال الطبري: وهذا من باب التغليب كما يقال: القمران، والعمران، والأبوان، فغلَّب ههنا المشرق على المغرب {فَبِئْسَ الْقَرِينُ} أي فبئس الصاحب أنت، لأنك كنت سبباً في شقائي بتزيينك الباطل لي، قال أبو سعيد الخدري: إذا بُعث الكافر زُوّج بقرينه من الشياطين، فلا يفارقه حتى يصير به إلى النار {وَلَنْ يَنفَعَكُمْ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ} أي ولن ينفعكم ويفيدكم اشتراككم في العذاب، ولن يخفف ذلك عنكم شيئاً بسبب ظلمكم، فإِن لكل واحد نصيبه الأوفر منه، قال فيالتسهيل: المراد أنه لا ينفعهم اشتراكهم في العذاب، ولا يجدون راحة التأسي التي يجدها المكروب في الدنيا إذا رأى غيره قد أصابه مثل ما أصابه لأن المصيبة إذا عمَّت هانت، فدفع تعالى ذلك التوهم بأن اشتراكهم في العذاب، لا يخفِّف عنهم البلاء {أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} أي فأنت يا محمد تقدر أن تسمع هؤلاء الكفار الذين هم كالصُّم والعُمي، ومن كان في ضلالٍ واضح؟ ليس لك ذلك فلا يَضِقْ صدرك إن كفروا، قال المفسرون: والآية تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم فقد كان يجتهد في دعائهم إلى الإِيمان، ولا يزدادون إلاَّ تعامياً عن الحق وطغياناً وضلالاً {فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ} أي إن عجلنا وفاتك قبل الانتقام منهم، فإِنا سننتقم منهم بعد وفاتك {أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ} أي أو نرينَّك يا محمد العذاب الذي وعدناهم به في حياتك فإِنا قادرون عليهم فهم في قبضتنا لا يفوتوننا، قال ابن عباس: قد أراه الله ذلك يوم بدر، وقال ابن كثير: المعنى لا بدَّ أن ننتقم منهم ونعاقبهم في حياتك أو بعد وفاتك، ولم يقبض الله تعالى رسوله حتى أقرَّ عينه من أعدائه، وحكَّمه في نواصيهم {فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ} أي فتمسكْ يا محمد بالقرآن الذي أوحيناه إليك {إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} أي فإِنك على الحق الواضح والطريق المستقيم، الموصل إلى جنات النعيم {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ} أي وإِن هذا القرآن لشرفٌ عظيم لك ولقومك من قريش، إذ أُنزل بلغتهم وعلى رجلٍ منهم وسوف تسألون عن شكر هذه النعمة، قال ابن جزي: والذكرُ هنا بمعنى الشرف، وقومُ النبي صلى الله عليه وسلم هم قريشٌ وسائر العرب، فإِنهم نالوا بالإِسلام شرف الدنيا والآخرة، ويكفيك أن فتحوا مشارق الدنيا ومغاربها وصارت فيهم الخلافة والملك، وهذا القرآن شرفٌ لكل من تبعه، وهذه الآية نظير قوله تعالى {لقد أنزلنا إليكم كتاباً فيه ذكركم أفلا تعقلون}؟ {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا} هذا على سبيل الفرض، وفي الكلام محذوف أي إن كنت يا محمد شاكاً في أمر الوحي فسلْ من سبقك من الرسل {أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَانِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ}؟ أي هل هناك أحدٌ من الرسل دعا لعبادة غير الله؟ والآية كقوله تعالى {فإِن كنتَ في شكٍ ممّا أنزلنا إلي فاسأل الذين يقرءون الكتاب من قبلك} قال أبو السعود: والمراد بالآية الاستشهاد بإِجماع الأنبياء على التوحيد، والتنبيه على أنه ليس ببدع ابتدعه حتى يُكذَّب ويُعادى، وقال أبو حيان: ويظهر ان الخطاب للسامع، والسؤال هنا مجاز عن النظر في أديان الأنبياء، هل جاءت عبادة الأوثان في ملةٍ من مللهم؟ وهذا كما يسائل الشعراء الديار والأطلال، ومنه قولهم: سل الأرض من شقَّ أنهارك، وغرس أشجارك، وجنى ثمارك ؟ فإِنها إن لم تجبك حواراً أجابتك اعتباراً، وهذا كله من باب المجاز.
العبرة من قصة موسى عليه السلام مع فرعون
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ(46)فَلَمَّا جَاءهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ(47)وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ(48)وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ(49)فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ(50)وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلا تُبْصِرُونَ(51)أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلا يَكَادُ يُبِينُ(52)فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ(53)فَاسْتَخ َفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ(54)فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ(55)فَجَعَلْنَ اهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ(56)}.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآياتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلإيِهِ} أي واللهِ لقد أرسلنا موسى بالمعجزات الباهرة الدالة على صدقه إلى فرعون وقومه الأقباط {فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أي فقال له موسى: إني رسول الله إليك، أرسلني لأدعوك وقومك إلى عبادة الله وحده {فَلَمَّا جَاءهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ} أي فلما جاءهم بتلك الآيات الباهرة الدالة على رسالته ضحكوا سخريةً واستهزاءً به، قال القرطبي: إنما ضحكوا منها ليوهموا أتباعهم أن تلك الآيات سحرٌ، وأنهم قادرون عليها، قال تعالى {وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا} أي وما نريهم آية من ءايات العذاب كالطوفان، والجراد والقُمَّل إلا وهي في غاية الكبر والظهور، بحيث تكون أوضح من سابقتها، قال الصاوي: والمعنى إلا وهي بالغة الغاية في الإِعجاز، بحيث يظن الناظر إليها أنها أكبر من غيرها {وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} أي عاقبناهم بأنواع العذاب الشديد، لعلهم يرجعون عما هم عليه من الكفر والتكذيب {وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} أي وقالوا لما عاينوا العذاب يا أيها الساحرُ ادع لنا ربك ليكشف عنا هذا البلاء والعذاب {بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ} أي بالعهد الذي أعطاك إياه من استجابة دعائك {إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ} أي لنؤمِنن بك إن كشف عنا العذاب بدعائك، قال المفسرون: ليس قولهم {يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ} على سبيل الانتقاص، وإِنما هو تعظيم في زعمهم، لأن السحر كان عِلم زمانهِم، ولم يكن مذموماً، فنادوه بذلك على سبيل التعظيم، قال ابن عباس: معناه يا أيها العالم، وكان الساحر فيهم عظيماً يوقرونه {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} أي فلما رفعنا عنهم العذاب بدعوة موسى، إذا هم ينقضون العهد ويصرون على الكفر والعصيان {وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ} أي نادى فرعون رؤساء القبط وعظماءهم، لما رأى الآيات الباهرة من موسى وخاف أن يؤمنوا {قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي}؟ أي قال مفتخراً متبجحاً: أليست بلادُ مصرَ الواسعة الشاسعة ملكاً لي؟ وهذه الخُلجان والأنهار المتفرعة من نهر النيل تجري من تحت قصوري؟ قال القرطبي: ومعظمها أربعة: نهر الملك، ونهر طولون، ونهر دمياط، ونهر تينس وكلها من النيل، وقال قتادة: كانت جنانها وأنهارها تجري من تحت قصره {أَفَلا تُبْصِرُونَ}؟ أي أفلا تبصرون عظمتي وسعة ملكي، وقلة موسى وذلته؟ {أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ} أي بل أنا خيرٌ من هذا الضعيف الحقير الذي لا عزَّ له ولا جاه ولا سلطان، فهو يمتهن نفسه في حاجاته لحقارته وضعفه؟ يعني بذلك موسى عليه السلام {وَلا يَكَادُ يُبِينُ} أي لا يكاد يفصح عن كلامه، ويوضّح مقصوده، فكيف يصلح للرسالة؟ قال أبو السعود: قال فرعون ذلك افتراءً على موسى، وتنقيصاً له عليه السلام في أعين الناس، باعتبار ما كان في لسانه من عُقدة، ولكنَّ الله أذهبها عنه بدعائه {واحللْ عُقدةً من لساني يفقهوا قولي} {فَلَوْلا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ}؟ أي فهلاَّ ألقى الله إليه أسورةً من ذهب كرامةً له ودلالة على نبوَّته!! قال مجاهد: كانوا إذا أرادوا أن يجعلوا رجلاً رئيساً عليهم سوّروه بسوارين وطوقوه بطوق من ذهبٍ علامة لسيادته {أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ} أي أو جاءت معه الملائكةُ يكتنفونه خدمةً له وشهادة بصدقة، قال أبو حيان: لما وصف فرعون نفسه بالعزة والمُلك، ووازن بينه وبين موسى عليه السلام، ووصفه بالضعف وقلة الأعوان، اعترض فقال: إن كان صادقاً فهلاَّ ملَّكه ربُه وسوَّره وجعل الملائكة أنصاره!! {فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ} أي فاستخفَّ بعقول قومه واستجهلهم لخفة أحلامهم، فأطاعوه فيما دعاهم إليه من الضلالة {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ} أي إنما أجابوه لفسقهم وخروجهم عن طاعة الله {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} أي فلما أغضبونا وغاظونا انتقمنا منهم بأشد أنواع العقاب {فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} أي فأغرقنا فرعون وقومه في البحر أجمعين فلم نبق منهم أحداً، قال المفسرون: اغتر فرعون بالعظمة والسلطان والأنهار التي تجري من تحته، فأهلكه الله بجنس ما تكبر به هو وقومه وذلك بالغرق بماء البحر، وفيه إشارة إلى أن تعزَّز بشيء أهلكه الله به {فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلاً لِلآخِرِينَ} أي جعلنا قوم فرعون قُدوةً لمن بعدهم من الكفار في استحقاق العذاب والدمار، ومثلاً يعتبرون به لئلا يصيبهم مثل ذلك، قال مجاهد: سلفاً لكفار قريش يتقدمونهم إلى النار، وعظة وعبرةً لمن يأتي بعدهم.
العبرة من قصة عيسى عليه السلام
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصدُّونَ(57)وَقَالُوا ءأَلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ(58)إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ(59)وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ(60)وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(61)وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ(62)وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ(63)إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ(64) فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ(65)هَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ(66)}.
سبب النزول:
نزول الآية (57):
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً}: أخرج أحمد بسند صحيح والطبراني عن ابن عباس: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لقريش: إنه ليس أحد يعبد من دون الله، وفيه خير، فقالوا: ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً صالحاً، وقد عُبد من دون الله؟ فأنزل الله: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً} الآية".
{وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ} أي ولمَّا ذُكر عيسى بن مريم في القرآن وضُرب المثلُ بالآلهة التي عُبدت من دون الله إذا مشركو قريش يضجون وترتفع أصواتُهم بالصياح، قال المفسرون: لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إنكم وما تعبدون من دون اللهِ حصَبُ جهنم} قال ابن الزبعرى: أهذا لنا ولآلهتنا أم لجميع الأمم؟ فقال عليه السلام: هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم فقال: قد خصمتك وربِّ الكعبة؟ أليست النصارى يعبدون المسيح، واليهود يعبدون عزيراً؟ وبنو فلان يعبدون الملائكة!! فإِن كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن وآلهتنا معهم، فسكت عليه الصلاة والسلام انتظاراً للوحي، فظنوا أنه أُلزم الحجة فضحك المشركون وضجوا وارتفعت أصواتهم فأنزل الله {إن الذين سبقت لهم منا الحُسْنى أولئك عنها مبعدون} قال القرطبي: ولو تأمل ابن الزبعرى الآية ما اعترض عليها، لأنه تعالى قال {إنكم وما تعبدون} ولم يقل "ومنْ تعبدون" وإِنما أراد الأصنام ونحوها مما لا يعقل، ولم يرد المسيح ولا الملائكة وإِن كانوا معبودين {وَقَالُوا ءآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} أي أآلهتنا خيرٌ أم عيسى؟ فإِن كان عيسى في النار فلتكنْ آلهتنا معه {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلا جَدَلاً} أي ما قالوا هذا القول لك إلاَّ على وجه الجدل والمكابرة لا لطلب الحقِّ {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} أي بل هم قوم شديدو الخصومة واللجاج بالباطل، قال ابن جزي: أي ما ضربوا لك هذا المثال إلا على وجه الجدل، وهو أن يقصد الإِنسان أن يغلب من يناظره، سواء غلبه بحقٍ أو بباطل، فإِن ابن الزبعرى وأمثاله ممن لا يخفى عليه أن عيسى لم يدخل في قوله تعالى {حصبُ جهنم} ولكنهم أرادوا المغالطة فوصفهم الله بأنهم قوم خَصِمون {إِنْ هُوَ إِلا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ} أي ما عيسى إلا عبد كسائر العبيد أنعمنا عليه بالنبوة وشرفناه بالرسالة، وليس هو إلهاً ولا ابن إله كما زعم النصارى {وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرَائِيلَ} أي وجعلناه آيةً وعبرةً لبني إسرائيل، يستدلون بها على قدرة الله تعالى، حيث خُلق من أمٍ بلا أب، قال الرازي: أي صيرناه عبرةً عجيبة كالمثل السائر حيث خلقناه من غير أب كما خلقنا آدم {وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الأَرْضِ يَخْلُفُونَ} أي لو أردنا لجعلنا بدلاً منكم ملائكةً يسكنون في الأرض يكونون خلفاً عنكم، قال مجاهد: ملائكة يعمرون الأرض بدلاً منكم {وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ} أي وإِن عيسى علامة على قرب الساعة، قال ابن عباس وقتادة: إن خروج عيسى عليه السلام من أعلام الساعة لأن الله ينزله من السماء قبيل قيام الساعة، {فَلا تَمْتَرُنَّ بِهَا} أي فلا تشكُّوا في أمر الساعة فإِنها آتية لا محالة وفي الحديث (يوشك أن ينزل فيكم عيسى بن مريم حكماً مقسطاً ..) الحديث {وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي وقل لهم يا محمد: اتبعوا هُداي وشرعي، فإِن هذا الذي أدعوكم إليه دينٌ قيّم وطريق مستقيم {وَلا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ} أي لا تغتروا بوساوس الشيطان، واحذروا أن يصدكم عن اتباع الحق، فإِنه لكم عدوٌ ظاهر العداوة، حيث أخرج أباكم من الجنة، ونزع عنه لباس النور {وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ} أي ولما جاء عيسى بالمعجزات وبالشرائع البينات الواضحات قال: قد جئتكم بما تقتضيه الحكمة الإِلهية من الشرائع {وَلأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} أي وجئتكم لأبين لكم ما اختلفتم فيه من أمور الدين، قال ابن جزي: وإِنما قال {بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ} دون الكل، لأن الأنبياء إِنما يبيّنون أمور الدين لا أمور الدنيا، وقال الطبري: يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} أي فاتقوا اللهَ بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، وأطيعوا أمري فيما أبلغه إليكم من التكاليف {إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ} أي إن الله جل وعلا هو الربُ المعبود لا ربَّ سواه فأخلصوا له الطاعة والعبادة، قال ابن كثير: أي أنا وأنتم عبيد له، فقراء إليه، مشتركون في عبادته وحده {هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي هذا التوحيد والتعبد بالشرائع، طريق مستقيم موصلٌ إلى جنات النعيم.
{فَاخْتَلَفَ الأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ} أي اختلفت فرق النصارى في شأن عيسى وصاروا شيعاً وأحزاباً فيه، قال ابن كثير: صاروا شيعاً فيه، منهم من يُقرُّ بأنه عبدُ الله ورسولُه - وهو الحقُّ -، ومنهم من يدّعي أنه ولد الله، ومنهم من يقول إنه الله، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ} أي فهلاكٌ ودمارٌ لهؤلاء الكفرة الظالمين من عذاب يومٍ مؤلم وهو يوم القيامة {هَلْ يَنظُرُونَ إِلا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً} أي هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون إلا إتيانَ الساعة ومجيئها فجأةً {وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ} أي وهم غافلون عنها مشتغلون بأمور الدنيا، وحينئذٍ يندمون حيث لا ينفعهم الندم.
نِعَمُ الله على المؤمنين يوم القيامة
{الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ(67)يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ(68)الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ(69)ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ(70)يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(71)وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(72)لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ(73)}.
سبب النزول:
نزول الآية (67):
{الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ..}: حكى النقَّاش أن هذه الآية نزلت في أُمَيَّة بن خَلَف الجُمَحي وعُقْبة بن أبي مُعَيْط، كانا خليلين، وكان عقبة يجالس النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت قريش: قد صبأ عقبة بن أبي معيط، فقال له أمية: وجهي من وجهك حرام إن لقيت محمداً، ولم تَتْفُلْ في وجهه، ففعل عقبة ذلك، فنذر النبي صلى الله عليه وسلم قتله، فقتله يوم بدر صَبْراً، وقُتل أمية في المعركة، وفيهم نزلت هذه الآية.
ثم ذكر تعالى أحوال القيامة فقال {الأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلا الْمُتَّقِينَ} أي الأصدقاء والأحباب يوم القيامة يصبحون أعداء إلاَّ من كانت صداقته ومحبته لله، قال ابن كثير: كلُّ خلةٍ وصداقة لغير الله، فإِنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان لله عز وجل فإِنه دائم بدوامه، قال ابن عباس: صارت كل خلةٍ عداوةً يوم القيامة إلا المتقين تشريفاً وتطييباً لقلوبهم فيقول: {يَا عِبَادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} يا عباد المؤمنين الذين تحققتم في العبودية لرب العالمين، لا خوفٌ عليكم في هذا اليوم العصيب، ولا أنتم تحزنون على ما فاتكم من الدنيا، ثم وضَّحهم بقوله {الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ} أي هم الذين صدَّقوا بالقرآن، واستسلموا لحكم الله وأمره، وانقادوا لطاعته {ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تحْبَرُونَ} أي يقال لهم: أدخلوا الجنة أنتم ونساؤكم المؤمنات، تُنعَّمون فيها وتُسرُّون سروراً يظهر أثره على وجوهكم {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} أي يُطاف على أهل الجنة بأوانٍ من الذهب فيها الطعام، وأقداحٍ من ذهب فيها الشراب، قال المفسرون: آنية أهل الجنة التي يأكلون فيها الطعام، والكئوس التي يشربون فيها الشراب كلُّها من ذهب وفضة كما قال تعالى {ويُطاف عليهم بآنيةٍ من فضة وأكوابٍ كانت قوارير} وفي الحديث (لا تلبسوا الحرير ولا الديباج، ولا تشربوا في آنية الذهب والفضة، ولا تأكلوا في صحفائها، فإِنها لهم في الدنيا ولكم في الآخرة) {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} أي وفي الجنة كل ما تشتهيه النفوس من أنواع اللذائذ والمشتهيات، وتُسرُّ به الأعين من فنون المناظر الجميلة، والمشاهد اللطيفة {وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} أي وأنتم في الجنة باقون دائمون، لا تخرجون منها أبداً، قال أبو السعود: وهذا إِتمامٌ للنعمة وإِكمال للسرور، فإِنَّ كل نعيمٍ زائلٍ موجبٌ لخوف الزوال .. لمَّا ذكر الجنة وأنها موضع الحبور، ذكر ما فيها من النعم، فذكر أولاً المطاعم، ثم ذكر المشارب، ثم بعد ذلك التفصيل ذكر بياناً كلياً بقوله {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ} ثم ذكر تمام النعمة بالخلود في دار النعيم، وهذا حصرٌ لأنواع النعم، لأنها إمّا مشتهاة في القلوب، أو مستلذةٌ في العيون {وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي وتلك الجنة الموصوفة بتلك الأوصاف الجليلة أعطيتموها بسبب أعمالكم الصالحة التي قدمتموها في الدنيا، قال ابن كثير: أي أعمالكم الصالحة كانت سبباً لشمول رحمة الله إياكم، فإنه لا يدخل أحد الجنة بعمله، ولكن برحمة الله وفضله، وإنما الدرجات ينال تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات وفي الحديث (ما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار، الكافر يرث المؤمن في النار، والمؤمن يرث الكافر منزلة في الجنة، وذلك قوله تعالى {لَكمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ} أي لكم في الجنة من أنواع الفواكه والثمار الشيء الكثير - سوى الطعام والشراب - من هذه الفواكه تأكلون تفكهاً وتلذذاً، قال المفسرون: يأكل أهل الجنة من بعض الثمار، وأما الباقي فعلى الأشجار على الدوام، لا ترى فيها شجرةٌ تخلو عن ثمرها لحظة، فهي مزينةٌ بالثمار أبداً، لأن كل ما يؤكل يخلف بدله وفي الحديث (لا ينزع رجلٌ في الجنة من ثمرها إلا نبت مثلاها مكانها).
حال الأشقياء الفجار يوم القيامة
{إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ(74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ(75)وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ(76)وَنَادَو ْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ(77)لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ(78)أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ(79)أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ(80)}.
سبب النزول:
نزول الآية (79):
{أَمْ أَبْرَمُوا..} قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم في المكر به - بالنبي صلى الله عليه وسلم - في دار الندوة.
نزول الآية (80):
{أَمْ يَحْسَبُونَ..}: أخرج ابن جرير الطبري عن محمد بن كعب القرظي قال: بينا ثلاثة بين الكعبة وأستارها: قرشيان وثقفي، أو ثقفيان وقرشي، فقال واحد منهم: ترون الله يسمع كلامنا؟ فقال آخر: إذا جهرتم سمع، وإذا أسررتم لم يسمع، فأنزلت: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ..} الآية.
ولما ذكر حال السعداء الأبرار أعقبه بذكر حال الأشقياء الفجار فقال {إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ} أي إن الكافرين الراسخين في الإِجرام في العذاب الشديد في جهنم دائمون فيها أبداً، قال الصاوي: والمراد بالمجرمين الكفار لأنهم ذكروا في مقابلة المؤمنين {لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ} أي لا يخفَّف عنهم العذاب لحظة {وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} أي وهم في ذلك العذاب يائسون من كل خير {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ} أي وما ظلمناهم بعقابنا لهم، ولكنْ كانوا هم الظالمين لتعريضهم أنفسهم للعذاب الخالد {وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ} أي ونادى الكفار مالكاً خازن النار قائلين: ليمتْنا اللهُ حتى نستريح من العذاب، قال ابن كثير: أي ليقبضْ أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه، قال ابن عباس: فلم يجبهم إلا بعد ألف سنة {قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ} أي أجابهم إنكم مقيمون في العذاب أبداً، لا خلاص لكم منه بموتٍ ولا بغيره {لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ} خطاب توبيخ وتقريع أي لقد جئناكم أيها الكفار بالحق الساطع المبين، ولكنكم كنتم كارهين لدين الله مشمئزين منه لكونه مخالفاً لأهوائكم وشهواتكم، قال الرازي: هذا كالعلة لما ذُكر والمرادُ نفرتهم عن محمد وعن القرآن، وشدة بُغْضهم لقبول الدين الحق {أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ} الكلام عن كفار قريش أي أم أحكم هؤلاء المشركون أمراً في كيد محمد صلى الله عليه وسلم فإِنا محكمون أمرنا في نصرته وحمايته، وإِهلاكهم وتدميرهم، قال مقاتل: نزلت في تدبيرهم المكر بالنبي صلى الله عليه وسلم في دار الندوة {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ} أي أم يظنون أنَّا لا نسمع ما حدَّثوا به أنفسهم، وما تكلموا به فيما بينهم بطريق التناجي، قال ابن جزي: السرُّ ما يحدث به الإِنسان نفسه أو غيره في خفية، والنجوى ما تكلموا به بينهم {بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ} أي بلى إنا نسمع سرَّهم وعلانيتهم، وملائكتنا الحفظة يكتبون عليهم أعماله، روي أنها نزلت في "الأخنس بن شُريق" و"الأسود بن عبد يغوث" اجتمعا فقال الأخنس: أترى الله يسمع سرَّنا!! فقال الآخر: يسمع نجوانا ولا يسمع سرنا.
تنزيه الله تعالى عن الولد والشريك
{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ(81)سُبْحَان َ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ(82)فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ(83)وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ(84)وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ(85)وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ(86)وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ(87)وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ(88)فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ(89)}.
{قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: لو فُرض أنَّ لله ولداً لكنت أنا أول من يعبد ذلك الولد، ولكنه جل وعلا منزَّه عن الزوجة والولد، قال القرطبي: وهذا كما تقول لمن تناظره: إن ثبتَ ما قلت بالدليل فأنا أول من يعتقده، وهذا مبالغةٌ في الاستبعاد، وترقيقٌ في الكلام، وقال الطبري: هو ملاطفةٌ في الخطاب، وقال البيضاوي: ولا يلزم من هذا الكلام صحة وجود الولد وعبادته له، بل المراد نفيهما على أبلغ الوجوه، وإِنكاره للولد ليس للعناد والمراء، بل لو كان أولى الناس بالاعتراف به، فإِن النبي يكون أعلم بالله وبما يصح له وما لا يصح {سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ} أي تنزَّه وتقدَّس اللهُ العظيمُ الجليل، ربُّ السماواتِ والأرضِ، وربُّ العرشِ العظيم، عمَّا يصفه به الكافرون من نسبة الولد إليه {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا} أي اترك كفار مكة في جهلهم وضلالهم، يخوضوا في باطلهم ويلعبوا بدنياهم {حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} أي إلى ذلك اليوم الرهيب الذي وُعدوه - وهو يوم القيامة - فسوف يعلمون حينئذٍ كيف يكون حالهم ومصيرهم ومآلهم {وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الأَرْضِ إِلَهٌ} أي هو جل وعلا معبودٌ في السماء ومعبود في الأرض، لأنه هو الإِله الحق، المستحق للعبادة في السماء والأرض، قال ابن جزي: أي هو الإِله لأهل الأرض وأهل السماء، وقال ابن كثير: أي هو إله من في السَّماء وإلهُ من في الأرض، يعبده أهلهما وكلُّهم خاضعون له أذلاء بين يديه {وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ} أي هو الحكيم في تدبير خلقه، العليمُ بمصالحهم، وهذا كالدليل على وحدانيته تعالى {وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا} أي تمجَّد وتعظَّم الله الذي له مُلك السماواتِ والأرض وما بينهما من المخلوقات، من الإِنس والجن والملائكة، فهو الخالق والمالك والمتصرف في الكائنات بلا ممانعةٍ ولا مدافعة {وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} أي وعنده وحده علم زمان قيام الساعة {وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} أي وإليه لا إلى غيره مرجع الخلائق للجزاء، فيجازي كلاً بعمله {وَلا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ} أي ولا يملك أحدٌ ممن يعبدونهم من دون الله أن يشفع عند الله لأحد، لأنه لا شفاعة إلا بإِذنه {إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} أي إلا لمن شهد بالحق، وآمن عن علم وبصيرة، فإِنه تنفع شفاعته عند الله {وَهُمْ يَعْلَمُونَ} أي وهم يعلمون أن الشفاعة لا تكون إلا بإِذنه، قال المفسرون: والمرادُ بـ {مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ} عيسى وعزير والملائكة، فإِنهم يشهدون بالحق والوحدانية للهِ، فهؤلاء تنفع شفاعتهم للمؤمنين وإِن كانوا قد عُبدوا من دون الله {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ} أي ولئن سألت يا محمد كفار مكة من الذي خلقهم وأوجدهم؟ ليقولُنَّ اللهُ خلقنا، فهم يعترفون بأنه الخالق ثم يعبدون غيره ممن لا يقدر على شيء {فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} أي فكيف ينصرفون عن عبادة الرحمن إلى عبادة الأوثان؟ فهم في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقول {وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ} أي وقول محمد في شكواه لربه يا ربِّ إن هؤلاء قوم معاندون جبارون لا يصدقون برسالتي ولا بالقرآن، قال قتادة: هذا قول نبيكم صلى الله عليه وسلم يشكو قومه إلى ربه عز وجل {فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلامٌ } أي فأعرض عنهم يا محمد وسامحهم ولا تقابلهم بمثل ما يقابلونك به، قال الصاوي: وهو تباعدٌ وتبرؤٌ منهم، وليس في الآية مشروعية السلام على الكفار، وقال قتادة: أمر بالصفح عنهم ثم أُمر بقتالهم، فصار الصفح منسوخاً بالسيف {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} أي فسوف يعلمون عاقبة إجرامهم وتكذيبهم، وهو وعيدٌ وتهديد للمشركين، وتسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
-
رد: تفسير القران الكريم
سورة الدخان
تنزيل القرآن في ليلة القدر
تهديد المشركين بالعذاب
تذكير كفار قريش بما حل بالطاغين من قوم فرعون
إنكار المشركين البعث
أهوال يوم القيامة، وجزاء الكفار
أحوال أهل الجنة، وألوان النعيم
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة الدخان مكية وهي تتناول أهداف السور المكية "التوحيد، الرسالة، البعث" لترسيخ العقيدة وتثبيت دعائم الإِيمان.
* ابتدأت السورة الكريمة بالحديث عن القرآن العظيم - المعجزة الخالدة - الباقي إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها وإِليه يرجعون، وقد تحدثت عن إِنزال الله تعالى له في ليلةٍ مباركة من أفضل ليالي العمر هي "ليلة القدر" وبينت شرف تلك الليلة العظيمة التي تُفصَّل وتدبَّر فيها أمور الخلق، والتي اختارها الله لإِنزال خاتمة الكتب السماوية على خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم.
* ثم تحدثت عن موقف المشركين من هذا القرآن العظيم، وأنهم في شكٍ وارتياب من أمره، مع وضوح ءاياته، وسطوع براهينه، وأنذرتهم بالعذاب الشديد.
* ثم تحدثت عن قوم فرعون، وما حلَّ بهم من العذاب والنكال نتيجة الطغيان والإِجرام، وعن الآثار التي تركوها بعد هلاكهم، من قصور ودور، وحدائق وبساتين، وأنهار وعيون، وعن ميراث بني إِسرائيل لهم، ثم ما حدث لهم من تشرد وضياع بسبب عصيانهم لأوامر الله.
* وتناولت السورة الكريمة مشركي قريش، وإِنكارهم للبعث والنشور، واستبعادهم للحياة مرة أُخرى ولذلك كذبوا الرسول، وبينت أن هؤلاء المكذبين ليسوا بأكرم على الله ممن سبقهم من الأمم الطاغية، وأن سنة الله لا تتخلف في إهلاك الطغاة المجرمين.
* وختمت السورة الكريمة ببيان مصير الأبرار ومصير الفجار، بطريق الجمع بين الترغيب والترهيب، والتبشير والإِنذار.
التسميَة:
سميت "سورة الدخان" لأن الله تعالى جعله آية لتخويف الكفار، حيث أصيبوا بالقحط والمجاعة بسبب تكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم وبعث الله عليهم الدخان حتى كادوا يهلكوا، ثم نجّاهم بعد ذلك ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم.
تنزيل القرآن في ليلة القدر
{حم(1)والكتاب المبين(2)إنَّا أنزلناه في ليلةٍ مباركة إنَّا كنَّا مُنْذرين(3) فيها يُفرق كلُّ أمرٍ حكيم(4)أمراً من عندنا إنَّا كنا مرسلين(5)رحمةً مِّن رَّبِّك إنَّه هو السَّميعُ العليم(6)ربِّ السماواتِ والأرض وما بينهما إِن كنتم موقنين(7)لا إِله إِلا هو يُحيي ويمُيتُ ربُّكم وربُّ ءابائكم الأوَّلين(8) بل هم في شكٍ يلعبون(9)} .
{حم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن وقد تقدم {والكتاب المبين} أي أُقسم بالقرآن البيِّن الواضح، الفارق بين طريق الهدى والضلال، البيِّن في إِعجازه، الواضح في أحكامه، وجوابه {إنا أنزلناه في ليلةٍ مباركة} أي أنزلنا القرآن في ليلةٍ فاضلة كريمة هي ليلة القدر من شهر رمضان المبارك {شهر رمضان الذي أُنزل فيه القرآن} قال ابن جزي: وكيفيةُ إِنزاله فيها أنه أُنزل إلى السماء الدنيا جملةً واحدة، ثم نزل به جبريل على النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً بعد شيء وقيل: المعنى ابتدأنا إِنزاله في ليلة القدر، قال القرطبي: ووصف الليلة بالبركة لما يُنزل اللهُ فيها على عباده من البركات والخيرات والثواب {إنّا كنا مُنْذرين} أي لننذر به الخلق، لأن من شأننا وعادتنا ألاَّ نترك الناس دون إِنذار وتحذيرٍ من العقاب، لتقوم الحجة عليهم {فيها يُفرق كلُّ أمرٍ حكيم} أي في ليلة القدر يُفصل ويُبيِّن كلُّ أمرٍ محكم من أرزاق العباد وآجالهم وسائر أحوالهم فلا يُبدِّل ولا يُغيِّر، قال ابن عباس: يحكم الله أمر الدنيا إلى السنة القابلة ما كان من حياةٍ، أو موت، أو رزقٍ، قال المفسرون: إن الله تعالى ينسخ من اللوح المحفوظ في ليلة القدر، ما يكون في تلك السنة من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم من خير وشر، وصالح وطالح، حتى إِن الرجل ليمشي في الأسواق وينكحُ ويُولد له وقد وقع اسمه في الموتى {أمراً من عندنا} أي جميع ما نقدِّره في تلك الليلة وما نوحي به إلى الملائكة من شئون العباد، هو أمرٌ حاصل من جهتنا، بعلمنا وتدبيرنا {إنَّا كنا مرسلين} أي نرسل الأنبياء إلى البشر بالشرائع الإِلهية لهدايتهم وإِرشادهم {رحمةً من ربك} أي من أجل الرأفة والرحمة بالعباد، قال أبو حيّان: وضع الظاهر {ربك} موضع الضمير "رحمةً منا" إيذاناً بأن الربوبية تقتضي الرحمة على المربوبين {إنه هو السميعُ العليم} أي السميع لأقوال العباد، العليمُ بأفعالهم وأحوالهم {ربِّ السماواتِ والأرض وما بينهما إِن كنتم موقنين} أي الذي أنزل القرآن هو ربُّ السمواتِ والأرض وخالقهما ومالكهما ومن فيهما، إن كنتم من أهل الإِيمان واليقين {لا إِله إِلا هو يُحيي ويمُيتُ} أي لا ربَّ غيره، ولا معبود سواه، لأنه المتصف بصفات الجلال والكمال، يُحيي الأموات، ويميت الأحياء {ربُّكم وربُّ ءابائكم الأولين} أي هو خالقكم وخالق من سبقكم من الأمم الماضين، قال الرازي: والمقصودُ من الآية أن المنزل إِذا كان موصوفاً بهذه الجلالة والكبرياء، كان المُنزل - الذي هو القرآن - في غاية الشرف والرفعة {بل هم في شكٍ يلعبون} أي ليسوا موقنين فيما يظهرونه من الإِيمان في قولهم: اللهُ خالقنا، بل هم في شكٍ من أمر البعث، فهم يلعبون ويسخرون ويهزءون، قال شيخ زاده: التفت من الخطاب للغيبة فقال {بل هم في شكٍ يلعبون} تحقيراً لشأنهم، وإِبعاداً لهم عن موقف الخطاب، لكونهم من أهل الشك والامتراء، وكونُ أفعالهم الهزء واللعب لعدم التفاتهم إلى البراهين القاطعة، وعدم تمييزهم بين الحق والباطل، والضار والنافع.
تهديد المشركين بالعذاب
{فارتقبْ يوم تأتي السَّماءُ بدخان مُّبين(10) يغْشى النَّاس هذا عذابٌ أليمٌ(11) رَّبَّنا اكشفْ عنا العذاب إِنَّا مؤمنون(12)أنَّى لهم الذكرى وقد جاءهم رسولٌ مُّبينٌ(13)ثم تولَّوْا عنه وقالوا معلَّمٌ مجنون(14)إنا كاشفوا العذاب قليلاً إِنكم عائدون(15)يومَ نبْطش البطْشة الكُبرى إِنا منتقمون(16)}.
سبب النزول:
نزول الآية (10):
{فارتقب يوم تأتي السماء}: أخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن ابن مسعود قال: إن قريشاً لما استعصوا على النَّبي صلى الله عليه وسلم، دعا عليهم بسنين كسنِيِّ يوسف، فأصابهم قحط، حتى أكلوا العظام، فجعل الرّجل ينظر إلى السماء، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدُّخان من الْجَهْد، فأنزل الله: {فارتقب يوم تأتي السماء بدخان مبين} فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا : يا رسول الله، استسق الله لمُضَر، فإنها قد هلكت، فاستسقى، فسقوا، فنزلت.
نزول الآيتين (15-16):
{إنّكم عائدون، يوم نبطش .. } أخرج البخاري في تتمة الرواية السابقة: فلما أصابتهم الرّفاهية عادوا إلى حالهم، فأنزل الله: {يوم نبطش البطشة الكبرى، إنّا منتقمون} فانتقم الله منهم يوم بدر.
ثم لما بيَّن أن شأنهم الحماقة والطغيان التفت إلى حبيبه صلى الله عليه وسلم تسليةً له، وإِقناطاً من إِيمانهم فقال {فارتقبْ يوم تأتي السماءُ بدخان مبين} أي فانتظر يا محمد عذابهم يوم تأتي السماءُ بدخانٍ كثيف، بيّنٍ واضح يراه كل أحد، قال ابن مسعود: إن قريشاً لما عصت الرسول صلى الله عليه وسلم دعا عليهم فقال: "اللهم اشدُد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف" فأصابهم الجهد حتى أكلوا الجيف، وكان الرجل يُحدِّث أخاه فيسمع صوته ولا يراه لشدة الدخان المنتشر بين السماء والأرض، ثم قال ابن مسعود: خمسٌ قد مضين: "الدخانُ، والروم والقمر، والبطشة، واللزام" وقال ابن عباس: لم يمض الدخان بل هو من أمارات الساعة، وهو يأتي قُبيل القيامة، يصيبُ المؤمن منه مثلُ الزكام، ويُنضجُ رءوس الكافرين والمنافقين، حتى يصبح رأس الواحد كالرأس المشوي، ويغدو كالسكران فيملأ الدخان جوفه ويخرج من منخريه وأّذنيه ودبره {يغْشى النَّاس هذا عذابٌ أليمٌ} أي يشمل كفار قريش ويعمهم من كل جانب ويقولون حين يصيبهم الدخان : هذا عذاب أليم {ربَّنا اكشفْ عنا العذاب إِنَّا مؤمنون} أي ويقولون مستغيثين: ربَّنا ارفع عنا العذاب فإِننا مؤمنون بمحمد وبالقرآن إن كشفته عنا، قال البيضاوي: وهذا وعدٌ بالإِيمان إن كشف العذاب عنهم {أنَّى لهم الذكرى}؟ استبعادٌ لإِيمانهم أي من أين يتذكرونه ويتعظون عند كشف العذاب؟ {وقد جاءهم رسولٌ مبين} أي والحال أنه قد أتاهم رسولٌ بيّن الرسالة، مؤيدٌ بالبينات الباهرة، والمعجزات القاهرة، ومع هذا لم يؤمنوا به ولم يتبعوه؟ {ثم تولَّوْا عنه وقالوا معلَّم مجنون} أي ثم أعرضوا عنه وبهتوه، ونسبوه إلى الجنون - وحاشاه - فهل يُتوقع من قومٍ هذه صفاتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير؟! قال الإِمام فخر الدين الرازي: إن كفار مكة كان لهم في ظهور القرآن على محمد صلى الله عليه وسلم قولان: منهم من كان يقول: إن محمداً يتعلم هذا الكلام من بعض الناس، ومنهم من كان يقول: إنه مجنون والجنُّ تلقي عليه هذا الكلام حال تخبطه {إنا كاشفوا العذاب قليلاً إِنكم عائدون} أي سنكشف عنكم العذاب زمناً قليلاً ثم تعودون إلى ما كنتم عليه من الشرك والعصيان، قال الرازي: والمقصودُ التنبيه على أنهم لا يوفون بعهدهم، وأنهم في حال العجز يتضرعون إلى الله تعالى، فإِذا زال الخوف عادوا إلى الكفر وتقليد الأسلاف، قال ابن مسعود: لما كشف عنهم العذاب باستسقاء النبي صلى الله عليه وسلم عادوا إلى تكذيبه {يومَ نبْطش البطْشة الكُبرى إِنا منتقمون} أي واذكر يوم نبطش بالكفار بطشتنا الكبرى انتقاماً منهم، والبطشُ: الأخذُ بقوة وشدة، قال ابن مسعود: "البطشة الكبرى" يوم "بدر"، وقال ابن عباس: هي يوم القيامة، قال ابن كثير: والظاهر أن ذلك يوم القيامة، وإِن كان يومُ بدر يومَ بطشةٍ أيضاً، وقال الرازي: القول الثاني أصح لأن يوم بدر لا يبلغ هذا المبلغ الذي يوصف به هذا الوصف العظيم، ولأن الانتقام التام إِنما يحصل يوم القيامة، ولمّا وصف بكونها "كبرى"وجب أن تكون أعظم أنواع البطش على الإِطلاق، وذلك إِنما يكون في القيامة.
تذكير كفار قريش بما حل بالطاغين من قوم فرعون
{ولقد فتنَّا قبلهم قومَ فرعون وجاءهم رسولٌ كريم(17)أنْ أدُّوا إليَّ عبادَ إني لكم رسولٌ أمينٌ(18)وأن لا تعلوا على الله إنِّي آتيكم بسلطانٍ مُّبين(19)وإِني عُذْت بربِّي وربِّكم أن تَرجمُون(20)وإِن لم تؤمنوا لي فاعتزلون(21)فدعا ربَّه أنَّ هؤلاء قومٌ مجرمون(22)فأَسْرِ بعبادي ليلاً إِنَّكم مُّتَّبعون(23)واترك البحر رهواً إنَّهُم جندٌ مُّغرقون(24)كم تركوا من جنَّاتٍ وعيونٍ(25)وزروع ومقامٍ كريم (26) ونَعمةٍ كانوا فيها فاكهين(27)كذلك وأورثناها قوماً آخرين(28)فما بكتْ عليهم السَّماءُ والأرض وما كانوا منظرين(29)ولقد نَجَّينا بني إِسرائيل من العذاب المُهين(30)من فرعونَ إنَّه كان عالياً من المسرفين(31)ولقد اخترناهم على علمٍ على العالمين(32)وآتيناهم من الآياتِ ما فيه بلاءٌ مُّبين(33)}.
ثم ذكَّر كفار قريش بما حلَّ بالطاغين من قوم فرعون فقال {ولقد فتنَّا قبلهم قومَ فرعون} أي ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم أقباط مصر {وجاءهم رسولٌ كريم} أي وجاءهم رسولٌ شريف الحسب والنسب، من أكرم عباد الله وهو موسى الكليم عليه أفضل الصلاة والتسليم {أنْ أدّوا إليَّ عبادَ الله} أي فقال لهم موسى: ادفعوا إليَّ عبادَ الله وأطلقوهم من العذاب، يريد بني إِسرائيل كقوله تعالى {فأرسل معنا بني إِسرائيل ولا تعذبهم} {إني لكم رسولٌ أمينٌ} أي إني رسولٌ مؤتمنٌ على الوحي غير متهم، وأنا لكم ناصح فاقبلوا نصحي {وأن لا تعلوا على الله} أي لا تتكبروا على الله ولا تترفَّعوا عن طاعته {إني آتيكم بسلطانٍ مبين} أي جئتكم بحجةٍ واضحة، وبرهانٍ ساطع، يعترف بهما كل عاقل {وإِني عُذْت بربّي وربكم أن تَرجمُون} أي التجأت إليه تعالى واستجرت به من أن تقتلوني، قال القرطبي: كأنهم توعَّدوه بالقتل فاستجار بالله {وإِن لم تؤمنوا لي فاعتزلون} أي وإِن لم تصدقوني ولم تؤمنوا بالله لأجل ما أتيتكم به من الحجة، فكفوا عن أذاي وخلُّوا سبيلي، قال ابن كثير: أي لا تتعرضوا لي ودعوا الأمر مسالمةً إلى أن يقضي الله بيننا {فدعا ربَّه أنَّ هؤلاء قومٌ مجرمون} أي فدعا عليهم لمّا كذبوه قائلاً: يا ربِّ إن هؤلاء قوم مجرمون فانتقم منهم {فأَسْرِ بعبادي ليلاً إِنكم متَّبعون} في الكلام حذف تقديره فأوحينا إليه وقلنا له: أسرٍ بعبادي أي اخرج ببني إِسرائيل ليلاً فإِن فرعون وقومه يتبعونكم، ويكون ذلك سبباً لهلاكهم {واترك البحر رهواً} أي واترك البحر ساكناً منفرجاً على هيئته بعد أن تجاوزه {إنهم جندٌ مُغرقون} أي إِنَّ فرعون وقومه سيغرقون فيه، قال ابن جزي: لمَّا جاوز موسى البحر أراد أن يضربه بعصاه فينطبق كما ضربه فانفلق، فأمره الله بأن يتركه ساكناً كما هو ليدخله فرعون وقومه فيغرقوا فيه، وإِنما أخبره تعالى بذلك ليبقى فارغ القلب من شرهم وإِيذائهم، مطمئناً إلى أنهم لن يدركوا بني إِسرائيل، ثم أخبر تعالى عن هلاكهم فقال {كم تركوا من جناتٍ وعيون} كم للتكثير أي لقد تركوا كثيراً من البساتين والحدائق الغناء والأنهار والعيون الجارية {وزروع ومقامٍ كريم} أي ومزارع عديدة فيها أنواع المزروعات ومجالس ومنازل حسنة، قال قتادة: {ومقام كريم} هي المواضع الحسان من المجالس والمساكن وغيرها {ونَعمةٍ كانوا فيها فاكهين} أي وتنعم بالعيش مع الحسن والنضارة كانوا فيها ناعمين بالرفاهية وكمال السرور، قال الإِمام فخر الدين الرازي: بيَّن تعالى أنهم بعد غرقهم تركوا هذه الأشياء الخمسة وهي: الجنات، والعيون، والزروع، والمقام الكريم - وهو المجالس والمنازل الحسنة - ونعمة العيش بفتح النون وهي حسنُه ونضارته {كذلك وأورثناها قوماً آخرين} أي كذلك فعلنا بهم حيث أهلكناهم وأورثنا ملكهم وديارهم لقومٍ آخرين، كانوا مستعبدين في يد القبط وهم بنو إسرائيل، قال ابن كثير: والمراد بهم بنوا إسرائيل فقد استولوا - بعد غرق فرعون وقومه - على الممالك القبطية، والبلاد المصرية كما قال تعالى {وأورثنا القوم الذين كانوا يُستْضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها} وقال تعالى في مكان آخر {وأورثناها بني إسرائيل} {فما بكتْ عليهم السماءُ والأرض} أي فما حزن على فقدهم أحد، ولا تأثر بموتهم كائن من الخلق {وما كانوا منظرين} أي وما كانوا مؤخرين وممهلين إلى وقت آخر. بل عُجّل عقابهم في الدنيا، قال القرطبي: تقول العرب عند موت السيد منهم: بكت له السماء والأرض، أي عمَّت مصيبتُه الأشياء حتى بكته الأرض والسماء، والريح والبرق قال الشاعر:
فيا شجر الخابور مالك مورقاً كأنك لم تجزع لمـوتِ طــريف
وذلك على سبيل التمثيل والتخييل مبالغةً في وجوب الجزع والبكاء عليه والمعنى أنهم هلكوا فلم تعظم مصيبتهم ولم يوجد لهم فقد، وقيل هو على حذف مضاف أي ما بكى عليهم أهل السماء وأهل الأرض.
{ولقد نجينا بني إِسرائيل من العذاب المهين} أي والله لقد أنقذنا بني إِسرائيل من العذاب الشديد، المفرط في الإِذلال والإِهانة، وهو قتل أبنائهم واستخدام نسائهم، وإِرهاقهم في الأعمال الشاقة {من فرعونَ إنه كان عالياً من المسرفين} أي من طغيان فرعون وجبروته إنه كان متكبراً جباراً، متجاوزاً الحد في الطغيان والإِجرام، قال الصاوي: هذا من جملة تعداد النعم على بني إِسرائيل، والمقصود من ذلك تسليته صلى الله عليه وسلم وتبشيره بأنه سينجيه وقومه المؤمنين من أيدي المشركين، فإِنهم لم يبلغوا في التجبر مثل فرعون وقومه {ولقد اخترناهم على علمٍ على العالمين} أي اصطفيناهم وشرفناهم على علمٍ منا باستحقاقهم لذلك الشرف على جميع الناس في زمانهم، قال قتادة: على أهل زمانهم، لا على أمة محمد لقوله تعالى {كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس} {وآتيناهم من الآياتِ ما فيه بلاءٌ مبين} أي وآتيناهم من الحجج والبراهين وخوارق العادات ما فيه اختبار وامتحان ظاهر جليٌ لمن تدبَّر وتبصَّر، قال الرازي: والآياتُ مثل فلق البحر، وتظليل الغمام، وإِنزال المنِّ والسلوى وغيرها من الآيات الباهرة، التي ما أظهر الله مثلها على أحدٍ سواهم.
إنكار المشركين البعث
{إنَّ هؤلاء ليقولون(34)إن هي إلا موتتنا الأولى وما نحنُ بمِنشرين(35)فأْتوا بآبائنا إِن كنتم صادقين(36)أهم خيرٌ أم قومُ تُبَّع والَّذين من قبلهم أهلكناهم إنهم كانوا مجرمين(37)وما خلقنا السماوات والأرضَ وما بينهما لاعبين(38)ما خلقناهما إلا بالحقِّ ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون(39)}.
{إن هؤلاء ليقولون إن هي إلا موتتنا الأولى} أي إِن كفار قريش ليقولون: لن نموت إلا موتةً واحدةً وهي موتتنا الأولى في الدنيا، وفي قوله تعالى {هؤلاء} تحقيرٌ لهم وازدراءٌ بهم، قال المفسرون: لمَّا كان الحديث في أول السورة عن كفار مكة، وجاءت قصة فرعون وقومه مسوقة للدلالة على أنهم مثلهم في الإِصرار على الضلالة والكفر، رجع إلى الحديث عن كفار قريش، والغرضُ من قولهم {إن هي إِلاّ موتتنا الأولى} إِنكار البعث كأنهم قالوا: إِذا متنا فلا بعث ولا حياة ولا نشور، ثم صرحوا بذلك بقولهم {وما نحنُ بمِنشرين} أي وما نحن بمبعوثين {فأْتوا بآبائنا إِن كنتم صادقين} خطابٌ للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على وجه التعجيز أي أحيوا لنا ءاباءنا ليخبرونا بصدقكم إِن كنتم صادقين في أن هناك حياةً بعد هذه الحياة، قال الإِمام فخر الدين الرازي: إن الكفار احتجوا على نفي الحشر والنشر بأن قالوا: إن كان البعث والنشور ممكناً معقولاً فعجلوا لنا إِحياء من مات من ءابائنا ليصير ذلك دليلاً عندنا على صدق دعواكم في البعث يوم القيامة، وقال القرطبي: قائل هذا أبو جهل، قال يا محمد: إن كنت صادقاً في قولك فابعث لنا رجلين من ءابائنا أحدهما: قُصي بن كلاب فإِنه كان رجلاً صادقاً، لنسأله عما يكون بعد الموت {أهم خيرٌ أم قومُ تُبَّع} استفهام انكار مع التهديد أي أهؤلاء المشركون أقوى وأشدُّ أم أهل سبأ ملوك اليمن؟ الذين كانوا أكثر أموالاً، وأعظم نعيماً من كفار مكة؟ {والذين من قبلهم أهلكناهم} أي والذين سبقوهم من الأمم العاتية أهلكناهم، وخربنا بلادهم، وفرقناهم شذر مذر، قال أبو السعود: والمراد بهم عاد وثمود وأضرابهم من كل جبار عنيد، أولي بأسٍ شديد، فأولئك كانوا أقوى من هؤلاء، وقد أهلكهم الله مع ما كانوا عليه من غاية القوة والشدة، فإِهلاك هؤلاء أولى {إنهم كانوا مجرمين} تعليل للإِهلاك أي أهلكناهم ودمرناهم بسبب إِجرامهم، وفيه وعيد وتهديد لقريش أن يفعل الله بهم ما فعل بقوم تُبَّع والمكذبين .. ثم نبه تعالى إلى دلائل البعث وهو خلق العالم بالحقِّ فقال {وما خلقنا السماوات والأرضَ وما بينهما لاعبين} أي وما خلقنا هذا الكون وما فيه من المخلوقات البديعة لعباً وعبثاً {ما خلقناهما إلا بالحقِّ} أي ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما من المخلوقات إلا بالعدل والحقِّ المبين، لنجازي المحسن بإِحسانه والمسيء بإِساءته {ولكنَّ أكثرهم لا يعلمون} أي ولكنَّ أكثر الناس لا يعلمون ذلك فينكرون البعث والجزاء، قال المفسرون: إن الله تعالى خلق النوع الإِنساني، وخلق ما ينتظم به أسباب معاشهم، من السقف المرفوع، والمهاد المفروش، وما بينهما من عجائب المصنوعات، وبدائع المخلوقات، ثم كلفهم بالإِيمان والطاعة، فآمن البعض وكفر البعض، فلا بدَّ إذاً من دار جزاء يثاب فيها المحسن، ويعاقب فيها المسيء، لتجزى كل نفسٍ بما كسبت، ولو لم يحصل البعث والجزاء لكان هذا الخلق لهواً وعبثاً، وتنزَّه الله عن ذلك.
أهوال يوم القيامة، وجزاء الكفار
{إنَّ يوم الفصل ميقاتُهم أجمعين(40)يومَ لا يُغني مَّولىً عن مَّولى شيئاً ولا هم يُنصرون(41)إلاَّ من رَّحم اللهُ إِنَّه هو العزيز الرَّحيم(42)إنَّ شجرتَ الزَّقُّوم(43)طعامُ الأثيم(44)كالمُهل يغلي في البطون(45)كغلي الحميم(46)خذوه فاعْتلُوه إلى سواءِ الجحيم(47)ثمَّ صبُّوا فوق رأسه من عذاب الحميم(48)ذقْ إِنَّكَ أنتَ العزيزُ الكريم(49)إنَّ هذا ما كنتم بهِ تمْترون(50)}.
سبب النزول:
نزول الآية (43) وما بعدها:
{إن شجرة}: أخرج سعيد بن منصور عن أبي مالك قال: إن أبا جهل كان يأتي بالتمر والزُّبْد، فيقول: تزقموا، فهذا الزقوم الذي يعدكم به محمد، فنزلت: {إن شجرة الزقوم طعام الأثيم..}.
نزول الآية (49):
{ذق إنك ..}: أخرج الأموي في مغازيه عن عكرمة قال: "لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل، فقال: إن الله أمرني أن أقول لك: "أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى" فنزع يدهمن يده، وقال: ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء، لقد علمتَ أني أمْنَعُ أهل البطحاء، وأنا العزيز الكريم، فقتله الله يوم بدر، وأذله وعيَّره بكلمته، ونزل فيه: {ذق إنك أنت العزيز الكريم}".
ولهذا قال بعده {إنَّ يوم الفصل ميقاتُهم أجمعين} أي إن يوم القيامة موعد حساب الخلائق أجمعين، سُمي {يوم الفصل} لأن الله تعالى يفصل فيه بين الخلق كما قال تعالى {يوم القيامة يفصل بينكم}{يومَ لا يُغني مولىً عن مولىً شيئاً ولا هم يُنصرون} أي في ذلك اليوم الرهيب، لا يدفع قريب عن قريبه، ولا صديقٌ عن صديقه، ولا ينفع أحدٌ أحداً ولا ينصره ولو كان قريبه كقوله {يا أيها الناس اتقوا ربكم واخشوا يوماً لا يجزى والدٌ عن ولده، ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً} {إلاَّ من رحم اللهُ} استثناء متصل أي لا يغني قريبٌ عن قريب إلا المؤمنين فإِنه يُؤذن لهم في شفاعة بعضهم لبعض، وقيل: منقطع أي لكنْ من رحمه اللهُ فإِنه يشفع وينفع، قال ابن عباس: يريد المؤمن فإِنه تشفع له الأنبياء والملائكة {إِنه هو العزيز الرحيم} أي هو المنتقم من أعدائه، الرحيمُ بأوليائه .. ولما ذكر الأدلة على القيامة، أردفه بوصف ذلك اليوم العصيب، فذكر وعيد الكفار أولاً ثم وعد الأبرار ثانياً للجمع بين الترهيب والترغيب فقال {إنَّ شجرتَ الزقوم طعامُ الأثيم} أي إن هذه الشجرة الخبيثة - شجرة الزقوم - التي تنبتُ في أصل الجحيم، طعام كل فاجر، ليس له طعام غيرها، قال أبو حيان: الأثيمُ صفة مبالغة وهو الكثير الآثام، وفُسِّر بالمشرك {كالمُهل يغلي في البطون} أي هي في شناعتها وفظاعتها إذا أكلها الإِنسان كالنحاس المذاب الذي تناهى حرُّه، فهو يُجرجر في البطن {كغلي الحميم} أي كغليان الماء الشديد الحرارة، قال القرطبي: وشجرة الزقوم هي الشجرة التي خلقها الله في جهنم، وسمَّاها الشجرة الملعونة، فإِذا جاع أهل النار التجئوا إليها فأكلوا منها، فغلت في بطونهم كما يغلي الماء الحار، وشبَّه تعالى ما يصير منها إلى بطونهم بالمُهل وهو النحاس المذاب، والمرادُ بالأثيم الفاجر ذو الإِثم وهو أبو جهل، وذلك أنه كان يقول: يعدنا محمد أن في جهنم الزقوم، وإِنما هو الثَّريد بالزبد والتمر، ثم يأتي بالزبد والتمر ويقول لأصحابه: تزقموا، سخريةً واستهزاءً بكلام الله، قال تعالى {خذوه فاعْتلُوه إلى سواءِ الجحيم} أي يُقال للزبانية : خذوا هذا الفاجر اللئيم فسوقوه وجروه من تلابيبه بعنف وشدة إلى وسط الجحيم {ثم صبُّوا فوق رأسه من عذاب الحميم} أي ثم صبوا فوق رأس هذا الفاجر عذاب ذلك الحميم الذي تناهى حرُّه {ذقْ إِنكَ أنتَ العزيزُ الكريم} أي يقال له على سبيل الاستهزاء والإِهانة: ذقْ هذا العذاب فإِنك أنت المعزَّز المكرَّم، قال عكرمة: التقى النبي صلى الله عليه وسلم بأبي جهل فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الله أمرني أن أقول لك {أوْلى لكَ فأوْلى} فقال: بأي شيءٍ تهددني! واللهِ ما تستطيع أنت ولا ربك أن تفعلا بي شيئاً، إِني لمن أعزِّ هذا الوادي وأكرمه على قومه، فقتله الله يوم بدر وأذلَّه ونزلت هذه الآية {إنَّ هذا ما كنتم بهِ تمْترون} أي إِنَّ هذا العذاب هو ما كنتم تشكوُّن به في الدنيا، فذوقوه اليوم {أفسحرٌ هذا أم أنتم لا تُبصرون} والجمعُ في الآية باعتبار المعنى لأن المراد جنس الأثيم.
أحوال أهل الجنة، وألوان النعيم
{إن المتقين في مقامٍ أمين(51)في جنَّاتٍ وعيونٍ(52)يلْبسون من سُنْدسٍ واستبرق متقابلين(53) كذلك وزوَّجناهم بحورٍ عينٍ(54) يدْعون فيها بكلِّ فاكهةٍ آمنين(55)لا يذوقون فيها الموتَ إِلاَّ الموتة الأولى ووقاهم عذاب الجحيم(56)فضلاً من ربك ذلك هو الفوز العظيم(57)فإِنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون(58)فارتقب إِنهم مرتقبون(59)}.
ولما ذكر تعالى أحوال أهل النار أتبعه بذكر أحوال أهل الجنة فقال {إن المتقين في مقامٍ أمين} أي الذين اتقوا اللهَ في الدنيا بامتثال أوامره واجتناب نواهيه، هم اليوم في موضع إِقامة يأمنون فيه من الآفات والمنغصات والمكاره، وهو الجنة ولهذا قال بعده {في جناتٍ وعيون} أي في حدائق وبساتين ناضرة، وعيونٍ جارية {يلْبسون من سُنْدسٍ وإستبرق} أي يلبسون ثياب الحرير، الرقيق منه وهو السندس، والسميك منه وهو الإستبرق {متقابلين} أي متقابلين في المجالس ليستأنس بعضهم ببعض {كذلك وزوجناهم بحورٍ عينٍ} أي كذلك أكرمناهم بأنواع الإِكرام، وزوجناهم أيضاً بالحور الحسان في الجنان، قال البيضاوي: أي قرناهم بالحور العين، والحوراءُ: البيضاءُ، والعيناءُ: عظيمة العينين، وإِنما وصف تعالى نعيمهم بذلك لأن الجنات والأنهار من أقوى أسباب نزهة الخاطر، وانفراجه عن الغم، ثم ذكر الحور الحِسان لأن بها اكتمال سعادة الإِنسان كما قيل: "ثلاثةُ تنفي عن القلب الحزن: الماء، والخضرةُ، والوجهُ الحسن" ثم زاد في بيان النعيم فقال {يدْعون فيها بكلِّ فاكهةٍ آمنين} أي يطلبون من الخدم إحضار جميع أنواع الفواكه في الجنة، لأجل أنهم آمنون من التخم والأمراض، فلا تعب في الجنة ولا وَصَب {لا يذوقون فيها الموتَ إِلاَّ الموتة الأولى} استثناء منقطع أي لا يذوقون في الجنة الموت لكنهم قد ذاقوا الموتة الأولى في الدنيا فلم يعد ثمة موت، بل خلود أبد الآبدين {ووقاهم عذاب الجحيم} أي خلَّصهم ونجَّاهم من عذاب جهنم الشديد الأليم {فضلاً من ربك} أي فعل ذلك بهم تفضلاً منه تعالى عليهم {ذلك هو الفوز العظيم} أي ذلك الذي أعطوه من النعيم، هو الفوز العظيم الذي لا فوز وراءه {فإِنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون} أي فإِنما سهلنا القرآن بلغتك - وهي لسان العرب - لعلهم يتعظون وينزجرون {فارتقب إِنهم مرتقبون} أي فانتظر يا محمد ما يحل بهم، إِنهم منتظرون هلاكك، وسيعلمون لمن تكون النصرة والظفر في الدنيا والآخرة، وفيه وعد للرسول صلى الله عليه وسلم ووعيد للمشركين.
-
رد: تفسير القران الكريم
سورة الجاثية
مصدر القرآن، وإثبات وحدانية الله
جزاء المكذبين بآيات الله
التذكير بنعم الله على عباده
نعمه الخاصة ببني إسرائيل، وإنزال الشرائع
هل يستوي المحسن والمسيء، واتخاذ الهوى إلهاً
شبه المشركين في إنكار القيامة والإله القادر
أحوال المطيعين والعاصين
بَين يَدَي السُّورَة
* سورة الجاثية مكية، وقد تناولت العقيدة الإِسلامية في إطارها الواسع "الإِيمان بالله تعالى ووحدانيته، الإِيمان بالقرآن ونبوة محمد عليه السلام، الإِيمان بالآخرة والبعث والجزاء" ويكاد يكون المحور الذي تدور حوله السورة الكريمة هو إِقامة الأدلة والبراهين على وحدانية رب العالمين.
* تبتدئ السورة الكريمة بالحديث عن القرآن ومصدره، وهو اللهُ العزيز في ملكه، الحكيم في خلقه، الذي أنزل كتابه المجيد رحمةً بعباده، ليكون نبراساً مضيئاً ينير للبشرية طريق السعادة والخير.
* ثم ذكرت الآيات الكونية المنبثة في هذا العالم الفسيح، ففي السموات البديعة ءاياتٌ، وفي الأرض الفسيحة ءاياتٌ، وفي خلق البشر وسائر الأنعام والمخلوقات ءاياتٌ، وفي تعاقب الليل والنهار، وتسخير الرياح والأمطار ءاياتٌ، وكلها شواهد ناطقة بعظمة الله وجلاله، وقدرته ووحدانيته، ثم تحدثت عن المجرمين المكذبين بالقرآن، الذين يسمعون ءاياته المنيرة، فلا يزدادون إلا استكباراً وطغياناً، وأنذرتهم بالعذاب الأليم في دركات الجحيم.
* وتحدثت السورة عن نعم الله الجليلة على عباده ليشكروه، ويتفكروا في آلائه التي أسبغها عليهم، ويعلموا أنَّ الله وحده هو مصدر هذه النعم، الظاهرة والباطنة، وأنه لا خالق ولا رازق إلا الله.
* وتحدثت عن إكرام الله لبني إسرائيل بأنواع التكريم، ومقابلتهم ذلك الفضل والإِحسان بالجحود والعصيان، وذكرت موقف الطغاة المجرمين من دعوة الرسل الكرام، وبيَّنت أنه لا يتساوى في عدل الله وحكمته أن يجعل المجرمين كالمحسنين، ولا أن يجعل الأشرار كالأبرار، ثم بيَّنت سبب ضلال المشركين، وهو إجرامهم واتخاذهم الهوى إلهاً ومعبوداً حتى طمست بصيرتهم فلم يهتدوا إلى الحق أبداً.
* وختمت السورة بذكر الجزاء العادل يوم الدين، حيث تنقسم الإِنسانية إلى فريقين: فريق في الجنة، وفريق في السعير.
التسميَــة:
سميت "سورة الجاثية" للأهوال التي يلقاها الناس يوم الحساب، حيث تجثوا الخلائق من الفزع على الركب في انتظار الحساب، ويغشى الناس من الأهوال ما لا يخطر على البال {وترى كل أُمةٍ جاثيةً، كلُّ أُمةٍ تُدعى إلى كتابها اليومَ تُجزون ما كنتم تعملون} وحقاً إنه ليوم رهيب يشيب له الولدان
مصدر القرآن، وإثبات وحدانية الله
{حم(1) تنزيلُ الكتاب من الله العزيز الحكيم(2) إنَّ في السماواتِ والأرضِ لآياتٍ للمؤمنين(3)وفي خلقِكم وما يُبثُّ من دابةٍ ءاياتٌ لقومٍ يوقنون(4)واختلاف الليل والنهار وما أنزلَ اللهُ من السَّماء من رزقٍ فأحيا به الأرضَ بعدَ موتها وتصريفِ الرياحِ ءاياتٌ لقوم يعقلون(5) تلك ءاياتُ اللهِ نتلوها عليك بالحقِّ فبأيِ حديثٍ بعدَ اللهِ وآياتهِ يؤمنون(6)}.
{حم} الحروف المقطَّعة للتنبيه على إِعجاز القرآن {تنزيلُ الكتاب من الله العزيز الحكيم} أي هذا القرآن تنزيلٌ من الله، العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه، الذي لا يصدر عنه إلا كل ما فيه حكمةٌ ومصلحة للعباد، ثم أخبر تعالى عن دلائل الوحدانية والقدرة فقال {إنَّ في السماواتِ والأرضِ لآياتٍ للمؤمنين} أي إنَّ في خلق السماواتِ والأرض وما فيهما من المخلوقات العجيبة، والأحوال الغريبة، والأمور البديعة، لعلامات باهرة على كمال قدرة الله وحكمته، لقوم يصدّقون بوجود الله ووحدانيته {وفي خلقِكم وما يُبثُّ من دابةٍ ءاياتٌ لقومٍ يوقنون} أي وفي خلقكم أيها الناسُ من نطفةٍ ثم من علقة، متقلبة في أطوارٍ مختلفة إلى تمام الخلق، وفيما ينشره تعالى ويُفرقه من أنواع المخلوقات التي تدب على وجه الأرض، ءاياتٌ باهرةٌ أيضاً لقومٍ يصدّقون عن إذعانٍ ويقين بقدرة ربِّ العالمين {واختلاف الليل والنهار} أي وفي تعاقب الليل والنهار، دائبين لا يفتران، هذا بظلامه وذاك بضيائه، بنظام محكم دقيق {وما أنزلَ اللهُ من السَّماء من رزقٍ} أي وفيما أنزله الله تبارك وتعالى من السحاب، من المطر الذي به حياة البشر في معاشهم وأرزاقهم، قال ابن كثير: وسمَّى تعالى المطر رزقاً لأن به يحصل الرزق {فأحيا به الأرضَ بعدَ موتها} أي فأحيا بالمطر الأرض بعدما كانت هامدةً يابسة لا نبات فيها ولا زرع، فأخرج فيها من أنواع الزروع والثمرات والنبات {وتصريفِ الرياحِ} أي وفي تقليب الرياح جنوباً وشمالاً، باردة وحارة {آياتٌ لقوم يعقلون} أي علامات ساطعة واضحة على وجود الله ووحدانيته، لقومٍ لهم عقول نيّرة وبصائر مشرقة، قال الصاوي: ذكر الله سبحانه وتعالى من الدلائل ستةً في ثلاث ءايات، ختم الأولى بـ {للمؤمنين}، والثانية بـ {يوقنون} والثالثة بـ {يعقلون} ووجه التغاير بينها في التعبير أن الإِنسان إذا تأمل في السماوات والأرض، وأنه لا بدَّ لهما من صانع آمن، وإِذا نظر في خلق نفسه ونحوها ازداد إِيماناً فأيقن، وإِذا نظر في سائر الحوادث كمل عقله واستحكم علمه {تلك ءاياتُ اللهِ نتلوها عليك بالحقِّ} أي هذه ءايات الله وحججه وبراهينه، الدالة على وحدانيته وقدرته، نقصُّها عليك يا محمد بالحق المبين الذي لا غموض فيه ولا التباس {فبأيِ حديثٍ بعدَ اللهِ وآياتهِ يؤمنون}؟ أي وإِذا لم يصدِّق كفار مكة بكلام الله، ولم يؤمنوا بحججه وبراهينه، فبأي كلامٍ يؤمنون ويصدِّقون؟ والغرضُ استعظام تكذيبهم للقرآن بعد وضوح بيانه وإِعجازه.
جزاء المكذبين بآيات الله
{ويلٌ لكلِّ أفَّاكٍ أثيم(7)يسْمعُ ءاياتِ اللهِ تُتلى عليه ثم يُصرُّ مستكبراً كأن لم يسمعها فبشره بعذابٍ أليمٍ(8)وإِذا علِمَ مِنْ ءاياتنا شيْئاً اتَّخذها هُزواً أُولئك لهم عذابٌ مهينٌ(8) من ورائهم جهنم ولا يُغني عنهم ما كسبوا شيئاً ولا ما اتَّخذوا مِنْ دونِ الله أولياءَ ولهم عذابٌ عظيم(10)هذا هُدىً والذين كفروا بآياتِ ربهم لهُم عذابٌ من رجزٍ أليم(11)}.
سبب النزول:
نزول الآية (8):
{يسمع ءايات الله}: نزلت في النضر بن الحارث الذي كان يشتري أحاديث الأعاجم، ويشغل بها الناس عن استماع القرآن. والآية عامة في كل من صد عن الدين وتكبر عن هديه.
{ويلٌ لكلِّ أفَّاكٍ أثيم} أي هلاك ودمارٌ لكل كذَّاب مبالغٍ في اقتراف الآثام، قال الرازي: وهذا وعيدٌ عظيم، والأفَّاك الكذَّاب، والأثيمُ المبالغ في اقتراف الآثام {يسْمعُ ءاياتِ اللهِ تُتلى عليه} أي يسمع ءايات القرآن تُقرأ عليه، وهي في غاية الوضوح والبيان {ثم يُصرُّ مستكبراً كأن لم يسمعها} أي ثم يدوم على حاله من الكفر، ويتمادى في غيّه وضلاله، مستكبراً عن الإِيمان بالآيات كأنه لم يسمعها {فبشِّرهُ بعذابٍ أليم} أي فبشرّه يا محمد بعذاب شديد مؤلم، وسمَّاه "بشارة" تهكماً بهم، لأن البشارة هي الخبر السارُّ، قال في التسهيل: وإِنما عطفه بـ "ثم" لاستعظام الإِصرار على الكفر بعد سماعه ءايات الله، واستبعاد ذلك في العقل والطبع، قال المفسرون: نزلت في "النضر بن الحارث" كان يشتري أحاديث الأعاجم ويشغل بها الناس عن استماع القرآن، والآيةُ عامةٌ في كل من كان موصوفاً بالصفة المذكورة {وإِذا علِمَ مِنْ ءاياتنا شيْئاً اتَّخذها هُزواً} أي إِذا بلغه شيء من الآيات التي أنزلها الله على محمد، سخر واستهزأ بها {أُولئك لهم عذابٌ مهينٌ} أي أولئك الأفاكون المستهزءون بالقرآن لهم عذاب شديد مع الذل والإِهانة {من ورائهم جهنم} أي أمامهم جهنم تنتظرهم لما كانوا فيه من التعزز في الدنيا والتكبر عن الحق {ولا يُغني عنهم ما كسبوا شيئاً} أي لا ينفعهم ما ملكوه في الدنيا من المال والولد {ولا ما اتَّخذوا مِنْ دونِ الله أولياءَ} أي ولا تنفعهم الأصنام التي عبدوها من دون الله {ولهم عذابٌ عظيم} أي ولهم عذاب دائم مؤلم، قال أبو السعود: وتوسيط النفي {ولا ما اتخذوا} مع أن عدم إِغناء الأصنام أظهر وأجلى من عدم إِغناء الأموال والأولاد، مبنيٌ على زعمهم الفاسد حيث كانوا يطمعون في شفاعتهم، وفيه تهكم بهم {هذا هُدىً} أي هذا القرآن كامل في الهداية لمن آمن به واتَّبعه {والذين كفروا بآياتِ ربهم} أي جحدوا بالقرآن مع سطوعه، وفيه زيادة تشنيع على كفرهم به، وتفظيع حالهم {لهُم عذابٌ من رجزٍ أليم} أي لهم عذاب من أشدِّ أنواع العذاب مؤلمٌ موجعٌ، قال الزمخشري: والرجزُ أشدُّ العذاب، والمراد بـ {آياتِ ربهم} القرآن.
التذكير بنعم الله على عباده
{اللهُ الذي سخَّر لكم البحر لتجري الفُلك فيه بأمره ولِتبْتغُوا من فضْلهِ ولعلكم تشكرون(12)وسخَّر لكُمْ ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ جميعاً مِنه إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لِقومٍ يتفكَّرون(13)قلْ لِّلَّذين آمنوا يغْفروا لِلَّذين لا يرجون أيامَ الله ليجزيَ قوماً بما كانوا يكسبون(14)من عمل صالحاً فلنفسه ومنْ أَساءَ فعليها ثُمَّ إلى ربكم تُرجعون(15)}.
سبب النزول:
نزول الآية (14):
{قل للذين آمنوا يغفروا}: ذكر الواحدي النيسابوري والقشيري عن ابن عباس: أن الآية نزلت في عمر بن الخطاب وعبد الله بن أُبيّ وجماعتهما، وذلك أنهم نزلوا في غزاة بني المُصْطَلِق على بئر يقال لها: المُرَيْسيع، فأرسل عبد الله غلامه ليستقي الماء، فأبطأ عليه، فلما أتاه قال: ما حبسك؟ قال: غلام عمر قعد على قفّ - فم - البئر، فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قُرَب النبي وقرب أبي بكر وملأ لمولاه، فقال عبد الله: ما مَثَلُنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سَمِّنْ كلبك يأكلك، فبلغ عمر رضي الله عنه، فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه، فأنزل الله تعالى هذه الآية: {قل للذين آمنوا يغفروا..}.
ثم لمَّا توعَّدهم بأنواع العذاب ذكَّرهم تعالى بنعمهالجليلة ليشكروه ويوحّدوه فقال{اللهُ الذي سخَّر لكم البحر} أي الله تعالى بقدرته وحكمته هو الذي ذلَّل لكم البحر على ضخامته وعِظمه {لتجري الفُلك فيه بأمره} أي لتسير السفنُ على سطحه بمشيئته وإِرادته، دون أن تغوص في أعماقه، قال الإِمام الفخر: خلَق وجه الماء على الملاسة التي تجري عليها السفن، وخلق الخشبة على وجهٍ تبقى طافيةً على وجه الماء دون أن تغوص فيه، وذلك لا يقدر عليه أحد إلا الله {ولِتبْتغُوا من فضْلهِ} أي ولتطلبوا من فضل الله بسبب التجارة، والغوص على اللؤلؤ والمرجان، وصيد الأسماك وغيرها {ولعلكم تشكرون} أي ولأجل أن تشكروا ربكم على ما أنعم به عليكم وتفضَّل، قال القرطبي: ذكر تعالى كمال قدرته، وتمام نعمته على عباده، وبيَّن أنه خلقَ ما خلق لمنافعهم، وكلُّ ذلك من فعله وخلقه، وإِحسانٌ منه وإِنعام {وسخَّر لكُمْ ما في السَّماواتِ وما في الأرضِ جميعاً مِنه} أي وخلق لكم كل ما في هذا الكون، من كواكب، وجبال، وبحار، وأنهار، ونباتٍ وأشجار، الجميع من فضله وإِحسانه وامتنانه، من عنده وحده جلّ وعلا {إنَّ في ذلكَ لآياتٍ لِقومٍ يتفكَّرون} أي إِنَّ فيما ذُكر لعِبراً وعظات لقوم يتأملون في بدائع صنع الله فيستدلون على قدرته ووحدانيته ويؤمنون، ثم لما بيَّن تعالى دلائل التوحيد والقدرة والحكمة، أردفه بتعليم فضائل الأخلاق، ومحاسن الأفعال فقال {قلْ للذين آمنوا يغْفروا للَّذين لا يرْجونَ أيَّام الله} أي قل يا محمد للمؤمنين يصفحوا عن الكفار، ويتجاوزوا عمَّا يصدر عنهم من الأذى والأفعال الموحشة، قال مقاتل: شتم رجلٌ من الكفار عمر بمكة فهمَّ أن يبطش به، فأمر الله بالعفو والتجاوز وأنزل هذه الآية، والمرادُ من قوله {لا يرجون أيامَ الله} أي لا يخافون بأسِ الله وعقابه لأنهم لا يؤمنون بالآخرة ولا بلقاء الله، قال ابن كثير: أُمر المسلمون أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب، ليكون ذلك تأليفاً لهم، ثم لما أصرُّوا على العناد، شرع الله للمؤمنين والجهاد {ليجزيّ قوماً بما كانوا يكسبون} وعيدٌ وتهديد أي ليجازي الكفرة المجرمين بما اقترفوه من الإِثم والإِجرام، والتنكيرُ للتحقير {من عمل صالحاً فلنفسه ومنْ أساءَ فعليها} أي من فعل خيراً في الدنيا فنفعُه لنفسه، ومن ارتكب سوءاً وشراً فضرره عائد عليها، ولا يكاد يسري عملٌ إلى غير عامله {ثُمَّ إلى ربكم تُرجعون} أي ثم مرجعكم يوم القيامة إلى الله وحده، فيجازي كلاً بعمله، المحسنَ بإِحسانه، والمسيءَ بإِساءته.
نعمه الخاصة ببني إسرائيل، وإنزال الشرائع
{ولقد آتينا بني إِسرائيل الكتابَ والحُكمَ والنبوَّة ورزقناهم من الطيِّباتِ وفضَّلناهم على العالمين(16)وآتيناهم بيِّناتٍ من الأَمر فما اختلفُوا إلاَّ منْ بعدِ ما جاءهم العلمُ بغْياً بينهم إِنَّ ربَّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون(17)ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتَّبِعها ولا تتَّبعْ أَهواء الذين لا يعلمون(18)إِنهم لن يُغْنوا عنك من الله شيئاً وإِنَّ الظالمين بعضهم أولياءُ بعضٍ واللهُ وليُّ المتَّقين(19)هذا بصائر للناسِ وهدىً ورحمة لقومٍ يوقنون(20)}.
ولما ذكَّر بالنعم العامة أردفه بذكر النعم الخاصة على بني إِسرائيل فقال {ولقد آتينا بني إِسرائيل الكتابَ والحُكمَ والنُبوَّة} أي والله لقد أعطينا بني إِسرائيل التوراة، وفصل الحكومات بين الناس، وجعلنا فيهم الأنبياء والمرسلين {ورزقناهم من الطيبات} أي ورزقناهم من أنواع النعم الكثيرة من المآكل والمشارب، والأقوات والثمار {وفضَّلناهم على العالمين} أي وفضلناهم على سائر الأمم في زمانهم، قال الصاوي: والمقصود من ذلك تسليته صلى الله عليه وسلم كأنه قال: لا تحزن يا محمد على كفر قومك، فإِننا آتينا بني إسرائيل الكتاب والنعم العظيمة، فلم يشكروا بل أصرُّوا على الكفر، فكذلك قومك {وآتيناهم بيِّناتٍ من الأَمر} أي وبينا لهم في التوراة أمر الشريعة وأمر محمد صلى الله عليه وسلم على أكمل وجه، قال ابن عباس: يعني أمر النبي صلى الله عليه وسلم وشواهد نبوته بأنه يُهاجر من تهامة إلى يثرب وينصره أهلها {فما اختلفُوا إلاَّ منْ بعدِ ما جاءهم العلمُ} أي فما اختلفوا في ذلك الأمر، إلا من بعد ما جاءتهم الحجج والبراهين والأدلة القاطعة على صدقه {بغْياً بينهم} أي حسداً وعناداً وطلباً للرياسة، قال الإِمام الفخر: والمقصودُ من الآية التعجبُ من هذه الحالة، لأن حصول العلم يوجب ارتفاع الخلاف، وههنا صار العلم سبباً لحصول الاختلاف، لأنه لم يكن مقصودهم نفس العلم وإِنما المقصود منه طلب الرياسة والتقدم، فلذلك علموا وعاندوا {إِنَّ ربَّك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون} أي هو جل وعلا الذي يفصل بين العباد يوم القيامة فيما اختلفوا فيه من أمر الدين، وفي الآية زجرٌ للمشركين أن يسلكوا مسلك من سبقهم من الأمم العاتية الطاغية {ثم جعلناك على شريعةٍ من الأمر فاتَّبِعها} أي ثم جعلناك يا محمد على طريقةٍ واضحة، ومنهاجٍ سديد رشيد من أمر الدين، فاتبع ما أوحى إليك ربك من الدين القيّم {ولا تتَّبعْ أهواء الذين لا يعلمون} أي لا تتَّبع ضلالات المشركين، قال البيضاوي: لا تتبع آراء الجهال التابعة للشهوات، وهم رؤساء قريش حيث قالوا : ارجع إلى دين ءابائك {إِنهم لن يُغْنوا عنك من الله شيئاً} أي لن يدفعوا عنك شيئاً من العذاب إن سايرتهم على ضلالهم {وإِنَّ الظالمين بعضهم أولياءُ بعضٍ} أي وإِن الظالمين يتولى بعضهم بعضاً في الدنيا ولا ولي لهم في الآخرة {واللهُ وليُّ المتقين} أي وهو تعالى ناصر ومعين المؤمنين المتقين في الدنيا والآخرة {هذا بصائر للناسِ وهدىً ورحمة لقومٍ يوقنون} أي هذا القرآن نور وضياء للناس بمنزلة البصائر في القلوب، وهو رحمة لمن آمن به وأيقن.
هل يستوي المحسن والمسيء، واتخاذ الهوى إلهاً
{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْترحوا السَّيئاتِ أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواءً محيَاهُم ومماتهم ساءَ ما يحكمون(21)وخلق اللهُ السماواتِ والأرضَ بالحقِّ ولتُجزى كلُّ نفسٍ بما كسبت وهم لا يظلمون(22)أفرأيتَ منْ اتَّخذ إلهه هواهُ وأضلَّه اللهُ على علمٍ وختم على سمْعهِ وقلبِه وجعل على بصره غشاوةً فمن يهْديهِ منْ بعدِ الله أفلا تذكَّرون(23)}.
سبب النزول:
نزول الآية (21):
{أم حسب الذين..}: قال الكلب : نزلت هذه الآية في علي وحمزة وأبي عُبيدة بن الجراح رضي الله عنهم، وفي ثلاثة من المشركين: عُتْبة وشَيْبة والوليد بن عتبة، قالوا للمؤمنين: والله ما أنتم على شيء، ولو كان ما تقولون حقاً لكان حالنا أفضل من حالكم في الآخرة، كما أنّا أفضل حالاً منكم في الدنيا، فأنكر الله عليهم هذا الكلام، وبيَّن أنه لا يمكن أن يكون حال المؤمن المطيع مساوياً لحال الكافر العاصي في درجات الثواب، ومنازل السعادات.
نزول الآية (23):
{أفرأيت من اتخذ إلهه هواه}: أخرج ابن المنذر وابن جرير عن سعيد بن جبير قال: كانت قريش تعبد الحجر حيناً من الدهر، فإذا وجدوا ما هو أحسن منه، طرحوا الأول وعبدوا الآخر، فأنزل الله: {أفرأيت من اتخذ إلهه هواه} الآية، وقال مقاتل : نزلت في الحارث بن قيس السهمي أحد المستهزئين، لأنه كان يعبد ما تهواه نفسه.
نزول بقية الآية (23):
{وختم على سمعه وقلبه..} قال مقاتل: نزلت في أبي جهل، ذلك أنه طاف بالبيت ذات ليلة، ومعه الوليد بن المغيرة، فتحدثا في شأن النبي صلى الله عليه وسلم، فقال أبو جهل: والله إني لأعلم أنه صادق، فقال له: مَهْ، وما دلَّك على ذلك؟ قال: يا أبا عبد شمس كنا نسميِّه في صباه الصادق الأمين، فلما تم عقله وكَمُل رشده نسميِّه الكذاب الخائن، والله إني لأعلم أنه صادق، قال: فما يمنعك أن تصدقه وتؤمن به؟ قال: تتحدث عني بنات قريش أني اتَّبعت يتيم أبي طالب من أجل كسرة، والّلات والعُزَّى إن اتبعته أبداً، فنزلت: {وختم على سمعه وقلبه}.
{أَمْ حسِبَ الذينَ اجْترحوا السَّيئاتِ} الاستفهام للإِنكار والمعنى هل يظنُّ الكفار الفجار الذين اكتسبوا المعاصي والآثام {أن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات} أي أن نجعلهم كالمؤمنين الأبرار {سواءً محياهم ومماتهم} أي نساوي بينهم في المحيا والممات؟ لا يمكن أن نساوي بين المؤمنين والكفار، لا في الدنيا ولا في الآخرة، فإِن المؤمنين عاشوا على التقوى والطاعة، والكفار عاشوا على الكفر والمعصية، وشتان بين الفريقين كقوله {أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون}؟ قال مجاهد: المؤمنُ يموت مؤمناً ويُبعث مؤمناً، والكافر يموت كافراً ويُبعث كافراً {ساء ما يحكمون} أي ساء حكمهم في تسويتهم بين أنفسهم وبين المؤمنين، قال ابن كثير: ساء ما ظنّوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار، فكما لا يُجتنى من الشوكِ العنبُ، كذلك لا ينال الفُجَّار منازل الأبرار {وخلق اللهُ السماواتِ والأرضَ بالحقِّ} أي وخلق الله السماواتِ والأرض بالعدل والأمر الحقِّ ليدل بهما على قدرته ووحدانيته {ولتُجزى كلُّ نفسٍ بما كسبت وهم لا يظلمون} أي ولكي يُجزى كل إِنسان بعمله، وبما اكتسب من خير أو شر، دون أن يُنقص في ثواب المؤمن أو يُزاد في عذاب الكافر، قال شيخ زاده: لمّا خلق تعالى السماواتِ الأرض لإِجل إِظهار الحق، وكان خلقهما من جملة حكمته وعدله، لزم من ذلك أن ينتقم من الظالم لأجل المظلوم، فثبت بذلك حشر الخلائق للحساب {أفرأيتَ منْ اتَّخذ إلهه هواهُ} أي أخبرني يا محمد عن حال من ترك عبادة الله وعبد هواه!! قال أبو حيّان: أي هو مطواعٌ لهوى نفسه يتبع ما تدعوه إليه، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه، قال ابن عباس: ذلك الكافر اتخذ دينه ما يهواه، فلا يهوى شيئاً إلاّ ركبه {وأضلَّه اللهُ على علمٍ} أي وأضلَّ الله ذلك الشقي في حال كونه عالماً بالحق غير جاهل به، فهو أشدُّ قبحاً وشناعةً ممن يضل عن جهل، لأنه يُعرض عن الحقِّ والهُدى عناداً كقوله تعالى {وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعُلواً}{وختم على سمْعهِ وقلبِه} أي وطبع على سمعه وقلبه بحيث لا يتأثر بالمواعظ، ولا يتفكرفي الآيات والنُّذر {وجعل على بصره غشاوةً} أي وجعل على بصره غطاء حتى لا يبصر الرشد، ولا يرى حجة يستضيء بها {فمن يهْديهِ منْ بعدِ الله}؟ أي فمن الذي يستطيع أن يهديه بعد أن أضله الله؟لا أحد يقدر على ذلك {أفلا تذكَّرون} أي أفلا تعتبرون أيها الناس وتتعظون؟ قال الصاوي: وصف تعالى الكفار بأربعة أوصاف: الأول: عبادة الهوى، الثاني: ضلالهم على علم، الثالث: الطبع على أسماعهم وقلوبهم، الرابع: جعل الغشاوة على أبصارهم، وكلَّ وصفٍ منها مقتضٍ للضلالة، فلا يمكن إِيصال الهدى إليهم بوجهٍ من الوجوه.
شبه المشركين في إنكار القيامة والإله القادر
{وقالُوا ما هي إِلا حياتنا الدُنيا نموتُ ونحيا وما يُهْلكنا إلا الدَّهر وما لهم بذلك من علمٍ إنْ هُم إِلاَّ يظُنُّون(24)وإِذا تُتلى عليهم ءاياتنا بيِّناتٍ مَّا كان حُجَّتهم إلاَّ أنْ قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين(25)قلِ اللهُ يُحْييكم ثم يُميتكم ثم يجْمعُكم إلى يومِ القيامةِ لا ريْب فيه ولكنَّ أكثر الناسِ لا يعلَمون(26)وللهِ ملكُ السماواتِ والأرض ويوم تقومُ الساعةُ يومئذٍ يخسر المبطلون(27)وترى كلَّ أُمَّةٍ جاثيةً كلُّ أُمةٍ تُدعى إلى كتابها اليومَ تُجْزون ما كنتم تعملون(28) هذا كتابنا ينْطِق عليكم بالحقِّ إنَّا كُنَّا نسْتنْسخُ ما كنتم تَعْملون (29)}.
سبب النزول:
نزول الآية (24):
{وقالوا: ما هي إلا حياتنا ..}: أخرج ابن المنذر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الجاهلية يقولون: إنما يهلكنا الليل والنهار، فأنزل الله: {وقالوا: ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر}.
ثم حكى تعالى عن المشركين شبهتهم في إنكار القيامة، وفي إِنكار الإِله القادر العليم، فقال {وقالُوا ما هي إِلا حياتنا الدُنيا نموتُ ونحيا} أي وقال المشركون: لا حياة إلا هذه الحياة الدنيا، يموت بعضنا ويحيا بعضنا، ولا آخرة، ولا بعث، ولا نشور، قال ابن كثير: هذا قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد، ومرادهم أن ليس إلا هذه الدار، يموت قوم ويعيش آخرون، وليس هناك معادٌ ولا قيامة، وهذا قول الفلاسفة الدهريين، المنكرين للصانع، المعتقدين أن في كل ستة وثلاثين ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه {وما يُهْلكنا إلا الدَّهر} أي وما يهلكنا إلا مرورُ الزمان، وتعاقبُ الأيام، قال الرازي: يريدون أن الموجب للحياة والموت تأثيراتُ الطبائع وحركاتُ الأفلاك، ولا حاجة إلى إثبات الخالق المختار، فهذه الطائفة جمعوا بين إنكار الإِله وبين إِنكار البعث والقيامة، قال تعالى رداً عليهم {وما لهم بذلك من علمٍ} أي وليس لهم مستندٌ من عقل أو نقل، ولذلك أنكروا وجود الله من غير حجةٍ ولا بينة {إنْ هُم إِلاَّ يظنون} أي ما هم إلا قوم يتوهمون ويتخيلون، يتكلمون بالظن من غير يقين {وإِذا تُتلى عليهم ءاياتنا بيِّناتٍ} أي وإِذا قرئت ءاياتُ القرآن على المشركين، واضحات الدلالة على البعث والنشور {ما كان حُجَّتهم إلاَّ أنْ قالوا ائتوا بآبائنا إن كنتم صادقين} أي ما كان متمسكهم في دفع الحق الصريح إلا أن يقولوا: أحيْوا لنا ءاباءنا الأولين، إِن كان ما تقولونه حقاً، سُمِّيَ قولهم الباطل حجةً على سبيل التهكم {قلِ اللهُ يُحْييكم ثم يُميتكم} أي قل لهم يا محمد: اللهُ الذي خلقكم ابتداءً حين كنتم نُطفاً هو الذي يميتكم عند انقضاء آجالكم، لا كما زعمتم أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر {ثم يجْمعُكم إلى يومِ القيامةِ لا ريْب فيه} أي ثم بعد الموت يبعثكم للحساب والجزاء كما أحياكم في الدنيا، فإِنَّ من قدر على البدء قدر على الإِعادة، والحكمةُ اقتضت الجمع للجزاء في يوم القيامة، الذي لا شك فيه ولا ارتياب {ولكنَّ أكثر الناسِ لا يعلَمون} أي ولكنَّ أكثر الناس لجهلهم وقصورهم في النظر والتفكر، لا يعلمون قدرة الله فينكرون البعث والجزاء .. ثم بيَّن إمكان الحشر والنشر وذكر تفاصيل أحوال يوم القيامة فقال {وللهِ ملكُ السماواتِ والأرض} أي هو جل وعلا المالك لجميع الكائنات العلوية والسفلية {ويوم تقومُ الساعةُ يومئذٍ يخسر المبطلون} أي ويوم القيامة يخسر الكافرون الجاحدون بآيات الله {وترى كلَّ أُمَّةٍ جاثيةً} أي وترى أيها المخاطب كل أمةٍ من الأمم جالسةً على الركب من شدة الهول والفزع، كما يجثوا الخصوم بين يدي الحاكم بهيئة الخائف الذليل، قال ابن كثير: وهذا إذا جيء بجهنم فإِنها تزفر زفرةً لا يبقى أحدٌ إلا جثا على ركبتيه {كلُّ أُمةٍ تُدعى إلى كتابها} أي كلُّ أمةٍ من تلك الأمم تُدعى إلى صحائف أعمالها {اليومَ تُجْزون ما كنتم تعملون} أي يقال لهم: في هذا اليوم الرهيب تنالون جزاء أعمالكم من خيرٍ أو شر {هذا كتابنا ينْطِق عليكم بالحقِّ} أي هذا كتابُ أعمالكم يشهد عليكم بالحق من غير زيادةٍ ولا نقصان، قال في التسهيل: فإِن قيل: كيف أضاف الكتاب تارةً إِليهم وتارةً إِلى الله تعالى؟ فالجواب أنه أضافه إِليهم لأن أعمالهم ثابتةٌ فيه، وأضافه إلى الله تعالى لأنه مالكه وأنه هو الذي أمر الملائكة أن يكتبوه {إنَّا كُنَّا نسْتنْسخُ ما كنتم تَعْملون} أي كنَّا نأمر الملائكة بكتابة أعمالكم، وإِثباتها عليكم، قال المفسرون: تنسخ هنا بمعنى تكتب، وحقيقة النسخ هو النقل من أصلٍ إلى آخر، وقال ابن عباس: تكتب الملائكة أعمال العباد ثم تصعد بها إلى السماء، فيقابل الملائكة الموكلون بديوان الأعمال ما كتبه الحفظة، بما قد أُبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر، وبما كتبه الله في القِدم على العباد قبل أن يخلقهم، فلا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً، فذلك هو الاستنساخ، وكان ابن عباس يقول: ألستم عرباً، هل يكون الاستنساخ إلا من أصل.
أحوال المطيعين والعاصين
{فأمَّا الذينَ آمنوا وعمِلوا الصَّالحات فيُدخلهم ربُّهُم في رحْمَته ذلك هو الفوزُ المُبِينُ(30)وأمَّا الذين كفروا أفلمْ تكن ءاياتي تُتلى عليكم فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين(31)وإِذا قيل إِنَّ وعد الله حقٌّ والساعةُ لا ريبَ فيها قُلتم مَّا ندْري ما السَّاعةُ إن نَّظُنُّ إِلاَّ ظنَّاً وما نحنُ بمُستيْقنين(32)وبدا لهم سيئات ما عمِلوا وحاق بهم ما كانوا به يسْتهزءُون(33)وقيلَ اليومَ ننْساكم كما نسيتم لقاءَ يومِكم هذا ومأواكم النَّارُ وما لكم من نَّاصرين(34)ذلكم بأنكم اتَّخَذتم ءاياتِ اللهِ هُزُواً وغرتكم الحياةُ الدُّنيا فاليومَ لا يُخْرجون منها ولا هم يُسْتعتبون(35)فللَّهِ الحمدُ ربِّ السماواتِ وربَّ الأرض رب العالمين (36) وله الكبرياء في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم (37)}.
ثم بيَّن تعالى أحوال كلٍ من المطيعين والعاصين فقال {فأمَّا الذينَ آمنوا وعمِلوا الصَّالحات فيُدخلهم ربُّهُم في رحْمَته} أي فأما المؤمنون الصالحون المتقون لله في الحياة الدنيا، فيدخلهم الله في الجنة، سُميت الجنة رحمةً لأنها مكان تنزل رحمةِ الله {ذلك هو الفوزُ المبينُ}أي ذلك هو الفوز العظيم، البيّن الظاهر الذي لا فوز وراءه {وأمَّا الذين كفروا أفلمْ تكن ءاياتي تُتلى عليكم} أي وأمَّا الكافرون فيقال لهم توبيخاً وتقريعاً: أفلم تكن الرسل تتلو عليكم ءايات الله؟ {فاستكبرتم وكنتم قوماً مجرمين} أي فتكبرتم عن الإِيمان بها، وأعرضتم عن سماعها، وكنتم قوماً مغرقين في الإِجرام {وإِذا قيل إِنَّ وعد الله حقٌّ} أي وإِذا قيل لكم إن البعث كائن لا محالة {والساعةُ لا ريبَ فيها} أي والقيامة آتيةٌ لا شك في ذلك ولا ريب {قُلتم ما ندْري ما السَّاعةُ} أي قلتم لغاية عتوكم: أيُّ شيء هي؟ أحقٌّ أم باطل؟ قال البيضاوي: قالوا هذا استغراباً واستبعاداً وإِنكاراً لها {إن نظنُّ إِلاَّ ظناً} أي لا نصدِّق بها ولكن نسمع الناس يقولون: إِنَّ هناك آخرة فنتوهم بها توهماً {وما نحنُ بمُستيْقنين} أي ولسنا مصدِّقين بالآخرة يقيناً، وهذا تأكيد منهم لإِنكار القيامة {وبدا لهم سيئات ما عمِلوا} أي وظهر لهم في الآخرة قبائح أعمالهم {وحاق بهم ما كانوا به يسْتهزءُون} أي ونزل وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستهزئون به في الدنيا {وقيلَ اليومَ ننْساكم كما نسيتم لقاء يومِكم هذا} أي ويقال لهم: اليوم نترُككم في العذاب ونعاملكم معاملة الناسي، كما تركتم الطاعة التي هي الزاد ليوم المعاد فلم تعملوا لآخرتكم {ومأواكم النارُ} أي ومستقركم في نار جهنم {وما لكم من ناصرين} أي وليس لكم من ينصركم ويخلصكم من عذاب الله {ذلكم بأنكم اتخذتم ءاياتِ اللهِ هُزُواً} أي إِنما جازيناكم هذا الجزاء، بسبب أنكم سخرتم من كلام الله واستهزأتم به {وغرتكم الحياةُ الدنيا} أي خدعتكم الدنيا بزخارفها وأباطليها، حتى ظننتم ألاَّ حياة سواها، وأَلاَّ بعث ولا نشور {فاليومَ لا يُخْرجون منها ولا هم يُسْتعتبون} أي فاليوم لا يُخْرجون من النار، ولا يُطلبُ منهم أن يرضوا ربَّهُم بالتوبة والطاعة لعدم نفعها يومئذٍ {فللهِ الحمدُ ربِّ السماواتِ وربَّ الأرض ربِّ العالمين} أي فلله الحمد خاصة لا يتسحق الحمد أحدٌ سواه لأنه الخالق والمالك لجميع المخلوقات والكائنات {وله الكبرياءُ في السماوات والأرض} أي وله العظمة والجلال، والبقاء والكمال في السماوات والأرض {وهو العزيز الحكيم} أي الغالب الذي لا يغلب، الحكيم في صنعه وفعله وتدبيره.
-
رد: تفسير القران الكريم
سورة الأحقاف
تنزيل القرآن، وعبادة الأوثان من دون الله
شبه المشركين حول الوحي والنبوة والقرآن
شبهة أخرى للمشركين، والاستقامة على شرع الله
وصية الله لعباده بر الوالدين
حال الإنسان العاق لوالديه
قصة هود عليه السلام مع قومه
إيمان الجن بالقرآن
الأدلة على قدرته تعالى ووحدانيته
بَين يَدَي السُّورَة
* هذه السورة مكية وأهدافها هو أهداف السور المكية نفسها، العقيدة في أصولها الكبرى "الوحدانية، الرسالة، البعث والجزاء" ومحور السورة الكريمة يدور حول "الرسالة والرسول" لإِثبات صحة رسالة محمد صلى الله عليه وسلم وصدق القرآن.
* تحدثت السورة في البدء عن القرآن العظيم المنزل من عند الله بالحق، ثم تناولت الأوثان التي عبدها المشركون وزعموا أنها آلهة مع الله تشفع لهم عنده، فبيَّنت ضلالهم وخطأهم في عبادة ما لا يسمع ولا ينفع، ثم تحدثت عن شبهة المشركين حول القرآن، فردَّت على ذلك بالحجة الدامغة، والبرهان الناصع.
* ثم تناولت نموذجين من نماذج البشرية في هدايتها وضلالها، فذكرت نموذج الولد الصالح، المستقيم في فطرته، البارّ بوالديه، الذي كلما زادت سنه وتقدم في العمر ازداد تُقىً وصلاحاً وإِحساناً لوالديه .. ونموذج الولد الشقي، المنحرف عن الفطرة، العاقِّ لوالديه، الذي يهزأ ويسخر من الإِيمان والبعث والنشور ومآل كل منهما.
* ثم تحدثت السورة عن قصة "هود" عليه السلام مع قومه الطاغين "عاد" الذين طغوا في البلاد، واغتروا بما كانوا عليه من القوة والتجبر، وما كان من نتيجة طغيانهم حيث أهلكهم الله بالريح العقيم، تحذيراً لكفار قريش في طغيانهم واستكبارهم على أوامر الله وتكذيبهم للرسول صلى الله عليه وسلم.
* وختمت السورة الكريمة بقصة النفر من الجنِّ الذين استمعوا إلى القرآن وآمنوا به ثم رجعوا منذرين إلى قومهم يدعونهم إِلى الإِيمان، تذكيراً للمعاندين من الإِنس بسبق الجن لهم إلى الإِسلام.
التسميَــة:
سميت "سورة الأحقاف" لأنها مساكن عاد الذين أهلكهم الله بطغيانهم وتجبرهم، وكانت مساكنهم بالأحقاف من أرض اليمن {واذكر أخا عادٍ إِذا أنذر قومه بالأحقاف ..} الآية.
تنزيل القرآن، وعبادة الأوثان من دون الله
{حم(1)تنزيلُ الكتابِ من اللهِ العزيزِ الحكيمِ(2)ما خلقْنا السَّماواتِ والأرضَ وما بيْنهُما إلا بالحقِّ وأجلٍ مُسمَّى والذين كفروا عمَّا أُنْذِروا مُعْرِضون(3) قل أرأيتم ما تدعون من دون الله أروني ماذا خلقوا من الأرض أمْ لهم شركٌ في السَّماواتِ ائتوني بكتابٍ من قبل هذا أوْ أثارةٍ منْ علمٍ إِن كنتم صادقين (4) ومنْ أضلُّ ممَّن يدعُوا منْ دُون اللهِ من لا يسْتجيبُ لهُ إلى يوم القيامة وهم عنْ دعائهم غافلون(5)وإِذا حُشر الناسُ كانوا لهم أعداءً وكانوا بعبادتهم كافرين(6) }
{حم} الحروف المقطعة للتنبيه على إِعجاز القرآن وأنه منظوم من أمثال هذه الحروف الهجائية {تنزيلُ الكتابِ من اللهِ العزيزِ الحكيمِ} أي هذا الكتاب المجيد منزَّل من عند الإِله العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {ما خلقْنا السَّماواتِ والأرضَ وما بيْنهُما إلا بالحقِّ} أي ما خلقنا السماواتِ والأرض وما بينهما من المخلوقات عبثاً، وإِنما خلقناهما خلقاً متلبساً بالحكمة، لندل على وحدانيتنا وكمال قدرتنا {وأجلٍ مُسمَّى} أي وإِلى زمنٍ معيَّن هو زمن فنائهما يوم القيامة {يوم تبدَّل الأرضُ غير الأرضِ والسماواتُ وبرزوا للهِ الواحد القهار} {والذين كفروا عمَّا أُنْذِروا مُعْرِضون} أي وهؤلاء الكفار معرضون عما خُوّفوه من العذاب ومن أهوال الآخرة، لا يتفكرون فيه ولا يستعدون له .. ثم لما بيَّن وجود الإِله العزيز الحكيم ردَّ على عبدة الأصنام فقال {قل أرأيتم ما تدعون من دون الله} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين: أخبروني عن هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله، وتزعمون أنها آلهة {أروني ماذا خلقوا من الأرض}؟ أي أرشدوني وأخبروني أيَّ شيءٍ خلقوا من أجزاء الأرض، وممَّا على سطحها من إِنسانٍ أو حيوان؟ {أمْ لهم شركٌ في السَّماواتِ}؟ أي أمْ لهم مشاركة ونصيب مع الله في خلق السماوات؟ {ائتوني بكتابٍ من قبل هذا} أي هاتوا كتاباً من الكتب المنزلة من عند الله قبل هذا القرآن يأمركم بعبادة هذه الأصنام؟ وهو أمر تعجيز لأنهم ليس لهم كتابٌ يدل على الإِشراك بالله، بل الكتب كلُّها ناطقة بالتوحيد {أوْ أثارة منْ علمٍ} أي أو بقية من علمٍ من علوم الأولين شاهدة بذلك {إِن كنتم صادقين} أي إِن كنتم صادقين في دعواكم أنها شركاء مع الله، قال أبو حيّان: طلب منهم أن يأتوا بكتابٍ يشهد بصحة ما هم عليه من عبادة غير الله، أو بقيةٍ من علوم الأولين، والغرضُ توبيخهم لأن كل كتب الله المنزَّلة ناطقة بالتوحيد وإِبطال الشرك، فليس لهم مستند من نقل أو عقل .. ثم أخبر تعالى عن ضلالة المشركين فقال {ومنْ أضلُّ ممَّن يدعُوا منْ دُون اللهِ من لا يسْتجيبُ لهُ إلى يوم القيامة}؟ أي لا أحد أضلُّ وأجهل ممن يعبد أصناماً لا تسمع دعاء الداعين، ولا تعلم حاجاتِ المحتاجين، ولا تستجيب لمن ناداها أبداً لأنها جمادات لا تسمع ولا تعقل {وهم عنْ دعائهم غافلون} أي وهم لا يسمعون ولا يفهمون دعاء العابدين، وفيه تهكم بها وبعبدتها، وإِنما ذكر الأصنام بضمير العقلاء، لأنهم لما عبدوها ونزلوها منزلة من يضر وينفع، صحَّ أن توصف بعدم الاستجابة وبعدم السمع والنفع، مجاراة لزعم الكفار {وإِذا حُشر الناسُ كانوا لهم أعداءً} أي وإِذا جمع الناس للحساب يوم القيامة كانت الأصنام أعداءً لعابديها يضرونهم ولا ينفعونهم {وكانوا بعبادتهم كافرين} أي وتتبرأ الأصنام من الذين عبدوها.قال المفسرون: إن الله تعالى يحيي الأصنام يوم القيامة فتتبرأ من عابديها وتقول {تبرأنا إليكَ ما كانوا إِيَّانا يعبدون} وهذه الآية كقوله تعالى {كلاَّ سيكفُرون بعبادتهم ويكونُونَ عليهم ضِدّاً} واللهُ على كل شيء قدير.
شبه المشركين حول الوحي والنبوة والقرآن
{وإِذا تُتْلى عليهم ءاياتنا بيِّناتٍ قال الذين كفروا للحقِّ لما جاءهم هذا سحرٌ مبين(7) أم يقولون افتراه قلْ إِن افتريتُه فلا تملكونَ لي من الله شيئاً هو أعلمُ بما تُفيضون فيه كفى به شهيداً بيني وبينكم وهو الغفور الرَّحيم(8) قلْ ما كنتُ بِدعاً من الرُّسُلِ وما أُدري ما يُفعل بي ولا بكم إن أتّبع إلا ما يُوحى إِليَّ وما أنا إِلا نذيرٌ مبينٌ(9)قل أرأيتم إِن كان من عند الله وكفرتم به وشهد شاهدٌ من بني إِسرائيل على مثله فآمنَ واستكبرتم إنَّ اللهَ لا يَهْدي القوم الظالمين(10)}.
سبب النزول:
نزول الآية (10):
{قل أرأيتم ..}: أخرج الطبراني بسند صحيح عن ابن عوف بن مالك الأشجعي قال: انطلق النبي صلى الله عليه وسلم وأنا معه، دخلنا كنيسة اليهود يوم عيدهم، فكرهوا دخولنا عليهم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا معشر اليهود: أروني اثني عشر رجلاً منكم يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يَحُطُّ الله عن كل يهودي تحت أديم السماء الغضب الذي عليه (بمعنى أنه يكون سبباً لهدايتهم، فسكتوا، فما أجابه منهم أحد، ثم انصرف، فإذا رجل من خَلْفه، فقال: كما أنت يا محمد، فأقبل، فقال: أي رجل تعلموني يا معشر اليهود؟
قالوا: والله ما نعلم فينا رجلاً كان أعلم بكتاب الله، ولا أفقه منك، ولا من أبيك قبلك، ولا من جدك قبل أبيك، قال: فإني أشهد أنه النبي الذي تجدون في التوراة، قالوا: كذبت، ثم ردوا عليه، وقالوا فيه شراً، فأنزل الله: {قل: أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به ..} الآية.
وأخرج الشيخان (البخاري ومسلم) عن سعد بن أبي وقاص قال : في عبدالله بن سَلاَم نزلت، {وشهد شاهد من بني إسرائيل على مثله}.
{وإِذا تُتْلى عليهم ءاياتنا بيِّناتٍ} أي وإِذا قرئت عليهم ءايات القرآن واضحات ظاهرات أنها من كلام الله {قال الذين كفروا للحقِّ لما جاءهم} أي قال الكافرون عن القرآن الحق لما جاءهم من عند الله {هذا سحرٌ مبين} أي هذا سحرٌ لا شبهة فيه ظاهر كونه سحراً، وإِنما وضع الظاهر {الذين كفروا} موضع الضمير تسجيلاً عليهم بكمال الكفر والضلالة، قال في البحر: وفي قوله {لمَّا جاءهم} تنبيهٌ على أنهم لم يتأملوا ما يُتلى عليهم، بل بادروا أول سماعه إلى نسبته إلى السحر عناداً وظلماً، ووصفوه بأنه {مبينٌ} أي ظاهر أنه سحر لا شبهة فيه {أم يقولون افتراه} أي أيقولون اختلق محمد هذا القرآن وافتراه من تلقاء نفسه؟ وهو إِنكار توبيخي {قلْ إِن افتريتُه فلا تملكونَ لي من الله شيئاً} أي قل إن افتريتُه - على سبيل الفرض - فالله حسبي في ذلك وهو الذي يعاقبني على الافتراء عليه، ولا تقدرون أنتم على أن تردُّوا عني عذاب الله، فكيف أفتريه من أجلكم وأتعرض لعقابه؟ {هو أعلمُ بما تُفيضون فيه} أي هو جل وعلا أعلمُ بما تخوضون في القرآن وتقدحون به من قولكم هو شعر، هو سحر، هو افتراء، وغير ذلك من وجوه الطعن {كفى به شهيداً بيني وبينكم} أي كفى أن يكون تعالى شاهداً بيني وبينكم، يشهد لي بالصدق والتبليغ، ويشهد عليكم بالجحود والتكذيب {وهو الغفور الرحيم} أي وهو الغفور لمن تاب، الرحيم بعباده المؤمنين، قال أبو حيان: وفيه وعدٌ لهم بالغفران والرحمة إن رجعوا عن الكفر، وإِشعارٌ بحلمه تعالى عليهم إِذْ لم يعاجلهم بالعقوبة {قلْ ما كنتُ بِدعاً من الرُسل} أي لست أول رسول طرق العالم، ولا جئت بأمرٍ لم يجئ به أحدٌ قبلي، بل جئت بما جاء به ناسٌ كثيرون قبلي، فلأيّ شيءٍ تنكرون ذلك عليَّ؟ والبدْعُ والبديعُ من الأشياء هو الذي لم يُر مثله، قال ابن كثير: أي ما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدوا بعثتي إِليكم، فقد أرسل الله قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم {وما أُدري ما يُفعل بي ولا بكم} أي ولا أدري بما يقضي اللهُ عليَّ وعليكم، فإِن قدر الله مغيَّب {إن أتّبع إلا ما يُوحى إِليَّ} أي لا أتبع إلا ماينزله اللهُ عليَّ من الوحي، ولا أبتدع شيئاً من عندي {وما أنا إِلا نذيرٌ مبين} أي وما أنا إلا رسولٌ منذرٌ لكم من عذاب الله، بيّن الإِنذار بالشواهد الظاهرة، والمعجزات الباهرة {قل أرأيتم إِن كان من عند الله وكفرتم به} أي قل يا محمد: أخبروني يا معشر المشركين إن كان هذا القرآن كلام الله حقاً وقد كذبتم به وجحدتموه، وجوابه محذوف تقديره: كيف يكون حالكم؟ {وشهد شاهدٌ من بني إِسرائيل على مثله فآمنَ واستكبرتم} أي وقد شهد رجل من علماء بني إِسرائيل على صدق القرآن، فآمن به واستكبرتم أنتم عن الإِيمان، كيف يكون حالكم، ألستم أضل الناس وأظلم الناس؟ قال الزمخشري: وجوابُ الشرط محذوف تقديره: إِن كان القرآن من عند الله وكفرتم به ألستم ظالمين؟ ودلَّ على هذا المحذوف قوله تعالى {إنَّ اللهَ لا يَهْدي القوم الظالمين} أي لا يوفق للخير والإِيمان من كان فاجراً ظالماً، قال المفسرون: والشاهدُ من بني إِسرائيل هو "عبدالله بن سلام" وذلك حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة جاء إليه ابن سلام ليمتحنه، فلما نظر إلى وجهه علم أنه ليس بوجه كذاب، وتأمله فتحقق أنه هو النبي المنتظر، فقال له: إني سائلك عن ثلاثٍ لا يعلمهنَّ إلا نبي: ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ وما بال الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أُمه؟ فلما أجابه صلى الله عليه وسلم قال: أشهد أنك رسول الله حقاً .. الخ.
شبهة أخرى للمشركين، والاستقامة على شرع الله
{وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيراً ما سبقونا إِليه وإِذْ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إِفك قديم(11)ومنْ قبله كتابُ موسى إِماماً ورحمةً وهذا كتابٌ مُّصدِّقٌ لساناً عربِيّاً لِّيُنذِر الذين ظلموا وبُشرى للمُحسنين(12)إن الذين قالوا ربُّنا الله ثم استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون(13)أُولئك أصحاب الجنة خالدين فيها جزاءً بما كانوا يعملون(14)}.
سبب النزول:
نزول الآية (11):
{وقال الذين كفروا}: أخرج الطبراني عن قتادة قال: قال ناس من المشركين: نحن أعزّ، ونحن ونحن، فلو كان خيراً ما سبقنا إليه فلان وفلان، فنزل {وقال الذين كفروا ..}.
وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطاب أَمَةٌ أسلمتْ قبلَه يقال لها (زِنِّين) أو (زِنِّيرة) فكان عمر يضربها على إسلامها حتى يفتر، وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيراً ما سبقتنا إليه زنين، فأنزل الله في شأنها: {وقال الذين كفروا للذين ءامنوا: لو كان خيراً} الآية.
وقال عروة بن الزبير: إن زِنِّيرة - رومية كان أبو جهل يعذبها - أسلمت، فأصيب بصرها، فقالوا لها: أصابك اللاتُ والعُزَّى، فرد الله عليها بصرها، فقال عظماء قريش: لو كان ما جاء به محمد خيراً ما سبقتنا عليه زِنّيرة، فأنزل الله تعالى هذه الآية.
ثم ردَّ تعالى على شبهةٍ أُخرى من شبهة المشركين فقال {وقال الذين كفروا للذين ءامنوا لو كان خيراً ما سبقونا إِليه} أي وقال كفار مكة في حق المؤمنين: لو كان هذا القرآن والدين خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الفقراء الضعفاء!! وقال ابن كثير: يعنون "بلالاً" و "عماراً" و "صهيباً" و "خباباً" وأشباههم من المستضعَفين والعبيد والإِماء ممن أسلم وآمن بالنبي صلى الله عليه وسلم {وإِذْ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إِفك قديم} أي ولمّا لم يهتدوا بالقرآن مع وضوح إِعجازه، قالوا هذا كذبٌ قديم مأثور عن الأقدمين، أتى به محمد ونسبه إلى الله تعالى {ومنْ قبله كتابُ موسى إِماماً ورحمةً} أي ومن قبل القرآن التوراة التي أنزلها الله على موسى قدوةً يؤتم بها في دين الله وشرائعه كما يؤتم بالإِمام، ورحمة لمن ءامن بها وعمل بما فيها، قال الإِمام الفخر: ووجه تعلق الآية بما قبلها أن المشركين طعنوا في صحة القرآن، وقالوا لو كان خيراً ما سبقنا إليه هؤلاء الضعفاء الصعاليك، فردَّ الله عليهم بأنكم لا تنازعون أن الله أنزل التوراة على موسى، وجعل هذا الكتاب - التوراة - إِماماً يقتدى به، ثم إِن التوراة مشتملة على البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فإِذا سلمتم كونها من عند الله، فاقبلوا حكمها بأن محمد صلى الله عليه وسلم رسولٌ حقاً من عند الله {وهذا كتابٌ مصدِّقٌ لساناً عربياً} أي وهذا القرآن كتاب عظيم الشأن، مصدِّقٌ للكتب قبله بلسانٍ عربي فصيح، فكيف ينكرونه وهو أفصح بياناً، وأظهر برهاناً، وأبلغ إِعجازاً من التوراة؟ {ليُنذِر الذين ظلموا وبُشرى للمُحسنين} أي ليخوِّف كفار مكة الظالمين من عذاب الجحيم، ويبشر المؤمنين المحسنين بجنات النعيم .. ولما بيَّن تعالى أحوال المشركين المكذبين بالقرآن، أردفه بذكر أحوال المؤمنين المستقيمين على شريعة الله فقال {إن الذين قالوا ربُّنا الله ثم استقاموا} أي جمعوا بين الإِيمان والتوحيد والاستقامة على شريعة الله {فلا خوفٌ عليهم} أي فلا يلحقهم مكروهٌ في الآخرة يخافون منه {ولا هم يحزنون} أي ولا هم يحزنون على ما خلَّفوا في الدنيا {أُولئك أصحاب الجنة خالدين فيها} أي أولئك المؤمنون المستقيمون في دينهم، هم أهل الجنة ماكثين فيها أبداً {جزاءً بما كانوا يعملون} أي نالوا ذلك النعيم جزاءً لهم على أعمالهم الصالحة.
وصية الله لعباده بر الوالدين
{ووصيَّنا الإِنسان بِوالديه إِحْساناً حملتْهُ أُمُّهُ كُرهاً ووضعته كُرهاً وحمله وفِصالُه ثلاثون شهراً حتَّى إِذا بلغَ أشده وبلغ أربعين سنة قال ربِّ أوزعني أن أشكرَ نعمتك الَّتي أنعمتَ عليَّ وعلى والديَّ وأَنْ أعملَ صالحاً ترضاه وأصلحْ لي في ذرِّيَّتي إني تُبتُ إليكَ وإِني من المسلمين(15) أُولئك الذين نتقبلُ عنهم أحسنَ ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة وعدَ الصِّدقِ الذي كانوا يُوعدون(16)}.
سبب النزول:
نزول الآية (15):
{حتى إذا بلغ أشده}: روى الواحدي عن ابن عباس قال : أنزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وذلك أنه صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن ثمان عشرة سنة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ابن عشرين سنة، وهم يريدون الشام في التجارة، فنزلوا منزلاً فيه سِدْرة (شجرة السدر) فقعد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ظلها، ومضى أبو بكر إلى راهب هناك يسأله عن الدين، فقال له: من الرجل الذي في ظل السدرة؟ فقال: ذاك محمد بن عبد الله بن عبد المطلب، قال: هذا والله نبيّ، وما استظل تحتها أحد بعد عيسى بن مريم إلا محمد نبي الله، فوقع في قلب أبي بكر اليقين والتصديق، وكان لا يفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم في أسفاره وحضوره، فلما نبّئ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو ابن أربعين سنة، وأبو بكر ابن ثمان وثلاثين سنة أسلم وصدّق رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فلما بلغ أربعين سنة قال: {رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ}.
وقال السدّي والضحاك: نزلت في سعد بن أبي وقاص، أخرج مسلم وأهل السنن إلا ابن ماجه عن سعد رضي الله عنه قال: قالت أم سعد لسعد: أليس الله قد أمر بطاعة الوالدين، فلا آكل طعاماً، ولا أشرب شراباً، حتى تكفر بالله تعالى، فامتنعت من الطعام والشراب، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا، ونزلت هذه الآية: {ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً}.
وقال الحسن البصري: "هي مرسلة نزلت على العموم". وهذا هو الأَولى، لأن حمل اللفظ على العموم منذ بداية نزول الوحي أوقع وأفيد وأشمل، وإن كانت العبرة دائماً لعموم اللفظ لا لخصوص السبب.
{ووصيَّنا الإِنسان بِوالديه إِحْساناً} لمَّا كان رضا الله في رضا الوالدين، وسخطه في سخطهما حثَّ تعالى العباد عليه والمعنى أمرنا الإِنسان أمراً جازماً مؤكداً بالإِحسان إلى الوالدين، ثم بيَّن السبب فقال {حملتْهُ أُمُّهُ كُرهاً ووضعته كُرهاً} أي حملته بكرهٍ ومشقة ووضعته بكرهٍ ومشقة {وحمله وفِصالُه ثلاثون شهراً} أي ومدة حمله ورضاعه عامان ونصف، فهي لا تزال تعاني التعب والمشقة طيلة هذه المدة، قال ابن كثير: أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعباً من وحَم، وغثيان، وثقل، وكرب إلى غير ذلك مما تنال الحوامل من التعب والمشقة، ووضعته بمشقة أيضاً من الطَّلق وشدته، وقد استدل العلماء بهذه الآية مع التي في لقمان {وفصاله في عامين} على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، وهو استنباط قويٌ صحيح {حتَّى إِذا بلغَ أشده} أي حتى إِذا عاش هذا الطفل وبلغ كمال قوته وعقله {وبلغ أربعين سنة} أي واستمر في الشباب والقوة حتى بلغ أربعين سنة وهو نهاية اكتمال العقل والرشد {قال ربِّ أوزعني أن أشكرَ نعمتك التي أنعمتَ عليَّ وعلى والديَّ} أي قال ربِّ ألهمني شكر نعمتك التي أنعمت بها عليَّ وعلى والديَّ حتى ربياني صغيراً {وأَنْ أعملَ صالحاً ترضاه} أي ووفقني لكي أعمل عملاً صالحاً يرضيك عني {وأصلحْ لي في ذريتي} أي اجعل ذريتي ونسلي صالحين، قال شيخ زاده: طلب هذا الداعي من الله ثلاثة أشياء: الأول: أن يوفقه الله للشكر على النعمة، والثاني: أن يوفقه للإِتيان بالطاعة المرضية عند الله، والثالث: أن يصلح له في ذريته، وهذه كمال السعادة البشرية {إني تُبتُ إليكَ وإِني من المسلمين} أي إِني يا رب تبت إليك من جميع الذنوب، وإِني من المستمسكين بالإِسلام، قال ابن كثير: وفي الآية إِرشادٌ لمن بلغ الأربعين أن يجدِّد التوبة والإِنابة إلى الله عز وجل ويعزم عليها {أُولئك الذين نتقبلُ عنهم أحسنَ ما عملوا} أي أولئك الموصوفون بما ذكر نتقبل منهم طاعاتهم ونجازيهم على أعمالهم بأفضلها {ونتجاوز عن سيئاتهم في أصحاب الجنة} أي ونصفح عن خطيئاتهم وزلاتهم، في جملة أصحاب الجنة الذين نكرمهم بالعفو والغفران {وعدَ الصِّدقِ الذي كانوا يُوعدون} أي بذلك الوعد الصادق الذي وعدناهم به على ألسنة الرسل، بأن نتقبل من محسنهم ونتجاوز عن مسيئهم.
حال الإنسان العاق لوالديه
{والذي قال لوالديه أُفٍ لكما أتعِدانني أن أُخرج وقد خلتِ القرونُ من قبلي وهما يستغيثان اللهِ ويْلك ءامن إنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ فيقولُ ما هذا إِلا أساطيرُ الأولين(17)أُولئك الذين حقَّ عليهم القول في أُممٍ قد خلَتْ من قبلهم من الجنِّ والإِنس إنهم كانوا خاسرين(18)ولكلٍ درجاتٌ ممَّا عملوا وليوفيهم أعمالهم وهم لا يُظلمون(19)ويومَ يُعرضُ الذين كفروا على النَّارِ أذْهبتُم طيباتِكُم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فاليوم تُجزون عذَاب الهُون بِما كنتُم تسْتكبرون في الأرضِ بِغير الحقِّ وبما كنتم تفْسُقون(20)}.
سبب النزول:
نزول الآية (17):
{والذي قال لوالديه}: أخرج ابن أبي حاتم عن السّدّي قال: نزلت هذه الآية: {والذي قال لوالديه : أُفٍّ لكما} في عبد الرحمن بن أبي بكر قال لأبويه، وكانا قد أسلما، وأبى هو، فكانا يأمرانه بالإسلام، فيرد عليهما، ويكذبهما ويقول: فأين فلان وأين فلان؟ يعني مشايخ قريش ممن قد مات، ثم أسلم بعد، فحسن إسلامه، فنزلت توبته في هذه الآية: {ولكلٍّ درجات مما عملوا} الآية.
أخرج البخاري من طريق يوسف بن ماهان قال: قال مروان بن الْحَكَم في عبد الرحمن بن أبي بكر: إن هذا الذي أنزل الله فيه: {والذي قال لأبويه: أُفٍّ لكما} فقالت عائشة من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا شيئاً من القرآن، إلا أن الله أنزل عذري.
وقال الحافظ ابن حجر: ونفي عائشة أقوى، وأولى بالقبول.
ولما مثَّل تعالى لحال الإِنسان البار بوالديه وما آل إِليه حاله من الخير والسعادة، مثَّل لحال الإِنسان العاقِّ لوالديه، وما يؤول إِليه أمره من الشقاوة والتعاسة فقال {والذي قال لوالديه أُفٍ لكما} أي وأمَّا الولد الفاجر الذي يقول لوالديه إِذا دعواه إِلى الإِيمان أفٍ لكما أي قبحاً لكما على هذه الدعوة {أتعِدانني أن أُخرج وقد خلتِ القرونُ من قبلي}؟ أي أتعدانني أن أُبعث بعد الموت وقد مضت قرونٌ من الناس قبلي ولم يُبعث منهم أحد؟ {وهما يستغيثان اللهِ ويْلك آمن} أي وأبواه يسألان الله أن يغيثه ويهديه للإِسلام قائلين له: ويْلك آمنْ بالله وصدِّق بالبعث والنشور وإِلاّ هلكت {إنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ} أي وعدُ الله صدقٌ لا خُلف فيه {فيقولُ ما هذا إِلا أساطيرُ الأولين} أي فيقول ذلك الشقي: ما هذا الذي تقولان من أمر البعث إلاّ خرافات وأباطيل سطَّرها الأولون في الكتب مما لا أصل له قال تعالى {أُولئك الذين حقَّ عليهم القول} أي أولئك المجرمون هم الذين حقَّ عليهم قول الله بأنهم أهل النار، قال القرطبي: أي وجب عليهم العذاب وهي كلمة الله كما في الحديث (هؤلاء في النار ولا أبالي) {في أُممٍ قد خلَتْ من قبلهم من الجنِّ والإِنس} أي في جملة أمم من أصحاب النار قد مضت قبلهم من الكفرة الفجار من الجن والإِنس {إنهم كانوا خاسرين} أي كانوا كافرين لذلك ضاع سعيهم وخسروا آخرتهم، وهو تعليل لدخولهم جهنم، قال الإِمام فخر الدين الرازي: قال بعضهم: إِن الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر الصّديق قبل إِسلامه، والصحيحُ أنه لا يراد بالآية شخص معيَّن، بل المراد منها كل من كان موصوفاً بهذه الصفة، وهو كل من دعاه أبواه إِلى الدين الحقِّ فأباه وأنكره، ويدل عليه أن الله تعالى وصف هذا الذي قال لوالديه {أفٍ لكما} بأنه من الذين حقَّ عليهم القول بالعذاب، ولا شك أن عبد الرحمن آمن وحسن إِسلامه وكان من سادات المسلمين فبطل حمل الآية عليه {ولكلٍ درجاتٌ ممَّا عملوا} أي لكلٍ من المؤمنين والكافرين مراتب ومنازل بحسب أعمالهم، فمراتب المؤمنين في الجنة عالية، ومراتب الكافرين في جهنم سافلة {وليوفيهم أعمالهم وهم لا يُظلمون} أي وليعطيهم جزاء أعمالهم وافية كاملة، المؤمنون بحسب الدرجات، والكافرون بحسب الدركات، من غير نقصان بالثواب، ولا زيادة في العقاب.
{ويومَ يُعرضُ الذين كفروا على النَّارِ} أي وذكّرهم يا محمد يوم يُكشف الغطاء عن نار جهنم، وتبرز للكافرين فيقرَّبون منها وينظرون إِليها {أذْهبتُم طيباتِكُم في حياتكم الدنيا} في الكلام حذف أي ويقال لهم تقريعاً وتوبيخاً أذهبتم طيباتكم أي لقد نلتم وأصبتم لذائذ الدنيا وشهواتها فلم يبق لكم نصيب اليوم في الآخرة، قال أبو حيّان: والطيبات هنا المستلذات من المآكل والمشارب، والملابس والمفارش، والمراكب والمواطئ، وغير ذلك مما يتنعَّم به أهل الرفاهية {واستمتعتم بها} أي وتمتعتم بتلك اللذائذ والطيبات في الدنيا، قال المفسرون: المراد بالآية إِنكم لم تؤمنوا حتى تنالوا نعيم الآخرة، بل اشتغلتم بشهوات الدنيا ولذائذها عن الإِيمان والطاعة، وأفنيتم شبابكم في الكفر والمعاصي، وآثرتم الفاني على الباقي، فلم يبق لكم بعد ذلك شيء من النعيم، ولهذا قال بعده {فاليوم تُجزون عذَاب الهُون} أي ففي هذا اليوم - يوم الجزاء - تنالون عذاب الذُلِّ والهَوان {بِما كنتُم تسْتكبرون في الأرضِ بِغير الحقِّ} أي بسبب استكباركم في الدنيا عن الإِيمان وعن الطاعة {وبما كنتم تفْسُقون} أي وبسبب فسقكم وخروجكم عن طاعة الله، وارتكاب الفجور والآثام، قال الإِمام الفخر الرازي: وهذه الآية لا تدل على المنع من التنعم، لأن هذه الآية وردت في حق الكافر، وإِنما وبَّخ الله الكافر لأنه يتمتع بالدنيا ولا يؤدي شكر المنعم بطاعته والإِيمان به، وأما المؤمن فإِنه يؤدي بإِيمانه شكر المنعم فلا يوبخ بتمتعه ودليله {قُل منْ حرَّم زينةَ الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} نعم لا يُنكر أن الاحتراز عن التنعم أولى، وعليه يُحمل قول عمر "لو شئتُ لكنتُ أطيبكم طعاماً، وأحسنكم لباساً، ولكني أستبقي طيباتي لحياتي الآخرة"، وقال في التسهيل: الآية في الكفار بدليل قوله تعالى {ويوم يعرض الذين كفروا} وهي مع ذلك واعظة لأهل التقوى من المؤمنين، لذلك قال عمر لجابر بن عبد الله - وقد رآه اشترى لحماً - أو كلما اشتهى أحدكم شيئاً جعله في بطنه أما تخشى أن تكون من أهل هذه الآية ممن قال الله فيهم {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا}!!
قصة هود عليه السلام مع قومه
{واذكر أخَا عادٍ إذْ أنْذر قومَهُ بالأَحْقافِ وقدْ خلَتِ النُّذُر منْ بينِ يديه ومن خلفه ألاَّ تعبدوا إلاَّ الله إني أخافُ عليكم عذاب يوْمٍ عظيمٍ(21)قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا فأْتنا بما تعدنا إِن كنت من الصادقين(22)قالَ إِنّما العِلمُ عِندَ اللهِ وأُبلِّغُكُمْ ما أُرسِلتُ به ولكنّي أراكُم قوْماً تجْهلون(23)فما رَأَوْهُ عارضاً مُستقبل أوْدِيتهم قالوا هذا عارضٌ ممطُرنا بل هو ما استعجلتم به ريحٌ فيها عذابٌ أليمٌ(24)تُدَمِّرُ كلَّ شيءٍ بأمر ربِّها فأَصبحوا لا يُرى إِلاّ مساكنهم كذلك نجزي القوم المجرمين(25)ولقد مكنَّاهم فيما إِنْ مَّكَّنَّاكُم فيه وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة فما أَغْنى عنهم سمْعُهم ولا أبصارهُم ولا أفئدتُهم منْ شيءٍ إذْ كانوا يجحدون بآياتِ اللهِ وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون(26)ولقد أهلكنا ما حولكم من القُرى وصرَّفنا الآياتِ لعلهم يرجعون(27)فلوْلا نصَرَهُم الَّذين أتَّخذوا من دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً بل ضلُّوا عنهم وذلك إِفْكهُم وما كانوا يفترون(28)} .
{واذكر أخَا عادٍ} أي اذكر يا محمد لهؤلاء المشركين قصة نبي الله هود عليه السلام مع قومه عادٍ ليعتبروا بها {إذْ أنْذر قومَهُ بالأَحْقافِ} أي حين حذَّر قومه من عذاب الله إِن لم يؤمنوا وهم مقيمون بالأحقاف - وهي تلالٌ عظيمة من الرمل في بلاد اليمن - قال ابن كثير: الأحقاف جمع حِقْف وهو الجبل من الرمل، قال قتادة : كانوا حياً باليمن أهل رملٍ مشرفين على البحر بأرضٍ يُقال لها: الشَّحْر {وقدْ خلَتِ النُّذُر منْ بينِ يديه ومن خلفه} أي وقد مضت الرسلُ بالإِنذار من قبل هودٍ ومن بعده، والجملة اعتراضية وهي إِخبار من الله تعالى أنه قد بعث رسلاً متقدمين قبل هودٍ وبعده {ألاَّ تعبدوا إلاَّ الله} أي حذَّرهم هود عليه السلام قائلاً لهم: لا تعبدوا إلا الله {إني أخافُ عليكم عذاب يوْمٍ عظيمٍ} أي إِني أخاف عليكم إِن عبدتم غير الله عذاب يومٍ هائلٍ وهو يوم القيامة {قالوا أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا} أي قالوا جواباً لإِنذاره: أجئتنا يا هود لتصرفنا عن عبادة آلهتنا؟ وهو استفهام، يراد منه التسفيه والتجهيل لما دعاهم إِليه {فأْتنا بما تعدنا إِن كنت من الصادقين} أي فأتنا بالعذاب الذي وعدتنا به إِن كنت صادقاً فيما تقول، قال ابن كثير: استعجلوا عذاب الله وعقوبته استبعاداً منهم لوقوعه {قالَ إِنّما العِلمُ عِندَ اللهِ} أي قال لهم هود: ليس علم وقت العذاب عندي إِنما علمه عند الله {وأُبلِّغُكُمْ ما أُرسِلتُ به} أي وإِنما أنا مبلّغٌ ما أرسلني به الله إِليكم {ولكنّي أراكُم قوْماً تجْهلون} أي ولكنني أجدكم قوماً جهلة في سؤالكم استعجال العذاب {فما رَأَوْهُ عارضاً مُستقبل أوْدِيتهم} أي فلما رأوا السحاب معترضاً في أفق السماء متجهاً نحو أوديتهم استبشروا به {قالوا هذا عارضٌ ممطُرنا} أي وقالوا هذا السحاب يأتينا بالمطر، قال المفسرون: كانت عاد قد أبطأ عنهم المطر، وقُحطوا مدةً طويلةً من الزمن، فلما رأوا ذلك السحاب العارض ظنوا أنه مطر ففرحوا به واستبشروا وقالوا : هذا عارضٌ ممطرنا {بل هو ما استعجلتم به} أي قال لهم هود : ليس الأمر كما زعمتم أنه مطر، بل هو ما استعجلتم به من العذاب ثم فسَّره بقوله {ريحٌ فيها عذابٌ أليمٌ} أي هو ريحٌ عاصفة مدمّرة فيها عذابٌ فظيع مؤلم {تُدَمِّرُ كلَّ شيءٍ بأمر ربِّها} أي تُخَرِّب وتُهلك كل شيء أتت عليه من رجالٍ ومواشٍ وأموال، بأمره تعالى وإِذنه، قال ابن عباس: أول ما جاءت الريح على قوم عاد، كانت تأتي على الرجال والمواشي فترفعهم من الأرض وتطير بهم إلى السماء حتي يصبح الواحد منهم كالريشة، ثم تضربهم على الأرض، فدخلوا بيوتهم وأغلقوا أبوابهم، فقلعت الريح والأبواب وصرعتهم، فهي التي قال الله فيها {تدّمر كل شيء بأمر ربها} أي تدمّر كل شيء مرت عليه من رجال عادٍ وأموالها، والتدميرُ الهلاك، وفي الحديث عن عائشة قالت: كان صلى الله عليه وسلم إِذا رأى غيماً أو ريحاً عُرف في وجهه، فقلت يا رسول الله: الناسُ إِذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر، وأراك إِذا رأيته عُرف في وجهك الكراهية؟ فقال: يا عائشة ما يؤمننيأن يكون فيه عذاب؟ عُذّب قوم بالريح، وقد رأى قوم العذاب فقالوا{هذا عارضٌ ممطرنا} {فأَصبحوا لا يُرى إِلاّ مساكنهم} أي فأصبحوا هلكى لا تُرى إِلا مساكنهم، لأن الريح لم تبق منهم إِلا الآثار والديار الخاوية {كذلك نجزي القوم المجرمين} أي بمثل هذه العقوبة الشديدة نعاقب من كان عاصياً مجرماً، قال الرازي: والمقصود منه تخويف أهل مكة، ولهذا قال بعده{ولقد مكنَّاهم فيما إِنْ مكَّناكُم فيه} "إِنْ"نافية بمعنى "ما" أي ولقد مكَّنا عاداً في الذي لم نمكنكم فيه يا أهل مكة من القوة، والسَّعة، وطول الأعمار، وهو خطاب لكفار مكة على وجه التهديد {وجعلنا لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة} أي وأعطيناهم الأسماع والأبصار والقلوب، ليعرفوا تلك النعم ويستدلوا بها على الخالق المنعم {فما أَغْنى عنهم سمْعُهم ولا أبصارهُم ولا أفئدتُهم منْ شيءٍ} أي فما نفعتهم تلك الحواس أي نفع، ولا دفعت عنهم شيئاً من عذاب الله، قال الإِمام الفخر: المعنى أنّا فتحنا عليهم أبواب النعم: أعطيناهم سمعاً فما استعملوه في سماع الدلائل، وأعطيناهم أبصاراً فما استعملوها في تأمل العبَر، وأعطيناهم أفئدة فما استعملوها في طلب معرفة الله، بل صرفوا كل هذه القوى إلى طلب الدنيا ولذاتها، فلا جرم أنها لم تغن عنهم من عذاب الله شيئاً {إذْ كانوا يجحدون بآياتِ اللهِ} تعليلٌ لما سبق أي لأنهم كانوا يكفرون وينكرون ءايات الله المنزَّلة على رسله ويكذبون رسله {وحاق بهم ما كانوا به يستهزءون} أي ونزل وأحاط بهم العذاب الذي كانوا يستعجلون به بطريق الاستهزاء {ولقد أهلكنا ما حولكم من القُرى} تخويفٌ آخر لكفار مكة أي ولقد أهلكنا القرى المجاورة لكم يا أهل مكة والمحيطة بكم، كقرى عاد وثمود وسبأ وقوم لوط، والمراد بإِهلاك القرى إِهلاكُ أهلها {وصرَّفنا الآياتِ لعلهم يرجعون} أي وكررنا الحجج والدلالات، والمواعظ والبينات، أوضحناها وبيَّناها لهم لعلهم يرجعون عن كفرهم وضلالهم {فلوْلا نصَرَهُم الذين أتَّخذوا من دُونِ اللهِ قُرْباناً آلِهَةً} أي فهلاَّ نصرتهم آلهتهم التي تقربوا بها إلى الله بزعمهم، وجعلوها شفعاءهم لتدفع عنهم العذاب؟ و "لولا" تحضيضية بمعنى هلاَّ ومعناها النفي أي لم تنصرهم آلهتهم ولم تدفع عنهم عذاب الله {بل ضلُّوا عنهم} أي غابوا عن نصرتهم وهم أحوج ما يكونون إليهم، فإِن الصديق وقت الضيق، قال أبو السعود: وفي الآية تهكمٌ بهم كأنَّ عدم نصرهم كان لغيبتهم {وذلك إِفْكهُم وما كانوا يفترون} أي وذلك الذي أصابهم هو كذبهم وافتراؤهم على الله، حيث زعموا أن الأصنام شركاء لله وشفعاء لهم عند الله.
إيمان الجن بالقرآن
{وإِذْ صرفْنا إِليكَ نفراً من الجنِّ يستمعون القرآن فلمَّا حضرُوه قالوا أَنْصِتوا فلمَّا قُضيَ ولَّوا إِلى قومهم مُنْذرين(29)قالُوا يا قومنا إِنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى مصدِّقاً لما بين يديه يهدي إلى الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيم(30)يا قومنا أجيبوا داعيَ اللهِ وآمنوا به يغفرْ لكم مِّن ذنوبكم ويُجركم من عذابٍ أليمٍ(31)ومنْ لا يُجِب داعيَ اللهِ فليس بمعجزٍ في الأرض وليسَ له من دونه أولياء أُولئك في ضلالٍ مبين(32)}.
سبب نزول الآية (29):
{وإذ صرفنا}: أخرج ابن أبي شيبة عن ابن مسعود قال : إن الجن هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يقرأ القرآن ببطن نَخْلة، فلما سمعوه، قالوا : أنصتوا، وكانوا تسعة، أحدهم زَوْبَعة، فأنزل الله تعالى: {وإذ صرفنا إليك نفراً من الجن يستمعون القرآن، فلما حضروه قالوا: أنصتوا} الآية، إلى قوله: {في ضلال مبين}.
{وإِذْ صرفْنا إِليكَ نفراً من الجنِّ يستمعون القرآن} أي واذكر يا محمد حين وجهنا إِليك وبعثنا جماعةً من الجن ليستمعوا القرآن، قال البيضاوي: والنفر دون العشرة، روي أنهم وافوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي النخلة عند منصرفه من الطائف يقرآ في تهجده القرآن {فلمَّا حضرُوه قالوا أَنْصِتوا} أي فلما حضروا القرآن عند تلاوته قال بعضهم لبعضٍ: اسكتوا لاستماع القرآن، قال القرطبي: هذا توبيخٌ لمشركي قريش، أي إِن الجنَّ سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله، وأنتم معرضون مصرّون على الكفر {فلمَّا قُضيَ ولَّوا إِلى قومهم مُنْذرين} أي فلما فُرغَ من قراءة القرآن رجعوا إِلى قومهم مخوفين لهم من عذاب الله إِن لم يؤمنوا، قال الرازي: وذلك لا يكون إِلا بعد إِيمانهم، لأنهم لا يدعون غيرهم إلى استماع القرآن والتصديق به إلاّ وقد ءامنوا {قالُوا يا قومنا إِنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى} أي سمعنا كتاباً رائعاً مجيداً منزَّلاً على رسولٍ من بعد موسى، قال ابن عباس: إِن الجنَّ لم تكن قد سمعت بأمر عيسى عليه السلام {مصدِّقاً لما بين يديه} أي مصدّقاً لما قبله من التوراة {يهدي إلى الحقِّ وإلى طريقٍ مستقيم} أي هذا القرآن يرشد إِلى الحقِّ المبين، وإِلى دين الله القويم {يا قومنا أجيبوا داعيَ اللهِ وآمنوا به} أي أجيبوا محمداً صلى الله عليه وسلم فيما يدعوكم إليه من الإِيمان وصدِّقوا برسالته {يغفرْ لكم من ذنوبكم} أي يمحُ الله عنكم الذنوب والآثام {ويُجركم من عذابٍ أليمٍ} أي ويخلِصْكم وينجكم من عذاب شديد مؤلمٍ {ومنْ لا يُجِب داعيَ اللهِ فليس بمعجزٍ في الأرض} هذا ترهيبٌ بعد الترغيب أي ومن لم يؤمن بالله ويستجب لدعوة رسوله، فإِنه لا يفوت الله طلباً، ولا يعجزه هرباً {وليسَ له من دونه أولياء} أي وليس له أنصار يمنعونه من عذاب الله {أُولئك في ضلالٍ مبين} أي أولئك الذي لا يستجيبون لدعوة الله في خسرانٍ واضح، وإِلى هنا آخر كلام الجن الذين سمعوا القرآن.
الأدلة على قدرته ووحدانيته
{أَوَلَمْ يرَوا أنَّ اللهَ الذي خلقَ السماواتِ والأرض ولم يعْيَ بخلقهنَّ بقادرٍ على أن يُحْيي الموتى بلى إِنه على كل شيء قدير(33)ويوم يُعرض الذين كفروا على النَّار أليس هذا بالحقِّ قالوا بلى وربّنا قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون(34)فاصبر كما صبر أُولوا العزم من الرسل ولا تستعجلْ لهم كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار بلاغٌ فهل يُهلك إلا القوم الفاسقون(35)}.
ثم ذكر تعالى الأدلة على قدرته ووحدانيته فقال {أَوَلَمْ يرَوا أنَّ اللهَ الذي خلقَ السماواتِ والأرض} أي أولم يعلم هؤلاء الكفار المنكرون للبعث والنشور أن الله العظيم القدير الذي خلق السماواتِ والأرض ابتداءً من غير مثال سابق {ولم يعْيَ بخلقهنَّ} أي ولم يضعف ولم يتعب بخلقهنَّ {بقادرٍ على أن يُحْيي الموتى}؟ أي قادرٌ على أن يعيد الموتى بعد الفناء، ويحييهم بعد تمزق الأشلاء؟ {بلى إِنه على كل شيء قدير} أي بلى إِنه تعالى قادر لا يعجزه شيء، فكما خلقهم يعيدهم {ويوم يُعرض الذين كفروا على النَّار} أي واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين الأهوال والشدائد التي يرونها في الآخرة، وذكّرهم يوم يُعرضون على النار فيقال لهم {أليس هذا بالحقِّ}؟ أي أليس هذا العذاب الذي تذوقونه حقٌّ؟ {أفسحرٌ هذا أم أنتم لا تبصرون} {قالوا بلى وربّنا} أي قالوا: بلى وعزة ربنا، أكَّدوا كلامهم بالقسم طمعاً في الخلاص، قال الفخر الرازي: والمقصود بالآية التهكمُ بهم، والتوبيخ على استهزائهم بوعد الله ووعيده وقولهم: {وما نحن بمعذبين} {قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون} أي فيقال لهم: ذوقوا العذاب الأليم بسبب كفركم {فاصبر كما صبر أُولوا العزم من الرسل} أي فاصبر يا محمد على أذى المشركين كما صبر مشاهير الرسل الكرام وهم "نوح وإِبراهيم وموسى وعيسى" {ولا تستعجلْ لهم} أي ولا تدع على كفار قريش بتعجيل العذاب فإِنه نازل بهم لا محالة {كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعةً من نهار} أي كأنهم حين يعاينون العذاب في الآخرة لم يلبثوا في الدنيا إلا ساعةً واحدة من النهار، لما يشاهدون من شدة العذاب وطوله {بلاغٌ} أي هذا بلاغ وإِنذار {فهل يُهلك إلا القوم الفاسقون} أي لا يكون الهلاك والدمار إِلا للكافرين الخارجين عن طاعة الله عزّ وجلّ.