الدرس طويل لكنه عظيم النفع والفائدة اقرأ وان شاء الله تجد ما ينفعك ولا تنسَ ان تدعـو لنا بالموت شهداء المعركة
الْقَـدَرْ
الحمدُ للهِ الذي لا ناقِضَ لِما بناه, ولا حافِظَ لِما أفْناه, ولا مانِعَ لِما أعطاه, ولا رادَّ لما قضاه,ولا مُظْهِرَ لما أخْفاه,ولا ساتِرَ لما أبْداه,ولا مُضِلَّ لمن هداه,ولا هادِيَ لمن أعماه,والصلاةُ والسلامُ على رسولِ الهدى محمد الذي اختارَهُ اللهُ على العِبادِ واصطفاه
روى مسلم في صحيحهِ من حديث جبريل أن رسولَ اللهِ قال لجبريل لمّا سألهُ عن الإيمان (الإيمان أنْ تؤمِنَ باللهِ وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخِر وبالقدر خيره وشره) فمن لم يؤمِن بهذهِ الأمورِ السَّتةِ ولو بِواحِدَةِ منها لا يكونُ مسلماً ولا مؤمناً ولا يكون عندهُ وَزْنُ ذَرَّةٍ من الإيمان كالذي ما آمنَ بأنَّ اللهَ قَدَّرَ الأشياءَ كُلَّها من خيرٍ وشر,هذا إن ماتَ وهو لا يؤمِنُ بالقَدرِ فإنَّهُ خالِدٌ في نارِ جهنم لا يخرُجُ منها أبدا
وقد روى البيهقي في سُنَنِه أنه إذا صارَ أهلُ النارِ إلى النارِ ومعهم من أهل القِبْلَةِ مِن شاءَ الله قال الكُفارُ لِعُصاةِ المسلمين ما أغنى عنكُم إسلامكُم وقد صِرْتُم معنا في النار فيقولونَ كانت لنا ذُنوباً نُؤخَذُ بها,فيأمُرُ اللهُ عز وجل أن يخرج من النارِ من قال لا اله إلا الله وفي قلبِهِ وَزْنُ ذرَّةٍ من إيمان,فيخرجون,فيقولُ الكفارُ عندئذٍ يا ليتنا كُنّا مسلمين فنخرجُ كما أُخرِجوا ثم تلا رسول الله قوله تعالى{ الَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ{1} رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ{2}(الحجر)
والقدرُ هو تدبيرُ الأشياءِ على وجْهٍ مُطابِقٍ لِعِلمِ اللهِ الأزلي ومشيئتهِ الأزلية فَيوجِدُها في الوقتِ الذي عَلِمَ وشاءَ أنّها تكونُ فيه,فاللهُ تعالى يوجِدُ الأشياءَ على حَسَبِ ما سبقَ في عِلْمهِ الأزلي ومشيئَتهِ الأزلية,هذا يُسَمى قدراً,فيدخُلُ في ذلك عمَلُ العبدِ الخيرَ والشرَ باختِيارهِ,فالإنسانُ إذا عَمِلَ حسنةً يُسمّى عمَلُهُ خيراً وإن عمِلَ الإنسان معصِيةً يُسمّى عمَلُهُ شرّاً وكِلاهُما بِخَلْقِهِ تعالى
أما اللهُ تعالى تَقْديرُهُ لا يُسمّى شرّاً,تقديرُهُ حسَنٌ ليس فيهِ شر ,أما فِعْلُ العبدِ للقَبيحِ قبيحٌ من العبد,أما تقديرُ اللهِ للقبيحِ فليس قبيحاً من الله,وكذلكَ خَلْقُهُ للقبيحِ ليس مِنَ اللهِ قبيحاً كما أن إرادَتُهُ لِوجودِ الشّرِ ليست قبيحةً من الله
ومعنى قولُ رسول الله في الحديث المذكور (وتؤمن بالقدر خيره وشره) أي أن تعتقِدَ أن المقْدورات كلها بتقدير الله تكون,أي بإيجادهِ إيّاها,فالطّاعة التي تحصُلُ من المخلوقينَ والمعصِية التي تحصلُ منهم كُلٌّ بِخَلْقِ الله
وقد روى البيهقي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال(إنَّ أحدكم لَنْ يَخْلُصَ الإيمان إلى قَلْبِهِ حتى يَسْتَيْقِنَ يقيناً غيرَ شَك أن ما أصابَهُ لم يكُن لِيُخطِئَهُ وما أخْطأهُ لَم يكُن لِيُصيبَهُ ويُقِرَّ بالقدرِ كُلِّهِ) أي لا يجوزُ أن يؤمِنَ ببعضِ القدرِ ويكفُرَ ببعض,
معنى هذا الأثَر عن سيدنا علي أنهُ لا يَتِمُّ الإيمانُ في قلْبِ أحدكم حتى يَسْتَيْقِنَ يقيناً غيرَ شَك أي أن يعتَقِدَ اعتِقاداً جازِماً ما فيهِ شك أن ما أصابَهُ لم يكُن لِيُخطِئَهُ إن كان من الرِّزقِ أو المصائِبِ أو غير ذلك, وأن ما أخْطأهُ لَم يكُن لِيُصيبَهُ ويُقِرَّ بالقدرِ كُلِّهِ أي يجِبُ على كُلِّ مسلِمٍ أن يؤمِنَ بأن كلّ ما يجري في الْكَوْنِ من خيرٍ أو شر,من عُسْرٍ أو يُسر,ومن حُلْوٍ أو مُر,كُلُّ ذلك بِخَلْقِ اللهِ ومشيئَتِهِ حدثَ وكان,ولولا أن اللهَ تعالى شاءَهُ وكَوَّنهُ وخلقَهُ لَما حصل,
ومِن يَنسِبُ للهِ تعالى خَلْقَ الخيرِ دونَ الشرِّ فقد نسَبَ إلى اللهِ تعالى العجْز, تعالى اللهُ عن ذلك,لأنه لو كان كذلك لَكانَ للعالَمِ مُدَبِّران,مُدّبِّرُ خيرٍ و مُدّبِّرُ شر,وهذا كُفرٌ وإشراك,وهذا الرأيُ السَّفيهُ مِن جِهَةٍ أخرى يجعلُ اللهَ تعالى في مُلْكِهِ مغلوباً لأنه على حسَبِ اعتقادِهِ أنه تعالى أرادَ الخيرَ فقط فيكون قد وقعَ الشَّرُ من عَدُوِّهِ إبليسَ وأعوانهِ الكفارَ رغم أرادَةِ الله,ويكفُرُ مِن يعتَقِدُ هذا الرأيَ لِمُخالفَتِهِ قولهُ تعالى( وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ )يوسف21 أي لا أحدَ يمْنَعُ نَفاذَ مشيئته
وروى الإمام احمد في مُسنده وأبو داود وابن حبان عن ابن الدَّيْلَمي قال أتَيْتُ أُبَيَّ بن كعب- شيخ القُراء – فقُلت يا أبا المنذر إنه حدثَ في نفسي شيءٌ من هذا القدر فحَدِّثْني لعلَّ اللهُ ينفعني,فقال أُبَيٌّ له ( إنَّ اللهَ لوْ عذَّبَ أهل أرضِهِ وسماواتِهِ لَعذَّبَهُم وهو غيرُ ظالِمٍ لهم ولو رَحِمَهُم كانت رحمتهُ خيراً لهم من أعمالِهم,ولو أنْفَقْتَ مِثلَ أحُدٍ ذهباً في سبيل الله ما قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حتى تُؤمِنَ بالقدر,وتعلمَ أن ما أصابَكَ لم يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ وما أخْطأكَ لم يكن لِيُصيبَك,ولو متَّ على غيرِ ذلك دخَلْتَ النار),قال الدَّيْلَمي ثم أتيْتُ عبد الله بن مسعود فحدَّثَني مثل ذلك, ثم أتيْتُ حذيفة بن اليمان فحدَّثَني مثل ذلك ثم أتيْتُ زيد بن ثابت فحدَّثَني مثل ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم
وروى الحاكم أنَّ عَلِيَّ الرِّضا بن موسى الكاظِم كان يَقْعُدُ في الرَّوْضَةِ وهو شابٌّ فيسألُهُ الناسُ والعلماءُ في المسجد,فَسُئِلَ عن القدر فقال قال اللهُ عزَّ مِن قائِل{ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ{47} يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ{48} إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ{49}القمر
ثم قال كان أبي يذْكُرُ عن آبائِهِ أنَّ أميرَ المؤمنينَ علي بن أبي طالب كان يقول( إن اللهَ خلَقَ كُلَّ شيءٍ بقدر حتى العَجْزَ والْكَيْس,وإليهِ المشيئَةُ وبِهِ الْحَوْلُ والقُوَّة)
ومعنى قوله حتى العَجْزَ والْكَيْس أي أن اللهَ تعالى هو الذي خلقَ العَجْزَ وهو الضَّعْفُ في الْفَهْمِ والإدراك ويقالُ العجزُ هو ضَعْفُ الهِمَّةِ وفُتورها,وهو خالق الكيْس والْكَيْس هو الذَّكاءُ والفطانة,
ومعنى وإليهِ المشيئَةُ أي أن اللهَ تعالى لهُ المشيئةُ الشّامِلَةُ الأزليةُ الأبَدِيَّةُ التي لا تتَحَوَّلُ ولا تتغَيَّر,
ومعنى وبِهِ الْحَوْلُ والقُوَّة فالْحَوْلُ هو التَّحَفُّظِ عن الشر,والقوةُ هي القُوةُ على فِعْلِ الخيرِ التي تَحْصُلُ من العباد,
ومعنى ذلك أن العبْدَ لا يستطيعُ أن يدْفعَ عن نَفْسِهِ شرّاً ولا يستطيعُ أن يتحَرَّزَ عن سوءٍ وشَرٍ وفسادٍ ومعصيةٍ إلا باللهِ أي إلا بِعَوْنِ الله, ولا احدَ يقْوى على طاعَةٍ وحسنَةٍ إلا بتقديرِ اللهِ ومشيئتِهِ وعِلمِهِ وتوفيقه,فالذينَ وفَّقَهُم الله تعالى لِفِعْلِ الطّاعاتِ فعمِلوها فليس ذلكَ إلا بِعَوْنِ الله,فلولا مَعونَةُ اللهِ ما عمِلوا حسنة, فللهِ الفضْلُ والمِنَّة,,, هذا مِن خالِصِ التَّوحيدِ وجواهِر العِلم
فَيُعْلَمُ من هذا أنه لا يحدُثُ في العالَمِ شيءٌ إلا بمشيئة الله تعالى, ولا يُصيبُ العبدَ شيءٌ من الخيرِ أو الشرِ أو الصِّحَةِ أو المرض أو الفقرِ أو الغِنى أو غير ذلك إلا بمشيئة الله تعالى, ولا يُخْطِئُ العبدَ شيءٌ قدَّرَ اللهُ وشاءَ أن يُصيبَه,
فقد ورد أن النبيَ عَلَّمَ بعضَ بناتِهِ(ما شاءَ اللهُ كانَ وما لم يشأ لم يَكُن) رواه أبو داود , فمشيئَةُ اللهِ نافِذَةٌ في جميعِ مُراداتِهِ على حسبِ عِلمهِ بها, فَما عَلِمَ اللهُ كَوْنَهُ أرادَ كَوْنَهُ في الوقتِ الذي يكونُ فيه وما عَلِمَ أنهُ لا يكون لم يُرِدْ أن يكون,
فأعمالنا التي سبقَ في عِلْمِ اللهِ أنها تكون شاءَ أن تكون, وما لم يشأِ اللهُ تعالى أن يكون فلا يدخُلُ في الوُجود, فَمِنْ هنا يُعلَمُ أن الضَّميرَ في قولهِ تعالى{ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ }( فاطر8 ) يعودُ إلى الله لا إلى العبد,بدليلِ قولهِ تعالى حِكايةً عن سيدنا موسى{ إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء }(الأعراف155)
سيدنا موسى عليه السلام لَمّا ذهبَ لِميقاتِ ربهِ أي لِمُناجاةِ اللهِ أي لِسَماعِ كلامِ اللهِ الأزلي خَلَّفَ على قومهِ أخاهُ هارون وكان نبياً,غابَ عنهم – أي سيدنا موسى- أربعينَ ليلةً ثم عادَ إليهم فوجدَهُم قد عبَدوا العِجلَ إلا بعضاً منهم وذلك بعدَ أن اجتازَ بهمُ البحرَ ورأوْا هذه المُعجِزَةَ الكبيرةَ وهيَ انفِلاقُ البحرِ إلى اثني عشر فِرقاً كلُ فِرقٍ كالجبَلِ العظيم,وأنقذَهُم من فرعون,ثم فتنَهُم شخصٌ يُقالُ لهُ موسى السامِري صاغَ لهم عِجْلاً من ذهب,ووضعَ فيهِ شيئاً من أثَرِ حافِرِ فرَسِ سيدنا جبريل, لأنهُ عندما أرادَ فرعونُ أن يخوضَ البحرَ كان جبريلُ على فرس,
هذا الخبيثُ رأى موقِفَ فرسِ جبريل فأخذَ منهُ شيئاً ووضعَهُ في هذا العِجلِ المُصَوَّرِ من ذهب, فجعل الله تعالى هذا العِجلَ يَخورُ كالعجلِ الحقيقي, فقال لهم السامري هذا إلهكم وإلهُ موسى, حملَهُم على عِبادَتِهِ فَفُتِنوا,فعبَدوا هذا العجل,فَلمّا أُخْبِرَ سيدنا موسى بذلكَ اغتاظَ على هؤلاءِ اغتياظاً شديداً,ثم قال ما قالهُ ربنا في القرآنِ حِكايةً عنه (إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء) الأعراف155
وروى مسلم في صحيحهِ والبيهقي في كتاب القدر عن أبي الأسود الدُّؤلي قال:قال لي عمران بن الحُصَين أرأيتَ ما يعملُ الناسُ اليوم ويكْدَحونَ فيه أشيءٌ قُضِيَ عليهِم ومَضى عليهِم مِن قَدَرٍ قد سبَقَ- أي هل هو شيءٌ قَدَّرَهُ اللهُ تعالى أنه يحصُلُ منهم أي باختِيارِهِم ومَشيئتهم الحادِثة بعدَ مَشيئةِ اللهِ الأزَلِيَّةِ وعلمهِ الأزلي- ثم قال أو فيما يَسْتَقْبِلونَهُ مِمّا أتاهُم بهِ نَبِيِّهُم
وثبتَتِ الحُجَّةُ عليهِم- معناه أَمْ هو شيءٌ جديدٌ لم يَسْبِقْ به قَدَرٌ ولم يَسبِقْ في عِلْمِ الله أنه يحصُلُ منهم – فقال بل شيءٌ قُضِيَ عليهِم فقال أفلا يكونُ ظُلْماً؟
قال ففَزِعْتُ من ذلك فزعاً شديداً وقلت كُلُّ شيءٍ خَلْقَهُ ومِلْكُ يَدِهِ لا يُسأَلُ عمّا يفْعَلُ وهم يُسألون,فقال لي يرحَمُكَ الله إني لم أُرِدْ بما سألْتُكَ إلا لِأحْزِرَ عقْلَك,إنَّ رَجُلَيْنِ من مُزينةَ أتيا رسول اللهِ فقالا ( يا رسول الله أرأيْتَ ما يعملُ الناسَ الْيومَ ويكْدَحونَ فيه أشيءٌ قُضِيَ عليهِم ومضى عليهِم من قدَرٍ قد سبَقَ أو فيما يسْتَقْبِلونَ بهِ مِمّا أتاهُم بهِ نَبِيُّهُم وثبتَتْ الحُجَّةُ عليهِم فقال بل شيءٌ قُضِيَ عليهِم ومضى عليهِم ومِصْداقُ ذلك قوله تعالى{ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا{7} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا{8} (الشمس)
فإنْ قال قائِلٌ إذا كان اللهُ شاءَ لنا أنْ نفعلَ كذا من الكُفرِ والمعاصي فماذا نفعل؟
فالجَوابُ أنْ يُقال:المُسْتَقْبَلُ غَيْبٌ عنّا, ما بعْدَ هذه الّلحظة غَيْبٌ عنّا فالذي علينا أن نسعى لأِنْ نكونَ قائِمينَ بِحُقوقِ اللهِ وحقوقِ عِبادِهِ التي أمرنا بها,ونَعْتَقِدُ في الوقتِ نفسِه أنهُ إن شاءَ لنا أن نسعى للخيراتِ كان ذلك علامَةً على أننا من الذين شاءَ اللهُ لهُم أن يكونوا من أهل النَّعيمِ المُقيمِ في الآخرة, وإن لم يتيَسَّر لنا ذلك فلا نكون من أولئك,كما أن الإنسانَ يَبْذُرُ البذورَ وهو لا يعلَمُ عِلْمَ يقينٍ أنه يُدرِكُ محصولَ هذا الزرعِ,فإما أن يموتَ قبلهُ وإما أن تَحْدُثَ آفةٌ وعاهةٌ لهذا البِذرِ فَتُتلِفهُ وتفسده,فلا يُدْرِكُ الإنتفاعَ بهذا الزرع وإنما نَشْرَعُ فيهِ على الأمل,أي على احتِمالِ أننا نعيشُ حتى يَنْبُتَ هذا البذر ونُدْرِكُهُ فيصيرُ حبّاً قوتاً أو ثِماراً يُنتَفَعُ به,كذلك أحدُنا إذا أصيبَ بِمَرضٍ يتداوى على الأمل,لا يقْطَعُ بأنه يتعافى بهذا الدّواء,ويحْتَمِلُ أن لا يتعافى به,وأمورُ الآخِرةِ كذلك .
العَواقِبُ عنّا مستورَةٌ محجوبة,إنما نعلَمُ ما حصلَ قبلَ هذا فنقول هذا حصلَ بمشيئة الله,أما ما لم يقَع بعد فإنَّهُ غيبٌ عنّا وكما لا يجوزُ للإنسانِ أن يَقْعُدَ ويقول ما قَدَّرَ الله تعالى لا بُدَّ أن يَصِلَ إلى جَوْفي ولا يسعى بِوَجْهٍ من الوجوهِ في طلَبِ القوتِ بل يُعَرِّضُ نفسَهُ لِلتَّلفِ بالجوع,كذلك لا يجوزُ أن يقولَ الإنسان أنا إن كانَ اللهُ كتبَ لي أنّي سعيدٌ لا بُدَّ أن أكونَ سعيداً وإن كانَ كتبَ لي غيرَ ذلك لا أكونُ سعيداً,ثم يعْتَمِدُ من غيرِ أن يسعى لأن يكونَ من أهل النَّجاة,وَلِيَعلَمَ العاقِلُ أنَّ أمْرَ الدّينِ لا يَتِمُّ إلا بالتَّسليمِ لله, أما أن يُقاسَ الخالِقُ على المخلوقِ فهذا ضلالٌ وخُسران مبين
وقد قالَ ابن رسلان الشافعي عنِ الله تعالى
يُثيبُ مِنْ أطاعَهُ بِفَضْلِهِ ومن شـاءَ عاقَبَهُ بِعَدْلِهِ
كذا لَهُ أنْ يُؤلِمَ الأطفالَ ووصْفُهُ بالظّالِمِ اسْتَحالَ
وروى مسلم في صحيحه من حديث أبي ذر الغفاري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:قال الله عز وجل ( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا يا عبادي كلكم ضال إلا من هديته فاستهدوني أهدكم يا عبادي كلكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم يا عبادي كلكم عار إلا من كسوته فاستكسوني أكسكم يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار وأنا أغفر الذنوب جميعا فاستغفروني أغفر لكم يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا في صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحدٍ مسألته ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيرا فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه ) معنى فمن وجد خيرا فليحمد الله أي فليحمد الله الذي وفَّقَهُ لذلك, ومعنى ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه أي أن اللهَ ليسَ ظالِماً ولكن هو ظلمَ نفسه
ولَوْ أن اللهَ خلقَ الخلقَ وأدْخلَ فريقاً الجنةَ وفريقاً النارَ لِسابِقِ عِلمِهِ أنهم لا يؤمنونَ لكان شأنُ المُعَذَّبِ منهم ما وصفَ اللهُ بِقولهِ {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُم بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ وَنَخْزَى }طه134
فأرْسلَ اللهُ رُسُلَهُ مُبشِّرينَ ومنذرينَ لِيظهرَ ما في استعدادِ العبدِ من الطَّوْعِ والإباء,فَيهلِكَ مِن هلكَ عن بيِّنة,ويحيا من حيَّ عن بيِّنة ,فأخْبرَنا أن قِسْماً مِن خَلْقِهِ مَصيرهُم النارَ بِأعمالِهِم التي يعْمَلونَ بِاختِيارِهِم ,وكان تعالى عالِماً بعِلمِه الأزلي أنهم لا يؤمِنونَ فقال تعالى {وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ }السجدة13 وقَوْلُهُ تعالى صِدْقٌ لا يتَخلَّفُ لأنَّ التَّخَلُّفَ –أي التَّغيُّرَ – كَذِبٌ والْكَذِبُ مُحالٌ على الله
المعنى : أنه لو شاءَ اللهُ في الأزلِ أن يهدي جميعَ الأنْفُسِ لَهداها ولأعْطى لِكُلِّ نفسٍ هُداها وجعلها مؤمِنةً مُهتَدِية,ولكنَّهُ قال (وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي) أي ولكن قُلْتُ في الأزلِ وقَوْلِيَ لا يتَخلَّف, (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) أي أنني سأملأُ جهنمَ مِن الجنِّ والإنسِ, فلا بُدَّ أن تُملأَ جهنم مِن كفارِ البشرِ والجن,وقد قدَّمَ – أي الله – ذِكْر الجن لأن أكثرَ أهل النار من الجن
ويقول اللهُ تعالى {وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى }الأنعام35 ويقول تعالى { مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ }الأنعام39 ويقول تعالى {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً }يونس99 ويقول تعالى { مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ }الأنعام111 ويقول تعالى {قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ }الأنعام149
ولِيُعلَم أن الهِدايَةَ على وجهين
1- إبانَةُ الحَقِّ والدُّعاءِ إليه ونَصْبُ الأدِلَّةِ عليه,وعلى هذا الوَجْهِ يَصِحُّ إضافَةُ الهِدايَةِ إلى الرُّسُلِ وإلى كُلُّ داعٍ لله, فالأنبياءُ بهذا المعنى هُداةٌ لأنهم دلّوا الناسَ على الخيرِ وبيَّنوا للناسِ ما يُحِبُّهُ الله وحذَّروا الناسَ مما لا يُحِبُّهُ الله, فَوَظيفَتُهُم التي هي فَرْضٌ عليهِم أن يُؤَدّوها هي الْبيانُ والإرشاد, ثم بعدَ ذلك مِن كانَ اللهُ شاءَ لهُ الاهتداءَ يهتدي بِقَوْلِ هؤلاءِ الأنبياءِ بِالأخْذِ بِدَعْوَتِهِم ومَن لم يشأ اللهُ أن يهتدي لا يهتدي مهما رأى مِن المُعجِزات
ومِن هذا المعنى قَوْلُ اللهِ تعالى في رسولهِ محمد صلى الله عليه وسلم (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )الشورى52
وكذلك قوله تعالى {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى }فصلت17 أي بيَّنّا لهم الحقَّ ودلَلْناهُم عليه.
وثمود قبيلَةٌ مِن قبائِلِ العرب قبلَ سيدنا محمد,وهم قوْمُ نبي الله صالِح,ومساكِنُهُم بَعْدَ المدينة المنورة بِثلاثمائة كيلو متر تقريباً إلى جِهَةِ الشّام,فثمودُ بَيَّنَ اللهُ لهم طريقَ الخيرِ فأرسلَ إليهم صالِحاً فبيَّنَ لهم طريقَ الهدى,طريق الإسلامِ فكذَّبوه
2- مِن جِهَةِ هِدايَةِ اللهِ تعالى لِعِبادِهِ أي خَلْقِ الاهتِداءِ في قلوبِهِم كقولِهِ تعالى {فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً }الأنعام125 وهذهِ الآيَةُ دليلٌ على أن مشيئَةَ اللهِ سبقَتْ مشيئَةَ العبدِ,( وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ) لا يُمكِن أن يَرْجِعَ الضَّميرُ في(يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ) إلى العبدِ لأن هذا يجعَلُ القرآنَ ركيكاً ضَعيفَ العِبارة, والقرآنُ أعلى البلاغَةِ لا يوجَدُ فوْقهُ بلاغة.
والإضْلالُ هو خَلْقُ الضّلالِ في قلوبِ أهل الضّلال,ويَدُلُّ على ذلك قوله تعالى{يُرِيدُ اللّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ }آل عمران176 وقوله تعالى {وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ }المائدة41
ومعنى (وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ)أي ضلالَتهُ ( فَلَن تَمْلِكَ) أي يا محمد ( لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً),فكَمْ مِن أقارِبٍ للرسولِ ما استطاعَ الرسولُ أن يهدِيَ قلوبَهُم فيؤمِنوا,وهذا معنى قوله تعالى {لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ }البقرة272 أي لسْتَ مُكَلَّفاً بِأنْ تَجْعلَهُم مؤمنينَ مُعتَقِدينَ قَلْباً,إنما عليكَ الْبيان,فَيُعلَمُ مِن هذا أن تقديرَ اللهِ تعالى الأزلي لا يُغَيِّرُهُ شيء,لا دَعْوَةُ داعٍ ولا صدقَةُ مُتَصدِّقٍ ولا صلاةُ مُصَلٍّ ولا غير ذلكَ مِن الحسنات,بل لا بُدَّ أن يكونَ الْخَلْقُ على ما قُدِّرَ لهم في الأزلِ مِن غيرِ أن يتغَيَّرَ ذلك
وأما قوْلُ رسول الله في الحديثِ الذي رواهُ الترمذي ( لا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر) فالمُرادُ بهِ القضاء المُعَلَّق لأن القضاءَ منهُ ما هو مُعَلَّقٌ ومنهُ ما هو مُبْرَم(أي لا يتغيَّر)
والمُعَلَّقُ معناهُ أنه مُعَلَّقٌ في صُحُفِ الملائكةِ التي نقلوها مِن اللوحِ المحفوظ, لأنَّ الملائكةَ يسْتنْسِخونَ مِن اللوحِ المحفوظِ في صُحُفِهِم كُلَّ ليلَةِ قَدْر, يسْتنْسِخونَ في ليلةِ القدرِ ما سيَحْصُلُ مِن مَوْتٍ وحياةٍ ومصائِبَ وأرزاقَ وغيرَ ذلكَ إلى مِثلِها في العامِ القادِم, وهذا معنى قولهُ تعالى عن ليلةِ القدر {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }الدخان4 فالمُعَلَّقُ ما يكونُ مكتوباً عِندَهُم (أي الملائكة) أن فُلاناً مَثلاً إن وصَلَ رَحْمَهُ أو بَرَّ والِدَيْهِ أو دعا اللهَ بِكذا يَعيشُ إلى المِئةِ ويُعطى كذا مِن الرزقِ والصَحّة,وإذا لم يفعلْ ماتَ مثلاً على الأربعين, هذا معنى القضاء المُعَلَّق أو القدر المُعَلَّق, وليسَ معناهُ أن تقديرَ اللهِ الأزلي الذي هو صِفَتُهُ مُعَلَّقٌ على فِعْلِ هذا الشّخصِ أو دعائه
فاللهُ تعالى يعلَمُ كُلَّ شيء, لا يخفى عليه شيء, وهو يعلَمُ بِعِلمِهِ الأزلي أيُّ الأمْرَيْنِ سيختارُ هذا الشخصُ وما الذي سَيُصيبُه, واللوحُ المحفوظُ كُتِبَ فيهِ ذلك أيضا, وهذا لِيَجْتَهِدَ العبادُ في الدُّعاءِ وأنواعِ الطاعات, وقد ورد في الحديث الذي رواه الإمام احمد عن معاذ بن جبل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لن ينفع حذر من قدر ولكن الدعاء ينفع مما نزل ومما لم ينزل فعليكم بالدعاء عباد الله )
وفي رواية للبيهقي عن ابن عباس(لا ينفع حذر من قدر ولكن الله عز وجل يمحو بالدعاء ما شاء من القدر )فقوله ( لا ينفع حذر من قدر) أي فيما كُتِبَ مِن القضاءِ المحْتوم ( المُبرم) وقوله (ولكن الله عز وجل يمحو بالدعاء ما شاء من القدر ) معناه المقدور (المعلق)
ومِما استدَلَّ به أهلُ الحَقِّ على أن اللهَ لا يُغَيِّرُ مشيئتُهُ لِدُعاءِ داعٍ الحديث الذي رواه الإمام احمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال( سألت ربي عز وجل أربعاً فأعطاني ثلاثا ومنعني واحدة سألت الله عز وجل أن لا يجمع أمتي على ضلالة فأعطانيها وسألت الله عز وجل أن لا يهلكهم بالسنين كما أهلك الأمم قبلهم فأعطانيها وسألت الله عز وجل أن لا يلبسهم شيعا ويذيق بعضهم بأس بعض فمنعنيها)
وفي رواية ابن ماجة عن معاذ بن جبل قال (صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما صلاة فأطال فيها فلما انصرف قلنا يا رسول الله أطلت اليوم الصلاة قال إني صليت صلاة رغبة ورهبة سألت الله عز وجل لأمتي ثلاثا فأعطاني اثنتين ورد علي واحدة سألته أن لا يسلط عليهم عدوا من غيرهم فأعطانيها وسألته أن لا يهلكهم غرقا فأعطانيها وسألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فردها علي)
وفي رواية البخاري (قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها وأعطيت الكنزين الأحمر والأبيض وإني سألت ربي لأمتي أن لا يهلكها بسنة بعامة وأن لا يسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم وإن ربي قال يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة بعامة وأن لا أسلط عليهم عدوا من سوى أنفسهم يستبيح بيضتهم ولو اجتمع عليهم من بأقطارها - أو قال من بين أقطارها - حتى يكون بعضهم يهلك بعضا ويسبي بعضهم بعضا )
فلَوْ كان اللهُ يُغَيِّرُ مشيئَتَهُ بِدعْوَةٍ لَغيَّرها لِحبيبهِ المصطفى عليه الصلاة والسلام ,ولكن اللهَ عز وجل لا تتَغَيَّرُ صِفاتُهُ ,وهذا لا يعارضُ قوله عليه الصلاة والسلام (الدُّعاءُ مُخُّ العِبادة)
أما قوله تعالى {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ }غافر60 معناهُ اعبدوني وأطيعوني أُثِبْكُم
وأما قوله تعالى {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ }الرعد39 فليس معناهُ أنَّ الْمَحْوَ والإثبات في تقدير الله بل المعنى أن اللهَ جل ثناؤهُ قد كتبَ ما يُصيبُ العبدَ من البلاءِ والحِرمانِ والموتِ وغيرِ ذلك وأنهُ إن دعا اللهَ تعالى أو أطاعَهُ في صِلَةِ الرحمِ وغيرها لم يُصِبْهُ ذلك البلاءَ ورزقَهُ كثيراً أو عمَّرهُ طويلاً, وكتبَ في أمِّ الكتابِ ما هو كائِنٌ من الأمرين, فالْمَحْوُ والإثباتُ راجِعٌ إلى أحدِ الكِتابينِ كما أشارَ إليه ترجمان القرآن عبد الله بن عباس فقد روى البيهقيُّ عن ابن عباس في قول اللهِ عز وجل {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } قال (يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ) مِن أحدِ الكتابينِ , هُما كِتابان يمحو اللهُ ما يشاءُ من أحدِهِما وَيُثبِت (وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ) أي أن هذا في القضاء المُعَلَّق
أما الشافعي رضي الله عنه فقد فسَّرها بالنّاسِخِ والمنسوخ أي أن اللهَ تعالى يمحو ما يشاءُ من القرآن أي يرفَعُ حُكْمَهُ وينسَخُهُ بحُكمٍ لاحِق,ويُثبِتُ ما يشاءُ من القرآنِ فلا ينسَخُهُ,وما يبدل وما يثبت كل ذلك في كتاب,وهذا في حياة الرسول أما بعدَ وفاتِهِ فلا نسْخ,قال البيهقي هذا أصَحُّ ما قيلَ في تأويلِ هذه الآية
وأما قوله تعالى( وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) أي جُملَةُ الكتابِ أي اللوح المحفوظ يشْتَمِلُ على الممحو والمُثبَت ,وأما في غير اللوح المحفوظ مِمّا يسْتَنْسِخُهُ الملائكةُ أو يكتُبهُ الملكُ في أمرٍ خاص هذا فيه ذِكْرُ أحدِ الوجهين أي أنهم كتبوا في صُحُفِهم مثلاً: فلانٌ إن وصلَ رحمَهُ يعيشُ إلى المئة وإن لم يَصِل رحمهُ يعيشُ إلى السِتّين,أما أيُّ الأمرينِ سيقَعُ أخيراً هم لا يعرِفونَ في الابتداء, ليسَ مَوْكولاً إلى الملائكةِ عِلْمُ المُستقبل إنما هم يكتبونَ ما أمِروا به, وهذا بالنِّسبَةِ لِمَن لم يُطْلِعهُ اللهُ منهم على الأمرين
أما قول ابن عباس(هُما كِتابان يمحو اللهُ ما يشاءُ من أحدِهِما وَيُثبِت) أحدُ الكتابين هو الذي كُتِبَ في اللوح المحفوظ والآخَر هو الذي في أيدي الملائكة الذين أمِروا بالاستنساخ من اللوح
وأما قوله تعالى{ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ }الرحمن29 فليس معناهُ أن اللهَ يُغَيِّرُ مشيئتهُ بل المعنى كما قال النبي( يغفِرُ ذنباً ويُفَرِّجُ كرباً ويرفَعُ قوماً ويضَعُ آخَرين)
ولِيُعلَم أن الْمَحْوَ في غير الشَّقاوة والسَّعادة لأن السعادةَ والشقاوة لا يدخُلُهما المحو والإثبات,والسعادةُ هي الموْتُ على الإسلام,والشقاوةُ هي الموت على الكفر والعياذ بالله
فقد روى البيهقي عن مجاهد أنه قال في تفسير قوله تعالى {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ }الدخان4 يُفْرَقُ في ليلةِ القدرِ ما يكونُ في السَّنةِ من رزقٍ أو مصيبةٍ فأما كتابُ الشقاءِ والسعادةِ فإنه ثابِتٌ لا يتغير.وهذا دليلٌ على أن قضاء الله المُبرَم لا يتغيّر
فلذلك لا يَصِحُّ دعاءُ بعضِ الناسِ بقولهم : اللهم إن كنتَ كتبتني في أمِّ الكتابِ شقِيّاً فامْحُ عني إسمَ الشقاءِ وأثْبِتْني عندَكَ سعيداً وإن كنتَ كتبتني في أمِّ الكتابِ محروماً مُقَتَّراً عليَّ رِزقي فامْحُ عني حِرماني وتَقْتيرَ رزقي وأثْبِتْني عندَكَ سعيداً مُوَفَّقاً للخيرِ فإنك تقولُ في كِتابك {يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ } ولا ما أشْبهَ ذلك
وليعلم أن تقسيمَ الأمورِ إلى أربعة
الأول: شئ شاءهُ اللهُ وأمر به وهو إيمان المؤمنين وطاعةُ الطائعين
الثاني: شئٌ شاءهُ اللهُ ولم يأمر به وهو عصيان العصاة وكُفْر الكافرين إلا أن اللهَ لا يُحِبُّ الكفرَ مع أنه خلقَهُ بمشيئتهِ ولا
يرضاهُ لِعباده
الثالث: أمْرٌ لم يشأْهُ الله وأمر به وهو الإيمان بالنسبة للكافرين الذين علِمَ الله أنّهم يموتون على الكفر
الرابع: أمْرٌ لم يشأْهُ الله ولم يأمر به وهو الكُفر بالنسبة للأنبياء والملائكة
ومن جُملَةِ الأدِلَّةِ الدّالّةِ على أن اللهَ شاءَ حصولَ المعاصي مِن بعضِ عِبادهِ قولهُ تعالى {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً }مريم83 أي تُغْريهِم وتدفَعُهم إلى المعاصي وتشهّيهم فِعلَها, وهذا رَدٌّ على المُعتَزلَةِ القائلينَ بأن اللهَ ما أرادَ وقوعَ المعاصي مِن خَلقِهِ إنما هم خلقوها بمشيئتهِم وإرادَتِهِم,
وقد قال بعضُ العلماء :لو شاءَ اللهُ أن لا يُعصى ما خلقَ إبليس, ويقولُ ربنا جل ثناؤه { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ }النور40
ومن الدَّليلِ على أن الأمرَ غيرَ المشيئة أنَّ اللهَ أمرَ سيدنا إبراهيم عليهِ السلام بالوحي المنامي أن يذبحَ ابنَهُ إسماعيل ورُؤيا الأنبياء في المنام حَقٌّ ووحيٌ من الله, فلما رأى إبراهيمُ في المنامِ ذلكَ انطلقَ إلى ولَدِهِ إسماعيل فقال له يا بُنَيَّ انطَلِق بِنا نُقَرِّبُ قُرباناً إلى اللهِ عز وجل, وأخذَ معهُ سِكّيناً وحبْلاً, فلما وصلا بين الجبالِ قال إسماعيلُ لأبيهِ يا أبَتِ أين قُربانك,فقال { قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ }(الصافات102)
ولكن اشْدُدْ رِباطي حتى لا أضطرِب وأسْرِعْ مَرَّ السِّكينِ على حَلْقي ليكونُ أهْوَنُ عليَّ واكْفُفْ ثِيابَكَ عني حتى لا ينتضِحَ عليكَ مِن دمي فتراهُ أمّي فتحزن, فضَمَّ سيدنا إبراهيمُ إسماعيلَ إلى صَدرِهِ وصارَ يبكي ويقولُ له: نِعْمَ الْعَوْنُ أنتَ يا بنيّ على أمرِ الله عز وجل, ثم أمَرَّ سيدنا إبراهيمُ السِكّينَ على حَلْقِ ولدِهِ فلم تَحْكِ شيئاً, فقال إسماعيلُ لوالدهِ يا أبتِ مالَكَ, فقال لم تَحْكِ شيئاً، فقالَ اطْعَنْ بها طعناً,ف طعنَ فانْقَلَبَتْ,ثم نزلَ جبريلُ عليهِ السلام بِكبشٍ أملحٍ عظيمٍ من الجنة ونودِيَ أنْ هذا فِداؤُكَ يا إبراهيم
فهنا نقولُ أمرَ الله نبيهُ إبراهيم أن يذبحَ ولدهُ إسماعيل ولم يشأ لإسماعيلَ أن يُذبَح, فَمِن هنا يُعلَمُ فسادُ قولُ بعض الناس(كله بأمره) لأنَّ معنى قولِهِم هذا كُلُّ ما يقعُ من العبادِ من خيرٍ أو شرٍّ فهو بأمرِ الله,والصّوابُ أن نقول كُلّ ما يحصُلُ بمشيئةِ الله وعِلمِهِ وتقديره
وأما قولُ الله تعالى {وَإِذَاأَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً }الإسراء16 فقد فسَّرَ أهل العِلمِ قولَ اللهِ(أمرنا) في هذه الآية كثَّرْنا أي نُكّثِّرهُم فيصيروا أقوياء فيفسُقونَ ويكفرونَ ويخرُجونَ عن طاعةِ اللهِ فَيُهْلِكَهُم
هذا حصلَ في الأمَمِ الماضِيَةِ ظهرَ تأويلُهُ بقومِ لوطٍ وقومِ هودٍ وقومِ صالِحٍ وغيرهم,أما بعدَ بِعثَةِ النبيِّ محمدٍ صلى الله عليه وسلم فإنَّهُ لا ينقَطِعُ الإسلامَ في أمَّتِهِ مهما حصلَ لا بُدَّ أن يوجَدَ صالِحونَ,اللهُ تعالى برحمَتِهِ مهما كَثُرَ الفسادُ يُثَبِّتُ الصالحينَ على الحقِ فلا ينزلُ هلاكاً عامّاً كهلاكِ أولئكَ الأممِ السابقة وهذا من جُملَةِ ما أخبرَ عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وذلكَ لَمّا دعا ربَّهُ قائلاً( وسألتُهُ أن لا يُهلِكَ أمَّتي جُملَةً فأعطانيها )
وليعلَم أن ما ذكرناهُ من أمرِ القدَرِ ليسَ مِن الخوْضِ الذي نهى النبيُ عنه بقولِهِ(إذا ذُكِرَ القدرُ فأمسِكوا) رواه الطبراني لأن الذي ذكرناهُ تفسيراً للقدرِ الذي وردَ به النّص,وأما الْمَنْهِيُّ عنهُ فهو الخوْضُ فيهِ للوصولِ إلى سِرِّه,فقد روى الشافعي والحافظ ابن عساكر عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال لِسائِلٍ عن القدر(سِرُّ اللهِ فلا تتَكَلَّف) فلما ألَحَّ عليهِ قال له أما إذا أبيْتَ فإنَّهُ أمرٌ بينَ أمرين لا جَبْرٌ ولا تفويض .
النبيُ صلى الله عليه وسلم قال (إذا ذُكِرَ القدرُ فأمسِكوا) معناهُ لا تتَوَغَّلوا في البحثِ والخوضِ فيهِ للوصولِ إلى سِرَّهِ,هذا مُنِعْنا منهُ لأنه بحرٌ ليس له سفينة
أما تفسيرُ القدرِ الذي مَرَّ يجِبُ معرِفَتُه, فأصْلُ القدرِ سِرُّ اللهِ تعالى في خَلْقِه , لم يَطَّلِع على ذلك ملَكٌ مُقَرَّبٌ ولا نبيٌّ مُرسَلٌ فمهما تَكَلَّفَ بعضُ الناسِ الخَوْضَ في ذلكَ للوصولِ إلى سِرِّ القدرِ فلن يستطيعوا لأن اللهَ أخفى عنّا ذلكَ ونهانا عن طَلَبِهِ وأوْجَبَ علينا التَّسْليم,وهذا يُعرَفُ من قولِ سيدنا علي( لا جَبْرٌ ولا تفويض) يُريدُ بهِ أنَّ عقيدةَ أهل الحقِّ أن العبدَ لهُ اختِيارٌ ممزوجٌ بِجبرٍ وأن العبدَ مُختارٌ تحتَ مشيئةِ الله , وأننا لا نقولُ بِمقالِةِ الجبريَّةِ القائِلينَ أن العبدَ لا فِعْلَ لهُ بالمَرَّةِ وإنما هو كالرّيشَةِ المُعَلَّقَةِ في الهواءِ تأخُذها الرِّياحُ يَمْنةً ويسْرة, ولا نقولُ بِمقالِةِ المعتزِلَةِ القائِلينَ بأن العبدَ يخلُقُ أفعالَهُ ,إنما نحنُ وسَطٌ بين الجبريةِ القدرِيَةِ أي المعتزلة
ولا تُقالُ هذه العِبارةُ (الإنسان مُسَيَّرٌ أم مُخَيَّر) فهذه الكلمَةُ غلَطٌ لُغةً وشرعاً, فالناسُ مُسَيَّرونَ بمعنى أن اللهَ يُمَكِّنُهُم من السَّيرِ في البرِّ والبحرِ كما قال تعالى {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ }يونس22 معناهُ اللهُ تعالى هو الذي يُمَكِّننا من السِّيْر, هو الذي يخْلُقُ فينا الحركةَ الاختياريةَ والحركةَ غير الاختيارية, وكذلكَ الحقُّ أن نقولَ:العبدُ مُختارٌ تحتَ مشيئَةِ الله
المُختارُ من الاختيارِ وأما مُخَيَّرٌ فَمِنَ التَّخييرِ أي الذي يُخَيَّرُ بين أمريْنِ ونحو ذلك,فالتَّخْييرُ هنا لا معنى له, وما أكثرُ ما يُلهَجُ بذلك
والمُختارُ هو المختارُ لِفِعلِهِ تحتَ مشيئةِ الله
وفي الخاتِمَةِ نقولُ في الرَدِّ على نُفاةِ القدرِ(المعتزلة)ما قالَهُ الإمام الكبيرُ أبو حنيفة النعمان(الكلامُ بيننا وبين القدرِيَةِ في حَرْفَيْنِ يُقالُ لهم هل عَلِمَ اللهِ ما يكونُ من العِبادِ قبلَ أن يفعلوا فإن قالوا لا كفروا لأنَّهُم جَهَّلوا رَبَّهُم,وإنْ ْقالوا عَلِمَ يُقالُ لهم هل شاءَ خِلافَ ما عَلِمَهُ,فإن قالوا نعم كفروا لأنهم قالوا شاءَ أن يكونَ جاهِلاً,وإن قالوا لا رجعوا إلى قَوْلِنا)
لذلكَ قال الإمامُ الشافعي(القدريُّ –المعتزلة-إذا سَلَّمَ العِلمَ خُصِم)
فمَن أرادَ النَّجاةَ في الآخرةِ فَلْيَقِفْ عندَ قولِهِ تعالى {لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ }الأنبياء23 فلا يُقالُ كيفَ يُعذِّبُ اللهُ العُصاةَ على معاصيهِم التي شاءَ وقوعَها منهم فاللهُ تعالى لا يُسألُ عمّا يفعلُ وهم أي العبادُ يُسألونَ فلا يجوزُ أن نقيسَ اللهَ على أنفِسِنا
فالذي يقولُ كيفَ يُعَذِّبُ اللهُ العُصاةَ على المعاصي التي شاءَ وقوعها منهم باختِيارِهِم يُعَدُّ مُعتَرِضاً على اللهِ والمُعتَرِضُ على اللهِ كافِرٌ فرَبُّنا لا يُسألُ عمّا يفعل,نحنُ مُلْكٌ للهِ واللهُ يتصَرَّفُ في مُلكِهِ كيفما يشاءُ فلا يُعْتَرَضُ عليه,وأما من سألَ لِيفهَمَ الحِكمَةَ فليس حرام
نسألُ اللهَ تعالى أن يُثَبِّتَنا على الهُدى وأن يُبعِدَنا عن الضَّلالِ إنه على كلِّ شيءٍ قدير وصلى اللهُ على سيدنا محمد وعلى آلهِ وأصحابِهِ الطّيِّبين الطّاهِرين
ارجو ممن استفاد من هذا الدرس الدعاء لي بالموت شهيد المعركة وبارك الله بكم