الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أجل
التّعريف
1 - أجل الشّيء لغةً : مدّته ووقته الّذي يحلّ فيه ، وهو مصدر أجل الشّيء أجلاً من باب تعب ، وأجّلته تأجيلاً جعلت له أجلاً ، والآجل - على وزن فاعل - خلاف العاجل . إطلاقات الأجل في كتاب اللّه تعالى :
2 - ورد إطلاق الأجل على أمور :
أ - على نهاية الحياة : قال اللّه تعالى : { ولكلّ أمّة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون } .
ب - وعلى نهاية المدّة المضروبة أجلاً لانتهاء التزام أو لأدائه . قال اللّه تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمًّى فاكتبوه } .
ج - وعلى المدّة أو الزّمن . قال جلّ شأنه : { ونقرّ في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمًّى } .
الأجل في اصطلاح الفقهاء
3 - الأجل هو المدّة المستقبلة الّتي يضاف إليها أمر من الأمور ، سواء كانت هذه الإضافة أجلاً للوفاء بالتزام ، أو أجلاً لإنهاء التزام ، وسواء كانت هذه المدّة مقرّرةً بالشّرع ، أو بالقضاء ، أو بإرادة الملتزم فرداً أو أكثر . وهذا التّعريف يشمل : أوّلاً : الأجل الشّرعيّ ، وهو المدّة المستقبلة الّتي حدّدها المشرّع الحكيم سبباً لحكم شرعيّ ، كالعدّة . ثانياً : الأجل القضائيّ : وهو المدّة المستقبلة الّتي يحدّدها القضاء أجلاً لأمر من الأمور كإحضار الخصم ، أو البيّنة . ثالثاً : الأجل الاتّفاقيّ ، وهو المدّة المستقبلة الّتي يحدّدها الملتزم موعداً للوفاء بالتزامه ( أجل الإضافة ) ، أو لإنهاء تنفيذ هذا الالتزام ( أجل التّوقيت ) سواء كان ذلك فيما يتمّ من التّصرّفات بإرادة منفردة أو بإرادتين . خصائص الأجل :
4 - أ - ( الأجل هو زمن مستقبل ) ب - الأجل هو أمر محقّق الوقوع . وتلك خاصّيّة الزّمن ، وفي تحقيق ذلك يقول الكمال بن الهمام : « إنّه يترتّب على الإضافة تأخير الحكم المسبّب إلى وجود الوقت المعيّن الّذي هو كائن لا محالة ، إذ الزّمان من لوازم الوجود الخارجيّ ، فالإضافة إليه إضافة إلى ما قطع بوجوده » .
ج - الأجل أمر زائد على أصل التّصرّف . وذلك يحقّقه أنّ التّصرّفات قد تتمّ منجّزةً ، وتترتّب أحكامها عليها فور صدور التّصرّف ، ولا يلحقها تأجيل ، وقد يلحقها الأجل ، كتأجيل الدّين ، أو العين أو تأجيل تنفيذ آثار العقد ( فيما يصحّ فيه ذلك ) قال السّرخسيّ والكاسانيّ ما حاصله : إنّ الأجل يعتبر أمراً لا يقتضيه العقد ، وإنّما شرع رعايةً للمدين على خلاف القياس .
( الألفاظ ذات الصّلة )
التّعليق
5 - هو لغةً : ربط أمر بآخر . واصطلاحاً : أن يربط أثر تصرّف بوجود أمر معدوم . والفرق بين التّعليق والأجل أنّ التّعليق يمنع المعلّق عن أن يكون سبباً للحكم في الحال ، أمّا الأجل فلا صلة له بالسّبب وإنّما هو لبيان زمن فعل التّصرّف .
( الإضافة )
6 - هي لغةً : نسبة الشّيء إلى الشّيء مطلقاً . واصطلاحاً : تأخير أمر التّصرّف عن وقت التّكلّم إلى زمن مستقبل يحدّده المتصرّف بغير أداة شرط . والفرق بين الإضافة والأجل أنّ الإضافة فيها تصرّف وأجل ، في حين أنّ الأجل قد يخلو من إيقاع تصرّف . ففي كلّ إضافة أجل . التّوقيت :
7 - هو لغةً : تقدير زمن الشّيء . واصطلاحاً ثبوت الشّيء في الحال وانتهاؤه في وقت معيّن . فالفرق بينه وبين الأجل أنّ الأجل وقت مضروب محدود في المستقبل .
( المدّة ) :
8 - باستقصاء ما يوجد في الفقه الإسلاميّ نجد أنّ للمدّة المستقبلة استعمالات أربعةً : هي مدّة الإضافة ، ومدّة التّوقيت ، ومدّة التّنجيم ، ومدّة الاستعجال . وبيانها فيما يلي : مدّة الإضافة :
9 - وهي المدّة المستقبلة الّتي يضاف إليها ابتداءً تنفيذ آثار العقد ، أو تسليم العين ، أو تسليم الثّمن ( للدّين ) .
فمثال الأوّل : ما إذا قال : « إذا جاء عيد الأضحى فقد وكّلتك في شراء أضحيّة لي " فقد أضاف عقد الوكالة إلى زمن مستقبل ، وقد صرّح جمهور الفقهاء بصحّة ذلك .
ومثال الثّاني : ما جاء في السّلم ، من إضافة العين المسلم فيها إلى زمن معلوم لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم أو وزن معلوم إلى أجل معلوم » .
ومثال الثّالث : ما إذا باع بثمن مؤجّل فإنّه يصحّ ؛ لقوله تعالى : « يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمًّى فاكتبوه » .
( مدّة التّوقيت )
10 - وهي المدّة المستقبلة الّتي يستمرّ فيها تنفيذ الالتزام حتّى انقضائها ، وذلك كما في العقود المؤقّتة ، كما في الإجارة ، فإنّها لا تصحّ إلاّ على مدّة معلومة ، أو على عمل معيّن يتمّ في زمن ، وبانتهائها ينتهي عقد الإجارة ومدّة عقد الإجارة تعتبر أجلاً . مصداق ذلك قوله تعالى { قال إنّي أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج فإن أتممت عشراً فمن عندك وما أريد أن أشقّ عليك ستجدني إن شاء اللّه من الصّالحين . قال ذلك بيني وبينك أيّما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ واللّه على ما نقول وكيل . } كما أنّ اللّغة العربيّة تجعل " التّأجيل تحديد الوقت " " والتّوقيت تحديد الأوقات ، يقال : وقّته ليوم كذا توقيتاً مثل أجّل » . مدّة التّنجيم :
11 - جاء في مختار الصّحّاح : النّجم لغةً الوقت المضروب ، ومنه سمّي المنجّم ، ويقال : نجّم المال تنجيماً إذا أدّاه نجوماً ( أقساطاً ) ، والتّنجيم اصطلاحاً هو " التّأخير لأجل معلوم ، نجماً أو نجمين " أو هو " المال المؤجّل بأجلين فصاعداً ، يعلم قسط كلّ نجم ومدّته من شهر أو سنة أو نحوهما " فالتّنجيم نوع من الأجل يرد على الدّين المؤجّل فيوجب استحقاق بعضه عند زمن مستقبل معيّن ، ثمّ يليه البعض الآخر لزمن آخر معلوم يلي الزّمن الأوّل وهكذا . ومن بين ما برز فيه التّنجيم : أ - دين الكتابة : فقد اتّفق الفقهاء على جواز تنجيم مال الكتابة . ( والمراد بالكتابة اتّفاق السّيّد وعبده على مال ينال العبد نظيره حرّيّة التّصرّف في الحال ، والرّقبة في المال ، بعد أداء المال ) ، واختلفوا في لزوم ذلك ، فيرى المالكيّة على الرّاجح ، والشّافعيّة والحنابلة أنّ الكتابة لا تكون إلاّ بمال مؤجّل منجّم ، وسيأتي التّعرّض لذلك في الدّيون المؤجّلة . والفقه الإسلاميّ يجعل التّنجيم نوعاً من الأجل .
ب - الدّية في القتل شبه العمد والخطأ : تجب الدّية في القتل شبه العمد والخطأ على العاقلة مؤجّلةً منجّمةً على ثلاث سنوات في كلّ سنة ثلث الدّية ، وهذا ما صرّح به فقهاء الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
ج - الأجرة : جاء في المغني أنّه " إذا شرط تأجيل الأجر فهو إلى أجله ، وإن شرطه منجّماً يوماً يوماً ، أو شهراً شهراً ، أو أقلّ من ذلك أو أكثر ، فهو على ما اتّفقا عليه ؛ لأنّ إجارة العين كبيعها ، وبيعها يصحّ بثمن حالّ أو مؤجّل ، فكذلك إجارتها » .
( مدّة الاستعجال ) :
12 - المراد بها : الوقت الّذي يقصد بذكره في العقد استعجال آثار العقد ، وذكر الوقت للاستعجال تعرّض له الفقهاء في الإجارة ، فقالوا إنّ الإجارة على ضربين . أحدهما : أن يعقدها على مدّة . والثّاني : أن يعقدها على عمل معلوم ، ومتى تقدّرت المدّة لم يجز تقدير العمل عند أبي حنيفة والشّافعيّة والحنابلة ؛ لأنّ الجمع بينهما يزيد الإجارة غرراً ؛ لأنّه قد يفرغ من العمل قبل انقضاء المدّة . فإن استعمل في بقيّة المدّة فقد زاد على ما وقع عليه العقد ، وإن لم يعمل كان تاركاً للعمل في بعض المدّة ، وقد لا يفرغ من العمل في المدّة ، فإن أتمّه عمل في غير المدّة ، وإن لم يعمله لم يأت بما وقع عليه العقد ، وهذا غرر ، أمكن التّحرّز عنه ، ولم يوجد مثله في محلّ الوفاق ، فلم يجز العقد معه . ويرى أبو يوسف ومحمّد ، وهو مرويّ عن الإمام أحمد أنّه تجوز الإجارة هنا ؛ لأنّ الإجارة معقودة على العمل ، والمدّة مذكورة للتّعجيل فلا يمتنع ذلك . فعلى هذا إذا فرغ من العمل قبل انقضاء المدّة لم يلزمه شيء آخر ، كما لو قضى الدّين قبل أجله ، وإن مضت المدّة قبل العمل فللمستأجر فسخ الإجارة ؛ لأنّ الأجير لم يف له بشرطه ، وإن رضي بالبقاء عليه لم يملك الأجير الفسخ ؛ لأنّ الإخلال بالشّرط منه ، فلا يكون ذلك وسيلةً إلى الفسخ ، كما لو تعذّر أداء المسلم فيه في وقته فيملك المسلم إليه الفسخ . ويملكه المسلم ، فإن اختار إمضاء العقد طالبه بالعمل لا غير ، كالمسلم إذا صبر عند تعذّر المسلم فيه إلى حين وجوده لم يكن له أكثر من المسلم فيه ، وإن فسخ العقد قبل عمل شيء من العمل سقط الأجر والعمل ، وإن كان بعد عمل شيء منه فله أجر مثله ؛ لأنّ العقد قد انفسخ فسقط المسمّى ، ورجع إلى أجل المثل .
تقسيمات الأجل باعتبار مصدره
ينقسم الأجل باعتبار مصدره إلى ثلاثة أقسام : أجل شرعيّ ، وأجل قضائيّ ، وأجل اتّفاقيّ . ونتناول فيما يلي التّعريف بكلّ قسم ، وذكر ما يندرج تحته من أنواع . جاعلين لكلّ قسم فصلاً مستقلّاً . الفصل الأوّل الأجل الشّرعيّ الأجل الشّرعيّ : هو المدّة الّتي حدّدها الشّرع الحكيم سبباً لحكم شرعيّ .
ويندرج تحت هذا النّوع الآجال الآتية :
( مدّة الحمل )
13 - مدّة الحمل هي الزّمن الّذي يمكثه الجنين في بطن أمّه ، وقد بيّن الفقه الإسلاميّ أقلّ مدّة الحمل وأكثره ، وقد استنبطت هذه المدّة ممّا ورد في القرآن الكريم ، وذلك لما روى الأثرم بإسناده عن أبي الأسود أنّه : رفع إلى عمر أنّ امرأةً ولدت لستّة أشهر ، فهمّ عمر برجمها ، فقال له عليّ : ليس لك ذلك ، قال اللّه تعالى : { والوالدات يرضعن أولادهنّ حولين كاملين } وقال تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } فحولان وستّة أشهر ثلاثون شهراً ، لا رجم عليها . فخلّى عمر سبيلها ، وولدت مرّةً أخرى لذلك الحدّ . كما بيّن الفقه الإسلاميّ أكثر مدّة الحمل ، فيرى جمهور الفقهاء ( المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة في أصحّ الرّوايتين ) أنّها أربع سنوات . وفي رأي للمالكيّة أنّها خمس سنوات ، ويرى الحنفيّة ، وهو رواية في مذهب الحنابلة ، أنّها سنتان . وقد جاء في مغني المحتاج أنّ أكثر مدّة الحمل دليله الاستقراء ، وحكي عن مالك أنّه قال : « جارتنا امرأة محمّد بن عجلان ، امرأة صدق ، وزوجها رجل صدق ، حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنةً ، تحمل كلّ بطن أربع سنين » . وقد روي هذا عن غير المرأة المذكورة ، وقيل إنّ أبا حنيفة حملت أمّه به ثلاث سنين وفي صحّته كما قال ابن شيبة نظر ؛ لأنّ مذهبه أنّ أكثر مدّة الحمل سنتان ، فكيف يخالف ما وقع في نفسه ؟ " قال ابن عبد السّلام : وهذا مشكل مع كثرة الفساد في هذا الزّمان » .
مدّة الهدنة :
14 - يرى الحنفيّة والمالكيّة وهو ظاهر الرّواية عن الإمام أحمد أنّه يجوز موادعة أهل الحرب عشر سنين ، كما « وادع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أهل مكّة » . ويجوز أن تكون المدّة أقلّ من ذلك أو أكثر أو دون تحديد ، ما دامت مصلحة المسلمين في ذلك . أمّا إذا لم تكن مصلحة المسلمين في ذلك فلا يجوز ، لقوله تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السّلم وأنتم الأعلون } . ويرى الإمام الشّافعيّ وهو رواية أخرى عند الحنابلة أنّه لا تجوز مهادنة المشركين أكثر من عشر سنين ، استناداً إلى ما يروى عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية . فإن هودن المشركون أكثر من ذلك فالهدنة منتقضة ؛ لأنّ الأصل فرض قتال المشركين حتّى يؤمنوا أو يعطوا الجزية . والتّفصيلات في مصطلح ( هدنة ) .
مدّة تعريف اللّقطة :
15 - مدّة تعريفها ثبتت بالشّرع ، والأصل فيها ما روي عن زيد بن خالد بن زيد الجهنيّ صاحب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « سئل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن اللّقطة الذّهب أو الورق فقال : اعرف وكاءها وعفاصها ، ثمّ عرّفها سنةً . فإن جاء طالبها يوماً من الدّهر فأدّها إليه . وسأله عن ضالّة الإبل ، فقال : مالك ولها ؟ دعها ، فإنّ معها حذاءها وسقاءها ، ترد الماء وتأكل الشّجر ، حتّى يجدها ربّها . وسأله عن الشّاة فقال : خذها فإنّما هي لك ، أو لأخيك أو للذّئب » . رواه مسلم . وللفقهاء في الزّيادة عن هذه المدّة أو النّقص منها حسب أهمّيّة المال أقوال يرجع إليها في مصطلح ( لقطة ) .
مدّة وجوب الزّكاة :
16 - روى أبو عبد اللّه بن ماجه في السّنن بإسناده عن عمر عن عائشة قالت : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لا زكاة في مال حتّى يحول عليه الحول » وقد اعتبر الحول في زكاة السّوائم ، والأثمان ( الذّهب والفضّة ) وقيم عروض التّجارة . وأمّا الزّروع والثّمار والمعدن فإنّه لا يعتبر فيها الحول .
( مدّة تأجيل العنّين ) :
17 - إذا ثبتت عنّة الزّوج ضرب القاضي له سنةً كما فعل عمر رضي الله عنه ، رواه الشّافعيّ والبيهقيّ وغيرهما ، وروي أيضاً عن عليّ وابن مسعود وعثمان والمغيرة بن شعبة ، وقال في النّهاية : أجمع المسلمون على اتّباع قضاء عمر رضي الله عنه في قاعدة الباب . والمعنى فيه مضيّ الفصول الأربعة ؛ لأنّ تعذّر الجماع قد يكون لعارض حرارة فتزول في الشّتاء . أو برودة فتزول في الصّيف ، أو يبوسة فتزول في الرّبيع ، أو رطوبة فتزول في الخريف . فإذا مضت السّنة ، ولا إصابة ، علمنا أنّه عجز خلقيّ .
مدّة الإمهال في الإيلاء :
18 - إذا آلى الرّجل من زوجته أمهل وجوباً أربعة أشهر ، لقوله تعالى { للّذين يؤلون من نسائهم تربّص أربعة أشهر فإن فاءوا فإنّ اللّه غفور رحيم } . فإن وطئها في الأربعة الأشهر حنث في يمينه ولزمته الكفّارة ، وسقط الإيلاء بالإجماع ، وإن لم يقربها حتّى مضت الأربعة أشهر بانت منه بتطليقة عند الحنفيّة ، وهو قول ابن مسعود ، ويرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو ثور أنّه إذا انقضت هذه المدّة يخيّر المولى بين الفيئة والتّكفير ، وبين الطّلاق للمحلوف عليها ، وهو قول عليّ وابن عمر .
مدّة الرّضاع
19 - يرى جمهور الفقهاء : المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة ، أنّ مدّة الرّضاع الّتي إذا وقع الرّضاع فيها تعلّق به التّحريم سنتان ، لقوله تعالى : { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } ومدّة الحمل أدناها ستّة أشهر ، فبقي للفصال حولان . وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عبّاس : قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا رضاع إلاّ ما كان في الحولين » رواه الدّارقطنيّ ، وظاهر " أنّ المراد نفي الأحكام ، وقال : لم يسنده عن ابن عيينة إلاّ الهيثم بن جميل ، وهو ثقة حافظ " ويرى أبو حنيفة أنّ مدّة الرّضاع ثلاثون شهراً ؛ لقوله تعالى { وحمله وفصاله ثلاثون شهراً } ووجهه أنّ اللّه سبحانه وتعالى ذكر شيئين وضرب لهما مدّةً ، فكانت تلك المدّة لكلّ واحد منهما بكمالها ، كالأجل المضروب للدّينين على شخصين ، بأن قال أجّلت الدّين الّذي لي على فلان ، والدّين الّذي لي على فلان سنةً ، فإنّه يفهم منه أنّ السّنة بكمالها لكلّ ، وكالأجل المضروب للدّينين على شخص ، مثل أن يقول : لفلان عليّ ألف درهم وعشرة أقفزة إلى سنة ، فصدّقه المقرّ له في الأجل ، فإذا مضت السّنة يتمّ أجلهما جميعاً ، إلاّ أنّه قام المنقّص في أحدهما ، يعني في مدّة الحمل ، وهو قول عائشة رضي الله عنها الولد لا يبقى في بطن أمّه أكثر من سنتين ولو بقدر فلكة مغزل " وفي رواية " ولو بقدر ظلّ مغزل ومثله ممّا لا يقال إلاّ سماعاً ؛ لأنّ المقدّرات لا يهتدي إليها العقل . وروي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الولد لا يبقى في بطن أمّه أكثر من سنتين » فتبقى مدّة الفصال على ظاهرها . ويرى زفر أنّ مدّة الرّضاع ثلاثة أحوال ، وذلك لأنّه لا بدّ للصّبيّ من مدّة يتعوّد فيها غذاءً آخر غير اللّبن ، لينقطع الإنبات باللّبن ، وذلك بزيادة مدّة يتعوّد فيها الصّبيّ تغيّر الغذاء ، والحول حسن للتّحوّل من حال إلى حال ، لاشتماله على الفصول الأربعة ، فقدّر بثلاثة أحوال .
أجل العدّة
20 - العدّة أجل ضربه الشّرع للمطلّقة أو المتوفّى عنها زوجها أو من فسخ نكاحها . فالحامل في كلّ ما ذكر عدّتها وضع الحمل . والمتوفّى عنها زوجها - ما لم تكن حاملاً - عدّتها أربعة أشهر وعشر ، سواء كانت مدخولاً بها أم لا . والمطلّقة المدخول بها غير الحامل والآيسة والصّغيرة ثلاثة أقراء ، على الخلاف بين الفقهاء في تفسير القرء أهو الطّهر أم الحيض ، وعدّة الصّغيرة الّتي لم تحض والآيسة ثلاثة أشهر . وتفصيل ذلك في مصطلح ( عدّة ) .
مدّة خيار الشّرط ) :
21 - يرى جمهور الفقهاء جواز خيار الشّرط واختلفوا في تحديد هذه المدّة ، فيرى أبو حنيفة وزفر والشّافعيّة أنّه يجوز خيار الشّرط في البيع للبائع أو المشتري ، أو لهما ، ثلاثة أيّام فما دونها ، والأصل فيه ما روي « أنّ حبّان بن منقذ بن عمرو الأنصاريّ رضي الله عنه كان يغبن في البياعات ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إذا بايعت فقل : لا خلابة ، ولي الخيار ثلاثة أيّام . » ويرى أبو يوسف ومحمّد وابن المنذر والحنابلة أنّه يجوز إذا سمّى مدّةً معلومةً وإن طالت . وحكي ذلك عن الحسن بن صالح وابن أبي ليلى وإسحاق وأبي ثور . واستدلّوا بما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنّه أجاز البيع إلى شهرين ، وأنّ الخيار حقّ يعتمد على الشّرط ، فرجع في تقديره إلى مشترطه ، كالأجل ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « المسلمون عند شروطهم » . ولأنّ الخيار إنّما شرع للحاجة إلى التّروّي ليندفع الغبن ، وقد تمسّ الحاجة إلى أكثر من ثلاثة أيّام ، كالتّأجيل في الثّمن ، فإنّ الأجل شرع للحاجة إلى التّأخير ، مخالفاً لمقتضى العقد ، ثمّ جاز أيّ مقدار تراضيا عليه . ويرى المالكيّة أنّ مدّة الخيار تختلف باختلاف السّلع ، فإنّ القصد ما تختبر فيه تلك السّلعة ، وذلك يختلف باختلاف السّلع بقدر الحاجة ، ويضرب من الأجل أقلّ ما يمكن ؛ تقليلاً للغرر ، كشهر في دار ، وكثلاث في دابّة . وإذا كانت المدّة المشترطة مجهولةً ، كما إذا شرط الخيار أبداً ، أو متى شاء ، أو قال أحدهما : ولي الخيار ، ولم يذكر مدّته ، أو شرطاه إلى مدّة مجهولة كقدوم زيد ، أو نزول المطر ، أو مشاورة إنسان ، ونحو ذلك ، لم يصحّ في الصّحيح من مذهب الحنابلة ومذهب الشّافعيّة . وروي عن أحمد أنّه يصحّ ، وهما على خيارهما أبداً أو يقطعاه ، أو تنتهي مدّته إن كان مشروطاً إلى مدّة ، وهو قول ابن شبرمة ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « المسلمون عند شروطهم » . وقال مالك : يصحّ ، ويضرب لهما مدّة يختبر المبيع في مثلها في العادة ، لأنّ ذلك مقرّر في العادة " ، وقال أبو حنيفة : إن أسقطا الشّرط قبل مضيّ الثّلاث ، أو حذف الزّائد عليها وبيّنّا مدّته ، صحّ ؛ لأنّهما حذفا المفسد قبل اتّصاله بالعقد ، فوجب أن يصحّ كما لو لم يشترطاه .
مدّة الحيض :
22 - أقلّ مدّة الحيض يوم وليلة عند الشّافعيّة والحنابلة ، وأكثرها خمسة عشر يوماً بلياليها ، وذلك لأنّه ورد في الشّرع مطلقاً دون تحديد ، ولا حدّ له في اللّغة ولا في الشّريعة ، فيجب الرّجوع فيه إلى العرف والعادة ، كما في القبض والإحراز والتّفرّق وأشباهها . وقد وجد حيض معتاد يوماً . قال عطاء : رأيت من النّساء من تحيض يوماً وتحيض خمسة عشر . ويرى الحنفيّة أنّ أقلّ الحيض ثلاثة أيّام ولياليها ، وما نقص عن ذلك فهو استحاضة ، وذلك لقوله عليه الصلاة والسلام : « أقلّ حيض الجارية البكر والثّيّب ثلاثة أيّام ، وأكثر ما يكون عشرة أيّام ، فإذا زاد فهي مستحاضة » ، وعن أبي يوسف أنّه يومان والأكثر من الثّالث ، إقامةً للأكثر مقام الكلّ ، وأكثر الحيض عشرة أيّام ولياليها ، والزّائد استحاضة . ويرى المالكيّة أنّه لا حدّ لأقلّ الحيض بالزّمان ، وأكثره لمبتدأة غير حامل تمادى بها نصف شهر ، وأكثره لمعتادة غير حامل سبق لها حيض ولو مرّةً ثلاثة أيّام زيادةً على أكثر عادتها أيّاماً لا وقوعاً . وفي ذلك تفصيل موطنه مصطلح ( حيض ) .
مدّة الطّهر
23 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والثّوريّ أنّ أقلّ الطّهر بين الحيضتين خمسة عشر يوماً ، واستدلّ الحنفيّة على ذلك بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أقلّ الحيض ثلاثة ، وأكثره عشرة أيّام ، وأقلّ ما بين الحيضتين خمسة عشر يوماً » منقول عن إبراهيم النّخعيّ ، وقد قيل : أجمعت الصّحابة عليه ؛ ولأنّه مدّة اللّزوم ، فكان كمدّة الإقامة . واستدلّ الشّافعيّة على ذلك بأنّ الشّهر غالباً لا يخلو عن حيض وطهر ، وإذا كان أكثر الحيض - على رأيهم - خمسة عشر يوماً لزم أن يكون أقلّ الطّهر كذلك ، ولا حدّ لأكثر الطّهر بالإجماع ، فقد لا تحيض المرأة في عمرها إلاّ مرّةً ، وقد لا تحيض أصلاً . ويرى الحنابلة أنّ أقلّ الطّهر بين الحيضتين ثلاثة عشر ، لما روي عن عليّ : « أنّ امرأةً جاءته ، وقد طلّقها زوجها ، فزعمت أنّها حاضت في شهر ثلاث حيض ، طهرت عند كلّ قرء وصلّت . فقال عليّ لشريح : قل فيها . فقال شريح : إن جاءت ببيّنة من بطانة أهلها ، ممّن يرضى دينه وأمانته ، فشهدت بذلك ، وإلاّ فهي كاذبة . فقال عليّ : قالون " أي جيّد ، بالرّوميّة . رواه الإمام أحمد بإسناده . وهذا لا يقوله إلاّ توقيفاً ، ولأنّه قول صحابيّ انتشر ، ولم يعلم خلافه .
سنّ الإياس :
24 - اختلف الفقهاء في تقدير سنّ الإياس اختلافاً كبيراً : فيرى بعضهم أنّه لا تقدير لسنّ الإياس ، وإياس المرأة على هذا أن تبلغ من السّنّ ما لا يحيض فيه مثلها . فإذا بلغت هذا المبلغ ، وانقطع الدّم ، حكم بإياسها ، ويمكن أن يراد بمثلها فيما ذكر المماثلة في تركيب البدن ، والسّمن ، والهزال ، وهو رأي في مذهب الحنفيّة . ويرى بعض الفقهاء تقديره بخمسين سنةً ، وهو قول للشّافعيّة ، ورواية عن الإمام أحمد . وقال إسحاق بن راهويه : لا يكون حيض بعد الخمسين ، ويكون حكمها فيما تراه من الدّم حكم المستحاضة ، لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنّها قالت : إذا بلغت المرأة خمسين سنةً خرجت من حدّ الحيض " وروي عنها أنّها قالت : « لن ترى المرأة في بطنها ولداً بعد الخمسين . ويرى بعض الشّافعيّة ، وهو رواية عن الإمام أحمد ، أنّها لا تيأس من المحيض يقيناً إلى ستّين سنةً . ويرى الشّافعيّة - على أشهر الأقوال - أنّ سنّ الإياس اثنتان وستّون سنةً . ويرى المالكيّة أنّه يتحقّق في سنّ السّبعين ، ومثله عن بعض الشّافعيّة ، وأنّها بعد الخامسة والخمسين مشكوك في يأسها ، فيرجع فيما تراه إلى النّساء لمعرفة هل هو حيض ، أو ليس بحيض ، أمّا من بلغت سنّ السّبعين فلا يسأل عنها .
( مدّة النّفاس ) :
25 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا حدّ لأقلّ النّفاس ، فأيّ وقت رأت المرأة الطّهر اغتسلت ، وهي طاهر ، واختلفوا في أكثره : فيرى جمع من العلماء أنّ أكثر النّفاس أربعون يوماً . قال أبو عيسى التّرمذيّ : أجمع أهل العلم من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم على أنّ النّفساء تدع الصّلاة أربعين يوماً ، إلاّ أن ترى الطّهر قبل ذلك ، فتغتسل وتصلّي . وقال أبو عبيد : وعلى هذا جماعة النّاس ، وروي هذا عن عمر وابن عبّاس وعثمان بن أبي العاص وعبد اللّه بن عمر وأنس وأمّ سلمة رضي الله عنهم ، وبه قال الثّوريّ وإسحاق والحنفيّة والحنابلة . واستدلّوا بما روى أبو سهل كثير بن زياد عن مسّة الأزديّة عن أمّ سلمة قالت : « كانت النّفساء تجلس على عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أربعين يوماً وأربعين ليلةً . » وروى الحكم بن عتيبة عن مسّة الأزديّة عن « أمّ سلمة أنّها سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم : كم تجلس المرأة إذا ولدت ؟ قال : أربعين يوماً ، إلاّ أن ترى الطّهر قبل ذلك » رواه الدّارقطنيّ ، قال ابن قدامة : ولأنّه قول من سمّينا من الصّحابة ، ولم نعرف لهم مخالفاً في عصرهم فكان إجماعاً ، وقد حكاه التّرمذيّ إجماعاً ، ونحوه حكى أبو عبيد . ويرى المالكيّة والشّافعيّة أنّ أكثره ستّون يوماً ، وحكى ابن عقيل عن أحمد بن حنبل روايةً مثل قولهما ، لأنّه روي عن الأوزاعيّ أنّه قال : عندنا امرأة ترى النّفاس شهرين ، وروي مثل ذلك عن عطاء أنّه وجده ، والمرجع في ذلك إلى الوجود ، وقال الشّافعيّة : إنّ غالبه أربعون يوماً .
سنّ البلوغ :
26 - لقد جعل الشّارع البلوغ أمارةً على تكامل العقل ؛ لأنّ الاطّلاع على تكامل العقل متعذّر ، فأقيم البلوغ مقامه . وقد اختلف في سنّ البلوغ : فيرى الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد من الحنفيّة ، وبرأيهما يفتى في المذهب ، والأوزاعيّ ، أنّ البلوغ بالسّنّ يكون بتمام خمس عشرة سنةً قمريّةً للذّكر والأنثى ( تحديديّة كما صرّح الشّافعيّة ) ، لخبر « ابن عمر . عرضت على النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم أحد وأنا ابن أربع عشرة سنةً ، فلم يجزني ولم يرني بلغت ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنةً ، فأجازني ، ورآني بلغت » . رواه ابن حبّان ، وأصله في الصّحيحين قال الشّافعيّ : « ردّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سبعة عشر من الصّحابة وهم أبناء أربع عشرة سنةً ، لأنّه لم يرهم بلغوا ، ثمّ عرضوا عليه وهم أبناء خمس عشرة ، فأجازهم ، منهم زيد بن ثابت ، ورافع بن خديج ، وابن عمر » . وروي عن أنس أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا استكمل المولود خمس عشرة سنةً كتب ما له وما عليه ، وأخذت منه الحدود » . ويرى المالكيّة أنّ البلوغ يكون بتمام ثماني عشرة سنةً ، وقيل بالدّخول فيها ، أو الحلم أي الإنزال ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « رفع القلم عن ثلاث : عن الصّبيّ حتّى يحتلم . . . » ، أو الحيض لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل اللّه صلاة حائض إلاّ بخمار » ، أو الحبل للأنثى ، أو الإنبات الخشن للعانة . وقد أورد الحطّاب خمسة أقوال في المذهب ، ففي رواية ثمانية عشر وقيل سبعة عشر ، وزاد بعض شرّاح الرّسالة ستّة عشر ، وتسعة عشر ، وروى ابن وهب خمسة عشر لحديث ابن عمر . ويرى أبو حنيفة أنّ بلوغ الغلام بالسّنّ هو بلوغه ثماني عشرة سنةً ، والجارية سبع عشر سنةً . وذلك لقوله تعالى « ولا تقربوا مال اليتيم إلاّ بالّتي هي أحسن حتّى يبلغ أشدّه » قال ابن عبّاس رضي الله عنه : ثماني عشرة سنةً وهي أقلّ ما قيل فيه ، فأخذ به احتياطاً . هذا أشدّ الصّبيّ ، والأنثى أسرع بلوغاً من الغلام فنقصناها سنةً ، ويرجع في تفصيل الأحكام إلى مصطلحي ( احتلام ) ( وبلوغ ) .
مدّة المسح على الخفّ
27 - يرى الجمهور جواز المسح على الخفّ مدّة يوم وليلة للمقيم ، وثلاثة أيّام ولياليها للمسافر ، وهو رأي الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة والثّوريّ والأوزاعيّ والحسن بن صالح بن حيّ وإسحاق بن راهويه ومحمّد بن جرير الطّبريّ . قال ابن سيّد النّاس في شرح التّرمذيّ : وثبت التّوقيت عن عمر بن الخطّاب ، وعليّ بن أبي طالب ، وابن مسعود ، وابن عبّاس ، وحذيفة ، والمغيرة ، وأبي زيد الأنصاريّ . هؤلاء من الصّحابة ، وروي عن جماعة من التّابعين منهم شريح القاضي ، وعطاء بن أبي رباح ، والشّعبيّ ، وعمر بن عبد العزيز . قال أبو عمر بن عبد البرّ : وأكثر التّابعين والفقهاء على ذلك . واستدلّوا بأحاديث وآثار كثيرة ، منها ما روى صفوان بن عسّال ، قال : « أمرنا - يعني النّبيّ صلى الله عليه وسلم - أن نمسح على الخفّين إذا نحن أدخلناهما على طهر ثلاثةً إذا سافرنا ، ويوماً وليلةً إذا أقمنا ، ولا نخلعهما من غائط ولا بول ولا نوم ، ولا نخلعهما إلاّ من جنابة » . رواه أحمد وابن خزيمة . وقال الخطّابيّ : هو صحيح الإسناد ، وعن عوف بن مالك الأشجعيّ « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر بالمسح على الخفّين في غزوة تبوك ثلاثة أيّام ولياليهنّ للمسافر ، ويوماً وليلةً للمقيم . » رواه أحمد ، وقال : هو أجود حديث في المسح على الخفّين ؛ لأنّه في غزوة تبوك ، وهي آخر غزاة غزاها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وهو آخر فعله . ويرى المالكيّة أنّ المسح على الخفّين غير مؤقّت ، وأنّ لابس الخفّين وهو طاهر يمسح عليهما ما بدا له ، والمسافر والمقيم في ذلك سواء ، ما لم ينزعهما ، أو تصبه جنابة . إلاّ أنّه يندب نزعه كلّ يوم جمعة ، ويستحبّ كلّ أسبوع أيضاً ، وقد استدلّ لهذا الرّأي بما روي عن أبيّ بن عمارة « أنّه قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم : أمسح على الخفّين ؟ قال : نعم قال : يوماً ، قال : ويومين ؟ قال : وثلاثة أيّام ؟ قال : نعم وما شئت » . وفي رواية « حتّى بلغ سبعاً ، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : نعم ، وما بدا لك » رواه أبو داود ، وروي ذلك عن عمر بن الخطّاب ، وعقبة بن عامر ، وعبد اللّه بن عمر ، والحسن البصريّ ، واللّيث بن سعد . كما أنّهم قاسوه على مسح الرّأس والجبيرة ، فكما أنّ المسح عليهما لا يتوقّت ، فكذلك المسح على الخفّين .
مدّة السّفر
28 - السّفر لغةً قطع المسافة ، وليس كلّ سفر تتغيّر به الأحكام ، من جواز الإفطار ، وقصر الصّلاة الرّباعيّة ، ومسح الخفّ ، وإنّما سفر خاصّ ، حدّده الفقهاء ، وإن اختلفوا في هذا التّحديد : فيرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ طويل السّفر هو المجيز لقصر الصّلاة ، وقالوا : إنّ السّفر الطّويل هو أربعة برد فأكثر برّاً أو بحراً . وقد استدلّ أصحاب هذا الرّأي بما روي أنّ ابن عمر وابن عبّاس كانا يقصران ويفطران في أربعة برد فما فوقها . ولا يعرف لهما مخالف ، وأسنده البيهقيّ بسند صحيح ، قال الخطّابيّ : ومثل هذا لا يكون إلاّ عن توقيف . وروي عن جماعة من السّلف ما يدلّ على جواز القصر في أقلّ من يوم . فقال الأوزاعيّ : كان أنس يقصر فيما بينه وبين خمسة فراسخ . وروي عن عليّ رضي الله عنه أنّه خرج من قصره بالكوفة حتّى أتى النّخيلة فصلّى بها كلّاً من الظّهر والعصر ركعتين ، ثمّ رجع من يومه ، فقال : أردت أن أعلّمكم سنّتكم . ويرى الحنفيّة أنّ السّفر الّذي تتغيّر به الأحكام أن يقصد الإنسان مسيرة ثلاثة أيّام ولياليها ، بسير الإبل ، ومشي الأقدام ، لقوله عليه السلام : « يمسح المقيم كمال يوم وليلة ، والمسافر ثلاثة أيّام ولياليها » عمّ الجنس ، ومن ضرورته عموم التّقدير ؛ ولأنّ الثّلاثة الأيّام متّفق عليها ، وليس فيما دونها توقيف ولا اتّفاق . وقدّره أبو يوسف رحمه الله بيومين وأكثر الثّالث . والسّير المذكور هو الوسط ، ويعتبر في الجبل ما يليق به ، وفي البحر اعتدال الرّياح . فينظر كم يسير في مثله ثلاثة أيّام فيجعل أصلاً » .
الفصل الثّاني الأجل القضائي
29 - المراد بالأجل القضائيّ : الأجل الّذي يضربه القاضي لحضور الخصوم ، أو إحضار البيّنة ، أو إحضار الكفيل ، أو تأجيل المعسر إلى ميسرة . الحضور للتّقاضي :
30 - إنّ الأجل الّذي يضربه القاضي لحضور المتخاصمين موكول إلى تقديره وطبيعة موضوع النّزاع . وللفقهاء تفصيلات كثيرة في هذا ، هي من قبيل الأوضاع الزّمنيّة الّتي تتغيّر ، وتفصيلها في أبواب الدّعوى والقضاء من كتب الفقه .
( إحضار البيّنة ) :
31 - يرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ للقاضي أن يمهل المدّعي ثلاثة أيّام لإحضار البيّنة ، بينما يرى المالكيّة والحنابلة أنّ ذلك موكول لاجتهاد القاضي .
الفصل الثّالث
الأجل الاتّفاقيّ
32 - يقصد به المدّة المستقلّة الّتي يحدّدها الملتزم للوفاء بالتزامه ، سواء أكان هذا الالتزام يقابله التزام من آخر أو لا يقابله ، أو يحدّدها لإنهاء هذا الالتزام . وينقسم هذا النّوع من الأجل إلى قسمين : أجل إضافة ، ومحلّ بيان أحكامه مصطلح ( إضافة ) وأجل توقيت ، وفيما يلي آراء الفقهاء في حكمه :
اشتراط تأجيل تسليم العين في التّصرّفات النّاقلة للملكيّة :
33 - اختلف الفقهاء في صحّة اشتراط تأجيل تسليم ( العين ) إلى المنقول إليه ملكيّتها مدّةً معلومةً للانتفاع بها على رأيين : الأوّل : يرى المالكيّة والحنابلة وهو رأي مرجوح في مذهب الشّافعيّة : أنّه يجوز أن يشترط تأجيل تسليم العين إلى المدّة الّتي يحدّدها المتعاقدان ، وأن يكون المنتفع بها هو النّاقل للملكيّة ، وهذا الرّأي منقول عن الأوزاعيّ ، وابن شبرمة ، وإسحاق ، وأبي ثور . ومن أمثلته : إذا باع داراً على أن يسكنها البائع شهراً ، ثمّ يسلّمها إليه ، أو أرضاً على أن يزرعها سنةً ، أو دابّةً على أن يركبها شهراً ، أو ثوباً على أن يلبسه أسبوعاً . واستدلّ لهذا الرّأي بأنّ عموم الآيات والأحاديث تأمر بالوفاء بالعقود . قال اللّه تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا أوفوا بالعقود . . . } وقال تعالى : { وأوفوا بالعهد إنّ العهد كان مسئولاً } وقال عليه الصلاة والسلام : « المسلمون على شروطهم إلاّ شرطاً حرّم حلالاً ، أو أحلّ حراماً » ، فالآيات والأحاديث تأمر بالوفاء بكلّ عقد وشرط لا يخالف كتاب اللّه ، ولا سنّة رسوله صلى الله عليه وسلم . وبخصوص ما روي عن جابر رضي الله عنه : « أنّه كان يسير على جمل قد أعيا ، فضربه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، فسار سيراً لم يسر مثله . فقال : بعنيه . فبعته واستثنيت حملانه إلى أهلي » . متّفق عليه . فهذا الحديث يدلّ على جواز اشتراط تأجيل تسليم المبيع فترةً ينتفع فيها البائع به ، ثمّ يسلّمه إلى المشتري . ويؤيّده أنّه صلى الله عليه وسلم « نهى عن الثّنيا أي الاستثناء إلاّ أن تعلم » وهذه معلومة ، وأكثر ما فيه تأخير تسليم المبيع مدّة معلومة ، فصحّ . الثّاني : يرى الحنفيّة ، وهو الرّاجح عند الشّافعيّة ، عدم صحّة اشتراط تأجيل تسليم العين . واستدلّوا بما روي عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه « نهى عن بيع وشرط » ، وروي أنّ عبد اللّه بن مسعود اشترى جاريةً من امرأته زينب الثّقفيّة . وشرطت عليه أنّك إن بعتها فهي لي بالثّمن . فاستفتى عمر رضي الله عنه ، فقال : « لا تقربها » ، وفيها شرط لأحد وروي أنّ عبد اللّه بن مسعود اشترى جاريةً واشترط خدمتها ، فقال له عمر لا تقربها وفيها مثنويّة . وأمّا إذا جعل تأجيل تسليم العين لمصلحة أجنبيّ عن العقد ، كما إذا باعه بشرط أن ينتفع بها فلان « الأجنبيّ عن العقد » شهراً ، فلم ير صحّة هذا أحد من الفقهاء غير الحنابلة .
المبحث الثّالث
تأجيل الدّين الدّين : هو مال حكميّ يحدث في الذّمّة ببيع أو استهلاك أو غيرهما .
مشروعيّة تأجيل الدّيون
34 - لقد شرع جواز تأجيل الدّيون بالكتاب والسّنّة والإجماع . أمّا الكتاب فقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمًّى فاكتبوه . . . } فهذه الآية ، وإن كانت لا تدلّ على جواز تأجيل سائر الدّيون ، إلاّ أنّها تدلّ على أنّ من الدّيون ما يكون مؤجّلاً ، وهو ما نقصده هنا من الاستدلال بها على مشروعيّة الأجل . وأمّا السّنّة فما روي عن السّيّدة عائشة رضي الله عنها : « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اشترى من يهوديّ طعاماً إلى أجل ، ورهنه درعاً له من حديد » . رواه مسلم واللّفظ له . فهو يدلّ على مشروعيّة تأجيل الأثمان ، وقد أجمعت الأمّة على ذلك . حكمة قبول الدّين التّأجيل دون العين :
35 - نصّ الفقهاء على أنّ الفرق بين الأعيان والدّيون من حيث جواز التّأجيل في الثّانية دون الأولى : أنّ الأعيان معيّنة ومشاهدة ، والمعيّن حاصل وموجود ، والحاصل والموجود ليس هناك مدعاة لجواز ورود الأجل عليه . أمّا الدّيون : فهي مال حكميّ يثبت في الذّمّة ، فهي غير حاصلة ولا موجودة ، ومن ثمّ شرع جواز تأجيلها ، رفقاً بالمدين ، وتمكيناً له من اكتسابها وتحصيلها في المدّة المضروبة ، حتّى إنّ المشتري لو عيّن النّقود الّتي اشترى بها لم يصحّ تأجيلها . الدّيون من حيث جواز التّأجيل وعدمه :
36 - أوضح الفقهاء أنّ الدّيون تكون حالّةً ، وأنّه يجوز تأجيلها إذا قبل الدّائن ، واستثنى جمهور الفقهاء من هذا الأصل عدّة ديون : أ - ( رأس مال السّلم ) :
37 - وذلك لأنّ حقيقته شراء آجل ، وهو المسلم فيه ( وهو السّلعة ) ، بعاجل ، وهو رأس المال ( وهو الثّمن ) فرأس مال السّلم لا بدّ من كونه حالّاً ، عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ؛ لأنّ من شرط صحّة هذا العقد قبض رأس المال قبل انتهاء مجلس العقد ولأنّه لو تأخّر لكان في معنى بيع الدّين بالدّين ، ( إن كان رأس المال في الذّمّة ) وهو منهيّ عنه ، لما روي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « نهى عن بيع الكالئ بالكالئ » أي النّسيئة بالنّسيئة ؛ ولأنّ في السّلم غرراً ، فلا يضمّ إليه غرر تأخير تسليم رأس المال ، فلا بدّ من حلول رأس المال ، كالصّرف ، فلو تفرّقا قبل قبض رأس المال بطل العقد . ويرى المالكيّة أنّ من شروط صحّة عقد السّلم قبض رأس المال كلّه في مجلس العقد ، ويجوز تأخير قبضه بعد العقد لمدّة لا تزيد على ثلاثة أيّام ، ولو بشرط ذلك في العقد ؛ لأنّ ما قارب الشّيء يعطى حكمه ، وهذا إذا لم يكن أجل السّلم قريباً كيومين ، وذلك فيما شرط قبضه في بلد آخر ، وإلاّ فلا يجوز تأخير هذه المدّة ؛ لأنّه عين الكالئ بالكالئ ، فيجب أن يقبض رأس المال بالمجلس أو ما يقرب منه . وفي فساد السّلم بالزّيادة على الثّلاث ( بلا شرط إن لم تكثر جدّاً - بألاّ يحلّ أجل المسلم فيه - ) وعدم فساده قولان لمالك .
ب - ( بدل الصّرف ) :
38 - من شروط صحّة الصّرف تقابض الثّمنين في مجلس العقد ، أي قبل افتراق المتعاقدين بأبدانهما ، فلو اشترط الأجل فيه فسد ؛ لأنّ الأجل يمنع القبض ، وإذا لم يتحقّق القبض لم يتحقّق شرط صحّته ، وهذا ما صرّح به الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « الذّهب بالذّهب ، والفضّة بالفضّة ، والبرّ بالبرّ ، والشّعير بالشّعير ، والتّمر بالتّمر ، والملح بالملح ، مثلاً بمثل ، سواءً بسواء ، يداً بيد . فإذا اختلفت هذه الأجناس فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد » ، أي مقابضةً . قال الرّافعيّ : ومن لوازمه الحلول . وقال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه من أهل العلم على أنّ المتصارفين إذا افترقا قبل أن يتقابضا أنّ الصّرف فاسد ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الذّهب بالورق رباً إلاّ هاء وهاء » ، وقوله عليه الصلاة والسلام : « بيعوا الذّهب بالفضّة كيف شئتم يداً بيد » .
ج - ( الثّمن بعد الإقالة ) :
39 - الإقالة جائزة في البيع بمثل الثّمن الأوّل ، عليه إجماع المسلمين ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من أقال نادماً بيعته أقال اللّه عثرته يوم القيامة » . أخرجه أبو داود وابن ماجه عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من أقال مسلماً بيعته أقال اللّه عثرته » زاد ابن ماجه : « يوم القيامة » . ورواه ابن حبّان في صحيحه والحاكم ، وقال على شرط الشّيخين ، وأمّا لفظ « نادماً " فعند البيهقيّ . والإقالة عند الجمهور عود المتعاقدين إلى الحال الأوّل ، بحيث يأخذ البائع المبيع والمشتري الثّمن . فإن شرط غير جنس الثّمن ، أو أكثر منه ، أو أجله ، بأن كان الثّمن حالّاً فأجّله المشتري عند الإقالة ، فإنّ التّأجيل يبطل ، وتصحّ الإقالة . وذهب المالكيّة إلى أنّ الإقالة بيع فتجري عليها أحكامه من التّأجيل وغيره .
د - ( بدل القرض ) :
40 - اختلف العلماء في جواز اشتراط تأجيل القرض : فيرى جمهور الفقهاء أنّه يجوز للمقرض المطالبة ببدله في الحال ، وأنّه لو اشترط فيه التّأجيل لم يتأجّل ، وكان حالّاً ، وبهذا قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة والحارث العكليّ والأوزاعيّ وابن المنذر . وذلك لأنّه سبب يوجب ردّ المثل في المثليّات ، فأوجبه حالّاً ، كالإتلاف ، ولو أقرضه بتفاريق ، ثمّ طالبه بها جملةً فله ذلك ؛ لأنّ الجميع حالّ ، فأشبه ما لو باعه بيوعاً حالّةً ، ثمّ طالبه بثمنها جملةً ؛ ولأنّ الحقّ يثبت حالّاً ، والتّأجيل تبرّع منه ووعد ، فلا يلزم الوفاء به ، كما لو أعاره شيئاً ، وهذا لا يقع عليه اسم الشّرط ، ولو سمّي شرطاً ، فلا يدخل في حديث : « المؤمنون عند شروطهم » .
هـ - ( ثمن المشفوع فيه ) :
41 - اختلف الفقهاء في كون ثمن المشفوع فيه هل يجب حالّاً ، أو يجوز فيه التّأجيل ، فيرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّه يجب حالّاً ولو كان الثّمن مؤجّلاً على المشتري ، ويرى المالكيّة والحنابلة أنّه إذا بيع العقار مؤجّلاً أخذه الشّفيع إلى أجله .
الدّيون المؤجّلة بحكم الشّرع
أ - ( الدّية ) :
42 - لمّا كانت الدّية قد تجب في القتل العمد ( إذا عفي عن القاتل ، وطلبها أولياء المقتول ، كما هو رأي الشّافعيّة والحنابلة - أو رضي أولياء الدّم ورضي القاتل بدفعها كما هو رأي الحنفيّة والمالكيّة ) ، وفي شبه العمد ، وفي الخطأ ، ولمّا كان الفقهاء قد اختلفوا في كيفيّة أدائها في كلّ نوع من أنواع القتل الّذي وجبت فيه ، كان لا بدّ من بيان آرائهم فيما يكون منها حالّاً أو مؤجّلاً . الدّية في القتل العمد :
43 - يرى جمهور الفقهاء ( المالكيّة ، والشّافعيّة والحنابلة ) أنّها تجب في مال القاتل حالّةً غير مؤجّلة ولا منجّمة ، وذلك لأنّ ما وجب بالقتل العمد كان حالّاً ، كالقصاص ، فإنّه يجب حالّاً ، ويرى الحنفيّة التّفريق بين الدّية الّتي تجب بالصّلح ، فيجعلونها حالّةً في مال القاتل ، وبين الّتي تجب بسقوط القصاص بشبهة ، كما إذا قتل الأب ابنه عمداً ، فإنّها تجب في مال القاتل في ثلاث سنين ، وذلك قياساً على القتل الخطأ .
الدّية في القتل شبه العمد :
44 - تجب الدّية في هذا النّوع من القتل على العاقلة في ثلاث سنين ، وهو رأي الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ( وهو المرويّ عن عمر وعليّ وابن عبّاس رضي الله عنهم ، وبه قال الشّعبيّ والنّخعيّ وقتادة وعبد اللّه بن عمر وإسحاق وأبو ثور وابن المنذر ) . واستدلّوا بما روي أنّ عمر وعليّاً قضيا بالدّية على العاقلة في ثلاث سنين ، ولا مخالف لهما في عصرهما فكان إجماعاً ، ولأنّ المرويّ عنهما كالمرويّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأنّه ممّا لا يعرف بالرّأي .
الدّية في القتل الخطأ :
45 - يرى جمهور الفقهاء أنّ الدّية في القتل الخطأ تكون مؤجّلةً لمدّة ثلاث سنوات ، يؤخذ في كلّ سنة ثلث الدّية ، ويجب في آخر كلّ سنة ، وهو رأي الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . واستدلّوا بما روي عن عمر بن الخطّاب أنّه قضى بالدّية على العاقلة في ثلاث سنين ، وقد قال هذا أيضاً عليّ وعبد اللّه بن عبّاس ، وقد عزاه الإمام الشّافعيّ في المختصر إلى قضاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد نقل الرّافعيّ والتّرمذيّ في جامعه وابن المنذر الإجماع على ذلك .
ب - المسلم فيه :
46 - لمّا كان السّلم هو شراء آجل بعاجل ، والآجل هو المسلم فيه ، فقد اشترط الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة والأوزاعيّ لصحّة السّلم أن يكون المسلم فيه مؤجّلاً إلى أجل معلوم ، ولا يصحّ السّلم الحالّ لقول النّبيّ عليه الصلاة والسلام : « من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ، أو وزن معلوم ، إلى أجل معلوم » . فأمر بالأجل ، وأمره يقتضي الوجوب ؛ ولأنّه أمر بهذه الأمور تبييناً لشروط السّلم ، ومنعاً منه بدونها ، وكذلك لا يصحّ إذا انتفى الكيل والوزن ، فكذلك الأجل ؛ ولأنّ السّلم إنّما جاز رخصةً للرّفق ، ولا يحصل الرّفق إلاّ بالأجل ، فإذا انتفى الأجل انتفى الرّفق ، فلا يصحّ ، كالكتابة ؛ ولأنّ الحلول يخرجه عن اسمه ومعناه . ويرى الشّافعيّة وأبو ثور وابن المنذر أنّه يجوز أن يكون السّلم في الحالّ ؛ لأنّه عقد يصحّ مؤجّلاً فصحّ حالّاً ، كبيوع الأعيان ؛ ولأنّه إذا جاز مؤجّلاً ، فحالّاً أجوز ، ومن الغرر أبعد .
ج - ( مال الكتابة ) :
47 - اختلف الفقهاء في وجوب تأجيل العوض المكاتب به إلى أجل معيّن : فيرى الحنفيّة ، وابن رشد من المالكيّة ، وابن عبد السّلام والرّويانيّ من الشّافعيّة ، أنّه لا يشترط ذلك ، بل تصحّ بمال مؤجّل وبمال حالّ ، ويرى المالكيّة - على الرّاجح عندهم - والشّافعيّة والحنابلة : أنّها لا تكون إلاّ بمال مؤجّل منجّم تيسيراً على المكاتب في الجملة .
د - توقيت القرض :
48 - سبق بيان آراء الفقهاء في جواز تأجيل بدل القرض وعدمه . أمّا عقد القرض فهو عقد لا يصدر إلاّ مؤقّتاً ، وذلك لأنّه عقد تبرّع ابتداءً ، ومعاوضة انتهاءً ، أو دفع مال إرفاقاً لمن ينتفع به ويردّ بدله . والانتفاع به يكون بمضيّ فترة ينتفع فيها المقترض بمال القرض ، وذلك باستهلاك عينه ؛ لأنّه لو كان الانتفاع به مع بقاء عينه كان إعارةً لا قرضاً ، ثمّ يردّ مثله إذا كان مثليّاً وقيمته إذا كان قيميّاً ، وقد اختلف الفقهاء في المدّة الّتي يلزم فيها هذا العقد : فيرى المالكيّة أنّه عقد لازم في حقّ الطّرفين طوال المدّة المشترطة في العقد ، فإن لم يكن اشتراط فللمدّة الّتي اعتيد اقتراض مثله لها ، ويرى الحنابلة أنّ عقد القرض عقد لازم بالقبض في حقّ المقرض ، جائز في حقّ المقترض ، ويثبت العوض عن القرض في ذمّة المقترض حالّاً ، وإن أجّله ؛ لأنّه عقد منع فيه من التّفاضل ، فمنع الأجل فيه ، كالصّرف ، إذ الحالّ لا يتأجّل بالتّأجيل ، وهو عدة تبرّع لا يلزم الوفاء به . قال أحمد : القرض حالّ ، وينبغي أن يفي بوعده ، ويحرم الإلزام بتأجيل القرض ؛ لأنّه إلزام بما لا يلزم . ويرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ القرض عقد إرفاق جائز في حقّ الطّرفين ، وذلك لأنّ الملك في القرض غير تامّ ؛ لأنّه يجوز لكلّ واحد منهما أن ينفرد بالفسخ .
القسم الثّاني أجل التّوقيت
49 - يقصد بأجل التّوقيت : الزّمن الّذي يترتّب على انقضائه زوال التّصرّف ، أو انتهاء الحقّ الّذي اكتسب خلال هذه المدّة المتّفق عليها ، والعقود والتّصرّفات من حيث قبولها للتّوقيت تنقسم إلى : أ - ( عقود لا تصلح إلاّ ممتدّةً لأجل ) ( مؤقّتة ) .
ب - عقود تصحّ حالّةً ومؤقّتةً . كما أنّ هذه العقود منها ما لا يصحّ إلاّ بأجل معلوم ، ومنها ما لا يصحّ إلاّ بأجل مجهول ، ومنها ما يصحّ بأجل معلوم أو مجهول ، وفيما يلي بيان ذلك . المبحث الأوّل عقود لا تصحّ إلاّ ممتدّةً لأجل ( مؤقّتة ) .
وهذا القسم يشمل عقود : الإجارة ، والكتابة والقراض :
أ - ( عقد الإجارة ) :
50 - إنّ الإجارة مؤقّتة إمّا بمدّة ، وإمّا بعمل معيّن ، والعمل يتمّ في زمن عادةً ، وبانتهاء العمل ينتهي عقد الإجارة ، فهو عقد مؤقّت . ومثل عقد الإجارة : المساقاة والمزارعة .
عقد المساقاة :
51 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة أنّ المساقاة تكون مؤقّتةً ، فإن لم يبيّنا مدّةً وقع على أوّل ثمر يخرج ، ويرى الحنابلة أنّها يصحّ توقيتها ؛ لأنّه لا ضرر في تقدير مدّتها ، ولا يشترط توقيتها .
( تأقيت المزارعة ) :
52 - المزارعة لا يجيزها الإمام أبو حنيفة ، ويجيزها الصّاحبان أبو يوسف ومحمّد وبقولهما يفتى في المذهب . كما لا يجيزها الشّافعيّة إلاّ إذا كان بين النّخل أو العنب بياض ( أي أرض لا زرع فيها ) صحّت المزارعة عليه مع المساقاة على النّخل أو العنب تبعاً للمساقاة ، ويرى المالكيّة ومحمّد بن الحسن والحنابلة أنّ عقد المزارعة يجوز بلا بيان مدّة ، وتقع على أوّل زرع يخرج ، ويرى جمهور الحنفيّة أنّ من شروط صحّة عقد المزارعة ذكر مدّة متعارفة ، فتفسد بما لا يتمكّن فيها من المزارعة ، وبما لا يعيش إليها أحدهما غالباً .
ب - ( عقد الكتابة ) :
53 - هو عقد بين السّيّد ومملوكه على مال يوجب تحرير يد المملوك ( أي تصرّفه ) في الحال ورقبته في المآل وهو من محاسن الإسلام ، إذ فيه فتح باب الحرّيّة للأرقّاء ، وعقد الكتابة يوجب تأجيل العوض المكاتب به إلى أجل معيّن عند جمهور الفقهاء ، فإذا أدّاه المكاتب عتق ، فيكون هذا العقد مؤقّتاً بتأقيت العوض فيه . فإذا وفّى بما التزمه انتهى عقد الكتابة ، وعتق ، وإن لم يوفّ أو عجز نفسه ، انتهى عقد الكتابة وعاد رقيقاً ، على تفصيل في ذلك .
المبحث الثّاني
عقود تصحّ مطلقةً ومقيّدةً تأقيت عقد العاريّة لأجل :
54 - لمّا كانت حقيقة العاريّة أنّها إباحة نفع عين يحلّ الانتفاع بها مع بقاء العين ، ليردّها على مالكها ، لذلك لم يختلف الفقهاء في أنّ هذه الإباحة موقوتة ، غير أنّ هذا الوقت قد يكون محدّداً ، وتسمّى عاريّة مقيّدة - وقد لا يكون ، وتسمّى العاريّة المطلقة ، ويرى جمهور الفقهاء أنّ العاريّة عقد غير لازم فلكلّ واحد من المتعاقدين الرّجوع متى شاء ، خلافاً للمالكيّة في المقيّدة ، وفي المطلقة إلى مدّة ينتفع فيها بمثلها عادةً .
تأقيت الوكالة لأجل :
55 - يجوز تأقيت الوكالة بأجل عند جميع الفقهاء ، كقوله " وكّلتك شهراً ، فإذا مضى الشّهر امتنع الوكيل عن التّصرّف " " ولو قال وكّلتك في شراء كذا في وقت كذا صحّ بلا خلاف " لأنّ الوكيل لا يملك من التّصرّف إلاّ ما يقتضيه إذن الموكّل ، وعلى الوجه الّذي أراده ، وفي الزّمن والمكان الّذي حدّده . والأصل في الوكالة أنّها عقد جائز من الطّرفين ، لكلّ واحد منهما فسخها متى شاء ، إلاّ إذا تعلّق بها حقّ للغير ؛ لأنّه إذن في التّصرّف ، فكان لكلّ واحد منها إبطاله ، كالإذن في أكل طعامه . وهذا ما صرّح به جمهور الفقهاء في الجملة . وللمالكيّة تفصيل في هذا تبعاً للعوض وعدمه ، يرجع فيه وفي التّفصيلات الأخرى إلى الوكالة .
توقيت المضاربة ( القراض ) :
56 - اختلف الفقهاء في جواز تأقيت المضاربة : فيرى الحنفيّة والحنابلة أنّه يجوز توقيت المضاربة ، مثل أن يقول : ضاربتك على هذه الدّراهم سنةً ، فإذا انقضت فلا تبع ولا تشتر . فإذا وقّت لها وقتاً انتهت بمضيّه ؛ لأنّ التّوقيت مقيّد ، وهو وكيل ، فيتقيّد بما وقّته ، كالتّقييد بالنّوع والمكان . ولأنّه تصرّف يتوقّت بنوع من المتاع ، فجاز توقيته في الزّمان ، كالوكالة ؛ ولأنّ لربّ المال منعه من البيع والشّراء في كلّ وقت إذا رضي أن يأخذ بماله عرضاً ، فإذا شرط ذلك فقد شرط ما هو من مقتضى العقد ، فصحّ ، كما لو قال : إذا انقضت السّنة فلا تشتر شيئاً . ويرى المالكيّة ، والشّافعيّة ، أنّه لا يجوز توقيت المضاربة .
تأقيت الكفالة بأجل :
57 - اختلف الفقهاء في جواز تأقيت الكفالة ، كما لو قال : « أنا كفيل بزيد إلى شهر وبعده أنا بريء » . فيرى الحنفيّة والشّافعيّة ( على الصّحيح عندهم ) والحنابلة أنّه يجوز توقيتها ، وكذلك المالكيّة بشروط تفصيلها في باب الضّمان من كتبهم ؛ لأنّه قد يكون له غرض في التّقيّد بهذه المدّة ، وقد أورد الحنفيّة بعض صور التّوقيت . واختلف المذهب في صحّة التّوقيت فيها يرجع إليها في الكفالة . ويرى الشّافعيّة ( على الأصحّ عندهم ) أنّه لا يجوز توقيت الكفالة .
( تأقيت الوقف بأجل ) :
58 - إذا صدر الوقف مؤقّتاً ، وذلك بأن علّق فسخه على مجيء زمن معيّن ، كما لو قال : « داري وقف إلى سنة ، أو إلى أن يقدم الحاجّ » . فقد اختلف الفقهاء في حكمه ، فيرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يصحّ ؛ لأنّ الوقف مقتضاه التّأبيد . ويرى المالكيّة ، وهو قول للحنابلة ، أنّه لا يشترط في صحّة الوقف التّأبيد ، فيصحّ مدّةً معيّنةً ، ثمّ يرجع ملكاً كما كان .
تأقيت البيع :
59 - لمّا كان البيع هو مبادلة المال بالمال بالتّراضي ، وكان حكمه هو ثبوت الملك للمشتري في المبيع ، وللبائع في الثّمن للحالّ ولمّا كان هذا الملك يثبت له على التّأبيد ، فإنّه لا يحتمل التّأقيت جاء في الأشباه والنّظائر للسّيوطيّ : « أنّ ممّا لا يقبل التّأقيت بحال ، ومتى أقّت بطل ، البيع بأنواعه » ... وذلك كما قال الكاسانيّ : « لأنّ عقود تمليك الأعيان لا تصحّ مؤقّتةً » . وقد أبطل الفقهاء كلّ شرط يؤدّي إلى تأقيت البيع ، أي إلى عودة المبيع إلى بائعه الأوّل ، سواء كان هذا التّأقيت ناتجاً عن الصّيغة ، كبعتك هذا سنةً ، أو عن شرط يؤدّي إلى توقيت البيع ، كبعتك هذا بشرط أن تردّه لي بعد مدّة كذا .
بيوع الآجال عند المالكيّة
60 - وهي بيوع دخل فيها الأجل ، واتّحدت فيها السّلعة ، واتّحد فيها المتعاقدان ، وقد أبرزها فقهاء المالكيّة ، وبيّنوا أنّ هذه البيوع ظاهرها الجواز ، لكنّها قد تؤدّي إلى ممنوع ، وذلك لأنّها قد تؤدّي إلى بيع وسلف ، أو سلف جرّ منفعةً ، وكلاهما ممنوع ، كما وضعوا ضابطاً لما يمنع من هذه البيوع . فقالوا : يمنع من هذه البيوع ما اشتمل على بيع وسلف ، وما اشتمل على سلف جرّ منفعةً ، أو يمنع منها ما كثر قصد النّاس إليه للتّوصّل إلى الرّبا الممنوع ، كبيع وسلف ، وسلف بمنفعة ، ولا يمنع ما قلّ قصده ، كضمان بجعل ، أي كبيع جائز أدّى إلى ضمان بجعل .
( صور بيوع الآجال ) :
61 - وصورها كما ذكرها المالكيّة متعدّدة ، وتشمل الصّور التّالية : إذا باع شيئاً لأجل ، ثمّ اشتراه بجنس ثمنه فهذا إمّا أن يكون :
1 - نقداً .
2 - أو لأجل أقلّ .
3 - أو لأجل أكثر .
4 - أو لأجل مساو للأجل الأوّل .
وكلّ ذلك إمّا أن يكون :
1 - بمثل الثّمن الأوّل .
2 - أو أقلّ من الثّمن الأوّل .
3 - أو أكثر من الثّمن الأوّل . فتكون هذه الصّور اثنتي عشرة صورةً ، يمنع من هذه الصّور ثلاث فقط وهي ما تعجّل فيه الأقلّ ، وهي :
1 - ما إذا باع سلعةً لأجل ، ثمّ اشتراها بأقلّ نقداً ( بيع العينة ) .
2 - وما إذا باع سلعةً لأجل ثمّ اشتراها لأجل دون الأجل الأوّل .
3 - وما إذا باع سلعةً لأجل ثمّ اشتراها لأجل أبعد من الأجل الأوّل ، وعلّة المنع في هذه الصّور هي دفع قليل في كثير ، وهو سلف بمنفعة ، إلاّ أنّه في الصّورتين الأوليين من البائع ، وفي الأخيرة من المشتري ، وأمّا الصّور التّسع الباقية فجائزة . والضّابط أنّه إذا تساوى الأجلان أو الثّمنان فالجواز ، وإن اختلف الأجلان والثّمنان فينظر إلى اليد السّابقة بالعطاء ، فإن دفعت قليلاً عاد إليها كثيراً فالمنع ، وإلاّ فالجواز :
62 - فمن صور « بيوع الآجال » بيع العينة . وبيع العينة قال الرّافعيّ : هو أن يبيع شيئاً من غيره بثمن مؤجّل ، ويسلّمه إلى المشتري ، ثمّ يشتريه قبل قبض الثّمن بثمن نقد أقلّ من ذلك القدر وقال ابن رسلان في شرح السّنن : وسمّيت هذه المبايعة عينةً لحصول النّقد لصاحب العينة ؛ لأنّ العين هو المال الحاضر ، والمشتري إنّما يشتريها ليبيعها بعين حاضرة تصل إليه من فوره ، ليصل به إلى مقصوده ، وقد روي عدم جواز بيع العينة عن ابن عبّاس وعائشة وابن سيرين والشّعبيّ والنّخعيّ ، وبه قال الثّوريّ والأوزاعيّ وأبو حنيفة ومالك وإسحاق وأحمد . وقد استدلّوا بأحاديث ، منها : ما روي عن ابن عمر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا ضنّ النّاس بالدّينار والدّرهم وتبايعوا بالعينة ، واتّبعوا أذناب البقر ، وتركوا الجهاد في سبيل اللّه ، أنزل اللّه بهم بلاءً ، فلا يرفعه حتّى يراجعوا دينهم » . رواه أحمد وأبو داود ، ولفظه : « إذا تبايعتم بالعينة ، وأخذتم أذناب البقر ، ورضيتم بالزّرع ، وتركتم الجهاد ، سلّط اللّه عليكم ذلّاً لا ينزعه حتّى ترجعوا إلى دينكم » . واستدلّ ابن القيّم على عدم جواز بيع العينة بما روي عن الأوزاعيّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « يأتي على النّاس زمان يستحلّون الرّبا بالبيع » . قال : وهذا الحديث وإن كان مرسلاً فإنّه صالح للاعتضاد به بالاتّفاق ، وله من المسندات ما يشهد له ، وهي الأحاديث الدّالّة على تحريم العينة ، فإنّه من المعلوم أنّ العينة عند من يستعملها إنّما يسمّيها بيعاً ، وقد اتّفقا على حقيقة الرّبا الصّريح قبل العقد ، ثمّ غيّر اسمها إلى المعاملة ، وصورتها إلى التّبايع الّذي لا قصد لهما فيه ألبتّة ، وإنّما هو حيلة ومكر وخديعة للّه تعالى . وأجاز الشّافعيّة هذا البيع مستدلّين على الجواز بما وقع من ألفاظ البيع ، ولأنّه ثمن يجوز بيعها به من غير بائعها ، فجاز من بائعها ، كما لو باعها بثمن المثل ، ولم يأخذوا بالأحاديث المتقدّمة .
تأقيت الهبة :
63 - اتّفق الفقهاء على أنّ الهبة لا يجوز توقيتها لأنّها عقد تمليك لعين في الحال ، وتمليك الأعيان لا يصحّ مؤقّتاً ، كالبيع . فلو قال : وهبتك هذا سنةً ثمّ يعود إليّ ، لم يصحّ . وقد استثنى بعض الفقهاء من ذلك العمرى والرّقبى على خلاف وتفصيل موطنه في مصطلحيهما .
( تأقيت النّكاح )
تأقيت النّكاح له صور نبيّنها ونبيّن آراء الفقهاء في كلّ صورة منها :
أ - ( نكاح المتعة ) :
64 - وهو أن يقول لامرأة خالية من الموانع : أتمتّع بك مدّة كذا وقد ذهب إلى حرمته الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وكثير من السّلف . وتفصيله في نكاح المتعة
ب - ( النّكاح المؤقّت أو النّكاح لأجل ) :
65 - وهو أن يتزوّج امرأة بشهادة شاهدين إلى عشرة أيّام مثلاً . وهذا النّكاح أيضاً باطل عند الحنفيّة ( عدا زفر فإنّه قال بصحّة العقد وبطلان الشّرط ) والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لأنّه في معنى المتعة . وتفصيل أحكامه في موضع آخر ( ر : نكاح ) .
ج - النّكاح المؤقّت بمدّة عمره أو عمرها ، أو إلى مدّة لا يعيشان إليها :
66 - اختلف الفقهاء في حكم النّكاح المؤقّت إلى مدّة عمر الزّوج أو الزّوجة أو إلى مدّة لا يعيشان أو أحدهما إليها : فيرى الحنفيّة غير الحسن بن زياد والمالكيّة غير أبي الحسن والشّافعيّة غير البلقينيّ والحنابلة أنّه باطل ، لأنّه في معنى نكاح المتعة ، ويرى الحسن بن زياد أنّهما إذا ذكرا من الوقت ما يعلم أنّهما لا يعيشان إليه ، كمائة سنة أو أكثر ، كان النّكاح صحيحاً ؛ لأنّه في معنى التّأبيد ، وهو رواية عن أبي حنيفة . ويرى البلقينيّ أنّه يستثنى من بطلان النّكاح ما إذا نكحها مدّة عمره ، أو مدّة عمرها ، قال : فإنّ النّكاح المطلق لا يزيد على ذلك ، والتّصريح بمقتضى الإطلاق لا يضرّ ، فينبغي أن يصحّ النّكاح في هاتين الصّورتين ، قال : وفي نصّ الأمّ ما يشهد له ، وتبعه على ذلك بعض المتأخّرين . وجاء في حاشية الدّسوقيّ أنّ « ظاهر كلام أبي الحسن أنّ الأجل البعيد الّذي لا يبلغه عمرهما لا يضرّ بخلاف ما يبلغه عمر أحدهما فيضرّ » .
د - ( إضمار الزّوج تأقيت النّكاح ) :
67 - صرّح الحنفيّة والشّافعيّة بأنّه لو تزوّج وفي نيّته أن يطلّقها بعد مدّة نواها صحّ زواجه ، لكن الشّافعيّة قالوا بكراهة النّكاح ، إذ كلّ ما صرّح به أبطل يكون إضماره مكروهاً عندهم كما قال المالكيّة إنّ الأجل إذا لم يقع في العقد ، ولم يعلمها الزّوج بذلك ، وإنّما قصده في نفسه ، وفهمت المرأة أو وليّها المفارقة بعد مدّة ، فإنّه لا يضرّ وهذا هو الرّاجح ، وإن كان بهرام صدّر في « شرحه » وفي « شامله » بالفساد إذا فهمت منه ذلك الأمر الّذي قصده في نفسه فإن لم يصرّح للمرأة ولا لوليّها بذلك ولم تفهم المرأة ما قصده في نفسه فليس نكاح متعة . أمّا الحنابلة فقد صرّحوا بأنّه لو تزوّج الغريب بنيّة طلاقها إذا خرج ، فإنّ النّكاح يبطل ؛ لأنّه نكاح متعة ، وهو باطل . ولكن جاء في المغني : « وإن تزوّجها بغير شرط إلاّ أنّ في نيّته طلاقها بعد شهر ، أو إذا انقضت حاجته في هذا البلد ، فالنّكاح صحيح في قول عامّة أهل العلم إلاّ الأوزاعيّ ، قال : هو نكاح متعة . والصّحيح أنّه لا بأس به ، ولا تضرّ نيّته ، وليس على الرّجل أن ينوي حبس امرأته ، وحسبه إن وافقته وإلاّ طلّقها .
هـ - ( احتواء النّكاح على وقت يقع فيه الطّلاق ) :
68 - إذا تزوّج امرأةً بشرط أن يطلّقها في وقت معيّن ، لم يصحّ النّكاح ، وسواء كان معلوماً أو مجهولاً ، مثل أن يشترط عليه طلاقها إن قدم أبوها أو أخوها ، وقال أبو حنيفة : يصحّ النّكاح ، ويبطل الشّرط ، وهو أظهر قولي الشّافعيّ ، قاله في عامّة كتبه ؛ لأنّ النّكاح وقع مطلقاً ، وإنّما شرط على نفسه شرطاً ، وذلك لا يؤثّر فيه ، كما لو شرط ألاّ يتزوّج عليها أو لا يسافر بها . واستدلّ القائلون بالبطلان بأنّ هذا الشّرط مانع من بقاء النّكاح فأشبه نكاح المتعة ، ويفارق ما قاسوا عليها فإنّه لم يشترط قطع النّكاح .
تأقيت الرّهن بأجل :
69 - ذهب الفقهاء إلى أنّه لا يجوز تأقيت الرّهن بأجل ، كأن يقول : رهنتك هذا الشّيء شهراً ، في الدّين الّذي لك عليّ .
تقسيم الأجل باعتبار ضبطه وتحديده :
70 - ينقسم الأجل من حيث ضبطه وتحديده إلى أجل معلوم وأجل مجهول . ومعلوميّة الأجل وجهالته لها أثر على صحّة العقد ، وعدم صحّته ، لما تورثه الجهالة من الغرر ، إلاّ أنّ من الجهالة ما كان متقارباً ، ومنها ما كان متفاوتاً ، وفيما يلي آراء المذاهب في ذلك .
( المبحث الأوّل الأجل المعلوم )
71 - اتّفق الفقهاء على صحّة الأجل ( فيما يقبل التّأجيل ) إذا كان الأجل معلوماً فأمّا كيفيّة العلم به فإنّه يحتاج فيها إلى أن يعلم بزمان بعينه لا يختلف من شخص إلى شخص ومن جماعة إلى جماعة ، وذلك إنّما يكون إذا كان محدّداً باليوم والشّهر والسّنة . والدّليل على اشتراط معلوميّة الأجل : قوله تعالى { يا أيّها الّذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمًّى فاكتبوه } . ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال في موضع شرط الأجل : « من أسلف في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » وقد انعقد الإجماع على صحّة التّأجيل إلى أجل معلوم . ولأنّ جهالة الأجل تفضي إلى المنازعة في التّسلّم والتّسليم ، فهذا يطالبه في قريب المدّة ، وذاك في بعيدها ، وكلّ ما يفضي إلى المنازعة يجب إغلاق بابه . ولأنّه . سيؤدّي إلى عدم الوفاء بالعقود ، وقد أمرنا بالوفاء بها . 72 - وقد اختلف الفقهاء في حقيقة العلم بالأجل ، أو معلوميّة الأجل : فصرّح بعضهم بأنّ الأجل المعلوم هو ما يعرفه النّاس ، كشهور العرب . وبعضهم جعله " ما يكون معلوماً للمتعاقدين ولو حكماً ، وأنّ الأيّام المعلومة للمتعاقدين كالمنصوصة ، وأنّ التّأجيل بالفعل الّذي يفعل في الأيّام المعتادة كالتّأجيل بالأيّام » . وإزاء هذين الاتّجاهين لا بدّ من بيان آراء الفقهاء في التّأجيل إلى أزمنة معلومة حقيقةً أو حكماً ، أو إلى فصول أو مناسبات ، أو إلى فعل يقع في أزمنة معتادة .
التّأجيل إلى أزمنة منصوصة
73 - اتّفق الفقهاء على صحّة التّأجيل إلى أزمنة منصوصة ، كما لو قال " خذ هذا الدّينار سلماً في إردبّ قمح إلى أوّل شهر رجب من هذا العام ، أو آخذه منك بعد عشرين يوماً » . والأصل في التّأجيل إلى الشّهور والسّنين عند الإطلاق أن تكون هلاليّةً ، فإذا ضرب أجلاً مدّته شهر أو شهران ، أو سنة أو سنتان ، مثلاً ، انصرف عند الإطلاق إلى الأشهر والسّنين الهلاليّة ، وذلك لأنّه عرف الشّرع ، قال تعالى : { يسألونك عن الأهلّة قل هي مواقيت للنّاس والحجّ } وقال تعالى : { إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض منها أربعة حرم } وقد صرّح بهذا الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة .
التّأجيل بغير الشّهور العربيّة
74 - إذا جعل الأجل مقدّراً بغير الشّهور الهلاليّة فذلك قسمان : القسم الأوّل : ما يعرفه المسلمون ، وهو بينهم مشهور ، ككانون وشباط . فقد جاز ذلك عند جمهور الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) لأنّه أجل معلوم لا يختلف ، فصار كالتّأجيل بالشّهور الهلاليّة . القسم الثّاني : ما قد لا يعرفه المسلمون كالتّأجيل إلى النّيروز والمهرجان ونحوهما فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى جواز التّأجيل إليه .
التّأجيل بالأشهر بإطلاق :
75 - إذا جعل التّأجيل بالأشهر ، دون النّصّ على أنّها هلاليّة أو روميّة أو فارسيّة ، فإنّ الفقهاء ( الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ) قد اتّفقوا على أنّه عند التّأجيل بالأشهر بإطلاق تنصرف إلى الهلاليّة ، وذلك لأنّ الشّهور في عرف الشّرع شهور الأهلّة ، بدليل قوله تعالى : { إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض منها أربعة حرم } وأراد الهلاليّة ، فعند الإطلاق يحمل العقد عليها ، واحتساب هذه المدّة إذا وقع العقد في أوّل الشّهر من أوّله . أمّا إذا لم يقع في أوّله ، فإمّا أن يكون لشهر أو أكثر ، أو سنة . فإن كان لشهر ، فإن وقع العقد في غرّة الشّهر ، يقع على الأهلّة بلا خلاف ، حتّى لو نقص الشّهر يوماً كان عليه كمال الأجرة ؛ لأنّ الشّهر اسم للهلال ، وإن وقع بعدما مضى بعض الشّهر ، ففي إجارة الشّهر يقع على ثلاثين يوماً بالإجماع ، لتعذّر اعتبار الأهلّة ، فتعتبر الأيّام . وأمّا في إجارة ثلاثة أشهر مثلاً فإنّهم قد اختلفوا ، فقد قيل : تكمل شهرين بالهلال ، وشهراً بالعدد ثلاثين يوماً ، وهو رأي للحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وقيل تكون الثّلاثة كلّها عدديّةً ، وهو رأي لأبي حنيفة ، ورأي عند الحنابلة ، ومثل ذلك في إجارة السّنة مثلاً .
بدء احتساب مدّة الأجل :
76 - يبدأ احتساب مدّة الأجل من الوقت الّذي حدّده المتعاقدان فإن لم يحدّدا كان من وقت العقد .
التّأجيل بأعياد المسلمين :
77 - إذا وقع التّأجيل إلى الأعياد جاز إذا كان العيد محدّداً معلوماً ، كعيد الفطر ، وعيد الأضحى ، فهذا يصحّ التّأجيل إليه .
التّأجيل إلى ما يحتمل أحد أمرين :
78 - إذا وقع الأجل بما يحتمل أمرين صرف إلى أوّلهما ، كما صرّح الشّافعيّة ( على الأصحّ عندهم ) والحنابلة ، كتأجيله بالعيد ، أو جمادى ، أو ربيع ، أو نفر الحجّ ؛ لأنّ العيد عيد الفطر وعيد الأضحى ، وجمادى الأولى والثّانية ، وربيع الأوّل والثّاني ، ونفر الحجّ ثاني أيّام التّشريق وثالثها ، فيحمل على الأوّل من ذلك ، لتحقّق الاسم به . والثّاني : لا ، بل يفسده ، لتردّده بين الأوّل والثّاني .
التّأجيل إلى مواسم معتادة :
79 - اختلف الفقهاء في جوازه ، كالحصاد ، والدّياس ، والجذاذ ، وقدوم الحاجّ ، إلى رأيين : يرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وابن المنذر أنّه لا يجوز التّأجيل إلى هذه الأشياء . واستدلّوا بما روي عن ابن عبّاس أنّه قال : لا تتبايعوا إلى الحصاد والدّياس ، ولا تتبايعوا إلاّ إلى شهر معلوم . ولأنّ التّأجيل بذلك يختلف ، ويقرب ويبعد ، فالحصاد والجذاذ يتأخّران أيّاماً إن كان المطر متواتراً ، ويتقدّمان بحرّ الهواء وعدم المطر ، وأمّا العطاء فقد ينقطع جملةً .
80 - وقد اختلف هؤلاء الفقهاء في أثر اشتراط التّأجيل إلى أجل مجهول جهالةً متقاربةً . فيرى الحنفيّة أنّه لا يجوز البيع إلى أجل مجهول سواء كانت الجهالة متقاربةً كالحصاد والدّياس مثلاً ، أو متفاوتةً ، كهبوب الرّيح وقدوم واحد من سفر ، فإن أبطل المشتري الأجل المجهول التّقارب قبل محلّه ، وقبل فسخ العقد بالفساد ، انقلب البيع جائزاً عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّد ، وعند زفر لا ينقلب ، ولو مضت المدّة قبل إبطال الأجل تأكّد الفساد ، ولا ينقلب جائزاً بإجماع علماء الحنفيّة ، ويرى الشّافعيّة فساد العقد ، وذلك لأنّه يشترط عندهم في المؤجّل العلم بالأجل ، بأن يكون معلوماً مضبوطاً ، فلا يجوز بما يختلف ، كالحصاد وقدوم الحاجّ ، للحديث « من أسلم في شيء فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » . ( متّفق عليه ) ولأنّ ذلك غير معلوم ، لأنّه يتقدّم ويتأخّر . ويرى الحنابلة أنّه يلغو التّأجيل ويصحّ العقد ، وذلك لأنّهم يشترطون أن يكون الأجل مقدّراً بزمن معلوم ، فإن شرط خياراً أو أجلاً مجهولين - بأن باعه بشرط الخيار وأطلق ، أو إلى الحصاد ونحوه ، أو بثمن مؤجّل إلى الحصاد ونحوه - لم يصحّ الشّرط وصحّ البيع ، وللّذي فات غرضه بفساد الشّرط من بائع ومشتر - سواء علم بفساد الشّرط أو لا - أحد أمرين : فسخ البيع ؛ لأنّه لم يسلّم له ما دخل عليه من الشّرط ، أو أرش ، ( أي تعويض ) ما نقص من الثّمن بإلغاء الشّرط إن كان المشترط بائعاً ، أو ما زاد إن كان مشترياً - يعني إذا اشترى بزيادة على الثّمن . أمّا في السّلم فإنّه لا يصحّ العقد إذا وقع التّأجيل بذلك ، وذلك لفوات شرط صحّته ، وهو الأجل المعلوم ، لاختلاف هذه الأشياء . ويرى المالكيّة أنّه يجوز التّأجيل إليه ، ويعتبر في الحصاد والدّياس ونحوهما ميقات معظمه ، أي الوقت الّذي يحصل فيه غالب ما ذكر ، وهو وسط الوقت المعدّ لذلك ، وسواء وجدت الأفعال في بلد العقد ، أو عدمت - أي لم توجد - فالمراد وجود الوقت الّذي يغلب فيه الوقوع . ونحوه ما ذكره ابن قدامة في رواية أخرى عن الإمام أحمد أنّه قال : أرجو ألاّ يكون به بأس . وبه قال أبو ثور ، وعن ابن عمر أنّه كان يبتاع إلى العطاء ، وبه قال ابن أبي ليلى . وقال أحمد : إن كان شيء يعرف فأرجو ، وكذلك إن قال إلى قدوم الغزاة ، وهذا محمول على أنّه أراد وقت العطاء ، لأنّ ذلك معلوم . فأمّا نفس العطاء فهو في نفسه مجهول ، يختلف ، ويتقدّم ويتأخّر ، ويحتمل أنّه أراد نفس العطاء ، لكونه يتفاوت أيضاً ، فأشبه الحصاد . واحتجّ من أجاز ذلك بأنّه أجل يتعلّق بوقت من الزّمن يعرف في العادة ، لا يتفاوت فيه تفاوتاً كبيراً ، فأشبه ما إذا قال رأس السّنة .
الأجل المجهول التّأجيل إلى فعل غير منضبط الوقوع :
81 - اتّفق الفقهاء على عدم جواز التّأجيل إلى ما لا يعلم وقت وقوعه - حقيقةً أو حكماً - ولا ينضبط ، وهو الأجل المجهول ، وذلك كما لو باعه بثمن مؤجّل إلى قدوم زيد من سفره ، أو نزول مطر ، أو هبوب ريح . وكذا إذا باعه إلى ميسرة ، وقد استدلّوا على عدم جواز هذا النّوع من الأجل بالآثار الّتي استدلّ بها على عدم جواز التّأجيل بالفعل الّذي يقع في زمان معتاد ، كالحصاد والدّياس ، بل هذا النّوع أولى ؛ لأنّ الجهالة هناك متقاربة ، وهنا الجهالة فيها متفاوتة . ولأنّ التّأجيل بمثل ذلك غير معلوم ؛ لأنّ ذلك يختلف : يقرب ويبعد ، يتقدّم ويتأخّر ، ولأنّ جهالته تفضي إلى المنازعة في التّسليم والتّسلّم ، فهذا يطالبه في قريب المدّة ، وذاك في بعيدها ؛ ولأنّ الأجل المجهول لا يفيد ؛ لأنّه يؤدّي إلى الغرر .
أثر التّأجيل إلى أجل مجهول جهالةً مطلقةً :
82 - سبق بيان اتّفاق الفقهاء على عدم جواز التّأجيل إلى أجل مجهول جهالةً مطلقةً . واختلفوا في أثر هذا التّأجيل على التّصرّف فيرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رأي للحنابلة ، أنّه لا يصحّ العقد أيضاً ، وذلك لأنّه أجل فاسد فأفسد العقد ؛ لأنّ المتعاقدين رضيا به مؤجّلاً إلى هذا الأجل ، وإذا لم يصحّ الأجل ، فالقول بصحّته حالّاً يخالف إرادتهما وما تراضيا عليه ، والبيع - ونحوه - يقوم على التّراضي ، فأفسد العقد . غير أنّ الحنفيّة يرون أنّه إن أبطل المشتري الأجل المجهول المتفاوت قبل التّفرّق ، ونقد الثّمن ، انقلب جائزاً ، وعند زفر لا ينقلب جائزاً ، ولو تفرّقا قبل الإبطال تأكّد الفساد ، ولا ينقلب جائزاً بإجماع الحنفيّة . ويرى الحنابلة أنّ الأجل المجهول في البيع يفسد ، ويصحّ البيع ، وفي السّلم يفسد الأجل والسّلم ، وقد استدلّوا على صحّة البيع وبطلان الأجل المجهول بما روي عن « عائشة أنّها قالت : جاءتني بريرة ، فقالت كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كلّ عام أوقيّة ، فأعينيني . فقلت : إن أحبّ أهلك أن أعدّها لهم عدّةً واحدةً ، ويكون ولاؤك لي فعلت . فذهبت بريرة إلى أهلها ، فقالت لهم ، فأبوا عليها . فجاءت من عندهم ورسول اللّه صلى الله عليه وسلم جالس ، فقالت : إنّي عرضت عليهم فأبوا إلاّ أن يكون الولاء لهم . فسمع النّبيّ صلى الله عليه وسلم . فأخبرت عائشة النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : خذيها واشترطي لهم الولاء ، فإنّما الولاء لمن أعتق ففعلت عائشة ، فقام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في النّاس فحمد اللّه وأثنى عليه ، ثمّ قال : أمّا بعد فما بال رجال يشترطون شروطاً ليست في كتاب اللّه تعالى ؟ ما كان من شرط ليس في كتاب اللّه فهو باطل ، وإن كان مائة شرط . قضاء اللّه أحقّ . وشرط اللّه أوثق . وإنّما الولاء لمن أعتق » متّفق عليه ، فأبطل الشّرط ولم يبطل العقد . قال ابن المنذر : خبر بريرة ثابت ، ولا نعلم خبراً يعارضه . فالقول به يجب .
الاعتياض عن الأجل بالمال
يرد الاعتياض عن الأجل بالمال في صور منها ما يلي :
الصّورة الأولى :
83 - صدور إيجاب مشتمل على صفقتين ، إحداهما بالنّقد ، والأخرى بالنّسيئة ، مثل أن يقول بعتك هذا نقداً بعشرة ، وبالنّسيئة بخمسة عشر . يرى جمهور العلماء أنّ هذا البيع إذا صدر بهذه الصّيغة لا يصحّ ، لأنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن بيعتين في بيعة ، » جاء في الشّرح الكبير : « كذلك فسّره مالك والثّوريّ ، وإسحاق ، وهذا قول أكثر أهل العلم ؛ لأنّه لم يجزم له ببيع واحد ، أشبه ما لو قال بعتك أحد هذين ؛ ولأنّ الثّمن مجهول فلم يصحّ ، كالبيع بالرّقم المجهول " ، وقد روي عن طاوس والحكم وحمّاد أنّهم قالوا : لا بأس أن يقول : أبيعك بالنّقد بكذا ، وبالنّسيئة بكذا ، فيذهب إلى أحدهما . فيحتمل أنّه جرى بينهما بعدما يجري في العقد ، فكأنّ المشتري قال : أنا آخذه بالنّسيئة بكذا ، فقال : خذه ، أو قال : قد رضيت ، ونحو ذلك ، فيكون عقداً كافياً ، فيكون قولهم كقول الجمهور ، فعلى هذا : إن لم يوجد ما يدلّ على الإيجاب أو ما يقوم مقامه لم يصحّ ؛ لأنّ ما مضى من القول لا يصلح أن يكون إيجاباً ، فهذا الخلاف الوارد في صحّة هذا البيع مصدره الصّيغة الصّادرة مشتملة على صيغتين في آن واحد ، فلم يجزم البائع ببيع واحد ؛ ولأنّ الثّمن مجهول هل هو عشرة أو خمسة عشر . وإذا كان الإيجاب غير جازم لا يصلح ، ويكون عرضاً ، فإذا قبل الموجّه إليه العرض إحدى الصّفقتين كان إيجاباً موجّهاً إلى الطّرف الأوّل ، فإن قبل تمّ العقد ، وإلاّ لم يتمّ .
( الصّورة الثّانية ) :
84 - وهي بيع الشّيء بأكثر من سعر يومه لأجل النّساء . يرى جمهور الفقهاء جواز بيع الشّيء بأكثر من سعر يومه لأجل النّساء ، وذلك لعموم الأدلّة القاضية بجواز البيع . قال اللّه تعالى : { وأحلّ اللّه البيع } وهو عامّ في إباحة سائر البياعات إلاّ ما خصّ بدليل ، ولا يوجد دليل يخصّص هذا العموم .
( الصّورة الثّالثة ) :
وهي تأجيل الدّين الحالّ في مقابل زيادة :
85 - وهذه الصّورة تدخل في باب الرّبا " إذ الرّبا المحرّم شرعاً شيئان : ربا النّساء ، وربا التّفاضل . وغالب ما كانت العرب تفعله ، من قولها للغريم : أتقضي أم تربي ؟ فكان الغريم يزيد في المال ، ويصبر الطّالب عليه ، وهذا كلّه محرّم باتّفاق الأمّة » . قال الجصّاص : معلوم أنّ ربا الجاهليّة إنّما كان قرضاً مؤجّلاً بزيادة مشروطة ، فكانت الزّيادة بدلاً من الأجل ، فأبطله اللّه تعالى وحرّمه ، وقال : { وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم } وقال تعالى : { وذروا ما بقي من الرّبا } حظر أن يؤخذ للأجل عوض ، ولا خلاف أنّه لو كان عليه ألف درهم حالّةً ، فقال له : أجّلني وأزيدك فيها مائة درهم ، لا يجوز ؛ لأنّ المائة عوض من الأجل » .
الصّورة الرّابعة :
وهي تعجيل الدّين المؤجّل في مقابل التّنازل عن بعضه « ضع وتعجّل » . 86 - يرى جمهور الفقهاء أنّه إذا كان لرجل على آخر دين مؤجّل ، فقال المدين لغريمه : ضع عنّي بعضه وأعجّل لك بقيّته ، فإنّ ذلك لا يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . وكرهه زيد بن ثابت ، وابن عمر ، والمقداد ، وسعيد بن المسيّب ، وسالم ، والحسن ، وحمّاد ، والحكم ، والثّوريّ ، وهشيم ، وابن عليّة ، وإسحاق . فقد روي أنّ رجلاً سأل ابن عمر فنهاه عن ذلك . ثمّ سأله ، فقال : إنّ هذا يريد أن أطعمه الرّبا . وروي عن زيد بن ثابت أيضاً النّهي عن ذلك . وروي أنّ المقداد قال لرجلين فعلا ذلك : كلاكما قد أذن بحرب من اللّه ورسوله . واستدلّ جمهور الفقهاء على بطلان ذلك بشيئين : أحدهما : تسمية ابن عمر إيّاه ربا ، ومثل ذلك لا يقال بالرّأي وأسماء الشّرع توقيف . والثّاني : أنّه معلوم أنّ ربا الجاهليّة إنّما كان قرضاً مؤجّلاً بزيادة مشروطة ، فكانت الزّيادة بدلاً من الأجل ، فأبطله اللّه تعالى ، وحرّمه ، وقال : { وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم } وقال تعالى : { وذروا ما بقي من الرّبا } حظر أن يؤخذ للأجل عوض . فإذا كانت عليه ألف درهم مؤجّلة ، فوضع عنه على أن يعجّله ، فإنّما جعل الحطّ مقابل الأجل ، فكان هذا هو معنى الرّبا الّذي نصّ اللّه تعالى على تحريمه . ولا خلاف أنّه لو كان عليه ألف درهم حالّة ، فقال له : أجّلني وأزيدك فيها مائة درهم ، لا يجوز ؛ لأنّ المائة عوض من الأجل ، كذلك الحطّ في معنى الزّيادة ، إذ جعله عوضاً من الأجل ، وهذا هو الأصل في امتناع جواز أخذ الأبدال عن الآجال . فحرمة ربا النّساء ليست إلاّ لشبهة مبادلة المال بالأجل وإذا كانت شبهة الرّبا موجبةً للحرمة فحقيقته أولى بذلك . وأيضاً فإنّه لا يمكن حمل هذا على إسقاط الدّائن لبعض حقّه ؛ لأنّ المعجّل لم يكن مستحقّاً بالعقد ، حتّى يكون استيفاؤه استيفاءً لبعض حقّه ، والمعجّل خير من المؤجّل لا محالة ، فيكون ( فيما لو كانت له عليه ألف مؤجّلة فصالحه على خمسمائة حالّة ) خمسمائة في مقابل مثله من الدّين ، وصفة التّعجيل في مقابلة الباقي - وهو الخمسمائة - وذلك اعتياض عن الأجل ، وهو حرام . وأيضاً لأنّ الأجل صفة ، كالجودة ، والاعتياض عن الجودة لا يجوز ، فكذا عن الأجل . ويقول ابن قدامة : إنّه بيع الحلول ، فلم يجز ، كما لو زاده الّذي له الدّين ، فقال له : أعطيك عشرة دراهم وتعجّل لي المائة الّتي عليك ، ويقول صاحب الكفاية : والأصل فيه أنّ الإحسان متى وجد من الطّرفين يكون محمولاً على المعاوضة - كهذه المسألة - فإنّ الدّائن أسقط من حقّه خمسمائة ، والمديون أسقط حقّه في الأجل في الخمسمائة الباقية ، فيكون معاوضةً بخلاف ما إذا صالح من ألف على خمسمائة ، فإنّه يكون محمولاً على إسقاط بعض الحقّ ، دون المعاوضة ؛ لأنّ الإحسان لم يوجد إلاّ من طرف ربّ الدّين . وروي عن ابن عبّاس أنّه لم ير بأساً بهذا « ضع عنّي وتعجّل » ، وروي ذلك عن النّخعيّ ، وأبي ثور ؛ لأنّه آخذ لبعض حقّه ، تارك لبعضه ، فجاز كما لو كان الدّين حالّاً ، واستثنى من ذلك الحنفيّة والحنابلة ( وهو قول الخرقيّ من علمائهم ) أنّه يجوز أن يصالح المولى مكاتبه على تعجيل بدل الكتابة في مقابل الحطّ منه ، وذلك لأنّ معنى الإرفاق فيما بينهما أظهر من معنى المعاوضة ، فلا يكون هذا في مقابلة الأجل ببعض المال ، ولكن إرفاق من المولى بحطّ بعض المال ، ومساهلة من المكاتب فيما بقي قبل حلول الأجل ليتوصّل إلى شرف الحرّيّة ؛ ولأنّ المعاملة هنا هي معاملة المكاتب مع سيّده ، وهو يبيع بعض ماله ببعض ، فدخلت المسامحة فيه ، بخلاف غيره .
اختلاف المتعاقدين في الأجل
87 - اختلاف المتعاقدين في الأجل إمّا أن يكون في أصل الأجل ، أو في مقداره ، أو في حلوله ، أو في مضيّه وفيما يلي آراء الفقهاء في ذلك :
الاختلاف في أصل الأجل في البيع :
88 - إذا اختلف المتعاقدان في أصل الأجل ، بأن قال المشتري : اشتريته بدينار مؤجّل ، وأنكره البائع - فإنّ الفقهاء قد اختلفوا : فيرى الحنفيّة والحنابلة أنّ القول لمن ينفي الأجل ، وهو البائع ، مع يمينه ، وذلك لأنّ الأصل الحلول . والبيّنة على المشتري ؛ لأنّه يثبت خلاف الظّاهر ، والبيّنات للإثبات ، ويرى المالكيّة أنّه يعمل بالعرف باليمين ، سواء أكانت السّلعة قائمةً أو فاتت . فإن لم يكن عرف تحالفا وتفاسخا إن كانت قائمةً ، فتردّ السّلعة لبائعها ، وإن لم تكن قائمةً صدّق المشتري بيمين إن ادّعى أجلاً قريباً لا يتّهم فيه ، وإلاّ فالقول للبائع إن حلف . ويرى الشّافعيّة ، وهو رواية في مذهب الحنابلة ، أنّهما يتحالفان ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « لو يعطى النّاس بدعواهم لادّعى ناس دماء رجال وأموالهم ، ولكن اليمين على المدّعى عليه » . رواه مسلم ، وكلّ منهما مدّعًى عليه ، كما أنّه مدّع . ولأنّهما اختلفا في صفة العقد ، فوجب أن يتحالفا ، قياساً على الاختلاف في الثّمن .
( الاختلاف في مقدار الأجل )
89 - إذا اختلف المتعاقدان في مقدار الأجل ، كما إذا قال البائع بعتكه بثمن مؤجّل إلى شهر ، ويدّعي المشتري أكثر من ذلك ، فإنّ الفقهاء اختلفوا فيه : فيرى الحنفيّة والحنابلة أنّ القول قول مدّعي الأقلّ ، لإنكاره الزّيادة ، والبيّنة للمشتري ، لأنّه يثبت خلاف الظّاهر ، والبيّنات لإثبات خلاف الظّاهر . ويرى المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ( في رواية أخرى ) أنّهما يتحالفان ، للحديث المتقدّم ؛ ولأنّ كلّاً منهما مدّعًى عليه ، كما أنّه مدّع ، فإذا تحالفا فعند المالكيّة فسخ العقد إن كانت السّلعة قائمةً - على المشهور - إن حكم بالفسخ حاكم ، أو تراضيا عليه ، وتعود السّلعة على ملك البائع حقيقةً ، ظالماً أو مظلوماً . وقيل يحصل الفسخ بمجرّد التّحالف ، كاللّعان ، ولا يتوقّف على حكم . وحلف المشتري إن فات المبيع كلّه ، فإن فات البعض فلكلّ حكمه . ويرى الشّافعيّة أنّهما إذا تحالفا فالصّحيح أنّ العقد لا ينفسخ بنفس التّحالف ؛ لأنّ البيّنة أقوى من اليمين ، ولو أقام كلّ منهما بيّنةً لم ينفسخ فبالتّحالف أولى ، بل إن تراضيا على ما قال أحدهما أقرّ العقد وإن لم يتراضيا بأن استمرّ نزاعهما فيفسخانه ، أو أحدهما ، أو الحاكم لقطع النّزاع ، وحقّ الفسخ بعد التّحالف ليس على الفور ، فلو لم يفسخا في الحال كان لهما بعد ذلك لبقاء الضّرر المحوج للفسخ . وقيل إنّما يفسخه الحاكم ؛ لأنّه فسخ مجتهد فيه فلا يفسخ أحدهما . ومقابل الصّحيح أنّه ينفسخ بالتّحالف وتعود الحال إلى ما كانت عليه قبل العقد .
( الاختلاف في انتهاء الأجل ) :
90 - إذا اختلف المتعاقدان في مضيّ الأجل ، مع اتّفاقهما على التّأجيل - كما إذا قال البائع بعتكه بثمن مؤجّل إلى شهر أوّله هلال رمضان ، وقد انقضى ، ويقول المشتري بل أوّله نصف رمضان فانتهاء الأجل نصف شوّال - فقد اختلف الفقهاء في حكمه : فيرى الحنفيّة أنّ القول والبيّنة للمشتري ؛ لأنّهما لمّا اتّفقا على الأجل ، فالأصل بقاؤه ، فكان القول للمشتري في عدم مضيّه ؛ ولأنّه منكر توجّه المطالبة ، وأمّا تقديم بيّنته على بيّنة البائع فلكونها أكثر إثباتاً . ويرى المالكيّة أنّ القول لمنكر التّقضّي بيمينه ؛ لأنّ الأصل بقاء الأجل ، " أي أنّ القول لمن ادّعى بقاء الأجل ، وأنكر انقضاءه ، سواء كان بائعاً أو مشترياً ، كان مكرياً أو مكترياً ، إذا لم توجد بيّنة ، فإن كان لأحدهما بيّنة عمل بها ، وهذا إن أشبه قوله عادة النّاس في الأجل - أشبه الآخر أم لا - فإن لم يشبها معاً عادة النّاس حلفا ، وفسخ إن كانت السّلعة قائمةً ، وإلاّ فالقيمة ، ويقضى للحالف على النّاكل . . . » .
مسقطات الأجل
91 - الأجل إمّا أن يكون أجل إضافة ، وهو ما يترتّب على تحقّقه ترتّب أحكام التّصرّف . أو يترتّب على تحقّقه حلول الدّين أو حلول العين فيما يصحّ إضافته من الأعيان إلى أجل ، أو يكون أجل توقيت وهو الّذي يترتّب على تحقّقه انتهاء الحقّ الّذي كان له .
والمسقطات - بوجه عامّ - إمّا بطريق الإسقاط ، وإمّا بطريق السّقوط .
وفيما يلي بيان ذلك :
أوّلاً : إسقاط الأجل :
أ - إسقاط الأجل من قبل المدين :
92 - لمّا كان الأجل قد شرع رفقاً بالمدين وتمكيناً له من وفاء الدّين في الوقت المناسب له ، ورعايةً لحالة العدم الّتي يتعرّض لها ، كان من حقّه أن يسقط أجل الدّين ، ويصبح الدّين حالّاً ، وعلى الدّائن قبض الدّين . وهذا هو رأي جمهور الفقهاء : ( الحنفيّة مطلقاً وكذا المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إذا لم يؤدّ ذلك إلى الإضرار بالدّائن كأن كان الأداء في مكان مخوف ، أو كان له حمل ومؤنة أو كان في وقت كساد ) على تفصيل في هذه المذاهب الثّلاثة يرجع إليه في مواطنه .
ب - إسقاط الأجل من قبل الدّائن :
93 - تبيّن ممّا تقدّم أنّ الأجل حقّ لمن عليه الدّين ، وإذا كان حقّاً له فإنّه يستبدّ بإسقاطه ، طالما أنّه لا يؤدّي هذا الإسقاط إلى ضرر بالدّائن . أمّا الدّائن فإنّ إسقاطه الأجل يجب أن يفرّق فيه بين أجل لحق العقد وقت صدوره - كما لو باع بثمن مؤجّل - ففي هذه الحالة يكون الأجل لازماً للدّائن لأنّه التحق بصلب العقد باتّفاق الفقهاء ، وبين أجل أراده الدّائن والمدين بعد صدور العقد بثمن حالّ ، وهذا النّوع قد اختلف الفقهاء في لزومه للدّائن ، أي أنّه لا يمكنه أن يستبدّ بإسقاطه دون الرّجوع إلى المدين . فذهب الحنفيّة ( غير زفر ) والمالكيّة إلى أنّ من باع بثمن حالّ ، ثمّ أجّله إلى أجل معلوم أنّ الثّمن يصير مؤجّلاً ، كما لو باعه بثمن مؤجّل ابتداءً ، ويصبح الأجل لازماً للدّائن لا يصحّ رجوعه عنه دون رضا المدين . أمّا التّأجيل فلأنّ الثّمن حقّه ، فله أن يؤخّره تيسيراً على من عليه ؛ ولأنّ التّأجيل إثبات براءة مؤقّتة إلى حلول الأجل ، وهو يملك البراءة المطلقة بالإبراء عن الثّمن فلأن يملك البراءة المؤقّتة أولى ، وأمّا كونه لازماً له فذلك لأنّ الشّرع أثبت عن إسقاطه بالبراءة المطلقة السّقوط ، والتّأجيل التزام الإسقاط إلى وقت معيّن ، فيثبت شرعاً السّقوط إلى ذلك الوقت ، كما ثبت شرعاً سقوطه بإسقاطه مطلقاً . وقال زفر ( من علماء الحنفيّة ) والشّافعيّة والحنابلة : إنّ كلّ دين حالّ لا يصير مؤجّلاً بالتّأجيل ؛ لأنّه بعد أن كان حالّاً ليس إلاّ وعداً بالتّأخير ، وحينئذ يكون له الحقّ في الرّجوع عنه ، وكذلك اختلفوا في لزوم شرط تأجيل القرض ، وقد سبق أنّ جمهور الفقهاء لا يرون تأجيله ، حتّى لو اشترط فيه التّأجيل ، خلافاً للمالكيّة واللّيث الّذين يرون لزومه حسب التّفصيل الّذي سبق بيانه .
ج - إسقاط الأجل بتراضي الدّائن والمدين :
94 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّه إذا تراضى الدّائن والمدين على إسقاط شرط التّأجيل أنّ ذلك جائز وصحيح .
ثانياً : سقوط الأجل
تناول الفقهاء عدّة أسباب إذا وقعت أدّت إلى سقوط شرط التّأجيل ، ومنها الموت والتّفليس والإعسار ، والجنون والأسر .
أ - سقوط الأجل بالموت :
95 - اختلف الفقهاء في سقوط الأجل بموت المدين أو الدّائن : فيرى الحنفيّة والشّافعيّة أنّ الأجل يبطل بموت المدين لخراب ذمّته ، ولا يبطل بموت الدّائن ، سواء أكان موتاً حقيقيّاً ، أم حكميّاً ، وذلك لأنّ فائدة التّأجيل أن يتّجر فيؤدّي الثّمن من نماء المال ، فإذا مات من له الأجل تعيّن المتروك لقضاء الدّين ، فلا يفيد التّأجيل ؛ ولأنّ الأجل حقّ المدين ، لا حقّ صاحب الدّين ، فتعتبر حياته وموته في الأجل وبطلانه . ومثل الموت الحقيقيّ الموت الحكميّ ، وذلك كما . لو لحق مرتدّاً بدار الحرب - كما صرّح الحنفيّة - أو كالرّدّة المتّصلة بالموت أو استرقاق الحربيّ - كما صرّح الشّافعيّة . ويرى المالكيّة ذلك ، إلاّ أنّهم يستثنون ثلاث حالات . جاء في شرح الخرشيّ : إنّ الدّين المؤجّل على الشّخص يحلّ بفلسه أو موته على المشهور ، لأنّ الذّمّة في الحالتين قد خربت ، والشّرع قد حكم بحلوله ؛ ولأنّه لو لم يحلّ للزم إمّا تمكين الوارث من القسم ، أو عدمه ، وكلاهما باطل ، لقوله تعالى : { من بعد وصيّة يوصي بها أو دين } ، وللضّرورة الحاصلة بوقفه . وعلى المشهور : لو طلب بعض الغرماء بقاءه مؤجّلاً منع من ذلك " وأمّا لو طلب الكلّ لكان لهم ذلك » . ويستثنى من الموت من قتل مدينه ( عمداً ) فإنّ دينه المؤجّل لا يحلّ ، لحمله على استعجال ما أجّل . وأمّا الدّين الّذي له فلا يحلّ بفلسه ولا بموته ، ولغرمائه تأخيره إلى أجله ، أو بيعه الآن ، ومحلّ حلول الدّين المؤجّل بالموت أو الفلس ما لم يشترط من عليه أنّه لا يحلّ عليه الدّين بذلك ، وإلاّ عمل بشرطه . قد ذكر ذلك ابن الهنديّ في الموت ، وإمّا إن شرط من له أنّه يحلّ بموته على المدين فهل يعمل بشرطه ، أو لا ؟ والظّاهر الأوّل ( أي أنّه يعمل بشرطه ) حيث كان الشّرط غير واقع في صلب عقد البيع ، فإن وقع في صلب عقد البيع فالظّاهر فساد البيع ؛ لأنّه آل أمره إلى البيع بأجل مجهول ، ويرى الحنابلة أنّه لا يحلّ الدّين المؤجّل بموت الدّائن ، وأمّا موت المدين فلهم رأيان : أحدهما : أنّه يحلّ بموت المدين كما هو رأي من ذكر من الفقهاء . والثّاني : أنّه لا يحلّ بموته إذا وثق الورثة ، فقد جاء في كشّاف القناع : « أنّه إذا مات شخص وعليه دين مؤجّل لم يحلّ الدّين بموته إذا وثق الورثة ، أو وثق غيرهم برهن أو كفيل مليء ، على أقلّ الأمرين : من قيمة التّركة أو الدّين " ، وهو قول ابن سيرين ، وعبيد اللّه بن الحسن ، وإسحاق ، وأبي عبيد لأنّ الأجل حقّ للميّت ، فورث عنه كسائر حقوقه ، وكما لا تحلّ الدّيون الّتي له بموته ، فتختصّ أرباب الدّيون الحالّة بالمال ، ويتقاسمونه بالمحاصّة ، ولا يترك منه للمؤجّل شيء ، ولا يرجع ربّه عليه بعد حلوله بل على من وثّقه ، فإن تعذّر التّوثّق لعدم وارث ، بأن مات عن غير وارث ، حلّ ، ولو ضمنه الإمام ، أو " تعذّر التّوثّق " لغير عدم وارث ، بأن خلف وارثاً لكنّه لم يوثق ، حلّ الدّين لغلبة الضّرر ، فيأخذه ربّه كلّه إن اتّسعت التّركة أو يحاصص به الغرماء ، ولا يسقط منه شيء في مقابلة الأجل . وإن ضمنه ضامن وحلّ على أحدهما لم يحلّ على الآخر . وقد استدلّ الحنابلة على قولهم بأنّ الدّين المؤجّل لا يحلّ بالموت إذا وثّق الورثة ، فقالوا : إنّ الأجل حقّ للمدين فلا يسقط بموته ، كسائر حقوقه ؛ ولأنّ الموت ما جعل مبطلاً للحقوق ، وإنّما هو ميقات للخلافة وعلامة على الوراثة ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ترك حقّاً أو مالاً فلورثته » وما قيل بسقوطه بالموت هو حكم مبنيّ على المصلحة ، ولا يشهد لها شاهد الشّرع باعتبار ، ولا خلاف في فساد هذا ، فعلى هذا يبقى الدّين في ذمّة الميّت كما كان ويتعلّق بعين ماله كتعلّق حقوق الغرماء بمال المفلس عند الحجر عليه ، فإن أحبّ الورثة أداء الدّين ، والتزامه للغريم ، على أن يتصرّفوا في المال ، لم يكن لهم ذلك إلاّ أن يرضى الغريم ، أو يوثّقوا الحقّ بضمين مليء ، أو رهن يثق به لوفاء حقّه ، فإنّهم قد لا يكونون أملياء ، ولم يرض بهم الغريم ، فيؤدّي إلى فوات الحقّ . ويرى طاوس وأبو بكر بن محمّد ، والزّهريّ وسعد بن إبراهيم أنّ الدّين المؤجّل لا يحلّ بموت المدين ، ويبقى إلى أجله ، وحكي ذلك عن الحسن .
ب - سقوط الأجل بالتّفليس :
96 - إذا حكم الحاكم بالحجر على المدين للإفلاس ، فهل تحلّ ديون المفلس المؤجّلة ؟ يرى الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة ( في الأظهر ) وهو قول للمالكيّة أنّه لا تحلّ ديون المفلس المؤجّلة ؛ لأنّ الأجل حقّ للمفلس ، فلا يسقط بفلسه كسائر حقوقه ، ولأنّه لا يوجب حلول ماله ، فلا يوجب حلول ما عليه - كالجنون والإغماء - ولأنّه دين مؤجّل على حيّ ، فلم يحلّ قبل أجله ، كغير المفلس ، والفرق بين الفلس والموت أنّ ذمّة الميّت خربت وبطلت بخلاف المفلس . والمشهور عند المالكيّة ورأي للشّافعيّة أنّ الدّين المؤجّل يحلّ بالإفلاس الأخصّ ( أي الشّخص الّذي حكم الحاكم بخلع ماله للغرماء ) لخراب ذمّة المفلس ، ما لم يشترط المدين عدم حلوله بالتّفليس ، وما لم يتّفق الغرماء جميعاً على بقاء ديونهم مؤجّلةً . أمّا حقوق المفلس المؤجّلة قبل الغير فباتّفاق الفقهاء تبقى على حالها ؛ لأنّ الأجل حقّ للغير ، فليس لغير صاحبه الحقّ في إسقاطه .
ج - سقوط الأجل بالجنون :
97 - إذا جنّ من عليه الدّين المؤجّل أو من له الدّين ، فهل يسقط الأجل بجنونه ؟ يرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة جنون المدين لا يوجب حلول الدّين عليه لإمكان التّحصيل عند حلول الأجل بواسطة وليّه ، فالأجل باق ، ولصاحب الحقّ عند حلول الأجل مطالبة وليّه بماله . ولأنّ الأجل حقّ للمجنون فلا يسقط بجنونه كسائر حقوقه ؛ ولأنّه لا يوجب حلول ما له قبل الغير ، فلا يوجب حلول ما عليه ، وأمّا المالكيّة فقد نصّوا على أنّ الدّين المؤجّل يحلّ بالفلس والموت ما لم يشترط المدين عدم حلوله بهما وما لم يقتل الدّائن المدين عمداً ، ولم ينصّوا على الجنون معهما ممّا يدلّ على أنّ الجنون عندهم لا يحلّ الدّين المؤجّل .
د - سقوط الأجل بالأسر أو الفقد :
98 - يرى الفقهاء الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الأسير في أرض العدوّ إذا علم خبره ومكانه ، كان حكمه كالغائب ، والغائب تبقى ديونه على ما هي عليه من تأجيل أو حلول ، سواء كان دائناً أم مديناً . أمّا إذا لم يعلم خبره ولا مكانه ، فيرى الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ حكمه حكم المفقود لأنّه حيّ في حقّ نفسه ، ميّت في حقّ غيره . ويرى المالكيّة أنّ ديونه تبقى على حالها من تأجيل أو حلول ، كالغائب - ولا يأخذ حكم المفقود لأنّه قد عرف أنّه أسر ؛ لأنّه إذا كانت أموال المفقود تبقى كما هي ، فهو أولى بهذا الحكم . أمّا إذا علم موت الأسير ، فإنّه يأخذ حكم الميّت ، وكذا إذا علم ردّته يأخذ حكم المرتدّ ، وهو موت حكماً كما سبق الإشارة إلى ذلك من أنّ الآجال تسقط بموت المدين موتاً حقيقيّاً أو حكميّاً .
هـ - سقوط الأجل بانتهاء مدّته :
99 - لمّا كان هذا النّوع من الأجل يحدّد لنا المدى الزّمنيّ لاستيفاء الحقّ ، فالعقد أو التّصرّف المقترن بأجل التّوقيت ، أو المؤقّت ، إذا انقضى أجله انتهى بذلك العقد وعاد الحقّ إلى صاحبه ، كما كان أوّلاً ، فيكون على المتعاقد ردّ العين إلى مالكها إذا كان المعقود عليه عيناً ، ويكون عليه عدم التّصرّف إذا كان العقد يجيز للشّخص تصرّفاً ما من التّصرّفات . والعقد المؤقّت - إذا لم يكن مضافاً ولا معلّقاً - هو عقد ناجز يتمّ ترتّب آثاره عليه من وقت صدور المدّة المحدّدة له شرعاً أو اتّفاقاً . فإن أضيف إلى زمن - وكان من التّصرّفات الّتي تقبل الإضافة فمدّة التّوقيت تبدأ من وقت حلول أجل الإضافة . وكذلك إذا علّق على شرط - وكان من التّصرّفات الّتي تقبل التّعليق - فمدّة التّوقيت تبدأ من وقت وجود الشّرط المعلّق عليه العقد . وبالإضافة إلى ذلك فإنّ الأجل ينقضي بانقضاء العقد نفسه الّذي اقترن به الأجل ؛ لأنّ الأجل وصف للعقد وشرط لاعتباره شرعاً ، فإذا انتهى الموصوف انتهى الوصف .
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
استمرار العمل بموجب العقد المنقضي أجله دفعاً للضّرر :
100 - قد ينقضي العقد المؤقّت . وحينئذ على المنتفع ردّ العين إلى صاحبها ، ولكن قد يؤدّي ذلك إلى ضرر ، ومن ثمّ أجاز الفقهاء تأخير الرّدّ إلى الوقت الملائم ، الّذي لا يؤدّي إلى ضرر ، مع ضمان حقوق الطّرف الآخر . ولذلك تطبيقات في الإجارة والإعارة تنظر فيهما .
إجماع
التّعريف
1 - الإجماع في اللّغة يراد به تارةً العزم ، يقال : أجمع فلان كذا ، أو أجمع على كذا ، إذا عزم عليه وتارةً يراد به الاتّفاق ، فيقال : أجمع القوم على كذا ، أي اتّفقوا عليه ، وعن الغزاليّ أنّه مشترك لفظيّ . وقيل إنّ المعنى الأصليّ له العزم ، والاتّفاق لازم ضروريّ إذا وقع من جماعة ، والإجماع في اصطلاح الأصوليّين : اتّفاق جميع المجتهدين من أمّة محمّد صلى الله عليه وسلم في عصر ما بعد عصره صلى الله عليه وسلم على أمر شرعيّ ، والمراد بالأمر الشّرعيّ : ما لا يدرك لولا خطاب الشّارع ، سواء أكان قولاً أم فعلاً أم اعتقاداً أم تقريراً .
بيان من ينعقد بهم الإجماع :
2 - جمهور أهل السّنّة على أنّ الإجماع ينعقد باتّفاق المجتهدين من الأمّة ، ولا عبرة باتّفاق غيرهم مهما كان مقدار ثقافتهم ، ولا بدّ من اتّفاق المجتهدين ولو كانوا أصحاب بدعة إن لم يكفروا ببدعتهم ، فإن كفروا بها كالرّافضة الغالين فلا يعتدّ بهم ، وأمّا البدعة غير المكفّرة أو الفسق فإنّ الاعتداد بخلافهم أو عدم الاعتداد فيه خلاف وتفصيل بين الفقهاء والأصوليّين موضعه الملحق الأصوليّ . وذهب قوم إلى أنّ العبرة باتّفاق الخلفاء الرّاشدين فقط ، لما ورد عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « عليكم بسنّتي وسنّة الخلفاء الرّاشدين المهديّين من بعدي ، عضّوا عليها بالنّواجذ » . وهذا خبر آحاد لا يفيد اليقين ، وعلى فرض التّسليم فإنّه يفيد رجحان الاقتداء بهم لا إيجابه ، وقال قوم إنّ الإجماع هو إجماع أهل المدينة دون غيرهم ، وهذا ظاهر مذهب مالك فيما كان سبيله النّقل والتّواتر ، كبعض أفعاله صلى الله عليه وسلم كالأذان والإقامة وتحديد الأوقات وتقدير الصّاع والمدّ وغير ذلك ممّا يعتمد على النّقل وحده لا على الاجتهاد ، وما سبيله الاجتهاد فلا يعتدّ عنده بإجماعهم .
إمكان الإجماع :
3 - اتّفق الأصوليّون على أنّ الإجماع ممكن عقلاً ، وذهب جمهورهم إلى أنّه ممكن عادةً ، وخالف في ذلك النّظّام وغيره . وخالف البعض في إمكان نقله .
حجّيّة الإجماع :
4 - الإجماع حجّة قطعيّة على الصّحيح ، وإنّما يكون قطعيّاً حيث اتّفق المعتبرون على أنّه إجماع ، لا حيث اختلفوا ، كما في الإجماع السّكوتيّ وما ندر مخالفه .
ما يحتجّ عليه بالإجماع :
5 - يحتجّ بالإجماع على الأمور الدّينيّة الّتي لا تتوقّف حجّيّة الإجماع عليها ، سواء أكانت اعتقاديّةً كنفي الشّريك عن اللّه تعالى ، أو عمليّةً كالعبادات والمعاملات ، وقيل لا أثر للإجماع في العقليّات ، فإنّ المعتبر فيها الأدلّة القاطعة ، فإذا انتصبت لم يعارضها شقاق ولم يعضّدها وفاق . أمّا ما تتوقّف عليه حجّيّة الإجماع ، كوجود الباري تعالى ، ورسالة محمّد صلى الله عليه وسلم فلا يحتجّ عليه بالإجماع ؛ لئلاّ يلزم الدّور .
مستند الإجماع :
6 - لا بدّ للإجماع من مستند ، نصّ أو قياس ، وقد يكون النّصّ أو القياس خفيّاً . فإذا أجمع على مقتضاه سقط البحث عنه ، وحرمت مخالفته مع عدم العلم به ، ويقطع بحكمه وإن كان ظنّيّاً .
إنكار الإجماع :
7 - قيل : يكفر منكر حكم الإجماع القطعيّ ، وفصّل بعض الأصوليّين بين ما كان من ضروريّات دين الإسلام ، وهو ما يعرفه الخواصّ والعوامّ ، من غير قبول للتّشكيك ، كوجوب الصّلاة والصّوم ، وحرمة الزّنا والخمر ، فيكفر منكره ، وبين ما سوى ذلك ، فلا يكفر منكره ، كالإجماع على بعض دقائق علم المواريث الّتي قد تخفى على العوّام . وفرّق فخر الإسلام بين الإجماع القطعيّ من إجماع الصّحابة نصّاً ، كإجماعهم على قتال مانعي الزّكاة ، أو مع سكوت بعضهم ، فيكفر منكره ، وبين إجماع غيرهم فيضلّل .
الإجماع السّكوتيّ :
8 - يتحقّق الإجماع السّكوتيّ إذا أفتى بعض المجتهدين في مسألة اجتهاديّة ، أو قضى ، واشتهر ذلك بين أهل عصره ، وعرفه جميع من سواه من المجتهدين ، ولم يخالفوه ، واستمرّت الحال على هذا إلى مضيّ مدّة التّأمّل ، وقد ذهب أكثر الحنفيّة وبعض الشّافعيّة إلى أنّه إذا تحقّق ذلك فهو إجماع قطعيّ ، وإنّما يكون إجماعاً عندهم حيث لا يحمل سكوتهم على التّقيّة خوفاً . وموضع اعتبار سكوتهم إجماعاً إنّما هو قبل استقرار المذاهب ، وأمّا بعد استقرارها فلا يعتبر السّكوت إجماعاً ؛ لأنّه لا وجه للإنكار على صاحب مذهب في العمل على موجب مذهبه ، وذهب أبو هاشم الجبّائيّ إلى أنّه حجّة وليس إجماعاً . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه ليس بحجّة فضلاً أن يكون إجماعاً ، وبه قال ابن أبان والباقلاّنيّ وبعض المعتزلة وأكثر المالكيّة وأبو زيد الدّبوسيّ من الحنفيّة ، والرّافعيّ والنّوويّ من الشّافعيّة .
التّعارض بين الإجماع وغيره :
9 - الإجماع لا ينسخ ولا ينسخ به عند الجمهور ؛ لأنّ الإجماع لا يكون إلاّ بعد وفاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم والنّسخ لا يكون بعد موته . ولا ينسخ الإجماع الإجماع ، وإذا جاء الإجماع مخالفاً لشيء من النّصوص استدللنا على أنّ ذلك النّصّ منسوخ . فيكون الإجماع دليل النّسخ وليس هو النّاسخ .
رتبة الإجماع بين الأدلّة :
1 - بنى بعض الأصوليّين على المسألة السّابقة تقديم الإجماع على غيره . قال الغزاليّ : « يجب على المجتهد في كلّ مسألة أن يردّ نظره إلى النّفي الأصليّ قبل ورود الشّرع . ثمّ يبحث عن الأدلّة السّمعيّة ، فينظر أوّل شيء في الإجماع ، فإن وجد في المسألة إجماعاً ، ترك النّظر في الكتاب والسّنّة ، فإنّهما يقبلان النّسخ ، والإجماع لا يقبله . فالإجماع على خلاف ما في الكتاب والسّنّة دليل قاطع على النّسخ ، إذ لا تجتمع الأمّة على الخطأ » . وقد حرّر ذلك ابن تيميّة فقال " كلّ من عارض نصّاً بإجماع ، وادّعى نسخه ، من غير نصّ يعارض ذلك النّصّ ، فإنّه مخطئ في ذلك ، فإنّ النّصوص لم ينسخ منها شيء إلاّ بنصّ باق محفوظ لدى الأمّة » . وفي موضع آخر قال " لا ريب أنّه إذا ثبت الإجماع كان دليلاً على أنّه منسوخ ، فإنّ الأمّة لا تجتمع على ضلالة ، ولكن لا يعرف إجماع على ترك نصّ إلاّ وقد عرف النّصّ النّاسخ له ، ولهذا كان أكثر من يدّعي نسخ النّصوص بما يدّعيه من الإجماع إذا حقّق الأمر عليه ، لم يكن الإجماع الّذي ادّعاه صحيحاً ، بل غايته أنّه لم يعرف فيه نزاعاً » . وفي الإجماع تفصيل وخلاف أوسع ممّا ذكر ، موطنه الملحق الأصوليّ .
إجمال
التّعريف
1 - الإجمال مصدر أجمل ، ومن معانيه في اللّغة : جمع الشّيء من غير تفصيل . وللأصوليّين في الإجمال اصطلاحان ، تبعاً لاختلافهم في تعريف المجمل : الأوّل : اصطلاح الأصوليّين غير الحنفيّة ( المتكلّمين ) ، وهو أنّ المجمل ما لم تتّضح دلالته . فيكون عامّاً في كلّ ما لم تتّضح دلالته . وما لحقه البيان خرج من الإجمال بالاتّفاق ( ر : بيان ) ، وكما يكون الإجمال عندهم في الأقوال ، يكون في الأفعال . وقد مثّل له بعض الأصوليّين بما ورد « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سلّم في صلاة رباعيّة من اثنتين » ، فدار فعله بين أن يكون سلّم سهواً ، وبين أن تكون الصّلاة قد قصرت . فاستفسر منه ذو اليدين ، فبيّن لهم أنّه سها . الثّاني : اصطلاح الأصوليّين من الحنفيّة ، وهو أنّ المجمل ما لا يعرف المراد منه إلاّ ببيان يرجى من جهة المجمل ، ومعنى ذلك أنّ خفاءه لا يعرف بمجرّد التّأمّل ، ومثّلوا له بالأمر بالصّلاة والزّكاة ونحوهما ، قبل بيان مراد الشّارع منها .
( الألفاظ ذات الصّلة )
أ - المشكل :
2 - إن كان المعنى ممّا يدرك بالتّأمّل فليس عند الحنفيّة مجملاً ، بل يسمّى " مشكلاً " ، ومثّلوا له بقول اللّه تعالى : { فأتوا حرثكم أنّى شئتم } ، فإنّ « أنّى » دائرة بين معنى « أين » ومعنى « كيف » ، وبالتّأمّل يظهر أنّ المراد الثّاني ، بقرينة الحارث ، وتحريم الأذى .
ب - المتشابه :
3 - وأمّا إن كان لا يرجى معرفة معناه في الدّنيا فهو عندهم " متشابه " ، وهو ما استأثر اللّه تعالى بعلمه ، كالحروف المقطّعة في أوائل السّور .
ج - الخفيّ :
4 - وهو ما كان خفاؤه في انطباقه على بعض أفراده لعارض هو تسمية ذلك الفرد باسم آخر ، كلفظ « السّارق " ، فهو ظاهر في مفهومه الشّرعيّ ، ولكنّه خفيّ في الطّرّار والنّبّاش . حكم المجمل :
5 - ذهب أصوليّو الحنفيّة إلى أنّ حكم المجمل التّوقّف فيه إلى أن يتبيّن المراد به ، بالاستفسار من صدر منه المجمل . وذهب غيرهم إلى أنّ حكم المجمل التّوقّف فيه إلى أن يتبيّن من جهة المجمل ، أو بالقرائن ، أو بالعرف ، أو بالاجتهاد . وفي ذلك تفصيل موطنه الملحق الأصوليّ .
أجنبيّ
التّعريف
1 - الأجنبيّ في اللّغة الغريب ، ويقال للغريب أيضاً جنب ، وأجنب ، ومن معاني الجنابة : الغربة . واجتنب فلان فلاناً إذا تجنّبه وابتعد عنه ، ونقل في التّاج عن الأساس : « ومن المجاز : هو أجنبيّ عن كذا ، أي لا تعلّق له به ولا معرفة " يعني كما تقول : فلان أجنبيّ عن هذا العلم ، أو عن هذه القضيّة . فيطلق الأجنبيّ على من هو غريب حسّاً أو معنًى .
2 - ولم نجد أحداً من الفقهاء عرّف هذا المصطلح ، ولكن باستقراء . مواضع وروده في كلامهم تبيّن أنّه لفظ ليس له معنًى واحد ، بل يفسّر في كلّ مقام بحسبه . فمن معانيه ما يلي : أ - الأجنبيّ البعيد عنك في القرابة ، وهو الّذي لا تصله بك رابطة النّسب ، كقول المحلّيّ في شرح منهاج الطّالبين : « الأجنبيّ أن يحجّ عن الميّت حجّة الإسلام بغير إذن » . قال عميرة في حاشيته : « المراد بالأجنبيّ غير الوارث . قاله شيخنا . وقياس الصّوم أن يراد به غير القريب » .
ب - والأجنبيّ الغريب عن الأمر من عقد أو غيره ، كقولهم : « لو أتلف المبيع أجنبيّ قبل قبضه فسد العقد " أي شخص غريب عن العقد ، ليس هو البائع ولا المشتري . وكقولهم : « هل يصحّ شرط الخيار لأجنبيّ " ويسمّى الأجنبيّ إذا تصرّف فيما ليس له : « فضوليّاً " ج - والأجنبيّ : الغريب عن الوطن ، ودار الإسلام كلّها وطن للمسلم . فالأجنبيّ عنها من ليس بمسلم ولا ذمّيّ .
د - والأجنبيّ عن المرأة من لم يكن محرماً لها . والمحرم من يحرم عليه نكاحها على التّأبيد بنسب أو بسبب مباح وقيل بمطلق سبب ، ولو كان قريباً كابن عمّها وابن خالها .
انقلاب الأجنبيّ إلى ذي علاقة ، وعكسه :
3 - ينقلب الأجنبيّ إلى ذي علاقة في أحوال ، منها : أ - بالعقد ، كعقد النّكاح ، فإنّه تنقلب به المرأة الأجنبيّة إلى زوجة ، وكعقد الشّركة ، وعقد الوكالة ونحوهما . وتفصيل ذلك في أبوابه من الفقه .
ب - بالإذن والتّفويض ونحوهما ، كتفويض الطّلاق إلى المرأة أو إلى غيرها ، وكالتّوكيل والإيصاء .
ج - بالاضطرار ، كأخذ من اشتدّ جوعه ما في يد غيره من الطّعام فائضاً عن ضرورته بغير رضاه .
د - حكم القضاء ، كنصب الأجنبيّ وصيّاً أو ناظراً على الوقف .
4 - وينقلب ذو العلاقة إلى أجنبيّ في أحوال :
منها : أ - ارتفاع السّبب الّذي به صار الأجنبيّ ذا علاقة ، كطلاق المرأة ، وفسخ عقد البيع ، ونحو ذلك .
ب - قيام المانع الّذي يحول دون كون السّبب مؤثّراً ، وذلك كردّة أحد الزّوجين ، يصبح به كلّ منهما أجنبيّاً عن الآخر ، فلا عشرة ولا ميراث .
ج - حكم القضاء ، كالحجر على السّفيه ، والتّفريق بين المولي وزوجته عند تمام المدّة عند الجمهور ، والتّفريق للضّرر ، والحكم باستحقاق العين لغير ذي اليد .
اجتماع ذي العلاقة والأجنبيّ :
5 - إذا اجتمع ذو علاقة وأجنبيّ ، فذو العلاقة هو الأولى ، كما يلي .
( الحكم الإجماليّ )
يختلف الحكم الإجماليّ للأجنبيّ بحسب معانيه المختلفة : أوّلاً : الأجنبيّ الّذي هو خلاف القريب :
6 - للقريب حقوق وميزات ينفرد بها عن الأجنبيّ ، ومن ذلك أنّه أولى من الأجنبيّ برعاية الشّخص المحتاج إلى الرّعاية والنّظر كما في الأمثلة التّالية : أ - أنّ القريب له حقّ الولاية على نفس الصّغير والمجنون وتزويج المرأة دون الأجنبيّ .
ب - وأنّ له حقّ الحضانة للصّغير والمجنون دون الأجنبيّ ، ويقدّم أولى الأقارب في استحقاق الحضانة حسب ترتيب معيّن . وإذا تزوّجت الحاضنة من أجنبيّ من المحضون سقط حقّها في الحضانة ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم للأمّ : أنت أحقّ به ما لم تنكحي » . وتفصيل ذلك في أبواب الحضانة من كتب الفقه .
ج - وأنّ القريب أولى من الأجنبيّ بتغسيل الميّت ، وبالإمامة في الصّلاة عليه ، على تفصيل يعرف في أبواب الجنائز .
ثانياً : الأجنبيّ في التّصرّفات والعقود :
7 - المراد بالأجنبيّ هنا من ليست له صلاحية التّصرّف ، والّذي له صلاحية التّصرّف هو صاحب الحقّ والوصيّ والوكيل ونحوهم ، فمن سواهم أجنبيّ . فإن تصرّف الإنسان في حقّ هو فيه أجنبيّ ، على أنّ تصرّفه لنفسه ، فتصرّفه باطل . أمّا إن تصرّف عن غيره من غير أن تكون له ولاية أو نيابة فهو الّذي يسمّى عند الفقهاء الفضوليّ واختلفوا في تصرّفه ذاك ، فمنهم من أبطله ، ومنهم من جعله موقوفاً على الإجازة . ( ر : إجازة . فضوليّ ) .
ب - الأجنبيّ والعبادة :
8 - لا يختلف حكم الأجنبيّ عن حكم الوليّ في شأن أداء العبادات البدنيّة عن الغير ، فلا تصحّ الصّلاة والصّيام عن الحيّ ، إذ لا بدّ في ذلك من النّيّة ، ولا يجب على الوليّ أو غيره القضاء عن الميّت لما في ذمّته من العبادات . ، إن تبرّع به الوليّ أو الأجنبيّ ففي إجزائه عن الميّت خلاف . أمّا العبادات الماليّة المحضة كالزّكاة وبعض الكفّارات وفدية الصّوم ، أو الماليّة البدنيّة كالحجّ ، فلا يصحّ كذلك فعلها عن الغير بغير إذنه ، إن كان حيّاً قادراً . وأمّا فعلها عن الميّت فيجب على الوليّ أو الوصيّ إذا أوصى من هو عليه قبل وفاته بذلك ، في حدود ثلث التّركة ، على مذهب الحنفيّة . وعند غيرهم تنفذ من كلّ المال ، سواء أوصى بها أم لم يوص ، كسائر الدّيون . وفي المسألة خلاف وتفصيل يرجع لمعرفته إلى أبواب الزّكاة والحجّ والصّوم والكفّارات .
ج - تبرّع الأجنبيّ بأداء الحقوق :
9 - تبرّع الأجنبيّ بأداء ما ترتّب على الغير من الحقوق جائز ، وذلك كوفاء دينه ، ودفع مهر زوجته ونفقتها ونفقة أولاده . وله حقّ الرّجوع إن كان فعل ذلك بإذن حاكم ، أو نوى الرّجوع به ، وفي ذلك تفصيل وخلاف يرجع لمعرفته إلى الأبواب الخاصّة بتلك الحقوق من كتب الفقه .
ثالثاً : الأجنبيّ بمعنى من لم يكن من أهل الوطن :
10 - الأجنبيّ عن دار الإسلام هو الحربيّ ، وهو من لم يكن مسلماً ولا ذمّيّاً ، ولا يحقّ لمن لم يكن كذلك دخول دار الإسلام إلاّ بأمان ، فإذا دخل دار الإسلام بالأمان سمّي مستأمناً . ولمعرفة أحكام الأجنبيّ بهذا المعنى ( ر : أمان . مستأمنون . أهل الحرب ) .
رابعاً : الأجنبيّ عن المرأة :
11 - خصّصت الشّريعة الأجانب بأحكام خاصّة ، دون الزّوج وذوي المحرم . وذلك رعايةً لسلامة المرأة ، ومحافظةً عليها من أن يصل إليها ما يجرح كرامتها . وقد يسّرت الشّريعة في العلاقة بين المرأة وزوجها ، إذ أنّ عقد الزّواج يبيح لكلّ من الزّوجين من التّمتّع بالآخر ما يكون سبباً للسّكن بينهما ، لتتمّ حكمة اللّه بدوام النّسل ونشوئه في كنف الأبوين على أحسن وجه ، ولم تضيّق الشّريعة أيضاً في العلاقة بين المرأة ومحرمها لأنّ ما يقوم بأنفسهما من المودّة والاحترام يحجب نوازع الرّغبة ، ولكي تتمكّن المرأة وأقاربها الأقربون من العيش معاً بيسر وسهولة ، والزّوج والمحرم في ذلك مخالفان للأجنبيّ ، فوضعت الشّريعة حدوداً للعلاقة بين المرأة وبينه ، تتلخّص فيما يلي : أ - النّظر :
12 - فيحرم على الأجنبيّ النّظر إلى زينة المرأة وبدنها ، كلّه على رأي بعض الفقهاء ، أو ما عدا الوجه والكفّين والقدمين عند البعض الآخر . وكذلك يجب على المرأة أن تستتر عن الأجنبيّ بتغطية ما لا يحلّ له رؤيته ، وعليها أن تمتنع عن النّظر من بدن الأجنبيّ - والمحرم مثله - إلاّ إلى ما سوى العورة ، أو إلى ما عدا ما تنظره المرأة من المرأة .
ب - اللّمس :
13 - فلا يلمس الأجنبيّ بدن المرأة .
ج - الخلوة :
14 - فلا يحلّ للرّجل والمرأة إذا كانا أجنبيّين أن يخلو أحدهما بالآخر ، لما ورد في حديث البخاريّ مرفوعاً « إيّاكم والدّخول على النّساء » وحديثه الآخر « لا يخلونّ رجل بامرأة إلاّ مع ذي محرم » د - صوت المرأة :
15 - فيحرم استماع الأجنبيّ لصوت المرأة على القول المرجوح عند الحنفيّة لأنّه عورة . وفي كثير ممّا ذكرناه خلاف بين الفقهاء وتفصيل واستثناءات يرجع لمعرفتها إلى باب الحظر والإباحة من كتب الحنفيّة ، وإلى أوائل أبواب النّكاح وباب ستر العورة من شروط الصّلاة في كتب سائر المذاهب .
أجنبيّة
انظر : أجنبيّ .
إجهاز
التّعريف
1 - من معاني الإجهاز في اللّغة : الإسراع ، فالإجهاز على الجريح : إتمام قتله . ويستعمل الفقهاء " الإجهاز " بهذا المعنى . كما يستعملون لهذا المعنى أيضاً كلمة " تذفيف » . الحكم العامّ :
2 - الإجهاز على الإنسان الجريح : الإجهاز على جرحى الكفّار المقاتلين جائز ، وكذلك جرحى البغاة المقاتلين إذا كانت لهم فئة ، فإن لم تكن لهم فئة فلا يجوز قتل جريحهم . أمّا الإجهاز على من وجب عليه الموت في حدّ أو قصاص فهو واجب بالاتّفاق .
3 - الإجهاز على الحيوان : الحيوان على نوعين : نوع يجوز ذبحه ، بأن كان مأكول اللّحم ، أو قتله ، بأن كان مؤذياً . وهذا النّوع يجوز الإجهاز عليه إن أصابه مرض أو جرح ؛ لأنّه يجوز ذبحه أو قتله ابتداءً ، ونوع لا يجوز قتله كالحمار ونحوه ، وفي جواز الإجهاز عليه إن أصابه مرض أو جرح - إراحةً له - خلاف ، أجاز ذلك الحنفيّة والمالكيّة ، ومنعه الشّافعيّة والحنابلة . وقد ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الذّبائح ، وذكره الحنفيّة في كتاب الحظر والإباحة .
إجهاض
التّعريف
1 - يطلق الإجهاض في اللّغة على صورتين : إلقاء الحمل ناقص الخلق ، أو ناقص المدّة ، سواء من المرأة أو غيرها ، والإطلاق اللّغويّ يصدق سواء كان الإلقاء بفعل فاعل أم تلقائيّاً .
2 - ولا يخرج استعمال الفقهاء لكلمة إجهاض عن هذا المعنى . وكثيراً ما يعبّرون عن الإجهاض بمرادفاته كالإسقاط والإلقاء والطّرح والإملاص .
صفة الإجهاض ( حكمه التّكليفيّ ) :
3 - من الفقهاء من فرّق بين حكم الإجهاض بعد نفخ الرّوح ، وبين حكمه قبل ذلك وبعد التّكوّن في الرّحم والاستقرار ، ولمّا كان حكم الإجهاض بعد نفخ الرّوح موضع اتّفاق كان الأنسب البدء به ثمّ التّعقيب بحكمه قبل نفخ الرّوح ، مع بيان آراء الفقهاء واتّجاهاتهم فيه :
أ - حكم الإجهاض بعد نفخ الرّوح :
4 - نفخ الرّوح يكون بعد مائة وعشرين يوماً ، كما ثبت في الحديث الصّحيح الّذي رواه ابن مسعود مرفوعاً : « إنّ أحدكم يجمع خلقه في بطن أمّه أربعين يوماً نطفةً ، ثمّ يكون علقةً مثل ذلك ، ثمّ يكون مضغةً مثل ذلك ، ثمّ يرسل الملك فينفخ فيه الرّوح » . ولا يعلم خلاف بين الفقهاء في تحريم الإجهاض بعد نفخ الرّوح . فقد نصّوا على أنّه إذا نفخت في الجنين الرّوح حرّم الإجهاض إجماعاً . وقالوا إنّه قتل له ، بلا خلاف . والّذي يؤخذ من إطلاق الفقهاء تحريم الإجهاض بعد نفخ الرّوح أنّه يشمل ما لو كان في بقائه خطر على حياة الأمّ وما لو لم يكن كذلك . وصرّح ابن عابدين بذلك فقال : لو كان الجنين حيّاً ، ويخشى على حياة الأمّ من بقائه ، فإنّه لا يجوز تقطيعه ؛ لأنّ موت الأمّ به موهوم ، فلا يجوز قتل آدميّ لأمر موهوم .
ب - حكم الإجهاض قبل نفخ الرّوح :
5 - في حكم الإجهاض قبل نفخ الرّوح اتّجاهات مختلفة وأقوال متعدّدة ، حتّى في المذهب الواحد ، فمنهم من قال بالإباحة مطلقاً ، وهو ما ذكره بعض الحنفيّة ، فقد ذكروا أنّه يباح الإسقاط بعد الحمل ، ما لم يتخلّق شيء منه . والمراد بالتّخلّق في عبارتهم تلك نفخ الرّوح . وهو ما انفرد به من المالكيّة اللّخميّ فيما قبل الأربعين يوماً ، وقال به أبو إسحاق المروزيّ من الشّافعيّة قبل الأربعين أيضاً ، وقال الرّمليّ : لو كانت النّطفة من زناً فقد يتخيّل الجواز قبل نفخ الرّوح . والإباحة قول عند الحنابلة في أوّل مراحل الحمل ، إذ أجازوا للمرأة شرب الدّواء المباح لإلقاء نطفة لا علقة ، وعن ابن عقيل أنّ ما لم تحلّه الرّوح لا يبعث ، فيؤخذ منه أنّه لا يحرم إسقاطه ، وقال صاحب الفروع : ولكلام ابن عقيل وجه .
6 - ومنهم من قال بالإباحة لعذر فقط ، وهو حقيقة مذهب الحنفيّة . فقد نقل ابن عابدين عن كراهة الخانيّة عدم الحلّ لغير عذر ، إذ المحرم لو كسر بيض الصّيد ضمن لأنّه أصل الصّيد . فلمّا كان يؤاخذ بالجزاء فلا أقلّ من أن يلحقها - من أجهضت نفسها - إثم هنا إذا أسقطت بغير عذر ، ونقل عن ابن وهبان أنّ من الأعذار أن ينقطع لبنها بعد ظهور الحمل وليس لأبي الصّبيّ ما يستأجر به الظّئر ( المرضع ) ويخاف هلاكه ، وقال ابن وهبان : إنّ إباحة الإسقاط محمولة على حالة الضّرورة . ومن قال من المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بالإباحة دون تقييد بالعذر فإنّه يبيحه هنا بالأولى ، وقد نقل الخطيب الشّربينيّ عن الزّركشيّ : أنّ المرأة لو دعتها ضرورة لشرب دواء مباح يترتّب عليه الإجهاض فينبغي أنّها لا تضمن بسببه .
7 - ومنهم من قال بالكراهة مطلقاً . وهو ما قال به عليّ بن موسى من فقهاء الحنفيّة . فقد نقل ابن عابدين عنه : أنّه يكره الإلقاء قبل مضيّ زمن تنفخ فيه الرّوح ؛ لأنّ الماء بعدما وقع في الرّحم مآله الحياة ، فيكون له حكم الحياة ، كما في بيضة صيد الحرم . وهو رأي عند المالكيّة فيما قبل الأربعين يوماً ، وقول محتمل عند الشّافعيّة . يقول الرّمليّ : لا يقال في الإجهاض قبل نفخ الرّوح إنّه خلاف الأولى ، بل محتمل للتّنزيه والتّحريم ، ويقوى التّحريم فيما قرب من زمن النّفخ لأنّه جريمة .
8 - ومنهم من قال بالتّحريم ، وهو المعتمد عند المالكيّة . يقول الدّردير : لا يجوز إخراج المنيّ المتكوّن في الرّحم ولو قبل الأربعين يوماً ، وعلّق الدّسوقيّ على ذلك بقوله : هذا هو المعتمد . وقيل يكره . ممّا يفيد أنّ المقصود بعدم الجواز في عبارة الدّردير التّحريم . كما نقل ابن رشد أنّ مالكاً قال : كلّ ما طرحته المرأة جناية ، من مضغة أو علقة ، ممّا يعلم أنّه ولد ، ففيه الغرّة وقال : واستحسن مالك الكفّارة مع الغرّة . والقول بالتّحريم هو الأوجه عند الشّافعيّة ؛ لأنّ النّطفة بعد الاستقرار آيلة إلى التّخلّق مهيّأة لنفخ الرّوح . وهو مذهب الحنابلة مطلقاً كما ذكره ابن الجوزيّ ، وهو ظاهر كلام ابن عقيل ، وما يشعر به كلام ابن قدامة وغيره بعد مرحلة النّطفة ، إذ رتّبوا الكفّارة والغرّة على من ضرب بطن امرأة فألقت جنيناً ، وعلى الحامل إذا شربت دواءً فألقت جنيناً .
بواعث الإجهاض ووسائله :
9 - بواعث الإجهاض كثيرة ، منها قصد التّخلّص من الحمل سواء أكان الحمل نتيجة نكاح أم سفاح ، أو قصد سلامة الأمّ لدفع خطر عنها من بقاء الحمل أو خوفاً على رضيعها ، على ما سبق بيانه . كما أنّ وسائل الإجهاض كثيرة قديماً وحديثاً ، وهي إمّا إيجابيّة وإمّا سلبيّة . فمن الإيجابيّة : التّخويف أو الإفزاع كأن يطلب السّلطان من ذكرت عنده بسوء فتجهض فزعاً ، ومنها شمّ رائحة ، أو تجويع ، أو غضب ، أو حزن شديد ، نتيجة خبر مؤلم أو إساءة بالغة ، ولا أثر لاختلاف كلّ هذا . ومن السّلبيّة امتناع المرأة عن الطّعام ، أو عن دواء موصوف لها لبقاء الحمل . ومنه ما ذكره الدّسوقيّ من أنّ المرأة إذا شمّت رائحة طعام من الجيران مثلاً ، وغلب على ظنّها أنّها إن لم تأكل منه أجهضت فعليها الطّلب . فإن لم تطلب ، ولم يعلموا بحملها ، حتّى ألقته ، فعليها الغرّة لتقصيرها ولتسبّبها .
عقوبة الإجهاض :
10 - اتّفق الفقهاء على أنّ الواجب في الجناية على جنين الحرّة هو غرّة . لما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة وغيره : « أنّ امرأتين من هذيل رمت إحداهما الأخرى ، فطرحت جنينها ، فقضى فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بغرّة عبد أو وليدة » .
11 - واتّفق فقهاء المذاهب على أنّ مقدار الغرّة في ذلك هو نصف عشر الدّية الكاملة ، وأنّ الموجب للغرّة كلّ جناية ترتّب عليها انفصال الجنين عن أمّه ميّتاً ، سواء أكانت الجناية نتيجة فعل أم قول أم ترك ، ولو من الحامل نفسها أو زوجها ، عمداً كان أو خطأً .
12 - ويختلف الفقهاء في وجوب الكفّارة - وهي العقوبة المقدّرة حقّاً للّه تعالى - مع الغرّة . ( والكفّارة هنا هي عتق رقبة مؤمنة ، فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) فالحنفيّة والمالكيّة يرون أنّها مندوبة وليست واجبةً ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لم يقض إلاّ بالغرّة . كما أنّ الكفّارة فيها معنى العقوبة ؛ لأنّها شرعت زاجرةً ، وفيها معنى العبادة ؛ لأنّها تتأدّى بالصّوم . وقد عرف وجوبها في النّفوس المطلقة فلا يتعدّاها لأنّ العقوبة لا يجري فيها القياس ، والجنين يعتبر نفساً من وجه دون وجه لا مطلقاً . ولهذا لم يجب فيه كلّ البدل ، فكذا لا تجب فيه الكفّارة لأنّ الأعضاء لا كفّارة فيها . وإذا تقرّب بها إلى اللّه كان أفضل . وعلى هذا فإنّها غير واجبة . ويرى الشّافعيّة والحنابلة وجوب الكفّارة مع الغرّة . لأنّها إنّما تجب حقّاً للّه تعالى لا لحقّ الآدميّ ؛ ولأنّه نفس مضمونة بالدّية ، فوجبت فيه الكفّارة . وترك ذكر الكفّارة لا يمنع وجوبها . فقد ذكر الرّسول صلى الله عليه وسلم في موضع آخر الدّية ، ولم يذكر الكفّارة . وهذا الخلاف إنّما هو في الجنين المحكوم بإيمانه لإيمان أبويه أو أحدهما ، أو المحكوم له بالذّمّة . كما نصّ الشّافعيّة والحنابلة على أنّه إذا اشترك أكثر من واحد في جناية الإجهاض لزم كلّ شريك كفّارة ، وهذا لأنّ الغاية من الكفّارة الزّجر . أمّا الغرّة فواحدة لأنّها للبدليّة .
الإجهاض المعاقب عليه :
13 - يتّفق الفقهاء على وجوب الغرّة بموت الجنين بسبب الاعتداء ، كما يتّفقون على اشتراط انفصاله ميّتاً ، أو انفصال البعض الدّالّ على موته . إذ لا يثبت حكم المولود إلاّ بخروجه ؛ ولأنّ الحركة يجوز أن تكون لريح في البطن سكنت ، وبالإلقاء ظهر تلفه بسبب الضّرب أو الفزع ونحوهما ، غير أنّ الشّافعيّة قالوا : لو علم موت الجنين وإن لم ينفصل منه شيء فكالمنفصل . والحنفيّة يعتبرون انفصال الأكثر كانفصال الكلّ ، فإن نزل من قبل الرّأس فالأكثر خروج صدره ، وإن كان من قبل الرّجلين فالأكثر انفصال سرّته . والحنفيّة والمالكيّة على أنّه لا بدّ أن يكون ذلك قبل موت أمّه يقول ابن عابدين : وإن خرج جنين ميّت بعد موت الأمّ فلا شيء فيه ؛ لأنّ موت الأمّ سبب لموته ظاهراً ، إذ حياته بحياتها ، فيتحقّق موته بموتها ، فلا يكون في معنى ما ورد به النّصّ ، إذ الاحتمال فيه أقلّ ، فلا يضمن بالشّكّ ؛ ولأنّه يجري مجرى أعضائها ، وبموتها سقط حكم أعضائها . وقال الحطّاب والموّاق : الغرّة واجبة في الجنين بموته قبل موت أمّه . وقال ابن رشد : ويشترط أن يخرج الجنين ميّتاً ولا تموت أمّه من الضّرب . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيوجبون الغرّة سواء أكان انفصال الجنين ميّتاً حدث في حياة الأمّ أو بعد موتها لأنّه كما يقول ابن قدامة : جنين تلف بجناية ، وعلم ذلك بخروجه ، فوجب ضمانه كما لو سقط في حياتها . ولأنّه لو سقط حيّاً ضمنه ، فكذلك إذا سقط ميّتاً كما لو أسقطته في حياتها . ويقول القاضي زكريّا الأنصاريّ : ضرب الأمّ ، فماتت ، ثمّ ألقت ميّتاً ، وجبت الغرّة ، كما لو انفصل في حياتها . يتّفق الفقهاء في أصل ترتّب العقوبة إذا استبان بعض خلق الجنين ، كظفر وشعر ، فإنّه يكون في حكم تامّ الخلق اتّفاقاً ولا يكون ذلك كما يقول ابن عابدين إلاّ بعد مائة وعشرين يوماً ، وتوسّع المالكيّة فأوجبوا الغرّة حتّى لو لم يستبن شيء من خلقه ، ولو ألقته علقةً أي دماً مجتمعاً ، ونقل ابن رشد عن الإمام مالك قوله : كلّ ما طرحت من مضغة أو علقة ممّا يعلم أنّه ولد ففيه غرّة والأجود أن يعتبر نفخ الرّوح فيه . والشّافعيّة يوجبون الغرّة أيضاً لو ألقته لحماً في صورة آدميّ ، وعند الحنابلة إذا ألقت مضغةً ، فشهد ثقات من القوابل أنّه مبتدأ خلق آدميّ ، وجهان : أصحّهما لا شيء فيه ، وهو مذهب الشّافعيّ فيما ليس فيه صورة آدميّ . أمّا عند الحنفيّة ففيه حكومة عدل ، إذ ينقل ابن عابدين عن الشّمنّيّ : أنّ المضغة غير المتبيّنة الّتي يشهد الثّقات من القوابل أنّها بدء خلق آدميّ فيها حكومة عدل .
تعدّد الأجنّة في الإجهاض :
14 - لا خلاف بين فقهاء المذاهب في أنّ الواجب الماليّ من غرّة أو دية يتعدّد بتعدّد الأجنّة . فإن ألقت المرأة بسبب الجناية جنينين أو أكثر تعدّد الواجب بتعدّدهم ؛ لأنّه ضمان آدميّ ، فتعدّد بتعدّده ، كالدّيات . والقائلون بوجوب الكفّارة مع الغرّة - وهم الشّافعيّة والحنابلة كما تقدّم - يرون أنّها تتعدّد بتعدّد الجنين أيضاً .
من تلزمه الغرّة :
15 - الغرّة تلزم العاقلة في سنة بالنّسبة للجنين الحرّ عند فقهاء الحنفيّة ، للخبر الّذي روي عن محمّد بن الحسن « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قضى بالغرّة على العاقلة في سنة » ، ولا يرث الجاني وهذا هو الأصحّ عند الشّافعيّة ، فقد قالوا : الغرّة على عاقلة الجاني ولو الحامل نفسها ؛ لأنّ الجناية على الجنين لا عمد فيها حتّى يقصد بالجناية ، بل يجري فيها الخطأ وشبه العمد . سواء أكانت الجناية على أمّه خطأً أم عمداً أم شبه عمد . وللحنفيّة تفصيل : فلو ضرب الرّجل بطن امرأته ، فألقت جنيناً ميّتاً ، فعلى عاقلة الأب الغرّة ، ولا يرث فيها ، والمرأة إن أجهضت نفسها متعمّدةً دون إذن الزّوج ، فإنّ عاقلتها تضمن الغرّة ولا ترث فيها ، وأمّا إن أذن الزّوج ، أو لم تتعمّد ، فقيل . لا غرّة ؛ لعدم التّعدّي ، لأنّه هو الوارث والغرّة حقّه ، وقد أذن بإتلاف حقّه . والصّحيح أنّ الغرّة واجبة على عاقلتها أيضاً ؛ لأنّه بالنّظر إلى أنّ الغرّة حقّه لم يجب بضربه شيء ، ولكن لأنّ الآدميّ لا يملك أحد إهدار آدميّته وجبت على العاقلة ، فإن لم يكن لها عاقلة فقيل في مالها ، وفي ظاهر الرّواية : في بيت المال ، وقالوا : إنّ الزّوجة لو أمرت غيرها أن تجهضها ، ففعلت ، لا تضمن المأمورة ، إذا كان ذلك بإذن الزّوج . ويرى المالكيّة وجوب الغرّة في مال الجاني في العمد مطلقاً ، وكذا في الخطأ ، إلاّ أن يبلغ ثلث ديته فأكثر فعلى عاقلته ، كما لو ضرب مجوسيّ حرّةً حبلى ، فألقت جنيناً ، فإنّ الغرّة الواجبة هنا أكثر من ثلث دية الجاني . ويوافقهم الشّافعيّة في قول غير صحيح عندهم فيما إذا كانت الجناية عمداً ، إذ قالوا : وقيل : إن تعمّد الجناية فعليه الغرّة لا على عاقلته ، بناءً على تصوّر العمد فيه والأصحّ عدم تصوّره لتوقّفه على علم وجوده وحياته . أمّا الحنابلة فقد جعلوا الغرّة على العاقلة إذا مات الجنين مع أمّه وكانت الجناية عليها خطأً أو شبه عمد . أمّا إذا كان القتل عمداً ، أو مات الجنين وحده ، فتكون في مال الجاني ، وما تحمله العاقلة يجب مؤجّلاً في ثلاث سنين ، وقيل : من لزمته الكفّارة ففي ماله مطلقاً على الصّحيح من المذهب ، وقيل ما حمله بيت المال من خطأ الإمام والحاكم ففي بيت المال . والتّفصيل في مصطلحات ( عاقلة . غرّة . جنين . دية . كفّارة ) .
الآثار التّبعيّة للإجهاض :
16 - بالإجهاض ينفصل الجنين عن أمّه ميّتاً ، ويسمّى سقطاً . والسّقط هو الولد تضعه المرأة ميّتاً أو لغير تمام أشهره ولم يستهلّ . وقد تكلّم الفقهاء عن حكم تسميته وتغسيله وتكفينه والصّلاة عليه ودفنه . وموضع بيان ذلك وتفصيله مصطلح سقط . أثر الإجهاض في الطّهارة والعدّة والطّلاق :
17 - لا خلاف في أنّ الإجهاض بعد تمام الخلق تترتّب عليه الأحكام الّتي تترتّب على الولادة . من حيث الطّهارة ، وانقضاء العدّة ، ووقوع الطّلاق المعلّق على الولادة ، لتيقّن براءة الرّحم بذلك ، ولا خلاف في أنّ الإجهاض لا أثر له فيما يتوقّف فيه استحقاق الجنين على تحقّق الحياة وانفصاله عن أمّه حيّاً كالإرث والوصيّة والوقف . أمّا الإجهاض في مراحل الحمل الأولى قبل نفخ الرّوح ففيه الاتّجاهات الفقهيّة الآتية : فبالنّسبة لاعتبار أمّه نفساء ، وما يتطلّبه ذلك من تطهّر ، يرى المالكيّة في المعتمد عندهم ، والشّافعيّة ، اعتبارها نفساء ، ولو بإلقاء مضغة هي أصل آدميّ ، أو بإلقاء علقة . ويرى الحنفيّة والحنابلة أنّه إذا لم يظهر شيء من خلقه فإنّ المرأة لا تصير به نفساء . ويرى أبو يوسف ومحمّد في رواية عنه أنّه لا غسل عليها ، لكن يجب عليها الوضوء ، وهو الصّحيح . وبالنّسبة لانقضاء العدّة ووقوع الطّلاق المعلّق على الولادة فإنّ الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة يرون أنّ العلقة والمضغة الّتي ليس فيها أيّ صورة آدميّ لا تنقضي بها العدّة ، ولا يقع الطّلاق المعلّق على الولادة ؛ لأنّه لم يثبت أنّه ولد بالمشاهدة ولا بالبيّنة . أمّا المضغة المخلّقة والّتي بها صورة آدميّ ولو خفيّةً ، وشهدت الثّقات القوابل بأنّها لو بقيت لتصوّرت ، فإنّها تنقضي بها العدّة ويقع الطّلاق ؛ لأنّه علم به براءة الرّحم عند الحنفيّة والحنابلة . لكن الشّافعيّة لا يوقعون الطّلاق المعلّق على الولادة ؛ لأنّه لا يسمّى ولادةً ، أمّا المالكيّة فإنّهم ينصّون على أنّ العدّة تنقضي بانفصال الحمل كلّه ولو علقةً .
إجهاض جنين البهيمة :
18 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو الصّحيح عند الحنابلة ، إلى أنّه يجب في جنين البهيمة إذا ألقته بجناية ميّتاً ما نقصت الأمّ ، أي حكومة عدل ، وهو أرش ما نقص من قيمتها . وإذا نزل حيّاً ثمّ مات من أثر الجناية فقيمته مع الحكومة ، وفي المسائل الملقوطة الّتي انفرد بها مالك أنّ عليه عشر قيمة أمّه ، وهو ما قال به أبو بكر من الحنابلة . ولم نقف للشّافعيّة على كلام في هذا أكثر من قولهم : لو صالت البهيمة وهي حامل على إنسان ، فدفعها ، فسقط جنينها ، فلا ضمان . وهذا يفيد أنّ الدّفع لو كان عدواناً لزمه الضّمان .
أجير
التّعريف
1 - الأجير هو المستأجر ، والجمع أجراء . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن هذا المعنى ، وهو على قسمين : أجير خاصّ : وهو الّذي يقع العقد عليه في مدّة معلومة يستحقّ المستأجر منفعته المعقود عليها في تلك المدّة ، ويسمّى بالأجير الوحد ؛ لأنّه لا يعمل لغير مستأجره ، كمن استؤجر شهراً للخدمة . وأجير مشترك : وهو من يعمل لعامّة النّاس كالنّجّار والطّبيب .
( الحكم الإجماليّ )
2 - استئجار الآدميّ جائز شرعاً لقول اللّه تعالى : { قال إنّي أريد أن أنكحك إحدى ابنتيّ هاتين على أن تأجرني ثماني حجج } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أعطوا الأجير أجره قبل أن يجفّ عرقه » . ومتى كان الأجير جائز التّصرّف ، مستوفياً لشروط العقد من سلامة الأسباب والآلات ، قادراً على تسليم المنفعة المطلوبة منه حسّاً وشرعاً ، ولم يكن فيما يستأجر عليه معصية ، فإنّه يجب عليه الوفاء بما تمّ العقد عليه . فإن كان أجيراً خاصّاً وجب عليه تسليم نفسه لمستأجره ، وتمكينه من استيفاء منفعته المعقود عليها في هذه المدّة ، وامتناعه من العمل لغير مستأجره فيها ، إلاّ أداء الصّلاة المفروضة باتّفاق ، والسّنن على خلاف ، وإذا سلّم نفسه في المدّة فإنّه يستحقّ الأجرة المسمّاة ، وإن لم يعمل شيئاً ، وإن كان أجيراً مشتركاً وجب عليه الوفاء بالعمل المطلوب منه والتّسليم للمستأجر ، ويستحقّ الأجرة بالوفاء بذلك . وما مرّ محلّ اتّفاق بين الفقهاء .
( مواطن البحث )
3 - هذا ، وللأجير أحكام كثيرة باعتباره أحد طرفي عقد الإجارة ، وباعتبار المنفعة المطلوبة منه ، وبيان مدّتها ، أو نوعها ومحلّها ، والأجرة وتعجيلها ، أو تأجيلها ، ومن ناحية خياره وعدمه ، ومتى تنفسخ معه الإجارة ومتى لا تنفسخ ، وغير ذلك . وينظر في مصطلح ( إجارة ) .
إحالة
انظر : حوالة .
أحباس
انظر : وقف .
إحبال
انظر : حمل
احتباء
التّعريف
1 - الاحتباء في اللّغة القعود على مقعدته وضمّ فخذيه إلى بطنه واشتمالهما مع ظهره بثوب أو نحوه ، أو باليدين . وهو عند الفقهاء كذلك . الفرق بين الاحتباء والإقعاء :
2 - الإقعاء وضع الأليتين واليدين على الأرض مع نصب الرّكبتين وعلى هذا يكون الفرق بينهما أنّه يرافق الاحتباء ضمّ الفخذين إلى البطن ، والرّكبتين إلى الصّدر ، والتزامهما باليدين أو بثوب بينما لا يكون في الإقعاء ذلك الالتزام . الحكم العامّ ومواطن البحث :
3 - الاحتباء خارج الصّلاة مباح إن لم يرافقه محظور شرعيّ آخر ككشف العورة مثلاً . والأولى تركه وقت الخطبة وعند انتظار الصّلاة ؛ لأنّه يكون متهيّئاً للنّوم والوقوع وانتقاض الوضوء . هو مكروه في الصّلاة لما ورد من النّهي عنه ، وما فيه من مخالفة الوضع المسنون في الصّلاة .
4 - وقد فصّل الفقهاء حكم الاحتباء في كتاب الصّلاة ، عند كلامهم على مكروهات الصّلاة .
احتباس
التّعريف
1 - الحبس والاحتباس ، ضدّ التّخلية ، أو هو المنع من حرّيّة السّعي ، ولكن الاحتباس - كما يقول أهل اللّغة - يختصّ بما يحبسه الإنسان لنفسه ، قال في لسان العرب : احتبست الشّيء إذا اختصصته لنفسك خاصّةً . وكما أنّه يأتي متعدّياً فإنّه يأتي لازماً ، مثل ما في الحديث : « احتبس جبريل عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم » وقولهم : احتبس المطر أو اللّسان .
( الألفاظ ذات الصّلة )
أ - الحبس :
2 - الفرق بين الحبس والاحتباس ، أنّ الحبس لا يأتي إلاّ متعدّياً ، وليس كذلك الاحتباس فإنّه يأتي متعدّياً ولازماً .
ب - الحجر :
3 - والفرق بين الاحتباس والحجر ، أنّ الحجر منع شخص من التّصرّف في ماله رعايةً لمصلحته . وبذلك يكون الفرق بينهما أنّ الاحتباس هو منع لصالح المحتبس ( بكسر الباء ) ، والحجر منع لصالح المحجور عليه .
ج - الحصر :
4 - والفرق بين الاحتباس والحصر ، أنّ الحصر هو الحبس مع التّضييق ، والتّضييق لا يرد إلاّ على ذي روح ، والاحتباس يرد على ذي الرّوح وغيره ، كما لا يلزم أن يكون في الاحتباس تضييق .
د - الاعتقال :
5 - والفرق بين الاحتباس والاعتقال : أنّ الاعتقال هو الحبس عن حاجته ، أو هو الحبس عن أداء ما هو من وظيفته ، ومن هنا يقولون : اعتقل لسانه إذا حبس ومنع عن الكلام . وليس كذلك الاحتباس ، إذ لا يقصد منه المنع من أداء الوظيفة .
( الحكم الإجماليّ ومواطن البحث )
6 - يجوز الاحتباس في حالتين :
الحالة الأولى : عندما يكون حقّ المحتبس في المحبوس هو الغالب ، كحبس المرهون بالدّين - كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الرّهن ، وحبس الأجير المشترك العين الّتي له فيها أثر حتّى يتسلّم الأجرة ، واحتباس البائع ما في يده من البيع حتّى يسلّم المشتري ما في يده من الثّمن إلاّ بشرط مخالف .
الحالة الثّانية : عندما تتطلّب المصلحة هذا الاحتباس ، كاحتباس المال عن مالكه السّفيه ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الحجر ، واحتباس ما غنمه أهل العدل من أموال البغاة حتّى يتوبوا ، كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب البغاة ، واحتباس الأرض المفتوحة عنوةً للمسلمين ، وعدم توزيعها بين المحاربين ، ونحو ذلك .
7 - ويمتنع الاحتباس في أحوال :
الحال الأولى : عندما يكون حقّ الغير هو الغالب ، كحقّ المرتهن في العين المرهونة ففي هذه الحال يمتنع على المالك ( الرّاهن ) حقّه الأصليّ في الاحتباس .
الحال الثّانية : حالة الضّرورة ، كاحتباس الضّروريّات لإغلاء السّعر على النّاس ، وتفصيل الكلام على ذلك موطنه مصطلح « احتكار » . الحال الثّالثة : حال الحاجة ، ولذلك كره حبس الأشياء المعتاد إعارتها عن الغير إن احتاج إليه ذلك الغير .
من آثار الاحتباس :
8 - من احتبس إنساناً أو حيواناً وجبت عليه مؤنته ، ولذلك وجبت النّفقة للزّوجة ، والقاضي ، والمغصوب ، والحيوان المحتبس ، ووجبت الأجرة للأجير الخاصّ بمجرّد الاحتباس ، ونحو ذلك . وتكره الصّلاة مع احتباس الرّيح أو الغائط - مدافعة الأخبثين - وقد ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الصّلاة عند كلامهم على مكروهات الصّلاة ، وتسنّ صلاة الاستسقاء عند احتباس المطر ، وتفصيل ذلك في كتاب الصّلاة ، فصل صلاة الاستسقاء من كتب الفقه . ويعامل محتبس الكلام - أي من اعتقل لسانه - معاملة الأخرس إذا طال احتباس الكلام عنه كما سنفصّل ذلك في كلمة « أخرس » .
احتجام
التّعريف
1 - ( الاحتجام طلب الحجامة ) . والحجم في لغة : المصّ ، يقال : حجم الصّبيّ ثدي أمّه ، أي ، مصّه ، ومن هنا سمّي الحجام بذلك ، لأنّه يمصّ الجرح ، وفعل المصّ واحترافه يسمّى الحجامة ، ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذه الكلمة عن هذا المعنى . والفرق بين الحجامة والفصد : أنّ الفصد هو شقّ العرق لإخراج الدّم منه فهو غير الاحتجام .
( الحكم الإجماليّ )
2 - الاحتجام مباح للتّطبيب ، ويكره في الوقت الّذي يحتاج فيه المسلم للقوّة والنّشاط لأداء عبادة ونحوها ، لما يورثه من ضعف في البدن ، وكذلك للصّائم . كما نصّ الفقهاء على ذلك في كتاب الصّوم ، عند كلامهم على مكروهات الصّيام . وذهب الحنابلة إلى فساد الصّيام بالحجامة ، وقد ذكروا ذلك في كتاب الصّوم عند كلامهم على ما يفسد الصّوم ولا يوجب الكفّارة .
3 - والحجامة حرفة دنيئة لمخالطة محترفها النّجاسة ، ويترتّب عليها من الآثار ما يترتّب على الحرف الدّنيئة . وتفصيل ذلك في مصطلح احتراف " ويذكره الفقهاء في الكفاءة من باب النّكاح ، وفي باب الإجارة .
4 - الحجامة تطبيب ، فيترتّب عليها ما يترتّب على التّطبيب من آثار : كجواز نظر الحاجم إلى عورة المحجوم عند الضّرورة . وذكر الحنفيّة ذلك في كتاب الحظر والإباحة في باب النّظر ، ويذكره غيرهم غالباً في كتاب النّكاح استطراداً أو في كتاب الصّلاة عند كلامهم على ستر العورة ، وكضمان ما تلف بفعل الحجّام ، ذكر ذلك جمهور الفقهاء في كتاب الجنايات . وذكره المالكيّة في الإجارة ، وذكره ابن قدامة من الحنابلة في التّعزير .
5 - ودم الحجامة نجس كغيره ، ولكن يجزئ المسح في تطهير مكان الجرح منه للضّرورة ، ويجب أن ينزّه المسجد عن الحجامة فيه
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
احتراف
التّعريف
1 - الاحتراف في اللّغة : الاكتساب ، أو طلب حرفة للكسب . والحرفة كلّ ما اشتغل به الإنسان واشتهر به ، فيقولون حرفة فلان كذا ، يريدون دأبه وديدنه . وهي بهذا ترادف كلمتي صنعة ، وعمل . أمّا الامتهان فإنّه لا فرق بينه وبين احتراف ؛ لأنّ معنى المهنة يرادف معنى الحرفة ، وكلّ منهما يراد به حذق العمل . ويوافق الفقهاء اللّغويّين في هذا ، فيطلقون الاحتراف على مزاولة الحرفة وعلى الاكتساب نفسه .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - الصّناعة :
2 - الاحتراف يفترق عن " الصّناعة " لأنّها عند أهل اللّغة ترتيب العمل على ما تقدّم علم به ، وبما يوصّل إلى المراد منه ، ولذا قيل للنّجّار صانع ولا يقال للتّاجر صانع . فلا يشترطون في الصّناعة أن يجعلها الشّخص دأبه وديدنه ، ويخصّ الفقهاء ، كلمة " صناعة " بالحرف الّتي تستعمل فيها الآلة ، فقالوا : الصّناعة ما كان بآلة .
ب - العمل .
3 - يفترق الاحتراف عن العمل ، بأنّ العمل يطلق على الفعل سواء حذقه الإنسان أو لم يحذقه ، اتّخذه ديدناً له أو لم يتّخذه ، ولذلك قالوا : العمل المهنة والفعل . وغالب استعمال الفقهاء إطلاق العمل على ما هو أعمّ من الاحتراف والصّنعة ، كما أنّ الاحتراف أعمّ من الصّنعة .
ج - الاكتساب أو الكسب :
4 - يفترق معنى الاحتراف عن معنى الاكتساب أو الكسب ، بأنّ كلّاً منهما أعمّ من الاحتراف ، لأنّهما عند أهل اللّغة ما يتحرّاه الإنسان ممّا فيه اجتلاب نفع وتحصيل حظّ ، فلا يشترط فيه أن يجعله الشّخص دأبه وديدنه كما هو الحال في الاحتراف ، ويطلق الفقهاء الاكتساب أو الكسب على تحصيل المال بما حلّ أو حرم من الأسباب سواء أكان باحتراف أو بغير احتراف ، كما يطلقون الكسب على الحاصل بالاكتساب . الحكم التّكليفيّ إجمالاً :
5 - الاحتراف فرض كفاية على العموم لاحتياج النّاس إليه وعدم استغنائهم عنه . وسيأتي تفصيل ذلك فيما بعد إن شاء اللّه .
تصنيف الحرف :
6 - تصنّف الحرف إلى صنفين : الصّنف الأوّل : حرف شريفة ، والصّنف الثّاني حرف دنيئة . والأصل في هذا التّصنيف ما رواه عمر بن الخطّاب ، قال : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : إنّي وهبت لخالتي غلاماً ، وأنا أرجو أن يبارك لها فيه . فقلت لها : لا تسلّميه حجّاماً ، ولا صائغاً ، ولا قصّاباً » . قال ابن الأثير : الصّائغ ربّما كان من صنعه شيء للرّجال وهو حرام ، أو كان من آنية وهي حرام ، أمّا القصّاب فلأجل النّجاسة الغالبة على ثوبه وبدنه مع تعذّر الاحتراز . وروي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « العرب أكفاء بعضهم لبعض إلاّ حائكاً أو حجّاماً » . قيل للإمام أحمد : وكيف تأخذ بهذا الحديث وأنت تضعّفه ؟ قال : العمل عليه .
تفاوت الحرف الشّريفة فيما بينها :
7 - فاضل الفقهاء بين الحرف الشّريفة لاعتبارات ذكروها ، فاتّفقوا على أنّ أشرف الحرف العلم وما آل إليه ، كالقضاء والحكم ونحو ذلك ، ولذلك نصّ الحنفيّة على أنّ المدرّس كفء لبنت الأمير . وذكر ابن مفلح إجماع العلماء على أنّ أشرف الكسب الغنائم إذا سلم من الغلول . ثمّ اختلفوا فيما يتلوه في الفضل . هذا وإنّ للفقهاء في كتبهم كلاماً في المفاضلة بين الحرف الشّريفة ، من علم أو تجارة أو صناعة أو زراعة . . إلخ ولهم في اتّجاهاتهم المختلفة فيما هو أشرف استدلال بأحاديث ووجوه من المعقول ظنّيّة الورود أو الدّلالة ، ولعلّ في آرائهم تلك مراعاةً لبعض الأعراف والملابسات الّتي كانت سائدةً في زمانهم ، ونجتزئ بهذه الإشارة عن إيراد الاتّجاهات المختلفة في هذه المسألة .
الحرف الدّنيئة :
8 - لقد حرص الفقهاء على تحديد الحرف الدّنيئة ليبقى ما وراءها من الحرف شريفاً . فقالوا : الحرف الدّنيئة هي كلّ حرفة دلّت ملابستها على انحطاط المروءة وسقوط النّفس . وقد اتّفق الفقهاء على اعتبارهم الحرف المحرّمة ، كاحتراف الزّنا وبيع الخمر ونحو ذلك ، حرفاً دنيئةً كما سيأتي ، وقد سلك الفقهاء في تحديد الحرف الدّنيئة - فيما عدا المحرّمة منها - مسلكين : الأوّل : تحديدها بالضّابط ، ومنه ما نصّ عليه الشّافعيّة من أنّ كلّ حرفة فيها مباشرة نجاسة هي حرفة دنيئة . الثّاني : تحديدها بالعرف ، وهو مسلك جمهور الفقهاء ، ومنهم الشّافعيّة أيضاً ، واجتهدوا استناداً إلى الأعراف السّائدة في عصورهم في تحديد الحرف الدّنيئة . هذا ، وإنّ ما جاء في بعض الكتب الفقهيّة من وصف بعض أنواع من الحرف بالدّناءة - تبعاً لأوضاع زمنيّة - فإنّ القائلين بذلك صرّحوا بأنّه تزول كراهة الاحتراف بحرفة دنيئة إذا كان احترافها للقيام بفرض الكفاية ، إذ ينبغي أن يكون في كلّ بلد جميع الصّنائع المحتاج إليها .
التّحوّل من حرفة إلى حرفة :
9 - قال ابن مفلح في الآداب الشّرعيّة : قال القاضي أبو يعلى : يستحبّ إذا وجد الخير في نوع من التّجارة أن يلزمه ، وإن قصد إلى جهة من التّجارة فلم يقسم له فيها رزقه ، عدل إلى غيره ، لما روى ابن أبي الدّنيا عن موسى بن عقبة مرفوعاً : « إذا رزق أحدكم في الوجه من التّجارة فليلزمه . » وروى ابن أبي شيبة عن عمر بن الخطّاب قال : من اتّجر في شيء ثلاث مرّات ، فلم يصب فيه فليتحوّل إلى غيره . وقال عبد اللّه بن عمر : من اتّجر في شيء ثلاث مرّات فلم يصب فيه ، فليتحوّل إلى غيره . ولكن هل لهذا التّحوّل أثر في الكفاءة بين الزّوجين في الحرفة ؟ ( ر : كفاءة . نكاح )
الحكم التّكليفيّ للاحتراف تفصيلاً
10 - أ - يندب للمرء أن يختار حرفةً لكسب رزقه ، قال عمر بن الخطّاب : إنّي لأرى الرّجل فيعجبني ، فأقول : له حرفة ؟ فإن قالوا : لا ، سقط من عيني .
ب - ويجب - على الكفاية - أن يتوفّر في بلاد المسلمين أصول الحرف جميعها ، احتيج إليها أو لا . قال ابن تيميّة : قال غير واحد من أصحاب الشّافعيّ وأحمد وغيرهم كالغزاليّ ، وابن الجوزيّ ، وغيرهم : إنّ هذه الصّناعات فرض على الكفاية ، فإنّه لا تتمّ مصلحة النّاس إلاّ بها . وقد اختار ابن تيميّة أنّ احتراف بعض الحرف يصبح فرض كفاية إذا احتاج المسلمون إليها ، فإن استغنوا عنها بما يجلبونه أو يجلب إليهم فقد سقط وجوب احترافها . فإذا امتنع المحترفون عن القيام بهذا الفرض أجبرهم الإمام عليه بعوض المثل . قال ابن تيميّة : إنّ هذه الأعمال الّتي هي فرض على الكفاية متى لم يقم بها إلاّ إنسان بعينه صارت فرض عين عليه ، إن كان غيره عاجزاً عنها ، فإذا كان النّاس محتاجين إلى فلاحة قوم أو نساجتهم أو بنائهم صار هذا العمل واجباً يجبرهم وليّ الأمر عليه إذا امتنعوا عنه بعوض المثل ، ولا يمكّنهم من مطالبة النّاس بزيادة عن عوض المثل .
11 - ج - ولمّا كان إقامة الصّناعات فرض كفاية كان توفير المحترفين الّذين يعملون في هذه الصّناعات فرضاً ، لأنّ ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب ، وهو ما ذهب إليه الشّافعيّة ، قال القليوبيّ في حاشيته ما مفاده : يجب أن يسلّم الوليّ الصّغير لذي حرفة يتعلّم منه الحرفة . ورغم أنّ الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة لم ينصّوا على وجوب دفع الوليّ الصّغير إلى من يعلّمه الحرفة إلاّ أنّ كلامهم يقتضي ذلك .
حكم الحرف الدّنيئة :
12 - د - وجمهور الفقهاء على أنّ المكاسب غير المحرّمة كلّها في الإباحة سواء . ولكن هذه الإباحة تكتنفها الكراهة إذا اختار المرء لنفسه أو ولده حرفةً دنيئةً إن وسعه احتراف ما هو أصلح منها . ومع هذا فقد قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : مكسبة فيها بعض الدّناءة خير من مسألة النّاس . وقال ابن عقيل : يكره تعلّم الصّنائع الرّديئة مع إمكان ما هو أصلح منها . ونصّ الشّافعيّة على زوال هذه الكراهة إذا كانت الحرفة الدّنيئة هي حرفة أبيه . ونصّ ابن مفلح الحنبليّ على زوال هذه الكراهة إذا احترف المرء حرفةً دنيئةً للقيام بفرض الكفاية . وقال بعض المتشدّدين من الحنفيّة : ما يرجع إلى الدّناءة من المكاسب في عرف النّاس لا يسع الإقدام عليه إلاّ عند الضّرورة لقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس لمؤمن أن يذلّ نفسه » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه يحبّ معالي الأمور ويبغض سفسافها » ، ولكنّ الصّحيح عند الحنفيّة الأوّل .
الحرف المحظورة
13 - أ - الأصل أنّه لا يجوز احتراف عمل محرّم بذاته ، ومن هنا منع الاتّجار بالخمر واحتراف الكهانة .
ب - كما لا يجوز احتراف ما يؤدّي إلى الحرام أو ما يكون فيه إعانة عليه ، كالوشم : لما فيه من تغيير خلق اللّه وككتابة الرّبا : لما فيه من الإعانة على أكل أموال النّاس بالباطل ونحو ذلك . وتعرّض الفقهاء إلى اتّخاذ حرف يتكسّب منها المحترف من غير أن يبذل فيها جهداً ، أو يزيد زيادةً ، كالخيّاط يتسلّم الثّوب ليخيطه بدينارين فيعطيه لمن يخيطه بدينار ويأخذ الفرق . فذهب الفقهاء إلى جواز ذلك ؛ لأنّ مثل هذه الإجارة كالبيع ، وبيع المبيع يجوز برأس المال وبأقلّ منه وبأكثر ، فكذلك الإجارة إلاّ أنّ الحنفيّة نصّوا على أنّه إذا كانت الأجرة الثّانية من جنس الأجرة الأولى فإنّ الزّيادة لا تطيب له إلاّ إذا بذل جهداً أو زاد زيادةً ، فإنّها تطيب ولو اتّحد الجنس .
آثار الاحتراف :
14 - أ - يعطى الفقير المحترف الّذي لا يملك آلات حرفته من الزّكاة ما يشتري به آلة حرفته . وتفصيل ذلك في ( زكاة ) .
ب - إذا فعل المحترف فعلاً في حدود حرفته ، فأخطأ فيه خطأً يحتمل أن يخطئ فيه المحترفون ، فلا ضمان عليه ، كالطّبيب . أمّا من عداه فيضمن . وتفصيل ذلك في باب الضّمان .
ج - يرى بعض الفقهاء جواز إفطار رمضان لمن يحترف حرفةً شاقّةً يتعذّر عليه الصّيام معها ، وليس بإمكانه تركها في رمضان .
د - للمعتدّة - ولا سيّما المحترفة - الخروج في حوائجها نهاراً سواء أكانت مطلّقةً أو متوفًّى عنها وليس لها المبيت في غير بيتها ولا الخروج ليلاً إلاّ لضرورة . وتفصيله في ( عدّة ) ( وإحداد ) .
هـ - للاحتراف أثر في الكفاءة بين الزّوجين وتفصيله في ( نكاح ) ، وللاحتراف أثر في تخفيف بعض الأحكام الشّرعيّة ، كالتّرخيص للقصّاب بالصّلاة في ثياب مهنته مع ما عليها من الدّم ، ما لم يفحش . وتفصيله في ( نجاسة - ما يعفى عنه من النّجاسات ) .
احتساب
التّعريف
1 - تأتي كلمة " احتساب " في اللّغة بمعان عديدة منها : أ - الاعتداد بالشّيء ، من الحسب ، وهو العدّ .
ب - طلب الثّواب ، وقد استعمل الفقهاء هذا اللّفظ بهذين المعنيين كليهما ، على أنّه عند الإطلاق ينصرف إلى معنى طلب الثّواب . الاحتساب بمعنى الاعتداد أو الاعتبار :
2 - يطلق الفقهاء كلمة " احتساب " عندما يأتي المكلّف بالفعل على غير وجه الكمال ، ومع ذلك فإنّ الشّارع يعتبره صحيحاً مقبولاً . فالمسبوق في الصّلاة إذا أدرك الرّكوع مع الإمام احتسبت له ركعة ، وإن لم يأت بالفرائض الّتي قبله ، ومن دخل المسجد ، فرأى الجماعة قائمةً لصلاة الظّهر فنوى تحيّة المسجد وصلاة الظّهر ودخل معهم في صلاتهم ، احتسبت له تلك الصّلاة تحيّة مسجد وصلاة ظهر . وتفصيل ذلك في " الصّلاة » . الاحتساب بمعنى طلب الثّواب من اللّه تعالى :
3 - طلب الثّواب من اللّه تعالى بالاحتساب يتحقّق في أمور كثيرة منها : أ - تنازل المسلم عن حقّه المترتّب على الغير طلباً لثواب اللّه تعالى ، لا عجزاً ، كعتق الرّقيق ، احتساباً ، ووضع السّيّد بعض مال الكتابة احتساباً والعفو عن القصاص دون مقابل احتساباً ، وإرضاع الصّغير دون مقابل احتساباً .
ب - أداء حقّ من حقوق اللّه تعالى المحضة كالصّلاة ، والصّوم ، وأداء الشّهادة دون طلب في حقّ من حقوق اللّه المحضة ، وفيما للّه تعالى فيه حقّ غالب مؤكّد ، وهو ما لا يتأثّر برضا الآدميّ - كطلاق ، وعتق ، وعفو عن قصاص ، وبقاء عدّة ، وانقضائها ، وحدّ ، ونسب . وقد فصّل الفقهاء القول في ذلك في كتاب الشّهادات عند كلامهم على ما يؤدّى حسبةً من الشّهادات ، وما يتّصل بأحكام المحتسب ينظر في مصطلح « حسبة » .
احتشاش
التّعريف
1 - الاحتشاش معناه في اللّغة طلب الحشيش وجمعه ، والحشيش يابس الكلأ . قال الأزهريّ : لا يقال للرّطب حشيش . واصطلاحاً : قطع الحشيش ، سواء أكان يابساً أم رطباً . وإطلاقه في الرّطب من قبيل المجاز ، باعتبار ما يؤول إليه .
( الحكم الإجماليّ )
2 - اتّفقت المذاهب في الجملة على إباحة الاحتشاش ، رطباً كان الكلأ أو جافّاً ، في غير الحرم ، ما دام غير مملوك لأحد . أمّا إذا كان مملوكاً فلا يجوز احتشاشه إلاّ بإذن مالكه . أمّا في الحرم فقد اتّفقت المذاهب على أنّه لا يحلّ قطع حشيش الحرم غير المملوك لأحد ، إلاّ أنّهم أباحوا الإذخر وملحقاته والسّواك والعوسج ، وقد أباح الشّافعيّة والحنابلة في رأي وأبو يوسف في رأي أيضاً الاحتشاش في الحرم لعلف الدّوابّ . ولتفصيل ذلك ينظر الجنايات في الإحرام .
السّرقة في الاحتشاش :
3 - قال المالكيّة والشّافعيّة ، وهو رأي للحنابلة : تقطع اليد في العشب المحتشّ إذا أخذ من حرز وبلغت قيمته نصاباً ، وقال الحنفيّة وهو رأي للحنابلة : لا قطع فيه .
حماية الكلأ من الاحتشاش :
4 - قال الحنفيّة والحنابلة وهو رأي للشّافعيّة أنّه يجوز للإمام أن يمنع الاحتشاش في مكان معيّن يجعله حمًى لرعي خيل المجاهدين ، ولما يشبه ذلك من المصالح العامّة . أمّا المالكيّة والشّافعيّة فهم لا يجيزون المنع من الاحتشاش .
الشّركة في الاحتشاش :
5 - الحنفيّة والشّافعيّة لا يجيزون عقد الشّركة في تحصيل المباحات العامّة ولا التّوكيل فيها . والاحتشاش والاحتطاب من هذا القبيل . أمّا المالكيّة والحنابلة فقد أجازوا ذلك . ولتفصيل ذلك يرجع إلى أبواب الشّركة والوكالة .
احتضار
التّعريف
1 - الاحتضار لغةً : الإشراف على الموت بظهور علاماته . وقد يطلق على الإصابة باللّمم أو الجنون ، ولا يخرج معناه في الاصطلاح عن المعنى اللّغويّ الأوّل .
علامات الاحتضار :
2 - للاحتضار علامات كثيرة يعرفها المختصّون ، ذكر منها الفقهاء : استرخاء القدمين ، واعوجاج الأنف ، وانخساف الصّدغين ، وامتداد جلدة الوجه .
ملازمة أهل المحتضر له :
3 - يجب على أقارب المحتضر أن يلازموه ، فإن لم يكن فعلى أصحابه ، فإن لم يكن فعلى جيرانه ، فإن لم يكن فعلى عموم المسلمين على وجه الكفاية ، ويستحبّ أن يليه من أقاربه أحسنهم خلقاً وخلقاً وديناً ، وأرفقهم به ، وأعلمهم بسياسته ، وأتقاهم للّه . وندب أن يحضروا عنده طيباً ، وأن يبعدوا النّساء لقلّة صبرهنّ ، وندب إظهار التّجلّد لمن حضر من الرّجال . ولا بأس بحضور الحائض والنّفساء والجنب عند المحتضر وقت الموت ، إذ إنّه قد لا يمكن منعهنّ ، للشّفقة ، أو للاحتياج إليهنّ . وعن الحسن أنّه كان لا يرى بأساً أن تحضر الحائض الميّت والكراهة قول الحنابلة . وقالت المالكيّة : يندب تجنّب حائض وجنب وتمثال وآلة لهو .
من يجري عليهم حكم الاحتضار :
4 - يجري حكم الاحتضار على من قدّم للقتل حدّاً ، أو قصاصاً ، أو ظلماً ، أو من أصيب إصابةً قاتلةً ، كما يجري على من كان عند التحام صفوف المعركة .
ما يفعله المحتضر :
5 - أ - ينبغي للمحتضر تحسين الظّنّ باللّه تعالى ، فيندب لمن حضرته الوفاة أن يرجو رحمة ربّه ومغفرته وسعة عفوه ، زيادةً على حالة الصّحّة ، ترجيحاً للرّجاء على الخوف ، لما روي عن جابر رضي الله عنه قال " سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول قبل موته بثلاث : « لا يموتنّ أحدكم إلاّ وهو يحسن الظّنّ باللّه تعالى » ولخبر الشّيخين في الحديث القدسيّ قال اللّه تعالى : « أنا عند حسن ظنّ عبدي بي ، فلا يظنّ بي إلاّ خيراً » . ولحديث أنس رضي الله عنه « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على شابّ وهو بالموت ، فقال : كيف تجدك ؟ قال : واللّه يا رسول اللّه إنّي أرجو اللّه ، وإنّي أخاف ذنوبي ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلاّ أعطاه اللّه ما يرجو وأمّنه ممّا يخاف » .
ب - وجوب الإيصاء بأداء الحقوق لأصحابها .
ج - توصية أهله باتّباع ما جرت به السّنّة في التّجهيز والدّفن واجتناب البدع في ذلك اتّباعاً لأصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقد وردت الآثار الكثيرة عنهم في هذا المجال ، منها ما ورد عن أبي بردة قال : أوصى أبو موسى رضي الله عنه حين حضره الموت ، قال : إذا انطلقتم بجنازتي فأسرعوا بي المشي ، ولا تتبعوني بمجمّر ، ولا تجعلوا على لحدي شيئاً يحول بيني وبين التّراب ، ولا تجعلوا على قبري بناءً . وأشهدكم أنّي بريء من كلّ حالقة أو سالقة أو خارقة . قالوا : سمعت فيه شيئاً ؟ قال : نعم من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
د - التّوصية لأقربائه الّذين لا يرثون منه ، إن لم يكن وصّى لهم في حال صحّته ، لقوله تعالى : { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيراً الوصيّة للوالدين والأقربين بالمعروف حقّاً على المتّقين } . ولحديث « سعد بن أبي وقّاص رضي الله عنه قال : كنت مع رسول اللّه في حجّة الوداع ، فمرضت مرضاً أشفيت منه على الموت ، فعادني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول اللّه إنّ لي مالاً كثيراً ، وليس يرثني إلاّ ابنة لي ، أفأوصي بثلثي مالي ؟ قال : لا . قلت : بشطر مالي ؟ قال : لا . قلت : فثلث مالي ؟ قال : الثّلث ، والثّلث كثير ، إنّك يا سعد إن تدع ورثتك أغنياء خير لك من أن تدعهم عالةً يتكفّفون النّاس » .
( التّوبة إلى اللّه )
6 - يجب على المحتضر ومن في حكمه أن يتوب إلى اللّه من ذنوبه قبل وصول الرّوح إلى الحلقوم ؛ لأنّ قرب الموت لا يمنع من قبول التّوبة ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « إنّ اللّه يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » . وتفصيل ما يتّصل بالتّوبة من أحكام في مصطلح « توبة » .
تصرّفات المحتضر ومن في حكمه
7 - يجري على تصرّفات المحتضر ومن في حكمه ما يجري على تصرّفات المريض مرض الموت من أحكام ، إذا كان في وعيه ، وتفصيله في مصطلح « مرض الموت » .
ما يسنّ للحاضرين أن يفعلوه عند الاحتضار : أوّلاً : التّلقين :
8 - ينبغي تلقين المحتضر : « لا إله إلاّ اللّه » لقول الرّسول صلى الله عليه وسلم : « لقّنوا موتاكم لا إله إلاّ اللّه » . قال النّوويّ : المراد بالموتى في الحديث المحتضرون الّذين هم في سياق الموت ، سمّوا موتى لقربهم من الموت ، تسميةً للشّيء باسم ما يصير إليه مجازاً . وظاهر الحديث يقتضي وجوب التّلقين ، وإليه مال القرطبيّ ، والّذي عليه الجمهور أنّه مندوب ، وأنّه لا يسنّ زيادة " محمّد رسول اللّه " وهو ما صحّحه في الرّوضة ، والمجموع . ويكون التّلقين قبل الغرغرة ، جهراً وهو يسمع ؛ لأنّ الغرغرة تكون قرب كون الرّوح في الحلقوم ، وحينئذ لا يمكن النّطق بها . والتّلقين إنّما يكون لمن حضر عقله وقدر على الكلام ، فإنّ شارد اللّبّ لا يمكن تلقينه ، والعاجز عن الكلام يردّد الشّهادة في نفسه . والمراد بقوله عليه الصلاة والسلام : « لقّنوا موتاكم لا إله إلاّ اللّه » ذكّروا المحتضر « لا إله إلاّ اللّه » لكي تكون آخر كلامه ، كما في الحديث : « من كان آخر كلامه لا إله إلاّ اللّه دخل الجنّة » . ويرى جماعة أنّه يلقّن الشّهادة ، وقالوا : صورة التّلقين أن يقال عنده في حالة النّزع قبل الغرغرة ، جهراً وهو يسمع : « أشهد أن لا إله إلاّ اللّه وأشهد أنّ محمّداً رسول اللّه " ولا يقال له : قل ، ولا يلحّ عليه في قولها ، مخافة أن يضجر فيأتي بكلام غير لائق . فإذا قالها مرّةً لا يعيدها عليه الملقّن ، إلاّ أن يتكلّم بكلام غيرها . ويستحبّ أن يكون الملقّن غير متّهم بالمسرّة بموته ، كعدوّ أو حاسد أو وارث غير ولده ، وأن يكون ممّن يعتقد فيه الخير . وإذا ظهرت من المحتضر كلمات توجب الكفر لا يحكم بكفره ، ويعامل معاملة موتى المسلمين . ثانياً : قراءة القرآن :
9 - يندب قراءة سورة ( يس ) عند المحتضر ، لما روى أحمد في مسنده عن صفوان ، قال : « كانت المشيخة يقولون : إذا قرئت ( يس ) عند الموت خفّف عنه بها . وأسنده صاحب مسند الفردوس إلى أبي الدّرداء وأبي ذرّ ، قالا : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ما من ميّت يموت فتقرأ عنده يس إلاّ هوّن اللّه عليه » . قال ابن حبّان : أراد به من حضرته المنيّة ، لا أنّ الميّت يقرأ عليه . وبه قال الشّافعيّة والحنابلة . وزادت الحنابلة قراءة الفاتحة . وقال الشّعبيّ : « كان الأنصار يقرءون عند الميّت بسورة البقرة » . وعن جابر بن زيد أنّه كان يقرأ عند الميّت سورة الرّعد . وقالت المالكيّة : يكره قراءة شيء من القرآن عند الموت وبعده وعلى القبور ؛ لأنّه ليس من عمل السّلف . ثالثاً : التّوجيه :
10 - يوجّه المحتضر للقبلة عند شخوص بصره إلى السّماء ، لا قبل ذلك ، لئلاّ يفزعه ، ويوجّه إليها مضطجعاً على شقّه الأيمن اعتباراً بحال الوضع في القبر ؛ لأنّه أشرف عليه . وفي توجيه المحتضر إلى القبلة ورد : « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لمّا قدم المدينة سأل عن البراء بن معرور . فقالوا : توفّي وأوصى بثلث ماله لك ، وأن يوجّه للقبلة لمّا احتضر . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أصاب الفطرة ، وقد رددت ثلث ماله على ولده ، ثمّ ذهب فصلّى عليه ، وقال : اللّهمّ اغفر له وارحمه وأدخله جنّتك ، وقد فعلت » . قال الحاكم : ولا أعلم في توجيه المحتضر إلى القبلة غيره . وفي اضطجاعه على شقّه الأيمن قيل : يمكن الاستدلال عليه بحديث النّوم ، فعن البراء بن عازب رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أتيت مضجعك فتوضّأ وضوءك للصّلاة ، ثمّ اضطجع على شقّك الأيمن ، وقل : اللّهمّ إنّي أسلمت نفسي إليك . . . إلى أن قال : فإن متّ متّ على الفطرة » وليس فيه ذكر القبلة . ولم يذكر ابن شاهين في باب المحتضر من كتاب الجنائز له غير أثر عن إبراهيم النّخعيّ قال : « يستقبل بالميّت القبلة " وزاد عطاء بن أبي رباح : « على شقّه الأيمن . ما علمت أحداً تركه من ميّت " ، ولأنّه قريب من الوضع في القبر ، ومن اضطجاعه في مرضه ، والسّنّة فيهما ذلك ، فكذلك فيما قرب منهما . ويستدلّ عليه أيضاً بما روى أحمد أنّ فاطمة رضي الله عنها عند موتها استقبلت القبلة ، ثمّ توسّدت يمينها . ويصحّ أن يوجّه المحتضر إلى القبلة مستلقياً على ظهره ، فذلك أسهل لخروج الرّوح ، وأيسر لتغميضه وشدّ لحييه ، وأمنع من تقوّس أعضائه ، ثمّ إذا ألقي على القفا يرفع رأسه قليلاً ليصير وجهه إلى القبلة دون السّماء . ويقول بعض الفقهاء : إنّه لم يصحّ حديث في توجيه المحتضر إلى القبلة ، بل كره سعيد بن المسيّب توجيهه إليها . فقد ورد عن زرعة بن عبد الرّحمن : « أنّه شهد سعيد بن المسيّب في مرضه ، وعنده أبو سلمة بن عبد الرّحمن ، فغشي على سعيد ، فأمر أبو سلمة أن يحوّل فراشه إلى الكعبة ، فأفاق ، فقال : حوّلتم فراشي ؟ قالوا : نعم ، فنظر إلى أبي سلمة فقال : أراه بعلمك ، فقال : أنا أمرتهم . فأمر سعيد أن يعاد فراشه » . رابعاً : بلّ حلق المحتضر بالماء :
11 - يسنّ للحاضرين أن يتعاهدوا بلّ حلق المحتضر بماء أو شراب ، وأن يتعاهدوا تندية شفتيه بقطنة لأنّه ربّما ينشف حلقه من شدّة ما نزل به فيعجز عن الكلام . وتعاهده بذلك يطفئ ما نزل به من الشّدّة ، ويسهّل عليه النّطق بالشّهادة . خامساً : ذكر اللّه تعالى :
12 - يستحبّ للصّالحين ممّن يحضرون عند المحتضر أن يذكروا اللّه تعالى ، وأن يكثروا من الدّعاء له بتسهيل الأمر الّذي هو فيه ، وأن يدعوا للحاضرين ، إذ هو من مواطن الإجابة ؛ لأنّ الملائكة يؤمّنون على قولهم قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا حضرتم المريض ، أو الميّت ، فقولوا خيراً ، فإنّ الملائكة يؤمّنون على ما تقولون » . سادساً : تحسين ظنّ المحتضر باللّه تعالى :
13 - إذا رأى الحاضرون من المحتضر أمارات اليأس والقنوط وجب عليهم أن يحسّنوا ظنّه بربّه ، وأن يطمّعوه في رحمته ، إذ قد يفارق على ذلك فيهلك ، فتعيّن عليهم ذلك ، أخذاً من قاعدة النّصيحة الواجبة . وهذا الحال من أهمّها .
ما يسنّ للحاضرين أن يفعلوه عند موت المحتضر :
14 - إذا تيقّن الحاضرون موت المحتضر ، وعلامة ذلك انقطاع نفسه وانفراج شفتيه تولّى أرفق أهله به إغماض عينيه ، والدّعاء له ، وشدّ لحييه بعصابة عريضة تشدّ في لحييه للأسفل وتربط فوق رأسه ، لأنّه لو ترك مفتوح العينين والفم حتّى يبرد بقي مفتوحهما فيقبح منظره ، ولا يؤمن دخول الهوامّ فيه والماء في وقت غسله ، ويليّن مفاصله ويردّ ذراعيه إلى عضديه ثمّ يمدّهما ، ويردّ أصابع يديه إلى كفّيه ثمّ يمدّها ، ويردّ فخذيه إلى بطنه ، وساقيه إلى فخذيه ثمّ يمدّهما . ويقول مغمضه : « باسم اللّه ، وعلى ملّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . اللّهمّ يسّر عليه أمره ، وسهّل عليه ما بعده ، وأسعده بلقائك ، واجعل ما خرج إليه خيراً ممّا خرج منه » . فقد روي عن أمّ سلمة أنّها قالت : « دخل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم على أبي سلمة وقد شقّ بصره ، فأغمضه ثمّ قال : إنّ الرّوح إذا قبض تبعه البصر . فضجّ ناس من أهله فقال : لا تدعوا على أنفسكم إلاّ بخير ، فإنّ الملائكة يؤمّنون على ما تقولون . ثمّ قال : اللّهمّ اغفر لأبي سلمة ، وارفع درجته في المهديّين المقرّبين واخلفه في عقبه في الغابرين ، واغفر لنا وله يا ربّ العالمين ، وأفسح له في قبره ، ونوّر له فيه » . وعن شدّاد بن أوس : قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا حضرتم موتاكم فأغمضوا البصر . وإنّ البصر يتبع الرّوح . وقولوا خيراً ، فإنّه يؤمّن على ما قال أهل الميّت » .
كشف وجه الميّت والبكاء عليه :
15 - يجوز للحاضرين وغيرهم كشف وجه الميّت وتقبيله ، والبكاء عليه ثلاثة أيّام بكاءً خالياً من الصّراخ والنّواح ، لما ورد عن جابر بن عبد اللّه رضي الله عنه قال : « لمّا قتل أبي جعلت أكشف الثّوب عن وجهه أبكي ، ونهوني ، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم لا ينهاني ، فأمر به النّبيّ صلى الله عليه وسلم فرفع فجعلت عمّتي فاطمة تبكي . فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : تبكين أو لا تبكين ، ما زالت الملائكة تظلّه بأجنحتها حتّى رفعتموه » . ولما ورد عن عائشة رضي الله عنها : أنّ أبا بكر كشف وجه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقبّله بين عينيه ، ثمّ بكى ، وقال : بأبي أنت وأمّي يا رسول اللّه ، طبت حيّاً وميّتاً ، « وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على عثمان بن مظعون وهو ميّت ، فكشف عن وجهه ، ثمّ أكبّ عليه ، فقبّله وبكى حتّى رأيت الدّموع تسيل على وجنتيه » وعن عبد اللّه بن جعفر رضي الله عنه « أنّ النّبيّ أمهل آل جعفر ثلاثاً أن يأتيهم ، ثمّ أتاهم ، فقال : لا تبكوا على أخي بعد اليوم » .
احتطاب
التّعريف
1 - الاحتطاب مصدر احتطب ، يقال احتطب بمعنى جمع الحطب ، والحطب : ما أعدّ من شجر وقوداً للنّار . والمعنى الاصطلاحيّ لا يخرج عن المعنى اللّغويّ . صفته ( حكمه التّكلّفيّ ) :
2 - اتّفقت المذاهب في الجملة على إباحة الاحتطاب رطباً كان الشّجر أو جافّاً في غير الحرم ما دام لا يملكه أحد . أمّا إذا كان محوزاً أو مملوكاً ، فلا يجوز أخذه أو الاحتطاب منه إلاّ بإذن صاحبه . الحكم الإجماليّ ) :
3 - يأخذ الاحتطاب حكم الاحتشاش التّكليفيّ ( ر : احتشاش ) ، غير أنّه يخالفه في أمرين : الأوّل : يباح في الاحتشاش في الحرم قطع الإذخر والعوسج وملحقاتهما ولا يباح ذلك في الاحتطاب . الثّاني : أباح بعض العلماء في الاحتشاش من الحرم علف الدّوابّ منه بخلاف الاحتطاب الّذي لم يبح فيه ذلك .
احتقان
التّعريف
1 - الاحتقان لغةً : مصدر احتقن ، بمعنى احتبس . يقال : حقن الرّجل بوله : حبسه وجمعه ، فهو حاقن ومطاوعه : الاحتقان : وحقنت المريض إذا أوصلت الدّواء إلى باطنه بالمحقن . ويطلق في الشّريعة على احتباس البول ، كما يطلقونه على تعاطي الدّواء بالحقنة في الدّبر .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - الاحتباس . مصدر احتبس . يقال : حبسته فاحتبس بمعنى منعته فامتنع . فالاحتباس أعمّ . الحصر : هو الإحاطة والمنع والحبس . يقال حصره العدوّ في منزله : حبسه ، وأحصره المرض : منعه من السّفر . ويطلق على احتباس النّجو من ضيق المخرج ، فهو كذلك أعمّ . الحقب : حقب بالكسر حقباً فهو حقيب : تعسّر عليه البول ، أو أعجله . وقيل : الحاقب الّذي احتبس غائطه . فهو على المعنى الثّاني مباين للاحتقان . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
3 - يختلف حكم الاحتقان تبعاً لإطلاقاته ، فيطلق الاحتقان على امتناع خروج البول لمرض أو غيره ، وهذا هو الاحتقان الطّبيعيّ . ويعتبر أحد الأعذار الّتي يسقط معها الحكم التّكليفيّ ما دامت موجودةً . أمّا منع الإنسان نفسه من خروج البول عند الشّعور بالحاجة للتّبوّل فهو الحقن . ويسمّى الإنسان حينئذ حاقناً . وحكمه التّكليفيّ الكراهة أو الحرمة - على خلاف سيأتي ذكره - في حالتي الصّلاة ، والقضاء بين النّاس . ويطلق الاحتقان أيضاً على تعاطي الدّواء أو الماء عن طريق الشّرج ، وحكمه التّكليفيّ تارةً الإباحة ، وتارةً الحظر ، على خلاف وتفصيل سيأتي بيانه . ودليل حكم الحقن في الصّلاة أو القضاء بين النّاس هو حديث عائشة ، رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا صلاة بحضرة الطّعام ولا وهو يدافع الأخبثين » وحديث « لا يحلّ لامرئ مسلم أن ينظر في جوف امرئ حتّى يستأذن ، ولا يقوم إلى الصّلاة وهو حاقن » . وحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الّذي رواه أبو بكرة عنه قال : « لا يحكم أحدكم بين اثنين وهو غضبان » . وقاسوا عليه الحاقن . ودليل الاحتقان للتّداوي هو دليل التّداوي نفسه بشروط . ( ر : تداوي ) .
أوّلاً - احتقان البول وضوء الحاقن :
4 - في المسألة رأيان : ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا ينتقض وضوء الحاقن ؛ لأنّهم اعتبروا لانتقاض الوضوء الخروج الفعليّ من السّبيلين ، لا الخروج الحكميّ . والحاقن لم يخرج منه شيء من السّبيلين . أمّا المالكيّة فإنّهم اعتبروا الخروج الفعليّ أو الحكميّ ناقضاً للوضوء ، واعتبروا الحقن الشّديد خروجاً حكميّاً ينقض الوضوء . ولكنّهم انقسموا إلى رأيين في تحديد درجة الاحتقان الّتي تنقض الوضوء ، فقال بعضهم : إذا كان الاحتقان شديداً بحيث يمنع من الإتيان بشيء من أركان الصّلاة حقيقةً أو حكماً ، كما لو كان يقدر على الإتيان بها بعسر ، فقد أبطل الحقن الوضوء ، فليس له أن يفعل به ما يتوقّف على الطّهارة ، كمسّ المصحف . واعتبروا هذا خروجاً حكميّاً ينقض الوضوء . وقال البعض الآخر : الحقن الشّديد ينقض الوضوء ، وإن لم يمنع من الإتيان بشيء من أركان الصّلاة .
صلاة الحاقن :
5 - للفقهاء في حكم صلاة الحاقن اتّجاهان : فذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو رأي للشّافعيّة ، إلى أنّ صلاة الحاقن مكروهة ، لما ورد من الأحاديث السّابقة . وقال الخراسانيّون وأبو زيد المروزيّ من الشّافعيّة : إذا كانت مدافعة الأخبثين شديدةً لم تصحّ الصّلاة . واستدلّ الجميع بحديث عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « لا صلاة بحضرة الطّعام ، ولا وهو يدافعه الأخبثان » . وما روى ثوبان عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا يحلّ لامرئ أن ينظر في جوف بيت امرئ حتّى يستأذن ، ولا يقوم إلى الصّلاة وهو حاقن » ، فالقائلون بالكراهة حملوا النّهي في الأحاديث على الكراهة . وأخذ بظاهر الحديث أصحاب الرّأي الثّاني فحملوه على الفساد . أمّا المالكيّة فقد ذهبوا إلى أنّ الحقن الشّديد ناقض للوضوء ، فتكون صلاته باطلةً .
إعادة الحاقن للصّلاة :
6 - لم يقل بإعادة صلاة الحاقن أحد ممّن قال بصحّة الصّلاة مع الكراهة ، إلاّ الحنابلة على رأي ، فقد صرّحوا بإعادة الصّلاة للحاقن لظاهر الحديثين السّابقين . وقد تقدّم أنّ المالكيّة يرون بطلان صلاة الحاقن حقناً شديداً فلا بدّ من إعادتها .
الحاقن وخوف فوت الوقت :
7 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه إذا كان في الوقت متّسع فينبغي أن يزيل العارض أوّلاً ، ثمّ يشرع في الصّلاة . فإن خاف فوت الوقت ففي المسألة رأيان : ذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو رأي للشّافعيّة ، إلى أنّه يصلّي وهو حاقن ، ولا يترك الوقت يضيع منه ، إلاّ أنّ الحنابلة قالوا بالإعادة في الظّاهر عند ابن أبي موسى للحديث . وذهب الشّافعيّة في رأي آخر حكاه المتولّي إلى أنّه يزيل العارض أوّلاً ويتوضّأ وإن خرج الوقت ، ثمّ يقضيها ، لظاهر الحديث ؛ ولأنّ المراد من الصّلاة الخشوع ، فينبغي أن يحافظ عليه وإن فات الوقت .
الحاقن وخوف فوت الجماعة أو الجمعة :
8 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه إن خاف فوت الجماعة أو الجمعة صلّى وهو حاقن ، وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الأولى ترك الجماعة وإزالة العارض ، وذهب الحنابلة إلى أنّه يعتبر عذراً مبيحاً لترك الجماعة والجمعة ، لعموم لفظ الحديث ، وهو عامّ في كلّ صلاة . أمّا رأي المالكيّة في حقن البول فقد سبق .
قضاء القاضي الحاقن :
9 - لا يعلم خلاف بين أهل العلم في أنّ القاضي لا ينبغي له أن يحكم ، وهو حاقن ، ولكنّهم اختلفوا في حكم قضائه ونفاذ حكمه على رأيين : فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رأي للحنابلة ، وقول شريح وعمر بن عبد العزيز ، إلى أنّه يكره أن يقضي القاضي وهو حاقن ؛ لأنّ ذلك يمنع حضور القلب واستيفاء الفكر الّذي يتوصّل به إلى إصابة الحقّ في الغالب ، فهو في معنى الغضب المنصوص عليه في الحديث المتّفق عليه عن أبي بكرة أنّه قال . سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يحكم أحد بين اثنين وهو غضبان . . » . فإذا قضى وهو حاقن ينفذ قضاؤه قياساً على قضاء الغضبان عند الجمهور . وذهب الحنابلة في رأي ثان لهم ، حكاه القاضي أبو يعلى ، إلى أنّه لا يجوز قضاء القاضي وهو حاقن . فإذا حكم وهو على تلك الحالة لا ينفذ قضاؤه ؛ لأنّه منهيّ عنه في الحديث المتقدّم ، والنّهي يقتضي فساد المنهيّ عنه . وقيل عند الحنابلة : إنّما يمنع الغضب الحاكم إذا كان قبل أن يتّضح له الحكم في المسألة . فأمّا إن اتّضح له الحكم ثمّ عرض الغضب لا يمنعه ؛ لأنّ الحقّ قد استبان قبل الغضب فلا يؤثّر الغضب فيه .
ثانياً - الاحتقان للتّداوي
10 - في نقض وضوء المحتقن في القبل أو الدّبر ثلاثة اتّجاهات : ذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى نقض الوضوء . وذكروا أنّه إذا أدخل رجل أو امرأة في القبل أو الدّبر شيئاً من حقنة أو نحوها ، ثمّ خرج ، انتقض الوضوء ، سواء اختلط به أذًى أم لا ، ولكنّهم اختلفوا في تعليل ذلك تبعاً لقواعدهم : فقال الحنفيّة : إنّ هذه الأشياء وإن كانت طاهرةً في نفسها لكنّها لا تخلو عن قليل النّجاسة يخرج معها ، والقليل من السّبيلين ناقض . وعلّل الشّافعيّة ذلك بقولهم : إنّ الدّاخل إذا خرج يعتبر خروجاً من السّبيلين ، فينتقض الوضوء ، سواء اختلط به أم لا ، وسواء أخرج كلّه أو قطعة منه ؛ ؛ لأنّه خارج من السّبيل وذهب المالكيّة : إلى أنّه لا ينقض الوضوء وذكروا أنّ إدخال الحقنة في الدّبر لا ينقض الوضوء مع احتمال أن يصحبها نجاسة عند خروجها ؛ وعلّلوا ذلك بقولهم : إنّه خارج غير معتاد فلا ينقض الوضوء ، مثل الدّود والحصى ولو صاحبه بلل . وذهب الحنابلة إلى التّفصيل : فاتّفقوا على أنّه إذا كان الدّاخل حقنةً أو قطناً أو غيره ، فإن خرج وعليه بلل نقض الوضوء . ؛ لأنّ البلل لو خرج منفرداً لنقض ؛ ؛ لأنّه خارج من السّبيلين ، فأشبه سائر ما يخرج منهما ، وإن خرج الدّاخل وليس عليه بلل ظاهر ففيه وجهان : الأوّل : ينقض الوضوء ؛ لأنّه خارج من السّبيلين ، فأشبه سائر ما يخرج منهما . والثّاني : لا ينقض ؛ لأنّه ليس بين المثانة والجوف منفذ فلا يكون خارجاً من الجوف .
احتقان الصّائم :
11 - احتقان الصّائم إمّا أن يكون في دبر أو في قبل أو في جراحة جائفة ( أي الّتي تصل إلى الجوف ) الاحتقان في الدّبر : في المسألة رأيان :
12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة في المشهور ، وهو المذهب عند كلّ من الشّافعيّة والحنابلة ، إلى أنّ الاحتقان في الدّبر يفطر الصّائم ، وعليه القضاء ، لقول عائشة رضي الله عنها : « دخل عليّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال يا عائشة هل من كسرة ؟ فأتيته بقرص ، فوضعه في فيه ، فقال : يا عائشة هل دخل بطني منه شيء ؟ كذلك قبلة الصّائم ، إنّما الإفطار ممّا دخل وليس ممّا خرج » . وعن ابن عبّاس وعكرمة : الفطر ممّا دخل وليس ممّا خرج . ولأنّ هذا شيء وصل إلى جوفه باختياره ، فأشبه الأكل ، ولوجود معنى الفطر وهو وصول ما فيه صلاح البدن . غير أنّ المالكيّة اشترطوا أن يكون الدّاخل مائعاً . ولم يشترط ذلك غيرهم ، وذهب المالكيّة في غير المشهور عندهم ، وهو رأي القاضي حسين من الشّافعيّة - وصف بأنّه شاذّ - وهو اختيار ابن تيميّة ، إلى أنّه إذا احتقن الصّائم في الدّبر لا يفطر ، وليس عليه قضاء . وعلّلوا ذلك بأنّ الصّيام من دين المسلمين الّذي يحتاج إلى معرفته الخاصّ والعامّ ، فلو كانت هذه الأمور ممّا حرّمها اللّه سبحانه لكان واجباً على الرّسول صلى الله عليه وسلم بيانه ، ولو ذكر ذلك لعلمه الصّحابة ، وبلّغوه الأمّة ، كما بلّغوا سائر شرعه ، فلمّا لم ينقل أحد من أهل العلم عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في ذلك حديثاً صحيحاً ولا ضعيفاً ولا مسنداً ولا مرسلاً علم أنّه لم يذكر شيئاً من ذلك .
( الاحتقان في القبل ) :
13 - الاحتقان في القبل إذا لم يصل إلى المثانة فلا شيء فيه ، ولا يؤدّي إلى فطر عند الجمهور . وذهب الشّافعيّة في أصحّ الوجوه عندهم إلى أنّه يفطر ، وفي وجه لهم : إن جاوز الحشفة أفطر وإلاّ فلا . أمّا إذا وصل المثانة فإنّ حكم الاحتقان بالنّسبة لقبل المرأة يأخذ حكم الاحتقان في الدّبر . وأمّا الاحتقان ؛ في قبل الرّجل ( الإحليل ) فإن وصل إلى المثانة ففيه رأيان : ذهب أبو حنيفة ومحمّد والمالكيّة ، وهو المذهب عند الحنابلة ورأي للشّافعيّة ، إلى أنّه لا يفطر وليس عليه شيء . وعلّلوا ذلك بأنّه لم يرد فيه نصّ ، ومن قاسه على غيره جانب الحقّ ؛ لأنّ هذا لا ينفذ إلى الجوف ولا يؤدّي إلى التّغذية الممنوعة . وذهب أبو يوسف والشّافعيّة في الأصحّ عندهم ، وهو قول للحنابلة ، إلى أنّه إذا قطّر في إحليله فسد صومه ؛ لأنّ هذا شيء وصل إلى جوفه باختياره فأشبه الأكل . الاحتقان في الجائفة :
14 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة إلى أنّه إذا تداوى بما يصل إلى جوفه فسد صومه ؛ ؛ لأنّه يصل إلى الجوف ؛ ولأنّ غير المعتاد كالمعتاد ، ولأنّه أبلغ وأولى ، والنّبيّ صلى الله عليه وسلم وسلّم « أمر بالإثمد عند النّوم ، وقال ليتّقه الصّائم » ولأنّه وصل إلى جوفه باختياره ، فأشبه الأكل ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « الفطر ممّا دخل » . وذهب المالكيّة ، وهو رأي لكلّ من الشّافعيّة والحنابلة ، إلى أنّه لا يفسد الصّوم ، وعلّل ابن تيميّة ذلك بما سبق في الاحتقان مطلقاً .
الاحتقان بالمحرّم :
15 - أجاز العلماء استعمال الحقنة في الدّواء من مرض أو هزال بطاهر ، ولم يجز الحنفيّة استعمال الحقنة للتّقوّي على الجماع أو السّمن . أمّا بالنّسبة للاحتقان بالمحرّم فقد منعه العلماء من غير ضرورة لعموم النّهي عن المحرّم . أمّا إذا كان الاحتقان لضرورة ، ومتعيّناً ، فقد أجاز الحنفيّة والشّافعيّة الاحتقان لضرورة إذا كانت الضّرورة يخشى معها على نفسه ، وأخبره طبيب مسلم حاذق أنّ شفاءه يتعيّن التّداوي بالمحرّم ، على أن يستعمل قدر حاجته . وقالوا : إنّ حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم » نفى الحرمة عند العلم بالشّفاء ، فصار معنى الحديث : إنّ اللّه تعالى أذن لكم بالتّداوي ، وجعل لكلّ داء دواءً ، فإذا كان في ذلك الدّواء شيء محرّم وعلمتم أنّ فيه الشّفاء فقد زالت حرمة استعماله ؛ لأنّ اللّه تعالى لم يجعل شفاءكم فيما حرّم عليكم . وأيّد هذا ابن حزم . أمّا إذا كان التّداوي بالمحرّم لتعجيل الشّفاء ففي المسألة رأيان للحنفيّة والشّافعيّة . فبعضهم منعه لعدم الضّرورة في ذلك ما دام هناك ما يحلّ محلّه . وبعضهم أجازه إذا أشار بذلك طبيب مسلم حاذق . ويرى المالكيّة وهو رأي للحنابلة : أنّه لا يجوز الطّلاء ولا الاحتقان والتّداوي بالخمر والنّجس ، ولو أدّى ذلك إلى الهلاك لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه لم يجعل شفاء أمّتي فيما حرّم عليها » ؛ ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذكر له النّبيذ يصنع للدّواء فقال : « إنّه ليس بدواء ولكنّه داء » .
حقن الصّغير باللّبن وأثره في تحريم النّكاح
16 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة في المرجوح عندهم ، وهو رأي لكلّ من الشّافعيّة والحنابلة واللّيث بن سعد ، إلى أنّه إذا حقن الصّغير في الشّرج باللّبن فلا يترتّب عليه حرمة النّكاح . وعلّلوا ذلك بأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم حرّم بالرّضاعة الّتي تقابل المجاعة ، ولم يحرّم بغيرها شيئاً ، فلا يقع تحريم ما لم تقابل به المجاعة ؛ ولأنّه لا ينبت اللّحم ، ولا ينشز العظم ، ولا يكتفي به الصّبيّ . وفي رأي لكلّ من الشّافعيّة والحنابلة يثبت التّحريم . وعلّلوا ذلك بأنّ ما في الحقنة يصل إلى الجوف فيكون غذاءً . وذهب المالكيّة إلى أنّه إذا كان حقن الصّغير باللّبن في مدّة الرّضاع للغذاء وقبل أن يستغني ، فالرّاجح ترتّب التّحريم .
نظر الحاقن إلى العورة :
17 - منع العلماء النّظر إلى العورة إلاّ في حالات الضّرورة الّتي تختلف باختلاف الأحوال . وعدّوا من هذه الضّرورة الاحتقان . فإذا انتفت الضّرورة حرم النّظر إلى العورة . وللتّفصيل : ( ر : تطبيب . ضرورة . عورة )
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
احتكار
التّعريف
1 - الاحتكار لغةً : حبس الطّعام إرادة الغلاء ، والاسم منه : الحكرة . أمّا في الشّرع فقد عرّفه الحنفيّة بأنّه : اشتراء طعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء . وعرّفه المالكيّة بأنّه رصد الأسواق انتظاراً لارتفاع الأثمان ، وعرّفه الشّافعيّة بأنّه اشتراء القوت وقت الغلاء ، وإمساكه وبيعه بأكثر من ثمنه للتّضييق . وعرّفه الحنابلة . بأنّه اشتراء القوت وحبسه انتظاراً للغلاء . الألفاظ ذات الصّلة :
2 - الادّخار : ادّخار الشّيء تخبئته لوقت الحاجة . وعلى هذا فيفترق الادّخار عن الاحتكار في أنّ الاحتكار لا يكون إلاّ فيما يضرّ بالنّاس حبسه ، على التّفصيل السّابق ، أمّا الادّخار فإنّه يتحقّق فيما يضرّ وما لا يضرّ ، وفي الأموال النّقديّة وغيرها . كما أنّ الادّخار قد يكون مطلوباً في بعض صوره ، كادّخار الدّولة حاجيّات الشّعب . وتفصيل ذلك في مصطلح « ادّخار » . صفة الاحتكار ( حكمه التّكليفيّ ) :
3 - يتّفق الفقهاء على أنّ الاحتكار بالقيود الّتي اعتبرها كلّ منهم محظور ، لما فيه من الإضرار بالنّاس ، والتّضييق عليهم . وقد اختلفت عبارات الفقهاء في التّعبير عن هذا الحظر . فجمهور الفقهاء صرّحوا بالحرمة ، مستدلّين بقوله تعالى { ومن يرد فيه بإلحاد بظلم } فقد فهم منها صاحب الاختيار أنّها أصل في إفادة التّحريم وقد ذكر القرطبيّ عند تفسير هذه الآية أنّ أبا داود روى عن يعلى بن أميّة أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال : « احتكار الطّعام في الحرم إلحاد فيه . » وهو قول عمر بن الخطّاب . واستدلّ الكاسانيّ على ذلك بحديث : « المحتكر ملعون » وحديث : « من احتكر طعاماً أربعين ليلةً فقد برئ من اللّه ، وبرئ اللّه منه . » ثمّ قال الكاسانيّ : ومثل هذا الوعيد لا يلحق إلاّ بارتكاب الحرام ، ولأنّه ظلم ؛ لأنّ ما يباع في المصر فقد تعلّق به حقّ العامّة ، فإذا امتنع المشتري عن بيعه عند شدّة حاجتهم إليه فقد منعهم حقّهم ، ومنع الحقّ عن المستحقّ ظلم وحرام ، يستوي في ذلك قليل المدّة وكثيرها ، لتحقّق الظّلم .
4 - كما اعتبره ابن حجر الهيتميّ من الكبائر . ويقول : إنّ كونه كبيرةً هو ظاهر الأحاديث ، من الوعيد الشّديد ، كاللّعنة وبراءة ذمّة اللّه ورسوله منه والضّرب بالجذام والإفلاس . وبعض هذه دليل على الكبيرة وممّا استدلّ به الحنابلة على التّحريم ما روى الأثرم عن أبي أمامة ، قال : « نهى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يحتكر الطّعام » ، وما روي بإسناده عن سعيد بن المسيّب أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من احتكر فهو خاطئ » ، وما روي : أنّ عمر بن الخطّاب خرج مع أصحابه ، فرأى طعاماً كثيراً قد ألقي على باب مكّة ، فقال : ما هذا الطّعام ؟ فقالوا : جلب إلينا . فقال : بارك اللّه فيه وفيمن جلبه . فقيل له : فإنّه قد احتكر . قال : من احتكره ؟ قالوا : فلان مولى عثمان ، وفلان مولاك ، فاستدعاهما ، وقال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « من احتكر على المسلمين طعامهم لم يمت حتّى يضربه اللّه بالجذام أو الإفلاس » .
5 - لكن أكثر الفقهاء الحنفيّة وبعض الشّافعيّة عبّروا عنه بالكراهة إذا كان يضرّ بالنّاس . وتصريح الحنفيّة بالكراهة على سبيل الإطلاق ينصرف إلى الكراهة التّحريميّة . وفاعل المكروه تحريماً عندهم يستحقّ العقاب ، كفاعل الحرام ، كما أنّ كتب الشّافعيّة الّتي روت عن بعض الأصحاب القول بالكراهة قد قالوا عنه : ليس بشيء .
الحكمة في تحريم الاحتكار :
6 - يتّفق الفقهاء على أنّ الحكمة في تحريم الاحتكار رفع الضّرر عن عامّة النّاس . ولذا فقد أجمع العلماء على أنّه لو احتكر إنسان شيئاً ، واضطرّ النّاس إليه ، ولم يجدوا غيره ، أجبر على بيعه - على ما سيأتي بيانه - دفعاً للضّرر عن النّاس ، وتعاوناً على حصول العيش . وهذا ما يستفاد ممّا نقل عن مالك من أنّ رفع الضّرر عن النّاس هو القصد من التّحريم ، إذ قال : إن كان ذلك لا يضرّ بالسّوق فلا بأس وهو ما يفيده كلام الجميع .
ما يجري فيه الاحتكار :
7 - هناك ثلاث اتّجاهات : الأوّل : ما ذهب إليه أبو حنيفة ومحمّد والشّافعيّة والحنابلة أنّه لا احتكار إلاّ في القوت خاصّةً . الاتّجاه الثّاني : أنّ الاحتكار يجري في كلّ ما يحتاجه النّاس ، ويتضرّرون من حبسه ، من قوت وإدام ولباس وغير ذلك . وهذا ما ذهب إليه المالكيّة وأبو يوسف من الحنفيّة . الاتّجاه الثّالث : أنّه لا احتكار إلاّ في القوت والثّياب خاصّةً . وهذا قول لمحمّد بن الحسن . واستدلّ الجمهور - أصحاب الاتّجاه الأوّل - بأنّ الأحاديث الواردة في هذا الباب بعضها عامّ ، كالحديث الّذي رواه مسلم وأبو داود عن سعيد بن المسيّب عن معمر بن عبد اللّه ، أنّه قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من احتكر فهو خاطئ » ، وفي رواية أخرى رواها مسلم وأحمد : « لا يحتكر إلاّ خاطئ » ، وحديث أحمد عن أبي هريرة ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من احتكر حكرةً يريد أن يغلّي بها على المسلمين فهو خاطئ » . وزاد الحاكم : « وقد برئت منه ذمّة اللّه » . فهذه نصوص عامّة في كلّ محتكر . وقد وردت نصوص أخرى خاصّة ، منها حديث ابن ماجه بسنده : « من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه اللّه بالجذام والإفلاس » . وما رواه أحمد والحاكم وابن أبي شيبة والبزّار وأبو يعلى بلفظ : « من احتكر الطّعام أربعين ليلةً فقد برئ من اللّه وبرئ اللّه منه » . وزاد الحاكم . « وأيّما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمّة اللّه » . وإذا اجتمعت نصوص عامّة وأخرى خاصّة في مسألة واحدة حمل العامّ على الخاصّ والمطلق على المقيّد ، واستدلّ المالكيّة وأبو يوسف بالأحاديث العامّة ، وقالوا : إنّ ما ورد من النّصوص الخاصّة فهي من قبيل اللّقب ، واللّقب لا مفهوم له . وأمّا ما ذهب إليه محمّد بن الحسن في قوله الثّاني فإنّه حمل الثّياب على القوت باعتبار أنّ كلّاً منهما من الحاجات الضّروريّة .
ما يتحقّق به الاحتكار :
8 - يتحقّق الاحتكار في صور بعضها متّفق على تحريمه وهي ما إذا اجتمع فيه كون الشّيء المحتكر طعاماً وأن يحوزه بطريق الشّراء وأن يقصد الإغلاء على النّاس وأن يترتّب على ذلك الإضرار والتّضييق عليهم ، وهناك صور مختلف في تحريمها بحسب الشّروط .
شروط الاحتكار :
9 - يشترط في الاحتكار ما يأتي :
1 - أن يكون تملّكه للسّلعة بطريق الشّراء . وهذا ما ذهب إليه الجمهور ، وذهب بعض المالكيّة ، وهو منقول عن أبي يوسف من الحنفيّة ، إلى أنّ العبرة إنّما هي باحتباس السّلع بحيث يضرّ بالعامّة ، سواء أكان تملّكها بطريق الشّراء ، أو الجلب ، أو كان ادّخاراً لأكثر من حاجته ومن يعول . وعلى ما ذهب إليه الجمهور لا احتكار فيما جلب مطلقاً ، وهو ما كان من سوق غير سوق المدينة ، أو من السّوق الّذي اعتادت المدينة أن تجلب طعامها منه . ويرى كلّ من صاحب الاختيار وصاحب البدائع أنّه إذا كان من سوق اعتادت المدينة أن تجلب طعامها منه ، فاشتراه قاصداً حبسه ، يكون محتكراً ويتفرّع على اشتراط الشّراء لتحقّق الاحتكار أنّ حبس غلّة الأرض المزروعة لا يكون احتكاراً . وهذا هو رأي الجمهور . وهناك من علماء المالكيّة من اعتبر حبس هذه الغلّة من قبيل الاحتكار . ومن علماء الحنفيّة من يرى - أيضاً - أنّ هذا رأي لأبي يوسف . وقد نقل الرّهونيّ عن الباجيّ أنّ ابن رشد قال : « إذا وقعت الشّدّة أمر أهل الطّعام بإخراجه مطلقاً ، ولو كان جالباً له ، أو كان من زراعته » . والمعتمد ما أفاده ابن رشد .
2 - أن يكون الشّراء وقت الغلاء للتّجارة انتظاراً لزيادة الغلاء . وهذا ما ذهب إليه الشّافعيّة . فلو اشترى في وقت الرّخص ، وحبسه لوقت الغلاء ، فلا يكون احتكاراً عندهم .
3 - واشترط الحنفيّة أن يكون الحبس لمدّة ، ولم نقف لفقهاء المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على كلام في هذا ، وإنّما الّذي تعرّض لذكر المدّة فقهاء الحنفيّة ، فيقول الحصكفيّ نقلاً عن الشرنبلالي عن الكافي : إنّ الاحتكار شرعاً اشتراء الطّعام ونحوه وحبسه إلى مدّة اختلفوا في تقديرها ، فمن قائل إنّها أربعون يوماً ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد والحاكم بسنده : « من احتكر الطّعام أربعين ليلةً فقد برئ من اللّه وبرئ اللّه منه » . لكن حكى ابن أبي حاتم عن أبيه أنّه منكر . ومن قائل إنّها شهر ؛ لأنّ ما دونه قليل عاجل والشّهر وما فوقه كثير آجل . ويقع التّفاوت في المأثم بين أن يتربّص قلّة الصّنف ، وبين أن يتربّص القحط . وقيل إنّ هذه المدد للمعاقبة في الدّنيا . أمّا الإثم الأخرويّ فيتحقّق وإن قلّت المدّة . وقد أورد الحصكفيّ هذا الخلاف ، وأضاف إليه أنّ من الفقهاء من قال بأكثر من المدّتين . وقد نقل ذلك ابن عابدين في حاشيته .
4 - أن يكون المحتكر قاصداً الإغلاء على النّاس وإخراجه لهم وقت الغلاء .
احتكار العمل :
10 - تعرّض بعض الفقهاء لمثل هذا لا على أنّه من قبيل الاحتكار الاصطلاحيّ ، ولكن فيه معنى الاحتكار ، لما فيه من ضرر العامّة ، فقد نقل ابن القيّم أنّ غير واحد من العلماء ، كأبي حنيفة وأصحابه ، منعوا القسّامين - الّذين يقسمون العقار وغيره بالأجرة - أن يشتركوا ، فإنّهم إذا اشتركوا والنّاس يحتاجون إليهم أغلوا عليهم الأجرة . وكذلك ينبغي لوالي الحسبة أن يمنع مغسّلي الموتى والحمّالين لهم من الاشتراك ، لما في ذلك من إغلاء الأجرة عليهم ، وكذلك اشتراك كلّ طائفة يحتاج النّاس إلى منافعهم .
احتكار الصّنف :
11 - وقد صوّره ابن القيّم بقوله : أن يلزم النّاس ألاّ يبيع الطّعام أو غيره من الأصناف إلاّ ناس معروفون ، فلا تباع تلك السّلع إلاّ لهم ، ثمّ يبيعونها هم بما يريدون . فهذا من البغي في الأرض والفساد بلا تردّد في ذلك عند أحد من العلماء . ويجب التّسعير عليهم ، وأن يبيعوا ويشتروا بقيمة المثل منعاً للظّلم . وكذلك إيجار الحانوت على الطّريق أو في القرية بأجرة معيّنة ، على ألاّ يبيع أحد غيره ، نوع من أخذ أموال النّاس قهراً وأكلها بالباطل ، وهو حرام على المؤجّر والمستأجر .
العقوبة الدّنيويّة للمحتكر :
12 - اتّفق فقهاء المذاهب على أنّ الحاكم يأمر المحتكر بإخراج ما احتكر إلى السّوق وبيعه للنّاس . فإن لم يمتثل فهل يجبر على البيع ؟ في هذه المسألة تفصيل وخلاف بين الفقهاء : أوّلاً : إذا خيف الضّرر على العامّة أجبر ، بل أخذ منه ما احتكره ، وباعه ، وأعطاه المثل عند وجوده ، أو قيمته . وهذا قدر متّفق عليه بين الأئمّة ، ولا يعلم خلاف في ذلك . ثانياً : إذا لم يكن هناك خوف على العامّة فالمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة يرون أنّ للحاكم جبره إذا لم يمتثل الأمر بالبيع . وأمّا أبو حنيفة وأبو يوسف فيريان أنّه لا يجبر على البيع ، وإنّما إذا امتنع عن البيع عزّره الحاكم . وعند من يرى الجبر فمنهم من يرى الجبر بادئ ذي بدء . ومنهم من يرى الإنذار مرّةً ، قب وقيل اثنتين ، وقيل ثلاثاً . وتدلّ النّقول عن الفقهاء أنّ هذه المسألة مرجعها مراعاة المصلحة . وهو من قبيل السّياسة الشّرعيّة .
احتلام
التّعريف
1 - من معاني الاحتلام في اللّغة رؤيا المباشرة في المنام . ويطلق في اللّغة أيضاً على الإدراك والبلوغ . ومثله الحلم . وهو عند الفقهاء اسم لما يراه النّائم من المباشرة ، فيحدث معه إنزال المنيّ غالباً .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - أ - الإمناء : يذكر الاحتلام ويراد به الإمناء ، إلاّ أنّ الإمناء أعمّ منه ، إذ لا يقال لمن أمنى في اليقظة محتلم .
ب - الجنابة : أعمّ من وجه من الاحتلام فقد تكون من الاحتلام ، وقد تكون من غيره كالتقاء الختانين كما أنّ الاحتلام قد يكون بلا إنزال فلا تحصل الجنابة .
ج - البلوغ : البلوغ يحصل بعلامات كثيرة منها الاحتلام ، فهو علامة البلوغ .
ممّن يكون الاحتلام ؟
3 - الاحتلام كما يكون من الرّجل يكون من المرأة ، فقد روى مسلم والبخاريّ أنّ « أمّ سليم حدّثت أنّها سألت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : هل على المرأة من غسل إذا هي احتلمت ؟ قال : نعم إذا رأت الماء . »
بم يتحقّق احتلام المرأة ؟
4 - للفقهاء في حصول الاحتلام من المرأة ثلاثة آراء :
أ - حصول الاحتلام بوصول المنيّ إلى ظاهر الفرج . وهو قول الحنابلة ، وظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وهو قول الشّافعيّة بالنّسبة للثّيّب . والمراد بظاهر الفرج : ما يظهر عند قضاء الحاجة ، أو عند الجلوس عند القدمين .
ب - حصول الاحتلام بوصول المنيّ خارج الفرج ، وهو قول المالكيّة مطلقاً ، وقول الشّافعيّة بالنّسبة للبكر ؛ لأنّ داخل فرجها كباطن الجسم . ح - حصول الاحتلام بمجرّد إنزال المرأة في رحمها وإن لم يخرج المنيّ إلى ظاهر الفرج ؛ لأنّ منيّ المرأة عادةً ينعكس داخل الرّحم ليتخلّق منه الولد ، وهو قول محمّد بن الحسن من الحنفيّة .
أثر الاحتلام في الغسل ؟
5 - إن كان المحتلم كافراً ثمّ أسلم فللعلماء في ذلك رأيان : الأوّل : وجوب الغسل من الجنابة ، وهو مذهب الشّافعيّة والحنابلة والأصحّ عند الحنفيّة ، وهو قول للمالكيّة ، لبقاء صفة الجنابة بعد الاحتلام ، ولا يجوز أداء الصّلاة ونحوها إلاّ بزوال الجنابة . الثّاني : ندب الغسل ، وهو قول ابن القاسم والقاضي إسماعيل من المالكيّة ، ومقابل الأصحّ عند الحنفيّة ؛ لأنّ الكافر وقت الاحتلام لم يكن مكلّفاً بفروع الشّريعة .
الاحتلام بلا إنزال :
6 - من احتلم ولم يجد منيّاً فلا غسل عليه . قال ابن المنذر : أجمع على هذا كلّ من أحفظ عنه من أهل العلم . ولو استيقظ ووجد المنيّ ولم يذكر احتلاماً فعليه الغسل ، لما روت عائشة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سئل عن الرّجل يجد البلل ولا يذكر الاحتلام ، قال : يغتسل ، وعن الرّجل يرى أنّه احتلم ولا يجد البلل قال : لا غسل عليه » . ولا يوجد من يقول غير ذلك ، إلاّ وجهاً شاذّاً للشّافعيّة ، وقولاً للمالكيّة .
7 - وإذا رأى المنيّ في فراش ينام فيه مع غيره ممّن يمكن أن يمني ، ونسبه كلّ منهما لصاحبه ، فالغسل مستحبّ لكلّ واحد منهما عند الشّافعيّة والحنابلة ، ولا يلزم ، ولا يجوز أن يصلّي أحدهما خلف الآخر قبل الاغتسال ، للشّكّ ، وهو لا يرتفع به اليقين . وقال الحنفيّة بوجوب الغسل على كلّ منهما . وفصّل المالكيّة فقالوا : إنّه إن كانا زوجين وجب على الزّوج وحده . ؛ لأنّ الغالب خروج المنيّ من الزّوج وحده ، ويعيد الصّلاة من آخر نومة ، ويجب عليهما معاً الغسل إن كانا غير زوجين . ولا فرق بين الزّوجين وغيرهما عند بقيّة المذاهب .
8 - والثّوب الّذي ينام فيه هو وغيره كالفراش عند الشّافعيّة والحنابلة ، ويعيد كلّ صلاة لا يحتمل خلوّها عن الإمناء قبلها عند الشّافعيّة ومن آخر نومة عند الحنابلة ما لم تظهر أمارة على أنّه حدث قبلها . وقال المالكيّة يستحبّ الغسل .
9 - ولو استيقظ فوجد شيئاً وشكّ في كونه منيّاً أو غيره ( والشّكّ : استواء الطّرفين دون ترجيح أحدهما على الآخر ) فللفقهاء في ذلك عدّة آراء : أ - وجوب الغسل ، وهو قول الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، إلاّ أنّ الحنفيّة أوجبوا الغسل إن تذكّر الاحتلام وشكّ في كونه منيّاً أو مذياً ، أو منيّاً أو ودياً ، وكذا إن شكّ في كونه مذياً أو ودياً ؛ ؛ لأنّ المنيّ قد يرقّ لعارض كالهواء ، لوجود القرينة ، وهي تذكّر الاحتلام . فإن لم يتذكّر الاحتلام فالحكم كذلك عند أبي حنيفة ومحمّد ، أخذاً بالحديث « في جوابه صلى الله عليه وسلم عن الرّجل يجد البلل ولم يذكر احتلاماً قال : يغتسل » . للإطلاق في كلمة « البلل » . وقال أبو يوسف : لا يجب ، وهو القياس ؛ لأنّ اليقين لا يزول بالشّكّ ، وهذا كلّه مقيّد عند الحنفيّة والحنابلة بألاّ يسبقه انتشار قبل النّوم ، فإن سبقه انتشار ترجّح أنّه مذي . وزاد الحنابلة : أو كانت بها إبردة ؛ لاحتمال أن يكون مذياً ، وقد وجد سببه . ويجب منه حينئذ الوضوء ، وقصر المالكيّة وجوب الغسل على ما إذا كان الشّكّ بين أمرين أحدهما منيّ . فإن شكّ في كونه واحداً من ثلاثة فلا يجب الغسل ، لضعف الشّكّ بالنّسبة للمنيّ ، لتعدّد مقابله .
ب - عدم وجوب الغسل ، وهو وجه للشّافعيّة ، وقول مجاهد وقتادة ؛ ؛ لأنّ اليقين لا يزول بالشّكّ . والأولى الاغتسال لإزالة الشّكّ . وأوجبوا من ذلك الوضوء مرتّباً .
ج - التّخيير في اعتباره واحداً ممّا اشتبه فيه ، وهو مشهور مذهب الشّافعيّة ، وذلك لاشتغال ذمّته بطهارة غير معيّنة .
د - وللشّافعيّة وجه آخر وهو لزوم مقتضى الجميع . أي الغسل والوضوء ، للاحتياط .
أثر الاحتلام في الصّوم والحجّ :
10 - لا أثر للاحتلام في الصّوم ، ولا يبطل به باتّفاق ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « ثلاث لا يفطرن الصّائم : الحجامة ، والقيء ، والاحتلام » ، ولأنّ فيه حرجاً ، لعدم إمكان التّحرّز عنه إلاّ بترك النّوم ، والنّوم مباح ، وتركه غير مستطاع . ولأنّه لم توجد صورة الجماع ، ولا معناه وهو الإنزال عن شهوة بمباشرة ولا أثر له كذلك في الحجّ باتّفاق .
أثر الاحتلام في الاعتكاف
11 - يتّفق الفقهاء على أنّ الاعتكاف لا يبطل بالاحتلام ، ولا يفسد إن خرج المعتكف للاغتسال خارج المسجد ، إلاّ في حالة واحدة ذكرها الحنفيّة وهي إن أمكنه الاغتسال في المسجد ، ولم يخش تلويثه فإن خيف تلويثه منع ؛ لأنّ تنظيف المسجد واجب . وبقيّة الفقهاء منهم من يجيز الخروج للاغتسال ولو مع أمن المسجد في التّلوّث ، ومنهم من يوجب الخروج ويحرّم الاغتسال في المسجد مطلقاً ، فإن تعذّر الخروج فعليه تيمّم . والخروج لا يقطع التّتابع باتّفاق ما لم يطل .
12 - وفي اعتبار زمن الجنابة من الاعتكاف خلاف بين الفقهاء . فالشّافعيّة لا يعدّون زمن الجنابة من الاعتكاف إن اتّفق المكث معها لعذر أو غيره ؛ لمنافاة ذلك للاحتلام ، وهو قول الحنفيّة والمالكيّة ، ويحسب عند الحنابلة ، فقد صرّحوا بعدم قضائه لكونه معتاداً ، ولا كفّارة فيه .
البلوغ بالاحتلام :
13 - يتّفق الفقهاء على أنّ البلوغ يحصل بالاحتلام مع الإنزال ، وينقطع به اليتم لما روي عن عليّ رضي الله عنه عن النّبيّ عليه الصلاة والسلام قال : « لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى اللّيل » .
احتواش
التّعريف
1 - الاحتواش لغةً الإحاطة . يقال : احتوش القوم على فلان إذا جعلوه وسطهم ، واحتوش القوم الصّيد أحاطوا به . ومن استعمله من الفقهاء - وهم الشّافعيّة - أطلقوه على إحاطة خاصّة ، وهي إحاطة الدّمين بطهر ، وإن كان غيرهم تعرّض للمسألة من غير استعمال هذه التّسمية .
( الحكم الإجماليّ )
2 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ عندهم إلى أنّ الطّهر الّذي يعتبر في العدّة هو المحتوش بين دمين ، فلو طلّق صغيرةً ومضى قدر زمن الطّهر ثمّ حاضت فلا يعتبر قرءاً . ومقابل الأصحّ اعتباره قرءاً ؛ لأنّ القرء هو انتقال من طهر إلى حيض ولا يخفى أنّ هذا لا يسمّى احتواشاً . ويذكر الفقهاء ذلك في عدّة ذوات الأقراء . ولا ترد هذه المسألة في مذهب الحنفيّة ، ولا على الأصحّ عند الحنابلة ؛ لأنّ العدّة عندهم بالحيض لا بالأطهار .
احتياط
التّعريف
1 - من معاني الاحتياط لغةً : الأخذ في الأمور بالأحزم والأوثق ، وبمعنى المحاذرة ، ومنه القول السّائر : أوسط الرّأي الاحتياط ، وبمعنى الاحتراز من الخطأ واتّقائه . ويستعمل الفقهاء الاحتياط بهذه المعاني كذلك . أمّا الورع فهو اجتناب الشّبهات خوفاً من الوقوع في المحرّمات .
( الحكم الإجماليّ )
2 - كثير من الأحكام الفقهيّة تثبت لأجل الاحتياط ، فمن نسي الظّهر والعصر من يومين لا يدري أي اليومين أسبق ، فإنّه يصلّي الظّهر ثمّ العصر ثمّ الظّهر في أحد الاحتمالات ، والباعث على ذلك الاحتياط . ولتعارض الاحتياط مع أصل براءة الذّمّة ، ومع قاعدة التّحرّي والتّوخّي عند الحرج ، يأتي التّردّد والخلاف في الأحكام المبنيّة على الاحتياط . ويذكر الأصوليّون ما عبّر عنه الأنصاريّ شارح مسلم الثّبوت أنّه " ليس كلّ ما كان أحوط يجب ، بل إنّما هو فيما ثبت وجوبه من قبل ، فيجب فيه ما تخرج به عن العهدة يقيناً ، كالصّلاة المنسيّة ، كما إذا فاتت صلاة من يوم فنسيها ، فيجب عليه قضاء الصّلوات الخمس من ذلك اليوم ليخرج عن عهدة المنسيّة يقيناً " قال : « ومنه نسيان المستحاضة أيّامها يجب عليها التّطهّر لكلّ صلاة أو لوقت كلّ صلاة " على خلاف تفصيله في " حيض » . ثمّ ذكر الحالة الثّانية الّتي يجب فيها الفعل احتياطاً فقال : « أو كان الوجوب هو الأصل ثمّ يعرض ما يوجب الشّكّ ، كصوم الثّلاثين من رمضان ، فإنّ الوجوب فيه الأصل ، وعروض عارض الغمام لا يمنعه ، فيجب احتياطاً ، لا كصوم يوم الشّكّ ، فلا يثبت الوجوب للاحتياط في صوم يوم الشّكّ ؛ لأنّ الوجوب فيه ليس هو الأصل ، ولا هو ثابت يقيناً » .
( مواطن البحث )
3 - يذكر الأصوليّون في باب تعارض الأدلّة ترجيح الدّليل المقتضي للتّحريم على ما يقتضي غيره من الأحكام لاستناد ذلك التّرجيح للاحتياط ، وفي تعارض العلل ترجيح العلّة المقتضية للتّحريم على المقتضية لغيره . وذكروا أيضاً مسألة جريان الاحتياط في الوجوب والنّدب والتّحريم ، في الباب نفسه أيضاً . ومحلّ ذلك الملحق الأصوليّ . ويذكر الفقهاء القواعد المبنيّة على الاحتياط ، ومنها قاعدة تغليب الحرام عند اجتماع الحرام والحلال ، وما يدخل في هذه القاعدة وما يخرج عنها ، في كتب القواعد الفقهيّة .
احتيال
التّعريف
1 - يأتي الاحتيال بمعنى طلب الحيلة ، وهي الحذق في تدبير الأمور ، أي تقليب الفكر حتّى يهتدي إلى المقصود . ويأتي بمعنى الاحتيال بالدّين . ولا يخرج استعمال الأصوليّين والفقهاء له عن هذا ، إلاّ أنّ ابن القيّم ذكر أنّه غلب على الحيلة في العرف استعمالها في سلوك الطّرق الخفيّة الّتي يتوصّل بها الرّجل إلى حصول غرضه بحيث لا يتفطّن له إلاّ بنوع من الذّكاء والفطنة . فهذا أخصّ من موضوعها في أصل اللّغة ، وسواء أكان المقصود أمراً جائزاً أم محرّماً ، وأخصّ من هذا استعمالها في التّوصّل إلى الغرض الممنوع منه شرعاً أو عقلاً أو عادةً . وهذا هو الغالب عليها في عرف النّاس . إطلاقاته : الأوّل : بمعنى استعمال الطّرق الّتي يتوصّل بها الإنسان إلى غرضه . الثّاني : بمعنى نقل الدّين من ذمّة إلى ذمّة ، وهو الحوالة .
( الحكم الإجماليّ )
أوّلاً : بالمعنى الأوّل : يختلف حكم الاحتيال باختلاف القصد والنّيّة ، وباختلاف مآل العمل ، وذلك على الوجه الآتي :
2 - يكون الاحتيال حراماً إذا تسبّب به المكلّف في إسقاط ما وجب شرعاً ، حتّى يصير غير واجب في الظّاهر ، أو في جعل المحرّم حلالاً في الظّاهر . ذلك أنّ العمل إذا قصد به إبطال حكم شرعيّ وتحويله في الظّاهر إلى حكم آخر ، حتّى يصير مآل ذلك العمل خرم قواعد الشّريعة في الواقع ، فهو حرام منهيّ عنه . وذلك كما لو دخل عليه وقت الصّلاة فشرب خمراً أو دواءً منوّماً حتّى يخرج وقتها وهو فاقد لعقله كالمغمى عليه ، أو كان له مال يقدر به على الحجّ فوهبه كي لا يجب عليه الحجّ . وكذلك يحرم التّصرّف في المال بهبة أو غيرها قبل الحول للفرار من الزّكاة عند المالكيّة والحنابلة . وقد اختلف الحنفيّة في ذلك ، فقال أبو يوسف : لا يكره ذلك ؛ لأنّه امتناع عن الوجوب لإبطال حقّ الغير . وفي المحيط أنّه الأصحّ . وقال محمّد : يكره . واختاره الشّيخ حميد الدّين الضّرير ؛ لأنّ فيه إضراراً بالفقراء ، وإبطال حقّهم مآلاً . وقيل : الفتوى على قول محمّد ، كذلك الأمر بالنّسبة للشّافعيّة ، ففي نهاية المحتاج والشّروانيّ : يكره تنزيهاً إن قصد به الفرار من الزّكاة . وقال الشّروانيّ : وفي الوجيز يحرم . زاد في الإحياء : ولا تبرأ به الذّمّة باطناً ، وأنّ هذا من الفقه الضّارّ ، وقال ابن الصّلاح يأثم بقصده لا بفعله . كذلك يحرم الاحتيال لأخذ أموال النّاس وظلمهم في نفوسهم وسفك دمائهم وإبطال حقوقهم . والدّليل على حرمة الاحتيال قوله تعالى : { ولقد علمتم الّذين اعتدوا منكم في السّبت . . . } ؛ لأنّهم احتالوا للاصطياد في السّبت بصورة الاصطياد في غيره . وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يجمع بين متفرّق ولا يفرّق بين مجتمع خشية الصّدقة » .
3 - ويكون الاحتيال جائزاً إذا قصد به أخذ حقّ ، أو دفع باطل ، أو التّخلّص من الحرام ، أو التّوصّل إلى الحلال ، وسواء أكانت الوسيلة محرّمةً أم مشروعةً ، إلاّ أنّها إن كانت محرّمةً فهو آثم على الوسيلة دون المقصود ، وقد يطلب الاحتيال ولا سيّما في الحرب ؛ ؛ لأنّها خدعة . والأصل في الجواز قول اللّه تعالى : { وخذ بيدك ضغثاً فاضرب به ولا تحنث } .
4 - ومنه ما يختلف فيه وهو ما لم يتبيّن فيه مقصد للشّارع يتّفق على أنّه مقصود له ، ولا ظهر أنّه على خلاف المصلحة الّتي وضعت لها الشّريعة بحسب المسألة المفروضة . فمن رأى من الفقهاء أنّ الاحتيال في أمر ما غير مخالف للمصلحة فالتّحيّل جائز عنده فيه ، ومن رأى أنّه مخالف فالتّحيّل ممنوع عنده فيه . على أنّه من المقرّر أنّ من يجيز التّحيّل في بعض المسائل فإنّما يجيزه بناءً على تحرّي قصد المكلّف المحتال ، وأنّه غير مخالف لقصد الشّارع ؛ لأنّ مصادمة الشّارع صراحاً ، علماً أو ظنّاً ، ممنوع ، كما أنّ المانع إنّما منع بناءً على أنّ ذلك مخالف لقصد الشّارع ؛ ولما وضع في الأحكام من المصالح . ومن ذلك نكاح المحلّل ، فإنّه تحيّل إلى رجوع الزّوجة إلى مطلّقها الأوّل بحيلة توافق في الظّاهر قوله اللّه تعالى : { فإن طلّقها فلا تحلّ له من بعد حتّى تنكح زوجاً غيره } فقد نكحت المرأة هذا المحلّل ، فكان رجوعها إلى الأوّل بعد تطليق الثّاني موافقاً . ونصوص الشّارع مفهمة لمقاصده ، ومن ذلك بيوع الآجال .
5 - وأكثر الّذين أخذوا بالاحتيال هم الحنفيّة فالشّافعيّة . أمّا المالكيّة والحنابلة فإنّ الأصل عندهم هو منع الاحتيال غالباً ، وهو لا يفيد في العبادات ولا في المعاملات ؛ لأنّ تجويز الحيل يناقض سدّ الذّرائع ، فإنّ الشّارع يسدّ الطّريق إلى المفاسد بكلّ ممكن ، والمحتال يفتح الطّريق إليها بحيلة . ثانياً بالمعنى الثّاني :
6 - الاحتيال بالحقّ من جهة المحيل يكون نتيجة عقد الحوالة ، فالحوالة عقد يقتضي نقل دين من ذمّة إلى أخرى ، وهي مستثناة - كما يقول بعض الفقهاء - من بيع الدّين بالدّين .
7 - وهي جائزة للحاجة إليها . والأصل فيها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا أحيل أحدكم على مليء فليحتل » والحكم فيها براءة ذمّة المحيل من دين المحال له . وقد اشترط الفقهاء لصحّتها شروطاً ، كرضا المحيل المحال له ، والعلم بما يحال به وعليه . وغير ذلك من التّفاصيل تنظر في مصطلح ( حوالة ) .
( مواطن البحث )
8 - للاحتيال بمعنى الطّرق الّتي يتوصّل بها الإنسان إلى غرضه أحكام مفصّلة في مصطلح ( حيلة ) وفي كتب الأصول ولها علاقتها بمقاصد الشّريعة وبالذّرائع . وينظر في الملحق الأصوليّ .
إحداد
التّعريف
1 - من معاني الإحداد في اللّغة : المنع ، ومنه امتناع المرأة عن الزّينة وما في معناها إظهاراً للحزن . وهو في الاصطلاح : امتناع المرأة من الزّينة وما في معناها مدّةً مخصوصةً في أحوال مخصوصة ، وكذلك من الإحداد امتناعها من البيتوتة في غير منزلها .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : الاعتداد :
2 - وهو تربّص المرأة مدّةً محدّدةً شرعاً لفراق زوجها بوفاة أو طلاق أو فسخ . والعلاقة بين الاعتداد والإحداد أنّ الاعتداد طرف للإحداد ، ففي العدّة . تترك المرأة زينتها لموت زوجها . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
3 - أجمع العلماء على وجوب الإحداد في عدّة الوفاة من نكاح صحيح ولو من غير دخول بالزّوجة . والدّليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ على ميّت فوق ثلاث ليال إلاّ على زوج ، أربعة أشهر وعشراً » . كما أجمعوا على أنّه لا إحداد على الرّجل . وقد أجمعوا أيضاً على أنّه لا إحداد على المطلّقة رجعيّاً ، بل يطلب منها أن تتعرّض لمطلّقها وتتزيّن له لعلّ اللّه يحدث بعد ذلك أمراً . على أنّ للشّافعيّ رأياً بأنّه يستحبّ للمطلّقة رجعيّاً الإحداد إذا لم ترج الرّجعة .
4 - وأمّا المعتدّة من طلاق بائن بينونةً صغرى أو كبرى فقد اختلف العلماء فيه على اتّجاهين : الأوّل : ذهب الحنفيّة والشّافعيّ في قديمه ، وهو إحدى الرّوايتين في مذهب أحمد ، أنّ عليها الإحداد ، لفوات نعمة النّكاح . فهي تشبه من وجه من توفّي عنها زوجها . الثّاني : ذهب المالكيّة والشّافعيّ في جديده وهو إحدى الرّوايتين عن الإمام أحمد ( وقيل في بعض الكتب إنّها المذهب ) إلاّ أنّه لا إحداد عليها ؛ لأنّ الزّوج هو الّذي فارقها نابذاً لها ، فلا يستحقّ أن تحدّ عليه . وإلى هذا ذهب جماعة من التّابعين ، منهم سعيد بن المسيّب ، وأبو ثور ، وعطاء ، وربيعة ، ومالك ، وابن المنذر . إلاّ أنّ الشّافعيّ يرى في جديده أنّه يستحبّ لها أن تحدّ .
5 - وأمّا المنكوحة نكاحاً فاسداً إذا مات عنها زوجها فالجمهور على أنّه لا إحداد عليها ؛ ؛ لأنّها ليست زوجةً على الحقيقة ، وأنّ بقاء الزّواج الفاسد نقمة ، وزواله نعمة ، فلا محلّ للإحداد . وذهب القاضي أبو يعلى من الحنابلة إلى وجوب الإحداد عليها تبعاً لوجوب العدّة ، وذهب القاضي الباجيّ المالكيّ إلى أنّه إذا ثبت بينها وبين زوجها المتوفّي شيء من أحكام النّكاح ، كالتّوارث وغيره ، فإنّها تعتدّ عدّة الوفاة ، ويلزمها الإحداد .
6 - أمّا إحداد المرأة على قريب غير زوج فإنّه جائز لمدّة ثلاثة أيّام فقط ، ويحرم الزّيادة عليها . والدّليل على ذلك ما روته زينب بنت أبي سلمة ، قالت : « لمّا أتى أمّ حبيبة نعي أبي سفيان دعت في اليوم الثّالث بصفرة ، فمسحت به ذراعيها وعارضيها ، وقالت : كنت عن هذا غنيّة ، سمعت النّبيّ صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحدّ فوق ثلاث إلاّ على زوج فإنّها تحدّ عليه أربعة أشهر وعشراً . » أخرجه البخاريّ ومسلم ، واللّفظ له . وللزّوج منعها من الإحداد على القريب .
إحداد زوجة المفقود :
7 - المفقود : هو من انقطع خبره ، ولم تعلم حياته من مماته . فإذا حكم باعتباره ميّتاً فقد أجمع العلماء على أنّ زوجته تعتدّ عدّة وفاة من حين الحكم ، ولكن أيجب عليها الإحداد ؟ ذهب جمهور العلماء إلى وجوبه باعتبار أنّها معتدّة عدّة وفاة ، فتأخذ حكمها . وذهب ابن الماجشون من المالكيّة إلى أنّه وإن وجبت عليها العدّة فإنّه لا إحداد عليها .
بدء مدّة الإحداد :
8 - يبدأ الإحداد عقيب الوفاة سواء علمت الزّوجة بوقتها ، أو تأخّر علمها ، وعقيب الطّلاق البائن عند من يرى ذلك . هذا إذا كانت الوفاة والطّلاق معلومين . أمّا إذا مات الزّوج ، أو طلّقها ، وهو بعيد عنها فيبدأ الإحداد من حين علمها . وليس عليها قضاء ما فات ، وينقضي بانقضاء العدّة ، وإذا انتهت مدّة الإحداد وبقيت محدّةً بلا قصد فلا إثم عليها .
حكمة تشريع الإحداد :
9 - شرع إحداد المرأة المتوفّى عنها زوجها وفاءً للزّوج ، ومراعاةً لحقّه العظيم عليها ، فإنّ الرّابطة الزّوجيّة أقدس رباط ، فلا يصحّ شرعاً ولا أدباً أن تنسى ذلك الجميل ، وتتجاهل حقّ الزّوجيّة الّتي كانت بينهما . وليس من الوفاء أن يموت زوجها من هنا ، ثمّ تنغمس في الزّينة وترتدي الثّياب الزّاهية المعطّرة ، وتتحوّل عن منزل الزّوجيّة ، كأنّ عشرةً لم تكن بينهما . وقد كانت المرأة قبل الإسلام تحدّ على زوجها حولاً كاملاً تفجّعاً وحزناً على وفاته ، فنسخ اللّه ذلك وجعله أربعه أشهر وعشراً . هكذا قرّر علماء أئمّة المذاهب الأربعة فيما يستخلص من كلامهم على أحكام الإحداد . فقد ذكروا " أنّ الحداد واجب على من توفّي عنها زوجها ، إظهاراً للتّأسّف على ممات زوج وفّى بعهدها ، وعلى انقطاع نعمة النّكاح ، وهي ليست نعمةً دنيويّةً فحسب ، ولكنّها أيضاً أخرويّة ؛ ؛ لأنّ النّكاح من أسباب النّجاة في المعاد والدّنيا " وشرع الإحداد أيضاً ؛ لأنّه يمنع تشوّف الرّجال إليها ؛ لأنّها إذا تزيّنت يؤدّي إلى التّشوّف ، وهو يؤدّي إلى العقد عليها ، وهو يؤدّي إلى الوطء ، وهو يؤدّي إلى اختلاط الأنساب ، وهو حرام . وما أدّى إلى الحرام حرام » .
من تحدّ ومن لا تحدّ ؟
10 - تبيّن فيما سبق من يطلب منها الإحداد في الجملة . وهناك حالات وقع فيها خلاف بين الفقهاء ، منها : الكتابيّة زوجة المسلم ، والصّغيرة .
11 - أمّا الكتابيّة فقد ذهب مالك - في رواية ابن القاسم - والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّها يجب عليها الإحداد مدّة العدّة إذا مات زوجها المسلم ، وذلك ؛ لأنّ الإحداد تبع للعدّة فمتى وجبت عليها عدّة الوفاة وجب عليها الإحداد . وذهب الحنفيّة ومالك في رواية أشهب إلى أنّه لا إحداد عليها ؛ لأنّ الإحداد مطلوب من المسلمة ، لظاهر قوله صلى الله عليه وسلم : « لا يحلّ لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر . . . » الحديث .
12 - وأمّا الصّغيرة فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّها تحدّ ، وعلى وليّها أن يمنعها من فعل ما ينافي الإحداد ؛ لأنّ الإحداد تبع للعدّة . ولما روي عن أمّ سلمة رضي الله عنها « أنّ امرأةً أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه ، إنّ ابنتي توفّي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها ؟ فقال : لا مرّتين ، أو ثلاثاً » الحديث ، ولم يسأل عن سنّها ، وترك الاستفصال في مقام السّؤال دليل على العموم . وذهب الحنفيّة إلى عدم وجوب الإحداد عليها لحديث : « رفع القلم عن ثلاث : عن النّائم حتّى يستيقظ ، وعن المبتلى حتّى يبرأ ، وعن الصّبيّ حتّى يكبر » . فإن بلغت في العدّة حدّت فيما بقي . ومثلها المجنونة الكبيرة إذا أفاقت . وأمّا الأمة فالفقهاء على أنّه يلزمها الإحداد مدّة عدّتها ؛ لعموم الحديث في وجوب الإحداد ، وحكى الشّافعيّة الإجماع على ذلك » .
ما تتجنّبه المحدّة :
13 - تجتنب المحدّة كلّ ما يعتبر زينةً شرعاً أو عرفاً ، سواء أكان يتّصل بالبدن أو الثّياب أو يلفت الأنظار إليها ، كالخروج من مسكنها ، أو التّعرّض للخطّاب . وهذا القدر مجمع عليه في الجملة . وقد اختلف الفقهاء في بعض الحالات فاعتبرها البعض من المحظورات على المحدّة ، ولم يعتبرها الآخرون . وذلك كبعض الملابس المصبوغة ، واختلافهم في الملابس السّوداء والبيضاء والمصبوغة بغير الزّعفران والمعصفر . وعند التّحقيق نجد أنّ اختلافهم - فيما عدا المنصوص عليه - ناشئ عن اختلاف العرف : فما اعتبر في العرف زينة اعتبروه محرّماً ، وما لم يعتبر اعتبر مباحاً . والممنوع يرجع كلّه إمّا إلى البدن ، أو الثّياب ، أو الحليّ ، أو التّعرّض للخطّاب ، أو البيتوتة .
14 - فأمّا ما يتّصل بالبدن فالّذي يحرم عليها كلّ ما يعتبر مرغّباً فيها من طيب وخضاب وكحل للزّينة . ومن ذلك الأشياء المستحدثة للزّينة ، وليس من ذلك ما تتعاطاه المرأة للتّداوي كالكحل والامتشاط بمشط واسع لا طيب فيه . وذهب الحنفيّة إلى كراهية الامتشاط بمشط الأسنان وهو بلا طيب ؛ لأنّه يعتبر من الزّينة عندهم . على أنّ من لا كسب لها إلاّ من الاتّجار بالطّيب أو صناعته فإنّ الشّافعيّة ينصّون على جواز مسّها له . وهذا كلّه في بدء التّطيّب بعد لزوم الإحداد ، أمّا لو تطيّبت قبل ذلك فهل عليها إزالته بعد لزوم الإحداد ؟ ذهب الشّافعيّة - إلى وجوب ذلك - وهو قول للمالكيّة اختاره ابن رشد . والرّأي الآخر للمالكيّة واختاره القرافيّ أنّه ليس عليها إزالته .
15 - واختلفوا في الأدهان غير المطيّبة ، كالزّيت والشّيرج ، فالحنفيّة والشّافعيّة يرون أنّ استعمالها من الزّينة الممنوعة على المحدّة ، خلافاً للمالكيّة والحنابلة . ففي حديث أمّ سلمة رضي الله عنها « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل عليها حين توفّي زوجها أبو سلمة ، فنهاها أن تمتشط بالطّيب ولا بالحنّاء ، فإنّه خضاب . قالت : قلت بأيّ شيء أمتشط ؟ قال : بالسّدر تغلّفين به رأسك » أي تجعلين عليه من السّدر ما يشبه الغلاف .
16 - وأمّا ما يتّصل بالملابس فهو كما قلنا كلّ ما جرى العرف باعتباره زينةً ، بصرف النّظر عن اللّون ، فقد يكون الثّوب الأسود محظوراً إذا كان يزيدها جمالاً ، أو جرى العرف عند قومها باعتباره من ملابس الزّينة . ولكن ورد النّصّ بالنّهي عن المعصفر والمزعفر من الثّياب ؛ لأنّهما يفوح منهما الطّيب ، لحديث أمّ عطيّة في الصّحيحين « كنّا ننهى أن نحدّ على ميّت فوق ثلاث ، إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشراً ، وأن نكتحل ، وأن نتطيّب ، وأن نلبس ثوباً مصبوغاً . » وأمّا من لم يكن عندها إلاّ ثوب واحد من المنهيّ عن لبسه فلا يحرم عليها لبسه حتّى تجد غيره ؛ لأنّ ستر العورة أوجب من الإحداد . ونقل عن الخرقيّ من الحنابلة أنّه يحرم عليها استعمال النّقاب ، فإن اضطرّت إلى ستر وجهها ؛ فلتسدل النّقاب وتبعده عن وجهها وذلك ؛ لأنّه اعتبر المحدّة كالمحرمة ولكن المذهب على غير ذلك فلها استعمال النّقاب مطلقاً .
17 - أمّا الحليّ : فقد أجمع الفقهاء على حرمة الذّهب بكلّ صوره عليها ، فيلزمها أن تنزعه حينما تعلم بموت زوجها ، لا فرق في ذلك بين الأساور والدّمالج والخواتم ، ومثله الحليّ من الجواهر . ويلحق به ما يتّخذ للحلية من غير الذّهب والفضّة كالعاج وغيره . وجوّز بعض الفقهاء لبس الحليّ من الفضّة ، ولكنّه قول مردود لعموم النّهي عن لبس الحليّ على المحدّة . وقصر الغزاليّ من الشّافعيّة الإباحة على لبس الخاتم من الفضّة ؛ لأنّه ليس ممّا تختصّ بحلّه النّساء . وتحرم على المحدّة التّعرّض للخطّاب بأيّ وسيلة من الوسائل تلميحاً أو تصريحاً ، لقوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه النّسائيّ وأبو داود : « ولا تلبس المعصفر من الثّياب ، ولا الحليّ » .
ما يباح للمحدّة
18 - للمعتدّة الخروج في حوائجها نهاراً سواء كانت مطلّقةً أو متوفًّى عنها ، لما روى « جابر قال : طلقت خالتي ثلاثاً ، فخرجت تجذّ نخلها ، فلقيها رجل فنهاها . فذكرت ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : اخرجي فجذّي نخلك ، لعلّك أن تتصدّقي منه أو تفعلي خيراً . » رواه النّسائيّ وأبو داود . وروى مجاهد قال : « استشهد رجال يوم أحد ، فجاء نساؤهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، وقلن : يا رسول اللّه نستوحش باللّيل ، أفنبيت عند إحدانا ، فإذا أصبحنا بادرنا إلى بيوتنا ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : تحدّثن عند إحداكنّ ، حتّى إذا أردتنّ النّوم فلتؤب كلّ واحدة إلى بيتها » . وليس لها المبيت في غير بيتها ، ولا الخروج ليلاً إلاّ لضرورة ؛ لأنّ اللّيل مظنّة الفساد ، بخلاف النّهار فإنّه مظنّة قضاء الحوائج والمعاش وشراء ما يحتاج إليه . وإن وجب عليها حقّ لا يمكن استيفاؤه إلاّ بها ، كاليمين والحدّ ، وكانت ذات خدر ، بعث إليها الحاكم من يستوفي الحقّ منها في منزلها . وإن كانت برزةً جاز إحضارها لاستيفائه . فإذا فرغت رجعت إلى منزلها . على أنّ المالكيّة صرّحوا بأنّه لا بأس للمحدّة أن تحضر العرس ، ولكن لا تتهيّأ فيه بما لا تلبسه المحدّة . اتّفق أئمّة المذاهب الأربعة على أنّه يباح للمحدّة في عدّة وفاتها الأشياء التّالية : يباح لها أن تلبس ثوباً غير مصبوغ صبغاً فيه طيب وإن كان نفيساً . ويباح لها من الثّياب كلّ ما جرى العرف على أنّه ليس بزينة مهما كان لونه . ولمّا كان الإحداد خاصّاً بالزّينة في البدن أو الحليّ والثّياب على التّفصيل السّابق ، فلا تمنع من تجميل فراش بيتها ، وأثاثه ، وستوره والجلوس على أثاث وثير . ولا بأس بإزالة الوسخ والتّفث من ثوبها وبدنها ، كنتف الإبط ، وتقليم الأظافر إلخ ، والاغتسال بالصّابون غير المطيّب ، وغسل رأسها ويديها ، ولا يخفى أنّ للمرأة المحدّة أن تقابل من الرّجال البالغين من لها حاجة إلى مقابلته ما دامت غير مبدية زينتها ولا مختلية به .
سكن المحدّة :
19 - ذهب جمهور الفقهاء من السّلف والخلف ، ولا سيّما أصحاب المذاهب الأربعة ، إلى أنّه يجب على المعتدّة من وفاة أن تلزم بيت الزّوجيّة الّذي كانت تسكنه عندما بلغها نعي زوجها ، سواء كان هذا البيت ملكاً لزوجها ، أو معاراً له ، أو مستأجراً . ولا فرق في ذلك بين الحضريّة والبدويّة ، والحائل والحامل . والأصل في ذلك قوله تعالى : { لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ } وحديث « فريعة بنت مالك وأنّها جاءت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأخبرته أنّ زوجها خرج في طلب أعبد له فقتلوه بطرف القدوم ، فسألت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي ، فإنّ زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة . قالت : فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : نعم . قالت : فخرجت حتّى إذا كنت في الحجرة ، أو في المسجد دعاني ، أو أمر بي فدعيت له ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : كيف قلت ؟ فرددت عليه القصّة ، فقال : امكثي في بيتك حتّى يبلغ الكتاب أجله ، فاعتدّت فيه أربعة أشهر وعشراً ، فلمّا كان عثمان بن عفّان رضي الله عنه أرسل إليّ فسألني عن ذلك ، فأخبرته ، فاتّبعه وقضى به » . رواه مالك في الموطّأ . وذهب جابر بن زيد والحسن البصريّ وعطاء من التّابعين إلى أنّها تعتدّ حيث شاءت . وروي ذلك عن عليّ وابن عبّاس وجابر وعائشة رضي الله عنهم . وحاصل ما استدلّوا به : أنّ الآية الّتي جعلت عدّة المتوفّى عنها زوجها أربعة أشهر وعشراً وهي قوله تعالى : { والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً يتربّصن بأنفسهنّ أربعة أشهر وعشراً } نسخت الآية الّتي جعلت عدّة المتوفّى عنها زوجها حولاً ، وهي قوله تعالى : { والّذين يتوفّون منكم ويذرون أزواجاً وصيّةً لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج } . والنّسخ إنّما وقع على ما زاد عن أربعة أشهر وعشر ، فبقي ما سوى ذلك من الأحكام ، ثمّ جاء الميراث فأسقط تعلّق حقّ إسكانها بالتّركة .
مسوّغات ترك مسكن الإحداد :
20 - إن طرأ على المحدّة ما يقتضي تحوّلها عن المسكن الّذي وجب عليها الإحداد فيه ، جاز لها الانتقال إلى مسكن آخر تأمن فيه على نفسها ومالها ، كأن خافت هدماً أو عدوّاً ، أو أخرجت من السّكن من مستحقّ أخذه ، كما لو كان عاريّةً أو إجارةً انقضت مدّتها ، أو منعت السّكنى تعدّياً ، أو طلب به أكثر من أجرة المثل . وإذا انتقلت تنتقل حيث شاءت إلاّ عند الشّافعيّة ، وهو اختيار أبي الخطّاب من الحنابلة ، فعليها أن تنتقل إلى أقرب ما يمكنها الانتقال إليه قياساً على ما إذا وجبت الزّكاة ولم يوجد من يستحقّها في مكان وجوبها ، فإنّها تنقل إلى أقرب موضع يجدهم فيه . وللجمهور أنّ الواجب سقط لعذر ولم يرد الشّرع له ببدل فلا يجب ، ولعدم النّصّ على اختيار الأقرب . أمّا البدويّة إذا انتقل جميع أهل المحلّة الّذين هي معهم أو بقي منهم من لا تأمن معه على نفسها ومالها فإنّها تنتقل عن السّكن الّذي بدأت فيه الإحداد كذلك . وإذا مات ربّان السّفينة ، أو أحد العاملين فيها ، وكانت معه زوجته ، ولها مسكن خاصّ بها في السّفينة ، فإنّها تحدّ فيه ، وتجري عليها الأحكام السّابقة .
أجرة سكن المحدّة ، ونفقتها :
21 - اختلفت مذاهب الفقهاء فيمن يلزمه أجر سكن المحدّة هل هو عليها أم من مال المتوفّى عنها . فذهب الحنفيّة إلى أنّ أجرة سكن المحدّة من وفاة ، من مالها ؛ ؛ لأنّ الشّرع ورد بتوريثها ، ولم يثبت لها أكثر من ذلك . أمّا المحدّة من طلاق بائن - عندهم - فأجرة سكناها على الزّوج ؛ لأنّ نفقتها عليه في مدّة العدّة ، فإن دفعت من مالها رجعت عليه . وذهب المالكيّة إلى التّفرقة بين المدخول بها وغيرها ، فغير المدخول بها سكناها مع أهلها أو من مالها ، للدّليل السّابق عند الحنفيّة . وأمّا المدخول بها فإن كانت تسكن في ملكه أو في مسكن استأجره لها وعجّل أجرته فليس للورثة إخراجها حتّى لو بيعت الدّار ، فيستثنى منها مدّة إحدادها . فإن لم يكن كذلك فأجرة سكناها من مالها ، وليس لها الرّجوع على مال التّركة بشيء ، سواء في ذلك الحامل والحائل » . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ المحدّة تستحقّ أجرة السّكن من التّركة ، بل تتعلّق بأعيان التّركة . وتقدّم على مؤنة التّجهيز والدّيون المرسلة في الذّمّة في الأظهر ، سواء أكانت حائلاً أم حاملاً ، مدخولاً بها أو غير مدخول . وفي غير الأظهر أنّ أجرة السّكنى عليها ؛ لأنّها وارثة ، فتلزمها ، كالنّفقة . وهناك قول آخر : أنّ الّذي يقدّم على مؤنة التّجهيز أجرة سكنى يوم الوفاة ، وهذا إذا لم تكن تسكن فيما يملكه أو يملك منفعته أو لم يكن قد عجّل الأجرة قبل الوفاة . وذهب الحنابلة إلى التّفرقة بين الحامل والحائل ، فالحائل أجرة سكناها في الإحداد من مالها بلا خلاف عندهم ، للدّليل المذكور سابقاً . وأمّا الحامل فعندهم روايتان ، إحداهما : لها أجرة السّكنى من مال المتوفّى عنها ؛ لأنّها حامل من زوجها ، فكانت لها السّكنى والنّفقة ، كالمفارقة في الحياة . والثّانية : ليس لها ذلك . وصحّح القاضي أبو يعلى هذه الرّواية . هذا عن أجرة سكنى المحدّة ، أمّا نفقتها فموطن بحثه مصطلح ( عدّة ) ؛ لأنّ حكم النّفقة تابع للاعتداد لا للإحداد .
حجّ المحدّة :
22 - ذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا تخرج المعتدّة إلى الحجّ في عدّة الوفاة ؛ ؛ لأنّ الحجّ لا يفوت ، والعدّة تفوت . روي ذلك عن عمر وعثمان ، وبه قال سعيد بن المسيّب والثّوريّ وأصحاب الرّأي . وروي عن سعيد بن المسيّب قال : توفّي أزواج نساؤهنّ حاجّات أو معتمرات ، فردّهنّ عمر رضي الله عنه من ذي الحليفة حتّى يعتددن في بيوتهنّ . فإذا خرجت المرأة إلى الحجّ فتوفّي عنها زوجها وهي بالقرب ، أي دون مسافة قصر الصّلاة ، رجعت لتقضي العدّة ؛ لأنّها في حكم الإقامة . ومتى رجعت وقد بقي من عدّتها شيء ، أتت به في منزلها . وإن كانت قد تباعدت بأن قطعت مسافة القصر فأكثر ، مضت في سفرها ؛ لأنّ عليها في الرّجوع مشقّةً ، فلا يلزمها . فإن خافت أن تتعرّض لمخاطر في الرّجوع ، مضت في سفرها ولو كانت قريبةً ؛ لأنّ عليها ضرراً في رجوعها . وإن أحرمت بعد موته لزمتها الإقامة ؛ لأنّ العدّة أسبق . وفي رأي للحنفيّة : أنّ المرأة إذا خرجت إلى الحجّ ، فتوفّي عنها زوجها ، فالرّجوع أولى لتعتدّ في منزلها ، فلا ينبغي لمعتدّة أن تحجّ ، ولا تسافر مع محرم أو غير محرم ، فقد توفّي أزواج نساؤهنّ حاجّات أو معتمرات ، فردّهنّ عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه من قصر النّجف . فدلّ على أنّ المعتدّة تمنع من ذلك . أمّا المالكيّة فيقولون : إذا أحرمت بحجّ أو عمرة ، ثمّ طرأت عليها عدّة بأن توفّي زوجها ، بقيت على ما هي فيه ، ولا ترجع لمسكنها لتعتدّ به ؛ لأنّ الحجّ سابق على العدّة . وإن أحرمت بحجّ أو عمرة بعد موجب العدّة من طلاق أو وفاة ، فإنّها تمضي على إحرامها الطّارئ ، وأثمت بإدخال الإحرام على نفسها بعد العدّة بخروجها من مسكنها . ولم يعتبر الشّافعيّة المسافة الّتي تقطعها المحدّة المحرمة بالأيّام الّتي تقصر فيها الصّلاة . ولكن قالوا : إن فارقت البنيان ، فلها الخيار بين الرّجوع والتّمام ؛ لأنّها صارت في موضع أذن لها زوجها فيه وهو السّفر ، فأشبه ما لو بعدت .
23 - ومثل الحجّ كلّ سفر ، فليس لها أن تنشئ ذلك السّفر وهي محدّة . وذهب أبو يوسف ومحمّد إلى أنّه إذا كان معها محرم فلا بأس بأن تخرج من المصر قبل أن تعتدّ . وحاصل ما تفيده عبارات فقهاء المذاهب المختلفة أنّه إذا أذن الزّوج بالسّفر لزوجته ، ثمّ طلّقها ، أو مات عنها وبلغها الخبر ، فإن كان الطّلاق رجعيّاً فلا يتغيّر الحكم ؛ لقيام الزّوجيّة ، حتّى لو كان معها في السّفر تمضي معه ، وإن لم يكن معها والطّلاق بائن وكانت أقرب إلى بيت الزّوجيّة وجب عليها أن تعود لتعتدّ وتحدّ في بيت الزّوجيّة . وإن كانت أقرب إلى مقصدها فهي مخيّرة بين المضيّ إلى مقصدها وبين العودة ، والعودة أولى . إلاّ أنّ المالكيّة يوجبون العودة ، ولو بلغت مقصدها ، ما لم تقم ستّة أشهر ، إلاّ إذا كانت في حجّة الإسلام وأحرمت فإنّها تمضي عندهم في حجّتها .
اعتكاف المحدّة :
24 - المعتكفة إذا توفّي عنها زوجها ، لزمها الخروج لقضاء العدّة عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ؛ لأنّ خروجها لقضاء العدّة أمر ضروريّ ، كما إذا خرج المعتكف للجمعة وسائر الواجبات ، كإنقاذ غريق ، أو إطفاء حريق ، أو أداء شهادة تعيّن عليه ، أو لفتنة يخشاها على نفسه أو أهله أو ماله . وإذا خرجت المعتكفة لهذه الضّرورات ، فهل يبطل اعتكافها ؟ وهل تلزمها كفّارة يمين ، أو لا كفّارة عليها ؟ ذهب الحنفيّة والحنابلة ، وهو أصحّ القولين للشّافعيّة ، أنّه لا يبطل اعتكافها ، فتقضي عدّتها ، ثمّ تعود إلى المسجد ، وتبني على ما مضى من اعتكافها . والقول الثّاني للشّافعيّة : يبطل اعتكافها ، وقد خرّجه ابن سريج ، وذكر البغويّ أنّها إذا لزمها الخروج للعدّة ، فمكثت في الاعتكاف ، عصت وأجزأها الاعتكاف . قاله الدّارميّ . أمّا المالكيّة فيقولون : « تمضي المعتكفة على اعتكافها إن طرأت عليها عدّة من وفاة أو طلاق . وبهذا قال ربيعة وابن المنذر . أمّا إذا طرأ اعتكاف على عدّة فلا تخرج له ، بل تبقى في بيتها حتّى تتمّ عدّتها ، فلا تخرج للطّارئ ، بل تستمرّ على السّابق " ( ر : اعتكاف ) .
عقوبة غير الملتزمة بالإحداد :
25 - يستفاد من كلام أئمّة المذاهب الأربعة في الإحداد أنّ المحدّة المكلّفة لو تركت الإحداد الواجب كلّ المدّة أو بعضها ، فإن كان ذلك عن جهل فلا حرج ، وإن كان عمداً ، فقد أثمت متى علمت حرمة ذلك ، كما قاله ابن المقري من الشّافعيّة . ولكنّها لا تعيد الإحداد ؛ لأنّ وقته قد مضى ، ولا يجوز عمل شيء في غير موضعه في غير وقته ، وانقضت العدّة مع العصيان ، كما لو فارقت المعتدّة المسكن الّذي يجب عليها ملازمته بلا عذر ، فإنّها تعصي وتنقضي عدّتها . ( ف 24 ) وعلى وليّ غير المكلّفة إلزامها بالإحداد في مدّته وإلاّ كان آثماً . ولم ترد في الشّرع عقوبة محدّدة لمن تركت الإحداد ، ولكنّها توصف بأنّها عصت . هذا ومن المعلوم أنّ الإمام من حقّه أن يعزّر المرأة المكلّفة على ترك الإحداد إذا تعمّدت ذلك بما يراه من وسائل التّعزير .
26 - وإذا أمر المطلّق أو الميّت قبل الموت ، الزّوجة بترك الإحداد ، فلا تتركه ؛ لأنّه حقّ الشّرع ، فلا يملك العبد إسقاطه ؛ لأنّ هذه الأشياء دواعي الرّغبة ، وهي ممنوعة عن النّكاح فتجتنبها لئلاّ تصير ذريعةً إلى الوقوع في المحرّم .
إحراز
التّعريف
1 - الإحراز لغةً : حفظ الشّيء وصيانته عن الأخذ . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ المذكور فقد عرّفه النّسفيّ بأنّه : جعل الشّيء في الحرز ، وهو الموضع الحصين . هذا والإحراز إمّا أن يكون بحصانة موضعه ، وهو كلّ بقعة معدّة للإحراز ، ممنوع من الدّخول فيها إلاّ بإذن ، كالدّور والحوانيت والخيم والخزائن والصّناديق ، وإمّا أن يكون بحافظ يحرسه . والمحكّم في الحرز العرف ، إذ لم يحدّ في الشّرع ولا في اللّغة . وهو يختلف باختلاف الأموال والأحوال والأوقات . وضبطه الغزاليّ بما لا يعدّ صاحبه مضيّعاً له .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - الحيازة : هي وضع اليد على الشّيء والاستيلاء عليه . وقد يكون الشّيء المحوز في حرز أو لا يكون ، لهذا فالحيازة أعمّ من الإحراز .
3 - الاستيلاء : هو القهر والغلبة ولو حكماً في أخذ الشّيء من حرزه ووضع اليد عليه . فهو مختلف أيضاً عن مطلق الإحراز ، وأخصّ منه . الحكم الإجماليّ :
4 - الإحراز عند جمهور الفقهاء شرط من شروط القطع في السّرقة للمال المملوك . مواطن البحث :
5 - يبحث الإحراز في السّرقة عند الحديث عن شروطها ، وفي العقود الّتي بها ضمان كالوديعة وغيرها .
إحراق
التّعريف
1 - الإحراق لغةً مصدر أحرق . أمّا استعماله الفقهيّ فيؤخذ من عبارات بعض الفقهاء أنّ الإحراق هو إذهاب النّار الشّيء بالكلّيّة ، أو تأثيرها فيه مع بقائه ، ومن أمثلة النّوع الأخير : الكيّ والشّيّ ( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - للإحراق صلة بألفاظ اصطلاحيّة كثيرة أهمّها : أ - الإتلاف : وهو الإفناء ، وهو أعمّ من الإحراق .
ب - التّسخين : وهو تعريض الشّيء للحرارة ، فهو غير الإحراق .
ج - الغلي : وهو آخر درجات التّسخين ، ويختلف باختلاف المادّة المراد غليها ، فهو غير الإحراق . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
3 - يختلف حكم الإحراق باختلاف ما يراد إحراقه ، فتعتريه الأحكام التّكليفيّة الخمسة . أثر الإحراق من حيث التّطهير :
4 - ذهب المالكيّة في المعتمد ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة وهو المختار للفتوى وهو غير ظاهر المذهب عند الحنابلة إلى أنّ الإحراق إذا تبدّلت به العين النّجسة بتبدّل أوصافها أو انقلاب حقيقتها حتّى صارت شيئاً آخر ، وذلك كالميتة إذا احترقت فصارت رماداً أو دخاناً ، فإنّ ما يتخلّف من الإحراق يكون طاهراً ، ومن باب أولى إذا كانت العين طاهرةً في الأصل وتنجّست ، كالثّوب المتنجّس . ودليلهم قياس ذلك على الخمر إذا تخلّلت والإهاب إذا دبغ . وذهب الشّافعيّة والمالكيّة في غير المعتمد ، وأبو يوسف ، وهو ظاهر المذهب الحنبليّ ، إلى أنّ الإحراق لا يجعل ما يتخلّف منه شيئاً آخر ، فيبقى على نجاسته . وسواء في ذلك العين النّجسة ، أو المتنجّسة ، لقيام النّجاسة ؛ لأنّ المتخلّف من الإحراق جزء من العين النّجسة . وفصّل بعض المالكيّة فقالوا : إن أكلت النّار النّجاسة أكلاً قويّاً فرمادها طاهر ، وإلاّ فنجس . هذا وإنّ من قال من الفقهاء بنجاسة المتخلّف من إحراق النّجس ذهبوا إلى أنّه يعفى عن قليله للضّرورة ؛ ولأنّ المشقّة تجلب التّيسير .
طهارة الأرض بالشّمس والنّار :
5 - إذا أصابت الأرض نجاسة ، فجفّت بالشّمس أو النّار ، وذهب أثرها ، وهو هنا اللّون والرّائحة ، جازت الصّلاة مكانها عند الحنفيّة ، واستدلّوا بقول النّبيّ عليه الصلاة والسلام : « ذكاة الأرض يبسها » . وعن ابن عمر قال : « كنت أبيت في المسجد في عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكنت فتًى شابّاً عزباً ، وكانت الكلاب تبول وتقبل وتدبر في المسجد ولم يكونوا يرشّون شيئاً من ذلك » . كما ذهبوا إلى أنّه لا يجوز التّيمّم به ؛ لأنّ طهارة الصّعيد شرط بنصّ الكتاب وقال اللّه تعالى : { فتيمّموا صعيداً طيّباً } وطهارة الأرض بالجفاف ثبتت بدليل ظنّيّ ، فلا يتحقّق بها الطّهارة القطعيّة المطلوبة للتّيمّم بنصّ الآية . وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة إلى أنّ الأرض لا تطهر بالجفاف ، ولا يجوز الصّلاة على مكانها ولا التّيمّم بها ؛ لأنّ النّجاسة حصلت في المكان ، والمزيل لم يوجد .
تمويه المعادن بالنّجس :
6 - الإجماع على أنّه لو سقي الحديد بنجس ، فغسل ثلاثاً ، يطهر ظاهره ، فإذا استعمل بعدئذ في شيء لا ينجس . وعند الحنفيّة عدا محمّد وهو وجه عند الشّافعيّة أنّه يطهر مطلقاً لو سقي بالطّاهر ثلاثاً ، وذلك بالنّسبة لحمله في الصّلاة . وعند محمّد بن الحسن أنّه لا يطهر أبداً . وهذا بالنّسبة للحمل في الصّلاة . أمّا لو غسل ثلاثاً ثمّ قطع به نحو بطّيخ ، أو وقع في ماء قليل ، لا ينجّسه . فالغسل يطهّر ظاهره إجماعاً . وهناك قول آخر للشّافعيّة ، اختاره الشّاشيّ ، أنّه يكتفى لتطهير الحديد المسقيّ بنجس بتطهيره ظاهراً ؛ لأنّ الطّهارة كلّها جعلت على ما يظهر لا على الجوف . وعند المالكيّة إن سقي الحديد المحمى والنّحاس وغيرهما بنجس لا ينجّسهما ويبقيان على طهارتهما لعدم سريان النّجاسة فيهما لاندفاع النّجاسة بالحرارة .
الاستصباح بالنّجس والمتنجّس الاستصباح بالدّهن النّجس :
7 - عند الحنابلة ، وهو ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، شحوم الميتة لا يجوز الاستصباح بها . وعلّلوا ذلك بأنّه عين النّجاسة وجزؤها . ويؤيّده ما في صحيح البخاريّ عن جابر أنّه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عام الفتح يقول وهو بمكّة : « إنّ اللّه حرّم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام . فقيل : يا رسول اللّه أرأيت شحوم الميتة ، فإنّه يطلى بها السّفن ، ويدهن بها الجلود ، ويستصبح بها النّاس ؟ قال : لا ، هو حرام » . الحديث . ونحوهم المالكيّة حيث قالوا : لا ينتفع بالنّجس إلاّ شحم ميتة لدهن العجلات ونحوها . وذلك في غير مسجد ، لا فيه . وعند الشّافعيّة : يحلّ مع الكراهة في غير المسجد الاستصباح بالدّهن النّجس .
الاستصباح بالدّهن المتنجّس
8 - اختلفت الآراء في الاستصباح بالأدهان المتنجّسة : ذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة في المشهور عندهم وهو رواية عند الحنابلة اختارها الخرقيّ ، أنّه يجوز الاستصباح به في غير المسجد ، إلاّ إذا كان المصباح خارج المسجد والضّوء فيه فيجوز ؛ لأنّه أمكن الانتفاع به من غير ضرر ، فجاز كالطّاهر . وهو مرويّ عن ابن عمر . وذهب الحنابلة في الرّواية الأخرى ، وهو اختيار ابن المنذر ، إلى أنّه لا يجوز مطلقاً ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « سئل عن شحوم الميتة تطلى بها السّفن ، وتدهن بها الجلود ، ويستصبح بها النّاس ؟ فقال : لا ، هو حرام » . متّفق عليه . فقد سوّوا بين النّجس والمتنجّس .
دخان وبخار النّجاسة المحرقة
9 - ذهب الحنفيّة في الصّحيح عندهم وهو المعتمد عند المالكيّة وهو اختيار ابن رشد وبعض من متأخّري الشّافعيّة وهو غير ظاهر المذهب عند الحنابلة إلى القول بالطّهارة مطلقاً . وذهب الحنفيّة في مقابل الصّحيح ، وهو ظاهر المذهب الحنبليّ ، واختاره من المالكيّة اللّخميّ والتّونسيّ والمازريّ وأبو الحسن وابن عرفة ووصفه بعضهم بأنّه المشهور ، إلى عدم طهارة الدّخان المتصاعد من وقود النّجاسة ، والبخار المتصاعد من الماء النّجس إذا اجتمعت منه نداوة على جسم صقيل ثمّ قطر فهو نجس ، وما يصيب الثّوب من بخار النّجاسة ينجّسه . وذهب بعض الشّافعيّة إلى أنّ دخان النّجاسة نجس يعفى عن قليله . وبخار النّجاسة إذا تصاعد بواسطة نار نجس ؛ لأنّ أجزاء النّجاسة تفصلها النّار بقوّتها فيعفى عن قليله . وإذا طبخ طعام بروث آدميّ ، أو بهيمة ، أو أوقد به تحت هباب فصار نشادراً ، فالطّعام طاهر إن لم يكن ما أصابه من دخان النّجاسة كثيراً ، وإلاّ تنجّس . وكذا النّشادر إن كان هبابه طاهراً ، وإلاّ فهو نجس . فالهباب المعروف المتّخذ من دخان السّرجين أو الزّيت المتنجّس إذا أوقد به نجس ، كالرّماد ، ويعفى عن قليله ؛ لأنّ المشقّة تجلب التّيسير .
التّيمّم بالرّماد :
10 - كلّ شيء أحرق حتّى صار رماداً لم يجز التّيمّم به بالإجماع . أمّا ما أحرق ولم يصر رماداً فذهب الحنفيّة وهو أصحّ الأقوال عند الشّافعيّة ، إلى جواز التّيمّم منه ؛ لأنّه بالإحراق لم يخرج عن أصله . وذهب المالكيّة ، وهو المعتمد عند الحنابلة ، وقول للشّافعيّة ، إلى أنّه لا يجوز التّيمّم بكلّ ما احترق ، لخروجه بذلك عن كونه صعيداً . وتفصيل ما يصحّ التّيمّم منه وما لا يصحّ في مصطلح ( تيمّم ) .
الماء المتجمّع تحت الجلد بالاحتراق ( النّفطة ) :
11 - النّفطة تحت الجلد لا يحكم عليها بنجاسة ولا نقض للوضوء . أمّا إذا خرج ماؤها فقد أجمعوا على نجاسته ، ويعفى عمّا يعتبر منه قليلاً تبعاً لكلّ مذهب في ضابط القلّة والكثرة في المعفوّات . أمّا نقض الوضوء بخروجه فهو مذهب الحنفيّة إن سال عن مكانه ، والحنابلة إن كان فاحشاً ، خلافاً للمالكيّة والشّافعيّة فهو غير ناقض عندهم ، كما يستفاد من عدم ذكرهم له بين نواقض الوضوء .
تغسيل الميّت المحترق :
12 - ذهب الفقهاء إلى أنّ من احترق بالنّار يغسّل كغيره من الموتى إن أمكن تغسيله ؛ لأنّ الّذي لا يغسّل إنّما هو شهيد المعركة ولو كان محترقاً بفعل من أفعالها . أمّا المحترق خارج المعركة فهو من شهداء الآخرة . ولا تجري عليه أحكام شهداء المعركة . فإن خيف تقطّعه بالغسل يصبّ عليه الماء صبّاً ولا يمسّ . فإن خيف تقطّعه بصبّ الماء لم يغسّل وييمّم إن أمكن ، كالحيّ الّذي يؤذيه الماء . وإن تعذّر غسل بعضه دون بعض غسّل ما أمكن غسله وييمّم الباقي كالحيّ سواء .
الصّلاة على المحترق المترمّد :
13 - ذهب ابن حبيب من المالكيّة والحنابلة وبعض المتأخّرين من الشّافعيّة إلى أنّه يصلّى عليه مع تعذّر الغسل والتّيمّم . ؛ لأنّه لا وجه لترك الصّلاة عليه ؛ لأنّ الميسور لا يسقط بالمعسور ، لما صحّ من قوله عليه الصلاة والسلام : « وإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم » ، ولأنّ المقصود من هذه الصّلاة الدّعاء والشّفاعة للميّت . أمّا عند الحنفيّة وجمهور الشّافعيّة والمالكيّة فلا يصلّى عليه ؛ لأنّ بعضهم يشترط لصحّة الصّلاة على الجنازة تقدّم غسل الميّت ، وبعضهم يشترط حضوره أو أكثره ، فلمّا تعذّر غسله وتيمّمه لم يصلّ عليه لفوات الشّرط .
الدّفن في التّابوت
14 - يكره دفن الميّت في تابوت بالإجماع ؛ لأنّه بدعة ، ولا تنفّذ وصيّته بذلك ، ولا يكره للمصلحة ، ومنها الميّت المحترق إذا دعت الحاجة إلى ذلك .
الإحراق في الحدود والقصاص والتّعزير الإحراق العمد :
15 - يعتبر الإحراق بالنّار عمداً جناية عمد . وتجري عليه أحكام العمد ؛ لأنّها تعمل عمل المحدّد . وتفصيله في ( الجنايات ) .
القصاص بالإحراق :
16 - ذهب الشّافعيّة ؛ وهو المشهور عند المالكيّة ، ورواية عند الحنابلة ، إلى قتل القاتل بما قتل به ولو ناراً . ويكون القصاص بالنّار مستثنًى من النّهي عن التّعذيب بها . واستدلّوا بقوله تعالى : { وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به } وقوله تعالى : { فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } وبما أخرجه البيهقيّ والبزّار عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من حديث البراء ، وفيه : « من حرق حرقناه » . وذهب الحنفيّة ، وهو غير المشهور عند المالكيّة ، والمعتمد عند الحنابلة ، إلى أنّ القود لا يكون إلاّ بالسّيف وإن قتل بغيره ، قلو اقتصّ منه بالإلقاء في النّار عزّر . واستدلّوا بحديث النّعمان بن بشير مرفوعاً : « لا قود إلاّ بالسّيف » . ورواه ابن ماجه والبزّار والطّحاويّ والطّبرانيّ والبيهقيّ بألفاظ مختلفة .
موجب تعذيب السّيّد عبده بالنّار :
17 - اختلف العلماء في موجب تعذيب السّيّد عبده بالنّار ، فقال أكثرهم : لا يعتق عليه . وذهب مالك والأوزاعيّ ؛ واللّيث إلى عتق العبد بذلك ، ويكون ولاؤه له ، ويعاقبه السّلطان على فعله . واستدلّوا بأثر عمر رضي الله عنه ، أخرجه مالك في الموطّأ بلفظ : وليدة أتت عمر ، وقد ضربها سيّدها بنار ، فأصابها بها . فأعتقها عليه . وأخرجه أيضاً الحاكم في المستدرك .
العقوبة في اللّواط بالإحراق :
18 - يرى الإمام أبو حنيفة أنّ عقوبة اللّواط سواء اللاّئط والملوط به التّعزير ، ويجيز للحاكم أن يكون التّعزير بالإحراق . وإلى هذا الرّأي ذهب ابن القيّم وأوجب إحراقهما ابن حبيب من المالكيّة ، خلافاً للجمهور الّذين يرون أنّ عقوبتهما لا تكون بالإحراق وتفصيل ذلك في ( الحدود ) . واستدلّ من رأى الإحراق بفعل الصّحابة وعلى رأسهم أبو بكر . وتشدّد في ذلك عليّ رضي الله عنهم .
إحراق الدّابّة الموطوءة :
19 - لا يحدّ شخص بوطء بهيمة ، بل يعزّر وتذبح البهيمة ، ثمّ تحرق إذا كانت ممّا لا يؤكل ، وذلك لقطع امتداد التّحدّث به كلّما رئيت . وليس بواجب كما في الهداية . وإن كانت الدّابّة تؤكل جاز أكلها عند أبي حنيفة والمالكيّة ، وقال أبو يوسف ومحمّد من ، الحنفيّة : تحرق أيضاً ، وفي القنية : تذبح وتحرق على الاستحباب ولا يحرم أكلها . ولأحمد والشّافعيّ قول بقتلها بغير ذبح ؛ لأنّ بقاءها يذكّر بالفاحشة فيعيّر بها . والقول الآخر لا بأس بتركها .
التّحجير بالإحراق :
20 - من حجّر أرضاً ميّتةً بأن منع غيره منها بوضع علامة فهو أحقّ بها . وممّا يتحقّق به التّحجير إحراق ما في الأرض من الشّوك والأشجار لإصلاح الأرض .
إيقاد النّار في المساجد والمقابر :
21 - يكره إيقاد النّار في المسجد لغير مصلحة ، كالتّبخير والاستصباح والتّدفئة ؛ لأنّه إذا لم يكن لمصلحة كان تشبّهاً بعبدة النّار ، فهو حينئذ حرام . وأمّا إيقاد النّار ، كالسّرج وغيرها ، عند القبور فلا يجوز ، لحديث : « لعن اللّه زائرات القبور والمتّخذين عليها السّرج » . فإذا كانت هناك مصلحة ظاهرة تقتضي الإضاءة كدفن الميّت ليلاً فهو جائز .
التّبخير عند الميّت
22 - يستحبّ عند الجمهور تبخير أكفان الميّت بالعود ، وهو أن يترك العود على النّار في مجمر ، ثمّ يبخّر به الكفن حتّى تعبق رائحته ويطيب . ويكون ذلك بعد أن يرشّ عليه ماء الورد لتعلق الرّائحة به . وتجمر الأكفان قبل أن يدرج الميّت فيها وتراً . والأصل فيه ما روي عن جابر ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا أجمرتم الميّت فأجمروه ثلاثاً » رواه أحمد ، وأخرجه أيضاً البيهقيّ والبزّار . وقيل : رجاله رجال الصّحيح . وأخرج نحوه أحمد بن حنبل . . واختلفوا في الميّت المحرم على رأيين : فذهب الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة إلى جواز تجميره ، قياساً على الحيّ ، ولأنّه انقطع إحرامه بموته ، وسقط عنه التّكليف . وقال الحنابلة : لا يبطل إحرامه ، فلا يجمر هو ولا أكفانه . والأصل في ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم في الّذي وقصته النّاقة « اغسلوه بماء وسدر ، وكفّنوه في ثوبين ، ولا تمسّوه طيباً ، ولا تخمّروا رأسه ، فإنّه يبعث يوم القيامة ملبّياً » .
اتّباع الجنازة بنار
23 - اتّفق الفقهاء على كراهة اتّباع الجنازة بنار في مجمرة أو غيرها ، وإن كانت بخوراً . وكذلك مصاحبتها للميّت ، للأخبار الآتية . ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على الكراهة ؛ لأنّ ذلك من فعل الجاهليّة ، وقد حرّم النّبيّ صلى الله عليه وسلم ذلك ، وزجر عنه . فقد روي « أنّه خرج في جنازة ، فرأى امرأةً في يدها مجمر ، فصاح عليها وطردها حتّى توارت بالآكام » ، وروى أبو داود بإسناده عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لا تتبع الجنازة بصوت ولا نار » ، وقد أوصى كثير من الصّحابة بألاّ يتبعوا بنار بعد موتهم . وروى ابن ماجه أنّ أبا موسى حين حضره الموت قال : لا تتبعوني بمجمر . قالوا له : أو سمعت فيه شيئاً ؟ قال : نعم من رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . فإن دفن ليلاً ، فاحتاجوا إلى ضوء ، فلا بأس به . وإنّما كره المجامر الّتي فيها البخور .
الإحراق المضمون وغير المضمون
24 - إذا أوقد الشّخص ناراً في أرضه أو في ملكه ، أو في موات حجره ، أو فيما يستحقّ الانتفاع به ، فطارت شرارة إلى دار جاره فأحرقتها ، فإن كان الإيقاد بطريقة من شأنها ألاّ تنتقل النّار إلى ملك الغير ، فإنّه لا يضمن . أمّا إن كان الإيقاد بطريقة من شأنها انتقال النّار إلى ملك الغير ، فإنّه يضمن ما أتلفته النّار ، وذلك كأن كان الإيقاد والرّيح عاصفة ، أو وضع مادّةً من شأنها انتشار النّار ، إلى غير ذلك ممّا هو معروف . وعدم الضّمان في الحالة الأولى مرجعه إلى قياسها على سراية الجرح في قصاص الأطراف ، وفي الثّانية بسبب التّقصير . فإن أوقد ناراً في غير ملكه أو ما لا يملك الانتفاع ضمن ما أتلفته النّار ؛ لأنّه متعدّ .
ملكيّة المغصوب المتغيّر بالإحراق :
25 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة ، وهو قول عند أحمد ، إلى أنّه إذا تغيّرت العين المغصوبة بفعل الغاصب حتّى زال اسمها وأعظم منافعها زال ملك المغصوب منه عنها ، وملكها الغاصب وضمنها . ولا يحلّ له الانتفاع بها حتّى يؤدّي بدلها ، كمن غصب شاةً وذبحها وشواها أو طبخها ، أو حديداً فاتّخذه سيفاً ، أو نحاساً فعمله آنيةً . وسبب انتقال الملكيّة أنّ الغاصب أحدث صنعةً متقوّمةً ؛ لأنّ قيمة الشّاة تزداد بطبخها أو شيّها ، وبهذا يعتبر حقّ المالك هالكاً من وجه ، ألا ترى أنّه تبدّل الاسم وفات معظم المقاصد . وحقّ الغاصب في الصّنعة قائم من كلّ وجه ، وما هو قائم من كلّ وجه مرجّح على الأصل الّذي هو فائت وهالك من وجه . وعلى هذا يخرج ما إذا كان المغصوب لحماً ، فشواه أو طبخه ، أو حديداً فضربه سكّيناً ، أو تراباً له قيمة فاتّخذه خزفاً ، ونحو ذلك ؛ لأنّه ليس للمالك أن يستردّ شيئاً من ذلك ، ويزول ملكه بضمان المثل أو القيمة ، وتبطل ولاية الاسترداد ، كما إذا استهلكه حقيقةً . وقال الشّافعيّة وهو المذهب عند الحنابلة ورواية عن أبي يوسف : لا ينقطع حقّ المالك ، ولا يزول ملك صاحبه عنه ؛ لأنّ بقاء العين المغصوبة يوجب بقاء ملك المالك ؛ لأنّ الواجب الأصليّ في الغصب ردّ العين عند قيامها ، والعين باقية ، فتبقى على ملكه ، وتتبعه الصّنعة الحادثة ؛ لأنّها تابعة للأصل ، ولا معتبر بفعله ؛ لأنّه محظور فلا يصلح سبباً للملك . وعن محمّد بن الحسن أنّه يخيّر بين القيمة أو العين مع الأرش . وذكر أبو الخطّاب : أنّ الغاصب يشارك المالك بكلّ الزّيادة ؛ لأنّها حصلت بمنافعه ، ومنافعه أجريت مجرى الأعيان ، فأشبه ما لو غصب ثوباً فصبغه ، وذلك بأن تقوّم العين المغصوبة غير مصنّعة ، ثمّ تقوّم مصنّعةً ، فالزّيادة تكون للغاصب على هذا الرّأي .
ما يباح إحراقه وما لا يباح :
26 - الأصل أنّ المصحف الصّالح للقراءة لا يحرق ، لحرمته ، وإذا أحرق امتهاناً يكون كفراً عند جميع الفقهاء . وهناك بعض المسائل الفرعيّة ، منها : قال الحنفيّة : المصحف إذا صار خلقاً ، وتعذّر القراءة منه ، لا يحرق بالنّار ، بل يدفن ، كالمسلم . وذلك بأن يلفّ في خرقة طاهرة ثمّ يدفن . وتكره إذابة درهم عليه آية ، إلاّ إذا كسر ، فحينئذ لا يكره إذابته ، لتفرّق الحروف ، أو ؛ لأنّ الباقي دون آية . وقال المالكيّة : حرق المصحف الخلق إن كان على وجه صيانته فلا ضرر ، بل ربّما وجب . وقال الشّافعيّة : الخشبة المنقوش عليها قرآن في حرقها أربعة أحوال : يكره حرقها لحاجة الطّبخ مثلاً ، وإن قصد بحرقها إحرازها لم يكره ، وإن لم يكن الحرق لحاجة ، وإنّما فعله عبثاً فيحرم ، وإن قصد الامتهان فظاهر أنّه يكفر . وذهب الحنابلة إلى جواز تحريق المصحف غير الصّالح للقراءة . أمّا كتب الحديث والفقه وغيرها فقال المالكيّة : إن كان على وجه الاستخفاف فإحراقها كفر مثل القرآن ، وأيضاً أسماء اللّه وأسماء الأنبياء المقرونة بما يدلّ على ذلك مثل : « عليه الصلاة والسلام " لا مطلق الأسماء . وقال الحنفيّة : هذه الكتب إذا كان يتعذّر الانتفاع بها يمحى عنها اسم اللّه وملائكته ورسله ويحرق الباقي .
إحراق السّمك والعظم وغيرهما :
27 - ذهب المالكيّة إلى جواز إلقاء السّمك في النّار حيّاً لشيّه . كما أباحوا إحراق العظم وغيره للانتفاع به . ووافقهم الشّافعيّة على الرّاجح في إحراق العظم . وكره الإمام أحمد شيّ السّمك الحيّ ولكن لا يكره أكله . ونصّ الحنابلة على أنّه لا يكره شيّ الجراد حيّاً ، لما أثر من فعل الصّحابة ذلك أمام عمر رضي الله عنه من غير نكير ، ولا يجوز عند الجميع إضاعة المال بالإحراق أو غيره .
الإحراق بالكيّ للتّداوي :
28 - إذا لم يكن حاجة إلى التّداوي بالكيّ فإنّه حرام ؛ لأنّه تعذيب بالنّار ، ولا يعذّب بالنّار إلاّ خالقها . وأمّا إذا تعيّن الكيّ فإنّه مباح سواء أكان ذلك الحديد أو غيره . وتفصيل ذلك في مصطلح ( تداوي ) .
الوسم بالنّار :
29 - الوسم في الوجه بالنّار منهيّ عنه بالإجماع في غير الآدميّ . ومن باب أولى وسم الآدميّ ، فهو حرام لكرامته ؛ ولأنّه لا حاجة إليه ، ولا يجوز تعذيبه . وذهب جماعة في غير الآدميّ إلى أنّ النّهي للكراهة ، وذهب جماعة آخرون إلى تحريمه ، وهو الأظهر ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعن فاعله ، واللّعن يقتضي التّحريم ، حيث قال : « أما بلغكم أنّي لعنت من وسم البهيمة في وجهها ؟ » أمّا وسم غير الآدميّ في بقيّة الجسم فالجمهور على أنّه جائز ، بل مستحبّ ، لما روي من فعل الصّحابة في ماشية الزّكاة والجزية . وذهب أبو حنيفة إلى كراهته لما فيه من تعذيب ومثلة .
الانتقال من سبب موت - لآخر أهون
30 - لو شبّت النّار في سفينة أو غيرها فما غلب على ظنّهم السّلامة فيه من بقائهم في أماكنهم أو تركها فعلوه . وإن استوى عندهم الأمران فقال الشّافعيّ وأحمد : كيف شاءوا صنعوا ، وقال الأوزاعيّ : هما موتتان فاختر أيسرهما ، وصرّح المالكيّة بوجوب الانتقال من سبب الموت الّذي حلّ ، إلى سبب آخر إن رجا به حياةً ، أو طولها ، ولو حصل له معها ما هو أشدّ من الموت ؛ لأنّ حفظ النّفوس واجب ما أمكن .
الإحراق في الحرب :
31 - إذا قدر على العدوّ بالتّغلّب عليه فلا يجوز تحريقه بالنّار من غير خلاف يعلم ، لما روى « حمزة الأسلميّ أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمّره على سريّة ، فقال : فخرجت فيها ، فقال : إن أخذتم فلاناً فأحرقوه بالنّار فولّيت ، فناداني ، فرجعت ، فقال : إن أخذتم فلاناً فاقتلوه ولا تحرّقوه ، فإنّه لا يعذّب بالنّار إلاّ ربّ النّار » . فأمّا رميهم بالنّار قبل القدرة عليهم مع إمكان أخذهم بغير التّحريق فلا يجوز ؛ لأنّهما حينئذ في حكم المقدور عليهم . وأمّا عند العجز عنهم بغير التّحريق فجائز في قول أكثر أهل العلم ، لفعل الصّحابة والتّابعين في غزواتهم . هذا وإن تترّس العدوّ في الحرب ببعض المسلمين ، فإن اضطررنا إلى رميهم بالنّار فهو جائز عند الجمهور . ومرجع ذلك إلى تقدير المصلحة العامّة . والحكم في البغاة والمرتدّين في هذه المسألة كالكفّار في حال القتال .
إحراق أشجار الكفّار في الحرب :
32 - إذا كان في ذلك نكاية بالعدوّ ، ولم يرج حصولها للمسلمين ، فالإحراق جائز اتّفاقاً . بل ذهب المالكيّة إلى تعيّن الإحراق . أمّا إذا رجي حصولها للمسلمين ، ولم يكن في إحراقها نكاية ، فإنّه محظور . وصرّح المالكيّة بحرمته . وأمّا إذا كان في إحراقها نكاية ، ويرجى حصولها للمسلمين ، فذهب الحنفيّة والشّافعيّة إلى كراهة ذلك . بل صرّح الشّافعيّة بندب الإبقاء حفظاً لحقّ الفاتحين . وذهب المالكيّة إلى وجوب الإبقاء . وإذا كان لا نكاية في إحراقها ، ولا يرجى حصولها للمسلمين ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى جوازه . ومقتضى مذهب الشّافعيّة الكراهة ؛ لأنّه الأصل عندهم . أمّا الحنابلة فالأصل عندهم في هذه المسألة المعاملة بالمثل ، ومراعاة مصلحة المسلمين في القتال .
حرق ما عجز المسلمون عن نقله من أسلحة وبهائم وغيرها :
33 - اختلف الفقهاء في الحرق والإتلاف ، فقال الحنفيّة والمالكيّة : إذا أراد الإمام العود ، وعجز عن نقل أسلحة وأمتعة وبهائم لمسلم أو عدوّ ، وعن الانتفاع بها ، تحرق وما لا يحرق ، كحديد ، يتلف أو يدفن في مكان خفيّ لا يقف عليه الكفّار ، وذلك لئلاّ ينتفعوا بهذه الأشياء . أمّا المواشي والبهائم والحيوانات فتذبح وتحرق ، ولا يتركها لهم ؛ لأنّ الذّبح يجوز لغرض صحيح ، ولا غرض أصحّ من كسر شوكة الأعداء وتعريضهم للهلكة والموت ، ثمّ يحرق بالنّار لتنقطع منفعته عن الكفّار ، وصار كتخريب البنيان والتّحريق لهذا الغرض المشروع ، بخلاف التّحريق قبل الذّبح ، فلا يجوز ؛ لأنّه منهيّ عنه . وفيه أحاديث كثيرة منها ما أخرج البزّار في مسنده عن عثمان بن حبّان قال : « كنت عند أمّ الدّرداء رضي الله عنها ، فأخذت برغوثاً فألقيته في النّار ، فقالت : سمعت أبا الدّرداء يقول : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا يعذّب بالنّار إلاّ ربّ النّار » . وللمالكيّة تفصيل ، قالوا : يجهز على الحيوان وجوباً ، للإراحة من التّعذيب بإزهاق روحه أو قطع عرقوبه ، أو الذّبح الشّرعيّ ويحرق الحيوان ندباً بعد إتلافه إن كان الأعداء يستحلّون أكل الميتة ، ولو ظنّاً ، لئلاّ ينتفعوا به . فإن كانوا لا يستحلّون أكل الميتة لم يطلب التّحريق في هذه الحالة وإن كان جائزاً . والأظهر في المذهب طلب تحريقه مطلقاً ، سواء استحلّوا أكل الميتة أم لا ، لاحتمال أكلهم له حال الضّرورة . وقيل : التّحريق واجب ، ورجح . وقال اللّخميّ : إن كانوا يرجعون إليه قبل فساده وجب التّحريق ، وإلاّ لم يجب ؛ لأنّ المقصود عدم انتفاعهم به ، وقد حصل بالإحراق .
34 - وقال الشّافعيّة والحنابلة وعامّة أهل العلم ، منهم الأوزاعيّ واللّيث : لا يجوز في غير حال الحرب عقر الدّوابّ وإحراق النّحل وبيوته لمغايظة الكفّار والإفساد عليهم ، سواء خفنا أخذهم لها أو لم نخف . وذلك بخلاف حال الحرب حيث يجوز قتل المشركين ورميهم بالنّار ، فيجوز إتلاف البهائم ؛ لأنّه يتوصّل بإتلاف البهائم إلى قتل الأعداء . واستدلّوا بقوله تعالى : { وإذا تولّى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنّسل واللّه لا يحبّ الفساد } . ولأنّ أبا بكر الصّدّيق رضي الله عنه قال في وصيّته ليزيد بن أبي سفيان ، حين بعثه أميراً : يا يزيد لا تقتل صبيّاً ولا امرأةً ولا هرماً ، ولا تخرّبنّ عامراً ، ولا تعقرنّ شجراً مثمراً ، ولا دابّةً عجماء ، ولا شاةً إلاّ لمأكلة ، ولا تحرّقن نحلاً ولا تغرقنّه ، ولا تغلل ولا تجبن ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل شيء من الدّوابّ صبراً ولأنّه حيوان ذو حرمة فلم يجز قتله لغيظ المشركين
ما يحرق للغالّ وما لا يحرق
35 - الغالّ هو الّذي يكتم ما يأخذه من الغنيمة ، فلا يطلع الإمام عليه ، ولا يضمّه إلى الغنيمة . وقد اختلف الفقهاء في تحريق مال الغالّ للغنيمة ، فقال الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة واللّيث : لا يحرق ماله . واستدلّوا بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعدم تحريقه فعن ابن عمر قال : « جاء رجل بزمام من شعر ، فقال : يا رسول اللّه هذا فيما كنّا أصبنا من الغنيمة ، فقال : سمعت بلالاً نادى ثلاثاً ؟ قال : نعم . قال : فما منعك أن تجيء به ؟ فاعتذر . فقال ؛ كن أنت تجيء به يوم القيامة فلن أقبله منك » أخرجه أبو داود . ولأنّ إحراق المتاع إضاعة له ، وقد نهى النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن إضاعة المال وقال بإحراق مال الغالّ الحنابلة وفقهاء الشّام ، منهم مكحول والأوزاعيّ والوليد بن هشام . وقد أتي سعيد بن عبد الملك بغالّ فجمع ماله وأحرقه ، وعمر بن عبد العزيز حاضر ذلك فلم يعبه قال يزيد بن يزيد بن جابر : السّنّة في الّذي يغلّ أن يحرق رحله . رواهما سعيد في سننه . وقد استدلّوا بما روى صالح بن محمّد بن زائدة ، قال : « دخلت مع مسلمة أرض الرّوم ، فأتي برجل قد غلّ ، فسأل سالماً عنه ، فقال : سمعت أبي يحدّث عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : إذا وجدتم الرّجل قد غلّ فأحرقوا متاعه واضربوه . قال : فوجدنا في متاعه مصحفاً . فسأل سالماً عنه ، فقال : بعه وتصدّق بثمنه » . وروى عبد اللّه بن عمرو « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر أحرقوا متاع الغالّ » .
36 - قال أحمد : إن لم يحرق رحله حتّى استحدث متاعاً آخر وكذلك إن رجع إلى بلده ، أحرق ما كان معه حال الغلول .
37 - ويشترط في الغالّ أن يكون بالغاً عاقلاً حرّاً ، فتوقع عقوبة الإحراق في متاع الرّجل والخنثى والمرأة والذّمّيّ ؛ لأنّهم من أهل العقوبة . وإن كان الغالّ صبيّاً لم يحرق متاعه عند الحنابلة والأوزاعيّ ؛ لأنّ الإحراق عقوبة ، والصّبيّ ليس من أهل العقوبة .
38 - ويسقط إحراق متاع الغالّ إذا مات قبل إحراق رحله ، نصّ عليه أحمد ، لأنّها عقوبة فتسقط بالموت ، كالحدود ؛ ولأنّه بالموت انتقل المتاع إلى ورثته ، فإحراقه يكون عقوبةً لغير الجاني . وإن انتقل ملكه إلى غير الغالّ بالبيع أو الهبة احتمل عدم تحريقه ، لصيرورته لغيره فأشبه انتقاله للوارث بالموت ، واحتمل أن ينقض البيع والهبة ويحرق ، لأنّه تعلّق به حقّ سابق على البيع والهبة ، فوجب تقديمه كالقصاص في حقّ الجاني .
39 - وما لا يحرق للغالّ بالاتّفاق المصحف ، والحيوان أمّا المصحف فلا يحرق ، لحرمته ، ولما تقدّم من قول سالم فيه . وإن كان مع الغالّ شيء من كتب الحديث أو العلم فينبغي ألاّ تحرق أيضاً ؛ لأنّ نفع ذلك يعود إلى الدّين ، وليس المقصود الإضرار به في دينه ، وإنّما القصد الإضرار به في شيء من دنياه ، ويحتمل أن يباع المصحف ويتصدّق به لقول سالم فيه .
40 - أمّا الحيوان فلا يحرق ولنهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يعذّب بالنّار إلاّ ربّها ؛ ولحرمة الحيوان في نفسه ؛ ولأنّه لا يدخل في اسم المتاع المأمور بإحراقه . 41 - ولا تحرق ثياب الغالّ الّتي عليه ؛ لأنّه لا يجوز تركه عرياناً ، ولا سلاحه ؛ ؛ لأنّه يحتاج للقتال ، ولا نفقته ؛ لأنّ ذلك ممّا لا يحرق عادةً وللاحتياج إلى الإنفاق . 42 - ولا يحرق المال المغلول ؛ لأنّ ما غلّ من غنيمة المسلمين ، والقصد الإضرار بالغالّ في ماله وقيل لأحمد : أيّ شيء يصنع بالمال الّذي أصابه في الغلول ؟ قال : يرفع إلى الغنم . 43 - واختلف في آلة الدّابّة ، فنصّ أحمد على أنّها لا تحرق ؛ لأنّه يحتاج إليها للانتفاع بها ، ولأنّها تابعة لما لا يحرق فأشبه جلد المصحف وكيسه ؛ ولأنّها ملبوس حيوان ، فلا يحرق ، كثياب الغالّ . وقال الأوزاعيّ : يحرق سرجه وإكافه .
ملكيّة ما لم يحرق :
44 - جميع ما ذكر ممّا لم يحرق ، وكذلك ما بقي بعد الإحراق . من حديد أو غيره وهو لصاحبه ؛ لأنّ ملكه كان ثابتاً عليه ، ولم يوجد ما يزيله ، وإنّما عوقب الغالّ بإحراق متاعه ، فما لم يحرق يبقى على ما كان عليه .
إحرام الفصل الأوّل
التّعريف
1 - من معاني الإحرام في اللّغة : الإهلال بحجّ أو عمرة ومباشرة أسبابها ، والدّخول في الحرمة . يقال : أحرم الرّجل إذا دخل في الشّهر الحرام ، وأحرم : دخل في الحرم ، ومنه حرم مكّة ، وحرم المدينة ، وأحرم : دخل في حرمة عهد أو ميثاق . والحرم - بضمّ الحاء وسكون الرّاء - : الإحرام بالحجّ أيضاً ، وبالكسر : الرّجل المحرم ، يقال أنت حلّ ، وأنت حرم . والإحرام في اصطلاح الفقهاء يراد به عند الإطلاق الإحرام بالحجّ ، أو العمرة . وقد يطلق على الدّخول في الصّلاة ويستعملون مادّته مقرونةً بالتّكبيرة الأولى ، فيقولون : « تكبيرة الإحرام " ويسمّونها " التّحريمة " وتفصيل ذلك في مصطلح ( صلاة ) . ويطلق فقهاء الشّافعيّة الإحرام على الدّخول في النّسك ، وبه فسّروا قول النّوويّ في المنهاج : « باب الإحرام » . تعريف الحنفيّة للإحرام :
2 - الإحرام عند الحنفيّة هو الدّخول في حرمات مخصوصة غير أنّه لا يتحقّق شرعاً إلاّ بالنّيّة مع الذّكر أو الخصوصيّة . والمراد بالدّخول في حرمات : التزام الحرمات ، والمراد بالذّكر التّلبية ونحوها ممّا فيه تعظيم اللّه تعالى . والمراد بالخصوصيّة : ما يقوم مقامها من سوق الهدي ، أو تقليد البدن . تعريف المذاهب الثّلاثة للإحرام :
3 - أمّا تعريف الإحرام عند المذاهب الثّلاثة : المالكيّة - على الرّاجح عندهم - والشّافعيّة والحنابلة فهو : نيّة الدّخول في حرمات الحجّ والعمرة .
حكم الإحرام :
4 - أجمع العلماء على أنّ الإحرام من فرائض النّسك ، حجّاً كان أو عمرةً ، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّما الأعمال بالنّيّات » متّفق عليه لكن اختلفوا فيه أمن الأركان هو أم من الشّروط . فمذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الإحرام ركن للنّسك . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الإحرام شرط من شروط صحّة الحجّ ، غير أنّه عند الحنفيّة شرط من وجه ، ركن من وجه أو " هو شرط ابتداءً ، وله حكم الرّكن انتهاءً » . ويتفرّع على كون الإحرام شرطاً عند الحنفيّة وكونه يشبه الرّكن فروع . منها :
1 - أجاز الحنفيّة الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحجّ ، مع الكراهة ، لكون الإحرام شرطاً عندهم ، فجاز تقديمه على الوقت .
2 - لو أحرم المتمتّع بالعمرة قبل أشهر الحجّ ، وأتى بأفعالها ، أو بركنها ، أو أكثر الرّكن - يعني أربعة أشواط من الطّواف - في أشهر الحجّ يكون متمتّعاً عند الحنفيّة .
3 - تفرّع على شبه الإحرام بالرّكن عند الحنفيّة أنّه لو أحرم الصّبيّ ، ثمّ بلغ بعدما أحرم ، فإنّه إذا مضى في إحرامه لم يجزه عن حجّة الإسلام . لكن لو جدّد الإحرام قبل الوقوف ونوى حجّة الإسلام ، جاز عن حجّة الإسلام عند الحنفيّة اعتباراً لشبه الرّكن في هذه الصّورة احتياطاً في العبادة .
حكمة تشريع الإحرام :
5 - فرضيّة الإحرام للنّسك لها حكم جليلة ، وأسرار ومقاصد تشريعيّة كثيرة ، أهمّها : استشعار تعظيم اللّه تعالى وتلبية أمره بأداء النّسك الّذي يريده المحرم ، وأنّ صاحبه يريد أن يحقّق به التّعبّد والامتثال للّه تعالى .
شروط الإحرام :
6 - يشترط الفقهاء لصحّة الإحرام : الإسلام والنّيّة . وزاد الحنفيّة ، وهو المرجوح عند المالكيّة ، اشتراط التّلبية أو ما يقوم مقامها .
7 - وقد اتّفقوا على أنّه لا يشترط في النّيّة للنّسك الفرض تعيين أنّه فرض في النّيّة ، ولو أطلق النّيّة ولم يكن قد حجّ حجّة الفرض يقع عنها اتّفاقاً . بخلاف ما لو نوى ، حجّة نفل فالمذهب المعتمد عند الحنفيّة وهو مذهب المالكيّة أنّه يقع عمّا نوى . وبهذا قال سفيان الثّوريّ وابن المنذر ، وهو رواية عن الإمام أحمد . وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا : إن أحرم بتطوّع أو نذر من لم يحجّ حجّة الإسلام وقع عن حجّة الإسلام . وبهذا قال ابن عمر وأنس . وقالوا : من حجّ عن غيره ولم يكن حجّ عن نفسه ، ردّ ما أخذ ، وكانت الحجّة عن نفسه ، وبهذا قال الأوزاعيّ . استدلّ الحنفيّة ومن معهم : « بأنّ المطلق ينصرف إلى الفرد الكامل ، فإن كان عليه حجّة الإسلام يقع عنها استحساناً ، في ظاهر المذهب أي إذا أطلق ولم يعيّن » . وجه الاستحسان : « أنّ الظّاهر من حال من عليه حجّة الإسلام أنّه لا يريد بإحرام الحجّ حجّة التّطوّع ، ويبقي نفسه في عهدة الفرض ، فيحمل على حجّة الإسلام ، بدلالة حاله ، فكان الإطلاق فيه تعييناً ، كما في صوم رمضان » . وقالوا في اعتباره عمّا نواه من غير الفرض : « إنّما أوقعناه عن الفرض عند إطلاق النّيّة بدلالة حاله ، والدّلالة لا تعمل مع النّصّ بخلافه » . ويشهد لهم نصّ الحديث المشهور الصّحيح : « وإنّما لكلّ امرئ ما نوى » واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول : لبّيك عن شبرمة . قال : من شبرمة ؟ قال : أخ لي ، أو قريب لي . قال : حججت عن نفسك ؟ قال : لا . قال : حجّ عن نفسك ، ثمّ حجّ عن شبرمة » . أخرجه أبو داود وابن ماجه وغيرهما . وفي رواية : « اجعل هذه عن نفسك . . . » فاستدلّوا بها . وقد صحّح النّوويّ أسانيده ، وتكلّم فيه غيره ، فرجّح إرساله ، ووقفه . واستدلّوا بحديث ابن عبّاس أيضاً : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا صرورة في الإسلام » أخرجه أحمد وأبو داود واختلف في صحّته كذلك . قال الخطّابيّ في معالم السّنن : « وقد يستدلّ به من يزعم أنّ الصّرورة لا يجوز له أن يحجّ عن غيره . وتقدير الكلام عنده : أنّ الصّرورة إذا شرع في الحجّ عن غيره صار الحجّ عنه ، وانقلب عن فرضه ، ليحصل معنى النّفي ، فلا يكون صرورةً ، وهذا مذهب الأوزاعيّ والشّافعيّ وأحمد وإسحاق . . . » . واستدلّوا من المعقول : « أنّ النّفل والنّذر أضعف من حجّة الإسلام ، فلا يجوز تقديمهما عليها ، كحجّ غيره على حجّه » . وبقياس النّفل والنّذر على من أحرم عن غيره وعليه فرضه .
التّلبية :
8 - التّلبية لغةً إجابة المنادي . والمراد بالتّلبية هنا : قول المحرم : « لبّيك اللّهمّ لبّيك ... » ، أي إجابتي لك يا ربّ . ولم يستعمل " لبّيك " إلاّ على لفظ التّثنية . والمراد بها التّكثير . والمعنى : أجبتك إجابةً بعد إجابة ، إلى ما لا نهاية . حكم التّلبية :
9 - التّلبية شرط في الإحرام عند أبي حنيفة ومحمّد وابن حبيب من المالكيّة ، لا يصحّ الإحرام بمجرّد النّيّة ، حتّى يقرنها بالتّلبية أو ما يقوم مقامها ممّا يدلّ على التّعظيم من ذكر ودعاء أو سوق الهدي . فإذا نوى النّسك الّذي يريده من حجّ أو عمرة أو هما معاً ولبّى فقد أحرم ، ولزمه كلّ أحكام الإحرام الآتية ، وأن يمضي ، في أداء ما أحرم به . والمعتمد عندهم " أنّه يصير محرماً بالنّيّة لكن عند التّلبية ، كما يصير شارعاً في الصّلاة بالنّيّة ، لكن بشرط التّكبير ، لا بالتّكبير » . وقد نقل هذا المذهب عن عبد اللّه بن مسعود ، وابن عمر ، وعائشة ، وإبراهيم النّخعيّ ، وطاوس ومجاهد ، وعطاء بل ادّعى فيه اتّفاق السّلف . وذهب غيرهم إلى أنّ التّلبية لا تشترط في الإحرام ، فإذا نوى فقد أحرم بمجرّد النّيّة ، ولزمته أحكام الإحرام الآتية ، والمضيّ في أداء ما أحرم به . ثمّ اختلفوا : فقال المالكيّة : هي واجبة في الأصل ، والسّنّة قرنها بالإحرام . ويلزم الدّم بطول فصلها عن النّيّة . ولو رجع ولبّى لا يسقط عنه الدّم . وسواء أكان التّرك أو طول الفصل عمداً أم نسياناً . وذهب الشّافعيّة والحنابلة - وهو منقول عن أبي يوسف - إلى أنّ التّلبية سنّة في الإحرام مطلقاً .
المقدار الواجب من لفظ التّلبية :
10 - الصّيغة الّتي أوردها الفقهاء للتّلبية : هي : « لبّيك اللّهمّ لبّيك . لبّيك لا شريك لك لبّيك . إنّ الحمد والنّعمة لك والملك . لا شريك لك » . هذه الصّبغة الّتي لزمها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع ، ولم يزد عليها والّذي يحصل به أداء التّلبية في الإحرام عند الحنفيّة هو ما يحصل به التّعظيم . فإنّ المشروط على الحقيقة عند الحنفيّة أن تقترن النّيّة " بذكر يقصد به التّعظيم ، كتسبيح ، وتهليل " ولو مشوباً بالدّعاء » .
النّطق بالتّلبية :
11 - يشترط لأداء التّلبية أن تلفظ باللّسان ، فلو ذكرها بقلبه لم يعتدّ بها عند من يقول إنّها شرط ، ومن يقول إنّها واجب ، ومن يقول إنّها سنّة . وتفرّع على ذلك عند الحنفيّة فرعان :
12 - الفرع الأوّل : لو كان لا يحسن العربيّة ، فنطق بالتّلبية بغير العربيّة ، أجزأه اتّفاقاً . أمّا لو كان يحسن العربيّة ، فنطق بها بغير العربيّة ، فلا يجزئه عند الجمهور ، خلافاً للحنفيّة في ظاهر المذهب . ودليلهم أنّه ذكر مشروع ، فلا يشرع بغير العربيّة ، كالأذان والأذكار المشروعة في الصّلاة . ودليل الحنفيّة أنّه ذكر مقصود به التّعظيم ، فإذا حصل هذا المقصود أجزأه ، ولو بغير العربيّة .
13 - الفرع الثّاني في الأخرس : الأصحّ أنّه عند الحنفيّة يستحبّ له تحريك لسانه بالتّلبية مع النّيّة ، ولا يجب . وقيل : يجب تحريك لسانه ، فإنّه نصّ الإمام محمّد على أنّه شرط . وعلى هذا " فينبغي " ألاّ يلزمه في الحجّ بالأولى ، فإنّ باب الحجّ أوسع ، مع أنّ القراءة فرض قطعيّ متّفق عليه ، والتّلبية أمر ظنّيّ مختلف فيه .
وقت التّلبية :
14 - الأفضل عند الحنفيّة والحنابلة أن يلبّي بنيّة الحجّ أو العمرة أو نيّتهما معاً عقب صلاته ركعتين سنّة الإحرام ، وبعد نيّة النّسك . وإن لبّى بعدما استوت به راحلته أو ركوبته جاز ، إلى أن يبلغ نهاية الميقات ، فإذا جاوز الميقات ولم يلبّ بنيّة النّسك صار مجاوزاً للميقات بغير إحرام عند الحنفيّة ، ولزمه ما يلزم ذاك عندهم . وعند الجمهور يستحبّ البدء بالتّلبية إذا ركب راحلته ، واستوت به ، لكن يلزمه الدّم عند المالكيّة إن تركها أو أخّرها حتّى طال الفصل بين الإحرام والتّلبية كما تقدّم ( ف 9 ) . ولا يلزمه شيء عند الشّافعيّة والحنابلة لقولهم إنّ التّلبية سنّة .
ما يقوم مقام التّلبية :
15 - يقوم مقام التّلبية عند الحنفيّة لصحّة الإحرام أمران : الأوّل : كلّ ذكر فيه تعظيم للّه تعالى ، كالتّسبيح ، والتّحميد ، والتّكبير ، ولو بغير اللّغة العربيّة ، كما سبق بيانه ( ف 10 ) الثّاني : تقليد الهدي وسوقه والتّوجّه معه . والهدي يشمل الإبل والبقر والغنم . لكن يستثنى من التّقليد الغنم ، لعدم سنّيّة تقليد الغنم عند الحنفيّة . ( ر : هدي ) والتّقليد هو أن يربط في عنق البدنة أو البقرة علامةً على أنّه هدي .
شروط إقامة تقليد الهدي وسوقه مقام التّلبية
16 - يشترط :
1 - النّيّة .
2 - سوق البدنة والتّوجّه معها .
3 - يشترط - إن بعث بها ولم يتوجّه معها - أن يدركها قبل الميقات ويسوقها ، إلاّ إذا كان بعثها لنسك متعة أو قران ، وكان التّقليد في أشهر الحجّ ، فإنّه يصير محرماً إذا توجّه بنيّة الإحرام وإن لم يلحقها ، استحساناً .
الفصل الثّاني
حالات الإحرام من حيث إبهام النّيّة وإطلاقها
إبهام الإحرام
تعريفه :
17 - هو أن ينوي مطلق نسك من غير تعيين ، كأن يقول : أحرمت للّه ، ثمّ يلبّي ، ولا يعيّن حجّاً أو عمرةً ، أو يقول : نويت الإحرام للّه تعالى ، لبّيك اللّهمّ . . ، أو ينوي الدّخول في حرمات نسك ، ولم يعيّن شيئاً . فهذا الإحرام صحيح باتّفاق المذاهب . ويترتّب عليه كلّ أحكام الإحرام ، وعليه اجتناب جميع محظوراته ، كالإحرام المعيّن ويسمّى هذا إحراماً مبهماً ، ويسمّونه أيضاً إحراماً مطلقاً .
تعيين النّسك :
18 - ثمّ على هذا المحرم التّعيين قبل أن يشرع في أفعال أحدهما ، وله أن يجعله للعمرة ، أو للحجّ ، أو لهما معاً حسبما يشاء . وترجع الأفضليّة فيما يختاره ويعيّنه إلى خلاف المذاهب في أيّ أوجه الإحرام أفضل : القران ، أو التّمتّع ، أو الإفراد ، وإلى حكم الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحجّ ، إن وقع هذا الإحرام قبل أشهر الحجّ ، وأراد التّعيين قبلها . واختلفوا في كيفيّة التّعيين . فقال الحنفيّة : إن عيّن ما يريده قبل الطّواف فالعبرة لهذا التّعيين ، وإن لم يعيّن ثمّ طاف بالبيت للعمرة ، أو مطلقاً بغير تعيين ولو شوطاً ، جعل إحرامه للعمرة ، فيتمّ مناسك العمرة ، ثمّ يحرم بالحجّ ويصير متمتّعاً . وعلّة جعله للعمرة " أنّ الطّواف ركن في العمرة ، وطواف القدوم في الحجّ ليس بركن ، بل هو سنّة ، فإيقاعه عن الرّكن أولى ، وتتعيّن العمرة بفعله كما تتعيّن بقصده » . أمّا إن لم يعيّن ، ولم يطف بالبيت ، بل وقف بعرفة قبل أن يطوف ، فينصرف إحرامه للحجّ . وإن لم يقصد الحجّ في وقوفه ، فإنّه ينصرف إلى الحجّ شرعاً ، وعليه أن يتمّم مناسك الحجّ . هذا معتمد مذهب الحنفيّة . ومذهب المالكيّة ، وهو رواية عن أبي يوسف ومحمّد ، أنّه لا يفعل شيئاً إلاّ بعد التّعيين ، فإن طاف قبل أن يصرف إحرامه لشيء - سواء أكان أحرم في أشهر الحجّ أم لا - وجب صرفه للحجّ مفرداً ، ويكون هذا الطّواف الواقع قبل الصّرف والتّعيين طواف القدوم ، وهو ليس ركناً من أركان الحجّ فلا يضرّ وقوعه قبل الصّرف . ولا يصحّ صرف ذلك الإحرام لعمرة بعد الطّواف ؛ لأنّ الطّواف ركن منها ، وقد وقع قبل تعيينها . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فيشترطون التّعيين قبل الشّروع بأيّ عمل من المناسك . فلو عمل شيئاً من أركان الحجّ أو العمرة قبل التّعيين ، لم يجزئه ، ولم يصحّ فعله .
الإحرام بإحرام الغير
19 - هو أن ينوي المحرم في إحرامه مثل ما أحرم به فلان ، بأن يكون قاصداً مرافقته ، أو الاقتداء به لعلمه وفضله ، فيقول : اللّهمّ إنّي أهلّ أو أحرم أو أنوي مثل ما أهلّ أو نوى فلان ، ويلبّي . فهذا الإحرام صحيح ، وينعقد على مثل ما أحرم به ذلك الشّخص عند الجمهور وظاهر مذهب المالكيّة . ودليلهم حديث عليّ رضي الله عنه « أنّه قدم من اليمن ووافى النّبيّ صلى الله عليه وسلم في حجّة الوداع ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : بم أهللت ؟ قال : بما أهلّ به النّبيّ صلى الله عليه وسلم . فقال : لولا أنّ معي الهدي لأحللت » . زاد في رواية : قال : « فأهد وأمكث حراماً كما أنت » .
الاشتراط في الإحرام
20 - الاشتراط في الإحرام أن يقول عند إحرامه : « إن حبسني حابس ، فمحلّي حيث حبستني » .
21 - ذهب الشّافعيّة إلى صحّة الاشتراط ، وأنّه يفيد إباحة التّحلّل من الإحرام عند وجود الحابس كالمرض ، فإذا لم يشترط لم يجز له التّحلّل ثمّ إن اشترط في التّحلّل أن يكون مع الهدي وجب الهدي ، وإن لم يشترط فلا هدي عليه . على تفاصيل تجدها في بحث الإحصار . وتوسّع الحنابلة فقالوا : يستحبّ لمن أحرم بنسك حجّ أو عمرة أن يشترط عند إحرامه . ويفيد هذا الشّرط عندهم شيئين : أحدهما : إذا عاقه عدوّ أو مرض أو غيرهما يجوز له التّحلّل . الثّاني : أنّه متى أحلّ بذلك فلا دم عليه ولا صوم ، سواء أكان المانع عدوّاً ، أو مرضاً ، أو غيرهما . وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى عدم صحّة الاشتراط ، وعدم إفادته للتّحلّل عند حصول المانع له ، بل يأخذ حاله حكم ذلك المانع ، على ما هو مقرّر في مبحث الإحصار ، استدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث عائشة رضي الله عنها قالت : « دخل النّبيّ صلى الله عليه وسلم على ضباعة بنت الزّبير ، فقالت : يا رسول اللّه إنّي أريد الحجّ وأنا شاكية ؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : حجّي واشترطي أنّ محلّي حيث حبستني » . متّفق عليه . واستدلّ الحنفيّة والمالكيّة بالآية الكريمة ، وهي قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } وفي المسألة تفصيل موطنه مصطلح ( إحصار ) .
إضافة الإحرام إلى الإحرام
أوّلاً : إضافة إحرام الحجّ إلى العمرة :
22 - وهو أن يحرم بالعمرة أوّلاً ، ثمّ بالحجّ قبل أن يطوف لها ، أو بعدما طاف قبل أن يتحلّل منها . وتتنوّع صور إضافة إحرام الحجّ إلى العمرة بحسب حال إضافته ، وبحسب حال المحرم ، وتأخذ كلّ صورة حكمها .
23 - وللحنفيّة تفصيل خاصّ في هذا ، لقولهم بكراهة القران للمكّيّ ، وأنّه إن فعله جاز وأساء ، وعليه دم جبر لإساءته هذه . كما أنّ للمذاهب الأخرى تفصيلاً بحسب آرائهم في مسائل من الإحرام وأوجه الإحرام . والتّفصيل عند الحنفيّة : أنّ المحرم إمّا أن يكون مكّيّاً أو آفاقيّاً . وأمّا بالنّسبة لحال إضافة الإحرام بالحجّ إلى العمرة فعلى وجوه .
24 - الوجه الأوّل : أن يدخل الحجّ على العمرة قبل أن يطوف للعمرة : أ - إن كان آفاقيّاً صحّ ذلك ، بلا كراهة ، وكان قارناً ، باتّفاق المذاهب . بل هو مستحبّ ، على ما صرّح به الحنفيّة ، لحمل فعله صلى الله عليه وسلم على ذلك ، على ما حقّقه ابن حزم وغيره ، وتبعه النّوويّ وغيره . وممّا يدلّ على جواز ذلك « حديث عائشة في حجّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم وفيه قولها : وكنت ممّن أهلّ بعمرة فحضت قبل أن أدخل مكّة ، فأدركني يوم عرفة وأنا حائض ، فشكوت إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال : دعي عمرتك ، وانقضي رأسك ، وامتشطي ، وأهّلي بالحجّ . . . » . متّفق عليه . وعلّل المالكيّة صحّة إرداف الحجّ على العمرة بقولهم : « لقوّته وضعفها » .
ب - وإن كان مكّيّاً ( أو ميقاتيّاً ) فترتفض عمرته اتّفاقاً عند الحنفيّة ، وعليه دم الرّفض ؛ لأنّ الجمع بين النّسكين غير مشروع للمكّيّ عندهم ، " والنّزوع عن المعصية لازم " ويرفض العمرة هنا ؛ لأنّها أقلّ عملاً ، والحجّ أكثر عملاً . فكانت العمرة أخفّ مؤنةً من الحجّة ، فكان رفضها أيسر ، ولأنّ المعصية حصلت بسببها ؛ لأنّها هي الّتي دخلت في وقت الحجّ ، فكانت أولى بالرّفض . ويمضي حجّته . وعليه دم لرفض عمرته . وعليه قضاء العمرة » . أمّا غير الحنفيّة فحكم الآفاقيّ والمكّيّ عندهم سواء في صحّة الإحرامين وصيرورته قارناً ، تبعاً لمذهبهم في تجويز القران للمكّيّ على تفصيل يأتي . ( ف 30 ) لكن شرط المالكيّة والشّافعيّة أن تكون العمرة صحيحةً . وهذا شرط لصحّة الإرداف في جميع صوره عند المالكيّة ، وعند الحنفيّة شرط لصحّة القران فقط وزاد الشّافعيّة اشتراط أن يكون إدخال الحجّ عليها في أشهر الحجّ .
25 - الوجه الثّاني : أن يدخل الحجّ على العمرة بعد أن طاف شيئاً قليلاً ، على ألاّ يتجاوز أقلّ أشواط طواف العمرة ، أي ثلاثة أشواط فما دون ذلك . فمذهب الحنفيّة في ذلك : أ - إذا كان آفاقيّاً كان قارناً .
ب - وإن كان مكّيّاً ( أي ميقاتيّاً ) : وجب عليه رفض أحد النّسكين ، على التّحقيق في عبارات فقهاء الحنفيّة ، وإنّما اختلفوا في أيّ الرّفضين أولى : قال أبو حنيفة : يرفض الحجّ . وعليه لرفضه دم . وعليه حجّة وعمرة ؛ لأنّه مثل فائت الحجّ ، وحكم فائت الحجّ أنّه يتحلّل بعمرة ، ثمّ يأتي بالحجّ من قابل حتّى لو حجّ في سنته سقطت العمرة ؛ لأنّه حينئذ ليس في معنى فائت الحجّ ، بل كالمحصر ، إذا تحلّل ثمّ حجّ من تلك السّنة ، فإنّه حينئذ لا تجب عليه عمرة ، بخلاف ما إذا تحوّلت السّنة ، فإنّه تجب عليه العمرة مع حجّته . وقال أبو يوسف ومحمّد : رفض العمرة أحبّ إلينا ، ويقضيها دون عمرة أخرى ، وعليه دم للرّفض . وكذلك هو الحكم عند أبي حنيفة لو اختار هذا المحرم رفض العمرة . استدلّ أبو حنيفة على استحباب رفض الحجّ بأنّ " إحرام العمرة قد تأكّد بأداء شيء من أعمالها ، وإحرام الحجّ لم يتأكّد ، ورفض غير المتأكّد أيسر . ولأنّ في رفض العمرة - والحالة هذه - إبطال العمل ، وفي رفض الحجّ امتناع عنه " والامتناع أولى من الإبطال ، واستدلّ الصّاحبان على أنّ رفض العمرة أولى : « بأنّها أدنى حالاً وأقلّ أعمالاً ، وأيسر قضاءً ، لكونها غير مؤقّتة » . وقال المالكيّة والحنابلة : يصحّ هذا الإرداف . ويصير قارناً ، ويتابع على ذلك . وتندرج العمرة في الحجّ . أمّا الشّافعيّة - وهو قول أشهب من المالكيّة - فقالوا : يصحّ إدخال الحجّة على العمرة قبل الشّروع في الطّواف ، فلو شرع في الطّواف ولو بخطوة فإنّه لا يصحّ إحرامه بالحجّ . واستدلّوا على ذلك : بأنّه " لاتّصال إحرامها بمقصوده ، وهو أعظم أفعالها ، فلا ينصرف بعد ذلك إلى غيرها » . لكن الشّافعيّة قرّروا أنّه " لو استلم الحجر بنيّة الطّواف فالأوجه جواز الإدخال ، إذ الاستلام مقدّمة الطّواف لا بعضه » .
26 - الوجه الثّالث : أن يدخل الحجّ على العمرة بعد أن يطوف أكثر أشواط طواف العمرة . فهذا حكمه عند الحنفيّة حكم ما لو أكمل الطّواف الآتي في الوجه الرّابع التّالي ؛ لأنّ للأكثر حكم الكلّ عندهم . وعند الجمهور حكمه حكم الوجه الثّاني السّابق .
27 - الوجه الرّابع : أن يدخل الحجّ على العمرة بعد إكمال طواف العمرة قبل التّحلّل . مذهب الحنفيّة التّفصيل المتقدّم في الوجه الثّاني . وفصّل المالكيّة تفصيلاً آخر فقالوا : أ - إرداف الحجّ على العمرة بعد طوافها قبل ركعتي الطّواف مكروه . فإن فعله صحّ ، ولزمه ، وصار قارناً ، وعليه دم القران .
ب - إرداف الحجّ على العمرة بعد أن طاف وصلّى ركعتي الطّواف قبل السّعي مكروه ، ولا يصحّ ، ولا يكون قارناً . وكذلك الإرداف في السّعي ، إن سعى بعض السّعي وأردف الحجّ على العمرة كره له ذلك . فإن فعل فليمض على سعيه ، فيحلّ ، ثمّ يستأنف الحجّ ، سواء أكان من أهل مكّة أم غيرها . وحيث إنّ الإرداف لم يصحّ بعد الرّكوع وقبل السّعي أو في أثنائه فلا يلزم قضاء الإحرام الّذي أردفه على المشهور .
ج - إرداف الحجّ على العمرة بعد السّعي للعمرة قبل الحلق لا يجوز الإقدام عليه ابتداءً ؛ لأنّه يستلزم تأخير الحلق . فإن أقدم على إرداف الإحرام في هذا الحال فإنّ إحرامه صحيح ، وهذا حجّ مستأنف . ويحرم عليه الحلق للعمرة ، لا خلاله بإحرام الحجّ ، ويلزمه هدي لتأخير حلق العمرة الّذي وجب عليه بسبب إحرامه بالحجّ ، ولا يكون قارناً ولا متمتّعاً ، إن أتمّ عمرته قبل أشهر الحجّ ، بل يكون مفرداً . وإن فعل بعض ركنها في وقت الحجّ يكون متمتّعاً . ولو قدّم الحلق بعد إحرامه بالحجّ وقبل فراغه من أعمال الحجّ فلا يفيده في سقوط الهدي ، ولا بدّ من الهدي ، وعليه حينئذ فدية أيضاً . وهي فدية إزالة الأذى عند المالكيّة . ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه لا يصحّ إدخال الحجّ على العمرة بعد الطّواف ، لما ذكرنا من العلّة في الصّورة السّابقة . وبعد السّعي لا يصحّ ، من باب أولى . إلاّ أنّ الحنابلة استثنوا من كان معه هدي فقالوا : « يصحّ إدخال الحجّ على العمرة ممّن معه هدي ، ولو بعد سعيها ، بل يلزمه كما يأتي ؛ لأنّه مضطرّ إليه لقوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } ويصير قارناً على المذهب . وقال في الفروع ، وشرح المنتهى في موضع آخر : لا يصير قارناً ، ولو كان إدخال الحجّ على العمرة في غير أشهر الحجّ يصحّ على المذهب ، لصحّة الإحرام به قبلها عند الحنابلة .
ثانياً إضافة إحرام العمرة إلى الحجّ
28 - ذهب المالكيّة والشّافعيّة - في الجديد وهو الأصحّ في المذهب - والحنابلة إلى أنّه لا يصحّ إحرامه بالعمرة بعدما أحرم بالحجّ . وعلى ذلك لا يصير قارناً ، ولا يلزمه دم القران ، ولا قضاء العمرة الّتي أهلّ بها . وبه قال إسحاق بن راهويه وأبو ثور وابن المنذر ، وصرّح الحنفيّة والمالكيّة بكراهة هذا العمل ، لكن قال الحنفيّة بصحّة الإحرام على تفصيل نذكره .
ثالثاً الإحرام بحجّتين معاً أو عمرتين معاً
29 - إن أحرم بحجّتين أو عمرتين انعقد بإحداهما ولغت الأخرى . وهذا مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة ؛ لأنّهما عبادتان لا يلزمه المضيّ فيهما ، فلم يصحّ الإحرام بهما . وعلى هذا لو أفسد حجّه أو عمرته لم يلزمه إلاّ قضاؤها . ومذهب أبي حنيفة أنّ الإحرام ينعقد بهما ، وعليه قضاء إحداهما ؛ لأنّه أحرم بها ولم يتمّها . وفي الموضوع تفصيلات وفروع لا حاجة إلى إيرادها هنا لندرة وقوعها . الفصل الرّابع
حالات الإحرام
30 - ينقسم الإحرام بحسب ما يقصد المحرم أداءه به من النّسك إلى ثلاثة أقسام : الإفراد للحجّ أو العمرة أو الجمع بين النّسكين ، وهو إمّا تمتّع أو قران . الإفراد : هو اصطلاحاً : أن يهلّ - أي ينوي - في إحرامه الحجّ فقط ، أو العمرة فقط . القران : القران عند الحنفيّة : هو أن يجمع الآفاقيّ بين الحجّ والعمرة متّصلاً أو منفصلاً قبل أكثر طواف العمرة ، ولو من مكّة ، ويؤدّي العمرة في أشهر الحجّ . وعند المالكيّة : أن يحرم بالحجّ والعمرة معاً ، بنيّة واحدة ، أو نيّتين مرتّبتين يبدأ فيهما بالعمرة ، أو يحرم بالعمرة ويردف الحجّ عليها قبل طوافها أو بطوافها . وعند الشّافعيّة : القران أن يحرم بالعمرة والحجّ جميعاً ، أو يحرم بعمرة في أشهر الحجّ ثمّ يدخل الحجّ عليها قبل الطّواف . ومثل ذلك عند الحنابلة إلاّ أنّهم لم يشترطوا الإحرام في أشهر الحجّ . التّمتّع : التّمتّع عند الحنفيّة : هو التّرفّق بأداء النّسكين في أشهر الحجّ في سنة واحدة ، من غير إلمام بينهما بأهله إلماماً صحيحاً . والإلمام الصّحيح : هو الّذي يكون في حالة تحلّله من عمرته ، وقبل شروعه في حجّته . وعند المالكيّة : التّمتّع هو أن يحرم بعمرة ، ثمّ يحلّ منها في أشهر الحجّ ، ثمّ يحجّ بعدها . وعند الشّافعيّة : أن يحرم بالعمرة من ميقات بلده ويفرغ منها ثمّ ينشئ حجّاً . وعند الحنابلة : أن يحرم بعمرة في أشهر الحجّ ثمّ يحرم بالحجّ من أين شاء بعد فراغه منها .
واجبات الإحرام :
31 - تنحصر واجبات الإحرام في أمرين أساسيّين : الأوّل : كون الإحرام من الميقات . الثّاني : صون الإحرام عن المحظورات . وتفصيل ذلك فيما يلي : الفصل الرّابع
مواقيت الإحرام
32 - الميقات : من التّوقيت ، وهو : أن يجعل للشّيء وقت يختصّ به ، ثمّ اتّسع فيه فأطلق على المكان . ويطلق على الحدّ المحدّد للشّيء . وفي الاصطلاح : عرّفوا المواقيت بأنّها : « مواضع وأزمنة معيّنة لعبادة مخصوصة » . ومنه يعلم أنّ للإحرام نوعين من الميقات :
النّوع الأوّل : الميقات الزّمانيّ .
النّوع الثّاني : الميقات المكانيّ . الميقات الزّمانيّ إمّا أن يكون ميقاتاً للإحرام بالحجّ ، أو للإحرام بالعمرة .
فينقسم قسمين :
أوّلاً : الميقات الزّمانيّ للإحرام بالحجّ :
33 - ذهب الأئمّة الثّلاثة أبو حنيفة والشّافعيّ وأحمد وأصحابهم إلى أنّ وقت الإحرام بالحجّ شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة . وهو مذهب جمهور الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم . وذهب مالك إلى أنّ وقت الحجّ شوّال وذو القعدة وشهر ذي الحجّة إلى آخره . وليس المراد أنّ جميع هذا الزّمن الّذي ذكروه وقت لجواز الإحرام ، بل المراد أنّ بعض هذا الزّمن وقت لجواز ابتداء الإحرام ، وهو من شوّال لطلوع فجر يوم النّحر ، وبعضه وقت لجواز التّحلّل ، وهو من فجر يوم النّحر لآخر ذي الحجّة . وعلى هذا فالميقات الزّمانيّ بالنّسبة للإحرام متّفق عليه ، إنّما مرتّب على مذهب المالكيّة جواز تأخير الإحلال إلى آخر ذي الحجّة ، كما سيأتي . وهذا الّذي ذهب إليه المالكيّة " قد حكي أيضاً عن طاوس ، ومجاهد ، وعروة بن الزّبير ، والرّبيع بن أنس ، وقتادة » . والأصل للفريقين قوله تعالى : { الحجّ أشهر معلومات فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ } فالجمهور فسّروا الآية بأنّ المراد شهران وبعض الثّالث . واستدلّوا بالآثار عن الصّحابة . كما يدلّ لهم أنّ أركان الحجّ تؤدّى خلال تلك الفترة . وأمّا المالكيّة فدليلهم واضح ، وهو ظاهر الآية ؛ لأنّها عبّرت بالجمع " أشهر " وأقلّ الجمع ثلاث ، فلا بدّ من دخول ذي الحجّة بكماله . ثمّ اختلف الجمهور في نهار يوم النّحر هل هو من أشهر الحجّ أو لا . فقال الحنفيّة والحنابلة : هو من أشهر الحجّ . وقال الشّافعيّة : آخر أشهر الحجّ ليلة يوم النّحر . وهو مرويّ عن أبي يوسف . وفي وجه عند الشّافعيّة في ليلة النّحر أنّها ليست من أشهر الحجّ . والأوّل هو الصّحيح المشهور . استدلّ الحنفيّة والحنابلة بحديث ابن عمر « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقف يوم النّحر بين الجمرات في الحجّة الّتي حجّ فقال : أيّ يوم هذا ؟ قالوا : يوم النّحر . قال : هذا يوم الحجّ الأكبر » أخرجه أبو داود وابن ماجه . قالوا : ولا يجوز أن يكون يوم الحجّ الأكبر ليس من أشهره . ويشهد له حديث بعث أبي بكر أبا هريرة يؤذّن في النّاس يوم النّحر أن لا يحجّ بعد العام مشرك ، فإنّه امتثال لقوله تعالى : { وأذان من اللّه ورسوله إلى النّاس يوم الحجّ الأكبر . . . } والحديث متّفق عليه . واحتجّوا بالدّليل المعقول ؛ لأنّ يوم النّحر فيه ركن الحجّ ، وهو طواف الزّيارة ، وفيه كثير من أفعال الحجّ ، منها : رمي جمرة العقبة ، والنّحر ، والحلق ، والطّواف ، والسّعي ، والرّجوع إلى منًى . ومستبعد " أن يوضع لأداء ركن عبادة وقت ليس وقتها ، ولا هو منه " واستدلّ الشّافعيّة برواية نافع عن ابن عمر أنّه قال : « أشهر الحجّ شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجّة " أي عشر ليال . وعن ابن مسعود وابن عبّاس وابن الزّبير مثله . رواها كلّها البيهقيّ ، وصحّح الرّواية عن ابن عبّاس . ورواية ابن عمر صحيحة .
أحكام الميقات الزّمانيّ للحجّ :
34 - أ - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه يصحّ الإحرام بالحجّ قبل أشهر الحجّ ، وينعقد حجّاً ، لكن مع الكراهة . وهو قول إبراهيم النّخعيّ ، وسفيان الثّوريّ ، وإسحاق بن راهويه ، واللّيث بن سعد . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه لا ينعقد الإحرام بالحجّ قبل أشهره ، فلو أحرم به قبل هلال شوّال لم ينعقد حجّاً ، وانعقد عمرةً على الصّحيح عندهم . وبه قال عطاء وطاوس ومجاهد وأبو ثور .
35 - والأصل في المسألة قوله تعالى : { الحجّ أشهر معلومات } وقد تنازع الفريقان الاستدلال بها ، وأيّد كلّ فريق وجهته بدلائل أخرى . وهو خلاف وقع بين أهل العربيّة أيضاً . استدلّ الثّلاثة بأنّ معنى الآية : الحجّ ( حجّ ) أشهر معلومات ، فعلى هذا التّقدير يكون الإحرام بالحجّ فيها أكمل من الإحرام به فيما عداها ، وإن كان ذاك صحيحاً ؛ ولأنّه أحد نسكي القران ، فجاز الإحرام به في جميع السّنة كالعمرة ، أو : أحد الميقاتين ، فصحّ الإحرام قبله ، كميقات المكان . ووجّه الحنفيّة المسألة بناءً على مذهبهم بأنّه شرط عندهم ، فأشبه الطّهارة في جواز التّقديم على الوقت ، وثبتت الكراهة لشبهه بالرّكن . واستدلّ الشّافعيّة بقوله تعالى : { الحجّ أشهر معلومات } . ووجه الاستدلال أنّ ظاهره التّقدير الآخر الّذي ذهب إليه النّحاة ، وهو ( وقت الحجّ أشهر معلومات ) فخصّصه بها من بين سائر شهور السّنة ، فدلّ على أنّه لا يصحّ قبلها ، كميقات الصّلاة . واستدلّوا من المعقول : بأنّ الإحرام نسك من مناسك الحجّ ، فكان مؤقّتاً ، كالوقوف والطّواف .
36 - اتّفقوا بعد هذا على أنّه لو فعل أيّ شيء من أفعال الحجّ قبل أشهر الحجّ لم يجزه ، حتّى لو صام المتمتّع أو القارن ثلاثة أيّام قبل أشهر الحجّ لا يجوز ، وكذا السّعي بين الصّفا والمروة عقب طواف القدوم لا يقع عن سعي الحجّ إلاّ فيها .
ثانياً : الميقات الزّمانيّ للإحرام بالعمرة :
37 - اتّفقوا على أنّ ميقات العمرة الزّمانيّ هو جميع العام ، فيصحّ أن تفعل في جميع السّنة ، وينعقد إحرامها ، وذلك لعدم المخصّص لها بوقت دون وقت . وكذلك قرّروا أنّها أفضل في شهر رمضان منها في غيره . وعبّر الحنفيّة بقولهم : « تندب في رمضان " ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « عمرة في رمضان تقضي حجّةً » . متّفق عليه .
38 - ثمّ اختلفوا في أوقات يكره فيها الإحرام بالعمرة أو لا يكره . وهي : أ - يوم عرفة ويوم النّحر وأيّام التّشريق : ذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى عدم الكراهة فيها ، لكن قال الرّمليّ الشّافعيّ : « وهي في يوم عرفة والعيد وأيّام التّشريق ليست كفضلها في غيرها ؛ لأنّ الأفضل فعل الحجّ فيها » . واستدلّوا لعدم الكراهة بأنّ الأصل عدم الكراهة ، ولا دليل عليها . وذهب الحنفيّة إلى أنّ العمرة تكره تحريماً يوم عرفة وأربعة أيّام بعده ، حتّى يجب الدّم على من فعلها في ذلك عندهم . واستدلّوا بقول عائشة رضي الله عنها : حلّت العمرة في السّنة كلّها إلاّ أربعة أيّام : يوم عرفة ، ويوم النّحر ويومان بعد ذلك أخرجه البيهقيّ » . ولأنّ هذه الأيّام أيّام شغل بأداء الحجّ ، والعمرة فيها تشغلهم عن ذلك ، وربّما يقع الخلل فيه فتكره » .
ب - استثنى المالكيّة المحرم بالحجّ من سعة الوقت للإحرام بالعمرة ، فقالوا : الحاجّ وقت إحرامه بالعمرة من وقت تحلّله من الحجّ ، وذلك " بالفراغ من جميع أفعاله من طواف وسعي ورمي اليوم الرّابع ، أو قدر رميه لمن تعجّل فنفر في ثالث أيّام النّحر ، فإنّ هذا ينتظر إلى أن يمضي - بعد الزّوال من اليوم الرّابع - ما يسع الرّمي حتّى يبدأ وقت الإحرام له للعمرة » . وبناءً على ذلك قرّر المالكيّة : إن أحرم بالعمرة قبل ذلك الّذي ذكرناه لم ينعقد إحرامه ، وأنّه يكره الإحرام بالعمرة بعد التّحلّل بالفراغ من جميع أفعال الحجّ وقبل غروب شمس اليوم الرّابع
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
الميقات المكانيّ
الميقات المكانيّ ينقسم قسمين :
ميقات مكانيّ للإحرام بالحجّ ، وميقات مكانيّ للإحرام بالعمرة .
أوّلاً : الميقات المكانيّ للإحرام بالحجّ :
39 - يختلف الميقات المكانيّ للإحرام بالحجّ باختلاف مواقع النّاس ، فإنّهما في حقّ المواقيت المكانيّة على أربعة أصناف ، وهي :
الصّنف الأوّل : الآفاقيّ .
الصّنف الثّاني : الميقاتيّ .
الصّنف الثّالث : الحرميّ .
الصّنف الرّابع : المكّيّ ، ويشترك مع الحرميّ في أكثر من وجه ، فيكونان مسألةً واحدةً . ثمّ صنف خامس : هو من تغيّر مكانه ، ما ميقاته ؟ .
ميقات الآفاقيّ : وهو من منزله خارج منطقة المواقيت .
40 - اتّفق العلماء على تقرير الأماكن الآتية مواقيت لأهل الآفاق المقابلة لها ، وهذه الأماكن هي : أ - ذو الحليفة : ميقات أهل المدينة ، ومن مرّ بها من غير أهلها . وتسمّى الآن " آبار عليّ " فيما اشتهر لدى العامّة .
ب - الجحفة : ميقات أهل الشّام ، ومن جاء من قبلها من مصر ، والمغرب . ويحرم الحجّاج من " رابغ " ، وتقع قبل الجحفة ، إلى جهة البحر ، فالمحرم من " رابغ " محرم قبل الميقات . وقد قيل إنّ الإحرام منها أحوط لعدم التّيقّن بمكان الجحفة .
ج - قرن المنازل : ويقال له " قرن " أيضاً ، ميقات أهل نجد ، و " قرن " جبل مطلّ على عرفات . وهو أقرب المواقيت إلى مكّة ، وتسمّى الآن " السّيل » .
د - يلملم : ميقات باقي أهل اليمن وتهامة ، والهند . وهو جبل من جبال تهامة ، جنوب مكّة .
هـ - ذات عرق : ميقات أهل العراق ، وسائر أهل المشرق . أدلّة تحديد مواقيت الآفاق :
41 - والدّليل على تحديدها مواقيت للإحرام السّنّة والإجماع : أ - أمّا السّنّة فأحاديث كثيرة نذكر منها هذين الحديثين : حديث ابن عبّاس رضي الله عنهما قال « : إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقّت لأهل المدينة ذا الحليفة ، ولأهل الشّام الجحفة ، ولأهل نجد قرن المنازل ، ولأهل اليمن يلملم . هنّ لهنّ ؛ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ ، ممّن أراد الحجّ والعمرة . ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ ، حتّى أهل مكّة من مكّة » . متّفق عليه . وحديث عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « يهلّ أهل المدينة من ذي الحليفة ، وأهل الشّام من الجحفة ، وأهل نجد من قرن . قال عبد اللّه - يعني ابن عمر - وبلغني أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : ويهلّ أهل اليمن من يلملم » . متّفق عليه فهذه نصوص في المواقيت عدا ذات عرق . وقد اختلف في دليل توقيت ذات عرق هل وقّت بالنّصّ أم بالاجتهاد والإجماع . فقال جماعة من العلماء ومنهم الشّافعيّ ومالك ثبت باجتهاد عمر رضي الله عنه وأقرّه الصّحابة ، فكان إجماعاً . وصحّح الحنفيّة والحنابلة وجمهور الشّافعيّة أنّ توقيت ذات عرق منصوص عليه من النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأنّ عمر رضي الله عنه لم يبلغه تحديد النّبيّ صلى الله عليه وسلم فحدّده باجتهاده فوافق النّصّ .
ب - وأمّا دلالة الإجماع على هذه المواقيت فقال النّوويّ في المجموع : « قال ابن المنذر وغيره : أجمع العلماء على هذه المواقيت » . وقال أبو عمر بن عبد البرّ : « أجمع أهل العلم على أنّ إحرام العراقيّ من ذات عرق إحرام من الميقات » .
أحكام تتعلّق بالمواقيت :
42 - منها : أ - وجوب الإحرام منها لمن مرّ بالميقات قاصداً أحد النّسكين ، الحجّ أو العمرة ، وتحريم تأخير الإحرام عنها بالإجماع . والإحرام من أوّل الميقات ، أي الطّرف الأبعد من مكّة أفضل ، حتّى لا يمرّ بشيء ممّا يسمّى ميقاتاً غير محرم . ولو أحرم من آخره أي الطّرف الأقرب إلى مكّة جاز اتّفاقاً ، لحصول الاسم .
43 - ب - من مرّ بالمواقيت يريد دخول الحرم لحاجة غير النّسك اختلف فيه : ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه يجب عليه الإحرام لدخول مكّة أو الحرم المعظّم المحيط بها ، وعليه العمرة إن لم يكن محرماً بالحجّ . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه إذا قصد مكّة أو منطقة الحرم لحاجة لا للنّسك جاز له ألاّ يحرم . ( انظر الأدلّة وفروع المسألة في مصطلح « حرم » ) .
44 - ج - الاعتبار في هذه المواقيت بتلك المواضع ، لا باسم القرية والبناء . فلو خرب البناء في الميقات ونقلت عمارته إلى موضع آخر قريب منه وسمّي باسم الأوّل لم يتغيّر الحكم ، بل الاعتبار بموضع الأوّل .
45 - د - لا يشترط أن يحرم من هذه المواقيت بأعيانها ، بل يكفي أن يحرم منها بذاتها ، أو من حذوها ، أي محاذاتها ومقابلتها ، وذلك لما سبق في توقيت ذات عرق ، أنّ عمر رضي الله عنه أخذ في توقيتها بالمحاذاة ، وأقرّ على ذلك . فدلّ على اتّفاق الصّحابة على الأخذ بقاعدة المحاذاة .
فروع : تفرّع على ذلك :
46 - من سلك طريقاً ليس فيه ميقات معيّن ، برّاً أو بحراً أو جوّاً ، اجتهد وأحرم إذا حاذى ميقاتاً من هذه المواقيت المذكورة . وينبغي أن يأخذ بالاحتياط لئلاّ يجاوز الميقات غير محرم ، وخصوصاً راكب الطّائرة . 47 - إن لم يعلم المحاذاة فإنّه يحرم على مرحلتين من مكّة . اعتباراً بمسافة أقرب المواقيت ، فإنّه على بعد مرحلتين من مكّة . وعلى ذلك قرّروا أنّ جدّة تدخل في المواقيت ؛ لأنّها أقرب إلى مكّة من قرن المنازل 48 - وتفرّع على ذلك مسألة من يمرّ بميقاتين ، كالشّاميّ إذا قدم من المدينة ، والمدنيّ ، فإنّه إذا مرّ بالجحفة يمرّ بميقاتين فمن أيّ الميقاتين يحرم ؟ ذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب عليه أن يحرم من الميقات الأبعد ، كأهل الشّام ومصر والمغرب ، ميقاتهم الجحفة ، فإذا مرّوا بالمدينة وجب عليهم الإحرام من ذي الحليفة ميقات أهل المدينة ، وإذا جاوزوه غير محرمين حتّى الجحفة كان حكمهم حكم من جاوز الميقات من غير إحرام . وذهب المالكيّة إلى أنّ من يمرّ بميقاتين الثّاني منهما ميقاته ندب له الإحرام من الأوّل ، ولا يجب عليه الإحرام منه ؛ لأنّ ميقاته أمامه . وذهب الحنفيّة إلى أنّ من يمرّ بميقاتين فالأفضل له الإحرام من الأوّل ، ويكره له تأخيره إلى الثّاني الأقرب إلى مكّة . ولم يقيّدوه - في الأصحّ عندهم - بأن يكون الميقات الثّاني ميقاتاً له . استدلّ الشّافعيّة والحنابلة بحديث المواقيت ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « هنّ لهنّ ؛ ولمن أتى عليهنّ من غير أهلهنّ » ، فإنّ هذا بعمومه يدلّ على أنّ الشّاميّ مثلاً إذا أتى ذا الحليفة فهو ميقاته ، يجب عليه أن يحرم منه . ولا يجوز له أن يجاوزه غير محرم . واستدلّ المالكيّة والحنفيّة بعموم التّوقيت لأهل المناطق المذكورة ، إلى جانب العموم الّذي استدلّ به الشّافعيّة ، فيحصل من ذلك له جواز الأمرين . فأخذ الحنفيّة بالعموم على ظاهره في العبارتين ، وجوّزوا الإحرام من أيّ الميقاتين ، مع كراهة التّأخير ، ويدلّ لهم ما ثبت أنّ ابن عمر أهلّ من الفرع وهو موضع بين ذي الحليفة ومكّة . وخصّ المالكيّة ذلك بغير المدنيّ . ويشهد لهم فعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم والصّحابة ، فإنّهم أحرموا من ذي الحليفة . وهو محمول عند الحنفيّة على فعل الأفضل . ويدلّ للحنفيّة والمالكيّة من جهة النّظر : أنّ المقصود من الميقات تعظيم الحرم المحترم ، وهو يحصل بأيّ ميقات اعتبره الشّرع المكرّم ، يستوي القريب والبعيد في هذا المعنى . 49 - التّقدّم بالإحرام على المواقيت المكانيّة جائز بالإجماع ، وإنّما حدّدت لمنع مجاوزتها بغير إحرام . لكن اختلف هل الأفضل التّقدّم عليها ، أو الإحرام منها : فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يكره له الإحرام قبل الميقات . وذهب الحنفيّة إلى أنّ تقديم الإحرام على الميقات المكانيّ أفضل ، إذا أمن على نفسه مخالفة أحكام الإحرام . استدلّ الأوّلون بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه أحرموا من الميقات ، ولا يفعلون إلاّ الأفضل . وبأنّه يشبّه الإحرام بالحجّ قبل أشهره ، فيكون مثله في الكراهة . واستدلّ الحنفيّة بما أخرج أبو داود وابن ماجه عن أمّ سلمة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من أهلّ من المسجد الأقصى بعمرة أو حجّة غفر له » . وسئل عليّ رضي الله عنه عن قوله تعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } فقال : أن تحرم من دويرة أهلك أخرجه الحاكم وصحّحه . واستدلّوا من حيث النّظر بأنّ " المشقّة فيه أكثر ، والتّعظيم أوفر " فيكون أفضل .
50 - من جاوز الميقات قاصداً الحجّ أو العمرة أو القران ، وهو غير محرم ، أثم ، ويجب عليه العود إليه والإحرام منه . فإن لم يرجع وجب عليه الدّم سواء ترك العود بعذر أو بغير عذر ، وسواء كان عالماً عامداً أو جاهلاً أو ناسياً . لكن من ترك العود لعذر لا يأثم بترك الرّجوع . ومن العذر خوف فوات الوقوف بعرفة لضيق الوقت ، أو المرض الشّاقّ ، أو خوف فوات الرّفقة . وذلك موضع وفاق بين المذاهب .
ميقات الميقاتيّ ( البستانيّ ) :
51 - الميقاتيّ هو الّذي يسكن في مناطق المواقيت ، أو ما يحاذيها ، أو في مكان دونها إلى الحرم المحيط بمكّة كقديد ، وعسفان ، ومرّ الظّهران . مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ ميقات إحرام المكانيّ للحجّ هو موضعه ، إلاّ أنّ المالكيّة قالوا : « يحرم من داره ، أو من مسجده ، ولا يؤخّر ذلك » . والأحسن أن يحرم من أبعدهما من مكّة . وقال الشّافعيّة والحنابلة ميقاته القرية الّتي يسكنها ، إن كان قرويّاً ، أو المحلّة الّتي ينزلها إن كان بدويّاً ، فإن جاوز القرية وفارق العمران إلى مكّة ثمّ أحرم كان آثماً ، وعليه الدّم للإساءة ، فإن عاد إليها سقط الدّم ، على التّفصيل الّذي سبق ، وبيان المذاهب فيه . وكذا إذا جاوز الخيام إلى جهة مكّة غير محرم ، وإن كان في برّيّة منفرداً أحرم من منزله . ويستحبّ أن يحرم من طرف القرية أو المحلّة الأبعد عن مكّة ، وإن أحرم من الطّرف الأقرب جاز . ومذهب الحنفيّة أنّ ميقاته منطقة الحلّ أي جميع المسافة من الميقات إلى انتهاء الحلّ ، ولا يلزمه كفّارة ، ما لم يدخل أرض الحرم بلا إحرام . وإحرامه من دويرة أهله أفضل . استدلّ الجميع بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المواقيت : « ومن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ » ، فحمله المالكيّة على منزله ، وقالوا : إنّ المسجد واسع للإحرام " ؛ لأنّه موضع الصّلاة ؛ ولأنّ أهل مكّة يأتون المسجد فيحرمون منه ، وكذلك أهل ذي الحليفة يأتون مسجدهم » . وفسّره الشّافعيّة والحنابلة بالقرية والمحلّة الّتي يسكنها ؛ لأنّه أنشأ منها . وقال الحنفيّة : « إنّ خارج الحرم كلّه كمكان واحد في حقّ الميقاتيّ ، والحرم في حقّه كالميقات في حقّ الآفاقيّ ، فلا يدخل الحرم إذا أراد الحجّ أو العمرة إلاّ محرماً » .
ميقات الحرميّ والمكّيّ :
52 - أ - اتّفقت المذاهب على أنّ من كان من هذين الصّنفين ، بأن كان منزله في الحرم ، أو في مكّة ، سواء أكان مستوطناً ، أم نازلاً ، فإنّه يحرم بالحجّ من حيث أنشأ ، لما سبق في الحديث : « فمن كان دون ذلك فمن حيث أنشأ حتّى أهل مكّة من مكّه » .
ب - ثمّ اختلفوا في تفاصيل ذلك . فمذهب الحنفيّة أنّ من كان مكّيّاً ، أو منزله في الحرم ، كسكّان منًى ، فوقته الحرم للحجّ وللقران . ومن المسجد أفضل ، أو من دويرة أهله ، وهو قول عند الشّافعيّة بالنّسبة للمكّيّ فقط . وهذا على سبيل الوجوب عندهم ، فلو أنّه أهلّ من خارج منطقة الحرم ، لزمه العود إلى الحرم ، وإلاّ وجب عليه الدّم . ودليله حديث جابر في حجّة الوداع : « فأهللنا من الأبطح » وحديثه : « وجعلنا مكّة بظهر أهللنا بالحجّ » . أخرجهما مسلم ، وعلّقهما البخاريّ بصيغة الجزم . ومذهب المالكيّة التّفرقة بين من أهلّ بالحجّ ومن أهلّ بالقران ، فجعلوا ميقات القران ميقات العمرة الآتي تفصيله ، وهو قول عند الشّافعيّة . وأمّا من أهلّ بالحجّ وهو من سكّان مكّة أو الحرم فإمّا أن يكون مستوطناً ، أو آفاقيّاً نازلاً : أمّا المستوطن فإنّه يندب له أن يحرم من مكّة ، ومن المسجد الحرام أفضل ، وإن تركها وأحرم من الحرم أو الحلّ فخلاف الأولى ، ولا إثم ، فلا يجب الإحرام من مكّة . وأمّا الآفاقيّ فإن كان له سعة من الوقت - وعبّروا عنه ب " ذي النّفس " - فيندب له الخروج إلى ميقاته والإحرام منه . وإن لم يكن له سعة من الوقت فهو كالمستوطن . ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّ الحرميّ ( الّذي ليس بمكّة ) حكمه حكم الميقاتيّ . وأمّا المكّيّ : أي المقيم بمكّة ولو كان غير مكّيّ ، فعند الشّافعيّة وجهان في ميقات الحجّ له ، مفرداً كان أو قارناً : الأصحّ : أنّ ميقاته نفس مكّة ، لما سبق في الحديث : « حتّى أهل مكّة من مكّة » . والثّاني : ميقاته كلّ الحرم ، لاستواء مكّة ، وما وراءها من الحرم في الحرمة . وعند الحنابلة يحرم بالحجّ من مكّة من المسجد من تحت الميزاب ، وهو أفضل عندهم . وجاز وصحّ أن يحرم من بمكّة من سائر الحرم عند الحنابلة كما هو عند الحنفيّة .
الميقات المكانيّ للعمرة
53 - هو الميقات المكانيّ للحجّ بالنّسبة للآفاقيّ والميقاتيّ . وميقات من كان بمكّة من أهلها أو غير أهلها الحلّ من أيّ مكان ، ولو كان بعد الحرم ، ولو بخطوة . واختلفوا في الأفضل منهما ، فذهب الجمهور إلى أنّه من الجعرانة أفضل ، وذهب الحنفيّة إلى أنّه من التّنعيم أفضل . وقال أكثر المالكيّة هما متساويان . والأصل في ذلك حديث عائشة : « قالت : يا رسول اللّه أتنطلقون بعمرة وحجّة ، وأنطلق بالحجّ ؟ فأمر أخاها عبد الرّحمن بن أبي بكر أن يخرج معها إلى التّنعيم فاعتمرت بعد الحجّ في ذي الحجّة » . ( متّفق عليه ) . ومن جهة النّظر أنّ من شأن الإحرام أن تكون هنا رحلة بين الحلّ والحرم ، ولمّا كانت أركان العمرة كلّها في الحرم ، كان لا بدّ أن يكون الإحرام في الحلّ . ولا يعلم في ذلك خلاف بين العلماء .
الفصل الخامس
محظورات الإحرام
حكمة حظر بعض المباحات حال الإحرام
54 - من حكم الشّرع في ذلك تذكير المحرم بما أقدم عليه من نسك ، وتربية النّفوس على التّقشّف . وقد كان من سنّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم المغايرة في حال العيش بين التّقشّف والتّرفّه ، وتقرير المساواة بين النّاس ، وإذكاء مراقبة الإنسان نفسه في خصائص أموره العادية ، والتّذلّل والافتقار للّه عزّ وجلّ ، واستكمال جوانب من عبادة البدن . وقد ورد : « إنّ اللّه عزّ وجلّ يباهي ملائكته عشيّة عرفة بأهل عرفة ، فيقول : انظروا إلى عبادي أتوني شعثاً غبراً » . المحظورات من اللّباس 55 - يختلف تحريم الملبس في حقّ الرّجال عن تحريم الملبس في حقّ النّساء . أ - محظورات الإحرام في الملبس في حقّ الرّجال :
56 - ضابط هذه المحظورات أنّه لا يحلّ للرّجل المحرم أن يستر جسمه كلّه أو بعضه أو عضواً منه بشيء من اللّباس المخيط أو المحيط ، كالثّياب الّتي تنسج على هيئة الجسم قطعةً واحدةً دون خياطة ، إذا لبس ذلك الثّوب ، أو استعمله في اللّبس المعتاد له . ويستر جسمه بما سوى ذلك ، فيلبس رداءً يلفّه على نصفه العلويّ ، وإزاراً يلفّه على باقي جسمه ، أو ما أشبه ذلك . والدّليل على حظر ما ذكرنا ما ثبت في الحديث المشهور عن عبد اللّه بن عمر رضي الله عنهما « أنّ رجلاً سأل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ما يلبس المحرم من الثّياب ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : لا تلبسوا القمص ، ولا العمائم ، ولا السّراويلات ، ولا البرانس ، ولا الخفاف ، إلاّ أحد لا يجد النّعلين ، فليلبس الخفّين ، وليقطعهما أسفل من الكعبين . ولا تلبسوا من الثّياب شيئاً مسّه الزّعفران ولا الورس » أخرجه السّتّة . وفي رواية عن ابن عمر زيادة « ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفّازين » أخرجها البخاريّ وأبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ . تفصيل أحكام هذه المحظورات : يشمل تحريم هذه الأصول المتّفق عليها أموراً كثيرةً نذكر منها ما يلي : لبس القباء والسّراويل ونحوهما :
57 - أوّلاً : لو وضع القباء ونحوه عليه من غير لبس أكمامه فهو محظور كاللّبس ، عند المالكيّة والشّافعيّة ، وهو المعتمد عند الحنابلة ، لنهيه عليه الصلاة والسلام عن لبسه للمحرم . رواه ابن المنذر ، ورواه النّجاد عن عليّ ، ولأنّه عادة لبسه كالقميص . وفصّل الحنفيّة فقالوا : لو ألقى القباء أو العباء ونحوهما على منكبيه من غير إدخال يديه أو إحداهما في كمّيه ولم يزرّه جاز مع الكراهة ، ولا فداء عليه ، وهو قول الخرقيّ من الحنابلة فإن زرّه أو أدخل يديه أو إحداهما في كمّيه فهو محظور ، حكمه حكم اللّبس في الجزاء . ووجهه : أنّ القباء لا يحيط بالبدن ، فلم تلزمه الفدية بوضعه على كتفيه ، إذا لم يدخل يديه كمّيه ، كالقميص يتّشح به . 58 - ثانياً : من لم يجد الإزار يجوز له أن يلبس السّراويل إلى أن يجد ما يتّزر به ، ولا فدية عليه عند الشّافعيّة والحنابلة . وفصّل الحنفيّة : فأجازوا لبس السّراويل إذا كان غير قابل لأن يشقّ ويؤتزر به ، وإلاّ يفتق ما حول السّراويل ما خلا موضع التّكّة ويتّزر به . ولو لبسه كما هو فعليه دم ، إلاّ إذا كان ضيّقاً غير قابل لذلك فيكون عليه فدية يتخيّر فيها . وعند المالكيّة قولان : قول بجواز لبس السّراويل إذا عدم الإزار ، ويفتدي ، وقول : لا يجوز ولو عدم الإزار ، وهو المعتمد .
لبس الخفّين ونحوهما :
59 - ثالثاً : من لم يجد النّعلين يقطع الخفّين أسفل من الكعبين ويلبسهما ، كما نصّ الحديث . وهو قول المذاهب الثّلاثة الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية عن أحمد ، وقول عروة بن الزّبير والثّوريّ وإسحاق بن راهويه وابن المنذر ، وهو مرويّ عن عمر بن الخطّاب ، وعبد اللّه بن عمر ، والنّخعيّ . وقال الإمام أحمد : وهو المعتمد في المذهب : لا يقطع الخفّين ، ويلبسهما كما هما . وهو قول عطاء وعكرمة وسعيد بن سالم القدّاح ، بل قال الحنابلة : « حرم قطعهما " على المحرم . استدلّ الجمهور بحديث ابن عمر السّابق في محظورات الإحرام . واستدلّ الحنابلة بحديث ابن عبّاس ، وقالوا : « إنّ زيادة القطع - أي في حديث ابن عمر - اختلف فيها ، فإن صحّت فهي بالمدينة ، لرواية أحمد عنه : « سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول على هذا المنبر " فذكره ، وخبر ابن عبّاس بعرفات ، فلو كان القطع واجباً لبيّنه للجمع العظيم الّذي لم يحضر أكثرهم ذلك بالمدينة . وقد فسّر الجمهور الكعب الّذي يقطع الخفّ أسفل منه بأنّهما العظمان النّاتئان عند مفصل السّاق والقدم . وفسّره الحنفيّة بالمفصل الّذي في وسط القدم عند معقد الشّراك . ووجهه أنّه : « لمّا كان الكعب يطلق عليه وعلى النّاتئ حمل عليه احتياطاً » . 60 - رابعاً : ألحق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بالخفّين كلّ ما ستر شيئاً من القدمين ستر إحاطة ، فلم يجيزوا لبس الخفّين المقطوعين أسفل من الكعبين إلاّ عند فقد النّعلين . ولو وجد النّعلين لم يجز له لبسهما ، ووجب عليه خلعهما إن كان قد لبسهما . وإن لبسهما لعذر كالمرض لم يأثم وعليه الفداء . وأمّا الحنفيّة فإنّهم قالوا : كلّ ما كان غير ساتر للكعبين ، اللّذين في ظاهر القدمين فهو جائز للمحرم .
تقلّد السّلاح :
61 - خامساً : حظر المالكيّة والحنابلة على المحرم تقلّد السّيف بدون حاجة ، ومثله الأسلحة المعاصرة . وأوجب عليه المالكيّة الفداء إذا تقلّده لغير حاجة ، وقالوا : هذا إذا كانت علاقته غير عريضة ، ولا متعدّدةً ، وإلاّ فالفدية لازمة على كلّ حال ، لكن لا يأثم في حال العذر . وأجاز الحنفيّة والشّافعيّة تقلّد السّيف مطلقاً ، لم يقيّدوه بالحاجة ، وكأنّهم لاحظوا أنّه ليس من اللّبس المعتاد المحظور على المحرم .
ستر الرّأس والاستظلال :
62 - سادساً : اتّفق العلماء على تحريم ستر المحرم رأسه أو بعضه ، أخذاً من تحريم لبس العمائم والبرانس ثمّ اختلفوا في ضابط هذا السّتر . فعند الحنفيّة والحنابلة يحرم ستره بما يقصد به التّغطية عادةً . وعند المالكيّة يحرم ستر المحرم رأسه بكلّ ما يعدّ ساتراً مطلقاً . وقريب منهم مذهب الشّافعيّة ، غير أنّهم قالوا : يحرم ما يعدّ ساتراً عرفاً ، فإن لم يكن ساتراً عرفاً فيحرم إن قصد به السّتر . يحرم ستر بعض الرّأس كذلك بما يعدّ ساتراً ، أو يقصد به السّتر ، على الخلاف الّذي ذكرناه . فلا يجوز له أن يعصب رأسه بعصابة ، ولا سير ، ولا يجعل عليه شيئاً يلصق به . وقد ضبطه المالكيّة بما يبلغ مساحة درهم فأكثر . وجعل الحنفيّة فيما كان أقلّ من ربع الرّأس الكراهة وصدقةً بشرط الدّوام الّذي سيأتي . واتّفقوا على جواز نحو خيط ، ويحرم عند المالكيّة وضع اليد على الرّأس ، لأنّها ساتر مطلقاً ، وكذا عند الشّافعيّة إن قصد بها ستر الرّأس ، وإلاّ فلا . ولا يحرم عند الحنفيّة والحنابلة . 63 - وأمّا وضع حمل على الرّأس : فيحرم عند الحنفيّة والحنابلة إن كان ممّا يقصد به التّغطية بحسب العادة ، كما لو حمل على رأسه ثياباً ، فإنّه يكون تغطيةً ، وإن كان ممّا لا يقصد به تغطية الرّأس عادةً لا يحرم ، كحمل طبق أو قفّة ، أو طاسة قصد بها السّتر ؛ لأنّها ليست ممّا يقصد به السّتر غالباً ، فصار كوضع اليد . وهذا متّفق مع الشّافعيّة ، لكن عند الشّافعيّة إذا حمل ما لا يعتبر ساتراً كالقفّة وقصد به السّتر حرم ولزمه الفداء . وأمّا المالكيّة فقالوا : يجوز للمحرم أن يحمل على رأسه ما لا بدّ منه من خرجه وجرابه ، وغيره ، والحال أنّه لا يجد من يحمل خرجه مثلاً لا بأجرة ولا بغيرها . فإن حمل لغيره أو للتّجارة ، فالفدية ، وقال أشهب : إلاّ أن يكون عيشه ذلك . أي إلاّ أن يكون ما ذكر من الحمل للغير أو التّجارة لعيشه . وهو معتمد في المذهب المالكيّ . 64 - والتّظلّل بما لا يلامس الرّأس ، وهو ثابت في أصل تابع له ، جائز اتّفاقاً ، كسقف الخيمة ، والبيت ، من داخلهما ، أو التّظلّل بظلّهما من الخارج ، ومثل مظلّة المحمل إذا كانت ثابتةً عليه من الأصل . وعلى ذلك يجوز ركوب السّيّارات المسقفة اتّفاقاً ؛ لأنّ سقوفها من أصل صناعتها ، فصارت كالبيت والخيمة . وإن لم يكن المظلّ ثابتاً في أصل يتبعه فجائز كذلك مطلقاً عند الحنفيّة والشّافعيّة وقول عند الحنابلة . وقال المالكيّة : لا يجوز التّظلّل بما لا يثبت في المحمل . ونحو هذا قول عند الحنابلة ، واختاره الخرقيّ ، وضبطه عندهم في هذا القول : « أنّه ستر رأسه بما يستدام ويلازمه غالباً ، فأشبه ما لو ستره بشيء يلاقيه " وفي التّظلّل بنحو ثوب يجعل على عصاً أو على أعواد ( مظلّة أو بشيء يرفعه على رأسه من الشّمس أو الرّيح ) ، أقوال ثلاثة أقربها الجواز ، للحديث الآتي في دليل الجمهور . ويجوز الاتّقاء بذلك من المطر . وأمّا البناء والخباء ونحوهما فيجوز الاتّقاء به من الحرّ والبرد والمطر . وأجاز التّظلّل بذلك الحنابلة ، وكذا الحنفيّة والشّافعيّة ، لما عرفت من أصل مذهبهم . واستدلّوا بحديث أمّ الحصين قالت : « حججت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حجّة الوداع ، فرأيت أسامة وبلالاً ، وأحدهما آخذ بخطام ناقة النّبيّ صلى الله عليه وسلم والآخر رافع ثوبه يستره من الحرّ ، حتّى رمى جمرة العقبة » . أخرجه مسلم . ولأنّ ما حلّ للحلال - كما في المغني - حلّ للمحرم إلاّ ما قام على تحريمه دليل .
ستر الوجه
65 - سابعاً : يحظر على المحرم ستر وجهه عند الحنفيّة والمالكيّة وليس بمحظور عند الشّافعيّة والحنابلة وعزاه النّوويّ في المجموع إلى الجمهور . استدلّ الحنفيّة والمالكيّة بحديث ابن عبّاس رضي الله عنهما « أنّ رجلاً وقصته راحلته وهو محرم فمات ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : اغسلوه بماء وسدر ، وكفّنوه في ثوبيه ، ولا تخمّروا رأسه ولا وجهه ، فإنّه يبعث يوم القيامة ملبّياً » أخرجه مسلم . وجه الاستدلال أنّه : « أفاد أنّ للإحرام أثراً في عدم تغطية الوجه » . واستدلّوا أيضاً من المعقول بأنّ المرأة لا تغطّي وجهها ، مع أنّ في الكشف فتنةً ، فالرّجل بطريق الأولى . واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة بما ورد من الآثار عن بعض الصّحابة بإباحة تغطية المحرم وجهه ، من فعلهم أو قولهم . روي ذلك عن عثمان بن عفّان ، وعبد الرّحمن بن عوف ، وزيد بن ثابت ، وابن الزّبير ، وسعد بن أبي وقّاص ، وجابر . وروى القاسم وطاوس والثّوريّ من غير الصّحابة . لبس القفّازين :
66 - ثامناً : يحرم على الرّجل لبس القفّازين ، باتّفاق العلماء ، كما نصّ على ذلك النّوويّ ، وهو كذلك في مصادر المذاهب .
ب - محظورات الإحرام من الملبس في حقّ النّساء :
ينحصر محظور الإحرام من الملبس في حقّ النّساء في أمرين فقط ، هما الوجه واليدان ، نفصّل بحثهما فيما يلي : ستر الوجه :
67 - اتّفق العلماء على أنّه يحرم على المرأة في الإحرام ستر وجهها ، لا خلاف بينهم في ذلك . والدّليل عليه من النّقل ما سبق في الحديث : « ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفّازين » . وضابط السّاتر هنا عند المذاهب هو كما مرّ في ستر الرّأس للرّجل . وإذا أرادت أن تحتجب بستر وجهها عن الرّجال جاز لها ذلك اتّفاقاً بين العلماء ، إلاّ إذا خشيت الفتنة أو ظنّت فإنّه يكون واجباً . والدّليل على هذا الاستثناء حديث عائشة رضي الله عنها قالت : « كان الرّكبان يمرّون بنا ونحن مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم محرمات ، فإذا حاذوا بنا سدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها ، فإذا جاوزونا كشفناه » أخرجه أبو داود . وعن فاطمة بنت المنذر قالت : كنّا نخمّر وجوهنا ونحن محرمات ، ونحن مع أسماء بنت أبي بكر الصّدّيق . أخرجه مالك والحاكم . ومرادها من هذا ستر الوجه بغير النّقاب على معنى التّستّر . وقد اشترط الحنفيّة والشّافعيّة - وهو قول عند الحنابلة - ألاّ يلامس السّاتر الوجه ، كأن تضع على رأسها تحت السّاتر خشبةً أو شيئاً يبعد السّاتر عن ملامسة وجهها " لأنّه بمنزلة الاستظلال بالمحمل " كما في الهداية . وأجاز لها المالكيّة أن تستر وجهها إذا قصدت السّتر عن أعين النّاس ، بثوب تسدله من فوق رأسها دون ربط ، ولا غرز بإبرة أو نحوها ممّا يغرز به . ومثل ذلك عند الحنابلة ، لكن عبّروا بقولهم : « إن احتاجت إلى ستره " ؛ لأنّ العلّة في السّتر المحرّم أنّه ممّا يربط ، وهذا لا يربط ، كما تشير عبارة المالكيّة .
لبس القفّازين :
68 - يحظر على المرأة المحرمة لبس القفّازين عند المالكيّة والحنابلة ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة . وذهب الحنفيّة ، وهو رواية عند الشّافعيّة ، إلى أنّه يجوز لها اللّبس بكفّيها ، كالقفّاز وغيره ، ويقتصر إحرامها على وجهها فقط . استدلّ الجمهور بحديث ابن عمر بزيادة : « ولا تنتقب المرأة المحرمة ، ولا تلبس القفّازين » . واستدلّ الحنفيّة بحديث ابن عمر قال : « إحرام المرأة في وجهها » ، وبما ورد من آثار عن الصّحابة . وكان سعد بن أبي وقّاص يلبس بناته القفّازين وهنّ محرمات . ورخّص فيه عليّ وعائشة . وهو قول عطاء وسفيان والثّوريّ . يجوز للمحرمة تغطية يدها فقط من غير شدّ ، وأن تدخل يديها في أكمامها وفي قميصها .
المحرّمات المتعلّقة ببدن المحرم
69 - ضابط هذه المحظورات كلّ شيء يرجع إلى تطييب الجسم ، أو إزالة الشّعث ، أو قضاء التّفث . والدّليل على تحريمها قوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } . ومن السّنّة قوله صلى الله عليه وسلم : « ولا تلبسوا شيئاً من الثّياب مسّه الزّعفران ولا الورس » . أخرجه السّتّة .
فتحرم الأشياء الآتية :
أ - حلق الرّأس .
ب - إزالة الشّعر من أيّ موضع من الجسم .
ج - قصّ الظّفر .
د - الأدهان .
هـ - التّطيّب .
تفصيل أحكام هذه المحظورات
حلق الرّأس :
70 - يحظر على المحرم حلق رأسه أو رأس محرم غيره . وكذا لو حلق له غيره حلالاً أو محرماً يحظر عليه تمكينه من ذلك . والتّقصير كالحلق في ذلك كلّه . وقليل الشّعر كذلك يحظر حلقه أو قطعه . وكذلك إزالة الشّعر عن الرّأس بأيّ شيء كالنّتف ، والحرق ، أو استعمال النّورة لإزالته . ومثلها أيّ علاج مزيل للشّعر . وذلك كلّه ما لم يفرغ الحالق والمحلوق له من أداء نسكهما . فإذا فرغا لا يدخلان في الحظر . ويسوغ لهما أن يحلق أحدهما للآخر ، باتّفاق المذاهب على ذلك كلّه . والدّليل هو ما سبق من نصّ الآية ، وهي وإن ذكرت الحلق فإنّ غيره ممّا ذكرنا مثله في التّرفّه ، فيقاس عليه ، ويأخذ حكمه . واختلفوا في حلق المحرم للحلال . فحظره الحنفيّة . وهو قول للمالكيّة . وأجازه المالكيّة في قول آخر والشّافعيّة والحنابلة . استدلّ الثّلاثة بأنّ المحرم حلق شعراً لا حرمة له من حيث الإحرام ، فلا يمنع ، ولا جزاء عليه . واستدلّ الحنفيّة : بأنّ المحرم كما هو ممنوع من حلق رأس نفسه ممنوع من حلق رأس غيره ، لقوله عزّ وجلّ : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . والإنسان لا يحلق رأس نفسه عادةً ، إلاّ أنّه لمّا حرم عليه حلق رأس غيره يحرم عليه حلق رأس نفسه من طريق الأولى . وسواء كان المحلوق حلالاً أو حراماً ، لما قلنا . إزالة الشّعر من أيّ موضع من الجسم :
71 - يحظر إزالة الشّعر وذلك قياساً على شعر الرّأس ، بجامع التّرفّه في كلّ منهما .
الادّهان :
73 - الدّهن مادّة دسمة من أصل حيوانيّ أو نباتيّ . وقد اختلفوا في الدّهن غير المطيّب : فالجمهور - عدا الإمام أحمد - على تفصيل بينهم - ذهبوا إلى حظر استعمال الدّهن ولو كان غير مطيّب ، كالزّيت ، لما فيه من التّرفّه والتّزيين ، وتحسين الشّعر ، وذلك ينافي الشّأن الّذي يجب أن يكون عليه المحرم من الشّعث والغبار افتقاراً وتذلّلاً للّه تعالى . وقد أوردوا في الدّهن وأشباهه الاستدلال بحديث ابن عمر ، قال : « قام رجل إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال : من الحاجّ يا رسول اللّه ؟ قال : الشّعث التّفل » . أخرجه التّرمذيّ وابن ماجه .
والشّعث : بكسر العين الوصف ، وبفتحها المصدر ، ومعناه انتشار الشّعر وتغبّره لقلّة التّعهّد . والتّفل : من التّفل ، وهو ترك الطّيب حتّى يوجد منه رائحة كريهة . فشمل بذلك ترك الدّهن . فقال الحنفيّة والمالكيّة يحظر على المحرم استعمال الدّهن في رأسه ولحيته وعامّة بدنه لما ذكرنا من عموم الاستدلال فيما سبق . وقال الشّافعيّة يحظر دهن شعر الرّأس للرّجل والمرأة واللّحية وما ألحق بهما كالشّارب والعنفقة فقط ، حتّى لو كان أصلع جاز دهن رأسه ، أمّا إذا كانا محلوقين فيحظر دهنهما ؛ لأنّه يزيّنهما إذا نبتا . ويباح له دهن ما عدا الرّأس واللّحية وما ألحق بهما ، ولا يحظر ، ظاهراً كان أو باطناً ، ويباح سائر شعور بدنه ، ويباح له أكل الدّهن من غير أن يصيب اللّحية أو الشّارب أو العنفقة . واستدلّوا بأنّه ليس في الدّهن طيب ولا تزيين ، فلا يحرم إلاّ فيما ذكرنا ؛ لأنّه به يحصل التّزيين . وإنّ الّذي جاء به الشّرع استعمال الطّيب ، وهذا ليس منه ، فلا يثبت تحريمه . وقال الحنابلة - على المعتمد عندهم من إباحته في كلّ البدن : « إنّ وجوب الفدية يحتاج إلى دليل ، ولا دليل فيه من نصّ ولا إجماع . ولا يصحّ قياسه على الطّيب ، فإنّ الطّيب يوجب الفدية وإن لم يزل شيئاً ، ويستوي فيه الرّأس وغيره ، والدّهن بخلافه » .
هـ - التّطيّب :
74 - الطّيب عند الحنفيّة : ما له رائحة مستلذّة ويتّخذ منه الطّيب . وعند الشّافعيّة : ما يقصد منه رائحته غالباً ، ولو مع غيره . ويشترط في الطّيب الّذي يحكم بتحريمه أن يكون معظم الغرض منه الطّيب ، واتّخاذ الطّيب منه ، أو يظهر فيه هذا الغرض . وعند الحنابلة : ما تطيب رائحته ويتّخذ للشّمّ . وقسّمه المالكيّة إلى قسمين : مذكّر ومؤنّث . فالمذكّر : هو ما يخفى أثره أي تعلّقه بما مسّه من ثوب أو جسد ويظهر ريحه . والمراد به أنواع الرّياحين : كالرّيحان ، والورد ، والياسمين . وأمّا المياه الّتي تعتصر ممّا ذكر فليس من قبيل المؤنّث . والمؤنّث : هو ما يظهر لونه وأثره ، أي تعلّقه بما مسّه مسّاً شديداً ، كالمسك ، والكافور ، والزّعفران . فالمؤنّث يكره شمّه ، واستصحابه ، ومكث في المكان الّذي هو فيه ، ويحرم منه . والمذكّر يكره شمّه ، وأمّا مسّه من غير شمّ واستصحابه ومكث بمكان هو فيه فهو جائز . تفصيل أحكام التّطيّب للمحرم : تطييب الثّوب :
75 - وهو أصل في الباب ، للتّنصيص عليه في الحديث السّابق ، ومن هنا قالوا : المحرم ممنوع من استعمال الطّيب في إزاره ، أو ردائه ، وجميع ثيابه ، وفراشه ، ونعله حتّى لو علق بنعله طيب وجب أن يبادر لنزعه ، ولا يضع عليه ثوباً مسّه الورس أو الزّعفران ، أو نحوهما من صبغ له طيب . كذلك لا يجوز له حمل طيب تفوح رائحته ، أو شدّه بطرف ثوبه ، كالمسك ، بخلاف شدّ عود أو صندل . أمّا الثّوب الّذي فيه طيب قبل الإحرام فلا يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة لبسه . ويجوز عند الشّافعيّة والحنابلة تطييب ثوب الإحرام عند إرادة الإحرام . ولا يضرّ بقاء الرّائحة في الثّوب بعد الإحرام ، كما لا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في البدن اتّفاقاً ، قياساً للثّوب على البدن ، لكن نصّوا على أنّه لو نزع ثوب الإحرام أو سقط عنه فلا يجوز له أن يعود إلى لبسه ما دامت الرّائحة فيه ، بل يزيل منه الرّائحة ثمّ يلبسه .
تطييب البدن :
76 - يحظر على المحرم استعمال الطّيب في بدنه ، وعليه الفدية ، ولو للتّداوي . ولا يخضّب رأسه أو لحيته أو شيئاً من جسمه ، ولا يغسله بما فيه طيب ، ومنه عند الحنفيّة الخطميّ والحنّاء ، على ما مرّ من الخلاف فيهما . 77 - وأكل الطّيب الخالص أو شربه لا يحلّ للمحرم اتّفاقاً بين الأئمّة . أمّا إذا خلط الطّيب بطعام قبل الطّبخ ، وطبخه معه ، فلا شيء عليه ، قليلاً كان أو كثيراً ، عند الحنفيّة والمالكيّة . وكذا عند الحنفيّة لو خلطه بطعام مطبوخ بعد طبخه فإنّه يجوز للمحرم أكله . أمّا إذا خلطه بطعام غير مطبوخ : فإن كان الطّعام أكثر فلا شيء ، ولا فدية إن لم توجد الرّائحة ، وإن وجدت معه الرّائحة الطّيّبة يكره أكله عند الحنفيّة . وإن كان الطّيب أكثر وجب في أكله الدّم سواء ظهرت رائحته أو لم تظهر . وأمّا عند المالكيّة فكلّ طعام خلط بطيب من غير أن يطبخ الطّيب معه فهو محظور في كلّ الصّور ، وفيه الفداء . أمّا إن خلط الطّيب بمشروب ، كماء الورد وغيره ، وجب فيه الجزاء ، قليلاً كان الطّيب أو كثيراً ، عند الحنفيّة والمالكيّة . وقال الشّافعيّة والحنابلة : إذا خلط الطّيب بغيره من طعام أو شراب ، ولم يظهر له ريح ولا طعم ، فلا حرمة ولا فدية ، وإلاّ فهو حرام وفيه الفدية .
شمّ الطّيب :
78 - شمّ الطّيب دون مسّ يكره عند الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، ولا جزاء فيه عندهم . أمّا الحنابلة فقالوا : يحرم تعمّد شمّ الطّيب ، ويجب فيه الفداء ، كالمسك والكافور ، ونحوهما ممّا يتطيّب بشمّه .
الصّيد وما يتعلّق به
79 - تعريف الصّيد لغةً : الصّيد لغةً : مصدر بمعنى ، الاصطياد ، والقنص ، وبمعنى المصيد ، وكلّ من المعنيين داخل فيما يحظر بالإحرام . تعريف الصّيد اصطلاحاً :
80 - الصّيد عند الحنفيّة هو الحيوان البرّيّ الممتنع عن أخذه بقوائمه ، أو جناحيه ، المتوحّش في أصل الخلقة . وعند المالكيّة هو الحيوان البرّيّ المتوحّش في أصل الخلقة . وعند الشّافعيّة والحنابلة هو الحيوان البرّيّ المتوحّش المأكول اللّحم .
أدلّة تحريم الصّيد :
81 - وقد ثبت تحريم الصّيد على المحرم بالكتاب والسّنّة والإجماع : أمّا الكتاب : فقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم } . وقال عزّ من قائل : { وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . وكلّ منهما نصّ قاطع في الموضوع . وأمّا السّنّة فمنها حديث أبي قتادة « حين أحرم أصحابه ولم يحرم ، ورأى حمار وحش . وفي الحديث فأسرجت فرسي ، وأخذت رمحي ، ثمّ ركبت ، فسقط منّي سوطي ، فقلت لأصحابي - وكانوا محرمين - ناولوني السّوط . فقالوا : واللّه لا نعينك عليه بشيء ، فنزلت ، فتناولته ثمّ ركبت . وفي رواية أخرى : فنزلوا ، فأكلوا من لحمها ، وقالوا : أنأكل لحم صيد ونحن محرمون ؟ فحملنا ما بقي من لحم الأتان ، فلمّا أتوا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قالوا : يا رسول اللّه إنّا كنّا أحرمنا ، وقد كان أبو قتادة لم يحرم ، فرأينا حمر وحش ، فحمل عليها أبو قتادة فعقر منها أتاناً ، فنزلنا ، فأكلنا من لحمها ، ثمّ قلنا : أنأكل لحم صيد ونحن محرمون ، ؟ فحملنا ما بقي من لحمها . قال : أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها أو أشار إليها ؟ قالوا : لا قال : فكلوا ما بقي من لحمها » متّفق عليه . وأمّا الإجماع فقد حكاه النّوويّ وابن قدامة كما ذكر ابن قدامة إجماع أهل العلم على وجوب الجزاء بقتله .
إباحة صيد البحر :
82 - وأمّا صيد البحر : فحلال للحلال وللمحرم بالنّصّ ، والإجماع : أمّا النّصّ فقوله تعالى : { أحلّ لكم صيد البحر وطعامه متاعاً لكم وللسّيّارة وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . والإجماع حكاه النّوويّ وأبو بكر الجصّاص .
أحكام تحريم الصّيد على المحرم :
83 - يشمل تحريم الصّيد على المحرم أموراً نصنّفها فيما يلي : تحريم قتل الصّيد ، لصريح النّصوص الواردة في ذلك . وتحريم إيذاء الصّيد ، أو الاستيلاء عليه . ومن ذلك : كسر قوائم الصّيد ، أو كسر جناحه ، أو شيّ بيضه أو كسره ، أو نتف ريشه ، أو جزّ شعره ، أو تنفير الصّيد ، أو أخذه ، أو دوام إمساكه ، أو التّسبّب في ذلك كلّه أو في شيء منه بدليل الآية : { وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . والآية تفيد تحريم سائر أفعالنا في الصّيد في حال الإحرام » . والدّليل من القياس : « أنّ ما منع من إتلافه لحقّ الغير منع من إتلاف أجزائه ، كالآدميّ ، فإن أتلف جزءاً منه ضمنه بالجزاء . . . » . وللقياس على حظر تنفير صيد الحرم ، لقوله صلى الله عليه وسلم في مكّة : « إنّ هذا البلد حرّمه اللّه ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفّر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلاّ من عرّفها » فإذا حرم تنفير صيد الحرم وجب أن يحرم في الإحرام .
84 - وتحرم المساعدة على الصّيد بأيّ وجه من الوجوه : مثل الدّلالة عليه ، أو الإشارة ، أو إعارة سكّين ، أو مناولة سوط . وكذا يحرم الأمر بقتل الصّيد اتّفاقاً في ذلك . والدّليل عليه حديث أبي قتادة السّابق .
تحريم تملّك الصّيد
85 - يحرم تملّك الصّيد ابتداءً ، بأيّ طريق من طرق التّملّك ، فلا يجوز بيعه ، أو شراؤه ، أو قبوله هبةً ، أو وصيّةً ، أو صدقةً ، أو إقالةً . والدّليل على تحريم ذلك الآية : { وحرّم عليكم صيد البرّ ما دمتم حرماً } . قال في فتح القدير : « أضاف التّحريم إلى العين ، فيكون ساقط التّقوّم في حقّه ، كالخمر . وأنت علمت أنّ إضافة التّحريم إلى العين تفيد منع سائر الانتفاعات » . ويستدلّ أيضاً من السّنّة بحديث الصّعب بن جثّامة « أنّه أهدى إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حمار وحش ، فردّه عليه ، فلمّا رأى ما في وجهه قال : إنّا لم نردّه عليك إلاّ أنّا حرم » . متّفق عليه . ويستدلّ بإجماع العلماء .
تحريم الانتفاع بشيء من الصّيد
86 - يحرم على المحرم أكل لحمه ، وحلبه ، وأكل بيضه ، وشيّه . وذلك لعموم الأدلّة الّتي سبقت في تحريم تملّك الصّيد ؛ ولأنّ الانتفاع فرع من الملك ، فإذا حرّم الملك لم يبق محلّ لأثره . 87 - إذا صاد الحلال صيداً فهل يحلّ للمحرم أكله ؟ في المسألة مذاهب : المذهب الأوّل : لا يحلّ للمحرم الصّيد أصلاً ، سواء أمر به أم لا ، وسواء أعان على صيده أم لا ، وسواء أصاده الحلال له أم لم يصده له . وهذا قول طائفة من أهل العلم ، منهم من الصّحابة : عليّ وابن عمر وابن عبّاس رضي الله عنهم . وكره ذلك طاوس وجابر بن زيد وسفيان الثّوريّ . المذهب الثّاني : ما صاده الحلال للمحرم ومن أجله فلا يجوز للمحرم أكله ، فأمّا ما لم يصده من أجل المحرم بل صاده لنفسه أو لحلال آخر فلا يحرم على المحرم أكله . وهذا مذهب الجمهور ، المالكيّة والشّافعيّة الحنابلة . وهو قول إسحاق بن راهويه ، وأبي ثور . وقال ابن عبد البرّ : وهو الصّحيح عن عثمان في هذا الباب . إلاّ أنّ المالكيّة قالوا : ما صيد للمحرم هو ميتة على كلّ أحد ، المحرم المذبوح له وغيره ، وعلى المحرم الجزاء إن علم أنّه صيد لمحرم ولو غيره ، وأكل . وإن لم يعلم وأكل منه فلا جزاء عليه . ووافقهم الحنابلة في لزوم الجزاء ، وفصّلوا فأوجبوه كاملاً إن أكله كلّه ، وقسطه إن أكل بعضه ، لكنّهم لم يجعلوه حراماً إلاّ على من ذبح له . وقال الشّافعيّة - على ما هو الأصحّ الجديد في المذهب - لا جزاء في الأكل . ولم يعمّموا الحرمة على غير من صيد له الصّيد . المذهب الثّالث : يحلّ للمحرم أكل ما صاده الحلال من الصّيد ، ما لم يأمر به ، أو تكون منه إعانة عليه أو إشارة أو دلالة ، وهو مذهب الحنفيّة . وقال ابن المنذر : « كان عمر بن الخطّاب وأبو هريرة ومجاهد وسعيد بن جبير يقولون : للمحرم أكل ما صاده الحلال ، وروي ذلك عن الزّبير بن العوّام ، وبه قال أصحاب الرّأي » . استدلّ أصحاب المذهب الأوّل القائلون بتحريم أكل لحم الصّيد على المحرم مطلقاً بإطلاق الكتاب والسّنّة فيما سبق . واستدلّ الجمهور أصحاب المذهب الثّاني بأنّ ما صاده الحلال يحلّ أكله للمحرم بشرط ألاّ يكون صيد لأجله بأدلّة من السّنّة منها : حديث أبي قتادة السّابق فقد أحلّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم للمحرمين أكل ما صاده الحلال . واستدلّ الجمهور أيضاً بحديث جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول : « صيد البرّ لكم حلال ، ما لم تصيدوه أو يصد لكم » . أخرجه أبو داود والتّرمذيّ والنّسائيّ وصحّحه الحاكم . وقد تكلّم في سنده ، لكن رجّح النّوويّ صحّته . واستدلّ أصحاب المذهب الثّالث الحنفيّة ومن معهم - القائلون : يحلّ للمحرم أن يأكل من صيد صاده الحلال ، وذبحه ، ما لم يكن من المحرم دلالة ولا أمر للحلال به ، وإن صاده الحلال لأجل المحرم - بأدلّة كثيرة من السّنّة والآثار . منها حديث أبي قتادة السّابق ، في صيده حمار وحش وهو حلال وأكل منه الصّحابة وأقرّهم النّبيّ صلى الله عليه وسلم منه . وجه دلالة الحديث : « أنّهم لمّا سألوه عليه الصلاة والسلام لم يجب بحلّه لهم حتّى سألهم عن موانع الحلّ ، أكانت موجودةً أم لا ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : أمنكم أحد أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها ؟ قالوا : لا . قال : فكلوا إذن » . فلو كان من الموانع أن يصاد لهم لنظمه في سلك ما يسأل عنه منها في التّفحّص عن الموانع ، ليجيب بالحكم عند خلوّه منها . وهذا المعنى كالصّريح في نفي كون الاصطياد للمحرم مانعاً ، فيعارض حديث جابر ، ويقدّم عليه ، لقوّة ثبوته .
صيد الحرم :
88 - المراد بالحرم هنا مكّة والمنطقة المحرّمة المحيطة بها . وللحرم أحكام خاصّة ، منها تحريم صيده على الحلال كما يحرم على المحرم أيضاً ، وذلك باتّفاق العلماء ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ هذا البلد حرّمه اللّه ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفّر صيده ، ولا تلتقط لقطته إلاّ من عرّفها » . متّفق عليه . فقرّر العلماء من تحريم الصّيد على الحلال في الحرم أحكاماً نحو تحريم الصّيد على المحرم ، وتفرّعت لذلك فروع في المذاهب لا نطيل ببسطها ( ر : حرم . )
ما يستثنى من تحريم قتل الصّيد :
89 - أ - اتّفق على جواز قتل الحيوانات التّالية في الحلّ والحرم ، للمحرم وغيره ، سواء ابتدأت بأذًى أو لا ، ولا جزاء على من قتلها - وهي : الغراب ، والحدأة ، والذّئب ، والحيّة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور ، لما ورد من الأحاديث في إباحة قتلها : روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « خمس من الدّوابّ ليس على المحرم في قتلهنّ جناح : الغراب ، والحدأة ، والعقرب ، والفأرة ، والكلب العقور » . متّفق عليه . وقد ورد ذكر الغراب في الحديث مطلقاً ، ومقيّداً ، ففسّروه بالغراب الأبقع الّذي يأكل الجيف . قال الحافظ ابن حجر في فتح الباري : « اتّفق العلماء على إخراج الغراب الصّغير الّذي يأكل الحبّ من ذلك ، ويقال له : غراب الزّرع » . ا هـ . يعني أنّه لا يدخل في إباحة قتل الصّيد ، بل يحرم صيده . إلاّ أنّ المالكيّة فصلّوا فقالوا : يجوز قتل الفأرة والحيّة والعقرب مطلقاً ، صغيرةً أو كبيرةً ، بدأت بالأذيّة أم لا . وأمّا الغراب والحدأة ففي قتل صغيرهما - وهو ما لم يصل لحدّ الإيذاء - خلاف عند المالكيّة : قول بالجواز نظراً للفظ « غراب " الواقع في الحديث ، فإنّه مطلق يصدق على الكبير والصّغير : وقول بالمنع نظراً للعلّة في جواز القتل ، وهي الإيذاء ، وذلك منتف في الصّغير . وعلى القول بالمنع ، فلا جزاء فيه ، مراعاةً للقول الآخر . ثمّ قرّر المالكيّة شرطاً لجواز قتل ما يقبل التّذكية ، كالغراب ، والحدأة ، والفأرة ، والذّئب ، وهو أن يكون قتلها بغير نيّة الذّكاة ، بل لدفع شرّها ، فإن قتل بقصد الذّكاة ، فلا يجوز ، وفيه الجزاء . 90 - ب - يجوز قتل كلّ مؤذ بطبعه ممّا لم تنصّ عليه الأحاديث ، مثل الأسد ، والنّمر ، والفهد ، وسائر السّباع . بل صرّح الشّافعيّة والحنابلة أنّه مستحبّ بإطلاق دون اشتراط شيء . وكذا الحكم عندهم فيما سبق استحباب قتل تلك المؤذيات . وأمّا المالكيّة فعندهم التّفصيل السّابق بالنّسبة للكبار والصّغار ، واشتراط عدم قصد الذّكاة بقتلها . واشترطوا في الطّير الّذي لم ينصّ عليه أن يخاف منه على نفس أو مال ، ولا يندفع إلاّ بقتله . وأمّا الحنفيّة فقالوا : السّباع ونحوها كالبازي والصّقر ، معلّماً وغير معلّم ، صيود لا يحلّ قتلها . إلاّ إذا صالت على المحرم ، فإن صالت جاز له قتلها ولا جزاء عليه . وفي رواية عندهم جواز قتلها مطلقاً . استدلّ الجمهور على تعميم الحكم في كلّ مؤذ بأدلّة : منها : حديث أبي سعيد الخدريّ رضي الله عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يقتل المحرم السّبع العادي ، والكلب العقور ، والفأرة ، والعقرب ، والحدأة والغراب . » . أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وابن ماجه . وقال التّرمذيّ : هذا حديث حسن ، والعمل على هذا عند أهل العلم ، قالوا : « المحرم يقتل السّبع العادي » . واستدلّوا بما ورد في الأحاديث المتّفق عليها من الأمر بقتل " الكلب العقور » . قال الإمام مالك : « إنّ كلّ ما عقر النّاس وعدا عليهم وأخافهم مثل الأسد ، والنّمر ، والفهد ، والذّئب ، فهو الكلب العقور » .
91 - ج - ألحق الشّافعيّة والحنابلة بما يقتل في الحرم والإحرام كلّ ما لا يؤكل لحمه .
الهوامّ والحشرات
92 - د - لا تدخل الهوامّ والحشرات في تحريم الصّيد عند أصحاب المذاهب الثّلاثة : الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . أمّا عند الحنفيّة : فلأنّها ليست ممتنعةً ، وقد ذكروا في تعريف الصّيد أنّه الممتنع . وعلى ذلك فلا جزاء في قتلها عند الحنفيّة ، لكن لا يحلّ عندهم قتل ما لا يؤذي ، وإن لم يجب فيه الجزاء . وأمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فلا تدخل في الصّيد ، لكونهم اشترطوا فيه أن يكون مأكولاً . وهذه غير مأكولة ، وقد عرفت تفصيل حكمها عندهم في المسألة السّابقة . وأمّا المالكيّة فقالوا : يحظر قتل ما لا يؤذي من الحشرات بالإحرام والحرم ، وفيه الجزاء عندهم . لكن قالوا في الوزغ : لا يجوز للمحرم قتله ، ويجوز للحلال قتله في الحرم ، " إذ لو تركها الحلال بالحرم لكثرت في البيوت وحصل منها الضّرر » .
الجماع ودواعيه :
93 - يحرم على المحرم باتّفاق العلماء وإجماع الأمّة الجماع ودواعيه الفعليّة أو القوليّة وقضاء الشّهوة بأيّ طريق . والجماع أشدّ المحظورات حظراً ؛ لأنّه يؤدّي إلى فساد النّسك . والدّليل على تحريم ذلك النّصّ القرآنيّ : { فمن فرض فيهنّ الحجّ فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجّ } . فسّر الرّفث بأنّه ما قيل عند النّساء من ذكر الجماع وقول الفحش . وثبت ذلك عن ابن عبّاس فتكون الآية دليلاً على تحريم الجماع على المحرم بطريق دلالة النّصّ ، أي من باب الأولى ؛ لأنّه إذا حرم ما دون الجماع ، كان تحريمه معلوماً بطريق الأولى . وفسّر الرّفث أيضاً بذكر إتيان النّساء ، الرّجال والنّساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم . ونقل ذلك عن ابن عمر وبعض التّابعين . فتدلّ الآية على حرمة الجماع لدخوله في عمومها . كما فسّر بالجماع أيضاً ، ونسب ذلك إلى جماعة من السّلف منهم ابن عبّاس وابن عمر ، فتكون الآية نصّاً فيه .
الفسوق والجدال :
94 - الفسوق : هو الخروج عن الطّاعة . وهو حرام في كلّ حال ، وفي حال الإحرام آكد وأغلظ ، لذلك نصّ عليه في الكتاب الكريم : { ولا فسوق ولا جدال في الحجّ } . وقد اختار جمهور المفسّرين والمحقّقون أنّ المراد به في الآية إتيان معاصي اللّه تعالى . وهذا هو المراد والصّواب ، لما هو معلوم من استعمال القرآن والسّنّة والشّرع لكلمة الفسق بمعنى الخروج عن الطّاعة . والجدال : المخاصمة . وقد قال جمهور المفسّرين المتقدّمين : أن تماري صاحبك حتّى تغضبه . وهذا يقتضي النّهي عن كلّ مساوئ الأخلاق والمعاملات . لكن ما يحتاج إليه من الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر لا يدخل في حظر الجدال .
الفصل السّادس مكروهات الإحرام
95 - وهي أمور يكون فاعلها مسيئاً ، لكن لا يلزمه جزاء لو فعلها . وفي بيانها تنبيه هامّ ، وإزاحة لما قد يقع من اشتباه .
96 - فمنها غسل الرّأس والجسد واللّحية بالسّدر ونحوه ، عند الحنفيّة ؛ لأنّه يقتل الهوامّ ويليّن الشّعر .
97 - ومشط الرّأس بقوّة ، وحكّه ، وكذا حكّ الجسد حكّاً شديداً ، وذلك لأنّه يؤدّي إلى قطع الشّعر أو نتفه . أمّا لو فعل ذلك برفق فإنّه مباح ، لذلك قالوا : يحكّ ببطون أنامله . قال النّوويّ : « وأمّا حكّ المحرم رأسه فلا أعلم خلافاً في إباحته بل هو جائز » . 98 - والتّزيّن ، صرّح بكراهته الحنفيّة وعبارات غيرهم تدلّ عليه . قال الحنفيّة في الاكتحال بكحل غير مطيّب لقصد الزّينة إنّه مكروه ، فإن اكتحل لا لقصد الزّينة بكحل غير مطيّب بل للتّداوي أو لتقوية الباصرة فمباح . أمّا المالكيّة فالاكتحال بغير مطيّب محظور عندهم ، وفيه الفداء ، إلاّ لضرورة فلا فداء فيه . ومذهب الشّافعيّة والحنابلة الاكتحال بما لا طيب فيه ، إن لم يكن فيه زينة ، غير مكروه ، كالكحل الأبيض ، وإن كان فيه زينة كالإثمد فإنّه يكره ، لكن لا يلزم فيه فدية . فإن اكتحل بما فيه زينة لحاجة كالرّمد فلا كراهة . أمّا الاكتحال بكحل مطيّب فإنّه محظور اتّفاقاً على الرّجال والنّساء .
ما يباح في الإحرام
99 - الأمور الّتي تباح في الإحرام كلّ ما ليس محظوراً ولا مكروهاً ، لأنّ الأصل في الأشياء الإباحة . ونذكر منها ما يلي :
100 - الاغتسال بالماء القراح ، وماء الصّابون ونحوه .
101 - ولبس الخاتم جائز عند الحنفيّة أو الشّافعيّة والحنابلة للرّجال والنّساء . ولا يجوز عند المالكيّة للرّجل المحرم لبس الخاتم ، وفيه الفداء . وأمّا المرأة : فيجوز لها لبس المحيط لسائر أعضائها ، ما عدا الوجه والكفّين عند الثّلاثة ، وما عدا الوجه فقط عند الحنفيّة . وشدّ الهميان والمنطقة جائز عند الحنفيّة بإطلاق وكذا الشّافعيّة . وقيّد المالكيّة والحنابلة إباحة شدّهما بالحاجة لنفقته .
102 - والنّظر في المرآة مباح عند الحنفيّة والشّافعيّة مطلقاً . وعند الحنابلة جائز لحاجة لا لزينة ، وأمّا المالكيّة فيكره عندهم النّظر في المرآة ، خيفة أن يرى شعثاً فيزيله .
103 - والسّواك نصّ على إباحته الحنفيّة وليس هو محلّ خلاف .
104 - ونزع الظّفر المكسور مباح باتّفاق الأئمّة ، وصرّح الشّافعيّة بألاّ يجاوز القسم المكسور ، وهذا لا يختلف فيه .
105 - والفصد والحجامة بلا نزع شعر جائزة عند فقهاء المذاهب الأربعة . ومثلهما الختان . لكن تحفّظ المالكيّة بالنّسبة للفصد ، فقالوا : يجوز الفصد لحاجة إن لم يعصب العضو المفصود ، وإن لم يكن له حاجة للفصد فهو مكروه ، وإن عصبه ففيه الفدية .
106 - والارتداء والاتّزار بمخيط أو محيط أي أن يجعل الثّوب المخيط أو المحيط رداءً أو إزاراً ، دون لبس . وكذا إلقاؤه على جسمه كلّ ذلك مباح عندهم جميعاً .
107 - وذبح الإبل والبقر والحيوانات الأهليّة مباح وذلك لأنّها لا تدخل في تحريم الصّيد ولا محرّمات الإحرام باتّفاقهم .
الفصل السّابع
في سنن الإحرام
وهي أمور يثاب فاعلها ، ويكون تاركها مسيئاً ولا يلزمه بالتّرك شيء .
وجملة ذلك أربعة :
أوّلاً : الاغتسال :
108 - وهو سنّة عند الأئمّة الأربعة لما ورد فيه من الأحاديث ، كحديث زيد بن ثابت : « أنّه رأى النّبيّ صلى الله عليه وسلم تجرّد لإهلاله واغتسل » . أخرجه التّرمذيّ وحسّنه . وقد اتّفقوا على أنّ هذا الغسل سنّة لكلّ محرم صغير أو كبير ، ذكر أو أنثى ، ويطلب أيضاً من المرأة الحائض والنّفساء في حال الحيض والنّفاس . فعن ابن عبّاس مرفوعاً إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ النّفساء والحائض تغتسل وتحرم وتقضي المناسك كلّها ، غير أن لا تطوف بالبيت حتّى تطهر » أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وحسّنه واللّفظ للتّرمذيّ . ووقت هذا الاغتسال موسّع عند الحنفيّة في الأظهر من مذهبهم . وهو مذهب الحنابلة والشّافعيّة . وثمرة الخلاف أنّه لو اغتسل ثمّ أحدث ثمّ توضّأ ينال فضيلة السّنّة ، ولا يضرّه ذلك . وألحق الشّافعيّة هذا الغسل بغسل الجمعة ، فدلّ على أنّه موسّع ، كما هو حكم غسل الجمعة . أمّا المالكيّة فقيّدوا سنّيّة الغسل بأن يكون متّصلاً بالإحرام .
ثانياً : التّطيّب
109 - وهو من محظورات الإحرام ، لكنّه سنّ استعداداً للإحرام ، عند الجمهور ، وكرهه مالك . التّطيّب في البدن :
110 - ودليل سنّيّته ما روت عائشة رضي الله عنها قالت : « كنت أطيّب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يحرم ، ولحلّه قبل أن يطوف بالبيت » . متّفق عليه . وعنها رضي الله عنها أيضاً قالت : « كأنّي أنظر إلى وبيص الطّيب في مفارق رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وهو محرم » . متّفق عليه . والصّحيح عندهم جواز التّطيّب بما يبقى جرمه بعد الإحرام ، لتصريح حديث عائشة الثّاني . وأمّا المالكيّة فحظروا بقاء جرم الطّيب ولم يجوّزوا بقاء رائحته . التّطيّب في ثوب الإحرام :
111 - أمّا تطييب الثّوب قبل الإحرام فمنعه الجمهور وأجازه الشّافعيّ في القول المعتمد . فلا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في الثّوب بعد الإحرام ، كما لا يضرّ بقاء الرّائحة الطّيّبة في البدن اتّفاقاً ، قياساً للثّوب على البدن . لكن نصّوا على أنّه لو نزع ثوب الإحرام . أو سقط عنه . فلا يجوز له أن يعود إلى لبسه ما دامت الرّائحة فيه ، بل يزيل منه الرّائحة ثمّ يلبسه . وذهب الحنفيّة إلى عدم جواز التّطيّب في الثّوب للإحرام ، ولا يجوز أن يلبس ثوب إحرام مطيّباً لأنّه بذلك يكون مستعملاً للطّيب في إحرامه باستعمال الثّوب ، وهو محظور على المحرم . وذهب المالكيّة إلى أنّه إن تطيّب قبل الإحرام يجب إزالته ، سواء في ذلك بدنه أو ثوبه ، فإن بقي في البدن أو الثّوب بعد الإحرام شيء من جرم الطّيب الّذي تطيّب به قبل الإحرام فإنّ الفدية تكون واجبةً ، وأمّا إن كان الباقي في الثّوب رائحته ، فلا يجب نزع الثّوب لكن يكره استدامته ، ولا فدية . وأمّا اللّون ففيه قولان عند المالكيّة . وهذا كلّه في الأثر اليسير ، وأمّا الأثر الكثير ففيه الفدية . استدلّ المالكيّة بحديث يعلى بن أميّة قال : « أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجل متضمّخ بطيب وعليه جبّة ، فقال : يا رسول اللّه : كيف ترى في رجل أحرم بعمرة في جبّة بعدما تضمّخ بطيب ؟ فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : أمّا الطّيب الّذي بك فاغسله ثلاث مرّات ، وأمّا الجبّة فانزعها ، ثمّ اصنع في عمرتك ما تصنع في حجّك » . متّفق عليه . فاستدلالهم بهذا الحديث لحظر الطّيب في الإحرام في البدن والثّوب .
ثالثاً : صلاة الإحرام
112 - يسنّ للمحرم أن يصلّي ركعتين قبل الإحرام باتّفاق الأئمّة لحديث ابن عمر رضي الله عنهما : « كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يركع بذي الحليفة ركعتين » . أخرجه مسلم . ولا يصلّيهما في الوقت المكروه ، اتّفاقاً بين الأئمّة ، إلاّ من أحرم بالحرم عند الشّافعيّة ، فإنّه يصلّيهما ولو في الوقت المكروه عندهم . وتجزئ الصّلاة المكتوبة عن سنّة الإحرام اتّفاقاً كذلك ، كما في تحيّة المسجد .
رابعاً : التّلبية :
113 - التّلبية سنّة في الإحرام متّفق على سنّيّتها إجمالاً ، فيما عدا الخلاف في حكم قرنها بالنّيّة هل هي فرض في الإحرام مع النّيّة ، أو واجب أو سنّة ؟ ( ف . . . ) فاتّفقوا فيما عدا ذلك على سنّيّتها للمحرم ، وعلى استحباب الإكثار منها ، وسنّيّة رفع الصّوت بها . 114 - والأفضل أن يلبّي عقب صلاة الإحرام ناوياً الحجّ أو العمرة ، على ما قاله الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . وهو قول عند الشّافعيّة ، وفي قول - وهو الأصحّ - يلبّي إذا ركب . ولا خلاف في جواز ذلك كلّه لورود الرّواية به . عن ابن عمر رضي الله عنهما « أنّه صلى الله عليه وسلم أهلّ حين استوت به راحلته قائمةً » متّفق عليه . 115 - وأمّا انتهاء التّلبية : فهو للحاجّ ابتداء رمي جمرة العقبة يوم النّحر عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، ويقطعها عند الطّواف والسّعي للاشتغال بالأذكار والأدعية الواردة فيها . وأمّا المالكيّة فعندهم قولان : الأوّل : يستمرّ في التّلبية حتّى يبلغ مكّة ، فيقطع التّلبية حتّى يطوف ويسعى ، ثمّ يعاودها حتّى تزول الشّمس من يوم عرفة ويروح إلى مصلاّها . الثّاني : يستمرّ في التّلبية حتّى الابتداء بالطّواف والشّروع فيه .
116 - وأمّا تلبية إحرام العمرة فالجمهور أنّها تنتهي ببدء الطّواف باستلام الرّكن . وقال المالكيّة : المعتمر الآفاقيّ يلبّي حتّى الحرم ، لا إلى رؤية بيوت مكّة ، والمعتمر من الجعرانة والتّنعيم يلبّي إلى دخول بيوت مكّة ، لقرب المسافة . يدلّ للجمهور حديث ابن عبّاس عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « يلبّي المعتمر حتّى يستلم الحجر » . أخرجه أبو داود والتّرمذيّ وصحّحه . واستدلّ مالك بما رواه عن نافع عن ابن عمر من فعله في المناسك قال : وكان يترك التّلبية في العمرة إذا دخل الحرم .
كيفيّة الإحرام المستحبّة :
117 - من أراد أن يحرم بحجّ أو عمرة أو بهما معاً يستحبّ له إزالة التّفث عن جسمه ، وأن يتزيّن على الصّورة المألوفة الّتي لا تتنافى مع الشّريعة وآدابها ، وأن يغتسل بنيّة الإحرام ، وإذا كان جنباً فيكفيه غسل واحد بنيّة إزالة الجنابة والإحرام ، وأن يتطيّب . والأولى أن يتطيّب بطيب لا يبقى جرمه ، على التّفصيل والخلاف السّابق ، ثمّ يلبس ثوبين نظيفين جديدين أو غسيلين ، على ألاّ يكونا مصبوغين بصبغ له رائحة . وأمّا المرأة فتلبس ما يستر عورتها إلاّ وجهها وكفّيها . ثمّ يصلّي ركعتين بنيّة الإحرام . فإذا أتمّهما نوى بقلبه وقال بلسانه : اللّهمّ إنّي أريد الحجّ فيسّره لي ، وتقبّله منّي . ثمّ يلبّي . وإذا كان يريد العمرة فيقول : اللّهمّ إنّي أريد العمرة ، فيسّرها لي ، وتقبّلها منّي . ثمّ يلبّي . وإذا كان قارناً فيستحبّ أن يقدّم ذكر العمرة على ذكر الحجّ حتّى لا يشتبه أنّه أدخل العمرة على الحجّ . ويقول : اللّهمّ إنّي أريد الحجّ والعمرة . . . إلخ ، ويلبّي . فيصير بذلك محرماً ، وتجري عليه . أحكام الإحرام الّتي تقدّم بيانها . وإذا كان يؤدّي الحجّ والعمرة عن غيره فلا بدّ أن يعيّن ذلك بقلبه ولسانه . ويسنّ له الإكثار من التّلبية . وأفضل صيغها الصّيغة المأثورة : « لبّيك اللّهمّ لبّيك ، لبّيك لا شريك لك لبّيك ، إنّ الحمد والنّعمة لك والملك ، لا شريك لك » . ويستحبّ ألاّ ينقص منها . قال الطّحاويّ والقرطبيّ : « أجمع العلماء على هذه التّلبية » . وأمّا الزّيادة على التّلبية ، فإن كانت من المأثور فمستحبّ . وما ليس مرويّاً فجائز أو حسن ، على تفصيل يذكر في موضع آخر ( ر : تلبية )
موجب الإحرام :
118 - إذا أحرم شخص بنسك وجب عليه إتمامه ولو كان نفلاً في الأصل . ويلزمه جميع ما يجب على المحرم فعله . ولا يتحلّل من إحرامه إلاّ بعد أداء هذا النّسك ، على التّفصيل المتقدّم . ويتّصل بهذا بيان أحكام ما يبطل الحجّ وما يفسده وما يمنع المضيّ فيه . 119 - أمّا ما يبطله فهو الرّدّة ، فإذا ارتدّ بطل نسكه ولا يمضي فيه . 120 - أمّا ما يفسد النّسك فهو الجماع ، وعليه أن يمضي في نسكه ثمّ القضاء من قابل إن كان حجّاً على ما يأتي بيانه . وإن كان عمرةً فعليه أن يمضي أيضاً فيها ثمّ يقضيها ولو في عامه على التّفصيل . 121 - أمّا ما يمنع الاستمرار في النّسك ، وهو الإحصار والفوات ، فإنّ أحكام ذلك ترد في موضع آخر ( ر : إحصار . فوات ) .
الفصل الثّامن
التّحلّل من الإحرام
المراد بالتّحلّل هنا الخروج من الإحرام وحلّ ما كان محظوراً عليه وهو محرم .
وهو قسمان : تحلّل أصغر ، وتحلّل أكبر .
التّحلّل الأصغر
122 - يكون التّحلّل الأصغر بفعل أمرين من ثلاثة : رمي جمرة العقبة ، والنّحر ، والحلق أو التّقصير . ويحلّ بهذا التّحلّل لبس الثّياب وكلّ شيء ما عدا النّساء بالإجماع ، والطّيب عند البعض ، والصّيد عند المالكيّة . والأصل في هذا الخلاف ما ورد عن السّيّدة « عائشة رضي الله عنها أنّها ضمّخت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالمسك قبل أن يطوف طواف الإفاضة » . وقد جاء في بعض الأحاديث : أنّه « إذا رمى جمرة العقبة فقد حلّ له كلّ شيء إلاّ النّساء والطّيب » ، لما أخرجه مالك في الموطّأ عن عمر رضي الله عنه أنّه خطب النّاس بعرفة ، وعلّمهم أمر الحجّ ، وقال لهم فيما قال : إذا جئتم فمن رمى الجمرة فقد حلّ له ما حرّم على الحاجّ إلاّ النّساء والطّيب . وأمّا ما ذهب إليه مالك من تحريم الصّيد كذلك فإنّه أخذ بعموم قوله تعالى : { لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم } ووجه الاستدلال بالآية أنّ الحاجّ يعتبر محرماً ما لم يطف طواف الإفاضة .
التّحلّل الأكبر :
123 - هو التّحلّل الّذي تحلّ به جميع محظورات الإحرام دون استثناء . ويبدأ الوقت الّذي تصحّ أفعال التّحلّل الأكبر فيه عند الحنفيّة والمالكيّة من طلوع فجر يوم النّحر ، وعند الشّافعيّة والحنابلة من منتصف ليلة النّحر ، وذلك تابع لاختلافهم فيما يحصل به التّحلّل الأكبر . أمّا نهاية وقته فبحسب ما يتحلّل به ، فهو لا ينتهي إلاّ بفعل ما يتحلّل به عند الحنفيّة والمالكيّة ؛ لأنّه لا يفوت ، كما ستعلم ، وهو الطّواف . وأمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فكذلك إن توقّف التّحلّل الأكبر على الطّواف أو الحلق ، أو السّعي . أمّا الرّمي فإنّه مؤقّت بغروب شمس آخر أيّام التّشريق ، فإذا توقّف عليه التّحلّل ، ولم يرم حتّى آخر أيّام التّشريق ، فات وقت الرّمي بالكلّيّة ، فيحلّ عند الحنابلة بمجرّد فوات الوقت ، وإن بقي عليه الفداء مقابل ذلك . وهذا قول عند الشّافعيّة ، لكن الأصحّ عندهم أنّه بفوات وقت الرّمي ينتقل التّحلّل إلى كفّارته ، فلا يحلّ حتّى يؤدّيها .
ما يحصل به التّحلّل الأكبر :
124 - يحصل التّحلّل الأكبر عند الحنفيّة والمالكيّة بطواف الإفاضة ، بشرط الحلق هنا باتّفاق الطّرفين . فلو أفاض ولم يحلق لم يتحلّل حتّى يحلق عند المذهبين . زاد المالكيّة : أن يكون الطّواف مسبوقاً بالسّعي ، وإلاّ لا يحلّ به حتّى يسعى ، لأنّ السّعي ركن عند المالكيّة . وقال الحنفيّة : لا مدخل للسّعي في التّحلّل ؛ لأنّه واجب مستقلّ . وعند الشّافعيّة والحنابلة يحصل التّحلّل الأكبر باستكمال أفعال التّحلّل الّتي ذكرناها : ثلاثة على القول بأنّ الحلق نسك ، واثنان على القول الآخر غير المشهور أنّه ليس بنسك . وحصول التّحلّل الأكبر باستكمال الأفعال الثّلاثة : رمي جمرة العقبة ، والحلق ، وطواف الإفاضة المسبوق بالسّعي ، محلّ اتّفاق العلماء ، وبه تحلّ جميع محظورات الإحرام بالإجماع . 125 - ثمّ إذا حصل التّحلّل الأكبر في اليوم الأوّل لجوازه مثلاً فلا يعني انتهاء كلّ أعمال الحجّ ، بل يجب عليه الإتيان بها ، وإن كان حلالاً ، وقد ضربوا لهذا مثلاً لطيفاً يبيّن حسن موقع هذه الأعمال بعد التّحلّلين ، نحو قول الرّمليّ : « ويجب عليه الإتيان بما بقي من أعمال الحجّ ، وهو الرّمي والمبيت ، مع أنّه غير محرم ، كما يخرج بالتّسليمة الأولى من صلاته ، ويطلب منه الثّانية . "
التّحلّل من إحرام العمرة :
126 - اتّفقوا على أنّ للعمرة تحلّلاً واحداً يحلّ به للمحرم جميع محظورات الإحرام . ويحصل هذا التّحلّل بالحلق أو التّقصير باتّفاق المذاهب على اختلافهم في حكمه في مناسك العمرة .
ما يرفع الإحرام
127 - يرفع الإحرام ، بتحويله عمّا نواه المحرم ، أمران :
1 - فسخ الإحرام .
2 - رفض الإحرام .
ذهب الحنابلة خلافاً للجمهور إلى أنّ من كان مفرداً أو قارناً ( إذا لم يكن قد ساق الهدي ) يستحبّ له إذا طاف وسعى أن يفسخ نيّته بالحجّ ، وينوي عمرةً مفردةً ، ثمّ يهلّ بالحجّ . وهذا مبنيّ عندهم على أفضليّة التّمتّع . واستدلّ الحنابلة بما روى ابن عمر « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمّا قدم مكّة قال للنّاس : من كان منكم أهدى فإنّه لا يحلّ من شيء حرم منه حتّى يقضي حجّه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصّفا والمروة ، وليقصّر ، وليحلل ، ثمّ ليهلّ بالحجّ ، وليهد » . أخرجه البخاريّ ومسلم . واستدلّ الجمهور على منع فسخ الحجّ بأدلّة منها قوله تعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } فقد أمر اللّه تعالى بإكمال أفعال الحجّ وأفعال العمرة لمن شرع في أيّ منهما ، والفسخ ضدّ الإتمام ، فلا يكون مشروعاً ، ومنها الأحاديث الّتي شرع بها الإفراد والقران ، وقد سبق ذكرها .
رفض الإحرام
128 - رفض الإحرام : هو ترك المضيّ في النّسك بزعم التّحلّل منه قبل إتمامه . ورفض الإحرام لغو باتّفاق العلماء ، ولا يبطل به الإحرام ، ولا يخرج به عن أحكامه .
ما يبطل الإحرام :
129 - يبطل الإحرام بأمر واحد فقط ، متّفق عليه بين الجميع : هو الرّدّة عن الإسلام ، عياذاً باللّه تعالى وذلك لأنّهم اتّفقوا على كون الإسلام شرطاً لصحّة النّسك . ويتفرّع على بطلان الإحرام أنّه لا يمضي في متابعة أعمال ما أحرم به ، خلافاً للفاسد . وأمّا إذا أسلم وتاب عن ردّته فلا يمضي أيضاً ؛ لبطلان إحرامه . الفصل التّاسع
أحكام خاصّة في الإحرام
130 - وهي أحكام مستثناة من عموم أحكام الإحرام العامّة ، بسبب وضع خاصّ لبعض الأشخاص ، أو بسبب طروء بعض الطّوارئ ، كما في السّرد التّالي : أ - إحرام المرأة .
ب - إحرام الصّبيّ .
ج - إحرام العبد والأمة .
د - إحرام المغمى عليه .
هـ - نسيان ما أحرم به . وقد تقدّم بعض ذلك ، وندرس ما بقي منها ، كلّاً منها وحده . إحرام الصّبيّ مشروعيّة حجّ الصّبيّ وصحّة إحرامه :
131 - اتّفق العلماء على صحّة حجّ الصّبيّ ، وعمرته ، وأنّ ما يؤدّيه من عبادة أو من حجّ أو من عمرة يكون تطوّعاً ، فإذا بلغ وجب عليه حجّة فرض الإسلام . وإذا كان أداء الصّبيّ للنّسك صحيحاً كان إحرامه صحيحاً قطعاً . صفة إحرام الصّبيّ :
132 - ينقسم الصّبيّ بالنّسبة إلى مرحلة صباه إلى قسمين : صبيّ مميّز ، وصبيّ غير مميّز . وضابط المميّز : هو الّذي يفهم الخطاب ويردّ الجواب ، دون اعتبار للسّنّ . 133 - أمّا الصّبيّ المميّز : فعند الحنفيّة والمالكيّة ينعقد إحرامه بنفسه ، ولا تصحّ النّيابة عنه في الإحرام ، لعدم جواز النّيابة عند عدم الضّرورة . ولا تتوقّف صحّة إحرامه على إذن الوليّ ، بل يصحّ إحرامه بإذن الوليّ ، وبغير إذن الوليّ ، لكن إذا أحرم بغير إذن الوليّ فقد صرّح المالكيّة أنّ للوليّ تحليله ، وله إجازة فعله وإبقاؤه على إحرامه بحسب ما يرى من المصلحة . فإن كان يرتجي بلوغه فالأولى تحليله ليحرم بالفرض بعد بلوغه . فإن أحرم بإذنه لم يكن له تحليله ، أمّا إذا أراد الوليّ الرّجوع عن الإذن قبل الإحرام فقال الحطّاب : « الظّاهر أنّ له الرّجوع ، لا سيّما إذا كان لمصلحته » . ولم يصرّح بذلك الحنفيّة . ولعلّه يدخل في الإحصار بمنع السّلطان عندهم . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه لا ينعقد إحرامه إلاّ بإذن وليّه ، بل قال الشّافعيّة : يصحّ إحرام وليّه عنه ، على الأصحّ عندهم في المسألتين . أمّا عند الحنابلة فلا يحرم عنه وليّه لعدم الدّليل . ويفعل الصّبيّ الصّغير المميّز كلّ ما يستطيع أن يفعله بنفسه ، فإن قدر على الطّواف علّمه فطاف ، وإلاّ طيف به ، وكذلك السّعي وسائر المناسك . ولا تجوز النّيابة عنه فيما قدر عليه بنفسه ، وكلّ ما لا يقدر الصّبيّ على أدائه ينوب عنه وليّه في أدائه . 134 - وأمّا الصّبيّ غير المميّز - ومثله المجنون جنوناً مطبقاً - فيحرم عنه وليّه ، بأن يقول : نويت إدخال هذا الصّبيّ في حرمات الحجّ ، مثلاً . وليس المراد أنّ الوليّ يحرم في نفسه ويقصد النّيابة عن الصّبيّ . ولا ينعقد إحرام الصّبيّ غير المميّز بنفسه اتّفاقاً . 135 - ويؤدّي الوليّ بالصّبيّ غير المميّز المناسك ، فيجرّده من المخيط والمحيط إن كان ذكراً ، ويكشف وجه الأنثى وكفّيها كالكبيرة على ما سبق فيه ويطوف به ويسعى ، ويقف به بعرفة والمزدلفة ، ويرمي عنه ، ويجنّبه محظورات الإحرام ، وهكذا . لكن لا يصلّي عنه ركعتي الإحرام أو الطّواف ، بل تسقطان عنه عند الحنفيّة والمالكيّة ، أمّا عند الشّافعيّة فيصلّيهما الوليّ عنه ، وهو ظاهر كلام الحنابلة . إلاّ أنّ المالكيّة خفّفوا في الإحرام والتّجرّد من الثّياب ، فقالوا : « يحرم الوليّ بالصّغير غير المميّز ، ويجرّده من ثيابه قرب مكّة ، لخوف المشقّة وحصول الضّرر . فإن كانت المشقّة أو الضّرر يتحقّق بتجريده قرب مكّة أحرم بغير تجريده ، كما هو الظّاهر من كلامهم - ويفدي » .
بلوغ الصّبيّ في أثناء النّسك :
136 - إن بلغ الصّبيّ الحلم بعدما أحرم ، فمضى في نسكه على إحرامه الأوّل ، لم يجزه حجّه عن فرض الإسلام عند الحنفيّة والمالكيّة . وقال الحنفيّة : لو جدّد الصّبيّ الإحرام قبل الوقوف بعرفة ، ونوى حجّة الإسلام ، جاز عن حجّة الإسلام ؛ لأنّ إحرام الصّبيّ غير لازم لعدم أهليّته للّزوم عليه . وقال المالكيّة لا يرتفض إحرامه السّابق ، ولا يجزيه إرداف إحرام عليه ، ولا ينقلب إحرامه عن الفرض ، لأنّه اختلّ شرط الوقوع فرضاً ، وهو ثبوت الحرّيّة والتّكليف ، وقت الإحرام . وهذا لم يكن مكلّفاً وقت الإحرام ، فلا يقع نسكه هذا إلاّ نفلاً . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا : إن بلغ الصّبيّ في أثناء الحجّ ينظر إلى حاله من الوقوف فينقسم إلى قسمين : الأوّل : أن يبلغ بعد خروج وقت الوقوف ، أو قبل خروجه وبعد مفارقة عرفات لكن لم يعد إليها بعد البلوغ ، فهذا لا يجزيه حجّه عن حجّة الإسلام . الثّاني : أن يبلغ في حال الوقوف ، أو يبلغ بعد وقوفه بعرفة ، فيعود ويقف بها في وقت الوقوف ، أي قبل طلوع فجر يوم النّحر ، فهذا يجزيه حجّه عن حجّة الإسلام . لكن يجب عليه إعادة السّعي إن كان سعى عقب طواف القدوم قبل البلوغ ، ولا دم عليه . أمّا في العمرة : فالطّواف في العمرة كالوقوف بعرفة في الحجّ ، إذا بلغ قبل طواف العمرة أجزأه عن عمرة الإسلام ، عند من يقول بوجوبها .
إحرام المغمى عليه
137 - للمغمى عليه حالان : أن يغمى عليه قبل الإحرام ، أو يغمى عليه بعد الإحرام .
أوّلاً : من أغمي عليه قبل الإحرام :
138 - في المذاهب الثّلاثة المالكيّ والشّافعيّ والحنبليّ : لا إحرام له ، ولا يحرم عنه أحد من رفقته ولا غيرهم ، سواء أمرهم بذلك قبل أن يغمى عليه أو لم يأمرهم ، ولو خيف فوات الحجّ عليه ؛ لأنّ الإغماء مظنّة عدم الطّول ، ويرجى زواله عن قرب غالباً . وذهب الحنفيّة إلى جواز الإحرام عن المغمى عليه ، على تفصيل بين الإمام وصاحبيه :
أ - من توجّه إلى البيت الحرام يريد الحجّ فأغمي عليه قبل الإحرام ، أو نام وهو مريض فنوى عنه ولبّى أحد رفقته ، وكذا من غير رفقته وكان قد أمرهم بالإحرام عنه قبل الإغماء ، صحّ الإحرام عنه ، ويصير المغمى عليه محرماً بنيّة رفيقه وتلبيته عنه اتّفاقاً بين أئمّة الحنفيّة . ويجزيه عن حجّة الإسلام .
ب - إن أحرم عنه بعض رفقته أو غيرهم بلا أمر سابق على الإغماء صحّ كذلك عند الإمام أبي حنيفة ، ولم يصحّ عند صاحبيه أبي يوسف ومحمّد .
فروع
139 - أ - إن أفاق المغمى عليه بعدما أحرم عنه غيره ، فهو عند الحنفيّة محرم يتابع النّسك . وعند غيرهم لا عبرة بإحرام غيره عنه ، فإن كان بحيث يدرك الوقوف بعرفة أحرم بالحجّ ، وأدّى المناسك ، وإلاّ فإنّه يحرم بعمرة . ولا ينطبق عليه حكم الفوات عند الثّلاثة ؛ لأنّه لم يكن محرماً .
140 - ب - لا يجب على من أحرم عن المغمى عليه تجريده من المخيط وإلباسه غير المخيط لصحّة الإحرام ؛ لأنّ ذلك ليس هو الإحرام ، بل كفّ عن بعض محظورات الإحرام . حتّى إذا أفاق وجب عليه أفعال النّسك ، والكفّ عن المحظورات .
141 - ج - لو ارتكب المغمى عليه الّذي أحرم عنه غيره محظوراً من محرّمات الإحرام لزمه موجبه ، أي كفّارته ، وإن كان غير قاصد للمحظور . ولا يلزم الرّفيق الّذي أحرم عنه ؛ لأنّ هذا الرّفيق أحرم عن نفسه بطريق الأصالة ، وعن المغمى عليه بطريق النّيابة ، كالوليّ يحرم عن الصّغير . فينتقل إحرامه إليه ، فيصير محرماً كما لو نوى هو ولبّى ، ولذا لو ارتكب هو أيضاً - أي الوليّ - محظوراً لزمه جزاء واحد لإحرام نفسه ، ولا شيء عليه من جهة إهلاله عن غيره عند الحنفيّة كما سبق .
142 - د - إذا لم يفق المغمى عليه فهل يشهد به رفقته المشاهد ، على أساس الإحرام عنه الّذي قال به الحنفيّة ؟ هناك قولان عند الحنفيّة : قيل : لا يجب على الرّفقاء أن يشهدوا به المشاهد ، كالطّواف والوقوف والرّمي والوقوف بمزدلفة ، بل مباشرتهم عنه تجزيه ، لكن إحضاره أولى ، على ما صرّح به بعض أصحاب هذا القول . وهذا الأصحّ على ما أفاد في ردّ المحتار المعتمد في الفتوى في مذهب الحنفيّة ، لكن لا بدّ للإجزاء عنه من نيّة الوقوف عنه ، والطّواف عنه بعد طواف النّائب عن نفسه ، وهكذا .
ثانياً : من أغمي عليه بعد إحرامه بنفسه :
143 - الإغماء بعد الإحرام لا يؤثّر في صحّته ، باتّفاق الأئمّة . وعلى ذلك فهذا حمله متعيّن على رفقائه ، ولا سيّما للوقوف بعرفة ، فإنّه يصحّ ولو كان نائماً أو مغمًى عليه ، على تفصيل في أداء المناسك له يطلب في موضعه من مصطلح « حجّ " ومصطلح « عمرة » .
نسيان ما أحرم به
144 - من أحرم بشيء معيّن ، مثل حجّ ، أو عمرة ، أو قران ، ثمّ نسي ما أحرم به ، لزمه حجّ وعمرة . ويعمل عمل القران في المذاهب الثّلاثة : الحنفيّ والمالكيّ والشّافعيّ . وذهب الحنابلة إلى أنّه يصرف إحرامه إلى أيّ نسك شاء ، ويندب صرفه إلى العمرة خاصّةً .
الفصل العاشر
في كفّارات محظورات الإحرام
تعريفها :
145 - المراد بالكفّارة هنا : الجزاء الّذي يجب على من ارتكب شيئاً من محظورات الإحرام . وهذه الأجزية أنواع :
1 - الفدية : حيث أطلقت فالمراد الفدية المخيّرة الّتي نصّ عليها القرآن في قوله تعالى : { ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } .
2 - الهدي : وربّما عبّر عنه بالدّم . وكلّ موضع أطلق فيه الدّم أو الهدي تجزئ فيه الشّاة ، إلاّ من جامع بعد الوقوف بعرفة فعليه بدنة ( أي من الإبل ) اتّفاقاً . أمّا من جامع قبل الوقوف فإنّه يفسد حجّه اتّفاقاً وعليه بدنة عند الثّلاثة ، وقال الحنفيّة : عليه شاة ، ويمضي في حجّه ، ويقضيه .
3 - الصّدقة : حيث أطلق وجوب " صدقة " عند الحنفيّة من غير بيان مقدارها فإنّه يجب نصف صاع من برّ ( قمح ) أو صاع من شعير أو تمر .
4 - الصّيام : يجب الصّيام على التّخيير في الفدية ، وهو ثلاثة أيّام . ويجب في مقابلة الإطعام .
5 - الضّمان بالمثل : في جزاء الصّيد ، على ما سيأتي .
146 - يستوي إحرام العمرة مع إحرام الحجّ في عقوبة الجناية عليه . إلاّ من جامع في العمرة قبل أداء ركنها ، فتفسد اتّفاقاً كما ذكرنا ، وعليه شاة عند الحنفيّة والحنابلة ، وقال الشّافعيّة والمالكيّة : عليه بدنة . المبحث الأوّل في كفّارة محظورات التّرفّه .
147 - يتناول هذا البحث كفّارة محظورات اللّبس ، وتغطية الرّأس ، والادّهان ، والتّطيّب ، وحلق الشّعر أو إزالته أو قطعة من الرّأس أو غيره ، وقلم الظّفر . أصل كفّارة محظورات التّرفّه .
148 - اتّفقوا على أنّ من فعل من المحظورات شيئاً لعذر مرض أو دفع أذًى فإنّ عليه الفدية ، يتخيّر فيها : إمّا أن يذبح هدياً ، أو يتصدّق بإطعام ستّة مساكين ، أو يصوم ثلاثة أيّام ، لقوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فمن كان منكم مريضاً أو به أذًى من رأسه ففدية من صيام أو صدقة أو نسك } . ولما ورد عن كعب بن عجرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال له حين رأى هوامّ رأسه : « أيؤذيك هوامّ رأسك ؟ قال : قلت : نعم . قال : فاحلق ، وصم ثلاثة أيّام ، أو أطعم ستّة مساكين ، أو انسك نسيكةً » متّفق عليه . 149 - وأمّا العامد الّذي لا عذر له فقد اختلفوا فيه : فذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يتخيّر ، كالمعذور ، وعليه إثم ما فعله . واستدلّوا بالآية . وذهب الحنفيّة إلى أنّ العامد لا يتخيّر ، بل يجب عليه الدّم عيناً أو الصّدقة عيناً ، حسب جنايته . واستدلّوا على ذلك بالأدلّة السّابقة . وجه الاستدلال : أنّ التّخيير شرع فيها عند العذر من مرض أو أذًى ، وغير المعذور جنايته أغلظ ، فتتغلّظ عقوبته ، وذلك بنفي التّخيير في حقّه . 150 - وأمّا المعذور بغير الأذى والمرض : كالنّاسي والجاهل بالحكم والمكره والنّائم والمغمى عليه ، فحكمه عند الحنفيّة المالكيّة حكم العامد ، على ما سبق . ووجه حكمه هذا : أنّ الارتفاق حصل له ، وعدم الاختيار أسقط الإثم عنه ، كما وجّهه الحنفيّة . وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى التّمييز بين جناية فيها إتلاف ، وهي هنا الحلق أو قصّ الشّعر أو قلم الظّفر ، وجناية ليس فيها إتلاف ، وهي : اللّبس وتغطية الرّأس ، والادّهان والتّطيّب . فأوجبوا الفدية في الإتلاف ؛ لأنّه يستوي عمده وسهوه ، ولم يوجبوا فديةً في غير الإتلاف ، بل أسقطوا الكفّارة عن صاحب أيّ عذر من هذه الأعذار .
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
تفصيل كفّارة محظورات التّرفّه
151 - الأصل في هذا التّفصيل هو القياس على الأصل السّابق المنصوص عليه في الكتاب والسّنّة بخصوص الحلق ، فقاس الفقهاء عليه سائر مسائل الفصل بجامع اشتراك الجميع في العلّة وهي التّرفّه ، أو الارتفاق . وقد اختلفوا في بعض التّفاصيل ، في القدر الّذي يوجب الفدية من المحظور ، وفي تفاوت الجزاء بتفاوت الجناية ، وذلك بسبب اختلاف أنظارهم في المقدار الّذي يحصل به التّرفّه والارتفاق الّذي هو علّة وجوب الفدية ، فالحنفيّة اشترطوا كمال الجناية ، فلم يوجبوا الدّم أو الفداء إلاّ لمقادير تحقّق ذلك في نظرهم ، وغيرهم مال إلى اعتبار الفعل نفسه جنايةً . وتفصيل المذاهب في كلّ محظور من محظورات التّرفّه فيما يلي :
أوّلاً : اللّباس :
152 - من لبس شيئاً من محظور اللّبس ، أو ارتكب تغطية الرّأس ، أو غير ذلك ، فقال فقهاء الحنفيّة : إن استدام ذلك نهاراً كاملاً أو ليلةً وجب عليه الدّم . وكذا إذا غطّت المرأة وجهها بساتر يلامس بشرتها على ما سبق من التّفصيل فيه ( ف 67 ) وإن كان أقلّ من يوم أو أقلّ من ليلة فعليه صدقة عند الحنفيّة . وفي أقلّ من ساعة عرفيّة قبضة من برّ ، وهي مقدار ما يحمل الكفّ . ومذهب الشّافعيّ وأحمد أنّه يجب الفداء بمجرّد اللّبس ، ولو لم يستمرّ زمناً ؛ لأنّ الارتفاق يحصل بالاشتمال على الثّوب ، ويحصل محظور الإحرام ، فلا يتقيّد وجوب الفدية بالزّمن . وعند المالكيّة يشترط لوجوب الفدية من لبس الثّوب أو الخفّ أو غيرهما من محظورات اللّبس أن ينتفع به من حرّ أو برد ، فإن لم ينتفع به من حرّ أو برد بأن لبس قميصاً رقيقاً لا يقي حرّاً ولا برداً يجب الفداء إن امتدّ لبسه مدّةً كاليوم .
ثانياً : التّطيّب :
153 - يجب الفداء عند الثّلاثة المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة لأيّ تطيّب ممّا سبق بيان حظره ، دون تقييد بأن يطيّب عضواً كاملاً ، أو مقداراً من الثّوب معيّناً . وفرّق الحنفيّة بين تطيّب وتطيّب ، وفصّلوا : أمّا في البدن فقالوا : تجب شاة إن طيّب المحرم عضواً كاملاً مثل الرّأس واليد والسّاق ، أو ما يبلغ عضواً كاملاً . والبدن كلّه كعضو واحد إن اتّحد مجلس التّطيّب ، وإن تفرّق المجلس فلكلّ طيب كفّارة ، وتجب إزالة الطّيب ، فلو ذبح ولم يزله لزمه دم آخر . ووجه وجوب الشّاة : أنّ الجناية تتكامل بتكامل الارتفاق ، وذلك في العضو الكامل ، فيترتّب كمال الموجب . وإن طيّب أقلّ من عضو فعليه الصّدقة لقصور الجناية ، إلاّ أن يكون الطّيب كثيراً فعليه دم . ولم يشرط الحنفيّة استمرار الطّيب لوجوب الجزاء ، بل يجب بمجرّد التّطيّب . وأمّا تطييب الثّوب : فيجب فيه الدّم عند الحنفيّة بشرطين : أوّلهما : أن يكون كثيراً ، وهو ما يصلح أن يغطّي مساحةً تزيد على شبر في شبر . والثّاني : أن يستمرّ نهاراً ، أو ليلةً . فإن اختلّ أحد الشّرطين وجبت الصّدقة ، وإن اختلّ الشّرطان معاً وجب التّصدّق بقبضة من قمح .
154 - لو طيّب محرم محرماً أو حلالاً فلا شيء على الفاعل ما لم يمسّ الطّيب ، عند الحنفيّة . وعلى الطّرف الآخر الدّم إن كان محرماً وإن كان مكرهاً . وعند الثّلاثة التّفصيل الآتي في مسألة الحلق ( ف 157 ) لكن عليه في حال لا تلزمه فيه الفدية ألاّ يستديمه ، بل يبادر بإزالته . فإن تراخى لزمه الفداء .
ثالثاً : الحلق أو التّقصير :
155 - مذهب الحنفيّة أنّ من حلق ربع رأسه أو ربع لحيته يجب عليه دم ؛ لأنّ الرّبع يقوم مقام الكلّ ، فيجب فيه الفداء الّذي دلّت عليه الآية الكريمة . ولو حلق رأسه ولحيته وإبطيه وكلّ بدنه في مجلس واحد فعليه دم واحد ، وإن اختلفت المجالس فلكلّ مجلس موجبه . وإن حلق خصلةً من شعره أقلّ من الرّبع يجب عليه الصّدقة ، أمّا إن سقط من رأسه أو لحيته عند الوضوء أو الحكّ ثلاث شعرات فعليه بكلّ شعرة صدقة ( كفّ من طعام ) . وإن حلق رقبته كلّها ، أو إبطيه ، أو أحدهما ، يجب الدّم . أمّا إن حلق بعض واحد منهما ، وإن كثر . فتجب الصّدقة ؛ لأنّ حلق جزء عضو من هذه الأشياء ليس ارتفاقاً كاملاً ، لعدم جريان العادة بحلق البعض فيها ، فلا يجب إلاّ الصّدقة . وقرّر الحنفيّة أنّ في حلق الشّارب حكومة عدل ، بأن ينظر إلى هذا المأخوذ كم يكون من ربع اللّحية ، فيجب عليه بحسابه من الطّعام . وذهب المالكيّة إلى أنّه إن أخذ عشر شعرات فأقلّ ، ولم يقصد إزالة الأذى ، يجب عليه أن يتصدّق بحفنة قمح ، وإن أزالها بقصد إماطة الأذى تجب الفدية ، ولو كانت شعرةً واحدةً . وتجب الفدية أيضاً إذا أزال أكثر من عشر شعرات لأيّ سبب كان . وشعر البدن كلّه سواء . وذهب الشّافعيّ وأحمد إلى أنّه تجب الفدية لو حلق ثلاث شعرات فأكثر ، كما تجب لو حلق جميع الرّأس ، بل جميع البدن ، بشرط اتّحاد المجلس ، أي الزّمان والمكان . ولو حلق شعرةً أو شعرتين ففي شعرة مدّ ، وفي شعرتين مدّان من القمح ، وسواء في ذلك كلّه شعر الرّأس وشعر البدن .
156 - أمّا إذا سقط شعر المحرم بنفسه من غير صنع آدميّ فلا فدية باتّفاق المذاهب .
157 - إذا حلق محرم رأس غيره ، أو حلق غيره رأسه - ومحلّ المسألة إذا كان الحلق لغير التّحلّل - فعلى المحرم المحلوق الدّم عند الحنفيّة ، ولو كان كارهاً . وأمّا غيرهم فعندهم تفصيل في حقّ الحالق والمحلوق . ولهذه المسألة ثلاث صور تقتضيها القسمة العقليّة نبيّن حكمها فيما يلي : الصّورة الأولى : أن يكونا محرمين ، فعلى المحرم الحالق صدقة عند الحنفيّة ، سواء حلق بأمر المحلوق أو بغير أمره طائعاً أو مكرهاً ، ما لم يكن حلقه في أوان الحلق . فإن كان فيه ، فلا شيء عليه . وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إن حلق له بغير رضاه فالفدية على الحالق ، وإن كان برضاه فعلى المحلوق فدية ، وعلى الحالق فدية ، وقيل حفنة . الصّورة الثّانية : أن يكون الحالق محرماً والمحلوق حلالاً ، فكذلك على الحالق المحرم صدقة عند الحنفيّة . وقال المالكيّة : يفتدي الحالق . وعندهم في تفسيره قولان : قول أنّه يطعم قدر حفنة ، أي ملء يد واحدة من طعام ، وقول أنّ عليه الفدية . وقال الشّافعيّة والحنابلة : لا فدية على الحالق ، ولو حلق له المحرم بغير إذنه ، إذ لا حرمة لشعره في حقّ الإحرام . الصّورة الثّالثة : أن يكون الحالق حلالاً والمحلوق محرماً ، فعلى الحالق صدقة عند الحنفيّة . وقال المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة : إن كان بإذن المحرم أو عدم ممانعته فعلى المحرم الفدية . وإن كان الحلق بغير إذن المحرم فعلى الحلال الفدية .
رابعاً : تقليم الأظفار :
158 - قال الحنفيّة : إذا قصّ أظفار يديه ورجليه جميعها في مجلس واحد تجب عليه شاة . وكذا إذا قصّ أظفار يد واحدة ، أو رجل واحدة ، تجب شاة . وإن قصّ أقلّ من خمسة أظفار من يد واحدة ، أو خمسةً متفرّقةً من أظفاره ، تجب عليه صدقة لكلّ ظفر . ومذهب المالكيّة أنّه إن قلم ظفراً واحداً عبثاً أو ترفّهاً ، لا لإماطة أذًى ، ولا لكسره ، يجب عليه صدقة : حفنة من طعام . فإن فعل ذلك لإماطة الأذى أو الوسخ ففيه فدية . وإن قلّمه لكسره فلا شيء عليه إذا تأذّى منه . ويقتصر على ما كسر منه . وإن قلّم ظفرين في مجلس واحد ففدية ، ولو لم يقصد إماطة الأذى ، وإن قطع واحداً بعد آخر فإن كانا في فور ففدية ، وإلاّ ففي كلّ ظفر حفنة . وعند الشّافعيّة والحنابلة : يجب الفداء في تقليم ثلاثة أظفار فصاعداً في مجلس واحد ، ويجب في الظّفر والظّفرين ما يجب في الشّعرتين .
خامساً : قتل القمل :
159 - وهو ملحق بهذا المبحث ؛ لأنّ فيه إزالة الأذى ، لذا يختصّ البحث بما على بدن المحرم أو ثيابه . فقد ذهب الشّافعيّة إلى ندب قتل المحرم لقمل بدنه وثيابه لأنّه من الحيوانات المؤذية ، وقد صحّ أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بقتل الفواسق الخمس في الحلّ والحرم ، وألحقوا بها كلّ حيوان مؤذ . أمّا قمل شعر الرّأس واللّحية خاصّةً فيكره تنزيهاً تعرّضه له لئلاّ ينتتف الشّعر . ومقتضى تعليلهم الكراهة بالخوف من انتتاف الشّعر زوال هذه الكراهة فيما لو قتله بوسيلة لا يخشى معها الانتتاف كما إذا رشّه بدواء مطهّر مثلاً . وعلى أيّة حال فإذا قتل قمل شعر رأسه ولحيته لم يلزمه شيء لكن يستحبّ له أن يفدي الواحدة منه ولو بلقمة . وفي رواية عن أحمد إباحة قتل القمل مطلقاً دون تفريق بين قمل الرّأس وغيره لأنّه من أكثر الهوامّ أذًى فأبيح قتله كالبراغيث ، وسائر ما يؤذي . وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « خمس فواسق يقتلن في الحلّ والحرم » يدلّ بمعناه على إباحة قتل كلّ ما يؤذي بني آدم في أنفسهم وأموالهم . وفي رواية أخرى عنه حرمة قتله ، إلاّ أنّه لا جزاء فيه إذ لا قيمة له وليس بصيد . وذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى وجوب الصّدقة ولا ريب أنّه إذا آذاه بالفعل ، ولم يمكنه التّخلّص منه إلاّ بقتله ، جاز له قتله طبقاً لقاعدة : « الضّرر يزال » ، وقاعدة : « الضّرورات تبيح المحظورات » .
المبحث الثّاني
في قتل الصّيد وما يتعلّق به
160 - أجمع العلماء على وجوب الجزاء في قتل الصّيد ، استدلالاً بقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تقتلوا الصّيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمّداً فجزاء مثل ما قتل من النّعم يحكم به ذوا عدل منكم هدياً بالغ الكعبة أو كفّارة طعام مساكين ، أو عدل ذلك صياماً ليذوق وبال أمره عفا اللّه عمّا سلف ومن عاد فينتقم اللّه منه واللّه عزيز ذو انتقام } .
أوّلاً : قتل الصّيد :
161 - وجوب الجزاء في قتل الصّيد عمداً متّفق عليه عملاً بنصّ الآية الكريمة السّابقة . 162 - إنّ غير العمد في هذا الباب كالعمد ، يجب فيه الجزاء باتّفاق المذاهب الأربعة ؛ لأنّ العقوبة هنا شرعت ضماناً للمتلف ، وذلك يستوي فيه العمد والخطأ والجهل والسّهو والنّسيان .
163 - إنّ هذا الجزاء هو كما نصّت الآية : { مثل ما قتل من النّعم } . ويخيّر فيه بين الخصال الثّلاث . لكن اختلفوا بعد هذا في تفسير هذين الأمرين : ذهب الحنفيّة : إلى أنّه تقدّر قيمة الصّيد بتقويم رجلين عدلين ، سواء أكان للصّيد المقتول نظير من النّعم أم لم يكن له نظير . وتعتبر القيمة في موضع قتله ، ثمّ يخيّر الجاني بين ثلاثة أمور : الأوّل - أن يشتري هدياً ويذبحه في الحرم إن بلغت القيمة هدياً . ويزاد على الهدي في مأكول اللّحم إلى اثنين أو أكثر إن زادت قيمته ، لكنّه لا يتجاوز هدياً واحداً في غير مأكول اللّحم ، حتّى لو قتل فيلاً لا يجب عليه أكثر من شاة . الثّاني - أن يشتري بالقيمة طعاماً ويتصدّق به على المساكين ، لكلّ مسكين نصف صاع من برّ ، أو صاع من شعير أو تمر كما في صدقة الفطر . ولا يجوز أن يعطي المسكين أقلّ ممّا ذكر ، إلاّ إن فضل من الطّعام أقلّ منه ، فيجوز أن يتصدّق به . ولا يختصّ التّصدّق بمساكين الحرم . الثّالث - أن يصوم عن طعام كلّ مسكين يوماً ، وعن أقلّ من نصف صاع - إذا فضل - يوماً أيضاً . وذهب الأئمّة الثّلاثة المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى التّفصيل فقالوا : الصّيد ضربان : مثليّ : وهو ما له مثل من النّعم ، أي مشابه في الخلقة من النّعم ، وهي الإبل والبقر والغنم . وغير مثليّ ، وهو ما لا يشبه شيئاً من النّعم . أمّا المثليّ : فجزاؤه على التّخيير والتّعديل ، أي أنّ القاتل يخيّر بين ثلاثة أشياء على الوجه التّالي : الأوّل - أن يذبح المثل المشابه من النّعم في الحرم ، ويتصدّق به على مساكين الحرم . الثّاني - أن يقوّم المثل دراهم ثمّ يشتري بها طعاماً ، ويتصدّق به على مساكين الحرم . ولا يجوز تفرقة الدّراهم عليهم . وقال مالك بل يقوّم الصّيد نفسه ويشتري به طعاماً يتصدّق به على مساكين موضع الصّيد ، فإن لم يكن فيه مساكين فعلى مساكين أقرب المواضع فيه . الثّالث - إن شاء صام عن كلّ مدّ يوماً . وفي أقلّ من مدّ يجب صيام يوم . ويجوز الصّيام في الحرم وفي جميع البلاد . وأمّا غير المثليّ : فيجب فيه قيمته ويتخيّر فيها بين أمرين : الأوّل - أن يشتري بها طعاماً يتصدّق به على مساكين الحرم ، وعند مالك : على المساكين في موضع الصّيد . الثّاني - أن يصوم عن كلّ مدّ يوماً كما ذكر سابقاً . ثمّ قالوا في بيان المثليّ : المعتبر فيه التّشابه في الصّورة والخلقة . وكلّ ما ورد فيه نقل عن السّلف فيتبع ؛ لقوله تعالى : { يحكم به ذوا عدل منكم } ، وما لا نقل فيه يحكم بمثله عدلان فطنان بهذا الأمر ، عملاً بالآية . ويختلف الحكم فيه بين الدّوابّ والطّيور : أمّا الدّوابّ ففي النّعامة بدنة ، وفي بقر الوحش وحمار الوحش بقرة إنسيّة ، وفي الغزال عنز ، وفي الأرنب عناق ، وفي اليربوع جفرة . وعند مالك في الأرنب واليربوع والضّبّ القيمة . وأمّا الطّيور : ففي أنواع الحمام شاة . والمراد بالحمام كلّ ما عبّ في الماء ، وهو أن يشربه جرعاً ، فيدخل فيه اليمام اللّواتي يألفن البيوت ، والقمريّ ، والقطا . والعرب تسمّي كلّ مطوّق حماماً . وإن كان الطّائر أصغر من الحمام جثّةً ففيه القيمة . وإن كان أكبر من الحمام ، كالبطّة والإوزّة ، فالأصحّ أنّه يجب فيه القيمة ، إذ لا مثل له . وقال مالك : تجب شاة في حمام مكّة والحرم ويمامهما ، وفي حمام ويمام غيرهما تجب القيمة ، وكذا في سائر الطّيور . 164 - وعند الشّافعيّة والحنابلة : الواجب في الكبير والصّغير والسّمين والهزيل والمريض من الصّيد المثليّ مثله من النّعم ؛ لقوله تعالى : { فجزاء مثل ما قتل } وهذا مثليّ فيجزئ . وقال مالك : يجب فيه كبير ؛ لقوله تعالى : { هدياً بالغ الكعبة } ؟ والصّغير لا يكون هدياً ، وإنّما يجزئ في الهدي ما يجزئ في الأضحيّة .
ثانياً : إصابة الصّيد
165 - إذا أصاب الصّيد بضرر ، ولم يقتله ، يجب عليه الجزاء بحسب تلك الإصابة عند الثّلاثة : الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . فإن جرح المحرم صيداً ، أو نتف شعره . ضمن قيمة ما نقص منه ، اعتباراً للجزء بالكلّ ، فكما تجب القيمة بالكلّ تجب بالجزء . وهذا الجزاء يجب إذا برئ الحيوان وظهر أثر الجناية عليه ، أمّا إذا لم يبق لها أثر فلا يضمن عند الحنفيّة ، لزوال الموجب . وعند الشّافعيّة والحنابلة إن جرح صيداً يجب عليه قدر النّقص من مثله من النّعم إن كان مثليّاً ، وإلاّ بقدر ما نقص من قيمته ، وإذا أحدث به عاهةً مستديمةً فوجهان عندهم ، أصحّهما يلزمه جزاء كامل . أمّا إذا أصابه إصابةً أزالت امتناعه عمّن يريد أخذه وجب الجزاء كاملاً عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو أحد القولين عند الشّافعيّة ؛ لأنّه فوّت عليه الأمن بهذا . وفي قول عند الشّافعيّة : يضمن النّقص فقط . أمّا المالكيّة فعندهم لا يضمن ما غلب على ظنّه سلامته من الصّيد بإصابته بنقص ، ولا جزاء عليه ، ولا يلزمه فرق ما بين قيمته سليماً وقيمته بعد إصابته .
ثالثاً : حلب الصّيد أو كسر بيضه أو جزّ صوفه :
166 - يجب فيه قيمة كلّ من اللّبن والبيض والصّوف عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ويضمن أيضاً قيمة ما يلحق الصّيد نفسه من نقص بسبب من ذلك . ونصّ المالكيّة على البيض أنّ فيه عشر دية الأمّ ما لم يخرج منه فرخ ويستهلّ ثمّ يموت ، فإنّه حينئذ يلزمه الدّية كاملةً . وهذا الأخير متّفق عليه .
رابعاً : التّسبّب في قتل الصّيد :
167 - يجب في التّسبّب بقتل الصّيد الجزاء ، وذلك :
1 - بأن يصيح به وينفّره ، فيتسبّب ذلك بموته .
2 - بنصب شبكة وقع بها صيد فمات ، أو إرسال كلب .
3 - المشاركة بقتل الصّيد ، كأن يمسكه ليقتله آخر ، أو يذبحه .
4 - الدّلالة على الصّيد ، أو الإشارة ، أو الإعانة بغير المشاركة في اليد ، كمناولة آلة أو سلاح ، يضمن فاعلها عند الحنفيّة والحنابلة ، ولا يضمن عند المالكيّة والشّافعيّة .
خامساً : التّعدّي بوضع اليد على الصّيد :
168 - إذا مات الصّيد في يده فعليه الجزاء ؛ لأنّه تعدّى بوضع اليد عليه فيضمنه ولو كان وديعةً .
سادساً : أكل المحرم من ذبيحة الصّيد أو قتيله :
169 - إن أكل المحرم من ذبيحة أو صيد محرم أو ذبيحة صيد الحرم فلا ضمان عليه للأكل ، ولو كان هو قاتل الصّيد أيضاً أو ذابحه فلا جزاء عليه للأكل ، إنّما عليه جزاء قتل الصّيد أو ذبحه إن فعل ذلك هو ، وذلك عند جمهور العلماء ، ومنهم الأئمّة الثّلاثة ، وصاحبا أبي حنيفة . وقال أبو حنيفة كذلك بالنّسبة للمحرم إذا أكل من صيد غيره ، أو صيد الحرم إذا أكل منه الحلال الّذي صاده ، وأوجب على المحرم إذا أكل من صيده أو ذبيحته من الصّيد الضّمان سواء أكل منه قبل الضّمان أو بعده . استدلّ الجمهور بأنّه صيد مضمون بالجزاء ، فلم يضمن ثانياً ، كما لو أتلفه بغير الأكل ؛ ولأنّ تحريمه لكونه ميتةً ، والميتة لا تضمن بالجزاء . واستدلّ أبو حنيفة بأنّ " حرمته باعتبار أنّه محظور إحرامه ؛ لأنّ إحرامه هو الّذي أخرج الصّيد عن المحلّيّة ، والذّابح عن الأهليّة في حقّ الذّكاة ، فصارت حرمة التّناول بهذه الوسائط مضافةً إلى إحرامه » .
المبحث الثّالث
في الجماع ودواعيه
170 - اتّفق العلماء على أنّ الجماع في حالة الإحرام جناية يجب فيها الجزاء . والجمهور على أنّ العامد والجاهل والسّاهي والنّاسي والمكره في ذلك سواء . وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . قال ابن قدامة : « لأنّه معنًى يتعلّق به قضاء الحجّ ، فاستوى عمده وسهوه كالفوات » . لكن استثنى الحنابلة من الفداء الموطوءة كرهاً ، فقالوا : لا فداء عليها ، بل يجب عليها القضاء فقط . وقال الشّافعيّة : النّاسي والمجنون والمغمى عليه والنّائم والمكره والجاهل لقرب عهده بالإسلام أو نشوئه ببادية بعيدة عن العلماء ، فلا يفسد الإحرام بالنّسبة إليهم بالجماع .
أوّلاً : الجماع في إحرام الحجّ : يكون الجماع في إحرام الحجّ جنايةً في ثلاثة أحوال :
171 - الأوّل - الجماع قبل الوقوف بعرفة . فمن جامع قبل الوقوف بعرفة فسد حجّه بإجماع العلماء ، ووجب عليه ثلاثة أمور :
1 - الاستمرار في حجّه الفاسد إلى نهايته لقوله تعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } وجه الاستدلال أنّه " لم يفرّق بين صحيح وفاسد » .
2 - أداء حجّ جديد في المستقبل قضاءً للحجّة الفاسدة ، ولو كانت نافلةً . ويستحبّ أن يفترقا في حجّة القضاء هذه عند الأئمّة الثّلاثة منذ الإحرام بحجّة القضاء ، وأوجب المالكيّة عليهما الافتراق .
3 - ذبح الهدي في حجّة القضاء . وهو عند الحنفيّة شاة ، وقال الأئمّة الثّلاثة : لا تجزئ الشّاة ، بل يجب عليه بدنة . استدلّ الحنفيّة بما ورد أنّ « رجلاً جامع امرأته وهما محرمان ، فسألا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال لهما : اقضيا نسككما وأهديا هدياً » رواه أبو داود في المراسيل والبيهقيّ ، وبما روي من الآثار عن الصّحابة أنّه يجب عليه شاة . واستدلّ الجمهور بما قال الرّمليّ : « لفتوى جماعة من الصّحابة ، ولم يعرف لهم مخالف » .
172 - الثّاني : الجماع بعد الوقوف قبل التّحلّل الأوّل : فمن جامع بعد الوقوف قبل التّحلّل يفسد حجّه ، وعليه بدنة - كما هو الحال قبل الوقوف - عند المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة . وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يفسد حجّه ، ويجب عليه أن يهدي بدنةً . استدلّ الثّلاثة : بما روي عن ابن عمر أنّ رجلاً سأله فقال : إنّي وقعت على امرأتي ونحن محرمان ؟ فقال : أفسدت حجّك . انطلق أنت وأهلك مع النّاس ، فاقضوا ما يقضون ، وحلّ إذا حلّوا . فإذا كان في العام المقبل فاحجج أنت وامرأتك ، وأهديا هدياً ، فإن لم تجدا فصوما ثلاثة أيّام في الحجّ وسبعةً إذا رجعتم . وجه الاستدلال : أنّه ونحوه ممّا روي عن الصّحابة مطلق في المحرم إذا جامع ، لا تفصيل فيه بين ما قبل الوقوف وبين ما بعده ، فيكون حكمهما واحداً ، وهو الفساد ووجوب بدنة . واستدلّ الحنفيّة بقوله صلى الله عليه وسلم : « الحجّ عرفة » . أخرجه أحمد وأصحاب السّنن والحاكم ، وبقوله صلى الله عليه وسلم في حديث « عروة بن مضرّس الطّائيّ : وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تمّ حجّه وقضى تفثه » أخرجه أحمد وأصحاب السّنن ، وصحّحه التّرمذيّ ، وقال الحاكم : « صحيح على شرط كافّة أئمّة الحديث » . وجه الاستدلال : أنّ حقيقة تمام الحجّ المتبادرة من الحديثين غير مرادة ؛ لبقاء طواف الزّيارة ، وهو ركن إجماعاً ، فتعيّن القول بأنّ الحجّ قد تمّ حكماً ، والتّمام الحكميّ يكون بالأمن من فساد الحجّ بعده ، فأفاد الحديث أنّ الحجّ لا يفسد بعد عرفة مهما صنع المحرم . وإنّما أوجبنا البدنة بما روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنّه سئل عن رجل وقع بأهله وهو بمنًى قبل أن يفيض ، فأمره أن ينحر بدنةً . رواه مالك وابن أبي شيبة .
173 - الثّالث : الجماع بعد التّحلّل الأوّل : اتّفقوا على أنّ الجماع بعد التّحلّل الأوّل لا يفسد الحجّ . وألحق المالكيّة به الجماع بعد طواف الإفاضة ولو قبل الرّمي ، والجماع بعد يوم النّحر قبل الرّمي والإفاضة . ووقع الخلاف في الجزاء الواجب : فذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يجب عليه شاة . قالوا في الاستدلال : « لخفّة الجناية ، لوجود التّحلّل في حقّ غير النّساء » . وقال مالك ، وهو قول عند الشّافعيّة والحنابلة : يجب عليه بدنة . وعلّله الباجيّ بأنّه لعظم الجناية على الإحرام . وأوجب مالك والحنابلة على من فعل هذه الجناية بعد التّحلّل الأوّل قبل الإفاضة أن يخرج إلى الحلّ ، ويأتي بعمرة ، لقول ابن عبّاس ذلك . قال الباجيّ في المنتقى : « وذلك لأنّه لمّا أدخل النّقص على طوافه للإفاضة بما أصاب من الوطء كان عليه أن يقضيه بطواف سالم إحرامه من ذلك النّقص ، ولا يصلح أن يكون الطّواف في إحرام إلاّ في حجّ أو عمرة » . ولم يوجب الحنفيّة والشّافعيّة ذلك .
ثانياً : الجماع في إحرام العمرة :
174 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لو جامع قبل أن يؤدّي ركن العمرة ، وهو الطّواف أربعة أشواط ، تفسد عمرته ، أمّا لو وقع المفسد بعد ذلك لا تفسد العمرة ؛ لأنّه بأداء الرّكن أمن الفساد . وذهب المالكيّة إلى أنّ المفسد إن حصل قبل تمام سعيها ولو بشرط فسدت ، أمّا لو وقع بعد تمام السّعي قبل الحلق فلا تفسد ؛ لأنّه بالسّعي تتمّ أركانها ، والحلق من شروط الكمال عندهم . ومذهب الشّافعيّة والحنابلة أنّه إذا حصل المفسد قبل التّحلّل من العمرة فسدت . والتّحلّل بالحلق ، وهو ركن عند الشّافعيّة واجب عند الحنابلة . 175 يجب في إفساد العمرة ما يجب في إفساد الحجّ من الاستمرار فيها ، والقضاء والفداء باتّفاق العلماء . لكن اختلفوا في فداء إفساد العمرة : فمذهب الحنفيّة والحنابلة وأحد القولين عند الشّافعيّة أنّه يلزمه شاة ؛ لأنّ العمرة أقلّ رتبةً من الحجّ ، فخفّت جنايتها ، فوجبت شاة . ومذهب المالكيّة والشّافعيّة أنّه يلزمه بدنة قياساً على الحجّ . أمّا فداء الجماع الّذي لا يفسد العمرة فشاة فقط عند الحنفيّة وبدنة عند المالكيّة .
ثالثاً : مقدّمات الجماع :
176 - المقدّمات المباشرة أو القريبة ، كاللّمس بشهوة ، والتّقبيل ، والمباشرة بغير جماع : يجب على من فعل شيئاً منها الدّم سواء أنزل منيّاً أو لم ينزل . ولا يفسد حجّه اتّفاقاً بين الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ أنّ الحنابلة قالوا : إن أنزل وجب عليه بدنة . ومذهب المالكيّة : إن أنزل بمقدّمات الجماع منيّاً فحكمه حكم الجماع في إفساد الحجّ ، وعليه ما على المجامع ممّا ذكر سابقاً ، وإن لم ينزل فليهد بدنةً . 177 - المقدّمات البعيدة : كالنّظر بشهوة والتّفكّر كذلك ، صرّح الحنفيّة والشّافعيّة أنّه لا يجب في شيء منهما الفداء ، ولو أدّى إلى الإنزال . وهو مذهب الحنابلة في الفكر . ومذهب المالكيّة : إذا فعل أيّ واحد منها بقصد اللّذّة ، واستدامه حتّى خرج المنيّ ، فهو كالجماع في إفساد الحجّ . وإن خرج المنيّ بمجرّد الفكر أو النّظر من غير استدامة فلا يفسد ، وإنّما فيه الهدي ( بدنة ) . ومذهب الحنابلة : إن نظر فصرف بصره فأمنى فعليه دم ، وإن كرّر النّظر حتّى أمنى فعليه بدنة .
رابعاً : في جماع القارن :
178 - قرّر الحنفيّة في جماع القارن - بناءً على مذهبهم أنّه يطوف طوافين ويسعى سعيين - التّفصيل الآتي :
1 - إن جامع قبل الوقوف ، وقبل طواف العمرة ، فسد حجّه وعمرته كلاهما ، وعليه المضيّ فيهما ، وعليه شاتان للجناية على إحرامهما ، وعليه قضاؤهما ، وسقط عنه دم القران .
2 - إن جامع بعدما طاف لعمرته كلّ أشواطه أو أكثرها فسد حجّه دون عمرته لأنّه أدّى ركنها قبل الجماع ، وسقط عنه دم القران ، وعليه دمان لجنايته المتكرّرة حكماً ، دم لفساد الحجّ ، ودم للجماع في إحرام العمرة لعدم تحلّله منها ، وعليه قضاء الحجّ فقط ، لصحّة عمرته .
3 - إن جامع بعد طواف العمرة وبعد الوقوف قبل الحلق ولو بعرفة لم يفسد الحجّ ولا العمرة ، لإدراكه ركنهما ، ولا يسقط عنه دم القران ؛ لصحّة أداء الحجّ والعمرة ، لكن عليه بدنة للحجّ وشاة للعمرة .
4 - لو لم يطف لعمرته - ثمّ جامع بعد الوقوف - فعليه بدنة للحجّ ، وشاة لرفض العمرة ، وقضاؤها .
5 - لو طاف القارن طواف الزّيارة قبل الحلق ، ثمّ جامع ، فعليه شاتان بناءً على وقوع الجناية على إحراميه ؛ لعدم التّحلّل الأوّل المرتّب عليه التّحلّل الثّاني .
المبحث الرّابع
في أحكام كفّارات محظورات الإحرام
كفّارات محظورات الإحرام أربعة أمور ، هي : الهدي ، والصّدقة ، والصّيام ، والقضاء ، والكلام هنا على أحكامها الخاصّة بهذا الموضوع : المطلب الأوّل الهدي .
179 - تراعى في الهدي وذبحه وأنواعه الشّروط والأحكام الموضّحة في مصطلح « هدي » .
المطلب الثّاني
الصّدقة
180 - يراعى في المال الّذي تخرج منه الصّدقة أن يكون من الأصناف الّتي تخرج منها صدقة الفطر ، كما تراعى أحكام الزّكاة في الفقير الّذي تدفع إليه . ويراعى في إخراج القيمة ، ومقدار الصّدقة لكلّ مسكين ما هو مقرّر في صدقة الفطر ، وهذا في الإطعام الواجب في الفدية . وأمّا في جزاء الصّيد فالمالكيّة والشّافعيّة لم يقيّدوا الصّدقة فيه بمقدار معيّن . وتفصيلات ذلك وآراء الفقهاء يرجع إليها في مصطلح هدي وكفّارة وصدقة الفطر .
المطلب الثّالث
الصّيام
181 - أوّلاً : من كفّر بالصّيام يراعي فيه أحكام الصّيام ولا سيّما تبييت النّيّة بالنّسبة للواجب غير المعيّن ( ر : صوم ) .
182 - ثانياً : الصّيام المقرّر جزاءً عن المحظور لا يتقيّد بزمان ولا مكان ولا تتابع اتّفاقاً ، إلاّ الصّيام لمن عجز عن هدي القران والتّمتّع ، فإنّه يصوم ثلاثة أيّام في الحجّ ، وسبعةً إذا رجع إلى أهله . فلا يصحّ صيام الأيّام الثّلاثة قبل أشهر الحجّ ، ولا قبل إحرام الحجّ والعمرة في حقّ القارن ، ولا قبل إحرام العمرة في حقّ المتمتّع اتّفاقاً . أمّا تقديمها للمتمتّع على إحرام الحجّ فمنعه المالكيّة والشّافعيّة لقوله تعالى : { فصيام ثلاثة أيّام في الحجّ } وأجازه الحنفيّة والحنابلة لأنّه كما قال ابن قدامة : « وقت كامل جاز فيه نحر الهدي ، فجاز فيه الصّيام ، كبعد إحرام الحجّ . ومعنى قوله تعالى ( في الحجّ ) أي في وقته » . وأمّا الأيّام السّبعة الباقية على من عجز عن هدي القران والتّمتّع ، فلا يصحّ صيامها إلاّ بعد أيّام التّشريق ، ثمّ يجوز صيامها بعد الفراغ من أفعال الحجّ ، ولو في مكّة ، إذا مكث بها ، عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة . والأفضل المستحبّ أن يصومها إذا رجع إلى أهله ، وهو قول عند الشّافعيّة ، لكن الأظهر عند الشّافعيّة أنّه يصوم الأيّام السّبعة إذا رجع إلى أهله ، ولا يجوز أن يصومها في الطّريق ، إلاّ إذا أراد الإقامة بمكّة صامها بها . والدّليل للجميع قوله تعالى : { وسبعة إذا رجعتم } . فحمله الشّافعيّ على ظاهره ، وقال غيرهم : إنّ الفراغ من الحجّ هو المراد بالرّجوع ، فكأنّه بالفراغ رجع عمّا كان مقبلاً عليه .
183 - ثالثاً : من فاته أداء الأيّام الثّلاثة في الحجّ يقضيها عند الثّلاثة ، ويرجع إلى الدّم عند الحنفيّة ، لا يجزيه غيره . وهو قول عند الحنابلة . ثمّ عند المالكيّة ، وهو قول عند الحنابلة : إن صام بعضها قبل يوم النّحر كمّلها أيّام التّشريق ، وإن أخّرها عن أيّام التّشريق صامها متى شاء ، وصلها بالسّبعة أو لا . ولم يجز الشّافعيّة والحنابلة في القول الآخر عندهم صيامها أيّام النّحر والتّشريق ، بل يؤخّرها إلى ما بعد .
184 - ويجب عند الشّافعيّة في الأظهر في قضاء الأيّام الثّلاثة : « أن يفرّق في قضائها بينها وبين السّبعة بقدر أربعة أيّام ، يوم النّحر وأيّام التّشريق ، ومدّة إمكان السّير إلى أهله ، على العادة الغالبة ، كما في الأداء ، فلو صام عشرة أيّام متتاليةً حصلت الثّلاثة ، ولا يعتدّ بالبقيّة لعدم التّفريق » .
المطلب الرّابع في القضاء
185 - وهو من واجب إفساد النّسك بالجماع . ومن أحكامه ما يلي : أوّلاً : يراعى في قضاء النّسك أحكام الأداء العامّة ، مع تعيين القضاء في نيّة الإحرام به . ثانياً : قال الحنفيّة وهو قول عند الشّافعيّة : عليه القضاء من قابل أي من سنة آتية ، ولم يجعلوه على الفور . ومذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ القضاء واجب على الفور ولو كان النّسك الفاسد تطوّعاً ، فيأتي بالعمرة عقب التّحلّل من العمرة الفاسدة ، ويحجّ في العام القادم . ثالثاً : قرّر المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ المفسد عندما يقضي نسكه الفاسد يحرم في القضاء حيث أحرم في النّسك المفسد ، فإن أحرم من الجحفة مثلاً أحرم في القضاء منها . وعند الشّافعيّة : إن سلك في القضاء طريقاً آخر أحرم من مثل مسافة الميقات الأوّل ما لم يجعله ذلك يجاوز الميقات بغير إحرام ، فإنّه يحرم من الميقات . وإن أحرم في العام الأوّل قبل المواقيت لزمه كذلك عند الشّافعيّة والحنابلة . وعند المالكيّة لا يجب الإحرام بالقضاء إلاّ من المواقيت . أمّا إن جاوز في العام الأوّل الميقات غير محرم فإنّه في القضاء يحرم من الميقات ولا يجوز أن يجاوزه غير محرم . وقال المالكيّة : إن تعدّى الميقات في عام الفساد لعذر مشروع " كأن يجاوز الميقات حلالاً لعدم إرادته دخول مكّة ، ثمّ بعد ذلك أراد الدّخول ، وأحرم بالحجّ ، ثمّ أفسده ، فإنّه في عام القضاء يحرم ممّا أحرم منه أوّلاً » .
إحصار
التّعريف
1 - من معاني الإحصار في اللّغة المنع من بلوغ المناسك بمرض أو نحوه ، وهو المعنى الشّرعيّ أيضاً على خلاف عند الفقهاء فيما يتحقّق به الإحصار .
2 - واستعمل الفقهاء مادّة ( حصر ) بالمعنى اللّغويّ في كتبهم استعمالاً كثيراً . ومن أمثلة ذلك : قول صاحب تنوير الأبصار وشارحه في الدّرّ المختار : « والمحصور فاقد الماء والتّراب الطّهورين ، بأن حبس في مكان نجس ، ولا يمكنه إخراج مطهّر ، وكذا العاجز عنهما لمرض يؤخّر الصّلاة عند أبي حنيفة ، وقالا يتشبّه بالمصلّين وجوباً ، فيركع ويسجد إن وجد مكاناً يابساً ، وإلاّ يومئ قائماً ثمّ يعيد » . ومنه أيضاً قول صاحب تنوير الأبصار : « وكذا يجوز له أن يستخلف إذا حصر عن قراءة قدر المفروض » . وقال أبو إسحاق الشّيرازيّ : « ويجوز أن يصلّي بتيمّم واحد ما شاء من النّوافل ؛ لأنّها غير محصورة ، فخفّ أمرها » . وتفصيله في مصطلح ( صلاة ) . إلاّ أنّهم غلّبوا استعمال هذه المادّة ( حصر ) ومشتقّاتها في باب الحجّ والعمرة للدّلالة على منع المحرم من أركان النّسك ، وذلك اتّباعاً للقرآن الكريم ، وتوافقت على ذلك عباراتهم حتّى أصبح ( الإحصار ) اصطلاحاً فقهيّاً معروفاً ومشهوراً .
2 - ويعرّف الحنفيّة الإحصار بأنّه : هو المنع من الوقوف بعرفة والطّواف جميعهما بعد الإحرام بالحجّ الفرض ، والنّفل ، وفي العمرة عن الطّواف ، وهذا التّعريف لم يعترض عليه . ويعرّفه المالكيّة بأنّه المنع من الوقوف والطّواف معاً أو المنع من أحدهما . وبمثل مذهب الشّافعيّة هذا التّعريف الّذي أورده الرّمليّ الشّافعيّ في نهاية المحتاج ، ونصّه : « هو المنع من إتمام أركان الحجّ أو العمرة » . وينطبق هذا التّعريف للشّافعيّة على مذهب الحنابلة في الإحصار ؛ لأنّهم يقولون بالإحصار عن أيّ من أركان الحجّ أو العمرة ، على تفصيل يسير في كيفيّة التّحلّل لمن أحصر عن الوقوف دون الطّواف . الأصل التّشريعيّ في موجب الإحصار :
3 - موجب الإحصار - إجمالاً - التّحلّل بكيفيّة سيأتي تفصيلها . والأصل في هذا المبحث حادثة الحديبية المعروفة ، وفي ذلك نزل قوله تبارك وتعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . وقال ابن عمر رضي الله عنهما « : خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحال كفّار قريش دون البيت ، فنحر النّبيّ صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه » . أخرجه البخاريّ .
ما يتحقّق به الإحصار
4 - يتحقّق الإحصار بوجود ركنه ، وهو المنع من المضيّ في النّسك ، حجّاً كان أو عمرةً ، إذا توافرت فيه شروط بعضها متّفق عليه وبعضها مختلف فيه . ركن الإحصار :
5 - اختلف الفقهاء في المنع الّذي يتحقّق به الإحصار هل يشمل المنع بالعدوّ والمنع بالمرض ونحوه من العلل ، أم يختصّ بالحصر بالعدوّ ؟ فقال الحنفيّة : « الإحصار يتحقّق بالعدوّ ، وغيره ، كالمرض ، وهلاك النّفقة ، وموت محرم المرأة ، أو زوجها ، في الطّريق " ويتحقّق الإحصار بكلّ حابس يحبسه ، يعني المحرم ، عن المضيّ في موجب الإحرام . وهو رواية عن الإمام أحمد . وهو قول ابن مسعود ، وابن الزّبير ، وعلقمة ، وسعيد بن المسيّب ، وعروة بن الزّبير ، ومجاهد ، والنّخعيّ ، وعطاء ، ومقاتل بن حيّان ، وسفيان الثّوريّ ، وأبي ثور . ومذهب المالكيّة : أنّ الحصر يتحقّق بالعدوّ ، والفتنة ، والحبس ظلماً . كذلك هو مذهب الشّافعيّة والمشهور عند الحنابلة ، مع أسباب أخرى من الحصر بما يقهر الإنسان ، ممّا سيأتي ذكره ، كمنع الزّوج زوجته عن المتابعة . واتّفقت المذاهب الثّلاثة على أنّ من يتعذّر عليه الوصول إلى البيت بحاصر آخر غير العدوّ ، كالحصر بالمرض أو بالعرج أو بذهاب نفقة ونحوه ، أنّه لا يجوز له التّحلّل بذلك . لكن من اشترط التّحلّل إذا حبسه حابس له حكم خاصّ عند الشّافعيّة والحنابلة يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى . وهذا القول ينفي تحقّق الإحصار بالمرض ونحوه من علّة وهو قول ابن عبّاس وابن عمر وطاوس والزّهريّ وزيد بن أسلم ومروان بن الحكم .
6 - استدلّ الحنفيّة ومن معهم بالأدلّة من الكتاب والسّنّة والمعقول : أمّا الكتاب فقوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } . ووجه دلالة الآية قول أهل اللّغة إنّ الإحصار ما كان بمرض أو علّة ، وقد عبّرت الآية بأحصرتم ، فدلّ على تحقّق الإحصار شرعاً بالنّسبة للمرض وبالعدوّ . وقال الجصّاص : « لمّا ثبت بما قدّمته من قول أهل اللّغة أنّ اسم الإحصار يختصّ بالمرض ، وقال اللّه { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } وجب أن يكون اللّفظ مستعملاً فيما هو حقيقة فيه ، وهو المرض ، ويكون العدوّ داخلاً فيه بالمعنى » . وأمّا السّنّة : فقد أخرج أصحاب السّنن الأربعة بأسانيد صحيحة ، كما قال النّوويّ ، عن عكرمة ، قال : سمعت الحجّاج بن عمرو الأنصاريّ قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من كسر أو عرج فقد حلّ ، وعليه الحجّ من قابل » . قال عكرمة سألت ابن عبّاس وأبا هريرة عن ذلك فقالا : صدق . وفي رواية عند أبي داود وابن ماجه : « من كسر أو عرج أو مرض . . . » . وأمّا العقل : فهو قياس المرض ونحوه على العدوّ بجامع الحبس عن أركان النّسك في كلّ ، وهو قياس جليّ ، حتّى جعله بعض الحنفيّة أولويّاً .
7 - واستدلّ الجمهور بالكتاب والآثار والعقل : أمّا الكتاب فآية : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } قال الشّافعيّ : « فلم أسمع مخالفاً ممّن حفظت عنه ممّن لقيت من أهل العلم بالتّفسير في أنّها نزلت بالحديبية . وذلك إحصار عدوّ ، فكان في الحصر إذن اللّه تعالى لصاحبه فيه بما استيسر من الهدي . ثمّ بيّن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ الّذي يحلّ منه المحرم الإحصار بالعدوّ ، فرأيت أنّ الآية بأمر اللّه تعالى بإتمام الحجّ والعمرة للّه عامّة على كلّ حاجّ ومعتمر ، إلاّ من استثنى اللّه ، ثمّ سنّ فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الحصر بالعدوّ . وكان المريض عندي ممّن عليه عموم الآية » . يعني { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } . وأمّا الآثار : فقد ثبت من طرق عن ابن عبّاس أنّه قال : لا حصر إلاّ حصر العدوّ ، فأمّا من أصابه مرض ، أو وجع ، أو ضلال ، فليس عليه شيء ، إنّما قال اللّه تعالى : { فإذا أمنتم } وروي عن ابن عمرو والزّهريّ وطاوس وزيد بن أسلم نحو ذلك . وروى الشّافعيّ في الأمّ عن مالك - وهو عنده في الموطّأ - عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أنّ عبد اللّه بن عمر ، ومروان بن الحكم ، وابن الزّبير أفتوا ابن حزابة المخزوميّ ، وأنّه صرع ببعض طريق مكّة وهو محرم ، أن يتداوى بما لا بدّ له منه ، ويفتدي ، فإذا صحّ اعتمر فحلّ من إحرامه ، وكان عليه أن يحجّ عاماً قابلاً ويهدي . وهذا إسناد صحيح . وأمّا الدّليل من المعقول : فقال فيه الشّيرازيّ : « إن أحرم وأحصره المرض لم يجز له أن يتحلّل ؛ لأنّه لا يتخلّص بالتّحلّل من الأذى الّذي هو فيه ، فهو كمن ضلّ الطّريق » .
شروط تحقّق الإحصار :
8 - لم ينصّ الفقهاء صراحةً على شروط تحقّق الإحصار أنّها كذا وكذا ، ولكن يمكن استخلاصها ، وهي : الشّرط الأوّل : سبق الإحرام بالنّسك ، بحجّ أو عمرة ، أو بهما معاً ؛ لأنّه إذا عرض ما يمنع من أداء النّسك ، ولم يكن أحرم ، لا يلزمه شيء . ويتحقّق الإحصار عن الإحرام الفاسد كالصّحيح ، ويستتبع أحكامه أيضاً . الشّرط الثّاني : ألاّ يكون قد وقف بعرفة قبل حدوث المانع من المتابعة ، إذا كان محرماً بالحجّ . وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة ، أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فيتحقّق الإحصار عن الطّواف بالبيت ، كما سيتّضح في أنواع الإحصار . أمّا في العمرة فالإحصار يتحقّق بمنعه عن أكثر الطّواف بالإجماع . الشّرط الثّالث : أن ييأس من زوال المانع ، بأن يتيقّن أو يغلب على ظنّه عدم زوال المانع قبل فوات الحجّ ، " بحيث لم يبق بينه وبين ليلة النّحر زمان يمكنه فيه السّير لو زال العذر » . وهذا نصّ عليه المالكيّة والشّافعيّة ، وقدّر الرّمليّ الشّافعيّ المدّة في العمرة إلى ثلاثة أيّام . فإذا وقع مانع يتوقّع زواله عن قريب فليس بإحصار . ويشير إلى أصل هذا الشّرط تعليل الحنفيّة إباحة التّحلّل بالإحصار بأنّه معلّل بمشقّة امتداد الإحرام . الشّرط الرّابع : نصّ عليه المالكيّة وتفرّدوا به ، وهو ألاّ يعلم حين إحرامه بالمانع من إتمام الحجّ أو العمرة . فإن علم فليس له التّحلّل ، ويبقى على إحرامه حتّى يحجّ في العام القابل ، إلاّ أن يظنّ أنّه لا يمنعه فمنعه ، فله أن يتحلّل حينئذ ، كما وقع للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أنّه أحرم بالعمرة عام الحديبية عالماً بالعدوّ ، ظانّاً أنّه لا يمنعه ، فمنعه العدوّ ، فلمّا منعه تحلّل » .
أنواع الإحصار
بحسب الرّكن المحصر عنه يتنوّع الإحصار بحسب الرّكن الّذي أحصر عنه المحرم ثلاثة أنواع :
الأوّل : الإحصار عن الوقوف بعرفة وعن طواف الإفاضة :
9 - هذا الإحصار يتحقّق به الإحصار الشّرعيّ ، بما يتربّب عليه من أحكام ستأتي ( ف 26 ) وذلك باتّفاق الأئمّة ، مع اختلافهم في بعض أسباب الإحصار .
الثّاني : الإحصار عن الوقوف بعرفة دون الطّواف :
10 - من أحصر عن الوقوف بعرفة ، دون الطّواف بالبيت ، فليس بمحصر عند الحنفيّة ، وهو رواية عن أحمد . ووجه ذلك عندهم أنّه يستطيع أن يتحلّل بمناسك العمرة ، فيجب عليه أن يؤدّي مناسك العمرة بالإحرام السّابق نفسه . ويتحلّل بتلك العمرة . قال في المسلك المتقسّط : « وإن منع عن الوقوف فقط يكون في معنى فائت الحجّ ، فيتحلّل بعد فوت الوقوف عن إحرامه بأفعال العمرة ، ولا دم عليه ، ولا عمرة في القضاء » . وهذا يفيد بظاهره أنّه ينتظر حتّى يفوت الوقوف ، فيتحلّل بعمرة ، أي بأعمال عمرة بإحرامه السّابق ، كما صرّح بذلك في المبسوط بقوله : « إن لم يكن ممنوعاً من الطّواف يمكنه أن يصبر حتّى يفوته الحجّ ، فيتحلّل بالطّواف والسّعي " ومذهب المالكيّة والشّافعيّة أنّه يعتبر من أحصر عن الوقوف فقط محصراً ، ويتحلّل بأعمال العمرة . لكنّه وإن تشابهت الصّورة عند هؤلاء الأئمّة إلاّ أنّ النّتيجة تختلف فيما بينهم . فالحنفيّة يعتبرونه تحلّل فائت حجّ ، فلا يوجبون عليه دماً ، ويعتبره المالكيّة والشّافعيّة تحلّل إحصار ، فعليه دم أمّا الحنابلة فقالوا : له أن يفسخ نيّة الحجّ ، ويجعله عمرةً ، ولا هدي عليه ، لإباحة ذلك له من غير إحصار ، ففيه أولى ، فإن كان طاف وسعى للقدوم ثمّ أحصر أو مرض ، حتّى فاته الحجّ ، تحلّل بطواف وسعي آخر ، لأنّ الأوّل لم يقصد به طواف العمرة ولا سعيها ، وليس عليه أن يجدّد إحراماً .
الثّالث : الإحصار عن طواف الرّكن :
11 - مذهب الحنفيّة والمالكيّة أنّ من وقف بعرفة ثمّ أحصر لا يكون محصراً ، لوقوع الأمن عن الفوات ، كما قال الحنفيّة . ويفعل ما سوى ذلك من أعمال الحجّ ، ويظلّ محرماً في حقّ النّساء حتّى يطوف طواف الإفاضة . وقال الشّافعيّة : إن منع المحرم من مكّة دون عرفة وقف وتحلّل ، ولا قضاء عليه في الأظهر . وأمّا الحنابلة ففرّقوا بين أمرين فقالوا : إن أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة قبل رمي الجمرة فله التّحلّل . وإن أحصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة فليس له أن يتحلّل . واستدلّوا على التّحلّل في الصّورة الأولى في الإحصار قبل الرّمي بأنّ " الحصر يفيده التّحلّل من جميعه ، فأفاد التّحلّل من بعضه » . وهو دليل لمذهب الشّافعيّة أيضاً . واستدلّوا لعدم التّحلّل بعد رمي جمرة العقبة إذا أحصر عن البيت : بأنّ إحرامه أي بعد الرّمي عندهم إنّما هو عن النّساء ، والشّرع إنّما ورد بالتّحلّل الإحرام التّامّ الّذي يحرم جميع محظوراته ، فلا يثبت - التّحلّل - بما ليس مثله . ومتى زال الحصر أتى بالطّواف ، وقد تمّ حجّه .
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
أنواع الإحصار من حيث سببه
الإحصار بسبب فيه قهر ( أو سلطة ) :
12 - ذكروا من صوره ما يلي : الحصر بالعدوّ - الفتنة بين المسلمين - الحبس - منع السّلطان عن المتابعة - السّبع - منع الدّائن مدينه عن المتابعة - منع الزّوج زوجته عن المتابعة - موت المحرم أو الزّوج أو فقدهما - العدّة الطّارئة - منع الوليّ الصّبيّ والسّفيه عن المتابعة - منع السّيّد عبده عن المتابعة . وقبل الدّخول في تفصيل البحث لا بدّ من إجمال مهمّ ، هو : أنّ المالكيّة قصروا الحصر الّذي يبيح التّحلّل للمحصر بثلاثة أسباب ، أحصوها بالعدد ، وهي : الحصر بالعدوّ ، والحصر بالفتنة ، والحبس ظلماً . وبالتّالي فإنّ هذه الأسباب متّفق عليها بين المذاهب . وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فاتّفقوا مع الحنفيّة على جميع الصّور الّتي صدر بها الموضوع ما عدا ثلاثة أسباب هي : منع السّلطان عن المتابعة ، والحصر بالسّبع ، والعدّة الطّارئة . فهذه الثّلاثة تفرّد بها الحنفيّة . هذا مع مراعاة تفصيل في بعض الأسباب الّتي ذكر اتّفاق الحنفيّة مع الشّافعيّة والحنابلة عليها ويأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى . أ - الحصر بالعدوّ الكافر :
13 - وهو أن يتسلّط العدوّ على بقعة تقع في طريق الحجّاج ، فيقطع على المحرمين السّبل ، ويصدّهم عن المتابعة لأداء مناسكهم . وتحقّق الحصر الشّرعيّ بهذه الصّورة محلّ إجماع العلماء ، وفيها نزل القرآن الكريم . كما سبق . وقد قرّر الحنفيّة والمالكيّة أنّه لو أحصر العدوّ طريقاً إلى مكّة أو عرفة ، ووجد المحصر طريقاً آخر ، ينظر فيه : فإن أضرّ به سلوكها لطوله ، أو صعوبة طريقه ، ضرراً معتبراً ، فهو محصر شرعاً . وإن لم يتضرّر به فلا يكون محصراً شرعاً . أمّا الشّافعيّة فقد ألزموا المحصر بالطّريق الآخر ولو كان أطول أو فيه مشقّة ، ما دامت النّفقة تكفيهم لذلك الطّريق . أمّا الحنابلة فعباراتهم مطلقة عن التّقييد بأيّ من هذين الأمرين ، ممّا يشير إلى أنّهم يلزمونه بالطّريق الآخر ولو كان أطول أو أشقّ ، ولو كانت النّفقة لا تكفيهم . وهذا يشير إلى ترجيح وجوب القضاء عند الحنابلة لفوات الحجّ بسبب الطّريق الثّاني ، ولعلّه لذلك ذكره ابن قدامة أوّلاً . فإذا سلك الطّريق الأطول ففاته الحجّ بطول الطّريق أو خشونته أو غيرهما ، فما يحصل الفوات بسببه فقولان مشهوران في المذهبين الشّافعيّ والحنبليّ أصحّهما عند الشّافعيّة : لا يلزمه القضاء ، بل يتحلّل تحلّل المحصر ؛ لأنّه محصر ، ولعدم تقصيره . والثّاني : يلزمه القضاء ، كما لو سلكته ابتداءً ، ففاته بضلال في الطّريق ونحوه ، ولو استوى الطّريقان من كلّ وجه وجب القضاء بلا خلاف ؛ لأنّه فوات محض .
ب - الإحصار بالفتنة :
14 - بأن تحصل حرب بين المسلمين عياذاً باللّه تعالى ، ويحصر المحرم بسبب ذلك ، مثل الفتنة الّتي ثارت بحرب الحجّاج وعبد اللّه بن الزّبير سنة 73 هـ . وهذا يتحقّق به الإحصار شرعاً أيضاً باتّفاق الأئمّة كالإحصار بالعدوّ سواءً بسواء .
ج - الحبس :
15 - بأن يسجن المحرم بعدما تلبّس بالإحرام . وقد فرّق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بين الحبس بحقّ أو بغير حقّ . فإن حبس بغير حقّ ، بأن اعتقل ظلماً ، أو كان مديناً ثبت إعساره فإنّه يكون محصراً . وإن حبس بحقّ عليه يمكنه الخروج منه فلا يجوز له التّحلّل ولا يكون محصراً ، ويكون حكمه حكم المرض . أمّا الحنفيّة فقد أطلقوا الحبس سبباً للإحصار .
د - منع الدّائن مدينه عن المتابعة :
16 - عدّ الشّافعيّة والحنابلة الدّين مانعاً من موانع النّسك في باب الإحصار . وأمّا المالكيّة فقد صرّحوا بأنّه إن حبس ظلماً كان محصراً ، وإلاّ فلا ، فآلت المسألة عندهم إلى الحبس ، كالحنفيّة .
هـ - منع الزّوج زوجته عن المتابعة :
17 - منع الزّوج زوجته عن المتابعة يتحقّق به إحصارها باتّفاق المذاهب الأربعة ( الحنفيّة المالكيّة ، على الأصحّ عندهم ، والشّافعيّة والحنابلة ) ، وذلك في حجّ النّفل ، أو عمرة النّفل ، عند الجميع ، وعمرة الإسلام ، عند الحنفيّة والمالكيّة لقولهم بعدم فرضيّتها . وإن أذن لها الزّوج ابتداءً بحجّ النّفل أو عمرة النّفل ولها محرم فإنّه ليس له منعها بعد الإحرام ؛ لأنّه تغرير ، ولا تصير محصرةً بمنعه . وحجّة الإسلام ، أو الحجّ الواجب ، كالنّذر ، إذا أحرمت الزّوجة بهما بغير إذن الزّوج ، ولها محرم ، فلا تكون محصرةً عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، لأنّهم لا يشترطون إذن الزّوج لوجوب الحجّ عليها ، وليس له أن يمنعها من حجّ الفرض ، ولا يجوز له أن يحلّلها بمحظور من محظورات الإحرام ، ولو تحلّلت هي لم يصحّ تحلّلها . وأمّا الشّافعيّة فيقولون باشتراط إذن الزّوج لفرضيّة الحجّ ، فإذا لم يأذن لها قبل إحرامها ، وأحرمت ، كان له منعها ، فصارت كالصّورة الأولى على الأصحّ عندهم . وإن أحرمت بحجّة الفرض وكان لها زوج وليس معها محرم ، فمنعها الزّوج ، فهي محصرة في ظاهر الرّواية عند الحنفيّة ، وكذا عند الشّافعيّة والحنابلة . وأمّا عند المالكيّة فلا تكون محصرةً إذا سافرت مع الرّفقة المأمونة ، وكانت هي مأمونةً أيضاً ، لأنّهم يكتفون بهذا لسفر المرأة في الحجّ الفرض ، ولا يشترطون إذن الزّوج للسّفر في الحجّ الفرض .
و - منع الأب ابنه عن المتابعة :
18 - مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ للأبوين أو أحدهما منع ابنه عن حجّ التّطوّع لا الفرض . وفي رواية عند المالكيّة والفرض أيضاً ، لكن لا يصير عند المالكيّة والحنابلة محصراً بمنعهما ، لما عرف من حصر المالكيّة أسباب الإحصار بما لا يدخل هذا فيه . ومذهب الحنفيّة : يكره الخروج إلى الحجّ إذا كره أحد أبويه وكان الوالد محتاجاً إلى خدمة الولد ، وإن كان مستغنياً عن خدمته فلا بأس . وذكر في السّير الكبير إذا كان لا يخاف عليه الضّيعة فلا بأس بالخروج . وحجّ الفرض أولى من طاعة الوالدين ، وطاعتهما أولى من حجّ النّفل .
ز - العدّة الطّارئة :
19 - والمراد طروء عدّة الطّلاق بعد الإحرام : فإذا أهلّت المرأة بحجّة الإسلام أو حجّة نذر أو نفل ، فطلّقها زوجها ، فوجبت عليها العدّة ، صارت محصرةً ، وإن كان لها محرم ، عند الحنفيّة دون أن تتقيّد بمسافة السّفر . وأمّا المالكيّة فأجروا على عدّة الطّلاق حكم وفاة الزّوج . وقال الشّافعيّة : لو أحرمت بحجّ أو قران بإذنه أو بغيره ، ثمّ طلّقها أو مات ، وخافت فوته لضيق الوقت ، خرجت وجوباً وهي معتدّة ؛ لتقدّم الإحرام . وإن أمنت الفوات لسعة الوقت جاز لها الخروج لذلك ، لما في تعيّن التّأخير من مشقّة مصابرة الإحرام . وأمّا الحنابلة ففرّقوا بين علّة الطّلاق المبتوت والرّجعيّ ، فلها أن تخرج إليه - يعني الحجّ - في عدّة الطّلاق المبتوت ، وأمّا عدّة الرّجعيّة فالمرأة في الإحصار كالزّوجة .
المنع بعلّة تمنع المتابعة
20 - ومن صوره : الكسر أو العرج - المرض - هلاك النّفقة - هلاك الرّاحلة - العجز عن المشي - الضّلالة عن الطّريق . وتحقّق الإحصار بسبب من هذه الأسباب هو مذهب الحنفيّة . أمّا الجمهور فيقولون إنّها لا تجعل صاحبها محصراً شرعاً ، فإذا حبس بشيء منها لا يتحلّل حتّى يبلغ البيت ، فإن أدرك الحجّ فيها ، وإلاّ تحلّل بأعمال العمرة ، ويكون حكمه حكم ( الفوات ) . انظر مصطلح ( فوات ) الكسر أو العرج :
21 - والمراد بالعرج المانع من الذّهاب والأصل في هذا السّبب ما سبق في الحديث : « من كسر أو عرج فقد حلّ » . المرض :
22 - والمعتبر هنا المرض الّذي لا يزيد بالذّهاب ، بناءً على غلبة الظّنّ ، أو بإخبار طبيب حاذق متديّن . والأصل في الإحصار بالمرض من السّنّة الحديث الّذي سبق فقد ورد في بعض رواياته : « أو مرض » . هلاك النّفقة أو الرّاحلة :
23 - إن سرقت نفقة المحرم في الطّريق بعد أن أحرم ، أو ضاعت ، أو نهبت ، أو نفدت ، إن قدر على المشي فليس بمحصر ، وإن لم يقدر على المشي فهو محصر ، على ما في التّجنيس . العجز عن المشي :
24 - إن أحرم وهو عاجز عن المشي ابتداءً من أوّل إحرامه ، وله قدرة على النّفقة دون الرّاحلة ، فهو محصر حينئذ . والضّلالة عن الطّريق :
25 - أي طريق مكّة أو عرفة . فمن ضلّ الطّريق فهو محصر .
أحكام الإحصار
تندرج أحكام الإحصار في أمرين : التّحلّل ، وما يجب على المحصر بعد التّحلّل .
التّحلّل
تعريف التّحلّل :
26 - التّحلّل لغةً : أن يفعل الإنسان ما يخرج به من الحرمة . واصطلاحاً : هو فسخ الإحرام ، والخروج منه بالطّريق الموضوع له شرعاً .
جواز التّحلّل للمحصر :
27 - إذا تحقّق للمحرم وصف الإحصار فإنّه يجوز له التّحلّل . وهذا الحكم متّفق عليه بين العلماء ، كلّ حسب الأسباب الّتي يعتبرها موجبةً لتحقّق الإحصار الشّرعيّ . والأصل في الإحرام وجوب المضيّ على المحرم في النّسك الّذي أحرم به ، وألاّ يخرج من إحرامه إلاّ بتمام موجب هذا الإحرام ، لقوله تعالى : { وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه } . لكن جاز التّحلّل للمحصر قبل إتمام موجب إحرامه استثناءً من هذا الأصل ، لما دلّ عليه الدّليل الشّرعيّ . والدّليل على جواز التّحلّل قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } . وجه الاستدلال بالآية : أنّ الكلام على تقدير مضمر ، ومعناه واللّه أعلم ، فإن أحصرتم عن إتمام الحجّ أو العمرة ، وأردتم أن تحلّوا فاذبحوا ما تيسّر من الهدي . والدّليل على هذا التّقدير أنّ الإحصار نفسه لا يوجب الهدي ، ألا ترى أنّ له أن لا يتحلّل ويبقى محرماً كما كان ، إلى أن يزول المانع ، فيمضي في موجب الإحرام . ومن السّنّة : « فعله صلى الله عليه وسلم فقد تحلّل وأمر أصحابه بالتّحلّل عام الحديبية حين صدّهم المشركون عن الاعتمار بالبيت العتيق » ، كما وردت الأحاديث الصّحيحة السّابقة .
المفاضلة بين التّحلّل ومصابرة الإحرام :
28 - أطلق الحنفيّة الحكم على المحصر أنّه " جاز له التّحلّل " وأنّه رخصة في حقّه ، حتّى لا يمتدّ إحصاره ، فيشقّ عليه ، وأنّ له أن يبقى محرماً . يرجع إلى أهله بغير تحلّل ويعتبر محرماً حتّى يزول الخوف . وقال المالكيّة إن منعه بعض ما ذكر من أسباب الإحصار الثّلاثة المعتبرة عندهم ، عند إتمام حجّ ، بأن أحصر عن الوقوف والبيت معاً ، أو عن إكمال عمرة ، بأن أحصر عن البيت أو السّعي ، فله التّحلّل بالنّيّة ، ممّا هو محرم به ، في أيّ محلّ كان ، قارب مكّة أو لا ، دخلها أو لا . وله البقاء لقابل أيضاً ، إلاّ أنّ تحلّله أفضل . أمّا من منع عن إتمام نسكه بغير الأسباب الثّلاثة ( العدوّ والفتنة والحبس ) كالمرض ، فإن قارب مكّة كره له إبقاء إحرامه بالحجّ لقابل ، ويتحلّل بفعل عمرة . أمّا الشّافعيّة ففرّقوا بين حالي اتّساع الوقت وضيقه : فإن كان الوقت واسعاً فالأفضل أن لا يعجّل التّحلّل ، فربّما زال المنع فأتمّ الحجّ ، ومثله العمرة ، وإن كان الوقت ضيّقاً فالأفضل تعجيل التّحلّل ؛ لئلاّ يفوت الحجّ . وذلك ما لم يغلب على ظنّ المحرم المحصر إدراكه بعد الحصر ، أو إدراك العمرة في ثلاثة أيّام فيجب الصّبر كما سبق . وأطلق الحنابلة فقالوا " المستحبّ له الإقامة مع إحرامه رجاء زوال الحصر ، فمتى زال قبل تحلّله فعليه المضيّ لإتمام نسكه . والحاصل أنّ جواز التّحلّل متّفق عليه ، إنّما اختلفوا في المفاضلة بينه وبين البقاء على الإحرام ، فإن اختار المحصر التّحلّل تحلّل متى شاء ، إذا صنع ما يلزمه للتّحلّل ، ممّا سيأتي ذكره في موضعه . وهذا الحكم سواء فيه المحصر عن الحجّ ، أو عن العمرة ، أو عنهما معاً ، عند عامّة العلماء .
التّحلّل من الإحرام الفاسد :
29 - يجوز للمحرم الّذي فسد إحرامه - إذا أحصر - أن يتحلّل من إحرامه الفاسد ، فإذا جامع المحرم بالحجّ جماعاً مفسداً ثمّ أحصر تحلّل ، ويلزمه دم للإفساد ، ودم للإحصار ، ويلزمه القضاء بسبب الإفساد اتّفاقاً هنا ؛ لأنّ الخلاف في القضاء هو في الإحصار بعد الإحرام الصّحيح . فلو لم يتحلّل حتّى فاته الوقوف ، ولم يمكنه الطّواف بالكعبة ، تحلّل في موضعه تحلّل المحصر ، ويلزمه ثلاثة دماء : دم للإفساد ، ودم للفوات ، ودم للإحصار . فدم الإفساد بدنة ، والآخران شاتان ، ويلزمه قضاء واحد . لكن عند المالكيّة يكفيه في الصّورة الأولى هدي واحد هو هدي الإفساد : بدنة ؛ لأنّه لا هدي على المحصر عند المالكيّة . وعليه في الصّورة الثّانية هديان عند الحنفيّة والمالكيّة : هدي الإفساد وهدي الإحصار عند الحنفيّة ؛ لأنّه لا دم عندهم للفوات ، وهدي الإفساد . وهدي الفوات عند المالكيّة .
البقاء على الإحرام :
30 - إن اختار المحصر البقاء على الإحرام ومصابرته حتّى يزول المانع فله بالنّسبة للحجّ حالان : الحالة الأولى : أن يتمكّن من إدراك الحجّ بإدراك الوقوف بعرفة ، فبها ونعمت . الحالة الثّانية : أن لا يتمكّن من إدراك الحجّ ، بأن يفوته الحجّ لفوات الوقوف بعرفة . فاتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه يتحلّل تحلّل فوات الحجّ ، بأن يؤدّي أعمال العمرة . ثمّ اختلفوا : فقال : الحنفيّة لا دم عليه لأنّ ذلك هو حكم الفوات وعليه القضاء . وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا : عليه دم الفوات دون دم الإحصار . والأصحّ أنّه لا قضاء عليه عند الشّافعيّة وعليه القضاء عند الحنابلة ، كما هي القاعدة عندهم : « إنّ من لم يتحلّل حتّى فاته الحجّ لزمه القضاء » . وأمّا المالكيّة فقالوا : لو استمرّ المحصر على إحرامه حتّى دخل وقت الإحرام من العام القابل ، وزال المانع فلا يجوز له أن يتحلّل بالعمرة ليسر ما بقي . فقد أجاز المالكيّة البقاء على الإحرام بعد الفوات ، ولم يلزموه بالتّحلّل بعمرة ، وعندهم يجزئه الإحرام السّابق للحجّ في العام القابل .
31 - وأمّا إذا بقي الإحصار قائماً وفات الحجّ : فعند المالكيّة والشّافعيّة له أن يحلّ تحلّل المحصر ، ولا قضاء عليه . وعليه دم عند الشّافعيّة . وفي قول عليه القضاء . أمّا الحنابلة فأوجبوا عليه القضاء ، فيما يظهر من كلامهم . وأمّا الحنفيّة فحكمه عندهم حكم الفوات ، ولا أثر للحصر .
حكمة مشروعيّة التّحلّل :
32 - المحصر كما قال الكاسانيّ محتاج إلى التّحلّل ؛ لأنّه منع عن المضيّ في موجب الإحرام ، على وجه لا يمكنه الدّفع ، فلو لم يجز له التّحلّل لبقي محرماً لا يحلّ له ما حظره الإحرام إلى أن يزول المانع فيمضي في موجب الإحرام ، وفيه من الضّرر والحرج ما لا يخفى ، فمسّت الحاجة إلى التّحلّل والخروج من الإحرام ، دفعاً للضّرر والحرج . وسواء كان الإحصار عن الحجّ ، أو عن العمرة ، أو عنهما عند عامّة العلماء .
ما يتحلّل به المحصر
33 - الإحصار بحسب إطلاق الإحرام الّذي وقع فيه أو تقييده بالشّرط نوعان : النّوع الأوّل : الإحصار في الإحرام المطلق ، وهو الّذي لم يشترط فيه المحرم لنفسه حقّ التّحلّل إذا طرأ له مانع . النّوع الثّاني : الإحصار في الإحرام الّذي اشترط فيه المحرم التّحلّل . التّحلّل بالإحصار في الإحرام المطلق 34 - ينقسم هذا الإحصار إلى قسمين ، حسبما يستخلص من الفقه الحنفيّ : القسم الأوّل : الإحصار بمانع حقيقيّ ، أو شرعيّ لحقّ اللّه تعالى ، لا دخل لحقّ العبد فيه . القسم الثّاني : الإحصار بمانع شرعيّ لحقّ العبد لا لحقّ اللّه تعالى . وقد وجدت نتيجة التّقسيم من حيث الحكم مطابقةً لغير الحنفيّة إجمالاً ، فيما اتّفقوا مع الحنفيّة على كونه إحصاراً .
كيفيّة تحلّل المحصر أوّلاً : نيّة التّحلّل :
35 - إنّ مبدأ نيّة التّحلّل بالمعنى الواسع متّفق عليه كشرط لتحلّل المحصر من إحرامه ، ثمّ وقع الخلاف فيما وراء ذلك : أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقد شرطوا نيّة التّحلّل عند ذبح الهدي ، بأن ينوي التّحلّل بذبحه ؛ لأنّ الهدي قد يكون للتّحلّل وقد يكون لغيره فوجب أن ينوي ليميّز بينهما ثمّ يحلق ؛ ولأنّ من أتى بأفعال النّسك فقد أتى بما عليه فيحلّ منها بإكمالها ، فلم يحتج إلى نيّة ، بخلاف المحصور ، فإنّه يريد الخروج من العبادة قبل إكمالها ، فافتقر إلى قصده . كذلك تشترط نيّة التّحلّل عند الحلق ، بناءً على الأصحّ عند الشّافعيّة أنّ الحلق نسك ، وأنّه شرط لحصول التّحلّل ، كما سيأتي ( ف . . . . ) وذلك من الدّليل على شرطيّة النّيّة عند ذبح الهدي . وأمّا المالكيّة فقالوا : نيّة التّحلّل وحدها هي ركن التّحلّل فقط ، بالنّسبة لتحلّل المحصر بالعدوّ ، أو الفتنة ، أو الحبس بغير حقّ . هؤلاء يتحلّلون عند المالكيّة بالنّيّة فحسب ، ولا يغني عنها غيرها ، حتّى لو نحر الهدي وحلق ولم ينو التّحلّل لم يتحلّل . وأمّا الحنفيّة فقالوا : « إذا أحصر المحرم بحجّة أو عمرة ، وكذا إذا كان محرماً بهما ، وأراد التّحلّل - بخلاف من أراد الاستمرار على حاله ، منتظراً زوال إحصاره - يجب عليه أن يبعث الهدي . . . إلخ " فقد علّقوا التّحلّل ببعث الهدي وذبحه على إرادة التّحلّل ، واحترزوا عمّن أراد الاستمرار على حاله . فلو بعث هدياً ، وهو مريد الانتظار لا يحلّ بذبح الهدي إلاّ إذا قصد به التّحلّل .
ثانياً : ذبح الهدي : تعريف الهدي :
36 - الهدي ما يهدى إلى الحرم من حيوان وغيره . لكن المراد هنا وفي أبحاث الحجّ خاصّةً : ما يهدى إلى الحرم من الإبل والبقر والغنم والماعز خاصّةً . حكم ذبح الهدي لتحلّل المحصر :
36 م - ذهب جمهور العلماء إلى وجوب ذبح الهدي على المحصر ، لكي يتحلّل من إحرامه ، وأنّه لو بعث به واشتراه ، لا يحلّ ما لم يذبح . وهو مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وقول أشهب من المالكيّة . وذهب المالكيّة إلى أنّ المحصر يتحلّل بالنّيّة فقط ، ولا يجب عليه ذبح الهدي ، بل هو سنّة ، وليس شرطاً . استدلّ الجمهور بقوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } على ما سبق . واحتجّ الجمهور أيضاً بالسّنّة : « بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يحلّ يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتّى نحر الهدي » ، فدلّ ذلك على أنّ من شرط إحلال المحصر ذبح هدي إن كان عنده . وأمّا وجه قول المالكيّة ودليلهم فهو دليل من جهة القياس ، وهو كما ذكره أبو الوليد الباجيّ أنّه تحلّل مأذون فيه ، عار من التّفريط وإدخال النّقص ، فلم يجب به هدي ، أصل ذلك إذا أكمل حجّه .
ما يجزئ من الهدي في الإحصار
37 - يجزئ في الهدي الشّاة عن واحد ، وكذا الماعز باتّفاق العلماء ، وأمّا البدنة وهي من الإبل والبقر ، فتكفي عن سبعة عند الجماهير ومنهم الأئمّة الأربعة . وللتّفصيل ( ر : هدي ) .
ما يجب من الهدي على المحصر :
38 - اتّفق الفقهاء على أنّ المحرم بالعمرة مفردةً ، أو الحجّ مفرداً ، إذا أحصر يلزمه ذبح هدي واحد للتّحلّل من إحرامه . أمّا القارن فقد اختلفوا فيما يجب عليه من الهدي للتّحلّل بالإحصار : فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يحلّ بدم واحد ، حيث أطلقوا وجوب هدي على المحصر دون تفصيل ، والمسألة مشهورة . وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يحلّ إلاّ بدمين يذبحهما في الحرم . ومنشأ الخلاف هو اختلاف الفريقين في حقيقة إحرام القارن . ( انظر مصطلح إحرام ) . فالشّافعيّة ومن معهم : القارن عندهم محرم بإحرام واحد يجزئ عن الإحرامين : إحرام الحجّ وإحرام العمرة ، لذلك قالوا : يكفيه طواف واحد وسعي واحد للحجّ والعمرة مقرونين ، فألزموه إذا أحصر بهدي واحد . وأمّا الحنفيّة فالقارن عندهم محرم بإحرامين : إحرام الحجّ وإحرام العمرة ، لذلك ألزموه بطوافين وسعيين ، فألزموه إذا أحصر بهديين . وقالوا : الأفضل أن يكونا معيّنين مبيّنين ، هذا لإحصار الحجّ ، وهذا لإحصار العمرة ، كما ألزموه في جنايات الإحرام على القران الّتي يلزم فيها المفرد دم ألزموا القارن بدمين ، وكذا الصّدقة .
مكان ذبح هدي الإحصار :
39 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة في رواية إلى أنّ المحصر يذبح الهدي حيث أحصر ، فإن كان في الحرم ذبحه في الحرم ، وإن كان في غيره ذبحه في مكانه . حتّى لو كان في غير الحرم وأمكنه الوصول إلى الحرم فذبحه في موضعه أجزأه على الأصحّ في المذهبين . وذهب الحنفيّة - وهو رواية عن الإمام أحمد - إلى أنّ ذبح هدي الإحصار مؤقّت بالمكان ، وهو الحرم ، فإذا أراد المحصر أن يتحلّل يجب عليه أن يبعث الهدي إلى الحرم فيذبح بتوكيله نيابةً عنه في الحرم ، أو يبعث ثمن الهدي ليشتري به الهدي ويذبح عنه في الحرم . ثمّ لا يحلّ ببعث الهدي ولا بوصوله إلى الحرم ، حتّى يذبح في الحرم ، ولو ذبح في غير الحرم لم يتحلّل من الإحرام ، بل هو محرم على حاله . ويتواعد مع من يبعث معه الهدي على وقت يذبح فيه ليتحلّل بعده . وإذا تبيّن للمحصر أنّ الهدي ذبح في غير الحرم فلا يجزي . وفي رواية أخرى عن أحمد أنّه إن قدر على الذّبح في أطراف الحرم ففيه وجهان . استدلّ الشّافعيّة والحنابلة بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّه نحر هديه في الحديبية حين أحصر ، وهي من الحلّ . بدليل قوله تعالى : { والهدي معكوفاً أن يبلغ محلّه } . واستدلّوا كذلك من جهة العقل بما يرجع إلى حكمة تشريع التّحلّل من التّسهيل ورفع الحرج ، كما قال في المغني : « لأنّ ذلك يفضي إلى تعذّر الحلّ ، لتعذّر وصول الهدي إلى الحرم » ، أي وإذا كان كذلك دلّ على ضعف هذا الاشتراط . واستدلّ الحنفيّة على توقيت ذبح الهدي بالحرم بقوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . وتوجيه الاستدلال بالآية عندهم من وجهين : الأوّل : التّعبير ب " الهدي » . الثّاني : الغاية في قوله { حتّى يبلغ الهدي محلّه } وتفسير قوله " محلّه " بأنّه الحرم . واستدلّوا بالقياس على دماء القربات ، لأنّ الإحصار دم قربة ، والإراقة لم تعرف قربةً إلاّ في زمان ، أو مكان ، فلا يقع قربةً دونه . أي دون توقيت بزمان ولا مكان ، والزّمان غير مطلوب ، فتعيّن التّوقيت بالمكان .
زمان ذبح هدي الإحصار :
40 - ذهب أبو حنيفة والشّافعيّ وأحمد - على المعتمد في مذهبه - إلى أنّ زمان ذبح الهدي هو مطلق الوقت ، لا يتوقّت بيوم النّحر ، بل أيّ وقت شاء المحصر ذبح هديه ، سواء كان الإحصار عن الحجّ أو عن العمرة . وقال أبو يوسف ومحمّد - وهو رواية عن الإمام أحمد - لا يجوز الذّبح للمحصر بالحجّ إلاّ في أيّام النّحر الثّلاثة ، ويجوز للمحصر بالعمرة متى شاء . استدلّ الجمهور بقوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } . فقد ذكر الهدي في الآية مطلقاً عن التّوقيت بزمان ، وتقييده بالزّمان نسخ أو تخصيص لنصّ الكتاب القطعيّ فلا يجوز إلاّ بدليل قاطع ولا دليل . واستدلّ أبو يوسف ومحمّد بأنّ هذا دم يتحلّل به من إحرام الحجّ ، فيختصّ بيوم النّحر في الحجّ . وربّما يعتبرانه بدم التّمتّع والقران فيقيسانه عليه ، حيث إنّه يجب أن يذبح في أيّام النّحر . ويتفرّع على هذا الخلاف أنّ المحصر يستطيع على مذهب الجمهور أن يتحلّل متى تحقّق إحصاره بذبح الهدي ، دون مشقّة الانتظار . أمّا على قول الصّاحبين : فلا يحلّ إلى يوم النّحر ؛ لأنّ التّحلّل متوقّف على ذبح الهدي ، ولا يذبح الهدي عندهما إلاّ أيّام النّحر .
العجز عن الهدي :
41 - مذهب الشّافعيّة والحنابلة وهو مرويّ عن أبي يوسف من عجز عن الهدي فله بدل يحلّ محلّ الهدي ، وفي تعيين هذا البدل ثلاثة أقوال عند الشّافعيّة . القول الأوّل وهو الأظهر : أنّ بدل الهدي طعام تقوّم به الشّاة ويتصدّق به ، فإن عجز عن قيمة الطّعام صام عن كلّ مدّ يوماً ، وهو قول أبي يوسف ، لكنّه قال : يصوم لكلّ نصف صاع يوماً . ثمّ إذا انتقل إلى الصّيام فله التّحلّل في الحال في الأظهر عند الشّافعيّة بالحلق والنّيّة عنده ؛ لأنّ الصّوم يطول انتظاره ، فتعظم المشقّة في الصّبر على الإحرام إلى فراغه . القول الثّاني : بدل الهدي الطّعام فقط ، وفيه وجهان : الأوّل أن يقوّم كما سبق . الثّاني أنّه ثلاث آصع لستّة مساكين ، مثل كفّارة جناية الحلق . القول الثّالث للشّافعيّة وهو مذهب الحنابلة أنّ بدل الدّم الصّوم فقط . وهو عشرة أيّام كصوم التّمتّع . وقال أبو حنيفة ومحمّد ، وهو قول عند الشّافعيّة وهو المعتمد في المذهب الحنفيّ لا بدل للهدي . فإن عجز المنحصر عن الهدي بأن لم يجده ، أو لم يجد ثمنه ، أو لم يجد من يبعث معه الهدي إلى الحرم بقي محرماً أبداً ، لا يحلّ بالصّوم ، ولا بالصّدقة ، وليسا ببدل عن هدي المحصر . وأمّا المالكيّة فلا يجب الهدي من أصله على المحصر عندهم ، فلا بحث في بدله عندهم . استدلّ الشّافعيّة والحنابلة القائلون بمشروعيّة البدل لمن عجز عن الهدي بالقياس ، ووجهه " أنّه دم يتعلّق وجوبه بإحرام ، فكان له بدل ، كدم التّمتّع » . وقاسوه أيضاً على غيره من الدّماء الواجبة ، فإنّ لها بدلاً عند العجز عنها ( ر : إحرام ) . واستدلّ الحنفيّة بقوله تعالى : { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . وجه دلالة الآية كما قال في البدائع : « نهى اللّه عن حلق الرّأس ممدوداً إلى غاية ذبح الهدي ، والحكم المدوّد إلى غاية لا ينتهي قبل وجود الغاية ، فيقتضي أن لا يتحلّل ما لم يذبح الهدي ، سواء صام ، أو أطعم ، أو لا » . وبتوجيه آخر : أنّه تعالى " ذكر الهدي ، ولم يذكر له بدلاً ، ولو كان له بدل لذكره ، كما ذكره في جزاء الصّيد » . واستدلّوا بالعقل وذلك " لأنّ التّحلّل بالدّم قبل إتمام موجب الإحرام عرف بالنّصّ ، بخلاف القياس ، فلا يجوز إقامة غيره مقامه بالرّأي » .
ثالثاً : الحلق أو التّقصير :
42 - مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف في رواية عنه - ومحمّد ومالك وهو قول عند الحنابلة الحلق ليس بشرط لتحلّل المحصر من الإحرام . ويحلّ المحصر عند الحنفيّة بالذّبح بدون الحلق ، وإن حلق فحسن ، وصرّح المالكيّة أنّ الحلق سنّة . وقال أبو يوسف في رواية ثانية : إنّه واجب ، ولو تركه لا شيء عليه . أي أنّه سنّة ، وفي رواية ثالثة عن أبي يوسف أنّه قال في الحلق للمحصر : « هو واجب لا يسعه تركه " وهو قوله آخراً ، وأخذ به الطّحاويّ . والأظهر عند الشّافعيّة وهو قول عند الحنابلة أنّ الحلق أو التّقصير شرط للتّحلّل ، وذلك بناءً على القول بأنّ الحلق نسك من مناسك الحجّ والعمرة ، كما هو المشهور الرّاجح في المذهبين ، ولا بدّ من نيّة التّحلّل بالحلق أو التّقصير لما ذكر في النّيّة عند الذّبح . استدلّ أبو حنيفة ومن معه بالقران وهو قوله تعالى : { فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي } ووجه دلالة الآية : أنّ المعنى : « إن أحصرتم وأردتم أن تحلّوا فاذبحوا ما استيسر من الهدي . جعل ذبح الهدي في حقّ المحصر إذا أراد الحلّ كلّ موجب الإحصار ، فمن أوجب الحلق فقد جعله بعض الموجب ، وهذا خلاف النّصّ » . واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف : « بفعله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فإنّه حلق ، وأمر أصحابه أن يحلقوا ، ولمّا تباطئوا عظم عليه صلى الله عليه وسلم حتّى بادر فحلق بنفسه ، فأقبل النّاس فحلقوا وقصّروا ، فدعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اللّهمّ اغفر للمحلّقين قالوا : والمقصّرين ؟ ، فقال والمقصّرين في الثّالثة أو الرّابعة » . ولولا أنّ الحلق نسك ما دعا لهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وإذا كان نسكاً وجب فعله كما يجب عند القضاء لغير المحصر . واستدلّ لهم أيضاً بالآية { ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه } . ووجه الاستدلال بها أنّ التّعبير بالغاية يقتضي " أن يكون حكم الغاية بضدّ ما قبلها ، فيكون تقديره ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فإذا بلغ فاحلقوا . وذلك يقتضي وجوب الحلق » .
تحلّل المحصر لحقّ العبد
43 - المحصر لحقّ العبد - على التّفصيل والخلاف السّابق - يكون تحليله على النّحو الآتي : عند الحنفيّة بأن يأتي من له الحقّ في الإحصار عملاً من محظورات الإحرام ناوياً التّحليل كقصّ شعر أو تقليم ظفر أو نحوهما ، ولا يكفي القول ، وعند المالكيّة على الرّاجح : يكون التّحلّل بنيّة المحصر ، فإن امتنع عن التّحلّل قام من كان الإحصار لحقّه بتحليله بنيّته أيضاً . وعند الشّافعيّة والحنابلة للزّوج تحليل زوجته ، وللأب تحليل ابنه ، وللسّيّد تحليل عبده في الأحوال السّابقة . ومعنى التّحليل عندهم على ما ذكروا في الزّوج والسّيّد : أن يأمر الزّوج زوجته بالتّحلّل ، فيجب عليها التّحلّل بأمره ، ويمتنع عليها التّحلّل قبل أمره . وتحلّلها كتحلّل المحصر بالذّبح ثمّ الحلق ، بنيّة التّحلّل فيهما . ولا يحصل التّحلّل إلاّ بما يحصل به تحلّل المحصر عند الشّافعيّة . ويقاس عليه تحليل الأب للابن أيضاً . ولو لم تتحلّل الزّوجة بعد أن أمرها زوجها بالتّحلّل ، فللزّوج أن يستمتع بها ، والإثم عليها .
إحصار من اشترط في إحرامه التّحلّل إذا حصل له مانع
معنى الاشتراط والخلاف فيه :
44 - الاشتراط في الإحرام : هو أن يقول المحرم عند الإحرام : « إنّي أريد الحجّ " مثلاً ، أو " العمرة ، فإن حبسني حابس فمحلّي حيث حبستني » . وقد اختلفت المذاهب في مشروعيّة الاشتراط في الإحرام ، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الاشتراط في الإحرام غير مشروع ، ولا أثر له في إباحة التّحلّل وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى مشروعيّة الاشتراط في الإحرام ، وأنّ له أثراً في التّحلّل . وتفصيله في مصطلح : ( إحرام ) .
آثار الاشتراط :
45 - أمّا عند الحنفيّة والمالكيّة المانعين لشرعيّة الاشتراط في الإحرام . فإنّ الاشتراط في الإحرام لا يفيد المحرم شيئاً ، ولا يجيز له أن يتحلّل إذا طرأ له مانع عن المتابعة ، من عدوّ ، أو مرض ، فلا يسقط عنه الهدي الّذي يتحلّل به المحصر عند الحنفيّة إذا أراد التّحلّل ، ولا يجزئه عن نيّة التّحلّل الّتي بها يتحلّل عند المالكيّة . ومذهب الشّافعيّة أنّ الاشتراط في الإحرام يفيد المحرم المشترط جواز التّحلّل إذا طرأ له مانع ممّا لا يعتبر سبباً للإحصار عند الشّافعيّة كالمرض ونفاد النّفقة ، وضلال الطّريق ، والأوجه في المرض أن يضبط بما يحصل معه مشقّة لا تحتمل عادةً في إتمام النّسك . ثمّ يراعي في كيفيّة التّحلّل ما شرطه عند الإحرام ، وفي هذا يقول الرّمليّ الشّافعيّ : إن شرطه بلا هدي لم يلزمه هدي ، عملاً بشرطه . وكذا لو أطلق - أي لم يتعرّض لنفي الهدي ولا لإثباته - لعدم شرطه ، ولظاهر خبر ضباعة . فالتّحلّل فيهما يكون بالنّيّة فقط . وإن شرطه بهدي لزمه ، عملاً بشرطه . ولو قال : إن مرضت فأنا حلال ، فمرض صار حلالاً بالمرض من غير نيّة وعليه حملوا خبر أبي داود وغيره بإسناد صحيح : « من كسر أو عرج فقد حلّ ، وعليه الحجّ من قابل » . وإن شرط قلب حجّه عمرةً بالمرض أو نحوه ، جاز ، كما لو شرط التّحلّل به ، بل أولى ، ولقول عمر لأبي أميّة سويد بن غفلة : حجّ واشترط ، وقل : اللّهمّ الحجّ أردت وله عمدت ، فإن تيسّر ، وإلاّ فعمرة رواه البيهقيّ بسند حسن . ولقول عائشة لعروة : هل تستثني إذا حججت ؟ فقال : ماذا أقول ؟ قالت : قل : اللّهمّ الحجّ أردت وله عمدت ، فإن يسّرته فهو الحجّ ، وإن حبسني حابس فهو عمرة . رواه الشّافعيّ والبيهقيّ بسند صحيح على شرط الشّيخين . فله في ذلك - أي إذا شرط قلب حجّه عمرةً - إذا وجد العذر أن يقلب حجّه عمرةً ، وتجزئه عن عمرة الإسلام . والأوجه أنّه لا يلزمه في هذه الحالة الخروج إلى أدنى الحلّ ولو بيسير ، إذ يغتفر في الدّوام ما لا يغتفر في الابتداء . ولو شرط أن ينقلب حجّه عمرةً عند العذر ، فوجد العذر ، انقلب حجّه عمرةً ، وأجزأته عن عمرة الإسلام ، بخلاف عمرة التّحلّل بالإحصار فإنّها لا تجزئ عن عمرة الإسلام ؛ لأنّها في الحقيقة ليست عمرةً ، وإنّما هي أعمال عمرة . وحكم التّحلّل بالمرض ونحوه حكم التّحلّل بالإحصار . وقال الحنابلة : يفيد الاشتراط عند الإحرام جواز التّحلّل على نحو ما قاله الشّافعيّ ، إلاّ أنّ الحنابلة توسّعوا ، فقالوا : يفيد اشتراط التّحلّل المطلق شيئين : أحدهما : أنّه إذا عاقه عائق من عدوّ ، أو مرض ، أو ذهاب نفقة ، ونحوه أنّ له التّحلّل . الثّاني : أنّه متى حلّ بذلك فلا دم عليه ولا صوم أي بدلاً عن الدّم - بل يحلّ بالحلق عليه التّحلّل . وهذا يوافق ما قاله الشّافعيّة ، إلاّ أنّ الحنابلة سوّوا في الاشتراط بين الموانع الّتي تعتبر سبباً للإحصار كالعدوّ ، وبين الموانع الّتي لا تعتبر سبباً للإحصار عندهم . أمّا الشّافعيّة فلم يجروا الاشتراط فيما يعتبر سبباً للإحصار . وملحظهم في ذلك أنّ التّحلّل بالإحصار جائز بلا شرط ، فشرطه لاغ . وإذا كان لاغياً ، لا يؤثّر في سقوط الدّم .
تحلّل من أحصر عن الوقوف بعرفة دون الطّواف
46 - هذا لا يعتبر محصراً عند الحنفيّة والحنابلة ، ويعتبر محصراً عند الشّافعيّة والمالكيّة ، ويتحلّل عند جميعهم بعمل عمرة ، على التّفصيل والاعتبار الخاصّ لهذه العمرة ، عند كلّ مذهب ، كما سبق . هذا وإنّ من أحصر عن الوقوف دون الطّواف إذا تحلّل قبل فوات وقت الوقوف بعرفة أجري عليه حكم المحصر . أمّا إن تأخّر في التّحلّل حتّى فات الوقوف أصبح حكمه حكم الفوات لا الحصر ، على ما قرّره المالكيّة . وهذا ينبغي أن يجري عند الشّافعيّ أيضاً . وقد قرّر الحنابلة أن يجري هذا الحكم عندهم إذا لم يفسخ الحجّ إلى عمرة حتّى فاته الحجّ .
تحلّل من أحصر عن البيت دون الوقوف
47 - من أحصر عن البيت دون الوقوف يعتبر محصراً عند الشّافعيّة والحنابلة ، على تفصيل سبق ذكره . وهذا يجب عليه أن يقف بعرفة ثمّ يتحلّل . ويحصل تحلّله بما يتحلّل به المحصر ، وهو الذّبح والحلق بنيّة التّحلّل فيهما . أمّا الحنفيّة والمالكيّة فلا يكون محصراً عندهم ، وعليه أن يأتي بطواف الإفاضة ، ويظلّ محرماً بالنّسبة للنّساء حتّى يفيض . وكذا هو عند الحنابلة إذا أحصر عن البيت بعد الرّمي ، على ما سبق بيانه . وكذا لو لم يتحلّل عند الشّافعيّة والحنابلة . ويؤدّي طواف الإفاضة بإحرامه الأوّل ؛ لأنّه ما دام لم يتحلّل التّحلّل الأكبر فإحرامه قائم ، إذ التّحلّل يكون بالطّواف ، ولم يوجد الطّواف ، فيكون الإحرام قائماً ، ولا يحتاج إلى إحرام جديد .
تفريع على شروط تحلّل المحصر
أجزية محظورات الإحرام قبل تحلّل المحصر :
48 - يتفرّع على شروط التّحلّل للمحصر أنّ المحصر إذا لم يتحلّل ، ووقع في بعض محظورات الإحرام ، أو تحلّل لكن وقع قبل التّحلّل في شيء من محظورات الإحرام فإنّه يجب عليه من الجزاء ما يجب على المحرم غير المحصر ، باتّفاق المذاهب الأربعة . إلاّ أنّ الحنابلة فيما ذهب إليه أكثرهم وقال المرداويّ : إنّه المذهب . قالوا : من كان محصراً فنوى التّحلّل قبل ذبح الهدي - أو الصّوم عند عدم الهدي - لم يحلّ . لفقد شرطه ، وهو الذّبح أو الصّوم بالنّيّة : أي بنيّة التّحلّل ، ولزم دم لكلّ محظور فعله بعد التّحلّل ، ودم لتحلّله بالنّيّة . فزادوا على الجمهور دماً لتحلّله بالنّيّة ، ووجهه عندهم : أنّه عدل عن الواجب عليه من هدي أو صوم - أي عند عدم الهدي - فلزمه دم .
ما يجب على المحصر بعد التّحلّل
قضاء ما أحصر عنه المحرم قضاء النّسك الواجب الّذي أحصر عنه المحرم :
49 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجب على المحصر قضاء النّسك الّذي أحصر عنه إذا كان واجباً ، كحجّة الإسلام ، والحجّ والعمرة المنذورين عند جميعهم ، وكعمرة الإسلام عند الشّافعيّة والحنابلة ، ولا يسقط هذا الواجب عنه بسبب الإحصار . وهذا ظاهر ؛ لأنّ الخطاب بالوجوب لا يسقط عن المكلّف إلاّ بأداء ما وجب عليه . لكن الشّافعيّة فصلوا بين الواجب المستقرّ وبين الواجب غير المستقرّ ، فقالوا : « إن كان واجباً مستقرّاً كالقضاء ، والنّذر ، وحجّة الإسلام الّتي استقرّ وجوبها قبل هذه السّنة بقي الوجوب في ذمّته كما كان ، وإنّما أفاده الإحصار جواز الخروج منها ، وإن كان واجباً غير مستقرّ ، وهي حجّة الإسلام في السّنة الأولى من سني الإمكان سقطت الاستطاعة فلا حجّ عليه إلاّ أن تجتمع فيه شروط الاستطاعة بعد ذلك . فلو تحلّل بالإحصار ثمّ زال الإحصار والوقت واسع وأمكنه الحجّ من سنته استقرّ الوجوب عليه لوجود الاستطاعة لكن له أن يؤخّر الحجّ عن هذه السّنة لأنّ الحجّ على التّراخي » . 50 - أمّا من أحصر عن نسك التّطوّع فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجب عليه القضاء ، واستدلّوا بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين رجع عن البيت في عام الحديبية لم يأمر أحداً من أصحابه ولا ممّن كان معه أن يقضوا شيئاً ولا أن يعودوا لشيء ، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه ، ولا قال في العام المقبل : إنّ عمرتي هذه قضاء عن العمرة الّتي حصرت فيها . ولم ينقل ذلك عنه ، وإنّما سمّيت عمرة القضاء وعمرة القضيّة لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قاضى قريشاً وصالحهم في ذلك العام على الرّجوع عن البيت ، وقصده من قابل فسمّيت بذلك عمرة القضيّة . وصرّح ابن رشد من المالكيّة بوجوب القضاء على الزّوجة والسّفيه وعزاه إلى ابن القاسم روايةً عن مالك . وقال الدّردير : يجب القضاء على الزّوجة فقط . وعلّله الدّسوقيّ بأنّ الحجر على الزّوجة ضعيف ؛ لأنّه لحقّ غيرها ، بخلاف الحجر على السّفيه ومن يشبهه لأنّه لحقّ نفسه . وذهب الحنفيّة إلى أنّه يجب قضاء النّفل الّذي أحصر عنه المحرم ؛ لأنّ اعتمار النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العام المقبل من عام الحديبية إنّما كان قضاءً لتلك العمرة ، ولذلك قيل لها عمرة القضاء . وروي ذلك عن الإمام أحمد . وهي رواية مقابلة للصّحيح .
ما يلزم المحصر في القضاء :
51 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المحصر عن الحجّ إذا تحلّل وقضى فيما يستقبل يجب عليه حجّ وعمرة ، والقارن عليه حجّة وعمرتان . أمّا المعتمر فيقضي العمرة فقط . وعليه نيّة القضاء في ذلك كلّه . وذهب الأئمّة الثّلاثة إلى أنّ النّسك الّذي وجب فيه القضاء للتّحلّل بالإحصار يلزم فيه قضاء ما فاته بالإحصار فحسب ، إن حجّةً فحجّةً فقط ، وإن عمرةً فعمرةً ، وهكذا . وعليه نيّة القضاء عندهم أيضاً . استدلّ الحنفيّة بما روي عن بعض الصّحابة كابن مسعود وابن عبّاس ، فإنّهما قالا في المحصر بالحجّ : « عليه عمرة وحجّة " وذلك لا يكون إلاّ عن توقيف . وتابعهما في ذلك علقمة ، والحسن ، وإبراهيم ، وسالم ، والقاسم ، ومحمّد بن سيرين . واستدلّ الجمهور بحديث : « من كسر أو عرج فقد حلّ ، وعليه الحجّ من قابل » . وجه الاستدلال به أنّه لم يذكر العمرة ، ولو كانت واجبةً مع الحجّ لذكرها .
موانع المتابعة بعد الوقوف بعرفة :
52 - موانع المتابعة بعد الوقوف بعرفة لها حالان : الحال الأولى : أن تمنع من الإفاضة وما بعدها . الحال الثّانية : أن تمنع ممّا بعد طواف الإفاضة . سبق البحث فيمن منع من طواف الإفاضة ، هل يكون محصراً أو لا ، مع بيان الخلاف في ذلك . أمّا على القول بأنّه يتحقّق فيه الإحصار إذا استوفى المانع شروط الإحصار فحكم تحلّله حكم تحلّل المحصر ، بكلّ التّفاصيل الّتي سبقت . وأمّا على القول بأنّه لا يتحقّق فيه الإحصار فإنّه يظلّ محرماً حتّى يؤدّي طواف الإفاضة ، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة . وعليه جزاء ما فاته من واجبات ، كما سيأتي .
موانع المتابعة بعد طواف الإفاضة :
53 - اتّفق العلماء على أنّ الحاجّ إذا منع عن المتابعة بعد أداء الوقوف بعرفة وطواف الإفاضة فليس بمحصر ، أيّاً كان المانع عدوّاً أو مرضاً أو غيرهما وليس له التّحلّل بهذا الإحصار ؛ لأنّ صحّة الحجّ لا تقف على ما بعد الوقوف والطّواف ، ويجب عليه فداء ترك ما تركه من أعمال الحجّ . فروع : ويتفرّع على هذين الأصلين فروع في المذاهب الفقهيّة هي . 54 - قال الحنفيّة : لو وقف بعرفة ، ثمّ عرض له مانع لا يكون محصراً شرعاً كما تقدّم ، ويبقى محرماً في حقّ كلّ شيء من محظورات الإحرام إن لم يحلق ، وإن حلق فهو محرم في حقّ النّساء لا غير إلى أن يطوف للزّيارة . وإن منع عن بقيّة أفعال حجّه بعد وقوفه حتّى مضت أيّام النّحر فعليه أربعة دماء مجتمعة ، لترك الوقوف بمزدلفة ، والرّمي ، وتأخير الطّواف ، وتأخير الحلق . وعليه دم خامس لو حلق في الحلّ ، بناءً على القول بوجوبه في الحرم ، وسادس لو كان قارناً أو متمتّعاً لفوات التّرتيب ، وعليه أن يطوف للزّيارة ولو إلى آخر عمره ، ويطوف للصّدر إن خلّى بمكّة وكان آفاقيّاً . وقال المالكيّة : لا يحلّ إلاّ بطواف الإفاضة إذا كان قدّم السّعي قبل الوقوف ثمّ حصر بعد ذلك . وأمّا إن كان حصر قبل سعيه فلا يحلّ إلاّ بالإفاضة والسّعي . وعليه هدي واحد للرّمي ومبيت ليالي منًى ونزول مزدلفة إذا تركها للحصر عنها ، كما لو تركها بنسيانها جميعها ، فإنّه يكون عليه هدي واحد . « وكأنّهم لاحظوا أنّ الموجب واحد ، لا سيّما وهو معذور » . وقال الشّافعيّة : إن كان الإحصار بعد الوقوف ، فإن تحلّل فذاك ، وإن لم يتحلّل حتّى فاته الرّمي والمبيت بمنًى فهو فيما يرجع إلى وجوب الدّم لفواتهما كغير المحصر . وقال الحنابلة : إن أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة فله التّحلّل ؛ لأنّ الحصر يفيده التّحلّل من جميعه فأفاد التّحلّل من بعضه . وإن كان ما حصر عنه ليس من أركان الحجّ كالرّمي ، وطواف الوداع ، والمبيت بمزدلفة ، أو بمنًى في لياليها فليس له تحلّل الإحصار ؛ لأنّ صحّة الحجّ لا تقف على ذلك ، ويكون عليه دم لتركه ذلك ، وحجّه صحيح ، كما لو تركه من غير حصر .
زوال الإحصار :
55 - اختلفت المذاهب في الآثار المترتّبة على زوال الإحصار ، فعند الحنفيّة تأتي الأحوال الآتية . الحالة الأولى : أن يزول الإحصار قبل بعث الهدي مع إمكان إدراك الحجّ . والحالة الثّانية : أن يزول الإحصار بعد بعث الهدي ، وهناك متّسع لإدراك الهدي والحجّ جميعاً . ففي هاتين الحالتين يجب عليه المضيّ في موجب إحرامه وأداء النّسك الّذي أحرم به . الحالة الثّالثة : أن لا يقدر على بعث الهدي ولا الحجّ معاً . فلا يلزمه المضيّ ، ويجوز له التّحلّل ، لعدم الفائدة من المضيّ ، فتقرّر الإحصار ، فيتقرّر حكمه . فيصبر حتّى يتحلّل بنحر الهدي في الوقت الّذي واعد عليه . وله أن يتوجّه ليتحلّل بأفعال العمرة ؛ لأنّه فائت الحجّ . فإذا تحلّل يلزمه في القضاء أداء عمرة إضافةً لما فاته ، لما سبق . الحالة الرّابعة : أن يقدر على إدراك الهدي ولا يقدر على إدراك الحجّ . فلا يلزمه المضيّ في أداء الحجّ أيضاً ؛ لعدم الفائدة في إدراك الهدي بدون إدراك الحجّ ، إذ الذّهاب لأجل إدراك الحجّ ، فإذا كان لا يدركه فلا فائدة في الذّهاب ، فكانت قدرته على إدراك الهدي وعدمها بمنزلة واحدة . الحالة الخامسة : أن يقدر على إدراك الحجّ ولا يقدر على إدراك الهدي : قياس مذهب أبي حنيفة في هذا الوجه أن يلزمه المضيّ ، ولا يجوز له التّحلّل ؛ لأنّه إذا قدر على إدراك الحجّ لم يعجز عن المضيّ في الحجّ ، فلم يوجد عذر الإحصار ، فلا يجوز له التّحلّل ، ويلزمه المضيّ . ووجه الاستحسان أنّا لو ألزمناه التّوجّه لضاع ماله ؛ لأنّ المبعوث على يديه الهدي يذبحه ولا حصل مقصوده . والأولى في توجيه الاستحسان أن نقول : يجوز له التّحلّل ؛ لأنّه إذا كان لا يقدر على إدراك الهدي صار كأنّ الإحصار زال عنه بالذّبح ، فيحلّ بالذّبح عنه ؛ ولأنّ الهدي قد مضى في سبيله ، بدليل أنّه لا يجب الضّمان بالذّبح على من بعث على يده بدنةً ، فصار كأنّه قدر على الذّهاب بعد ما ذبح عنه ، واللّه أعلم . وأمّا المالكيّة فقالوا . أ - من أحصر فلمّا قارب أن يحلّ انكشف العدوّ قبل أن يحلق وينحر فله أن يحلّ ويحلق ، كما لو كان العدوّ قائماً إذا فاته الحجّ في عامه ، وهو أيضاً على بعد من مكّة .
ب - إن انكشف الحصر وكان في الإمكان إدراك الحجّ في عامه فلا يحلّ .
ج - وأمّا إن انكشف الحصر وقد ضاق الوقت عن إدراك الحجّ إلاّ أنّه بقرب مكّة لم يحلّ إلاّ بعمل عمرة ؛ لأنّه قادر على الطّواف والسّعي من غير كبير مضرّة . وأمّا الشّافعيّة فقالوا : أ - إن زال الإحصار وكان الوقت واسعاً بحيث يمكنه تجديد الإحرام وإدراك الحجّ ، وكان حجّه تطوّعاً ، فلا يجب عليه شيء .
ب - وإن كان الوقت واسعاً وكانت الحجّة قد تقدّم وجوبها بقي وجوبها كما كان . والأولى أن يحرم بها في هذه السّنة ، وله التّأخير .
ج - وإن كانت الحجّة حجّة الإسلام وجبت هذه السّنة بأن استطاع هذه السّنة دون ما قبلها فقد استقرّ الوجوب في ذمّته لتمكّنه ، والأولى أن يحرم بها في هذه السّنة ، وله التّأخير ؛ لأنّ الحجّ عند الشّافعيّة على التّراخي . انظر مصطلح ( حجّ ) .
د - وإن كان الوقت ضيّقاً بحيث لا يمكنه إدراك الحجّ ، أي ولم يستقرّ الوجوب في ذمّته لكونها وجبت هذه السّنة - سقط عنه الوجوب في هذه السّنة ، فإن استطاع بعده لزمه ، وإلاّ فلا . وأمّا الحنابلة فقالوا : أ - إن لم يحلّ المحصر حتّى زال الحصر لم يجز له التّحلّل ؛ لأنّه زال العذر .
ب - إن زال العذر بعد الفوات تحلّل بعمرة ، وعليه هدي للفوات ، لا للحصر ؛ لأنّه لم يحلّ بالحصر .
ج - إن فاته الحجّ مع بقاء الحصر فله التّحلّل به ؛ لأنّه إذا حلّ بالحصر قبل الفوات فمعه أولى ، وعليه الهدي للحلّ ، ويحتمل أن يلزمه هدي آخر للفوات .
د - إن حلّ بالإحصار ثمّ زال الإحصار وأمكنه الحجّ من عامه لزمه ذلك إن قلنا بوجوب القضاء أو كانت الحجّة واجبةً لأنّ الحجّ على الفور ، وإن لم نقل بوجوب القضاء ولم تكن الحجّة واجبةً فلا يجب شيء .
زوال الإحصار بالعمرة :
56 - معلوم أنّ وقت العمرة جميع العمر ، فلا يتأتّى فيها كلّ الحالات الّتي ذكرت في زوال الإحصار بالحجّ . ويتأتّى فيها عند الحنفيّة الأحوال التّالية : الحال الأولى : أن يزول الإحصار قبل البعث بالهدي . وهذا يلزمه التّوجّه لأداء العمرة ووجهه ظاهر وقد تقدّم . الحال الثّانية : أن يتمكّن بعد زوال الإحصار من إدراك الهدي والعمرة ، وهذا يلزمه التّوجّه لأداء العمرة أيضاً كما تقدّم . الحال الثّالثة : أن يتمكّن من إدراك العمرة فقط دون الهدي . وهذه حكمها في الاستحسان ألاّ يلزمه التّوجّه ، وفي القياس أن يلزمه التّوجّه . وأمّا المالكيّة فقالوا : أ - إن انكشف العدوّ عن المحصر بالعمرة وكان بعيداً من مكّة وبلغ أن يحلّ فله أن يحلّ .
ب - وإن انكشف العدوّ وكان قريباً من مكّة " ينبغي ألاّ يتحلّل ، لأنّه قادر على فعل العمرة ، كما لو انكشف العدوّ في الحجّ والوقت متّسع » . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فعندهم : أ - إن انصرف العدوّ قبل تحلّل المحصر بالعمرة لم يجز له التّحلّل ، ووجب عليه أداء العمرة .
ب - إن انصرف العدوّ بعد التّحلّل وكانت العمرة الّتي تحلّل عنها واجبةً ، وجب عليه قضاؤها ، لكنّه لا يلزم به في وقت معيّن ؛ لأنّ العمرة غير مؤقّتة .
ج - إن زال الحصر بعد التّحلّل وكانت العمرة تطوّعاً فعلى القول بعدم وجوب قضاء التّطوّع لا شيء عليه .
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
تفريع على التّحلّل وزوال الإحصار :
أ - ( فرع ) في تحلّل المحصر من الإحرام الفاسد ثمّ زوال إحصاره :
57 - يتفرّع على تحلّل المحصر من الإحرام الفاسد ثمّ زوال إحصاره : أنّه إذا تحلّل المحصر من الإحرام الفاسد ، ثمّ زال الإحصار وفي الوقت متّسع ، فإنّه يقضي الحجّ الفاسد من سنته ، ويلزمه ذلك بناءً على من ذهب إلى أنّ القضاء على الفور . وهذه لطيفة : أن يتمكّن من قضاء الحجّ الفاسد في سنة الإفساد نفسها ، ولا يمكن أن يتحقّق ذلك إلاّ في هذه المسألة . وهذا متّفق عليه .
ب - ( فرع ) في الإحصار بعد الإحصار :
58 - إن بعث المحصر بالهدي إلى الحرم ثمّ زال إحصاره ، وحدث إحصار آخر ، فإن علم المحصر أنّه يدرك الهدي حيّاً ، ونوى به التّحلّل من إحصاره الثّاني بعد تصوّر إدراكه جاز وحلّ به ، إن صحّت شروطه ، وإن لم ينو لم يجز أصلاً . وهذا بناءً على مذهب الحنفيّة بوجوب بعث المحصر هديه إلى الحرم ، أمّا عند غيرهم فهو إحصار قبل التّحلّل ، يتحلّل منه بما يتحلّل من الإحصار السّابق واللّه تعالى أعلم .
إحصان
التّعريف
1 - الإحصان في اللّغة : معناه الأصليّ المنع ، ومن معانيه : العفّة والتّزوّج والحرّيّة . ويختلف تعريفه في الاصطلاح بحسب نوعيه : الإحصان في الزّنا ، والإحصان في القذف . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
2 - أهمّ شروط إحصان الرّجم لعقوبة الزّنا : التّزوّج ، وهو ممّا تعتريه الأحكام التّكليفيّة الخمسة على تفصيل موطنه مصطلح « نكاح » . وأهمّ شروط إحصان القذف العفّة ، وهي مطلوبة شرعاً ، وورد فيها كثير من الآيات والأحاديث ، كقوله تعالى : { وليستعفف الّذين لا يجدون نكاحاً } .
أنواع الإحصان : الإحصان نوعان :
3 - أ - إحصان الرّجم : وهو مجموعة من الشّروط إذا توفّرت في الزّاني كان عقابه الرّجم فالإحصان هيئة يكوّنها اجتماع الشّروط الّتي هي أجزاؤه ، وهي ثمانية ، وكلّ جزء علّة . فكلّ واحد من تلك الأجزاء شرط وجوب الرّجم .
4 - ب - إحصان القذف : وهو عبارة عن اجتماع صفات في المقذوف تجعل قاذفه مستحقّاً للجلد . وتختلف هذه الصّفات بحسب كيفيّة القذف : بالاتّهام بالزّنا ، أو بنفي النّسب .
حكمة مشروعيّة الإحصان :
5 - سيأتي أنّ إحصان الرّجم هو أن يكون حرّاً عاقلاً بالغاً مسلماً قد تزوّج امرأةً نكاحاً صحيحاً ودخل بها وهما على صفة الإحصان . والحكمة في اشتراط ذلك أنّ العقل والبلوغ شرط لأهليّة العقوبة ، إذ لا خطاب دونهما ، وما وراءهما يشترط لتكامل الجناية بواسطة تكامل النّعمة ، إذ كفران النّعمة يتغلّظ عند تكثّرها . وهذه الأشياء من جلائل النّعم ، وقد شرع الرّجم بالزّنا عند استجماعها فيناط به بخلاف الشّرف والعلم ؛ لأنّ الشّرع ما ورد به باعتبارهما ، ونصب الشّرع بالرّأي متعذّر ؛ ولأنّ الحرّيّة ممكّنة من النّكاح الصّحيح ، والنّكاح الصّحيح ممكّن من الوطء الحلال ، والإصابة شبع بالحلال ، والإسلام يمكّنه من نكاح المسلمة ويؤكّد اعتقاد الحرمة فيكون الكلّ مزجرةً عن الزّنا ، والجناية بعد توفّر الزّواجر أغلظ . وأمّا اشتراط العفّة في إحصان القذف فلأنّ غير العفيف لا يلحقه العار بنسبته إلى الزّنا ؛ لأنّ تحصيل الحاصل محال . ولو لحقه عار آخر فهو صدق ، وحدّ القذف للفرية لا للصّدق .
شروط إحصان الرّجم :
6 - اتّفق الفقهاء على بعض شروط الإحصان في جريمة الزّنا ، واختلفوا في البعض الآخر فمن الشّروط المتّفق عليها : أوّلاً وثانياً : البلوغ والعقل : وهما شرطان لأصل التّكليف ، فيجب توفّرهما في المحصن وغير المحصن وقت ارتكاب الجريمة ، فالوطء الّذي يحصن يشترط أن يكون من بالغ عاقل فإذا حصل الوطء من صبيّ ومجنون ثمّ بلغ أو عقل بعد الوطء لم يكن بالوطء السّابق محصناً . وإذا زنى عوقب بالجلد على أنّه غير محصن . وخالف في هذا بعض أصحاب الشّافعيّ وهو المرجوح في المذهب ، فقالوا : إنّ الواطئ يصير محصناً بالوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون . وحجّتهم أنّ ذلك الوطء وطء مباح ، فيجب أن يثبت به الإحصان ، لأنّ النّكاح إذا صحّ قبل البلوغ وأثناء الجنون فإنّ الوطء يصبح تبعاً له . وحجّة جمهور الفقهاء أنّ الرّجم عقوبة الثّيّب ، ولو اعتبرت الثّيوبة حاصلةً بالوطء قبل البلوغ وأثناء الجنون لوجب رجم الصّغير والمجنون ، وهذا ما لا يقول به أحد . وعند مالك ، وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ووجه للحنابلة ، أنّه يكفي أن تتوفّر شروط الإحصان في أحد الزّوجين ليكون محصناً بغضّ النّظر عمّا إذا كان الزّوج الآخر تتوفّر فيه هذه الشّروط أم لا ، إلاّ أنّ المالكيّة لا يعتبرون الزّوجة محصنةً إلاّ إذا كان واطئها بالغاً : فشرط تحصين الذّكر أن تتوفّر فيه شروط الإحصان مع إطاقة موطوءته له ولو كانت صغيرةً أو مجنونةً ، وتتحصّن الأنثى عند المالكيّة بتوفّر شروط الإحصان فيها وببلوغ واطئها ولو كان مجنوناً . واشترط الحنفيّة - وهو مقابل الصّحيح عند الشّافعيّة ووجه للحنابلة - البلوغ والعقل في الطّرفين عند الوطء ليكون كلّ منهما محصناً فإن توافر في أحدهما فقط لم يعتبر أيّ منهما محصناً . وللحنابلة وجه آخر بالنّسبة للصّغيرة الّتي لم تبلغ تسعاً ولا يشتهى مثلها فإنّه لا يعتبر وطء البالغ العاقل لها إحصاناً .
7 - ثالثاً : الوطء في نكاح صحيح :
يشترط لقيام الإحصان أن يوجد وطء في نكاح صحيح ، وأن يكون الوطء في القبل ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « والثّيّب بالثّيّب الجلد والرّجم » ، والثّيوبة تحصل بالوطء في القبل ، ولا خلاف في أنّ عقد النّكاح الخالي من الوطء لا يحصل به إحصان ولو حصلت فيه خلوة صحيحة أو وطء فيما دون الفرج ، أو وطء في الدّبر ؛ لأنّ هذه أمور لا تعتبر بها المرأة ثيّباً ، ولا تخرج عن الأبكار اللاّئي حدّهنّ الجلد . والوطء المعتبر هو الإيلاج في القبل على وجه يوجب الغسل سواء أنزل أو لم ينزل . وإن كان الوطء في غير نكاح كالزّنى ووطء الشّبهة فلا يصير الواطئ به محصناً باتّفاق . ويشترط في النّكاح أن يكون صحيحاً ، فإن كان فاسداً فإنّ الوطء فيه لا يحصن ، وهذا رأي جمهور الفقهاء ؛ لأنّه وطء في غير ملك فلا يحصل به إحصان كوطء الشّبهة . ويشترط إذا كان الوطء في نكاح صحيح ألاّ يكون وطئاً محرّماً كالوطء في الحيض أو الإحرام ، فإنّ الوطء الّذي يحرّمه الشّارع لا يحصن ولو كان في النّكاح صحيح . وزاد المالكيّة اشتراط أن يكون النّكاح الصّحيح لازماً . ويترتّب على ذلك أنّه لو كان في أحد الزّوجين عيب أو غرر يثبت به الخيار فلا يتحقّق به الإحصان . وقال أبو ثور : يحصل الإحصان بالوطء في نكاح فاسد ، وحكي ذلك عن اللّيث والأوزاعيّ ؛ لأنّ الصّحيح والفاسد سواء في أكثر الأحكام مثل وجوب المهر وتحريم الرّبيبة وأمّ المرأة ولحوق الولد ، فكذلك في الإحصان .
8 - ويتفرّع على اشتراط الوطء في القبل ما يلي : أ - وطء الخصيّ إذا كان لا يجامع ، وكذلك المجبوب والعنّين لا يحصن الموطوءة ، على أنّه إن جاءت بولد وثبت نسبه من الزّوج فالخصيّ والعنّين يحصنان الزّوجة ؛ لأنّ الحكم بثبوت النّسب حكم بالدّخول . والمجبوب عند أكثر العلماء لا تصير الزّوجة به محصنةً لعدم الآلة . ولا يتصوّر الجماع بدونها وثبوت حكم الإحصان يتعلّق بالجماع ، وخالف في ذلك زفر ؛ لأنّ الحكم بثبوت النّسب من المجبوب يجعل الزّوجة محصنةً .
ب - وطء الرّتقاء لا يحصنها لانعدام الجماع مع الرّتق ، كما أنّه لا يصبح محصناً بذلك إلاّ إذا وطئ غيرها بالشّروط السّابقة .
رابعاً الحرّيّة :
9 - الرّقيق ليس بمحصن ولو مكاتباً أو مبعّضاً أو مستولدةً لأنّه على النّصف من الحرّ ، والرّجم لا نصف له وإيجابه كلّه يخالف النّصّ مع مخالفة الإجماع . قال اللّه تعالى : { فإن أتين بفاحشة فعليهنّ نصف ما على المحصنات من العذاب } . وخالف في ذلك أبو ثور وقال : العبد والأمة هما محصنان يرجمان إذا زنيا . وحكي عن الأوزاعيّ في العبد تحته حرّة هو محصن ، وإن كان تحته أمة لم يرجم . ثمّ ذهب الفقهاء إلى أنّ العبد إذا عتق مع امرأته الأمة فإن جامعها بعد العتق يكونا محصنين ، علما بالعتق أو لم يعلما . وكذا لو نكح الحرّ أمةً أو الحرّة عبد فلا إحصان إلاّ أن يطأها بعد العتق .
خامساً : الإسلام :
10 - أمّا شرط الإسلام فالشّافعيّ وأحمد وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة لا يشترطون الإسلام في إحصان الرّجم ، فإن تزوّج المسلم ذمّيّةً فوطئها صارا محصنين ، لما روى مالك عن نافع عن ابن عمر أنّه قال : « جاء اليهود إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فذكروا له أنّ رجلاً منهم وامرأةً زنيا فأمر بهما رسول اللّه صلى الله عليه وسلم » . متّفق عليه ؛ ولأنّ الجناية بالزّنى استوت من المسلم والذّمّيّ ، فيجب أن يستويا في الحدّ . وعلى هذا يكون الذّمّيّان محصنين . وحدّهما الرّجم إذا زنيا فبالأولى إذا كانت الذّمّيّة زوجةً لمسلم . وجعل مالك وأبو حنيفة الإسلام شرطاً من شروط الإحصان ، فلا يكون الكافر محصناً ، ولا تحصن الذّمّيّة مسلماً عند أبي حنيفة ؛ لأنّ « كعب بن مالك لمّا أراد الزّواج من يهوديّة نهاه النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقال : إنّها لا تحصنك » ، ولأنّه إحصان من شرطه الحرّيّة فكان الإسلام شرطاً فيه كإحصان القذف . وعلى هذا فالمسلم المتزوّج من كتابيّة إذا زنى يرجم عند أكثر الفقهاء ولا يرجم عند أبي حنيفة لأنّه لا يعتبر محصناً ؛ لأنّ الكتابيّة عنده لا تحصن المسلم . ونظراً لأنّ مالكاً - وهو الصّحيح عند الشّافعيّة ووجه عند الحنابلة - لا يعتبر توفّر شروط الإحصان في الزّوجين فقد قال برأي الجمهور : أنّ الذّمّيّة تحصن المسلم ، ويستحقّ الرّجم إذا زنى . أمّا وجود الكمال في الطّرفين بمعنى وجود شروط الإحصان في الواطئ والموطوءة حال الوطء الّذي يترتّب عليه الإحصان فيرى أبو حنيفة وأحمد - وهو رأي عند الشّافعيّ - أنّ هذا من شروط الإحصان ، فيطأ مثلاً الرّجل العاقل امرأةً عاقلةً . وإذا لم تتوفّر هذه الشّروط في أحدهما فهما غير محصنين . فالزّاني المتزوّج من مجنونة أو صغيرة غير محصن ولو كان هو نفسه عاقلاً بالغاً ، ولكنّ مالكاً لا يشترط هذا ويكفي عنده أن تتوفّر شروط الإحصان في أحد الزّوجين ليكون محصناً بغضّ النّظر عمّا إذا كان الآخر تتوفّر فيه هذه الشّروط أم لا .
أثر الإحصان في الرّجم :
11 - ممّا سبق يتبيّن ما اتّفق عليه الفقهاء من شروط الإحصان وما اختلفوا فيه ، وإذا كان بعض الفقهاء يوجب توفّر هذه الشّروط في كلّ من الزّوجين لاعتبار أحدهما محصناً فإنّ الفقهاء جميعاً لا يشترطون إحصان كلّ من الزّانيين ، فإذا كان أحدهما محصناً والثّاني غير محصن رجم المحصن وجلد غير المحصن ، لما روي « أنّ رجلاً من الأعراب أتى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول اللّه أنشدك اللّه إلاّ قضيت لي بكتاب اللّه ، وقال الخصم الآخر - وهو أفقه منه - : نعم فاقض بيننا بكتاب اللّه وأذن لي ، فقال صلى الله عليه وسلم قل ، فقال : إنّ ابني كان عسيفاً على هذا ، فزنى بامرأته ، وإنّي أخبرت أنّ على ابني الرّجم ، فافتديت منه بمائة شاة ووليدة فسألت أهل العلم فأخبروني أنّ على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأنّ على امرأة هذا الرّجم ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : والّذي نفسي بيده لأقضينّ بينكما بكتاب اللّه . الوليدة والغنم ردّ عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام . واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا فإن اعترفت فارجمها . قال : فغدا عليها فاعترفت ، فأمر بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فرجمت » . وممّا تجدر الإشارة إليه أنّه لا يجب بقاء النّكاح لبقاء الإحصان ، فلو نكح في عمره مرّةً ثمّ طلّق وبقي مجرّداً ، وزنى رجم .
إثبات الإحصان :
12 - يثبت الإحصان في الرّجم بالإقرار الصّحيح وهو ما صدر من عاقل مختار فيجب أن يكون المقرّ بالإحصان عاقلاً مختاراً ؛ لأنّ المكره والمجنون لا حكم لكلامهما كما يثبت بشهادة الشّهود ، ويرى مالك والشّافعيّ وأحمد وزفر أنّه يكفي في إثبات الإحصان شهادة رجلين ؛ لأنّه حالة في الشّخص لا علاقة لها بواقعة الزّنى ، فلا يشترط أن يشهد بالإحصان أربعة رجال كما هو الحال في الزّنى . ولكنّ أبا يوسف ومحمّداً يريان أنّ الإحصان يثبت بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين . وكيفيّة الشّهادة أن يقول الشّهود : تزوّج امرأةً وجامعها أو باضعها ، ولو قال : دخل بها يكفي عند أبي حنيفة وأبي يوسف ؛ لأنّه متى اقترن الدّخول بحرف الباء يراد به الجماع ، وقال محمّد : لا يكفي ؛ لأنّ الدّخول يطلق على الخلوة بها .
ثبوت حدّ المحصن :
13 - اتّفق الفقهاء على وجوب رجم المحصن إذا زنى حتّى يموت ، رجلاً كان أو امرأةً ، مع خلاف في الجمع بين الجلد والرّجم . وعقوبة الرّجم ثابتة بالسّنّة والإجماع . فالرّجم ثابت عن الرّسول صلى الله عليه وسلم قولاً وفعلاً على تفصيل محلّه مصطلح « زنى » .
إحصان القذف
14 - لصيانة أعراض ذوي العفّة من الرّجال والنّساء حرّم اللّه قذف المحصنين والمحصنات ورتّب على ذلك عقوبةً دنيويّةً وأخرويّةً . شروط إحصان القذف :
15 - المحصن الّذي يحدّ قاذفه هو من تتوفّر فيه الشّروط الآتية باتّفاق الفقهاء ، إذا كان القذف بالزّنا ، أمّا في حالة نفي النّسب فيشترط أبو حنيفة فضلاً عن ذلك أن تكون الأمّ مسلمةً وأن تكون حرّةً . أ - الحرّيّة : فلا حدّ على قاذف العبد والأمة .
ب - الإسلام : فلا حدّ على قاذف مرتدّ أو كافر أصليّ ؛ لأنّه غير محصن . وإنّما اعتبر الكافر محصناً عند أكثر أهل العلم في حدّ الزّنا دون حدّ القذف لأنّ حدّه في الزّنا بالرّجم إهانة له ، وحدّ قاذف الكافر إكرام له ، والكافر ليس من أهل الإكرام . ج ، د - العقل والبلوغ : خرج الصّبيّ والمجنون لأنّه لا يتصوّر منهما الزّنا ، أو هو فعل محرّم ، والحرمة بالتّكليف ، وأبو حنيفة والشّافعيّ يشترطان البلوغ مطلقاً ، سواء أكان المقذوف ذكراً أم أنثى ، ولا يشترط مالك البلوغ في الأنثى ، ولكنّه يشترطه في الغلام ، ويعتبر الصّبيّة محصنةً إذا كانت تطيق الوطء ، أو كان مثلها يوطأ ولو لم تبلغ ، لأنّ مثل هذه الصّبيّة يلحقها العار . واختلفت الرّوايات عن أحمد في اشتراط البلوغ ، ففي رواية أنّ البلوغ شرط يجب توفّره في المقذوف ؛ لأنّه أحد شرطي التّكليف ، فأشبه العقل ؛ ولأنّ زنى الصّبيّ لا يوجب حدّاً ، فلا يجب الحدّ بالقذف به ، كزنى المجنون . وفي رواية ثانية أنّ البلوغ ليس شرطاً ، لأنّه حرّ عاقل عفيف يتعيّر بهذا القول الممكن صدقه ، فأشبه الكبير . وعلى هذه الرّواية لا بدّ أن يكون كبيراً ممّن يتأتّى منه الجماع . ويرجع فيه إلى اختلاف البلاد .
هـ - العفّة عن الزّنى : معنى العفّة عن الزّنى ألاّ يكون المقذوف وطئ في عمره وطئاً حراماً في غير ملك ولا نكاح أصلاً ، ولا في نكاح فاسد فساداً مجمعاً عليه ، فإن كان قد فعل شيئاً من ذلك سقطت عفّته ، سواء كان الوطء زنًى موجباً للحدّ أم لا ، فالعفّة الفعليّة يشترطها الأئمّة الثّلاثة ، وأحمد يكتفي بالعفّة الظّاهرة عن الزّنى ، فمن لم يثبت عليه الزّنا ببيّنة أو إقرار ، ومن لم يحدّ للزّنا فهو عفيف . ثمّ إن كان القذف بنفي النّسب حدّ اتّفاقاً ، وإن كان بالزّنى فيمن لا يتأتّى منه الوطء فلا يحدّ قاذفه عند أبي حنيفة والشّافعيّ ومالك . وقالوا : لا حدّ على قاذف المجبوب ، وقال ابن المنذر : وكذلك الرّتقاء ، وقال الحسن : لا حدّ على قاذف الخصيّ ، لأنّ العار منتف عن هؤلاء للعلم بكذب القاذف ، والحدّ إنّما يجب لنفي العار . وعند أحمد يجب الحدّ على قاذف الخصيّ والمجبوب والمريض والرّتقاء والقرناء لعموم قوله تعالى : { والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً } . والرّتقاء داخلة في عموم هذا ، ولأنّه قاذف لمحصن فيلزمه الحدّ كقاذف القادر على الوطء ؛ ولأنّ إمكان الوطء أمر خفيّ لا يعلمه كثير من النّاس فلا ينتفي العار عند من لم يعلمه بدون الحدّ ، فيجب كقذف المريض .
إثبات الإحصان في القذف
16 - كلّ مسلم محمول على العفّة ما لم يقرّ بالزّنى ، أو يثبت عليه بأربعة عدول ، فإذا قذف إنسان بالزّنى فالمطالب بإثبات الزّنى وعدم العفّة هو القاذف ، لقوله تعالى : { والّذين يرمون المحصنات ثمّ لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدةً } . وأمّا المقذوف فلا يطالب بإثبات العفّة ؛ لأنّ النّاس محمولون عليها حتّى يثبت القاذف خلافه ، فإذا أقرّ القاذف بإحصان المقذوف ثبت الإحصان . وإن أنكر القاذف الإحصان فعليه أن يقيم البرهان على سقوط عفّة المقذوف ، فإن عجز عن الإثبات فليس له أن يحلّف المقذوف .
سقوط الإحصان :
17 - يسقط الإحصان بفقد شرط من شروطه ، فمن أصابه جنون أو عنّة أو رقّ بطل إحصانه . والمرتدّ يبطل إحصانه عند من يجعل الإسلام شرطاً في الإحصان . ولا حدّ على القاذف إذا تخلّف شرط من شروط الإحصان في المقذوف ، وإنّما عليه التّعزير إذا عجز عن إثبات صحّة ما قذف به . ويرى الأئمّة الثّلاثة توفّر شروط الإحصان إلى حالة إقامة الحدّ ، خلافاً لأحمد فإنّه يرى أنّ الإحصان لا يشترط إلاّ وقت القذف ولا يشترط بعده .
أثر الإحصان في القذف :
18 - إحصان المقذوف يوجب عقوبتين : جلد القاذف ، وهي عقوبة أصليّة ، وعدم قبول شهادته ، وهي عقوبة تبعيّة على تفصيل موطنه مصطلح : « قذف » .
أثر الرّدّة على الإحصان بنوعيه :
19 - لو ارتدّ المحصن لا يبطل إحصانه عند من لا يشترط الإسلام في الإحصان كالشّافعيّ وأحمد ، ويوافقهما أبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة . وحجّتهم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم رجم يهوديّين زنيا ، ولو كان الإسلام شرطاً في الإحصان ما رجمهما . ثمّ هذا داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم : « أو زنًى بعد إحصان " ؛ ولأنّه زنًى بعد إحصان فكان حدّه الرّجم كالّذي لم يرتدّ . ونظراً لأنّ أبا حنيفة يجعل الإسلام شرطاً في الإحصان فالمحصن إذا ارتدّ يبطل إحصانه . وحجّته حديث الرّسول صلى الله عليه وسلم : « من أشرك باللّه فليس بمحصن » . فكذلك المرتدّ لا يبقى محصناً لفقد شرط من شروط الإحصان وهو الإسلام . وبهذا أخذ مالك ، وذهب إلى أنّه إذا ثبت للرّجل والمرأة حكم الإحصان سواء في إحصان الرّجم أو القذف ، ثمّ ارتدّ عن الإسلام فإنّه يسقط عنه حكم الإحصان ، فإن رجع إلى الإسلام لم يكن محصناً إلاّ بإحصان مستأنف . واستدلّ مالك على ذلك بقول اللّه تعالى : { لئن أشركت ليحبطنّ عملك } وهذا قد أشرك ، فوجب أن يحبط كلّ عمل كان عمله .
إحلال
التّعريف
1 - الإحلال في اللّغة مصدر أحلّ ضدّ حرّم ، يقال : أحللت له الشّيء ، أي جعلته له حلالاً . ويأتي بمعنًى آخر وهو أحلّ لغة في حلّ ، أي دخل في أشهر الحلّ ، أو جاوز الحرم ، أو حلّ له ما حرم عليه من محظورات الحجّ . ولم يستعمل الفقهاء ، لفظ « إحلال " إلاّ للتّعبير عن معاني غيره من الألفاظ المشابهة مثل " استحلال ، وتحليل ، وتحلّل ، وحلول " فهي الّتي أكثر الفقهاء استعمالها ، لكنّهم استعملوا " الإحلال " بمعنى الإبراء من الدّين أو المظلمة . وأمّا استعمال البعض الإحلال بالمعنى اللّغويّ فيراد به الإطلاقات التّالية : أ - ففي مسألة الخروج من الإحرام عبّر الفقهاء بالتّحلّل ، أمّا التّعبير بالإحلال في هذه المسألة فهو لغويّ . ( ر : تحلّل ) .
ب - وفي مسألة جعل المحرم حلالاً عبّر الفقهاء بالاستحلال ، سواء كان قصداً أو تأويلاً . ( ر : استحلال ) .
ج - وفي المطلّقة ثلاثاً عبّروا بالتّحليل ( ر : تحليل ) .
د - وفي الدّين المؤجّل إذا حلّ عبّروا بالحلول ( ر حلول ) . الحكم الإجماليّ :
2 - يختلف الحكم بحسب اختلاف إطلاق لفظ ( إحلال ) على ما سبق في التّعريف . مواطن البحث :
3 - يرجع في كلّ إطلاق إلى مصطلحه
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
إحماء
انظر : حمو إحياء .
البيت الحرام
التّعريف
1 - الإحياء مصدر " أحيا " وهو جعل الشّيء حيّاً ، أو بثّ الحياة في الهامد ، ومنه قولهم : أحياه اللّه إحياءً ، أي جعله حيّاً ، وأحيا اللّه الأرض ، أي أخصبها بعد الجدب ، جاء في كتاب اللّه تعالى : { واللّه الّذي أرسل الرّياح فتثير سحاباً فسقناه إلى بلد ميّت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النّشور } . ولم يخرج استعمال الفقهاء لكلمة " إحياء " عن المعنى اللّغويّ ، فقالوا : « إحياء الموات " ، وأرادوا بذلك إنبات الأرض المجدبة ، وقالوا : إحياء اللّيل ، وإحياء ما بين العشاءين ، وأرادوا بذلك شغله بالصّلاة والذّكر ، وعدم تعطيله وجعله كالميّت في عطلته . وقالوا : إحياء البيت الحرام ، وأرادوا بذلك دوام وصله بالحجّ والعمرة ، وعدم الانقطاع عنه كالانقطاع عن الميّت ، وهكذا . وقالوا : إحياء السّنّة وأرادوا إعادة العمل بشعيرة من شعائر الإسلام بعد إهمال العمل بها . يختلف الإحياء بحسب ما يضاف إليه ، فهناك : أ - إحياء البيت الحرام .
ب - إحياء السّنّة .
ج - إحياء اللّيل .
د - وإحياء الموات . والمراد بإحياء البيت الحرام عند الفقهاء عمارة البيت بالحجّ ، وبالعمرة أيضاً عند بعضهم ، تشبيهاً للمكان المعمور بالحيّ ، ولغير المعمور بالميّت .
( الحكم الإجماليّ )
2 - نصّ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّ إحياء البيت الحرام بالحجّ فرض كفاية كلّ عام على المسلمين في الجملة . وهذا لا يتعارض مع كونه فرض عين في العمر مرّة واحدة على كلّ من استطاع إليه سبيلاً كما هو معلوم من الدّين بالضّرورة ؛ لأنّ المسألة مفروضة فيما إذا لم يحجّ عدد من المسلمين فرضاً ولا تطوّعاً ممّن يحصل بهم الشّعار عرفاً في كلّ عام ، فإنّ الإثم يلحق الجميع ، إذ المقصود الأعظم ببناء الكعبة هو الحجّ ، فكان به إحياؤها ، ولما أخرجه عبد الرّزّاق في مصنّفه عن ابن عبّاس رضي الله عنهما : لو ترك النّاس زيارة هذا البيت عاماً واحداً ما أمطروا . ومثل الحجّ في ذلك العمرة عند الشّافعيّة والتّادليّ من المالكيّة . ولا يغني عنهما الطّواف والاعتكاف والصّلاة ونحو ذلك ، وإن كانت هذه الطّاعات واجبةً أيضاً في المسجد الحرام وجوباً على الكفاية ، فإنّ التّعظيم وإحياء البقعة يحصل بجميع ذلك . وتطبيقاً على هذا فقد نصّ المالكيّة على أنّه يجب على إمام المسلمين أن يرسل جماعةً في كلّ سنة لإقامة الموسم ، فإن لم يكن هناك إمام فعلى جماعة المسلمين . هذا ولم أجد فيما وقفت عليه نصّاً للحنفيّة على ذلك .
( مواطن البحث )
3 - تناول الفقهاء حكم إحياء البيت الحرام بالتّفصيل في أوّل كتاب الجهاد ، لمناسبة حكم الجهاد ، وهو الوجوب الكفائيّ ، حيث تعرّضوا لتعريف الواجب على الكفاية وذكر شيء من فروض الكفايات وأحكامها ، كما ذكره بعضهم في أوّل كتاب الحجّ عند الكلام على حكم الحجّ . والّذين جمعوا أحكام المساجد في تآليف خاصّة ، أو عقدوا في كتبهم فصلاً خاصّاً بأحكام المسجد الحرام ، تعرّضوا له أيضاً كالبدر الزّركشيّ رحمه الله في كتابه : « إعلام السّاجد بأحكام المساجد » .
إحياء السّنّة
التّعريف
1 - السّنّة : الطّريقة المسلوكة في الدّين . والمراد بإحياء السّنّة هنا : إعادة العمل بشعيرة من شعائر الإسلام بعد إهمال العمل بها .
( الحكم الإجماليّ ومواطن البحث ) :
2 - إحياء السّنّة المماتة مطلوب شرعاً إمّا على سبيل فرض الكفاية ، وهو الأصل ، وإمّا على سبيل فرض العين ، وإمّا على سبيل النّدب . وتفصيل ذلك في مصطلح : أمر بالمعروف .
إحياء اللّيل
التّعريف
1 - الإحياء في اللّغة جعل الشّيء حيّاً ، ويريد الفقهاء من قولهم : « إحياء اللّيل " قضاء اللّيل أو أكثره بالعبادة ، كالصّلاة والذّكر وقراءة القرآن ونحو ذلك . وبذلك تكون المدّة هي أكثر اللّيل ، ويكون العمل عامّاً في كلّ عبادة .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - قيام اللّيل :
2 - المستفاد من كلام الفقهاء أنّ قيام اللّيل قد لا يكون مستغرقاً لأكثر اللّيل ، بل يتحقّق بقيام ساعة منه . أمّا العمل فيه فهو الصّلاة دون غيرها . وقد يطلقون قيام اللّيل على إحياء اللّيل . فقد قال في مراقي الفلاح : معنى القيام أن يكون مشتغلاً معظم اللّيل بطاعة ، وقيل ساعةً منه ، يقرأ القرآن أو يسمع الحديث أو يسبّح أو يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وكلّ واحد منهما قد يسبقه نوم بعد صلاة العشاء وقد لا يسبقه نوم .
ب - التّهجّد :
3 - التّهجّد لا يكون إلاّ بعد نوم . ولكن يطلقه كثير من الفقهاء على صلاة اللّيل مطلقاً .
مشروعيّته :
4 - اتّفق الفقهاء على أنّه يندب إحياء اللّيالي الفاضلة الّتي ورد بشأنها نصّ ، كما يندب إحياء أيّ ليلة من اللّيالي ، لقول عائشة رضي الله عنها : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينام أوّل اللّيل ويحيي آخره » ؛ لأنّ التّطوّع بالعبادة في اللّيل ، كالدّعاء والاستغفار في ساعاته مستحبّ استحباباً مؤكّداً ، وخاصّةً في النّصف الأخير من اللّيل ، ولا سيّما في الأسحار ، لقوله تعالى : { والمستغفرين بالأسحار } ، ولحديث جابر مرفوعاً : « إنّ في اللّيل لساعةً لا يوافقها رجل مسلم يسأل اللّه خيراً من أمر الدّنيا والآخرة إلاّ أعطاه اللّه إيّاه » رواه مسلم ، فهو ممّا يدخل في النّصوص الكثيرة الّتي تحضّ على العبادة .
أنواعه
5 - أ - إحياء ليال مخصوصة ورد نصّ بإحيائها كالعشر الأواخر من رمضان ، والعشر الأول من ذي الحجّة .
ب - إحياء ما بين المغرب والعشاء من كلّ ليلة ، وهذان النّوعان موضوع البحث .
الاجتماع لإحياء اللّيل :
6 - كره الحنفيّة والشّافعيّة الاجتماع لإحياء ليلة من اللّيالي في المساجد غير التّراويح ، ويرون أنّ من السّنّة إحياء النّاس اللّيل فرادى . وذهب الشّافعيّة إلى أنّه يكره ذلك ، ويصحّ مع الكراهة . وأجاز الحنابلة إحياء اللّيل بصلاة قيام اللّيل جماعةً ، كما أجازوا صلاته منفرداً ، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فعل الأمرين ، ولكن كان أكثر تطوّعه منفرداً ، فصلّى بحذيفة مرّةً ، وبابن عبّاس مرّةً ، وبأنس وأمّه مرّةً . وفرّق المالكيّة في الاجتماع على إحياء اللّيل بقيامه بين الجماعة الكثيرة والجماعة القليلة ، وبين المكان المشتهر والمكان غير المشتهر ، فأجازوا - بلا كراهة - اجتماع العدد القليل عليه إن كان اجتماعهم في مكان غير مشتهر ، إلاّ أن تكون اللّيلة الّتي يجتمعون لإحيائها من اللّيالي الّتي صرّح ببدعة الجمع فيها ، كليلة النّصف من شعبان ، وليلة عاشوراء ، فيكره .
إحياء اللّيل كلّه :
7 - صرّح الشّافعيّة والحنابلة بكراهة قيام اللّيل كلّه لحديث عائشة : « ما رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قام ليلةً حتّى الصّباح » . رواه مسلم . واستثنوا إحياء ليال مخصوصة ، لحديث عائشة : « كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان أحيا اللّيل كلّه » . متّفق عليه .
كيفيّته
8 - يكون إحياء اللّيل بكلّ عبادة ، كالصّلاة ، وقراءة القرآن والأحاديث ، وسماعها ، وبالتّسبيح والثّناء والصّلاة والسّلام على النّبيّ صلى الله عليه وسلم . ويصلّي في إحياء اللّيل ولو ركعتين . والتّفصيل في عدد ما يصلّي وكونه مثنى أو رباع ، موطنه " قيام اللّيل » . وكما يجوز له أن يحيي اللّيل بالصّلاة يجوز له أن يحييه بالدّعاء والاستغفار ، فيستحبّ لمن أحيا اللّيل أن يكثر من الدّعاء والاستغفار في ساعات اللّيل كلّها . وآكده النّصف الأخير ، وأفضله عند الأسحار . وكان أنس بن مالك يقول : أمرنا أن نستغفر بالسّحر سبعين مرّةً . وقال نافع : كان ابن عمر يحيي اللّيل ، ثمّ يقول : يا نافع ، أسحرنا ؟ فأقول : لا ، فيعاود الصّلاة . ثمّ يسأل ، فإذا قلت : نعم ، قعد يستغفر . وعن إبراهيم بن حاطب عن أبيه قال : سمعت رجلاً في السّحر في ناحية المسجد يقول : يا ربّ أمرتني فأطعتك ، وهذا سحر ، فاغفر لي ، فنظرت فإذا هو ابن مسعود .
إحياء اللّيالي الفاضلة :
9 - اللّيالي الفاضلة الّتي وردت الآثار بفضلها هي : ليلة الجمعة ، وليلتا العيدين ، وليالي رمضان ، ويخصّ منها ليالي العشر الأواخر منه ، ويخصّ منها ليلة القدر ، وليالي العشر الأول من ذي الحجّة ، وليلة نصف شعبان ، واللّيلة الأولى من رجب . وحكم إحياء هذه اللّيالي فيما يلي : إحياء ليلة الجمعة :
10 - نصّ الشّافعيّة على كراهة تخصيص ليلة الجمعة بقيام بصلاة ، لما رواه مسلم في صحيحه من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تخصّوا ليلة الجمعة بقيام من بين اللّيالي » . أمّا إحياؤها بغير صلاة فلا يكره ، لا سيّما الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّ ذلك مطلوب فيها . ولا يكره إحياؤها مضمومةً إلى ما قبلها ، أو إلى ما بعدها ، أو إليهما ، قياساً على ما ذكروه في الصّوم . وظاهر كلام بعض الحنفيّة ندب إحيائها بغير الصّلاة ؛ لأنّ صاحب مراقي الفلاح ساق حديث : « خمس ليال لا يردّ فيهنّ الدّعاء : ليلة الجمعة ، وأوّل ليلة من رجب ، وليلة النّصف من شعبان ، وليلتا العيد » . ولم يعلّق عليه .
إحياء ليلتي العيد
11 - يندب إحياء ليلتي العيدين ( الفطر ، والأضحى ) باتّفاق الفقهاء . لقوله عليه الصلاة والسلام : « من قام ليلتي العيد محتسباً لم يمت قلبه يوم تموت القلوب » . وذهب الحنفيّة اتّباعاً لابن عبّاس إلى أنّه يحصل له ثواب الإحياء بصلاة العشاء جماعةً ، والعزم على صلاة الصّبح جماعةً .
إحياء ليالي رمضان
12 - أجمع المسلمون على سنّيّة قيام ليالي رمضان عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم : « من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه » . ويخصّ منها العشر الأخير ، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كان إذا كان العشر الأواخر طوى فراشه ، وأيقظ أهله ، وأحيا ليله » . وذلك طلباً لليلة القدر الّتي هي إحدى ليالي العشر الأخير من رمضان . قال صلى الله عليه وسلم : « اطلبوا ليلة القدر في العشر الأواخر » . وكلّ هذا لا خلاف فيه .
إحياء ليلة النّصف من شعبان
13 - ذهب جمهور الفقهاء إلى ندب إحياء ليلة النّصف من شعبان ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « إذا كانت ليلة النّصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها ، فإنّ اللّه ينزل فيها لغروب الشّمس إلى السّماء الدّنيا ، فيقول : ألا من مستغفر فأغفر له ، ألا مسترزق فأرزقه ، ألا مبتلًى فأعافيه . . . كذا . . . كذا . . . حتّى يطلع الفجر » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه يطّلع ليلة النّصف من شعبان ، فيغفر لجميع خلقه إلاّ لمشرك أو مشاحن » . وبيّن الغزاليّ في الإحياء كيفيّةً خاصّةً لإحيائها ، وقد أنكر الشّافعيّة تلك الكيفيّة واعتبروها بدعةً قبيحةً ، وقال الثّوريّ هذه الصّلاة بدعة موضوعة قبيحة منكرة .
الاجتماع لإحياء ليلة النّصف من شعبان :
14 - جمهور الفقهاء على كراهة الاجتماع لإحياء ليلة النّصف من شعبان ، نصّ على ذلك الحنفيّة والمالكيّة ، وصرّحوا بأنّ الاجتماع عليها بدعة وعلى الأئمّة المنع منه . وهو قول عطاء بن أبي رباح وابن أبي مليكة . وذهب الأوزاعيّ إلى كراهة الاجتماع لها في المساجد للصّلاة ؛ لأنّ الاجتماع على إحياء هذه اللّيلة لم ينقل عن الرّسول صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من أصحابه . وذهب خالد بن معدان ولقمان بن عامر وإسحاق بن راهويه إلى استحباب إحيائها في جماعة .
إحياء ليالي العشر من ذي الحجّة :
15 - نصّ الحنفيّة والحنابلة على ندب إحياء اللّيالي العشر الأول من ذي الحجّة . لما رواه التّرمذيّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ما من أيّام أحبّ إلى اللّه أن يتعبّد له فيها من عشر ذي الحجّة ، يعدل صيام كلّ يوم منها بصيام سنة ، وقيام كلّ ليلة منها بقيام ليلة القدر » .
إحياء أوّل ليلة من رجب :
16 - ذكر بعض الحنفيّة وبعض الحنابلة من جملة اللّيالي الّتي يستحبّ إحياؤها أوّل ليلة من رجب ، وعلّل ذلك بأنّ هذه اللّيلة من اللّيالي الخمس الّتي لا يردّ فيها الدّعاء ، وهي : ليلة الجمعة ، وأوّل ليلة من رجب ، وليلة النّصف من شعبان ، وليلتا العيد .
إحياء ليلة النّصف من رجب :
17 - ذهب بعض الحنابلة إلى استحباب إحياء ليلة النّصف من رجب .
إحياء ليلة عاشوراء :
18 - ذهب بعض الحنابلة إلى استحباب إحياء ليلة عاشوراء .
إحياء ما بين المغرب والعشاء : مشروعيّته :
19 - الوقت الواقع بين المغرب والعشاء من الأوقات الفاضلة ، ولذلك شرع إحياؤه بالطّاعات ، من صلاة - وهي الأفضل - أو تلاوة قرآن ، أو ذكر للّه تعالى من تسبيح وتهليل ونحو ذلك . وقد كان يحييه عدد من الصّحابة والتّابعين وكثير من السّلف الصّالح . كما نقل إحياؤه عن الأئمّة الأربعة . وقد ورد في إحياء هذا الوقت طائفة من الأحاديث الشّريفة ، وإن كان كلّ حديث منها على حدة لا يخلو من مقال ، إلاّ أنّها بمجموعها تنهض دليلاً على مشروعيّتها ، منها :
1 - ما روته السّيّدة عائشة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « من صلّى بعد المغرب عشرين ركعةً بنى اللّه له بيتاً في الجنّة » .
2 - وعن ابن عمر ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من صلّى بعد المغرب ستّ ركعات كتب من الأوّابين » . حكمه :
20 - لا خلاف بين الفقهاء في أنّ إحياء ما بين المغرب والعشاء مستحبّ . وهو عند الشّافعيّة والمالكيّة مستحبّ استحباباً مؤكّداً . وكلام الحنابلة يفيده . عدد ركعاته :
21 - اختلف في عدد ركعات إحياء ما بين العشاءين تبعاً لما ورد من الأحاديث فيها . فذهب جماعة إلى أنّ إحياء ما بين العشاءين ، يكون بستّ ركعات ، وبه أخذ أبو حنيفة ، وهو الرّاجح من مذهب الحنابلة . واستدلّوا على ذلك بحديث ابن عمر السّابق . وفي رواية عند الحنابلة أنّها أربع ركعات ، وفي رواية ثالثة أنّها عشرون ركعةً . وذهب الشّافعيّة إلى أنّ أقلّها ركعتان وأكثرها عشرون ركعةً . وذلك جمعاً بين الأحاديث الواردة في عدد ركعاتها . وذهب المالكيّة إلى أنّه لا حدّ لأكثرها ولكن الأولى أن تكون ستّ ركعات . وتسمّى هذه الصّلاة بصلاة الأوّابين ، للحديث السّابق . وتسمّى صلاة الغفلة . وتسميتها بصلاة الأوّابين لا تعارض ما في الصّحيحين من قوله صلى الله عليه وسلم : صلاة الأوّابين إذا رمضت الفصال " ، لأنّه لا مانع أن تكون كلّ من الصّلاتين صلاة الأوّابين .
صلاة الرّغائب :
22 - ورد خبر بشأن فضل صلاة تسمّى صلاة الرّغائب في أوّل ليلة جمعة من رجب ، بين العشاءين . وممّن ذكره الغزاليّ في الإحياء . وقد قال عنه الحافظ العراقيّ : إنّه موضوع . وقد نبّه الحجّاويّ في الإقناع على أنّ تلك الصّلاة بدعة لا أصل لها .
إحياء الموات
1 - الإحياء في اللّغة جعل الشّيء حيّاً ، والموات : الأرض الّتي خلت من العمارة والسّكّان . وهي تسمية بالمصدر . وقيل : الموات الأرض الّتي لا مالك لها ، ولا ينتفع بها أحد . وإحياء الموات في الاصطلاح هو كما قال الأتقانيّ شارح الهداية : التّسبّب للحياة النّامية ببناء أو غرس أو كرب ( حراثة ) أو سقي . وعرّفه ابن عرفة بأنّه لقب لتعمير داثر الأرض بما يقتضي عدم انصراف المعمر عن انتفاعه بها . وعرّفه الشّافعيّة بأنّه عمارة الأرض الخربة الّتي لا مالك لها ، ولا ينتفع بها أحد . وعرّفه الحنابلة بأنّه عمارة ما لم يجر عليه ملك لأحد ، ولم يوجد فيه أثر عمارة .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - من الألفاظ ذات الصّلة : التّحجير أو الاحتجار ، والحوز ، والارتفاق ، والاختصاص ، والإقطاع ، والحمى .
أ - التّحجير :
3 - التّحجير أو الاحتجار لغةً واصطلاحاً : منع الغير من الإحياء بوضع علامة ، كحجر أو غيره ، على الجوانب الأربعة وهو يفيد الاختصاص لا التّمليك .
ب - الحوز والحيازة :
4 - الحوز والحيازة لغةً الضّمّ والجمع . وكلّ من ضمّ إلى نفسه شيئاً فقد حازه . والمراد من الحيازة اصطلاحاً وضع اليد على الشّيء المحوز . وهي لا تفيد الملك عند الجمهور خلافاً لبعض المالكيّة . وتفصيله في مصطلح : « حيازة » .
ج - الارتفاق :
5 - الارتفاق بالشّيء لغةً الانتفاع به . وهو في الاصطلاح لا يخرج - في الجملة - عن المعنى اللّغويّ ، على خلاف فيما يرتفق به . وموضعه مصطلح : ( ارتفاق ) .
د - الاختصاص :
6 - الاختصاص بالشّيء في اللّغة : كونه لشخص دون غيره . وهو في الاصطلاح لا يخرج عن ذلك . والاختصاص أحد الطّرق المؤدّية إلى إحياء الموات .
هـ - الإقطاع :
7 - الإقطاع في اللّغة والاصطلاح : جعل الإمام غلّة أرض رزقاً للجند أو غيرهم . ونصّ الحنابلة وغيرهم على أنّ للإمام إقطاع الموات لمن يحييه ، فيكون أحقّ به كالمتحجّر الشّارع في الإحياء . وهو نوع من أنواع الاختصاص . وتفصيله في مصطلح ( إقطاع ) .
صفة الإحياء ( حكمه التّكليفيّ ) :
8 - حكمه الجواز ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من أحيا أرضاً ميّتةً فهي له » . على أنّ الشّافعيّة ذهبوا إلى أنّه مستحبّ ، للحديث الّذي رواه النّسائيّ : « من أحيا أرضاً ميّتةً فله فيها أجر » . وحكمة مشروعيّته أنّه سبب لزيادة الأقوات والخصب للأحياء .
أثر الإحياء
( حكمه الوضعيّ )
9 - ذهب الجمهور إلى أنّ المحيي يملك ما أحياه إذا توافرت الشّروط ، وذلك للحديث السّابق ، خلافاً لبعض الحنفيّة ، كالفقيه أبي القاسم أحمد البلخيّ ، إذ قالوا : إنّه يثبت ملك الاستغلال لا ملك الرّقبة ، قياساً على السّبق للانتفاع بالمرافق العامّة ، كالمجالس ، وخلافاً لبعض الحنابلة الّذين ذهبوا إلى أنّ الذّمّيّ لا يملك الإحياء في دار الإسلام ، إنّما يملك الانتفاع .
أقسام الموات :
10 - الموات قسمان : أصليّ وهو ما لم يعمر قطّ ، وطارئ : وهو ما خرب بعد عمارته . الأراضي الّتي كانت جزائر وأنهاراً :
11 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأنهار والجزائر ونحوهما إذا انحسر عنها الماء فصارت أرضاً يابسةً ترجع إلى ما كانت عليه . فإن كانت مملوكةً لأحد أو وقفاً أو مسجداً عادت إلى المالك أو الوقف أو المسجد ، ولا يجوز إحياؤها ، لكن قيّد المالكيّة ذلك بما إذا كان المالك ملك الأرض بالشّراء ، فإن كان ملكها بالإحياء جاز للغير إحياؤها . واختلفوا فيما إذا لم تكن مملوكةً لأحد أو لم يعرف للأرض مالك : فذهب الحنفيّة إلى أنّ النّهر إذا كان بعيداً ، بحيث لا يعود إليه الماء ، تكون أرضه مواتاً يجوز إحياؤها . وكذلك الحكم إذا كان النّهر قريباً في ظاهر الرّواية ، وهو الصّحيح ؛ لأنّ الموات اسم لما لا ينتفع به ، فإذا لم يكن ملكاً لأحد ، ولا حقّاً خاصّاً له ، لم يكن منتفعاً به ، فكان مواتاً ، بعيداً عن البلد ، أو قريباً منها . وعلى رواية أبي يوسف رحمه الله تعالى - وهو قول الطّحاويّ الّذي اعتمده شمس الأئمّة - لا يكون مواتاً إذا كان قريباً ، وذلك لأنّ ما يكون قريباً من القرية لا ينقطع ارتفاق أهلها عنه ، فيدار الحكم عليه . وعند محمّد يعتبر حقيقة الانتفاع ، حتّى لا يجوز إحياء ما ينتفع به أهل القرية وإن كان بعيداً ، ويجوز إحياء ما لا ينتفعون به وإن كان قريباً من العامر .
12 - واختلفوا في حدّ القرب والبعد . وأصحّ ما قيل فيه أن يقوم الرّجل على طرف عمران القرية ، فينادي بأعلى صوته ، فأيّ موضع ينتهي إليه صوته يكون من فناء العمران ؛ لأنّ أهل القرية يحتاجون إلى ذلك الموضع لرعي المواشي أو غيره ، وما وراء ذلك يكون من الموات . ورأى سحنون من المالكيّة ومن وافقه كمطرّف وأصبغ مثل ظاهر الرّواية في مذهب الحنفيّة ، غير أنّه لم يقيّد بجواز عود المياه ، لأنّ الأنهار الّتي لم ينشئها النّاس ليست ملكاً لأحد ، وإنّما هي طريق للمسلمين لا يستحقّها من كان يلي النّهر من جهتيه . وعند غيرهم أنّ باطن النّهر إذا يبس يكون ملكاً لصاحبي الأرض الّتي بجنب النّهر ، لكلّ واحد منهما ما يجاور أرضه مناصفةً . والحكم كذلك إذا مال النّهر عن مجراه إلى الأرض المجاورة له . ويستخلص من نصوص المالكيّة أنّهم لا يفرّقون في الحكم بين النّهر القريب والبعيد . وعند الشّافعيّة والحنابلة أنّ ما نضب عنه الماء من الأنهار والجزائر لا يجوز إحياؤه برغم أنّه لم يكن مملوكاً من قبل . وصرّح الشّافعيّة بأنّه ليس للسّلطان إعطاؤه لأحد . قالوا : « ولو ركب الأرض ماء أو رمل أو طين فهي على ما كانت عليه من ملك أو وقف . فإن لم يعرف مالك للأرض وانحسر ماء النّهر عن جانب منه لم يخرج عن كونه من حقوق المسلمين العامّة ، وليس للسّلطان إقطاعه - أي إعطاؤه - لأحد ، كالنّهر وحريمه . ولو زرعه أحد لزمه أجرته لصالح المسلمين ، ويسقط عنه قدر حصّته إن كانت له في مصالح المسلمين . نعم للإمام دفعه لمن يرتفق به بما لا يضرّ المسلمين . ومثله ما ينحسر عنه الماء من الجزائر في البحر . ويجوز زرعه ونحوه لمن لم يقصد إحياءه . ولا يجوز فيه البناء ولا الغراس ولا ما يضرّ المسلمين . وكلّ هذا إذا رجي عود مالك الأرض ، فإن لم يرج عوده كانت لبيت المال فللإمام إقطاعها رقبةً أو منفعةً إن لم يكن في تصرّفه جور ، لكن المقطع يستحقّ الانتفاع بها مدّة الإقطاع خاصّةً » .
13 - وفي المغني : وما نضب عنه الماء من الجزائر لم يملك بالإحياء . قال أحمد في رواية العبّاس بن موسى : إذا نضب الماء عن جزيرة إلى فناء رجل لم يبن فيها ، لأنّ فيه ضرراً ، وهو أنّ الماء يرجع . يعني أنّه يرجع إلى ذلك المكان . فإذا وجده مبنيّاً رجع إلى الجانب الآخر فأضرّ بأهله ؛ ولأنّ الجزائر منبت الكلأ والحطب فجرت مجرى المعادن الظّاهرة . وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا حمى في الأراك » . وقال أحمد في رواية حرب : يروى عن عمر أنّه أباح الجزائر . يعني أباح ما ينبت في الجزائر من النّبات . وقال : « إذا نضب الفرات عن شيء ، ثمّ نبت عن نبات ، فجاء رجل يمنع النّاس منه فليس له ذلك ، فأمّا إن غلب الماء على ملك إنسان ثمّ عاد فنضب عنه فله أخذه ، فلا يزول ملكه بغلبة الماء عليه . وإن كان ما نضب عنه الماء لا ينتفع به أحد فعمره رجل عمارةً لا تردّ الماء ، مثل أن يجعله مزرعةً ، فهو أحقّ به من غيره ؛ لأنّه متحجّر لما ليس لمسلم فيه حقّ ، فأشبه التّحجّر في الموات » .
إذن الإمام في الإحياء :
14 - فقهاء المذاهب مختلفون في أرض الموات هل هي مباحة فيملك كلّ من يحقّ له الإحياء أن يحييها بلا إذن من الإمام ، أم هي ملك للمسلمين فيحتاج إحياؤها إلى إذن ؟ ذهب الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف ومحمّد إلى أنّ الإحياء لا يشترط فيه إذن الإمام ، فمن أحيا أرضاً مواتاً بلا إذن من الإمام ملكها . وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنّه يشترط إذن الإمام ، سواء أكانت الأرض الموات قريبةً من العمران أم بعيدةً . واشترط المالكيّة إذن الإمام في القريب قولاً واحداً . ولهم في البعيد طريقان : طريق اللّخميّ وابن رشد أنّه لا يفتقر لإذن الإمام ، والطّريق الآخر أنّه يحتاج للإذن . والمفهوم من نصوص المالكيّة أنّ العبرة بما يحتاجه النّاس وما لا يحتاجونه ، فما احتاجوه فلا بدّ فيه من الإذن ، وما لا فلا . احتجّ الجمهور بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « من أحيا أرضاً فهي له » ؛ ولأنّ هذه عين مباحة فلا يفتقر ملكها إلى إذن الإمام كأخذ الحشيش ، والحطب . واحتجّ أبو حنيفة بقوله صلى الله عليه وسلم : « ليس للمرء إلاّ ما طابت به نفس إمامه » ، وبأنّ هذه الأراضي كانت في أيدي الكفرة ثمّ صارت في أيدي المسلمين ، فصارت فيئاً ، ولا يختصّ بالفيء أحد دون رأي الإمام ، كالغنائم ؛ ولأنّ إذن الإمام يقطع المشاحّة . والخلاف بين الإمام وصاحبيه في حكم استئذان الإمام في تركه من المحيي المسلم جهلاً . أمّا إن تركه متعمّداً تهاوناً بالإمام ، كان له أن يستردّ الأرض منه زجراً له . وكلّ هذا في المحيي المسلم في بلاد الإسلام .
15 - أمّا بالنّسبة لإحياء الذّمّيّ في بلاد الإسلام فقال الحنابلة : الذّمّيّ كالمسلم في الإحياء بالنّسبة لإذن الإمام . وقال المالكيّة : الذّمّيّ كالمسلم فيه إلاّ في الإحياء في جزيرة العرب فلا بدّ فيه من الإذن . واشترط الحنفيّة في إحياء الذّمّيّ إذن الإمام اتّفاقاً بين أبي حنيفة وصاحبيه حسبما ورد في شرح الدّرّ . ومنعوا الإحياء للمستأمن في جميع الأحوال . ولم يجوّز الشّافعيّة إحياء الذّمّيّ في بلاد الإسلام مطلقاً .
ما يجوز إحياؤه وما لا يجوز :
16 - أجمع فقهاء المذاهب على أنّ ما كان مملوكاً لأحد أو حقّاً خاصّاً له أو ما كان داخل البلد لا يكون مواتاً أصلاً فلا يجوز إحياؤه . ومثله ما كان خارج البلد من مرافقها محتطباً لأهلها أو مرعًى لمواشيهم ، حتّى لا يملك الإمام إقطاعها . وكذلك أرض الملح والقار ونحوهما ، ممّا لا يستغني المسلمون عنه ، ولا يجوز إحياء ما يضيق على وارد أو يضرّ بماء بئر . ونصّ الشّافعيّة في الأصحّ عندهم ، والحنابلة ، على أنّه لا يجوز إحياء في عرفة ولا المزدلفة ولا منًى ، لتعلّق حقّ الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة ومنًى بالمسلمين ، ولما فيه من التّضييق في أداء المناسك ، واستواء النّاس في الانتفاع بهذه المحالّ . وقال الزّركشيّ من الشّافعيّة : وينبغي إلحاق المحصّب بذلك لأنّه يسنّ للحجيج المبيت به . وقال الوليّ العراقيّ : ليس المحصّب من مناسك الحجّ . فمن أحيا شيئاً منه ملكه .
17 - وأجمع الفقهاء أيضاً على أنّ الأرض المحجّرة لا يجوز إحياؤها ؛ لأنّ من حجّرها أولى بالانتفاع بها من غيره . فإن أهملها فلفقهاء المذاهب تفصيلات : فالحنفيّة وضعوا مدّةً قصوى للاختصاص الحاصل بالتّحجير هي ثلاث سنوات ، فإن لم يقم بإحيائها أخذها الإمام ودفعها إلى غيره . والتّقدير بذلك مرويّ عن عمر ، فإنّه قال : ليس لمتحجّر بعد ثلاث سنين حقّ . وذهب المالكيّة إلى أنّ من أهمل الأرض الّتي حجّرها بأن لم يعمل فيها ، مع قوّته على العمل من ذلك الحين إلى ثلاث سنوات ، فإنّها تؤخذ منه ، عملاً بالأثر السّابق ، ولم يعتبروا التّحجّر إحياءً إلاّ إذا جرى العرف باعتباره كذلك . وذهب الحنابلة في أحد وجهين عندهم إلى أنّ التّحجير بلا عمل لا يفيد ، وأنّ الحقّ لمن أحيا تلك الأرض ؛ لأنّ الإحياء أقوى من التّحجير . وذهب الشّافعيّة ، وهو الوجه الثّاني عند الحنابلة إلى أنّه إذا أهمل المتحجّر إحياء الأرض مدّةً غير طويلة عرفاً ، وجاء من يحييها ، فإنّ الحقّ للمتحجّر ؛ لأنّ مفهوم قوله عليه الصلاة والسلام : « من أحيا أرضاً ميّتةً ليست لأحد » - وقوله : « في غير حقّ مسلم فهي له » أنّها لا تكون له إذا كان فيها حقّ . وكذلك قوله : « من سبق إلى ما لم يسبق إليه مسلم فهو أحقّ به » . وروى سعيد بن منصور في سننه أنّ عمر رضي الله عنه قال : من كانت له أرض - يعني من تحجّر أرضاً - فعطّلها ثلاث سنين ، فجاء قوم فعمروها ، فهم أحقّ بها وهذا يدلّ على أنّ من عمّرها قبل ثلاث سنين لا يملكها ؛ لأنّ الثّاني أحيا في حقّ غيره ، فلم يملكه ، كما لو أحيا ما يتعلّق به مصالح ملك غيره ؛ ولأنّ حقّ المتحجّر أسبق ، فكان أولى ، كحقّ الشّفيع ، يقدّم على شراء المشتري . فإن مضت مدّة طويلة على الإهمال بحسب العرف بلا عذر أنذره الإمام ؛ لأنّه ضيّق على النّاس في حقّ مشترك بينهم ، فلم يمكّن من ذلك ، كما لو وقف في طريق ضيّق أو شرعة ماء أو معدن ، لا ينتفع ، ولا يدع غيره ينتفع . فإن استمهل بعذر أمهله الإمام والإمهال لعذر يكون الشّهر والشّهرين ونحو ذلك . فإن أحيا غيره في مدّة المهلة فللحنابلة فيه الوجهان السّابقان . وإن انقضت المدّة ولم يعمر فلغيره أن يعمره ويملكه ؛ لأنّ المدّة ضربت له لينقطع حقّه بمضيّها .
حريم العامر والآبار والأنهار وغيرها :
18 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا يجوز إحياء حريم المعمور ، وأنّه لا يملك بالإحياء . وكذلك حريم البئر المحفورة في الموات وحريم النّهر . والمراد بحريم المعمور ما تمسّ الحاجة إليه لتمام الانتفاع به ، وهو ملك لمالك المعمور ، بمعنى أنّ له أن يمنع غيره من إحيائه بجعله داراً مثلاً ، وليس له منع المرور فيه ، ولا المنع من رعي كلأ فيه ، والاستقاء من ماء فيه ، ونحو ذلك . والدّار المحفوفة بدور لا حريم لها . وحريم البئر ما لو حفر فيه نقص ماؤها ، أو خيف انهيارها . ويختلف ذلك بصلابة الأرض ورخاوتها .
19 - واختلف الفقهاء في مقدار حريم البئر والعين والنّهر والشّجر . فقال الحنفيّة : إنّ حريم بئر العطن ( وهي الّتي يستقى منها للمواشي ) أربعون ذراعاً . قيل : الأربعون من الجوانب الأربع من كلّ جانب عشرة . والصّحيح أنّ المراد أربعون ذراعاً من كلّ جانب . وأمّا حريم البئر النّاضح ( وهي أن يحمل البعير الماء من نهر أو بئر لسقي الزّرع ) فهو ستّون ذراعاً في قول أبي يوسف ومحمّد . وقال أبو حنيفة : لا أعرف إلاّ أنّه أربعون ذراعاً . وبه يفتى . ومن أحيا نهراً في أرض موات فقال بعضهم : إنّ عند أبي حنيفة لا يستحقّ له حريماً ، وعندهما يستحقّ . والصّحيح أنّه يستحقّ له حريماً بالإجماع . وذكر في النّوازل : وحريم النّهر من كلّ جانب نصفه عند أبي يوسف . وقال محمّد من كلّ جانب بمقدار عرض النّهر . والفتوى على قول أبي يوسف . ومن أخرج قناةً في أرض موات استحقّ الحريم بالإجماع . وحريمها عند محمّد حريم البئر . إلاّ أنّ المشايخ زادوا على هذا فقالوا : القناة في الموضع الّذي يظهر فيه الماء على وجه الأرض منزلة العين الفوّارة ، حريمها خمسمائة ذراع بالإجماع . أمّا في الموضع الّذي لا يقع الماء على الأرض فحريمها مثل النّهر . وقالوا : إنّ حريم الشّجرة خمسة أذرع . المالكيّة والشّافعيّة متّفقون على أنّ البئر ليس لها حريم مقدّر ، فقد قال المالكيّة : « أمّا البئر فليس لها حريم محدود لاختلاف الأرض بالرّخاوة والصّلابة ، ولكن حريمها ما لا ضرر معه عليها . وهو مقدار ما لا يضرّ بمائها ، ولا يضيّق مناخ إبلها ولا مرابض مواشيها عند الورود . ولأهل البئر منع من أراد أن يحفر بئراً في ذلك الحريم . وقالوا : إنّ للنّخلة حريماً ، وهو قدر ما يرى أنّ فيه مصلحتها ، ويترك ما أضرّ بها ، ويسأل عن ذلك أهل العلم . وقد قالوا : من اثني عشر ذراعاً من نواحيها كلّها إلى عشرة أذرع ، وذلك حسن . ويسأل عن الكرم أيضاً وعن كلّ شجرة أهل العلم به ، فيكون لكلّ شجرة بقدر مصلحتها » . وقال الشّافعيّة : إنّ حريم البئر المحفورة في الموات ( هي ما كانت مطويّةً ، وينبع الماء منها ) : موقف النّازح منها ، والحوض الّذي يصبّ فيه النّازح الماء ، وموضع الدّولاب ( وهو ما يستقي به النّازح ، وما يستقي به بالدّابّة ) والموضع الّذي يجتمع فيه لسقي الماشية والزّرع من حوض ونحوه ، ومتردّد الدّابّة ، والموضع الّذي يطرح فيه ما يخرج من الحوض ونحوه ، كلّ ذلك غير محدّد ، وإنّما هو بحسب الحاجة . وحريم آبار القناة ( وهي المحفورة من غير طيّ ليجتمع الماء فيها ويؤخذ لنحو المزارع ) : ما لو حفر فيه نقص ماؤها ، أو خيف سقوطها . ويختلف ذلك بصلابة الأرض ورخاوتها . ومذهب الحنابلة كمذهب الجمهور في أنّه لا يجوز إحياء حريم البئر والنّهر والعين ، غير أنّهم انفردوا بأنّه بحفر بئر يملك حريمها . أمّا تقدير الحنابلة للحريم من كلّ جانب في بئر قديمة فهو خمسون ذراعاً وفي غيرها خمس وعشرون . وحريم عين وقناة خمسمائة ذراع ، ونهر من جانبيه : ما يحتاج إليه لطرح كرايته ( أي ما يلقى من النّهر طلباً لسرعة جريه ) ، وحريم شجرة : قدر مدّ أغصانها ، وحريم أرض تزرع : ما يحتاج إليه لسقيها وربط دوابّها وطرح سبخها ونحوه .
إحياء الموات المقطّع :
20 - يقال في اللّغة : أقطع الإمام الجند البلد إقطاعاً أي جعل لهم غلّتها رزقاً ، واصطلاحاً إعطاء موات الأرض لمن يحييها ، وذلك جائز لما روى وائل بن حجر « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أقطعه أرضاً ، فأرسل معه معاوية : أن أعطها إيّاه ، أو أعلمها إيّاه » . ولا بدّ قبل بيان حكم هذا الإحياء من بيان حكم الإقطاع ؛ لأنّه إمّا أن يكون بصيغته إقطاع تمليك ، أو إقطاع إرفاق ( انتفاع ) . فإن كان إقطاع إرفاق فالكلّ مجمع على أنّه لا يفيد بذاته تمليكاً للرّقبة ، إن كان إقطاع تمليك فإنّه يمتنع به إقدام غير المقطع على إحيائه ؛ لأنّه ملك رقبته بالإقطاع نفسه ، خلافاً للحنابلة ، فإنّهم ذهبوا إلى أنّ إقطاع الموات مطلقاً لا يفيد تملّكاً ، لكنّه يصير أحقّ به من غيره . أمّا إذا كان الإقطاع مطلقاً ، أو مشكوكاً فيه ، فإنّه يحمل على إقطاع الإرفاق ؛ لأنّه المحقّق .
الحمى :
21 - الحمى لغةً : ما منع النّاس عنه ، واصطلاحاً : أن يمنع الإمام موضعاً لا يقع فيه التّضييق على النّاس للحاجة العامّة لذلك ، لماشية الصّدقة ، والخيل الّتي يحمل عليها . وقد كان للرّسول صلى الله عليه وسلم أن يحمي لنفسه وللمسلمين ، لقوله في الخبر : { لا حمى إلاّ للّه ولرسوله } ، لكنّه لم يحم لنفسه شيئاً ، وإنّما حمى للمسلمين ، فقد روى ابن عمر ، قال : « حمى النّبيّ صلى الله عليه وسلم النّقيع لخيل المسلمين » . وأمّا سائر أئمّة المسلمين فليس لهم أن يحموا لأنفسهم شيئاً ، ولكن لهم أن يحموا مواضع لترعى فيها خيل المجاهدين ، ونعم الجزية ، وإبل الصّدقة ، وضوالّ النّاس ، على وجه لا يتضرّر به من سواه من النّاس . وهذا مذهب الأئمّة أبي حنيفة ومالك وأحمد والشّافعيّ في صحيح قوليه . وقال في الآخر : ليس لغير النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يحمي ، لقوله عليه الصلاة والسلام : « لا حمى إلاّ للّه ورسوله » . واستدلّ الجمهور بأنّ عمر وعثمان حميا ، واشتهر ذلك في الصّحابة ، فلم ينكر عليهما ، فكان إجماعاً . وما حماه النّبيّ صلى الله عليه وسلم فليس لأحد نقضه ولا تغييره مع بقاء الحاجة إليه ، ومن أحيا منه شيئاً لم يملكه . وإن زالت الحاجة إليه ، ودعت حاجة لنقضه ، فالأظهر عند الشّافعيّة جواز نقضه . وعند الحنابلة وجهان . واستظهر الحطّاب من المالكيّة جواز نقضه إن لم يقم الدّليل على إرادة الاستمرار . وما حماه غيره من الأئمّة فغيره هو أو غيره من الأئمّة جاز ، وإن أحياه إنسان ملكه في أحد الوجهين للحنابلة ؛ لأنّ حمى الأئمّة اجتهاد ، وملك الأرض بالإحياء نصّ ، والنّصّ يقدّم على الاجتهاد . والوجه الآخر للحنابلة : لا يملكه ؛ لأنّ اجتهاد الإمام لا يجوز نقضه ، كما لا يجوز نقض حكمه . ومذهب الشّافعيّ ، كذلك .
من يحقّ له الإحياء
أ - في بلاد الإسلام :
22 - والمراد بها كما بيّن القليوبيّ : ما بناه المسلمون ، كبغداد والبصرة ، أو أسلم أهله عليه ، كالمدينة واليمن ، أو فتح عنوةً ، كخيبر ومصر وسواد العراق ، أو صلحاً والأرض لنا وهم يدفعون الجزية . والحكم في هذه البلاد أنّ عمارتها فيء ، ومواتها متحجّر لأهل الفيء . وقد اتّفق الفقهاء على أنّ المسلم البالغ العاقل الحرّ له الحقّ في أن يحيي الأرض الموات الّتي في بلاد الإسلام على نحو ما سبق . واختلفوا فيما وراء ذلك ، فذهب جمهور الفقهاء إلى أنّ الذّمّيّ كالمسلم في حقّ الإحياء في بلاد الإسلام ، لكنّ مطرّفاً وابن الماجشون من المالكيّة منعا من إحيائه في جزيرة العرب ( مكّة والمدينة والحجاز كلّه والنّجود واليمن ) . وقال غيرهما : لو قيل إنّ حكم الذّمّيّين في ذلك حكم المسلمين لم يبعد ، كما كان لهم ذلك فيما بعد من العمران . وجاء في شرح الهداية : « أنّ الذّمّيّ يملك بالإحياء كما يملكه المسلم " من غير تقييد بإذن الإمام في ذلك عند الصّاحبين اللّذين لا يشترطان إذن الإمام للمسلم . وعلّل الشّارح ذلك بأنّ الإحياء سبب الملك ، فيستوي في ذلك المسلم والذّمّيّ كما في سائر أسباب الملك . والاستواء في السّبب يوجب الاستواء في الحكم ، لكن الّذي في شرح الدّرّ كما سبق أنّ الخلاف بين الإمام وصاحبيه في اشتراط إذن الإمام في الإحياء إنّما هو بالنّسبة للمسلم ، أمّا بالنّسبة للذّمّيّ فيشترط الإذن اتّفاقاً عند الحنفيّة . وذهب الشّافعيّة إلى عدم جواز إحياء الذّمّيّ في بلاد الإسلام ، فقد نصّوا على أنّ الأرض الّتي لم تعمّر قطّ إن كانت ببلاد الإسلام فللمسلم تملّكها بالإحياء ، أذن فيه الإمام أم لا ، وليس ذلك لذمّيّ وإن أذن الإمام ، فغير الذّمّيّ من الكفّار أولى بالمنع ، فلا عبرة بإحيائه ، وللمسلم أن يأخذه منه ويملكه ، فإن كان له عين فيه كزرع ردّه المسلم إليه ، فإن أعرض عنه فهو لبيت المال ، وليس لأحد التّصرّف فيه ، ولا أجرة عليه مدّة إحيائه لأنّه ليس ملكاً لأحد . وقد نصّ الشّافعيّة على أنّ الصّبيّ المسلم ، ولو غير مميّز يملك ما أحياه ، وأنّه يجوز للعبد أن يحيي ، لكن ما يحييه يملكه سيّده . ولم يذكروا شيئاً عن إحياء المجنون . وباقي المذاهب لم يستدلّ على أحكام إحياء المذكورين عندهم ، ولكن الحديث : « من أحيا أرضاً ميّتةً فهي له » يدلّ بعمومه على أنّ الصّغير والمجنون يملكان ما يحييانه .
ب - في بلاد الكفّار :
23 - مذهب الحنفيّة والحنابلة والباجيّ من المالكيّة أنّ موات أهل الحرب يملكه المسلمون بالإحياء ، سواء أفتحت بلادهم فيما بعد عنوةً ( وهي الّتي غلب عليها قهراً ) أم صلحاً . وقال سحنون : ما كان من أرض العنوة من موات لم يعمل فيها ولا جرى فيها ملك لأحد فهي لمن أحياها . ومذهب الشّافعيّة أنّه يجوز للمسلم وللذّمّيّ إحياء موات بلاد الكفر ، لكنّهم قيّدوا جواز إحياء المسلم بعدم منعه من ذلك ، فإن منعه الكفّار فليس له الإحياء . وقد صرّح ابن قدامة من الحنابلة أنّ المسلم إذا أحيا مواتاً في دار الحرب قبل فتحها عنوةً تبقى على ملكه ؛ لأنّ دار الحرب على أصل الإباحة . وكذلك إن كان الإحياء قبل فتحها صلحاً على أن تبقى الأرض لهم ، وللمسلمين الخراج ، ففي هذه الصّورة يحتمل عدم إفادة الإحياء الملك ؛ لأنّها بهذا الصّلح حرّمت على المسلمين ، ويحتمل أن يملكها من أحياها ؛ لعموم الخبر ؛ ولأنّها من مباحات دارهم ، فجاز أن يملكها من وجد منه سبب تملّكها .
ما يكون به الإحياء :
24 - يكاد يتّفق الحنفيّة والمالكيّة فيما يكون به الإحياء ، فقد نصّ الحنفيّة على أنّ الإحياء يكون بالبناء على الأرض الموات ، أو الغرس فيها ، أو كريها ( حرثها ) ، أو سقيها . ونصّ مالك على أنّ إحياء الأرض أن يحفر فيها بئراً أو يجري عيناً أو يغرس شجراً أو يبني أو يحرث ، ما فعل من ذلك فهو إحياء . وقاله ابن القاسم وأشهب . وقال عياض : اتّفق على أحد سبعة أمور : تفجير الماء ، وإخراجه عن غامرها به ، والبناء والغرس والحرث ، ومثله تحريك الأرض بالحفر ، وقطع شجرها ، وسابعها كسر حجرها وتسوية حفرها وتعديل أرضها . أمّا الشّافعيّة فقد نصّوا على أنّ ما يكون به الإحياء يختلف بحسب المقصود منه ، فإن أراد مسكناً اشترط لحصوله تحويط البقعة بآجر أو لبن أو محض الطّين أو ألواح الخشب والقصب بحسب العادة ، وسقف بعضها لتتهيّأ للسّكنى ، ونصب باب لأنّه المعتاد في ذلك . وقيل لا يشترط ؛ لأنّ السّكنى تتحقّق بدونه . وإن كان المقصود زريبةً للدّوابّ فيشترط التّحويط ، ولا يكفي نصب سعف أو أحجار من غير بناء ، ولا يشترط السّقف ؛ لأنّ العادة في الزّريبة عدمه ، والخلاف في الباب كالخلاف فيه بالنّسبة للمسكن . والإحياء في المزرعة يكون بجمع التّراب حولها ، لينفصل المحيا عن غيره . وفي معنى التّراب قصب وحجر وشوك ، ولا حاجة إلى تحويط وتسوية الأرض بطمّ المنخفض وكسح المستعلي . فإن لم يتيسّر ذلك إلاّ بما يساق إليها فلا بدّ منه لتتهيّأ للزّراعة . ولا تشترط الزّراعة بالفعل على أحد قولين ؛ لأنّها استيفاء منفعة ، وهو خارج عن الإحياء . والقول الثّاني : لا بدّ منها ؛ لأنّ الدّار لا تصير محياةً إلاّ إذا حصل فيها عين مال المحيي ، فكذا الأرض . وللحنابلة فيما يكون به الإحياء روايتان ، إحداهما ، وهي ظاهر كلام الخرقيّ ورواية عن القاضي : أنّ تحويط الأرض إحياء لها سواء أرادها للبناء أو الزّرع أو حظيرةً للغنم أو الخشب أو غير ذلك ونصّ عليه أحمد في رواية عليّ بن سعيد ، فقال : الإحياء أن يحوّط عليها حائطاً ، أو يحفر فيها بئراً أو نهراً . ولا يعتبر في ذلك تسقيف ، وذلك لما روى الحسن عن سمرة أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : قال « من أحاط حائطاً على أرض فهي له » . رواه أبو داود والإمام أحمد في مسنده ، ويروى عن جابر عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم مثله ؛ ولأنّ الحائط حاجز منيع ، فكان إحياءً ، أشبه ما لو جعلها حظيرةً للغنم . ويبيّن من هذا أنّ القصد لا اعتبار له . ولا بدّ أن يكون الحائط منيعاً يمنع ما وراءه ، ويكون ممّا جرت به العادة بمثله . ويختلف باختلاف البلدان . ورواية القاضي الثّانية : « أنّ الإحياء ما تعارفه النّاس إحياءً ، لأنّ الشّرع ورد بتعليق الملك على الإحياء ، ولم يبيّنه ولا ذكر كيفيّته ، فيجب الرّجوع فيه إلى ما كان إحياءً في العرف ، ولا يعتبر في إحياء الأرض حرثها ولا زرعها ؛ لأنّ ذلك ممّا يتكرّر كلّما أراد الانتفاع بها فلم يعتبر في الإحياء كسقيها » .
إهمال المحيا :
25 - من أحيا أرضاً ميّتةً ، ثمّ تركها ، وزرعها غيره ، فهل يملكها الثّاني ، أو تبقى على ملك الأوّل ؟ مذهب الشّافعيّة والحنابلة وأصحّ القولين عند الحنفيّة وأحد أقوال ثلاثة عند المالكيّة : أنّها تبقى على ملك الأوّل ، ولا يملكها الثّاني بالإحياء ، مستدلّين بقوله صلى الله عليه وسلم : « من أحيا أرضاً ميّتةً ليست لأحد فهي له » ، وقوله : « في غير حقّ مسلم » ؛ ولأنّ هذه أرض يعرف مالكها ، فلم تملك بالإحياء ، كالّتي ملكت بشراء أو عطيّة . وفي قول للمالكيّة ، وهو قول عند الحنفيّة : أنّ الثّاني يملكها ، قياساً على الصّيد إذا أفلت ولحق بالوحش وطال زمانه ، فهو للثّاني . والقول الثّالث عند المالكيّة : الفرق بين أن يكون الأوّل أحياه ، أو اختطّه أو اشتراه ، فإن كان الأوّل أحياه كان الثّاني أحقّ به . وإن كان الأوّل اختطّه أو اشتراه كان أحقّ به .
التّوكيل في الإحياء :
26 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجوز للشّخص أن يوكّل غيره في إحياء الأرض الموات ، ويقع الملك للموكّل ؛ لأنّ ذلك ممّا يقبل التّوكيل فيه .
توفّر القصد في الإحياء :
27 - لا بدّ من القصد العامّ للإحياء اتّفاقاً . واختلفوا هل يشترط في الإحياء أن يقصد المحيي منفعةً خاصّةً في المحيا ، أو يكفي أن يهيّئ الأرض تهيئةً عامّةً بحيث تصير صالحةً لأيّ انتفاع من زراعة أو بناء أو حظيرة للغنم ونحو ذلك . فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّه لا يشترط في الإحياء توفّر القصد الخاصّ ، بل يكفي القصد العامّ ، وهو الانتفاع على أيّ وجه . وقال الشّافعيّة : إنّ الإحياء يختلف باختلاف المقصود منه ، ممّا يدلّ على أنّهم يعتبرون القصد الخاصّ ، في الإحياء ، لكنّهم قالوا : لو شرع في الإحياء لنوع ، فأحياه لنوع آخر ، كأن قصد إحياءه للزّراعة بعد أن قصده للسّكنى ، ملكه اعتباراً بالقصد الطّارئ ، بخلاف ما إذا قصد نوعاً ، وأحياه بما لا يقصد به نوع آخر ، كأن حوّط البقعة بحيث تصلح زريبةً ، بقصد السّكنى لم يملكها ، خلافاً للإمام .
الوظيفة على الأرض المحياة :
28 - المراد بالوظيفة : ما يجب في الأرض المحياة للدّومة من عشر أو خراج . ذهب الحنفيّة إلى أنّ الأرض المحياة إن كانت في أرض العشر أدّى عنها العشر ، وإن كانت في أرض الخراج أدّى عنها الخراج ، وإن احتفر فيها بئراً ، أو استنبط لها قناةً ، كانت أرض عشر ، وإن أحياها ذمّيّ فهي خراجيّة كيفما كانت . وذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الأرض المحياة فيها الخراج مطلقاً فتحت عنوةً أو صولح أهلها .
المعادن في أرض الموات :
29 - المعادن الّتي توجد في الأرض المحياة قسمان : ظاهرة وباطنة . فالظّاهرة هي الّتي يتوصّل إليها بعمل يسير ، كحفر مقدار أصبع لأنبوب ، ونحو ذلك كالنّفط والكبريت والقار والكحل والياقوت وأشباه ذلك . والحكم فيها عند الحنفيّة والحنابلة أنّها لا تملك بالإحياء ، ولا يجوز إقطاعها لأحد من النّاس ، ولا احتجارها دون المسلمين ؛ لأنّ في ذلك ضرراً بهم وتضييقاً عليهم ، ولأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أقطع أبيض بن حمّال معدن الملح ، فلمّا قيل له إنّه بمنزلة الماء العدّ ردّه . وعند الشّافعيّة يملكها المحيي بشرط عدم علمه بوجودها قبل الإحياء ، فأمّا إن علمها فلا يملكها ، وعلّلوا ملكها أنّها من أجزاء الأرض ، وقد ملكها بالإحياء ، فيملك المعادن تبعاً . وعند المالكيّة أنّها إلى الإمام ، يعطيها لمن شاء من المسلمين ، سواء أكانت بأرض غير مملوكة ، كالفيافي أو ما جلا عنها أهلها ولو مسلمين ، أم مملوكةً لغير معيّن ، أم لمعيّن . أمّا المعادن الباطنة ، وهي الّتي لا تخرج إلاّ بعمل ومئونة ، كالذّهب والفضّة والحديد والنّحاس والرّصاص ، فهي ملك لمن استخرجها عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وهو احتمال عند الحنابلة ؛ لأنّها مستخرجة من موات لا ينتفع به إلاّ بالعمل والمئونة ، فيملك بالإحياء ، كالأرض ؛ ولأنّه بإظهار المعادن أمكن الانتفاع بالموات من غير حاجة إلى تكرار ذلك العمل ، فأشبه الأرض إذا جاءها بماء أو حائط . ووجه عدم الملك عند الحنابلة أنّ الإحياء الّذي يملك به هو العمارة الّتي تهيّأ بها المحيا للانتفاع من غير تكرار عمل ، وإخراج المعادن حفر وتخريب يحتاج إلى تكرار عند كلّ انتفاع . وعند المالكيّة أنّ المعادن الباطنة كالظّاهرة أمرها إلى الإمام . ومواطن التّفصيل في المصطلحات الخاصّة .
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
أخ
التّعريف
1 - الأخ لغةً من ولده أبوك وأمّك ، أو أحدهما . فإن كانت الولادة لأبوين فهو الشّقيق ، ويقال للأشقّاء الإخوة الأعيان . وإن كانت الولادة من الأب فهو الأخ لأب ، ويقال للإخوة والأخوات لأب أولاد علاّت . وإن كانت الولادة من الأمّ فهو الأخ لأمّ ، ويقال للإخوة والأخوات لأمّ : الأخياف . والأخ من الرّضاع هو من أرضعتك أمّه ، أو أرضعته أمّك ، أو أرضعتك وإيّاه امرأة واحدة ، أو أرضعت أنت وهو من لبن رجل واحد ، كرجل له امرأتان لهما منه لبن ، أرضعتك إحداهما وأرضعته الأخرى .
( الحكم الإجماليّ )
2 - المذاهب الأربعة على أنّه يجوز دفع الزّكاة إلى الأخ بأنواعه ، غير أنّ الحنابلة جعلوا ذلك في حالة عدم إرثه . فإن كان وارثاً فلا يجزئ دفعها إليه . وفي الميراث يحجب الأخ بأنواعه بالأب وبالفرع الوارث الذّكر باتّفاق ، وكذلك يحجب الأخ لأمّ بالجدّ والفرع الوارث ولو أنثى . أمّا الأخ الشّقيق أو لأب فإنّ كلّاً منهما يرث مع الجدّ عند أغلب الفقهاء ، وكذلك مع الفرع الوارث المؤنّث والأخ لأب مع الجدّ والأخ الشّقيق يحسب على الجدّ أي يعدّ ليقلّ نصيب الجدّ ، ونصيبه للأخ الشّقيق ولا يشارك الأخ غير شقيقه من الإخوة إلاّ في المسألة الحجريّة . ( ر : الحجريّة ) . وجهه الأخوّة تتفاوت من حيث قوّة القرابة ، فالشّقيق يقدّم على غيره ، لكن يسوّي بين الأخ لأب والأخ لأمّ في الوصيّة لأقرب الأقارب عند الشّافعيّة والحنابلة . ويقدّم الّذي لأب على الأخ لأمّ عند المالكيّة ، وهو ما يفهم من قواعد الحنفيّة ، إذ قاسوا الوصيّة على الإرث . وفي ولاية النّكاح وفي الحضانة يقدّم الجدّ على الأخ الشّقيق أو لأب عند غير المالكيّة ويقدّم الأخ فيهما عند المالكيّة . وتختلف آراء الفقهاء في تقديم الأخ على الجدّ في الوصيّة لأقرب الأقارب ، وفي وجوب نفقة الأخ على أخيه ، وعتقه عليه ، وفي قبول شهادته ، وفي القضاء له .
( مواطن البحث )
3 - بالإضافة إلى ما تقدّم يتكلّم الفقهاء عن الأخ ضمن الأقارب في الوقف .
أخ لأمّ
انظر : أخ .
إخالة
التّعريف
1 - الإخالة مصدر أخال الأمر أي اشتبه . ويقال : هذا الأمر لا يخيل على أحد ، أي لا يشكل . ويستعمل الأصوليّون لفظ الإخالة في باب القياس وباب المصلحة المرسلة . والإخالة كون الوصف بحيث تتعيّن علّيّته للحكم بمجرّد إبداء مناسبة بينه وبين الحكم ، لا بنصّ ولا غيره . وإنّما قيل له مخيّل لأنّه يوقع في النّفس خيال العلّة .
( الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث ) :
2 - يكون الوصف مناسباً فيما لو عرض على العقول فتلقّته بالقبول ، وهو الوصف الّذي يفضي إلى ما يجلب للإنسان نفعاً أو يدفع عنه ضرراً ، كقتل مسلم تترّس به الكفّار في حربهم مع المسلمين ، فإنّ في قتله مصلحة قهر العدوّ ، ومنع قتلهم للمسلمين . والوصف الطّرديّ ليس مخيّلاً ، كلون الخمر وقوامها ، فلا يقع في القلب علّيّته للتّحريم ، لعدم تضمّنه ضرراً يستدعي تحريمها . وأمّا الإسكار في الخمر ، فإنّه مع تضمّنه مفسدة تغطية العقل ، ليس وصفاً مخيّلاً كذلك ، لورود النّصّ بالتّعليل به . والنّصّ هو قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « كلّ مسكر حرام » . ولو افترض عدم ورود هذا النّصّ وأمثاله لكان وصف الإسكار مخيّلاً . ومن هذا يتبيّن أنّ المناسب أعمّ من المخيّل . وفي جواز تعليل حكم الأصل بالوصف المخيّل لأجل القياس ، خلاف . وكذلك في إثبات الحكم به على أنّه مصلحة مرسلة . راجع " الملحق الأصوليّ : القياس ، والمصلحة المرسلة » .
إخبار
التّعريف
1 - الإخبار في اللّغة مصدر ، أخبره بكذا أي نبّأه . والاسم منه الخبر ، وهو ما يحتمل الصّدق والكذب لذاته ، مثل : العلم نور . ويقابله الإنشاء ، وهو الكلام الّذي لا يحتمل الصّدق والكذب لذاته ، كاتّق اللّه . والإخبار له أسماء مختلفة باعتبارات متعدّدة : فإن كان إخباراً عن حقّ للمخبر على الغير أمام القضاء فيسمّى : « دعوى » . وإن كان إخباراً بحقّ للغير على المخبر نفسه فهو " إقرار » . وإن كان إخباراً بحقّ للغير على الغير أمام القضاء فهو " شهادة » . وإن كان إخباراً بثبوت حقّ للغير على الغير من القاضي على سبيل الإلزام فهو " قضاء » . وإن كان إخباراً عن قول أو فعل أو صفة أو تقرير منسوب إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فهو " رواية " أو " حديث " أو " أثر " أو " سنّة » . وإن كان إخباراً عن مساوئ الشّخص فهو " غيبة » . وإن كان إخباراً عن كلام الصّديق لصديقه الآخر على وجه الإفساد بينهما فهو " نميمة » . وإن كان إخباراً عن سرّ فهو " إفشاء » . وإن كان إخباراً عمّا يضرّ بالمسلمين فهو " خيانة " وهكذا .
( الحكم الإجماليّ )
2 - إذا أخبر العدل بخبر وجب قبول خبره . وقد يكتفى بالعدل الواحد ، كما في الإخبار بالنّجاسة ، وقد يشترط التّعدّد كما في الشّهادة . أمّا الفاسق إذا أخبر بخبر فلا يقبل خبره في الدّيانات ، فإن كان إخباره في الطّهارات والمعاملات ونحوها لم يقبل خبره أيضاً إلاّ إن وقع في القلب صدقه .
( مواطن البحث )
3 - يفصل الأصوليّون أحكام الإخبار وأحواله في باب مستقلّ هو باب الإخبار ، أو في بحث السّنّة . ويتعرّضون لحكم رواية الكافر والفاسق وخبر الآحاد إلى غير ذلك . أمّا الفقهاء فيتعرّضون لأحكام الإخبار في الطّهارات بمناسبة ما إذا أخبر الشّخص بنجاسة الماء أو الإناء وفي استقبال القبلة إذا أخبر بها ، وفي الشّفعة حين الكلام على تأخير طلبها إذا أخبره بالبيع فاسق ، وفي الذّبائح إذا أخبر الفاسق عمّن قام بالذّبح ، وفي النّكاح فيما إذا أخبر الفاسق برضا المرأة بالزّواج ، وفي الحظر والإباحة فيما إذا أخبر الصّبيّ عن الهديّة أنّها هديّة ، أو أخبر عن إذن صاحب البيت . وبما أنّ الإخبار تتنوّع أحكامه بحسب ما يضاف إليه فيرجع في كلّ بحث إلى موضعه الخاصّ به .
أخت
التّعريف
1 - الأخت هي : من ولدها أبوك وأمّك أو أحدهما . وقد يطلق أيضاً على الأخت من الرّضاع بقرينة قوليّة أو حاليّة . ولا يخرج الاستعمال الشّرعيّ عن الاستعمال اللّغويّ . والأخت من الرّضاع عند الفقهاء هي : من أرضعتك أمّها ، أو أرضعتها أمّك ، أو أرضعتك وإيّاها امرأة واحدة ، أو أرضعت أنت وهي من لبن رجل واحد ، كرجل له امرأتان لهما منه لبن ، أرضعتك إحداهما وأرضعتها الأخرى . والأخت إن كانت من الأب والأمّ يقال لها : الأخت الشّقيقة ، وإن كانت من الأب فقط يقال لها : الأخت لأب ، وإن كانت من الأمّ فقط يقال لها : الأخت لأمّ . وأختك لأمّ من الرّضاعة هي : من أرضعتها أمّك بلبن من زوج غير أبيك ، أو رضعت أنت من أمّها بلبن غير أبيها ، أو رضعت أنت وهي من امرأة أجنبيّة عنكما لكن بلبن من زوجين مختلفين . ويعبّر الفقهاء عن الإخوة والأخوات الشّقيقات بأولاد الأبوين ، والإخوة الأعيان ، وعن الإخوة والأخوات لأب بأولاد الأب وأولاد العلاّت ، وعن الإخوة والأخوات لأمّ بأولاد الأمّ ، والإخوة الأخياف . الحكم الإجماليّ :
2 - الأخت من ذوي الرّحم المحرم . وتأخذ حكم ذي الرّحم المحرم في وجوب الصّلة ، وفي جواز النّظر وما في حكمه ، وفي حرمة النّكاح ، والجمع بين المحارم بنكاح أو ملك يمين ، وفي النّفقة ، وفي تغليظ الدّية ، واستحقاق العتق إذا ملكها أخوها أو أختها . غير أنّها قد تختصّ ببعض الأحكام دون بعض الأقارب ، فالزّكاة يجزئ دفعها للأخت باتّفاق - غير أنّ البعض اشترط لذلك عدم إرثها بالفعل - وقد لا يجزئ دفعها لبعض المحارم كالبنت .
3 - وفي الإرث تحجب الأخت بما يحجب الأخ ، فهي بأنواعها تحجب بالأب وبالفرع الوارث الذّكر ، وكذلك تحجب الأخت لأمّ بالجدّ . والأخت لأبوين أو لأب ترث بالفرض ، أو بالتّعصيب ، بخلاف الأخت لأمّ فإنّها لا ترث إلاّ الفرض . ولا تكون الأخت عصبةً بنفسها ، بل بالغير أو مع الغير ، ولا تحجب غيرها ممّن هو أضعف منها إن كانت ذات فرض . وتفصيل ذلك في مصطلح : ( إرث ) . وفي الحضانة تقدّم الأخت على الأخ ، وتؤخّر عن الأمّ باتّفاق ، وتؤخّر كذلك عن الأب عند غير الحنفيّة . والأخت لأمّ كسائر الأخوات النّسبيّة في الأحكام ، إلاّ في الميراث ، فهي لا ترث إلاّ بالفرض ، ولا ترث بالتّعصيب ، وهي مع أخيها الذّكر من ولد الأمّ - على التّساوي ، تأخذ مثله . وتحجب بالفرع الوارث مطلقاً والأصل الوارث المذكّر كالأب والجدّ ( ر : إرث ) .
أخت رضاعيّة
انظر : أخت .
أخت لأب
انظر : أخت .
أختان
انظر : أخت .
اختصاء
انظر : خصاء .
اختصاص
التّعريف
1 - الاختصاص في اللّغة : الانفراد بالشّيء دون الغير ، أو إفراد الشّخص دون غيره بشيء ما . وهو عند الفقهاء كذلك ، فهم يقولون : هذا ممّا اختصّ به الرّسول صلى الله عليه وسلم أو ممّا اختصّه اللّه به ، ويقولون فيمن وضع سلعته في مقعد من مقاعد السّوق المباحة : إنّه اختصّ بها دون غيره ، فليس لأحد مزاحمته حتّى يدع .
من له حقّ الاختصاص
2 - الاختصاص إمّا للمشرّع أو لأحد من العباد بما له من ولاية أو ملك . الاختصاص من المشرّع .
3 - الاختصاص من المشرّع لا تشترط له شروط ؛ لأنّه هو واضع الشّروط والأحكام ، وهو واجب الطّاعة ، كاختصاصه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بإباحة الزّواج بأكثر من أربع نساء ، واختصاصه الكعبة بوجوب التّوجّه إليها في الصّلاة . ومحلّ الاختصاص - في هذا البحث - قد يكون شخصاً ، أو زماناً ، أو مكاناً .
اختصاصات الرّسول صلى الله عليه وسلم
4 - الحكم التّكليفيّ في بحث اختصاصات الرّسول : اختلف الفقهاء في جواز البحث في خصائص الرّسول صلى الله عليه وسلم ، فأجازه الجمهور ورجّحه النّوويّ ، وقال : الصّواب الجزم بجواز ذلك ، بل باستحبابه ، بل لو قيل بوجوبه لم يكن بعيداً ؛ لأنّ في البحث في الخصائص زيادة العلم ؛ ولأنّه ربّما رأى جاهل بعض الخصائص ثابتةً في الحديث الصّحيح ، فعمل به أخذاً بأصل التّأسّي بالرّسول عليه الصلاة والسلام ، فوجب بيانها لتعرف فلا يعمل بها . وأمّا ما يقع في ضمن الخصائص ممّا لا فائدة فيه اليوم فقليل ، لا تخلو أبواب الفقه عن مثله للتّدرّب ، ومعرفة الأدلّة وتحقيق الشّيء على ما هو عليه . ومنعه بعضهم كإمام الحرمين الجوينيّ . وحجّة هؤلاء أنّه لا يتعلّق بهذه الخصائص حكم ناجز تمسّ الحاجة إليه .
أنواع اختصاصات الرّسول صلى الله عليه وسلم :
5 - أ - الأحكام التّكليفيّة الّتي لا تتعدّاه إلى أمّته ككونه لا يورث ، وغير ذلك .
ب - المزايا الأخرويّة ، كإعطائه الشّفاعة ، وكونه أوّل من يدخل الجنّة وغير ذلك .
ج - الفضائل الدّنيويّة ، ككونه أصدق النّاس حديثاً .
د - المعجزات كانشقاق القمر ، وغيره .
هـ - الأمور الخلقيّة ، ككونه يرى من خلفه ونحو ذلك . وسيقتصر البحث على النّوع الأوّل من هذه الاختصاصات - اختصاصه صلى الله عليه وسلم ببعض الأحكام التّكليفيّة . أمّا موطن الاطّلاع على الخصائص الأخرى فهو كتب العقائد ، وكتب السّيرة النّبويّة ، والكتب المؤلّفة في خصائصه صلى الله عليه وسلم وفضائله . ما اختصّ به صلى الله عليه وسلم من الأحكام التّكليفيّة :
6 - هذه الاختصاصات لا تخرج عن كونها واجبةً أو محرّمةً أو مباحةً . الاختصاصات الواجبة :
7 - فرض اللّه على رسوله صلى الله عليه وسلم بعض ما هو مباح أو مندوب على أمّته ، إعلاءً لمقامه عنده وإجزالاً لثوابه ؛ لأنّ ثواب الفرض أكبر من ثواب النّفل ، وفي الحديث : « ما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضته عليه » ومن ذلك :
أ - قيام اللّيل :
8 - اختلف العلماء في قيام اللّيل ، هل كان فرضاً عليه صلوات اللّه وسلامه عليه أو لم يكن فرضاً ، مع اتّفاقهم على عدم فرضيّته على الأمّة . فذهب عبد اللّه بن عبّاس إلى أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قد اختصّ بافتراض قيام اللّيل عليه ، وتابع ابن عبّاس على ذلك كثير من أهل العلم ، منهم الشّافعيّ في أحد قوليه ، وكثير من المالكيّة ، ورجّحه الطّبريّ في تفسيره . واستدلّ على ذلك بقوله تعالى في سورة الإسراء : { ومن اللّيل فتهجّد به نافلةً لك } أي نفلاً لك ، أي فضلاً : ( زيادةً ) عن فرائضك الّتي فرضتها عليك ، كما يدلّ على ذلك قوله تعالى : { قم اللّيل إلاّ قليلاً ، نصفه أو انقص منه قليلاً ، أو زد عليه } . قال الطّبريّ : « خيّره اللّه تعالى حين فرض عليه قيام اللّيل بين هذه المنازل » . ويعضّد هذا ويؤيّده ما رواه الطّبرانيّ في معجمه الأوسط والبيهقيّ في سننه عن عائشة رضي الله عنها أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « ثلاث هنّ عليّ فرائض ولكم سنّة ، الوتر والسّواك وقيام اللّيل » . وذهب مجاهد بن جبر إلى أنّ قيام اللّيل ليس بفرض على ، رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بل هو نافلة ، وإنّما قال اللّه تعالى : { نافلةً لك } من أجل أنّه صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخّر ، فما عمل من عمل سوى المكتوبة فهو نافلة ؛ لأنّه لا يعمل ذلك في كفّارة الذّنوب ، فهي نافلة وزيادة ، والنّاس يعملون ما سوى المكتوبة لتكفير ذنوبهم فليس للنّاس - في الحقيقة - نوافل . وتبع مجاهداً جماعة من العلماء ، منهم الشّافعيّ في قوله الآخر ، فقد نصّ على أنّ وجوب قيام اللّيل قد نسخ في حقّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كما نسخ في حقّ غيره . واستدلّوا على ذلك بعموم قوله صلى الله عليه وسلم : « خمس صلوات فرضهنّ اللّه على العباد » ، خاصّةً أنّ الآية محتملة ، والحديث الّذي استدلّ به من قال بفرضيّة قيام اللّيل على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حديث ضعيف .
ب - صلاة الوتر :
9 - اختلف الفقهاء في اختصاص رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بافتراض صلاة الوتر عليه ، مع اتّفاقهم على أنّ الوتر ليس بفرض على أمّته . فذهب الشّافعيّة إلى أنّ الوتر كان واجباً على رسول اللّه وقال الحليميّ والعزّ بن عبد السّلام والغزاليّ من الشّافعيّة وكذلك المالكيّة : إنّ هذا الوجوب خاصّ بالحضر دون السّفر ، لما روى البخاريّ ومسلم عن ابن عمر « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يصلّي الوتر على راحلته ولا يصلّي عليها المكتوبة » . وقال النّوويّ : المذهب أنّ صلاة الوتر واجبة على رسول اللّه ، ولكن جواز صلاتها على الرّاحلة خاصّ به عليه الصلاة والسلام . ويرى العينيّ الحنفيّ في عمدة القاريّ والحنفيّة يقولون بوجوب الوتر - إنّ صلاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الوتر على الرّاحلة كان قبل أن يفترض عليه الوتر .
ج - صلاة الضّحى :
10 - اختلف العلماء في وجوب صلاة الضّحى على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، مع اتّفاقهم على عدم وجوبها على المسلمين . فذهب جماعة ، منهم الشّافعيّة وبعض المالكيّة إلى أنّ صلاة الضّحى مفروضة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . واستدلّوا على ذلك بحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ثلاث هنّ عليّ فرائض ، ولكم تطوّع : النّحر والوتر وركعتا الضّحى » . وأقلّ الواجب منها عليه ركعتان لحديث : « أمرت بركعتي الضّحى ولم تؤمروا بها » . وذهب الجمهور إلى أنّ صلاة الضّحى ليست مفروضةً على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لقوله صلى الله عليه وسلم : « أمرت بالوتر والأضحى ولم يعزم عليّ » .
د - سنّة الفجر :
11 - اختلف العلماء في فرضيّة سنّة الفجر على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مع اتّفاقهم على عدم وجوبها على غيره . فنصّ الحنابلة وبعض السّلف على فرضيّتها عليه صلى الله عليه وسلم واستدلّوا على ذلك بحديث ابن عبّاس : « ثلاث كتبت عليّ وهنّ لكم تطوّع : الوتر والنّحر وركعتا الفجر » .
هـ - السّواك :
12 - الجمهور على أنّ السّواك لكلّ صلاة مفترض على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لحديث عبد اللّه بن حنظلة « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر بالوضوء لكلّ صلاة ، طاهراً وغير طاهر ، فلمّا شقّ عليه ذلك أمر بالسّواك لكلّ صلاة » . وفي لفظ : « وضع عنه الوضوء إلاّ من حدث » .
و - الأضحيّة :
13 - الأضحيّة فرض على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون أمّته لحديث ابن عبّاس المتقدّم : « ثلاث هنّ عليّ فرائض ولكم تطوّع : النّحر والوتر وركعتا الضّحى » .
ز - المشاورة :
14 - اختلف العلماء في فرضيّة المشاورة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ، مع اتّفاقهم على سنّيّتها على غيره . فقال بعضهم بفرضيّتها عليه ، واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى : { وشاورهم في الأمر } . وقال هؤلاء : إنّما وجب ذلك على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تطييباً للقلوب ، وتعليماً للنّاس ليستنّوا به عليه الصلاة والسلام . وقال بعضهم : إنّ المشاورة لم تكن فرضاً عليه صلوات اللّه وسلامه عليه لفقدان دليل يصلح لإثبات الفرضيّة . وحملوا الأمر في الآية السّابقة على النّدب أو الإرشاد . ثمّ اختلفوا فيما يشاور فيه : بعد اتّفاقهم على أنّه لا يشاور فيما نزل عليه فيه وحي . فقال فريق من العلماء : يشاور في أمور الدّنيا ، كالحروب ومكايدة العدوّ ؛ لأنّ استقراء ما شاور فيه الرّسول ( ص ) أصحابه يدلّ على ذلك . وقال فريق آخر : يشاور في أمور الدّين والدّنيا . أمّا في أمور الدّنيا فظاهر ، وأمّا في أمور الدّين فإنّ استشارته لهم تكون تنبيهاً لهم على علل الأحكام وطريق الاجتهاد .
ح - مصابرة العدوّ الزّائد على الضّعف :
15 - ممّا فرض على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون أمّته مصابرة العدوّ وإن كثر وزاد على الضّعف ، لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم محفوظ بحفظ اللّه تعالى . قال تعالى : { واللّه يعصمك من النّاس } .
ط - تغيير المنكر :
16 - ممّا فرض على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم تغيير المنكر ، ولا يسقط عنه هذا للخوف ، بخلاف أمّته الّتي يسقط عنها بالخوف . وذلك لأنّ اللّه تعالى قد تكفّل بحفظ رسوله كما تقدّم ، كما لا يسقط عنه إذا كان المرتكب يزيده الإنكار إغراءً ، لئلاّ يتوهّم إباحته بخلاف أمّته . وإذا كان إنكار المنكر فرض كفاية على أمّته فإنّه فرض عين عليه صلى الله عليه وسلم . وقد استدلّ البيهقيّ على ذلك بعدّة أحاديث في سننه الكبرى .
ي - قضاء دين من مات معسراً من المسلمين :
17 - اختلف العلماء في قضاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دين الميّت المعسر . فقال بعضهم : كان فرضاً عليه صلى الله عليه وسلم . وقال آخرون : لم يكن ذلك فرضاً عليه ، بل كان منه عليه الصلاة والسلام تطوّعاً . ثمّ اختلفوا أيضاً هل القضاء من بيت مال المسلمين أم من مال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإن كان من مال نفسه فهي خصوصيّة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمّا إن كان من بيت مال المسلمين فليست بخصوصيّة لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم بل يشاركه فيها جميع ولاة المسلمين . والأصل في هذا ما رواه البخاريّ ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « كان يؤتى بالرّجل يتوفّى وعليه دين ، فيسأل : هل ترك لدينه فضلاً ، فإن حدّث أنّه ترك له وفاءً صلّى عليه ، وإلاّ قال للمسلمين : صلّوا على صاحبكم ، فلمّا فتح اللّه عليه الفتوح قال عليه الصلاة والسلام : أنا أولى بالمؤمنين من أنفسهم ، فمن توفّي من المسلمين فترك ديناً فعليّ قضاؤه ، ومن ترك مالاً فلورثته » .
ك - وجوب تخييره نساءه وإمساك من اختارته :
18 - طالبه أزواجه صلى الله عليه وسلم بالتّوسّع في النّفقة - كما في بعض الرّوايات - حتّى تأذّى من ذلك فأمر اللّه تعالى رسوله عليه الصلاة والسلام أن يخيّرهنّ فقال جلّ شأنه : { يا أيّها النّبيّ قل لأزواجك إن كنتنّ تردن الحياة الدّنيا وزينتها فتعالين أمتّعكنّ وأسرّحكنّ سراحاً جميلاً وإن كنتنّ تردن اللّه ورسوله والدّار الآخرة فإنّ اللّه أعدّ للمحسنات منكنّ أجراً عظيماً } . فخيّرهنّ ، فاخترنه كلّهنّ إلاّ العامريّة اختارت قومها ، فأمر صلى الله عليه وسلم بإمساك من اختارته منهنّ بقوله تعالى : { لا يحلّ لك النّساء من بعد ولا أن تبدّل بهنّ من أزواج ولو أعجبك حسنهنّ } ، وذلك مكافأة لهنّ على إيثارهنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
الاختصاصات المحرّمة
19 - قد حرّم اللّه تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم بعض ما أحلّه لأمّته ، تنزيهاً له عليه الصلاة والسلام عن سفاسف الأمور ، وإعلاءً لشأنه ، ولأنّ أجر ترك المحرم أكبر من أجر ترك المكروه ، وبذلك يزداد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم علوّاً عند اللّه يوم القيامة . ومن ذلك :
أ - الصّدقات :
20 - اتّفق العلماء على أنّ اللّه تعالى قد حرّم على رسوله صلى الله عليه وسلم أخذ شيء من صدقات النّاس ، سواء أكانت مفروضةً أو تطوّعاً ، كالزّكاة ، والكفّارة ، والنّذر والتّطوّع ، صيانةً لمنصبه الشّريف ، ولأنّها تنبئ عن ذلّ الآخذ وعزّ المأخوذ منه ، وقد أبدل اللّه تعالى رسوله بها الفيء الّذي يؤخذ على سبيل الغلبة والقهر ، المنبئ عن عزّ الآخذ وذلّ المأخوذ منه . روى مسلم في صحيحه من حديث عبد المطّلب بن ربيعة بن الحارث بن عبد المطّلب قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ هذه الصّدقات إنّما هي أوساخ النّاس ، وإنّها لا تحلّ لمحمّد ولا لآل محمّد » . هذا ، وإنّ تحريم الصّدقات على آل البيت إنّما هو لقرابتهم منه صلى الله عليه وسلم .
ب - الإهداء لينال أكثر ممّا أهدى :
21 - حرّم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يهدي ليعطى أكثر ممّا أهدى لقوله تعالى : { ولا تمنن تستكثر } ؛ لأنّه صلوات الله وسلامه عليه مأمور بأشرف الآداب وأجلّ الأخلاق ، نقل ذلك عن عبد اللّه بن عبّاس وتبعه على ذلك عطاء ومجاهد وإبراهيم النّخعيّ وقتادة والسّدّيّ والضّحّاك وغيرهم .
ج - أكل ما له رائحة كريهة :
22 - اختلف العلماء في تحريم نحو الثّوم والبصل وما له رائحة كريهة على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال جماعة منهم المالكيّة : إنّ ذلك كان محرّماً عليه . واستدلّوا على ذلك بما رواه البخاريّ ومسلم . « أنّ رسول اللّه أتي بقدر فيه خضرات من بقول ، فوجد لها ريحاً ، فسأل فأخبر بما فيها . من البقول ، فقال : قرّبوها أي إلى بعض أصحابه فلمّا رآه كره أكلها قال : كل فإنّي أناجي من لا تناجي » . وقال جماعة منهم الشّافعيّة : لم يكن ذلك محرّماً عليه ، ولكن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يكره أكله لتعرّضه لنزول الوحي عليه في كلّ ساعة ، وإنّ الملائكة لتتأذّى بالرّيح الخبيثة . وقد استدلّ هؤلاء ما رواه مسلم « أنّ أبا أيّوب الأنصاريّ صنع للنّبيّ صلى الله عليه وسلم طعاماً فيه ثوم ، وفي رواية : أرسل إليه بطعام من خضرة فيه بصل وكرّاث ، فردّه عليه الصلاة والسلام ولم يأكل منه شيئاً فقال : أحرام هو ؟ قال : لا ، ولكنّي أكرهه » .
د - نظم الشّعر :
23 - هو ممّا حرّم عليه صلى الله عليه وسلم بالاتّفاق ، لكن فرّق البيهقيّ وغيره بين الرّجز وغيره من البحور ، فقال : الرّجز جائز عليه ؛ لأنّه ليس بشعر ، وغيره لا يجوز . واستشهد على ذلك بما أنشده عليه الصلاة والسلام من الرّجز وهو يشارك في حفر الخندق ، ومن قال إنّ الرّجز من الشّعر قال : إنّ هذا خاصّة ليس بشعر ؛ لأنّ الشّعر لا يكون شعراً إلاّ إن صدر عن قائله بقصد الإشعار ، وما كان ذلك في ذكر النّبيّ صلى الله عليه وسلم لهذا الرّجز الّذي قاله .
هـ - نزع لامته إذا لبسها للقتال حتّى يقاتل :
24 - ممّا حرّم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون أمّته أنّه إذا لبس لأمة الحرب يحرم عليه أن ينزعها حتّى يلقى العدوّ ؛ لقوله صلوات الله وسلامه عليه : « لا ينبغي لنبيّ إذا أخذ لأمة الحرب وأذّن في النّاس بالخروج إلى العدوّ أن يرجع حتّى يقاتل » . وواضح أنّه يشترك معه في هذه الخصوصيّة الأنبياء عليهم صلوات اللّه وسلامه .
!!- وخائنة الأعين :
25 - المراد بها الإيماء بما يظهر خلافه ، وهو ممّا حرّم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون أمّته إلاّ في محظور ، والأصل في هذا التّحريم عليه هو تنزّه مقام النّبوّة عنه ، فقد أخرج أبو داود والنّسائيّ والحاكم وصحّحه والبيهقيّ عن سعد بن أبي وقّاص « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الفتح أمّن النّاس إلاّ أربعة نفر منهم عبد اللّه بن أبي سرح ، فاختبأ عند عثمان ، فلمّا دعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى البيعة ، جاء به فقال : يا رسول اللّه بايع عبد اللّه ، فرفع رأسه فنظر إليه ثلاثاً ، كلّ ذلك يأبى ، فبايعه بعد ثلاث ، ثمّ أقبل على أصحابه فقال : أما فيكم رجل رشيد يقوم إلى هذا حيث رآني كففت يديّ عن بيعته ليقتله ؟ قالوا : ما يدرينا يا رسول اللّه ما في نفسك ، هلاّ أومأت بعينك . قال : إنّه لا ينبغي أن تكون لنبيّ خائنة الأعين » . وهذا يدلّ على أنّه ممّا اختصّ به هو والأنبياء دون الأمم .
ز - نكاح الكافرة والأمة ، والممتنعة عن الهجرة :
26 - ممّا حرّم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نكاح الكتابيّة ، لخبر : « سألت ربّي ألاّ أزوّج إلاّ من كان معي في الجنّة فأعطاني » ، - أخرجه الحاكم وصحّح إسناده - ولأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أشرف من أن يضع ماءه في رحم كافرة ؛ ولأنّ الكافرة تكره صحبة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . كما حرّم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم نكاح الأمة ، ولو كانت مسلمةً ؛ لأنّ نكاحها معتبر لخوف العنت ( أي الزّنا ) وهو معصوم عنه ، أو لفقدان مهر الحرّة ، ونكاح رسول اللّه صلى الله عليه وسلم غنيّ عن المهر ابتداءً ، إذ يجوز له أن ينكح بغير مهر ؛ ولأنّ نكاحها يؤدّي إلى رقّ الولد ومقام النّبوّة منزّه عن هذا . ويحرم عليه نكاح من وجبت عليها الهجرة ولم تهاجر ، لقوله تعالى في سورة الأحزاب : « يا أيّها النّبيّ إنّا أحللنا لك أزواجك اللاّتي آتيت أجورهنّ وما ملكت يمينك ممّا أفاء اللّه عليك وبنات عمّك وبنات عمّاتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاّتي هاجرن معك » ، وفي قراءة عبد اللّه بن مسعود : ( وبنات خالاتك واللاّتي هاجرن معك ) ، ولما رواه التّرمذيّ وحسّنه وابن أبي حاتم عن عبد اللّه بن عبّاس قال : « نهي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن أصناف النّساء إلاّ ما كان من المؤمنات المهاجرات » ، ولحديث « أمّ هانئ قالت : خطبني رسول اللّه فاعتذرت إليه ، فعذرني ، فأنزل اللّه تعالى : { إنّا أحللنا لك أزواجك . . } الآية إلى قوله تعالى : { اللاّتي هاجرن معك } . قالت : فلم أكن أحلّ له ؛ لأنّي لم أكن ممّن هاجر معه ، كنت من الطّلقاء » . وقال الإمام أبو يوسف : لا دلالة في الآية على أنّ اللاّتي لم يهاجرن كنّ محرّمات عليه ، لأنّ تخصيص الشّيء بالذّكر لا ينفي ما عداه .
ح - إمساك من كرهته :
27 - ممّا حرّم على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إمساك كارهته ولم يحرم ذلك على أمّته ، حفظاً لمقام النّبوّة ، فقد روى البخاريّ وغيره عن عائشة رضي الله عنها « أنّ ابنة الجون لمّا أدخلت على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ودنا منها قالت : أعوذ باللّه منك ، فقال عليه الصلاة والسلام : لقد عذت بعظيم ، الحقي بأهلك » . ويشهد لذلك وجوب تخييره نساءه الّذي تقدّم الحديث عنه .
الاختصاصات المباحة
أ - الصّلاة بعد العصر :
28 - ذهب من كره الصّلاة بعد العصر إلى أنّه أبيح لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يصلّي بعد العصر ، وكره ذلك لأمّته ، فقد روى البيهقيّ في سننه عن عائشة رضي الله عنها « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يصلّي بعد العصر وينهى عنها » .
ب - الصّلاة على الميّت الغائب :
29 - من منع الصّلاة على الميّت الغائب كالحنفيّة قال : أبيح لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن يصلّي على الميّت الغائب دون أمّته لأمر خصّه اللّه تعالى به .
ج - صيام الوصال :
30 - جمهور الفقهاء على اختصاص رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بإباحة صيام الوصال له دون أمّته ، لما رواه البخاريّ ومسلم « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال ، فقيل له : إنّك تواصل ، فقال : إنّي لست كهيئتكم ، إنّي أطعم وأسقى » .
د - القتال في الحرم :
31 - اتّفق الفقهاء على إباحة القتال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم في مكّة دون أمّته ، لما رواه الشّيخان من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ مكّة حرّمها اللّه ولم يحرّمها النّاس ، فلا يحلّ لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ، ولا يعضد بها شجرةً ، فإن أحد ترخّص بقتال رسول اللّه فقولوا : إنّ اللّه أذن لرسوله ولم يأذن لكم » .
هـ - دخول مكّة بغير إحرام :
32 - من قال من الفقهاء لا يجوز لمكلّف أن يدخل مكّة بغير إحرام قال : إنّ دخول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مكّة يوم فتحها بغير إحرام كان خاصّاً به صلوات الله وسلامه عليه .
و - القضاء بعلمه :
33 - من منع القاضي أن يقضي بعلمه جعل ما قضى به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بعلمه لهند بنت عتبة وقوله لها : « خذي من ماله ما يكفيك » من خصوصيّاته عليه الصلاة والسلام .
ز - القضاء لنفسه :
34 - خصّ عليه الصلاة والسلام بإباحة القضاء لنفسه ، لأنّ المنع من ذلك في حقّ الأمّة للرّيبة وهي منتفية عنه قطعاً ، ومثل ذلك القضاء في حالة الغضب .
ح - أخذ الهديّة :
35 - من خصائصه عليه الصلاة والسلام أنّ الهديّة حلال له ، بخلاف غيره من الحكّام وولاة الأمور من رعاياهم .
ط - في الغنيمة والفيء :
36 - أبيح لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم خمس الغنيمة وإن لم يحضر الوقعة ، لقوله تعالى : { واعلموا أنّما غنمتم من شيء فأنّ للّه خمسه وللرّسول } . وأبيح له الصّفيّ من المغنم ، وهو ما يختاره قبل القسمة من الغنيمة ، كسيف ودرع ونحوهما ، ومنه صفيّة أمّ المؤمنين الّتي اصطفاها من المغنم لنفسه .
ي - في النّكاح :
37 - ممّا اختصّ به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فأبيح له دون أمّته أن يتزوّج أكثر من أربع نساء ، وأن يتزوّج بغير مهر ، وأن يتزوّج المرأة بغير إذن وليّها . ويباح له ألاّ يقسم بين أزواجه عند البعض ، مع أنّه عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على القسم ، حتّى في السّفر ، حيث كان يقرع بينهنّ ، ولمّا اشتدّ عليه المرض استأذن أن يمرّض في بيت عائشة .
الخصائص من الفضائل
38 - هناك أمور اختصّ بها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لمزيد فضل ومنها :
أ - اختصاص من شاء بما شاء من الأحكام :
39 - لمّا كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم مشرّعاً لا ينطق عن الهوى ، فإنّ له أن يخصّ من شاء بما شاء من الأحكام ، كجعله شهادة خزيمة بشهادة رجلين ، وإجازته الأضحيّة بالعناق ( الجذع ) لأبي بردة ولعقبة بن عامر ، وتزويجه رجلاً على سورة من القرآن ، وتزويجه أمّ سليم أبا طلحة على إسلامه .
ب - الرّسول أولى بالمؤمنين من أنفسهم :
40 - خصّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون أحد من أمّته بأنّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم ؛ لقوله تعالى : { النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم } . ويترتّب على ذلك كثير من الأحكام : من ذلك وجوب محبّته أكثر من النّفس والمال والولد ، لما رواه البخاريّ عن « عمر بن الخطّاب رضي الله عنه أنّه قال للنّبيّ صلى الله عليه وسلم : لأنت أحبّ إليّ من كلّ شيء إلاّ نفسي الّتي بين جنبيّ ، فقال له صلى الله عليه وسلم : لن يؤمن أحدكم حتّى أكون أحبّ إليه من نفسه ، فقال عمر : والّذي أنزل عليك الكتاب لأنت أحبّ إليّ من نفسي الّتي بين جنبيّ ، فقال له النّبيّ صلى الله عليه وسلم : الآن يا عمر » . ومن ذلك وجوب فدائه بالنّفس والمال والولد . ومن ذلك وجوب طاعته وإن خالفت هوى النّفس ، وغير ذلك .
ج - الجمع بين اسم الرّسول وكنيته لمولود :
41 - ذهب الشّافعيّ وهو إحدى الرّوايتين عن أحمد وهو قول طاوس وابن سيرين إلى أنّه لا يحلّ التّكنّي بكنية رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في عصره ، سواء كان اسمه محمّداً ، أو لا ، لما رواه جابر قال : « ولد لرجل من الأنصار غلام فسمّاه محمّداً فغضب الأنصار وقالوا : حتّى نستأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم فذكروا ذلك له فقال : قد أحسنت الأنصار ، ثمّ قال : تسمّوا باسمي ولا تكنّوا بكنيتي ، فإنّي أبو القاسم أقسم بينكم » - أخرجه البخاريّ ومسلم . وذهب البعض - منهم الإمام أحمد في إحدى الرّوايتين عنه - إلى أنّه لا يجوز الجمع بين اسم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وكنيته ، لما رواه أبو داود في سننه من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من تسمّى باسمي فلا يتكنّى بكنيتي ، ومن تكنّى بكنيتي فلا يتسمّى باسمي » . وهؤلاء المانعون : منهم من جعل المنع منع تحريم ، ومنهم من جعل المنع منع كراهة . وذهب الحنفيّة إلى أنّ الجمع بين اسم رسول اللّه وكنيته كان ممنوعاً ثمّ نسخ المنع وثبت الحلّ ، لما رواه أبو داود عن عائشة قالت : « جاءت امرأة إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه إنّي قد ولدت غلاماً فسمّيته محمّداً وكنّيته أبا القاسم ، فذكر لي أنّك تكره ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم : ما الّذي أحلّ اسمي وحرّم كنيتي ، أو ما الّذي حرّم كنيتي وأحلّ اسمي » ، ولذلك كان الصّحابة لا يرون بأساً في تسمية أولادهم باسم " محمّد " وتكنيتهم ب " أبي القاسم " حتّى قال راشد بن حفص الزّهريّ : أدركت أربعةً من أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كلّهم يسمّى محمّداً ويكنّى أبا القاسم : محمّد بن طلحة بن عبيد اللّه ، ومحمّد بن أبي بكر ، ومحمّد بن عليّ بن أبي طالب ، ومحمّد بن سعد بن أبي وقّاص . وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى أنّ النّهي كان مخصوصاً بحياة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمّا بعد وفاته فتباح التّسمية باسمه والتّكنّي بكنيته . يدلّ على ذلك سبب المنع ، وهو أنّ اليهود تكنّوا بكنية رسول اللّه ، وكانوا ينادون يا أبا القاسم ، فإذا التفت النّبيّ صلى الله عليه وسلم قالوا : لم نعنك ، إظهاراً للإيذاء ، وقد زال هذا المنع بوفاة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ويدلّ على ذلك أيضاً ما رواه ابن أبي شيبة في مصنّفه « أنّ عليّاً قال : يا رسول اللّه : أرأيت إن ولد لي بعدك ولد أسمّيه محمّداً وأكنّيه بكنيتك ؟ قال : نعم » .
د - التّقدّم بين يديه ورفع الصّوت بحضرته :
42 - خصّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون أمّته بأنّه لا يجوز التّقدّم بين يديه - أي سبقه بالاقتراح عليه - لأنّ رسول اللّه مسدّد بالوحي ، ولقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تقدّموا بين يدي اللّه ورسوله } كما لا يجوز رفع الصّوت بحضرته عليه الصلاة والسلام حتّى يعلو صوت المتكلّم على صوت رسول اللّه ، لقوله تعالى في سورة الحجرات : { يا أيّها الّذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النّبيّ ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون } .
هـ - قتل من سبّه :
43 - ممّا اختصّ به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ من سبّه أو قذفه فعقوبته القتل .
و - إجابة من دعاه :
44 - من خصائصه عليه الصلاة والسلام أنّه إذا دعا أحداً فعليه أن يجيبه ولو كان في الصّلاة ، فإن أجابه في الصّلاة فإنّه لا تفسد صلاته ، لما روى البخاريّ عن أبي سعيد بن المعلّى الأنصاريّ « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دعاه وهو يصلّي ، فصلّى ثمّ أتاه ، فقال : ما منعك أن تجيبني ؟ قال : إنّي كنت أصلّي ، فقال : ألم يقل اللّه عزّ وجلّ : { يا أيّها الّذين آمنوا استجيبوا للّه وللرّسول إذا دعاكم } » .
ز - نسب أولاد بناته إليه :
45 - ممّا اختصّ به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دون النّاس جميعاً أنّ أولاد بناته ينتسبون إليه في الكفاءة وغيرها . لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ ابني هذا سيّد » ، ولما ذكره السّيوطيّ في الخصائص الصّغرى من حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه لم يبعث نبيّاً قطّ إلاّ جعل ذرّيّته في صلبه غيري ، فإنّ اللّه جعل ذرّيّتي من صلب عليّ » .
ح - لا يورث :
46 - ممّا اختصّ به صلوات الله وسلامه عليه دون أمّته أنّه لا يورث ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه صدقة » . وما تركه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينفق منه على عياله ، وما فضل فهو صدقة ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « ما تركت بعد نفقة نسائي ومئونة عاملي فهو صدقة » . وليس ذلك لأمّته ، وفي الواضح مشاركة الأنبياء له في ذلك .
ط - أزواجه أمّهات المؤمنين :
47 - ممّا اختصّ به رسول اللّه أنّ أزواجه أمّهات المؤمنين ، لا ينكحن بعده ، ولا ترى أشخاصهنّ لغير المحارم ، وعليهنّ الجلوس في بيوتهنّ ، لا يخرجن إلاّ لضرورة بعد وفاته عليه الصلاة والسلام . وتفصيله في مصطلح « أمّهات المؤمنين » .
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
الفصل الثّاني
اختصاص الأزمنة
هناك أزمنة اختصّت بأحكام دون غيرها هي :
أ - ليلة القدر :
48 - اختصّت هذه اللّيلة باستحباب تحرّيها وقيام ليلها - كما سيأتي ذلك مفصّلاً في « ليلة القدر » « وقيام اللّيل » .
ب - شهر رمضان اختصاص :
49 - اختصّ شهر رمضان بافتراض صيامه بقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشّهر فليصمه } ، وسنّيّة قيامه بصلاة التّراويح ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدّم من ذنبه » .
ج - يوما العيدين :
50 - اختصّت ليلتا العيدين بندب إحيائهما ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « من قام ليلتي العيد محتسباً للّه لم يمت قلبه يوم تموت القلوب » ، كما اختصّ يوماهما بصلاة خاصّة - هي صلاة العيد - وحرمة الصّيام فيهما ، وبالتّكبير في صبحيّتهما .
د - أيّام التّشريق :
51 - اختصّت أيّام التّشريق بالتّكبير عقب صلاة الفرائض وجواز ذبح الأضحيّة ، وتحريم الصّيام ، كما سيأتي ذلك في " أيّام التّشريق » . وانظر كذلك مصطلح « أضحيّة » .
هـ - يوم الجمعة :
52 - اختصّ يوم الجمعة بوجوب صلاة خاصّة فيه تقوم مقام صلاة الظّهر هي صلاة الجمعة ، واستنان الغسل فيه ، واستحباب الدّعاء فيه ؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « فيه ساعة لا يوافقها عبد مسلم وهو قائم يصلّي يسأل اللّه شيئاً إلاّ أعطاه إيّاه » وكراهة إفراده بالصّيام والقيام .
و - اليوم التّاسع من ذي الحجّة :
53 - اختصّ يوم عرفة بوجوب وقوف الحجّاج فيه في عرفة وكراهة صومه للحاجّ .
ز - يوم نصف شعبان وليلته :
54 - اختصّت ليلة النّصف من شعبان باستحباب قيامها عند الجمهور ؛ لما ورد من أحاديث صحيحة في فضلها من قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا كانت ليلة النّصف من شعبان فقوموا ليلها وصوموا نهارها ، فإنّ اللّه ينزل فيها لغروب الشّمس إلى السّماء الدّنيا فيقول : ألا من مستغفر لي فأغفر له ، ألا مسترزق فأرزقه ، ألا مبتلًى فأعافيه ألا كذا . . . ألا كذا . . . حتّى يطلع الفجر » .
ح - أوّل ليلة من رجب :
55 - اختصّت أوّل ليلة من ليالي رجب باستحباب قيامها ، كما ذكر ذلك بعض الحنفيّة وبعض الحنابلة ؛ لأنّها من اللّيالي الّتي لا يردّ فيها الدّعاء .
ط - يوما عاشوراء وتاسوعاء :
56 - اختصّ يوما تاسوعاء وعاشوراء باستحباب صيامهما ، لما رواه مسلم وأبو داود عن ابن عبّاس قال : « حين صام رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يوم عاشوراء وأمر بصيامه ، قالوا يا رسول اللّه : إنّه يوم تعظّمه اليهود والنّصارى ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فإذا كان العام القابل - إن شاء اللّه - صمت اليوم التّاسع ، فلم يأت العام المقبل حتّى توفّي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم » . وذهب بعض الحنابلة إلى استحباب قيام ليلة عاشوراء .
ي - يوم الشّكّ :
57 - يوم الشّكّ ، وهو يوم الثّلاثين من شعبان إذا غمّ على النّاس فلم يروا الهلال اختصّ تحريم صيامه ، لما رواه صلة بن زفر قال : « كنّا عند عمّار في اليوم الّذي يشكّ فيه فأتى بشاة مصليّة ، فتنحّى بعض القوم ، فقال عمّار : من صام هذا اليوم فقد عصى أبا القاسم .
ك - الأيّام البيض :
58 - اختصّت الأيّام البيض باستحباب صيامها ، لما رواه أبو داود والنّسائيّ عن عبد الملك بن ملحان القيسيّ عن أبيه قال : « كان رسول اللّه يأمرنا أن نصوم البيض ثلاث عشرة وأربع عشرة وخمس عشرة قال : وقال : هنّ كهيئة الدّهر » .
ل - العشر الأوائل من ذي الحجّة :
59 - اختصّت باستحباب صيامها وقيامها ، لما رواه التّرمذيّ عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « ما من أيّام أحبّ إلى اللّه أن يتعبّد له فيها من عشر ذي الحجّة ، يعدل صيام كلّ يوم منها بصيام سنة . وقيام كلّ ليلة منها بقيام ليلة القدر » . هذا مع مراعاة النّهي عن صوم يوم العيد ، لما ورد من حكم خاصّ به .
م - شهر المحرّم :
60 - اختصّ شهر المحرّم باستحباب صومه ، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « أفضل الصّيام بعد رمضان شهر اللّه المحرّم » .
ن - شهر شعبان :
61 - اختصّ شعبان باستحباب الصّيام فيه ؛ لحديث عائشة رضي الله عنها : « ما رأيت رسول اللّه استكمل صيام شهر قطّ إلاّ شهر رمضان ، وما رأيته في شهر أكثر منه صياماً في شعبان » . واختصّ آخره بكراهة الصّيام فيه . قال صلى الله عليه وسلم : « لا يتقدّمنّ أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين إلاّ أن يكون رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه » .
س - وقت صلاة الجمعة :
62 - اختصّ وقت صلاة الجمعة بتحريم البيع والشّراء فيه لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا إذا نودي للصّلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه وذروا البيع } .
ع - أوقات أخرى :
63 - وقت طلوع الشّمس ، ووقت استوائها ، ووقت غروبها وبعد صلاة الفجر وبعد صلاة العصر : اختصّت هذه الأوقات بمنع الصّلاة فيها ، على اختلاف بين الفقهاء وتفصيل في صحّة الصّلاة منها مع الكراهة أو عدم الصّحّة في الثّلاثة الأولى منها دون غيرها .
اختصاص الأماكن
أ - الكعبة المشرّفة :
64 - اختصّت الكعبة المشرّفة بما يلي : أوّلاً - افتراض إحيائها بالحجّ والعمرة ، وتفصيله في " إحياء البيت الحرام » . ثانياً - تكون تحيّتها بالطّواف عند البعض من الشّافعيّة ، وقال غيرهم كالحنفيّة والحنابلة : الطّواف هو تحيّة المسجد الحرام . ثالثاً - المصلّون حولها يجوز أن يتقدّم منهم المأموم على الإمام ، إن لم يكن في جانبه ، على أنّ المالكيّة أجازوا تقدّم المأموم على الإمام مطلقاً ، وكرهوه لغير ضرورة . وقد فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الصّلاة . رابعاً - اختلف الفقهاء في جواز الصّلاة في جوف الكعبة وعلى ظهرها ، فلم يجزها ابن جرير الطّبريّ ، ومنع الإمام أحمد الفرض ، وأجاز النّفل ، ومنع الإمام مالك الفرائض والسّنن وأجاز التّطوّع ، وأجاز الحنفيّة والشّافعيّة الفرائض والنّوافل جميعاً ، وتفصيل ذلك سيأتي في الصّلاة . فإن صلّى في جوف الكعبة أو على ظهرها اتّجه إلى أيّ جهة شاء . خامساً - افتراض التّوجّه إليها في الصّلاة بالإجماع فإنّها قبلة المسلمين في صلاتهم ، وتفصيله في " استقبال » . سادساً - كراهة استقبالها في بول أو غائط ( أي حين التّخلّي ) . وذهب الشّافعيّة إلى تحريم ذلك والأصل في ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : « إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ولكن شرّقوا أو غرّبوا » وتفصيله في مصطلح « قضاء الحاجة » .
ب - حرم مكّة :
65 - اختصّ حرم مكّة المكرّمة بما يلي : أوّلاً : عدم جواز دخول الكفّار إليه عند الجمهور لقوله تعالى : { إنّما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا } وقد أجلاهم عمر عنه ، وأجاز الحنفيّة لهم دخوله دون الإقامة فيه كالحجاز . ثانياً : اختلف الفقهاء في جواز دخوله بغير إحرام على تفصيل في مصطلح ( إحرام ) . ثالثاً : إنّ الصّلاة فيه تعدل مائة ألف صلاة في ثوابها لا في إسقاط الفرائض ؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلاّ المسجد الحرام » وحرم مكّة كمسجدها في مضاعفة الثّواب . رابعاً : عدم كراهة الصّلاة فيه في الأوقات الّتي تكره فيها الصّلاة ؛ لحديث جبير بن مطعم « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : يا بني عبد مناف لا تمنعوا أحداً طاف بهذا البيت وصلّى أيّة ساعة شاء من ليل أو نهار » . خامساً : تحريم صيده ، فمن صاد فعليه الجزاء ، كما هو مفصّل في بحث " إحرام » . سادساً : تحريم القتال فيه ، وسفك الدّماء ، وحمل السّلاح وكذلك إقامة الحدود ، على من ارتكب موجباتها خارج الحرم عند الحنفيّة والحنابلة ، خلافاً للمالكيّة والشّافعيّة الّذين أجازوا إقامتها فيه مطلقاً . أمّا من ارتكب ذلك داخل الحرم فيجوز إقامة الحدود عليه اتّفاقاً لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ مكّة حرّمها اللّه ولم يحرّمها النّاس ، فلا يحلّ لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً » وقوله صلوات اللّه وسلامه عليه : « لا يحلّ لأحدكم أن يحمل السّلاح بمكّة » . سابعاً : تغليظ دية الجناية فيه ، فقد قضى عمر بن الخطّاب ، فيمن قتل في الحرم ، بالدّية وثلث الدّية ، وقال بعضهم : لا تغلّظ ، كما هو مفصّل في مصطلح ( دية ) . ثامناً : قطع أشجاره : ولا يجوز قطع شيء من أشجار حرم مكّة بالاتّفاق ، لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ مكّة حرّمها اللّه ولم يحرّمها النّاس ، فلا يحلّ لامرئ يؤمن باللّه واليوم الآخر أن يسفك فيها دماً ولا يعضد فيها شجرةً » . تاسعاً : اختلف الفقهاء في لقطة الحرم ، فقال الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهي إحدى الرّوايتين عن الشّافعيّ أنّها كلقطة الحلّ ، وظاهر كلام أحمد وهو إحدى الرّوايتين عن الشّافعيّ أنّ من التقط لقطةً من الحرم كان عليه أن يعرّفها أبداً حتّى يأتي صاحبها ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « لا تلتقط لقطته إلاّ من عرّفها » . عاشراً : لا يصحّ ذبح الهدي إلاّ فيه ، كما هو مبيّن في الحجّ ، ولا يجوز إخراج شيء من ترابه .
ج - مسجد مكّة :
66 - يختصّ مسجد مكّة المكرّمة بما يختصّ به حرمها لأنّه جزء من حرمها ، ويزيد عليه ما يلي : أوّلاً : جواز قصده بالزّيارة وشدّ الرّحال إليه لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاثة مساجد : المسجد الحرام ، ومسجد الرّسول ، والمسجد الأقصى » ثانياً : تقدّم المأموم فيه على الإمام - وقد تقدّم فيما تختصّ به الكعبة المشرّفة ، كما اختصّت مواطن بأعمال في الحجّ تتعيّن وجوباً أو ندباً ، كعرفة ، ومنًى ، ومزدلفة ، والمواقيت المكانيّة للإحرام . وتفصيله في مصطلحي : ( الحجّ - والإحرام ) .
د - المدينة المنوّرة :
67 - أوّلاً : المدينة المنوّرة حرم ، ما بين عير إلى ثور ، لا يحلّ صيدها ولا يعضد شجرها ، كما ذهب إلى ذلك الشّافعيّة والمالكيّة والحنابلة ، والزّهريّ وغيرهم لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ إبراهيم حرّم مكّة ودعا لها ، وإنّي حرّمت المدينة كما حرّم إبراهيم مكّة ، وإنّي دعوت في صاعها ومدّها بمثل ما دعا به إبراهيم لأهل مكّة » . خالف في ذلك الحنفيّة وسفيان الثّوريّ وعبد اللّه بن المبارك ، فقالوا : ليس للمدينة المنوّرة حرم ، ولا يمنع أحد من أخذ صيدها وشجرها ، وما أراد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بحديثه المتقدّم تحريمها ، ولكنّه أراد بقاء زينتها ليألفها النّاس ، لما رواه الطّحاويّ والبزّار من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا تهدموا الآطام فإنّها زينة المدينة » ، ولما رواه مسلم من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « يا أبا عمير ما فعل النّغير ؟ » والنّغير صيد . ثانياً : يمنع الذّمّيّ من الاستيطان بها ولا يمنع من دخولها . ثالثاً : قدّم الإمام مالك العمل بما أجمع عليه فقهاء المدينة المنوّرة في عصره على خبر الواحد . رابعاً : الإقامة في المدينة المنوّرة أحبّ من الإقامة في غيرها ولو كانت مكّة ؛ لأنّها مهاجر المسلمين ، لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « تفتح اليمن فيأتي قوم يبسّون ، فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، وتفتح الشّام فيأتي قوم يبسّون فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون ، وتفتح العراق فيأتي قوم يبسّون فيتحمّلون بأهليهم ومن أطاعهم ، والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون » . خامساً : يستحبّ للمؤمن الانقطاع بها ليحصّل الموت فيها ، فقد كان عمر بن الخطّاب يدعو اللّه ويقول : اللّهمّ ارزقني شهادةً في سبيلك ، واجعل موتي في بلد رسولك ، وذلك لما رواه التّرمذيّ عن ابن عمر قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من استطاع أن يموت بالمدينة فليمت بها ، فإنّي أشفع لمن يموت بها » .
هـ - مسجد الرّسول صلى الله عليه وسلم :
68 - يختصّ مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأنّ الصّلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام ، لما في الصّحيحين من قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجد الحرام » . ويختصّ بجواز شدّ الرّحال إليه ، وقد تقدّم حديث : « لا تشدّ الرّحال إلاّ إلى ثلاث مساجد » وذكر منها مسجد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
و - مسجد قباء :
69 - يختصّ مسجد قباء بأنّ من أتاه فصلّى فيه كانت له كعمرة ، لما رواه النّسائيّ عن سهل بن حنيف قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « من خرج حتّى يأتي هذا المسجد - مسجد قباء - فصلّى فيه كان له عدل عمرة » وفي سنن التّرمذيّ عن أسيد بن ظهير أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « الصّلاة في مسجد قباء كعمرة » ولذلك استحبّ إتيان هذا المسجد والصّلاة فيه .
ز - المسجد الأقصى :
70 - يختصّ المسجد الأقصى بجواز شدّ الرّحال إليه ، وقد تقدّم . واختلفوا في كراهة التّوجّه إلى بيت المقدس في البول والغائط ، فكرهه بعضهم ؛ لأنّ بيت المقدس كان قبلةً ، وأباحه آخرون ، وقد ذكر ذلك الفقهاء عند حديثهم عن آداب الاستنجاء في كتاب الطّهارة .
ح - بئر زمزم :
71 - اختصّ ماء زمزم عن غيره من المياه بأنّ لشربه آداباً خاصّةً ، ولا يجوز استعماله في مواضع الامتهان كإزالة النّجاسة الحقيقيّة ، على خلاف وتفصيل سبق في مصطلح « آبار » ( ف 33 - 35 ) ( في الجزء الأوّل ) .
الاختصاص بالولاية أو الملك
72 - المخصّص إمّا أن يكون الشّرع ، وقد سبق بيانه ، أو الشّخص بملك أو ولاية . وهذا الأخير يشترط فيه ما يلي :
شروط الشّخص المخصّص :
73 - أ - أن يكون أهلاً للتّصرّف .
ب - أن يكون ذا ولاية ، سواء أكانت ولايةً عامّةً كالأمير والقاضي ونحوهما ، أم ولايةً خاصّةً كالأب ونحوه .
ج - أن يكون ذا ملك ، إذ لصاحب الملك أن يختصّ بملكه من يشاء بشروطه .
اختصاص ذي الولاية :
74 - إذا كان المخصّص صاحب الولاية فإنّه يشترط في الاختصاص أن يكون محقّقاً لمصلحة المولى عليه ، ومن هنا قالوا : تصرّف ذي الولاية منوط بالمصلحة ؛ لأنّ الولاية أمانة ، قال صلى الله عليه وسلم : « إنّها أمانة ، وأنّها يوم القيامة خزي وندامة إلاّ من أخذها بحقّها وأدّى الّذي عليه فيها » . وقال ابن تيميّة في السّياسة الشّرعيّة : « إنّ وصيّ اليتيم وناظر الوقف عليه أن يتصرّف له بالأصلح فالأصلح » . ومن ذلك اختصاص بعض القضاة بالقضاء في بلد معيّن ، أو في جانب معيّن من بلد دون الجوانب الأخرى ، أو في مذهب معيّن ، أو النّظر في نوع من الدّعاوى دون الأنواع الأخرى كالمناكحات أو الحدود أو المظالم ونحو ذلك ، وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب القضاء ، وفي كتب الأحكام السّلطانيّة . ويجب مراعاة المصلحة في اختصاص الرّجال ، في الولايات أو منح الأموال ونحوها ، كالحمى ، وهو في حقيقته اختصاص أرض معيّنة لترعى فيها أنعام الصّدقة ، أو خيل الجهاد ، واختصاص بعض الأراضي بإقطاعها للإحياء ، واختصاص بعض المرافق العامّة بإقطاعها إقطاع إرفاق كالطّرقات ومقاعد الأسواق ونحو ذلك . واختصاص بعض الموادّ الضّروريّة برفع العشور عنها ، أو تخفيض العشور عنها ؛ ليكثر جلبها إلى أسواق المسلمين ، فقد كان عمر رضي الله عنه يأخذ من النّبط من الحنطة والزّيت نصف العشر ، يريد بذلك أن يكثر الحمل إلى المدينة المنوّرة ويأخذ من القطنيّة - الحمّص والعدس - العشر .
( اختصاص المالك ) :
75 - أمّا إذا كان المخصّص صاحب ملك ، فإنّه يشترط لاختصاصه بعض ملكه بشيء من التّصرّفات دون بعض ألاّ ينشأ عن اختصاصه هذا ضرر أو مفسدة ولذلك منع من الوصيّة بأكثر من الثّلث لما فيه من الإضرار بالورثة ، ومنع من إعطاء بعض أولاده عطيّته لغير سبب مشروع دون باقيهم لما فيه من إيغار صدور بعضهم على بعض .
اختضاب
التّعريف
1 - الاختضاب لغةً : استعمال الخضاب . والخضاب هو ما يغيّر به لون الشّيء من حنّاء وكتم ونحوهما . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
أ - الصّبغ والصّباغ :
2 - الصّبغ ما يصطبغ به من الإدام ، ومنه قوله تعالى : { وشجرةً تخرج من طور سيناء تنبت بالدّهن وصبغ للآكلين } . قال المفسّرون : المراد بالصّبغ في الآية الزّيت ؛ لأنّه يلوّن الحبّ إذا غمس فيه ، والمراد أنّه إدام يصبغ به .
ب - التّطريف :
3 - التّطريف لغةً : خضب أطراف الأصابع ، يقال : طرفت الجارية بنانها إذا خضّبت أطراف أصابعها بالحنّاء ، وهي مطرّفة .
ج - النّقش :
4 - النّقش لغةً . النّمنمة ، يقال : نقشه ينقشه نقشاً وانتقشه : نمنمه فهو منقوش . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
5 - يختلف حكم الخضاب تبعاً للونه ، وللمختضب ، رجلاً كان أو امرأةً . وسيأتي . المفاضلة بين الاختضاب وعدمه :
6 - نقل الشّوكانيّ عن القاضي عياض قوله : اختلف السّلف من الصّحابة والتّابعين في الاختضاب ، وفي جنسه ، فقال بعضهم : ترك الاختضاب أفضل ، استبقاءً للشّيب ، وروى حديثاً عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم في النّهي عن تغيير الشّيب . وقال بعضهم : الاختضاب أفضل لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « غيّروا الشّيب ، ولا تشبّهوا باليهود » . وفي رواية زيادة « والنّصارى » ، ولقوله : « إنّ اليهود والنّصارى لا يصبغون فخالفوهم » فهذه الأحاديث تدلّ على أنّ العلّة في الصّباغ وتغيير الشّيب هي مخالفة اليهود والنّصارى . وبهذا يتأكّد استحباب الاختضاب . وقد كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يبالغ في مخالفة أهل الكتاب ويأمر بها . واختضب جماعة من الصّحابة والتّابعين ومن بعدهم للأحاديث الواردة في ذلك . ثمّ قد كان أكثرهم يختضب بالصّفرة ، منهم ابن عمر وأبو هريرة ، واختضب جماعة منهم بالحنّاء والكتم ، وبعضهم بالزّعفران ، واختضب جماعة بالسّواد ، منهم عثمان بن عفّان والحسن والحسين وعقبة بن عامر وغيرهم . ونقل الشّوكانيّ عن الطّبريّ قوله : الصّواب أنّ الأحاديث الواردة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم بتغيير الشّيب وبالنّهي عنه كلّها صحيحة ، وليس فيها تناقض . بل الأمر بالتّغيير لمن شيبه كشيب أبي قحافة ، والنّهي لمن له شمط فقط ، واختلاف السّلف في فعل الأمرين بحسب اختلاف أحوالهم في ذلك ، مع أنّ الأمر والنّهي في ذلك ليس للوجوب بالإجماع ، ولهذا لم ينكر بعضهم على بعض .
7 - وقد جاءت أحاديث في صحيح البخاريّ تدلّ على اختضاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وجاءت أحاديث تنفي اختضابه ، فمن الأولى : ما ورد عن عثمان بن عبد اللّه بن موهب قال : « دخلنا على أمّ سلمة فأخرجت إلينا من شعر رسول اللّه فإذا هو مخضوب » . ومنها ما ورد أنّ ابن عمر كان يصبغ لحيته بالصّفرة حتّى تملأ ثيابه ، فقيل له في ذلك ، فقال : إنّي رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يصبغ بها ، ولم يكن شيء أحبّ إليه منها ، وكان يصبغ بها ثيابه حتّى عمامته . ومن الثّانية قول أنس رضي الله عنه : « ما خضّب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وأنّه لم يبلغ منه الشّيب إلاّ قليلاً ، ولو شئت أن أعدّ شمطات كنّ في رأسه لفعلت » . ومنها قول أبي جحيفة رضي الله عنه : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هذه منه بيضاء » يعني عنفقته . وقال الشّوكانيّ : « لو فرض عدم ثبوت اختضاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم لما كان قادحاً في سنّيّة الاختضاب ، لورود الإرشاد إليها قولاً في الأحاديث الصّحيحة » . وقال الطّبريّ في الجمع بين الأحاديث المثبتة لاختضاب النّبيّ صلى الله عليه وسلم والأحاديث النّافية لاختضابه : « من جزم بأنّه خضّب فقد حكى ما شاهد ، وكان ذلك في بعض الأحيان ، ومن نفى ذلك فهو محمول على الأكثر الغالب من حاله " صلى الله عليه وسلم .
بم يكون الاختضاب ؟
8 - كون الاختضاب بالحنّاء ، وبالحنّاء مع الكتم ، وبالورس والزّعفران ، والسّواد ، بغير ذلك . أوّلاً - الاختضاب بغير السّواد الاختضاب بالحنّاء والكتم :
9 - يستحبّ الاختضاب بالحنّاء والكتم ، لحديث : « غيّروا الشّيب » ، فهو أمر ، وهو للاستحباب ، ولقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ أحسن ما غيّرتم به الشّيب الحنّاء والكتم » ، فإنّه يدلّ على أنّ الحنّاء والكتم من أحسن الصّباغات الّتي يغيّر بها الشّيب . وأنّ الصّبغ غير مقصور عليهما ، بل يشاركهما غيرهما من الصّباغات في أصل الحسن لما ورد من حديث أنس رضي الله عنه قال : اختضب أبو بكر بالحنّاء والكتم ، واختضب عمر بالحنّاء بحتاً .
الاختضاب بالورس والزّعفران
10 - الاختضاب بالورس والزّعفران يشارك الاختضاب بالحنّاء والكتم في أصل الاستحباب . وقد اختضب بهما جماعة من الصّحابة . روى أبو مالك الأشجعيّ ، عن أبيه ، قال : « كان خضابنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الورس والزّعفران » ، وقال الحكم بن عمرو الغفاريّ : دخلت أنا وأخي رافع على أمير المؤمنين عمر ، وأنا مخضوب بالحنّاء ، وأخي مخضوب بالصّفرة ، فقال عمر : هذا خضاب الإسلام . وقال لأخي رافع : هذا خضاب الإيمان .
الاختضاب بالسّواد
11 - اختلف الفقهاء في حكم الاختضاب بالسّواد : فالحنابلة والمالكيّة والحنفيّة - ما عدا أبا يوسف - يقولون : بكراهة الاختضاب بالسّواد في غير الحرب . أمّا في الحرب فهو جائز إجماعاً ، بل هو مرغّب فيه ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم شأن أبي قحافة والد أبي بكر رضي الله عنه لمّا جيء إليه عام الفتح ، ورأسه يشتعل شيباً : اذهبوا به إلى بعض نسائه فلتغيّره ، وجنّبوه السّواد » . وقال الحافظ في الفتح : إنّ من العلماء من رخّص في الاختضاب بالسّواد للمجاهدين ، ومنهم من رخّص فيه مطلقاً ، ومنهم من رخّص فيه للرّجال دون النّساء ، وقد استدلّ المجوّزون للاختضاب بالسّواد بأدلّة : منها : قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إنّ أحسن ما اختضبتم به لهذا السّواد ، أرغب لنسائكم فيكم ، وأهيب لكم في صدور أعدائكم » . ومنها ما روي عن عمر بن الخطّاب أنّه كان يأمر بالخضاب بالسّواد ، ويقول : هو تسكين للزّوجة ، وأهيب للعدوّ . ومنها أنّ جماعةً من الصّحابة اختضبوا بالسّواد ، ولم ينقل الإنكار عليهم من أحد ، منهم عثمان وعبد اللّه بن جعفر والحسن والحسين . وكان ممّن يختضب بالسّواد ويقول به محمّد بن إسحاق صاحب المغازي ، وابن أبي عاصم ، وابن الجوزيّ . ومنها ما ورد عن ابن شهاب قال : « كنّا نختضب بالسّواد إذ كان الوجه جديداً ( شباباً ) فلمّا نفض الوجه والأسنان ( كبرنا ) تركناه » . وللحنفيّة رأي آخر بالجواز ، ولو في غير الحرب ، وهذا هو مذهب أبي يوسف . وقال الشّافعيّة بتحريم الاختضاب بالسّواد لغير المجاهدين ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « يكون قوم في آخر الزّمان يخضبون بالسّواد ، لا يريحون رائحة الجنّة » ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : « في شأن أبي قحافة : وجنّبوه السّواد » ، فالأمر عندهم للتّحريم ، وسواء فيه عندهم الرّجل والمرأة .
اختضاب الأنثى
12 - اتّفق الفقهاء على أنّ تغيير الشّيب بالحنّاء أو نحوه مستحبّ للمرأة كما هو مستحبّ للرّجل ، للأخبار الصّحيحة في ذلك . وتختصّ المرأة المزوّجة ، والمملوكة باستحباب خضب كفّيها وقدميها بالحنّاء أو نحوه في كلّ وقت عدا وقت الإحرام ؛ لأنّ الاختضاب زينة ، والزّينة مطلوبة من الزّوجة لزوجها ومن المملوكة لسيّدها ، على أن يكون الاختضاب تعميماً ، لا تطريفاً ولا نقشاً ؛ لأنّ ذلك غير مستحبّ . ويجوز لها - بإذن زوجها أو سيّدها تحمير الوجنة ، وتطريف الأصابع بالحنّاء مع السّواد . وفي استحباب خضب المرأة المزوّجة لكفّيها ما ورد عن « ابن ضمرة بن سعيد عن جدّته عن امرأة من نسائه قال : وقد كانت صلّت القبلتين مع رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - قالت : دخل عليّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - فقال لي : اختضبي ، تترك إحداكنّ الخضاب حتّى تكون يدها كيد الرّجل ؟ » قال : فما تركت الخضاب حتّى لقيت اللّه عزّ وجلّ ، وإن كانت لتختضب وإنّها لابنة ثمانين . أمّا المرأة غير المزوّجة وغير المملوكة فيرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة : كراهة اختضابها في كفّيها وقدميها لعدم الحاجة مع خوف الفتنة ، وحرمة تحمير وجنتيها وحرمة تطريف أصابعها بالحنّاء مع السّواد . . ويرى الحنابلة جواز الاختضاب للأيّم ، لما ورد عن جابر مرفوعاً : « يا معشر النّساء اختضبن ، فإنّ المرأة تختضب لزوجها ، وإنّ الأيّم تختضب تعرّض للرّزق من اللّه عزّ وجلّ » أي لتخطب وتتزوّج .
وضوء المختضب وغسله :
13 - اتّفق الفقهاء على أنّ وجود مادّة على أعضاء الوضوء أو الغسل تمنع وصول الماء إلى البشرة - حائل بين صحّة الوضوء وصحّة الغسل . والمختضب وضوءه وغسله صحيحان ؛ لأنّ الخضاب بعد إزالة مادّته بالغسل يكون مجرّد لون ، واللّون وحده لا يحول بين البشرة ووصول الماء إليها ، ومن ثمّ فهو لا يؤثّر في صحّة الوضوء أو الغسل .
الاختضاب للتّداوي :
14 - اتّفق الفقهاء على جواز الاختضاب للتّداوي ، لخبر سلمى - مولاة النّبيّ صلى الله عليه وسلم - « أنّه كان إذا اشتكى أحد رأسه قال : اذهب فاحتجم ، وإذا اشتكى رجله قال : اذهب فاخضبها بالحنّاء » ، وفي لفظ لأحمد : قالت : « كنت أخدم النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - فما كانت تصيبه قرحة ولا نكتة إلاّ أمرني أن أضع عليها الحنّاء » .
الاختضاب بالمتنجّس وبعين النّجاسة
15 - يرى الأحناف والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ ما خضّب أو صبغ بمتنجّس يطهر بغسله ثلاثاً فلو اختضب الرّجل أو اختضبت المرأة بالحنّاء المتنجّس وغسل كلّ ثلاثاً طهر . أمّا إذا كان الاختضاب بعين النّجاسة فلا يطهر إلاّ بزوال عينه وطعمه وريحه وخروج الماء صافياً ، ويعفى عن بقاء اللّون ؛ لأنّ الأثر الّذي يشقّ زواله لا يضرّ بقاؤه . ومن هذا القبيل المصبوغ بالدّم ( فهو نجس ) ، والمصبوغ بالدّودة غير المائيّة الّتي لها دم سائل فإنّها ميتة يتجمّد الدّم فيها وهو نجس .
الاختضاب بالوشم :
16 - الوشم هو غرز الجلد بالإبرة حتّى يخرج الدّم ثمّ يذرّ عليه كحل أو نيلة ليخضرّ أو يزرقّ وهو حرام مطلقاً لخبر الصّحيحين : « لعن اللّه الواصلة والمستوصلة والواشمة والمستوشمة والنّامصة والمتنمّصة » ؛ ولأنّه إذا غرز محلّ الوشم بإبرة ثمّ حشي بكحل أو نيلة ليخضرّ تنجّس الكحل بالدّم فإذا جمد الدّم والتأم الجرح بقي محلّه أخضر ، فإذا غسل ثلاثاً طهر . ويرى الأحناف والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ الوشم كالاختضاب أو الصّبغ بالمتنجّس ، فإذا غسل ثلاثاً طهر ؛ لأنّه أثر يشقّ زواله إذ لا يزول إلاّ بسلخ الجلد أو جرحه .
الاختضاب بالبياض
17 - يكره خضب اللّحية السّوداء بالبياض كالكبريت ونحوه إظهاراً لكبر السّنّ ترفّعاً على الشّباب من أقرانه ، وتوصّلاً إلى التّوقير والاحترام من إخوانه ، وأمثال ذلك من الأغراض الفاسدة . ويفهم من هذا أنّه إذا كان لغرض صحيح فهو جائز .
اختضاب الحائض :
18 - جمهور الفقهاء على جواز اختضاب الحائض لما ورد « أنّ امرأةً سألت عائشة - رضي الله عنها - قالت : تختضب الحائض ؟ فقالت : قد كنّا عند النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - ونحن نختضب فلم يكن ينهانا عنه » ، ولما ورد أنّ نساء ابن عمر كنّ يختضبن وهنّ حيّض . وقد قال ابن رشد : لا إشكال في جواز اختضاب الحائض والجنب لأنّ صبغ الخضاب الّذي يحصل في يديها لا يمنع من رفع حدث الجنابة والحيض عنها بالغسل إذا اغتسلت . ولا وجه للقول بالكراهة .
اختضاب المرأة المحدّة
19 - اتّفق الفقهاء على أنّ المرأة المحدّة على زوجها يحرم عليها أن تختضب مدّة عدّتها ؛ لما ورد من حديث لأمّ سلمة قالت : « دخل عليّ رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - حين توفّي أبو سلمة فقال لي : لا تمتشطي بالطّيب ولا بالحنّاء فإنّه خضاب . قالت : قلت : بأيّ شيء أمتشط ؟ قال : بالسّدر تغلّفين به رأسك » .
خضاب رأس المولود :
20 - اتّفق الفقهاء - مالك والشّافعيّ - وأحمد والزّهريّ وابن المنذر على كراهة تلطيخ رأس الصّبيّ بدم العقيقة ؛ لقول النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : « مع الغلام عقيقة فأهريقوا عنه دماً ، وأميطوا عنه الأذى » ، فهذا يقتضي ألاّ يمسّ بدم لأنّه أذًى ، ولما روي عن يزيد بن عبد المزنيّ عن أبيه أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : « يعقّ عن الغلام ولا يمسّ رأسه بدم » ولأنّ هذا تنجيس له فلا يشرع . واتّفقوا على جواز خضب رأس الصّبيّ بالزّعفران وبالخلوق ( أي الطّيب ) ، لقول بريدة : كنّا في الجاهليّة إذا ولد لأحدنا غلام ذبح شاةً ولطّخ رأسه بدمها ، فلمّا جاء اللّه بالإسلام كنّا نذبح شاةً ونحلق رأسه ونلطّخه بزعفران ، ولقول عائشة رضي الله عنها « : كانوا في الجاهليّة إذا عقّوا عن الصّبيّ خضّبوا قطنةً بدم العقيقة ، فإذا حلقوا رأس المولود وضعوها على رأسه ، فقال النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - : اجعلوا مكان الدّم خلوقاً » زاد أبو الشّيخ « : ونهى أن يمسّ رأس المولود بدم » . أمّا الحنفيّة فإنّ العقيقة عندهم غير مطلوبة .
اختضاب الرّجل والخنثى :
21 - اتّفق الفقهاء على أنّه يستحبّ للرّجل أن يختضب في رأسه ولحيته لتغيير الشّيب بالحنّاء ونحوه للأحاديث الواردة في ذلك ، وجوّزوا له أن يختضب في جميع أجزاء بدنه ما عدا الكفّين والقدمين ، فلا يجوز له أن يختضب فيهما إلاّ لعذر ؛ لأنّ في اختضابه فيهما تشبّهاً بالنّساء ، والتّشبّه بالنّساء محظور شرعاً . وقال أكثر الشّافعيّة وبعض الحنابلة بحرمته . وقال بعض الحنابلة وصاحب المحيط من الحنفيّة بكراهته وقد قال رسول اللّه - صلى الله عليه وسلم - « لعن اللّه المتشبّهات من النّساء بالرّجال والمتشبّهين من الرّجال بالنّساء » . وحكم الخنثى المشكل كحكم الرّجل في هذا .
اختضاب المحرم
22 - ذهب الحنابلة إلى أنّه يجوز للمحرم الاختضاب بالحنّاء في أيّ جزء من البدن ما عدا الرّأس ؛ لأنّ ستر الرّأس في الإحرام بأيّ ساتر ممنوع . وقد ذكر القاضي أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال : « إحرام الرّجل في رأسه ، وإحرام المرأة في وجهها » . ولا بأس باختضاب المرأة بالحنّاء ونحوه ، لما روي عن عكرمة أنّه قال : « كانت عائشة وأزواج النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - يختضبن بالحنّاء وهنّ حرم » . وقال الشّافعيّة : يجوز للرّجل الاختضاب بالحنّاء ونحوه حال الإحرام في جميع أجزاء جسده ، ما عدا اليدين والرّجلين فيحرم خضبهما بغير حاجة . وكرهوا للمرأة الاختضاب بالحنّاء ونحوه حال الإحرام ، إلاّ إذا كانت معتدّةً من وفاة فيحرم عليها ذلك ، كما يحرم عليها الاختضاب إذا كان نقشاً ، ولو كانت غير معتدّة . وقال الأحناف والمالكيّة : لا يجوز للمحرم أن يختضب بالحنّاء ونحوه في أيّ جزء من البدن سواء أكان رجلاً أم امرأةً ؛ لأنّه طيب والمحرم ممنوع من الطّيب ، وقد روي « أنّ النّبيّ - صلى الله عليه وسلم - قال لأمّ سلمة : لا تطيّبي وأنت محرمة ولا تمسّي الحنّاء فإنّه طيب » .
اختطاط
التّعريف
1 - الاختطاط مصدر اختطّ . واختطاط الأرض هو أن يعلّم عليها علامةً بالخطّ ليعلم أنّه قد احتازها لينتفع بها . واختطّ فلان خطّةً إذا تحجّر موضعاً وخطّ عليه بجدار . وكلّ ما حظرته فقد خططت عليه . والخطّة : الأرض يختطّها الرّجل في أرض غير مملوكة ليتحجّرها ويبني فيها ، وذلك إذا أذن السّلطان لجماعة من المسلمين أن يختطّوا الدّور في موضع بعينه ، ويتّخذوا فيه مساكن لهم ، كما فعلوا بالكوفة والبصرة وبغداد ومعنى الاختطاط الوارد في اللّغة هو ما يعبّر عنه الفقهاء بالتّحجير أو الاحتجار بقصد إحياء الموات . وتفصيل أحكامه هناك ( ر : إحياء الموات ) . الحكم الإجماليّ :
2 - الاختطاط كما تبيّن يرادفه التّحجير عند الفقهاء ، والتّحجير لا يعتبر إحياءً ، إنّما هو شروع في الإحياء . ولذلك لا يثبت به الملك ، ولا يصحّ بيع المتحجّر من الموات ، وإنّما يكون المتحجّر أحقّ به من غيره ، فإذا لم يعمر كان غيره أحقّ به . وهذا في الجملة . وتفصيل ذلك في إحياء الموات .
اختطاف
التّعريف
1 - الاختطاف : أخذ الشّيء بسرعة واستلاب . ويقول بعض الفقهاء : الاختطاف هو الاختلاس ، والاختلاس هو أخذ الشّيء علانيةً بسرعة . والفرق بين الاختطاف والاغتصاب والسّرقة والحرابة والخيانة كالفرق بين الاختلاس وبين هذه المصطلحات ، ( ر : اختلاس ) . الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا قطع على المختطف ؛ لأنّ الاختلاس والاختطاف واحد ، ولا قطع على المختلس ؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع » . وقد فصّل الفقهاء أحكام الاختطاف في كتاب الحدود - باب حدّ السّرقة .
اختفاء
التّعريف
1 - الإخفاء لغةً السّتر والكتمان . وفي التّنزيل : { يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك } . فهو متعدّ ، بخلاف الاختفاء بمعنى التّواري ، فإنّه لازم ومطاوع للإخفاء .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - الإسرار :
2 - الإسرار لغةً واصطلاحاً هو الإخفاء . وقد يأتي بمعنى الإظهار أيضاً كما قال بعضهم في تفسير قوله تعالى : { وأسرّوا النّدامة } أي أظهروها ، فهو من الأضداد .
ب - النّجوى :
3 - النّجوى اسم للكلام الخفيّ الّذي تناجي به صاحبك ، كأنّك ترفعه عن غيره ، وذلك أنّ أصل الكلمة الرّفعة ، ومنه النّجوة من الأرض ، وسمّى اللّه تعالى تكليم موسى عليه السلام مناجاةً ، لأنّه كان كلاماً أخفاه عن غيره . والفرق بينها وبين الإخفاء أنّ النّجوى لا تكون إلاّ كلاماً ، أمّا الإخفاء فيكون للكلام والعمل كما هو واضح ، فالعلاقة بينهما العموم والخصوص .
( الحكم الإجماليّ )
يتعدّد الحكم الإجماليّ للإخفاء بحسب المواطن الّتي يكون فيها :
أ - إخفاء النّيّة :
4 - لم يؤثر عن الرّسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه مشروعيّة التّلفّظ بالنّيّة ، ولهذا استحبّ إخفاؤها ، لأنّ محلّها القلب ولأنّ حقيقتها القصد مطلقاً ، وخصّت في الشّرع بالإرادة المتوجّهة نحو الفعل مقترنةً به ابتغاء رضاء اللّه تعالى وامتثال حكمه . وقيل : يستحبّ التّلفّظ بها باللّسان . لكن للنّيّة في الحجّ والعمرة حكم خاصّ فقد قال الحنفيّة والشّافعيّة : يسنّ التّلفّظ بالنّيّة في الحجّ والعمرة . وقال الحنابلة وهو رأي للمالكيّة : يستحبّ النّطق بما جزم به ليزول الالتباس . وقال المالكيّة في رأي لهم : إنّ ترك التّلفّظ بها أفضل وفي رأي آخر كراهة التّلفّظ بها . وقيل يستحبّ التّلفّظ باللّسان . وتفصيله في مصطلح ( نيّة ) .
ب - إخفاء الصّدقة والزّكاة :
5 - نقل الطّبريّ وغيره الإجماع على أنّ الإخفاء في صدقة التّطوّع أفضل ، والإعلان في صدقة الفرض أفضل ، لقوله تعالى : { وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ورجل تصدّق بصدقة فأخفاها حتّى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه » . وقال ابن عطيّة : يشبه في زماننا أن يكون الإخفاء بصدقة الفرض ( الزّكاة ) أفضل ، فقد كثر المانع لها ، وصار إخراجها عرضةً للرّياء . وقيل : إن كان المتصدّق ممّن يقتدى به ويتبع ، وسلم قصده ، فالإظهار أولى . وتفصيله في مصطلح ( صدقة ) .
ج - اختفاء الهلال :
6 - إذا اختفى الهلال ، وغمّ على النّاس ، في شعبان أو رمضان ، وجب أن يكمل النّاس عدّة الشّهر ثلاثين يوماً ؛ لقول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته ، فإن غمّ عليكم فأكملوا عدّة شعبان ثلاثين » . وتفصيله في مصطلح : ( صوم ) .
د - إخفاء الإيمان :
7 - في اعتبار إيمان من أخفى إيمانه وصدّق بقلبه رأيان : الأوّل : من صدّق بقلبه بما علم مجيء الرّسول به وأخفى إيمانه ولم يتلفّظ به ، اعتبر مؤمناً . الثّاني : اعتبر البعض أنّ التّلفّظ بالشّهادتين شرط للإيمان أو شطر منه .
هـ - إخفاء الذّكر :
8 - اختلف السّلف في الذّكر الخفيّ والذّكر باللّسان من حيث الأفضليّة بينهما ، فقال عزّ الدّين بن عبد السّلام وابن حجر الهيتميّ : ذكر القلب أفضل من ذكر اللّسان ، وذهب القاضي عياض والبلقينيّ إلى ترجيح عمل اللّسان . وتفصيله في مصطلح ( ذكر ) .
اختلاس
التّعريف
1 - الاختلاس والخلس في اللّغة : أخذ الشّيء مخادعةً عن غفلة . قيل الاختلاس أسرع من الخلس ، وقيل الاختلاس هو الاستلاب . ويزيد استعمال الفقهاء عن هذا المعنى اللّغويّ أنّه : أخذ الشّيء بحضرة صاحبه جهراً مع الهرب به سواء جاء المختلس جهاراً أو سرّاً ، مثل أن يمدّ يده إلى منديل إنسان فيأخذه .
الألفاظ ذات الصّلة :
2 - أ - الغصب أو الاغتصاب : هو أخذ الشّيء قهراً وعدواناً .
ب - السّرقة : هي أخذ النّصاب من حرزه على استخفاء .
ج - الحرابة : هي الاستيلاء على الشّيء مع تعذّر الغوث .
د - الخيانة : هي جحد ما اؤتمن عليه .
هـ - الانتهاب : هو أخذ الشّيء قهراً ، فالانتهاب ليس فيه استخفاء مطلقاً ، في حين أنّ الاختلاس يستخفى في أوّله .
الحكم الإجماليّ :
3 - اتّفق الفقهاء على أنّه لا قطع في الاختلاس ؛ لحديث جابر رضي الله عنه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « ليس على خائن ولا منتهب ولا مختلس قطع » ، ولأنّه يأخذ المال على وجه يمكن انتزاعه منه بالاستغاثة بالنّاس وبالسّلطان فلم يحتج في ردعه إلى القطع .
مواطن البحث :
4 - يفصّل الفقهاء أحكام الاختلاس في السّرقة عند الحديث عن الأمور الّتي فيها قطع وما لا قطع فيه ، وفي الغصب عند الحديث عمّا يغايره من أنواع أخذ الحقوق من الغير .
اختلاط
التّعريف
1 - الاختلاط ضمّ الشّيء إلى الشّيء ، وقد يمكن التّمييز بينهما كما في الحيوانات ، وقد لا يمكن كما في المائعات فيكون مزجاً . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن هذا المعنى . الألفاظ ذات الصّلة :
2 - الامتزاج هو انضمام شيء إلى شيء بحيث لا يمكن التّمييز بينهما ، ويختلف عنه الاختلاط بأنّه أعمّ ؛ لشموله ما يمكن التّمييز فيه وما لا يمكن . الحكم الإجماليّ :
3 - يختلف الحكم بحسب المسائل الّتي يجري فيها الاختلاط ، فقد يكون أثر الاختلاط هو الحرمة . وذلك تبعاً لقاعدة : إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام ، كما لو اختلطت المساليخ المذكّاة بمساليخ الميتة دون تمييز ، فإنّه لم يجز تناول شيء منها ، ولا بالتّحرّي إلاّ عند المخمصة . ويجوز التّحرّي إذا كانت الغلبة للمذكّاة كما يقول الحنفيّة . وكذلك لو اختلطت زوجته بغيرها فليس له الوطء ولا بالتّحرّي ، ومثل ذلك من طلّق إحدى زوجتيه مبهماً ، يحرم عليه الوطء قبل التّعيين . وقد يكون أثر الاختلاط هو الاجتهاد والتّحرّي غالباً فالأواني إذا كان بعضها طاهراً وبعضها نجساً ولم تتميّز ، وكذلك الثّياب إذا اختلط الطّاهر بالنّجس فإنّه يتحرّى للطّهارة واللّبس . وهذا عند الجمهور وبعض الفقهاء يقول عدم التّحرّي وهم الحنابلة إلاّ بعضهم . وقد يكون أثر الاختلاط هو الضّمان . ومن ذلك ما إذا خلط المودع الوديعة بماله ولم تتميّز فإنّه يضمن لأنّ الخلط إتلاف . وقد يعتبر الاختلاط إبطالاً لبعض العقود كالوصيّة ، فمن وصّى بشيء معيّن خلطه بغيره على وجه لا يتميّز منه كان رجوعاً في الوصيّة . ومن صور الاختلاط :
اختلاط الرّجال بالنّساء :
4 - يختلف حكم اختلاط الرّجال بالنّساء بحسب موافقته لقواعد الشّريعة أو عدم موافقته ، فيحرم . الاختلاط إذا كان فيه : أ - الخلوة بالأجنبيّة ، والنّظر بشهوة إليها .
ب - تبذّل المرأة وعدم احتشامها .
ج - عبث ولهو وملامسة للأبدان كالاختلاط في الأفراح والموالد والأعياد ، فالاختلاط الّذي يكون فيه مثل هذه الأمور حرام ، لمخالفته لقواعد الشّريعة . قال تعالى : { قل للمؤمنين يغضّوا من أبصارهم } . . . { وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهنّ } . وقال تعالى عن النّساء : { ولا يبدين زينتهنّ } وقال : { إذا سألتموهنّ متاعاً فاسألوهنّ من وراء حجاب } . ويقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يخلونّ رجل بامرأة فإنّ ثالثهما الشّيطان » « وقال صلى الله عليه وسلم لأسماء بنت أبي بكر يا أسماء إنّ المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلاّ هذا وهذا وأشار إلى وجهه وكفّيه » . كذلك اتّفق الفقهاء على حرمة لمس الأجنبيّة ، إلاّ إذا كانت عجوزاً لا تشتهى فلا بأس بالمصافحة . ويقول ابن فرحون : في الأعراس الّتي يمتزج فيها الرّجال والنّساء ، لا تقبل شهادة بعضهم لبعض إذا كان فيه ما حرّمه الشّارع ؛ لأنّ بحضورهنّ هذه المواضع تسقط عدالتهنّ . ويستثنى من الاختلاط المحرّم ما يقوم به الطّبيب من نظر ولمس ؛ لأنّ ذلك موضع ضرورة ، والضّرورات تبيح المحظورات .
5 - ويجوز الاختلاط إذا كانت هناك حاجة مشروعة مع مراعاة قواعد الشّريعة ولذلك جاز خروج المرأة لصلاة الجماع وصلاة العيد ، وأجاز البعض خروجها لفريضة الحجّ مع رفقة مأمونة من الرّجال . كذلك يجوز للمرأة معاملة الرّجال ببيع أو شراء أو إجارة أو غير ذلك . ولقد سئل الإمام مالك عن المرأة العزبة الكبيرة تلجأ إلى الرّجل ، فيقوم لها بحوائجها ، ويناولها الحاجة ، هل ترى ذلك له حسناً ؟ قال : لا بأس به ، وليدخل معه غيره أحبّ إليّ ، ولو تركها النّاس لضاعت ، قال ابن رشد : هذا على ما قال إذا غضّ بصره عمّا لا يحلّ له النّظر إليه .
مواطن البحث :
6 - الأشياء الّتي يتمّ فيها الاختلاط تشمل مواطن متعدّدةً في كثير من المسائل الفقهيّة ولكلّ مسألة حكمها بحسب أثر الاختلاط فيها ومن هذه المواطن : اختلاط المغصوب بغيره في باب الغصب . واختلاط موتى المسلمين بغيرهم في باب الجنائز . واختلاط الحادث بالموجود في بيع الثّمار . واختلاط الماشية الّتي تجب فيها الزّكاة في باب الزّكاة . واختلاط المحلوف عليه في باب الإيمان . واختلاط النّجس بالطّاهر في المائعات ، وغير ذلك . وفي الموضوع فروع متعدّدة . ( ر : نظر - خلوة - محرم - أجنبيّ ) .
اختلاف
التّعريف
1 - الاختلاف لغةً : مصدر اختلف . والاختلاف نقيض الاتّفاق . جاء في اللّسان ما مفاده : اختلف الأمران لم يتّفقا . وكلّ ما لم يتساو فقد اختلف . والخلاف : المضادّة ، وخالفه إلى الشّيء عصاه إليه ، أو قصده بعد أن نهاه عنه . ويستعمل الاختلاف عند الفقهاء بمعناه اللّغويّ وكذلك الخلاف . الألفاظ ذات الصّلة : أ - الخلاف :
2 - جاء في فتح القدير والدّرّ المختار وحاشية ابن عابدين ، ونقله التّهانويّ عن بعض أصحاب الحواشي ، التّفريق بين ( الاختلاف ) ( والخلاف ) بأنّ الأوّل يستعمل في قول بني على دليل ، والثّاني فيما لا دليل عليه . وأيّده التّهانويّ بأنّ القول المرجوح في مقابلة الرّاجح يقال له خلاف ، لا اختلاف . قال : والحاصل منه ثبوت الضّعف في جانب المخالف في ( الخلاف ) ، كمخالفة الإجماع ، وعدم ضعف جانبه في ( الاختلاف ) . وقد وقع في كلام بعض الأصوليّين والفقهاء عدم اعتبار هذا الفرق ، بل يستعملون أحياناً اللّفظين بمعنًى واحد ، فكلّ أمرين خالف أحدهما الآخر خلافاً ، فقد اختلفا اختلافاً . وقد يقال : إنّ الخلاف أعمّ مطلقاً من الاختلاف . وينفرد الخلاف في مخالفة الإجماع ونحوه . هذا ويستعمل الفقهاء ( التّنازع ) أحيانا بمعنى الاختلاف .
ب - الفرقة ، والتّفرّق :
3 - ( الافتراق ) ( والتّفرّق ) ( والفرقة ) بمعنى أن يكون كلّ مجموعة من النّاس وحدهم . ففي القاموس : الفريق القطيع من الغنم ، والفريقة قطعة من الغنم تتفرّق عنها فتذهب تحت اللّيل عن جماعتها . فهذه الألفاظ أخصّ من الاختلاف .
الاختلاف في الأمور الاجتهاديّة ( علم الخلاف )
حقيقة الاختلاف وأنواعه :
4 - على المجتهد تحقيق موضع الاختلاف ، فإنّ نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها خطأ ، كما أنّ نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصحّ فليس كلّ تعارض بين قولين يعتبر اختلافاً حقيقاً بينهما ، فإنّ الاختلاف إمّا أن يكون اختلافاً في العبارة ، أو اختلاف تنوّع ، أو اختلاف تضادّ . وهذا الأخير هو الاختلاف الحقيقيّ .
5 - أمّا الاختلاف في العبارة فأن يعبّر كلّ من المختلفين عن المراد بعبارة غير عبارة صاحبه . مثال ذلك تفسير الصّراط المستقيم . قال بعضهم : هو القرآن ، وقال بعضهم : هو الإسلام . فهذان القولان متّفقان ، لأنّ دين الإسلام هو اتّباع القرآن الكريم . وكذلك قول من قال : هو السّنّة والجماعة .
6 - وأمّا اختلاف التّنويع ، فأن يذكر كلّ من المختلفين من الاسم العامّ بعض أنواعه على سبيل التّمثيل وتنبيه المستمع ، لا على سبيل الحدّ المطابق للمحدود في عمومه وخصوصه . مثال ذلك تفسير قوله تعالى : { فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات } قال بعضهم : السّابق الّذي يصلّي أوّل الوقت ، والمقتصد في أثنائه ، والظّالم لنفسه الّذي يؤخّر العصر إلى الاصفرار . وقيل : السّابق المحسن بالصّدقة ، والمقتصد بالبيع ، والظّالم بأكل الرّبا . واختلاف التّنوّع في الأحكام الشّرعيّة قد يكون في الوجوب تارةً وفي الاستحباب أخرى : فالأوّل مثل أن يجب على قوم الجهاد ، وعلى قوم الصّدقة ، وعلى قوم تعليم العلم . وهذا يقع في فروض الأعيان كما مثّل . وفي فروض الكفايات ، ولها تنوّع يخصّها ، وهو أنّها تتعيّن على من لم يقم بها غيره : فقد تتعيّن في وقت ، أو مكان ، وعلى شخص أو طائفة كما يقع مثل ذلك في الولايات والجهات والفتيا والقضاء . قال ابن تيميّة : وكذلك كلّ تنوّع في الواجبات يقع مثله في المستحبّات .
7 - وقد نظر الشّاطبيّ في المسألة ، وحصر الخلاف غير الحقيقيّ في عشرة أنواع . منها : ما تقدّم من الاختلاف في العبارة . ومنها : أن لا يتوارد الخلاف على محلّ واحد . ومنها : اختلاف أقوال الإمام الواحد ، بناءً على تغيّر الاجتهاد ، والرّجوع عمّا أفتى به أوّلاً . ومنها : أن يقع الاختلاف في العمل لا في الحكم ، بأن يكون كلّ من العملين جائزاً ، كاختلاف القرّاء في وجوه القراءات ، فإنّهم لم يقرءوا بما قرءوا به على إنكار غيره ، بل على إجازته والإقرار بصحّته ، فهذا ليس في الحقيقة باختلاف ، فإنّ المرويّات على الصّحّة لا خلاف فيها ، إذ الكلّ متواتر . وهذه الأنواع السّابقة تقع في تفسير القرآن ، وفي اختلافهم في شرح السّنّة ، وكذلك في فتاوى الأئمّة وكلامهم في مسائل العلم . وهي أنواع - وإن سمّيت خلافاً - إلاّ أنّها ترجع إلى الوفاق . الحكم التّكليفيّ للاختلاف بحسب أنواعه : أمور الدّين الّتي يمكن أن يقع فيها الخلاف إمّا أصول الدّين أو فروعه ، وكلّ منهما إمّا أن يثبت بالأدلّة القاطعة أو لا . فهي أربعة أنواع :
8 - النّوع الأوّل : أصول الدّين الّتي تثبت بالأدلّة القاطعة ، كوجود اللّه تعالى ووحدانيّته ، وملائكته وكتبه ورسالة محمّد صلى الله عليه وسلم والبعث بعد الموت ونحو ذلك . فهذه أمور لا مجال فيها للاختلاف ، من أصاب الحقّ فيها فهو مصيب ، ومن أخطأه فهو كافر .
9 - النّوع الثّاني : بعض مسائل أصول الدّين ، مثل مسألة رؤية اللّه في الآخرة ، وخلق القرآن ، وخروج الموحّدين من النّار ، وما يشابه ذلك ، فقيل يكفر المخالف ، ومن القائلين بذلك الشّافعيّ . فمن أصحابه من حمله على ظاهره . ومنهم من حمله على كفران النّعم . وشرط عدم التّكفير أن يكون المخالف مصدّقاً بما جاء به الرّسول صلى الله عليه وسلم . والتّكذيب المكفّر أن ينفي وجود ما أخبر به الرّسول ويزعم أنّ ما قاله كذب محض أراد به صرف النّاس عن شيء يريده ، كذا قال الغزاليّ .
10 - النّوع الثّالث : الفروع المعلومة من الدّين بالضّرورة كفرضيّة الصّلوات الخمس ، وحرمة الزّنا ، فهذا ليس موضعاً للخلاف . ومن خالف فيه فقد كفر .
11 - النّوع الرّابع : الفروع الاجتهاديّة الّتي قد تخفى أدلّتها . فهذه الخلاف فيها واقع في الأمّة . ويعذر المخالف فيها ؛ لخفاء الأدلّة أو تعارضها ، أو الاختلاف في ثبوتها . وهذا النّوع هو المراد في كلام الفقهاء إذا قالوا : في المسألة خلاف . وهو موضوع هذا البحث على أنّه الخلاف المعتدّ به في الأمور الفقهيّة . فأمّا إن كان في المسألة دليل صحيح صريح لم يطّلع عليه المجتهد فخالفه ، فإنّه معذور بعد بذل الجهد ، ويعذر أتباعه في ترك رأيه أخذاً بالدّليل الصّحيح الّذي تبيّن أنّه لم يطّلع عليه . فهذا النّوع لا يصحّ اعتماده خلافاً في المسائل الشّرعيّة ، لأنّه اجتهاد لم يصادف محلّاً ، وإنّما يعدّ في مسائل الخلاف الأقوال الصّادرة عن أدلّة معتبرة في الشّريعة . أدلّة جواز الاختلاف في المسائل الفرعيّة :
12 - أوّلاً : ما وقع من الصّحابة في غزوة بني قريظة : روى البخاريّ عن ابن عمر قال : « قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : لا يصلّينّ أحد العصر إلاّ في بني قريظة ، فأدرك بعضهم العصر في الطّريق . فقال بعضهم : لا نصلّي حتّى نأتيها . وقال بعضهم : بل نصلّي ، لم يرد منّا ذلك ، فذكر ذلك للنّبيّ صلى الله عليه وسلم فلم يعنّف واحداً منهم » . ثانياً : اتّفاق الصّحابة في مسائل تنازعوا فيها على إقرار كلّ فريق للفريق الآخر على العمل باجتهادهم ، كمسائل في العبادات والنّكاح والمواريث والعطاء والسّياسة وغير ذلك .
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
الاختلاف فيما لا فائدة فيه
13 - قال ابن تيميّة : قد يقع الاختلاف في ألفاظ من تفسير القرآن ما لا مستند له من النّقل عن الرّسول صلى الله عليه وسلم أو بنقل لا يمكن تمييز الصّحيح منه من الضّعيف ، ودون استدلال مستقيم . وهذا النّوع من الاختلاف لا فائدة من البحث عنه ، والكلام فيه من فضول الكلام . وأمّا ما يحتاج المسلمون إلى معرفته فإنّ اللّه نصب على الحقّ فيه دليلاً . فمثال ما لا فائدة فيه اختلافهم في أصحاب الكهف ، وفي البعض الّذي ضرب به موسى من البقرة ، ومقدار سفينة نوح ، ونحو ذلك . فهذه الأمور طريق العلم بها النّقل . فما كان من هذا منقولاً نقلاً صحيحاً ، كاسم صاحب موسى أنّه الخضر ، فهذا معلوم ، وما لم يكن كذلك بل كان ممّا ينقل عن أهل الكتاب ككعب ووهب ، فهذا لا يجوز تصديقه ولا تكذيبه إلاّ بحجّة .
الاختلاف الجائز هل هو نوع من الوفاق :
14 - يرى الشّاطبيّ أنّ ما يعتدّ به من الخلاف في ظاهر الأمر يرجع في الحقيقة إلى الوفاق . فإنّ الاختلاف في بعض المسائل الفقهيّة راجع إمّا إلى دورانها بين طرفين واضحين يتعارضان في أنظار المجتهدين ، وإمّا إلى خفاء بعض الأدلّة ، أو إلى عدم الاطّلاع على الدّليل . وهذا الثّاني ليس في الحقيقة خلافاً ، إذ لو فرضنا اطّلاع المجتهد على ما خفي عليه لرجع عن قوله ، فلذا ينقض لأجله قضاء القاضي . أمّا الأوّل فإنّ تردّده بين الطّرفين تحرّ لقصد الشّارع المبهم بينهما من كلّ واحد من المجتهدين ، واتّباع للدّليل المرشد إلى تعرّف قصده . وقد توافقوا في هذين القصدين توافقاً لو ظهر معه لكلّ واحد منهما خلاف ما رآه لرجع إليه ، ولوافق صاحبه . وسواء قلنا بالتّخطئة أو بالتّصويب ، إذ لا يصحّ للمجتهد أن يعمل على قول غيره وإن كان مصيباً أيضاً . فالإصابة على قول المصوّبة إضافيّة . فرجع القولان إلى قول واحد بهذا الاعتبار . فهم في الحقيقة متّفقون لا مختلفون . ومن هنا يظهر وجه التّحابّ والتّآلف بين المختلفين في مسائل الاجتهاد ؛ لأنّهم مجتمعون على طلب قصد الشّارع ، فلم يصيروا شيعاً ، ولا تفرّقوا فرقاً . هذا وقد سلك الشّعرانيّ مسلكاً آخر في إرجاع مسائل الخلاف إلى الوفاق ، بأن يحمل كلّ قول من أقوال المختلفين على حال من أحوال المكلّفين . فمن قال من الأئمّة : بأنّ الأمر في باب من أبواب العبادة للوجوب ، وخالفه غيره فقال : إنّه للنّدب ، وكذلك اختلافهم في النّهي بأنّه للكراهة أو للتّحريم ، فلكلّ من المرتبتين رجال ، فمن قوي منهم من حيث إيمانه وجسمه خوطب بالعزيمة والتّشديد الوارد في الشّريعة صريحاً أو ضمناً . ومن ضعف منهم خوطب بالرّخصة . فالمرتبتان عنده على التّرتيب الوجوبيّ لا التّخيير .
الاختلاف الفقهيّ هل هو رحمة :
15 - المشهور أنّ اختلاف مجتهدي الأمّة في الفروع رحمة لها وسعة . والّذين صرّحوا بذلك احتجّوا بما رواه ابن عبّاس مرفوعاً « مهما أوتيتم من كتاب اللّه فالعمل به لا عذر لأحد في تركه . فإن لم يكن في كتاب اللّه فسنّة منّي ماضية . فإن لم تكن سنّة منّي فما قال أصحابي . إنّ أصحابي بمنزلة النّجوم في السّماء ، فأيّما أخذتم به اهتديتم ، واختلاف أصحابي لكم رحمة » . وفي الحديث أيضاً « وجعل اختلاف أمّتي رحمةً وكان فيمن كان قبلنا عذاباً » . واستأنسوا لذلك بما روي عن بعض التّابعين من مثل قول القاسم بن محمّد : لقد نفع اللّه باختلاف أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أعمالهم ، لا يعمل العامل بعمل رجل منهم إلاّ رأى أنّه في سعة ، ورأى أنّ خيراً منه قد عمله . وعن عمر بن عبد العزيز : ما أحبّ أنّ أصحاب رسول اللّه لم يختلفوا ؛ لأنّه لو كان قولاً واحداً كان النّاس في ضيق ، وأنّهم أئمّة يقتدى بهم ، فلو أخذ أحد بقول رجل منهم كان في سعة . وعن يحيى بن سعيد أنّه قال : اختلاف أهل العلم توسعة ، وما برح المفتون يختلفون ، فيحلّل هذا ويحرّم هذا ، فلا يعيب هذا على هذا ، ولا هذا على هذا . وقال ابن عابدين : الاختلاف بين المجتهدين في الفروع - لا مطلق الاختلاف - من آثار الرّحمة فإنّ اختلافهم توسعة للنّاس . قال : فمهما كان الاختلاف أكثر كانت الرّحمة أوفر . وهذه القاعدة ليست متّفقاً عليها ، فقد روى ابن وهب عن مالك أنّه قال . ليس في اختلاف أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سعة ، وإنّما الحقّ في واحد . وقال المزنيّ صاحب الشّافعيّ : ذمّ اللّه الاختلاف وأمر بالرّجوع عنده إلى الكتاب والسّنّة . وتوسّط ابن تيميّة بين الاتّجاهين ، فرأى أنّ الاختلاف قد يكون رحمةً ، وقد يكون عذاباً . قال : النّزاع في الأحكام قد يكون رحمةً إذا لم يفض إلى شرّ عظيم من خفاء الحكم . والحقّ في نفس الأمر واحد ، وقد يكون خفاؤه على المكلّف - لما في ظهوره من الشّدّة عليه - من رحمة اللّه به ، فيكون من باب { لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم } . وهكذا ما يوجد في الأسواق من الطّعام والثّياب قد يكون في نفس الأمر مغصوباً ، فإذا لم يعلم الإنسان بذلك كان كلّه حلالاً لا شيء عليه فيه بحال ، بخلاف ما إذا علم . فخفاء العلم بما يوجب الشّدّة قد يكون رحمةً ، كما أنّ خفاء العلم بما يوجب الرّخصة قد يكون عقوبةً ، كما أنّ رفع الشّكّ قد يكون رحمةً وقد يكون عقوبةً . والرّخصة رحمة . وقد يكون مكروه النّفس أنفع كما في الجهاد .
أسباب اختلاف الفقهاء :
16 - الاختلاف إمّا أن يكون ناشئاً عن هوًى ، أو عن الاجتهاد المأذون فيه . فأمّا ما كان ناشئاً عن هوًى فهو موضع الذّمّ ، إذ أنّ الفقيه تابع لما تدلّ عليه الأدلّة الشّرعيّة فإن صرف الأدلّة إلى ما تهواه نفسه فقد جعل الأدلّة تابعةً لهواه . وذكر الشّاطبيّ أنّ الخلاف النّاشئ عن الهوى هو الخلاف حقيقةً . وإذا دخل الهوى أدّى إلى اتّباع المتشابه حرصاً على الغلبة والظّهور بإقامة العذر في الخلاف ، وأدّى إلى الفرقة والبغضاء ، لاختلاف الأهواء وعدم اتّفاقها . فأقوال أهل الأهواء غير معتدّ بها في الخلاف المقرّر في الشّرع وإنّما يذكرها بعض النّاس ليردّوا عليها ويبيّنوا فسادها ، كما فعلوا بأقوال اليهود والنّصارى ليوضّحوا ما فيها .
17 - أمّا النّوع الثّاني وهو الاختلاف النّاشئ عن الاجتهاد المأذون فيه فله أسباب مختلفة ، يتعرّض لها الأصوليّون لماماً . وقد أفردها بالتّأليف قديماً وحاول الوصول إلى حصر لها ابن السّيّد البطليوسيّ في كتابه " الإنصاف في أسباب الخلاف " وابن رشد في مقدّمة " بداية المجتهد " وابن حزم في " الإحكام " والدّهلويّ في " الإنصاف " وغيرهم . ويرجع الاختلاف إمّا إلى الدّليل نفسه ، وإمّا إلى القواعد الأصوليّة المتعلّقة به .
أسباب الخلاف الرّاجع إلى الدّليل :
18 - ممّا ذكره ابن السّيّد من ذلك :
1 - الإجمال في الألفاظ واحتمالها للتّأويلات .
2 - دوران الدّليل بين الاستقلال بالحكم وعدمه .
3 - دورانه بين العموم والخصوص ، نحو { لا إكراه في الدّين } اختلف فيه هل هو عامّ أو خاصّ بأهل الكتاب الّذين قبلوا الجزية .
4 - اختلاف القراءات بالنّسبة إلى القرآن العظيم ، واختلاف الرّواية بالنّسبة إلى الحديث النّبويّ .
5 - دعوى النّسخ وعدمه .
6 - عدم اطّلاع الفقيه على الحديث الوارد أو نسيانه له .
أسباب الخلاف الرّاجع إلى القواعد الأصوليّة :
19 - من العسر بمكان حصر الأسباب الّتي من هذا النّوع ، فكلّ قاعدة أصوليّة مختلف فيها ينشأ عنها اختلاف في الفروع المبنيّة عليها .
الإنكار والمراعاة في المسائل الخلافيّة :
أوّلاً : الإنكار في المسائل الخلافيّة :
20 - ذكر السّيوطيّ في الأشباه والنّظائر قاعدة : « لا ينكر المختلف فيه ولكن ينكر المجتمع عليه » . وقال إنّه يستثنى منها صور ينكر فيها المختلف فيه : إحداها : أن يكون ذلك المذهب بعيد المأخذ . ومن ثمّ وجب الحدّ على المرتهن بوطء الأمة المرهونة ولم ينظر للخلاف الشّاذّ في ذلك . الثّانية : أن يترافع فيه لحاكم ، فيحكم بعقيدته . إذ لا يجوز للحاكم أن يحكم بخلاف معتقده . الثّالثة : أن يكون للمنكر فيه حقّ ، كالزّوج المسلم يمنع زوجته الذّمّيّة من شرب الخمر بالرّغم من وجود خلاف في حقّه بمنعها وعدمه . وذكر ابن تيميّة أنّ للمجتهد أن يعتقد في الأمور المختلف فيها بين الحلّ والتّحريم أنّ مخالفه قد ارتكب ( الحرام ) في نحو ( لعن اللّه المحلّل والمحلّل له ) ولكن لا يلحقه الوعيد واللّعن إن كان قد اجتهد الاجتهاد المأذون فيه . بل هو معذور مثاب على اجتهاده . وكذلك من قلّده التّقليد السّائغ .
ثانياً : مراعاة الخلاف :
21 - يراد بمراعاة الخلاف أنّ من يعتقد جواز الشّيء يترك فعله إن كان غيره يعتقده حراماً . كذلك في جانب الوجوب يستحبّ لمن رأى إباحة الشّيء أن يفعله إن كان من الأئمّة من يرى وجوبه . كمن يعتقد عدم وجوب الوتر يستحبّ له المحافظة على عدم تركه ، خروجاً من خلاف من أوجبه . ولا يتأتّى ممّن اعتقد الوجوب مراعاة قول من يرى التّحريم ، ولا ممّن اعتقد التّحريم مراعاة قول من يرى الوجوب . حكم مراعاة الخلاف :
22 - ذكر السّيوطيّ من الشّافعيّة أنّ الخروج من الخلاف مستحبّ .
شروط الخروج من الخلاف :
23 - قال السّيوطيّ : لمراعاة الخلاف شروط : أحدها : أن لا توقع مراعاته في خلاف آخر . الثّاني : أن لا يخالف سنّةً ثابتةً ومن ثمّ سنّ رفع اليدين في الصّلاة . ولم يبال بقول من قال بإبطاله الصّلاة من الحنفيّة ؛ لأنّه ثابت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم من رواية خمسين صحابيّاً . الثّالث : أن يقوى مدركه - أي دليله - بحيث لا يعدّ هفوةً . ومن ثمّ كان الصّوم في السّفر أفضل لمن قوي عليه ، ولم يبال بقول داود : إنّه لا يصحّ . وقال ابن حجر في هذا الشّرط الثّالث : أن يقوى مدركه بأن يقف الذّهن عنده ، لا بأن تنهض حجّته .
أمثلة على الخروج من الخلاف :
24 - جمع السّيوطيّ لذلك أمثلةً من فقه الشّافعيّة منها :
1 - أمثلة على الخروج من خلاف من يقول بالوجوب : استحباب الدّلك في الطّهارة ، واستيعاب الرّأس بالمسح ، والتّرتيب في قضاء الفوائت ، وترك الأداء خلف من يصلّي القضاء ، وترك القصر فيما دون ثلاث مراحل ، وترك الجمع ، وقطع المتيمّم الصّلاة إذا رأى الماء .
2 - أمثلة على الخروج من خلاف من يقول بالتّحريم : كراهة الحيل في باب الرّبا ، وكراهة نكاح المحلّل ، وكراهة مفارقة الإمام بلا عذر ، وكراهة صلاة المنفرد خلف الصّفّ . وذكر ابن عابدين من الحنفيّة أمثلةً منها : ندب الوضوء للخروج من خلاف العلماء ، كما في مسّ الذّكر أو المرأة . وذكر صاحب المغني من الحنابلة : استحباب السّجود على الأنف خروجاً من خلاف من أوجبه . وذكر الشّيخ عليش من المالكيّة : أنّه لا تكره البسملة في الفرض إذا قصد بها الخروج من خلاف من أوجبها .
مراعاة الخلاف فيما بعد وقوع المختلف فيه :
25 - ذكر الشّاطبيّ نوعاً آخر من مراعاة الخلاف . وذلك فيما لو ارتكب المكلّف فعلاً مختلفاً في تحريمه وجوازه ، فقد ينظر المجتهد الّذي يرى تحريم هذا الفعل ، فيجيز ما وقع من الفساد " على وجه يليق بالعدل ، نظراً إلى أنّ ذلك الفعل وافق فيه المكلّف دليلاً على الجملة ، وإن كان مرجوحاً ، فهو راجح بالنّسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه ؛ لأنّ ذلك أولى من إزالتها ، مع دخول ضرر على الفاعل أشدّ من مقتضى النّهي » . وضرب مثلاً لذلك بالنّكاح بلا وليّ . ففي الحديث : « أيّما امرأة نكحت بغير إذن وليّها فنكاحها باطل باطل باطل » . فلو تزوّج رجل امرأةً بلا وليّ ، فإنّ هذا النّكاح يثبت به الميراث ، ويثبت به نسب الأولاد ، ولا يعامل معاملة الزّنا لثبوت الخلاف فيه ، وثبوت الميراث والنّسب تصحيح للمنهيّ عنه من وجه ، " وإجراؤهم النّكاح الفاسد مجرى الصّحيح في هذه الأحكام ، وفي حرمة المصاهرة ، وغير ذلك دليل على الحكم بصحّته على الجملة ، وإلاّ لكان في حكم الزّنا . وليس في حكمه بالاتّفاق » . وقد وجّهه بأنّ " العامل بالجهل مخطئاً له نظران : نظر من جهة مخالفته للأمر والنّهي . وهذا يقتضي الإبطال ، ونظر من جهة قصده الموافقة في الجملة ؛ لأنّه داخل مداخل أهل الإسلام ، ومحكوم له بأحكامهم ، وخطؤه أو جهله لا يجني عليه أن يخرج به عن حكم أهل الإسلام ، بل يتلافى له حكم يصحّح ما أفسده بجهله أو خطئه . . . إلاّ أن يترجّح جانب الإبطال بالأمر الواضح » .
العمل في المسائل الخلافيّة المقلّد بين التّخيّر والتّحرّي :
26 - ذهب بعض الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ العامّيّ إذا اختلف عليه فتوى علماء عصره فهو مخيّر يأخذ بأيّها شاء قال الشّوكانيّ : واستدلّوا بإجماع الصّحابة على عدم إنكار العمل بقول المفضول مع وجود الأفضل . وقيل : ليس هو على التّخيير ، بل لا بدّ من مرجّح . وبه قال الحنفيّة والمالكيّة وأكثر الشّافعيّة وأحمد في رواية وكثير من الفقهاء . ثمّ قد قيل : يأخذ بالأغلظ ، وقيل : بالأخفّ ، وقيل : بقول الأعلم . وقال الغزاليّ : يأخذ بقول أفضلهم عنده وأغلبهم صواباً في قلبه . وقد أيّد الشّاطبيّ القول الثّاني من أنّ المقلّد ليس على التّخيير . قال : ليس للمقلّد أن يتخيّر في الخلاف ؛ لأنّ كلّ واحد من المفتين متّبع لدليل عنده يقتضي ضدّ ما يقتضيه دليل صاحبه . فهما صاحبا دليلين متضادّين . فاتّباع أحدهما بالهوى اتّباع للهوى . فليس إلاّ التّرجيح بالأعلميّة ونحوها . فكما يجب على المجتهد التّرجيح ، أو التّوقّف ، فكذلك المقلّد . وأيضاً فإنّ ذلك يؤدّي إلى تتبّع رخص المذاهب من غير استناد إلى دليل شرعيّ .
ما يصنع القاضي والمفتي في المسائل الخلافيّة :
27 - يجب عند الشّافعيّة والحنابلة وهو قول للمالكيّة أن يكون القاضي مجتهداً . وقد صرّح صاحب المغني من الحنابلة أنّ القاضي لا يحكم بتقليد غيره مطلقاً سواء أظهر له الحقّ فخالفه فيه غيره ، أم لم يظهر له شيء ، وسواء أضاق الوقت أم لم يضق . وكذلك ليس للمفتي الفتيا بالتّقليد . وعند الشّافعيّة إن تعذّر هذا الشّرط فولّى سلطان أو من له شوكة مقلّداً نفذ قضاؤه للضّرورة . والمعتمد عند المالكيّة جواز كون القاضي مقلّداً . والاجتهاد عند الحنفيّة شرط أولويّة فقط . فعلى قول من اشترط الاجتهاد ، فإنّ القاضي في المسائل المختلف فيها ممّا ليس فيه نصّ ولا إجماع لا يحكم إلاّ بما ترجّح عنده حسب أصول الاجتهاد . وعلى قول من يجيز كون القاضي مقلّداً ، ذهب المالكيّة إلى أنّه يحكم المقلّد بقول مقلّده أي بالرّاجح من مذهبه سواء أكان قوله - يعني إمام المذهب - أم قول أصحابه ، لا بالضّعيف ، ولا بقول غيره من المذاهب ، وإلاّ نقض حكمه ، إلاّ أن يكون للضّعيف مدرك ترجّح عنده وكان من أهل التّرجيح ، وكذلك المفتي . ويجوز للإنسان أن يعمل بالضّعيف لأمر اقتضى ذلك عنده . وقيل : بل يقلّد قول الغير إذا كان راجحاً في مذهب ذلك الغير ، قال الصّاويّ : وهو المعتمد لجواز التّقليد ولو لم تكن ضرورة . أمّا الحنفيّة فلهم في المسائل الخلافيّة تفصيل : ففي الفتاوى الهنديّة : يحكم القاضي بما في كتاب اللّه ، فإن لم يجد فبسنّة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فإن لم يجد فبما ورد عن الصّحابة ، فإن اختلفت أقوالهم يجتهد في ذلك . فيرجّح قول بعضهم على بعض باجتهاده إن كان من أهل الاجتهاد ، وليس له أن يخالفهم جميعاً . وإن اجتمعوا على قول واحد ، وخالفهم واحد من التّابعين لا يعتبر خلافه إلاّ إن كان ممّن أدرك عهدهم وزاحمهم في الفتيا كشريح والشّعبيّ . فإن لم يأت عن الصّحابة شيء فبإجماع التّابعين . فإن كان بينهم خلاف رجح قول بعضهم على بعض فقضى به . فإن لم يجئ عنهم شيء اجتهد إن كان من أهل الاجتهاد . وإذا اختلف أبو حنيفة وأصحابه ، قال ابن المبارك : يأخذ بقول أبي حنيفة لأنّه كان من التّابعين . ولو اختلف المتأخّرون فيه يختار واحداً من ذلك . ولو أنّ قاضياً استفتي في حادثة وأفتى ، ورأيه بخلاف رأي المفتي ، فإنّه يعمل برأي نفسه إن كان من أهل الرّأي . فإن ترك رأيه وقضى برأي المفتي لم يجز عند أبي يوسف ومحمّد . أمّا عند أبي حنيفة فإنّه ينفذ لمصادفته فصلاً مجتهداً فيه . أمّا إن لم يكن القاضي من أهل الاجتهاد فإن عرف أقاويل الأصحاب ، وحفظها على الإحكام والإتقان ، عمل بقول من يعتقد قوله حقّاً على التّقليد .
ارتفاع الخلاف بحكم الحاكم :
28 - إذا حكم القاضي في واقعة من الوقائع بحكم مختلف فيه ممّا يسوغ فيه الخلاف لعدم مخالفته لنصّ أو إجماع ، فإنّ النّزاع يرتفع بالحكم فيما يختصّ بتلك الواقعة ، ويعود الحكم في تلك الواقعة كالمجمع عليه ، فليس لأحد نقضه حتّى ولا القاضي الّذي قضى به نفسه . كما لو حكم بلزوم الوقف . أمّا في غير تلك الواقعة فإنّ الخلاف لا يرتفع بالقضاء ، وهذه إحدى القواعد الفقهيّة المشهورة ، وتعنون عادةً بعنوان ( الاجتهاد لا ينقض بمثله ) وعلّتها أنّه يؤدّي إلى أن لا يستقرّ حكم ، وفيه مشقّة شديدة ، فلو نقض لنقض النّقض أيضاً . ولأنّه ليس الثّاني بأقوى من الأوّل . وقد ترجّح الأوّل باتّصال القضاء به ، فلا ينقض بما هو دونه . وهذه المسألة إجماعيّة . وقد حكم أبو بكر رضي الله عنه في مسائل ، وخالفه فيها بعده عمر رضي الله عنه ولم ينقض حكمه ، وحكم عمر في المشركة بعدم المشاركة ، ثمّ حكم في واقعة أخرى بالمشاركة ، وقال : تلك على ما قضينا ، وهذه على ما نقضي . ومن هذه القضيّة يتبيّن أنّ القاضي لا ينقض الماضي ، وأمّا في المستقبل فيجوز أن يحكم فيه بما يخالف ما مضى . ومن شرط نفاذ الحكم في المسائل الخلافيّة أن يكون في حادثة ودعوى صحيحة وإلاّ كان فتوى لا حكماً .
ارتفاع الخلاف بتصرّف الإمام أو نائبه :
29 - إذا تصرّف الإمام أو نائبه بما تختلف فيه الاجتهادات طبقاً لأحد الأقوال المعتبرة ، فلا ينقض ما فعله كذلك ، ويصير كالمتّفق عليه ( أي بالنّسبة لما مضى . وأمّا في المستقبل فله أن يتصرّف تصرّفاً مغايراً إذا تغيّر وجه المصلحة في رأيه ) . وقد قرّر أبو بكر رضي الله عنه العطاء بالسّويّة ، ولمّا جاء عمر رضي الله عنه فاضل بين النّاس بحسب سابقتهم وقربهم من النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وذكر الفقهاء أنّ للإمام أن ينقض حمى من قبله من الأئمّة ؛ لأنّه يتبع المصلحة ، والمصلحة قد تتغيّر . قال ابن نجيم : « إذا رأى الإمام شيئاً ثمّ مات أو عزل فللثّاني تغييره حيث كان من الأمور العامّة . ويستثنى هذا من قاعدة عدم نقض الاجتهاد بالاجتهاد ، لأنّ هذا حكم يدور مع المصلحة ، فإذا رآها الثّاني وجب اتّباعها » . وقال ابن تيميّة : إذا كانت المسألة من مسائل الاجتهاد الّتي شاع فيها النّزاع لم يكن لأحد أن ينكر على الإمام ولا على نائبه من حاكم أو غيره ، ولا ينقض ما فعله الإمام ونوّابه من ذلك . ومع هذا يذكر ابن تيميّة أنّ الواحد من العلماء والأمراء ليس معصوماً ، ولهذا يسوغ لنا أن نبيّن الحقّ الّذي يجب اتّباعه ، وإن كان فيه بيان خطأ من أخطأ من العلماء والأمراء .
الصّلاة خلف المخالف في أحكامها :
30 - ورد عن الأئمّة ما يدلّ على أنّ المصلّي يأتمّ بمن يخالف اجتهاده في أحكام الصّلاة ، ولو كان يرى أنّ مثل ذلك مفسد للصّلاة ، أو غيره أولى منه . لأنّه لمّا كان الإمام مجتهداً اجتهاداً سائغاً ، أو مقلّداً تقليداً سائغاً ، فإنّ الانفراد عنه نوع من الفرقة ، واختلاف الظّواهر تؤدّي إلى اختلاف البواطن . وممّا ورد من ذلك : أ - كان أبو حنيفة وأصحابه يرون الوضوء من خروج الدّم . ورأى أبو يوسف هارون الرّشيد احتجم ولم يتوضّأ - أفتاه مالك بذلك - فصلّى أبو يوسف خلفه ولم يعد الصّلاة .
ب - الشّافعيّ رضي الله عنه ترك القنوت في الصّبح لمّا صلّى مع جماعة من الحنفيّة في مسجدهم بضواحي بغداد . فقال الحنفيّة : فعل ذلك أدباً مع الإمام ، وقال الشّافعيّة بل تغيّر اجتهاده في ذلك الوقت .
ج - كان الإمام أحمد يرى الوضوء من الحجامة والفصد . فسئل عمّن رأى الإمام قد احتجم ثمّ قام إلى الصّلاة ولم يتوضّأ أيصلّي خلفه ؟ فقال : كيف لا أصلّي خلف مالك وسعيد بن المسيّب ؟ إلاّ أنّ بعض المتأخّرين الفقهاء مالوا إلى التّشدّد في ذلك .
مراعاة الإمام للمصلّين خلفه إن كانوا يخالفونه في أحكام الصّلاة :
31 - تقدّم ذكر مراعاة الخلاف وشروطها ، وأنّها مستحبّة . ومراعاة إمام الصّلاة أن يأتي بما يعتقده المأموم شرطاً أو ركناً أو واجباً ، ولو لم يعتقده الإمام كذلك . وكذلك فيما يعتقده المأموم من سنّة الصّلاة . ولا تتأتّى المراعاة ، على ما صرّح به بعض الحنفيّة ، فيما هو سنّة عند المأموم ومكروه عند الإمام ، كرفع اليدين في الانتقالات ، وجهر البسملة . فهذا وأمثاله لا يمكن الخروج فيه من عهدة الخلاف " فكلّهم يتبع مذهبه " ولكن قال ابن تيميّة : « إن كان الخلاف في الأفضل فقد استحبّ الأئمّة أحمد وغيره أن يدع الإمام ما هو عنده أفضل إذا كان فيه تأليف للمأمومين . فإذا لم يمكنه نقلهم إلى الأفضل كانت المصلحة الحاصلة بموافقتهم أرجح » .
الاختلاف بين المتعاقدين :
32 - قد يتنازع شخصان في إثبات حقّ من الحقوق للّه تعالى ، أو لأحدهما قبل الآخر ، ناشئ عن عقد من العقود ، كالبيع أو الإجارة أو النّكاح ، أو في فسخ من الفسوخ ، كالإقالة والطّلاق ، أو غير ذلك من التّصرّفات . والطّريق إلى رفع ذلك الاختلاف الادّعاء به لدى القضاء ليفصل في شأنه ، ويحكم بأداء الحقّ لصاحبه ، بالطّريقة الصّحيحة شرعاً . وكلّ نوع من أنواع التّصرّفات تقع فيه اختلافات تخصّه . ويذكر الفقهاء هذه الاختلافات ، وطريق الحكم في كلّ منها ، في أثناء عرضهم للعقد أو الفسخ . وتذكر القاعدة العامّة لذلك في باب ( الدّعوى ) .
اختلاف الشّهود :
33 - إذا اختلف شاهدا البيع أو شهود الزّنا أو نحو ذلك فإنّ اختلافهم يمنع من كمال الشّهادة ، والحكم بموجبها ، في بعض الأحوال . وفي ذلك اختلاف وتفصيل يرجع إليه تحت عنوان ( شهادة ) .
اختلاف الحديث وسائر الأدلّة :
34 - إذا اختلفت الأدلّة وجب الجمع بينها إن أمكن ، وإلاّ يرجّح بينها ، فإن لم يمكن التّرجيح يعتبر المتأخّر منهما ناسخاً للمتقدّم ، وينظر ذلك في باب التّرجيح بين الأدلّة من الملحق الأصوليّ .
اختلاف الدّار
التّعريف
1 - الدّار لغةً : المحلّ . وتجمع العرصة والبناء ، وتطلق أيضاً على البلدة . واختلاف الدّارين عند الفقهاء بمعنى اختلاف الدّولتين اللّتين ينتسب إليهما الشّخصان . فإن كان اختلاف الدّارين بين مسلمين لم يؤثّر ذلك شيئاً ؛ لأنّ ديار الإسلام كلّها دار واحدة . قال السّرخسيّ : « أهل العدل مع أهل العدل يتوارثون فيما بينهم ؛ لأنّ دار الإسلام دار أحكام ، فباختلاف المنعة والملك لا تتباين الدّار فيما بين المسلمين ؛ لأنّ حكم الإسلام يجمعهم » . وهذا الّذي قاله السّرخسيّ في حقّ المسلمين لم ينقل فيه خلاف ، إلاّ ما قال العتّابيّ : إنّ من أسلم ولم يهاجر إلينا لا يرث من المسلم الأصليّ سواء كان في دارنا ، أو كان مستأمناً بدار الحرب . قال ابن عابدين : وقول العتّابيّ مدفوع بأنّ هذا كان في ابتداء الإسلام حين كانت الهجرة فريضةً . فقد نفى اللّه تعالى الولاية بين من هاجر ومن لم يهاجر فقال : { والّذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولايتهم من شيء حتّى يهاجروا } ، فلمّا كانت الولاية بينهما منتفيةً كان الميراث منتفياً ؛ لأنّ الميراث على الولاية . فأمّا اليوم فإنّ حكم الهجرة قد نسخ . قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا هجرة بعد الفتح » . قال السّرخسيّ : « فأمّا دار الحرب فليست بدار أحكام ، ولكن دار قهر . فباختلاف المنعة والملك تختلف الدّار فيما بينهم ، وبتباين الدّار ينقطع التّوارث . وكذلك إذا خرجوا إلينا بأمان ، لأنّهم من دار الحرب وإن كانوا مستأمنين فينا ، فيجعل كلّ واحد في الحكم كأنّه في منعة ملكه الّذي خرج منه بأمان » . أمّا أهل الذّمّة فإنّهم من أهل دار الإسلام ، ولذا فهم مخالفون في الدّار لأهل الحرب . أمّا الحربيّون فيما بينهم فإنّ دورهم قد تتّفق وقد تختلف . قال ابن عابدين شارحاً معنى اختلاف الدّارين : « اختلافهما باختلاف المنعة أي العسكر ، واختلاف الملك ، كأن يكون أحد الملكين في الهند ، وله دار ومنعة ، والآخر في التّرك ، وله دار ومنعة أخرى ، وانقطعت العصمة بينهم حتّى يستحلّ كلّ منهم قتال الآخر . فهاتان الدّاران مختلفتان ، فتنقطع باختلافهما الوراثة ؛ لأنّها تنبني على العصمة والولاية . أمّا إن كان بينهما تناصر وتعاون على أعدائهما كانت الدّار والوراثة ثابتةً » : ( وانظر : دار الإسلام ودار الكفر ) . ودار الإسلام مخالف لدار الحرب ولو كان بينهما تناصر وتعاون .
أنواع اختلاف الدّارين :
2 - عند الحنفيّة : قد تختلف الدّاران حقيقةً فقط ، أو حكماً فقط ، أو حقيقةً وحكماً : فاختلافهما حقيقةً فقط ، كمستأمن في دارنا وحربيّ في دارهم ، فإنّ الدّار وإن اختلفت حقيقةً لكن المستأمن من أهل الحرب حكماً . فهما متّحدان حكماً . وأمّا اختلافهما حكماً فكمستأمن وذمّيّ في دارنا ، فإنّهما وإن كانا في دار واحدة حقيقةً إلاّ أنّهما في دارين حكماً ؛ لأنّ المستأمن من أهل الحرب حكماً ، لتمكّنه من الرّجوع إلى دار الحرب . وأمّا اختلافهما حقيقةً وحكماً فكالحربيّ في دارهم والذّمّيّ في دارنا . وكالحربيّين في دارين مختلفتين . هذا وإنّ اختلاف الدّارين بين كافر وكافر يستتبع في الفقه الإسلاميّ أحكاماً مختلفةً نعرض جملةً منها فيما يلي : التّوارث :
3 - اختلاف الدّارين حكماً فقط ، أو حكماً وحقيقةً ، أحد موانع التّوارث عند الحنفيّة ، فلا يرث الذّمّيّ حربيّاً ولا مستأمناً ، ولا الحربيّ والمستأمن ذمّيّاً ولو اتّفق دينهما ، ولا يرث الحربيّ حربيّاً إن اختلفت داراهما . ويثبت التّوارث بين مستأمنين في دارنا إن كانا من دار واحدة ، كما يثبت بين مستأمن في دارنا وحربيّ في دارهم لاتّحاد الدّار بينهما حكماً . ومذهب الشّافعيّة قريب من مذهب الحنفيّة ، فلا توارث عندهم بين ذمّيّ وحربيّ ، أمّا المستأمن والمعاهد فهما على الأصحّ عند الشّافعيّ في حكم أهل الذّمّة ، للقرب بينهم ولعصمتهم بالعهد والأمان ، كالذّمّيّ ، فيرثان الذّمّيّ ويرثهما ، ولا توارث بين أحدهما وبين الحربيّين . وفي قول آخر : المستأمن والمعاهد كالحربيّ . أمّا مذهب الحنابلة ، ومثله مذهب المالكيّة - فيما نقله صاحب العذب الفائض ولم نجدهم صرّحوا به فيما اطّلعت عليه من كلامهم - فلا يمنع اختلاف الدّارين التّوارث ما دامت الملل متّفقةً . وعند الحنابلة قول آخر هو للقاضي أبي يعلى : إنّ الحربيّ لا يرث ذمّيّاً ، ولا الذّمّيّ حربيّاً ، فأمّا المستأمن فيرثه أهل دار الحرب وأهل دار الإسلام ، ويرث أهل الحرب بعضهم بعضاً سواء اتّفقت ديارهم أو اختلفت .
دين الولد :
4 - بيان من يتبعه الولد في دينه يذكر في موضع آخر ( ر : اختلاف الدّين ) ، وقد اشترط الحنفيّة في تبعيّة الولد لخير والديه في الدّين أن تتّحد الدّار بين التّابع والمتبوع ، وإلاّ فلا تبعيّة . فلو كان الولد في دار الحرب ، ووالده في دار الإسلام ، فأسلم الوالد ، لا يتبعه الولد ، ولا يكون مسلماً ؛ لأنّه لا يمكن جعل الوالد من أهل دار الحرب ، بخلاف ما إذا كان الوالد في دار الحرب فأسلم ، وولده في دار الإسلام ، فإنّه يتبعه ؛ لأنّ الوالد المسلم من أهل دار الإسلام حكماً .
الفرقة بين الزّوجين :
5 - يرى المالكيّة والشّافعيّ والحنابلة أنّ الفرقة لا تقع بين الزّوجين لمجرّد اختلافهما داراً . ويرى الحنفيّة أنّ اختلاف داري الزّوجين حقيقةً وحكماً موجب للفرقة بينهما . فلو تزوّج حربيّ حربيّةً ثمّ دخل أحدهما دار الإسلام فأسلم أو عقد الذّمّة ، وترك زوجه الآخر في دار الحرب ، انفسخ نكاحه لاختلاف الدّارين حقيقةً وحكماً . بخلاف ما لو دخل أحدهما مستأمناً فإنّ نكاحه لا ينفسخ . ولو تزوّج مسلم حربيّةً في دار الحرب ثمّ خرج عنها وحده بانت . ويقتضي مذهب أبي حنيفة - كما قال ابن قدامة - أنّ أحد الزّوجين الذّمّيّين إذا دخل دار الحرب ناقضاً للعهد ، وترك زوجه الآخر في دار الإسلام ، ينفسخ نكاحهما ؛ لأنّ الدّارين اختلفتا بهما فعلاً وحكماً ، فوجب أن تقع الفرقة بينهما ، كما لو أسلمت في دار الإسلام قبل الدّخول . واحتجّ الحنفيّة بأنّه مع تباين الدّارين حقيقةً وحكماً لا تنتظم المصالح ، والنّكاح شرع لمصالحه لا لعينه ، فلا يبقى عند عدمها ، كالمحرميّة إذا اعترضت عليه . وهذا لأنّ أهل الحرب كالموتى - أي بالنّسبة إلى أهل دار الإسلام - فلا يشرع النّكاح بين الحيّ والميّت . واحتجّ الجمهور بأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ردّ ابنته زينب على زوجها بالنّكاح الأوّل ، وكانت قد أسلمت قبله بسنتين ، وقيل بستّ سنين ، وهاجرت وبقي هو بمكّة . وأسلمت امرأة صفوان وامرأة عكرمة عام الفتح ، وفرّا هما وغيرهما دون أن يسلموا ، ثمّ أسلموا فأقرّوا على أنكحتهم .
النّفقة :
6 - لا يمنع اختلاف الدّار وجوب نفقة الزّوجة عند أحد ممّن أثبت النّكاح مع اختلاف الدّارين . أمّا نفقة الأقارب فعند الحنفيّة يمنع اختلاف الدّارين وجوب نفقة القرابة على الأصول والفروع والحواشي . قال الزّيلعيّ : لا يجب على المسلم نفقة أبويه الحربيّين ، ولا يجبر الحربيّ على نفقة أبيه المسلم أو الذّمّيّ ؛ لأنّ الاستحقاق بطريق الصّلة ، ولا تستحقّ الصّلة للحربيّ أو الذّمّيّ للنّهي عن برّهم . وفي الفتاوى الهنديّة : لا يجبر أحدهما على النّفقة ولو كان الحربيّ مستأمناً بدار الإسلام . وصرّح بعضهم بأن لا نفقة بين الحربيّ الّذي أسلم بدار الحرب ولم يهاجر ، وبين قريبه المسلم بدار الإسلام ؛ لاختلاف الدّارين . وهذا الّذي نقلناه من مذهب الحنفيّة خالف في بعضه صاحب البدائع ، فرأى أنّ نفقة الأصول والفروع خاصّةً لا يمنع وجوبها اختلاف الدّارين . قال : لأنّ وجوب نفقة غير الأصول والفروع بطريق الصّلة ، ولا تجب الصّلة مع اختلاف الدّارين ، وتجب في قرابة الولادة ؛ ولأنّ وجوب النّفقة هناك بحقّ الوراثة ، ولا وراثة - أي عندهم - مع اختلاف الدّارين ، والوجوب في قرابة الولادة بحقّ الولادة ، وهو لا يختلف . والظّاهر أنّ مذهب الشّافعيّة وجوب النّفقة بين الذّمّيّ والمستأمن في قرابة الأصول والفروع ، وكذا بين المسلم والمستأمن . أمّا الحربيّ غير المستأمن فلا تجب النّفقة بينه وبين قريبه المسلم أو الذّمّيّ لعدم عصمته . وأمّا قرابة ما عدا الأصول والفروع فلا يجب بها نفقة عند الشّافعيّة أصلاً . وظاهر مذهب الحنابلة أنّ اختلاف الدّار لا يمنع وجوب نفقة الأقارب إذا تحقّقت شروطها . ولم يتّضح لنا قول المالكيّة في هذه المسألة .
الوصيّة :
7 - اختلف الفقهاء في وصيّة المسلم أو الذّمّيّ للحربيّ ، فرأى الحنابلة جوازها مطلقاً . وللشّافعيّة قولان أصحّهما الصّحّة . وهي المذهب . وللمالكيّة قولان ، وعدم الصّحّة هو المعتمد . ومنعها الحنفيّة إذا كان الموصي في دار الإسلام والموصى له حربيّ في دار الحرب . فإن كان الموصي والموصى له في دار الحرب فقد اختلف قول الحنفيّة في ذلك . ووجهة من منع الوصيّة لهم أنّ التّبرّع لهم بتمليكهم المال إعانة لهم على حرب المسلمين . وأيضاً نحن قد أمرنا بقتل الحربيّ وأخذ ماله ، فلا معنى للوصيّة له . ومن أجل هذا صرّح الحنفيّة بعدم جواز هذه الوصيّة ولو أجازها الورثة ، ولو جاء الحربيّ لدار الإسلام لأخذ وصيّته لم يكن له ذلك . والّذين أجازوها نظروا إلى أنّ الوصيّة تمليك ، ولا يمتنع التّمليك للحربيّ ، قياساً له على البيع . أمّا الحربيّ المستأمن في دار الإسلام ، لو أوصى له مسلم أو ذمّيّ صحّت الوصيّة له على ظاهر الرّواية عند الحنفيّة . وروي أنّها لا تجوز ؛ لأنّ المستأمن على قصد الرّجوع ، ويمكّن منه ، ولا يمكّن من زيادة المقام على السّنة إلاّ بجزية . ولو أوصى المستأمن لمسلم أو ذمّيّ فقد صرّح الحنفيّة بجوازه - وهو ما يقتضيه كلام غيرهم - لأنّ المستأمن ملتزم لأحكام الإسلام . ويقول الحنفيّة : إنّ المستأمن لو أوصى لمسلم أو ذمّيّ بكلّ ماله ، ولم يكن معه من ورثته بدار الإسلام أحد جاز ، ولا عبرة بورثته الّذين في دار الحرب ؛ لأنّهم أموات في حقّنا ؛ ولأنّه لا عصمة لأنفسهم ولا لأموالهم ، فلأن لا يكون لحقّهم الّذي في مال مورّثهم عصمة أولى . فإن كان أحد من ورثته معه وقف الجواز على إجازتهم .
القصاص :
8 - إذا قتل الذّمّيّ مستأمناً وجب عليه القصاص وكذلك إذا قتل المستأمن ذمّيّاً . وهذا باتّفاق المذاهب الأربعة ، إلاّ أنّ الحنفيّة استثنوا حالة كون القاتل ذمّيّاً والمقتول مستأمناً ، فلا قصاص عندهم ، قال صاحب البدائع : لأنّ عصمة المستأمن لم تثبت مطلقاً ، بل موقوتة إلى غاية مقامه بدار الإسلام ؛ لأنّ المستأمن من أهل دار الحرب وإنّما دخل دار الإسلام لا بقصد الإقامة بل لحاجة يقضيها ثمّ يعود إلى وطنه . فكان في عصمته شبهة الإباحة . وروي عن أبي يوسف أنّه قال : يقتل به قصاصاً لقيام العصمة وقت القتل . ولا يقتل الذّمّيّ بالحربيّ اتّفاقاً ؛ لأنّه لا عصمة له أصلاً ، ولا خلاف في ذلك ، كما في المغني . ولم يصرّحوا بحكم المستأمن إذا قتل حربيّاً ، والظّاهر أنّه لا يقتل به ؛ لأنّ الحربيّ لا عصمة له أصلاً .
العقل ( حمل الدّية ) :
9 - عند الشّافعيّة : يعقل الذّمّيّ اليهوديّ أو المعاهد أو المستأمن عن النّصرانيّ المعاهد أو المستأمن ، وبالعكس ، في الأظهر عندهم . أمّا الحربيّ فلا يعقل عن نحو ذمّيّ ، وعكسه ؛ لانقطاع النّصرة بينهما ؛ لاختلاف الدّار . والمقدّم عند الحنابلة أنّ الذّمّيّ لا يعقل عن الحربيّ ، كما لا يعقل الحربيّ عن الذّمّيّ . والقول الآخر : إن توارثا تعاقلا وإلاّ فلا . والظّاهر أنّ الحربيّ في كلامهم هذا شامل للمستأمن . ولم نجد في كلام كلّ من الحنفيّة والمالكيّة تعرّضاً لهذه المسألة .
حدّ القذف :
10 - لا حدّ على المسلم أو الذّمّيّ إذا قذف حربيّاً ولو مستأمناً ، باتّفاق المذاهب الأربعة ؛ لعدم إحصان المقذوف ، بسبب كفره . أمّا لو قذف المستأمن مسلماً فعليه الحدّ ؛ لأنّه بدخوله دار الإسلام بالأمان التزم إيفاء حقوق العباد ، وحدّ القذف حقّ للعبد ، وهذا ما اتّفق عليه الفقهاء عند الحنفيّة والمالكيّة - ما عدا أشهب - وعند الشّافعيّة والحنابلة . وفي المدوّنة : إذا قذف الحربيّ في دار الحرب مسلماً بالزّنا ثمّ أسلم ودخل دار الإسلام فإنّه لا حدّ عليه .
اختلاف الدّين
1 - اختلاف الدّين يستتبع أحكاماً شرعيّةً معيّنةً ، كامتناع التّوارث . واختلاف الدّين الّذي يستتبع تلك الأحكام إمّا أن يكون اختلافاً بالإسلام والكفر ، فهذا يستتبع أحكام اختلاف الدّين اتّفاقاً ، وإمّا أن يكون الشّخصان كافرين ، إلاّ أنّ كلّاً منهما يتبع غير ملّة صاحبه ، كأن يكون أحدهما يهوديّاً والآخر مجوسيّاً . وفي هذا النّوع اختلاف يتبيّن ممّا يلي :
ومن أهمّ الأحكام الّتي تبنى على اختلاف الدّين :
أ - التّوارث :
2 - اختلاف الدّين أحد موانع التّوارث ، لبناء التّوارث على النّصرة ، فلا يرث الكافر المسلم اتّفاقاً . إلاّ أنّ أحمد يرى توريث الكافر بالولاء من عتيقه المسلم . وروي مثله عن عليّ وعمر بن عبد العزيز . ولو أسلم الكافر قبل قسمة التّركة ورث عند أحمد ترغيباً له في الإسلام . وفي ميراث المسلم من المرتدّ خلاف . ولا يرث المسلم كافراً ، عند الجمهور ، وروي توريثه عن بعض الصّحابة ، لما في الحديث « الإسلام يعلو ولا يعلى » والحديث الآخر « الإسلام يزيد ولا ينقص » . وأمّا توارث أهل الكفر فيما بينهم ، فعند الإمامين أبي حنيفة والشّافعيّ وفي رواية عن أحمد : يثبت التّوارث بينهم وإن اختلفت مللهم ؛ لقول اللّه تعالى : { والّذين كفروا بعضهم أولياء بعض } ولأنّ الكفّار على اختلاف مللهم كالنّفس الواحدة في معاداة المسلمين . وعند مالك : هم ثلاث ملل : فاليهود ملّة ، والنّصارى ملّة ، ومن عداهم ملّة . وعند أحمد في رواية عنه : هم ملل شتّى ؛ لقول اللّه تعالى : { لكلّ جعلنا منكم شرعةً ومنهاجاً } ولحديث : « لا يتوارث أهل ملّتين شتّى » .
ب - النّكاح :
3 - لا يتزوّج كافر مسلمةً ، ولا يتزوّج مسلم كافرةً إلاّ أن تكون من أهل الكتاب . وإن أسلم أحد الزّوجين الكافرين فرّق بينهما إن كان لا يحلّ ابتداءً النّكاح بينهما . وتفصيل ذلك موطنه ( النّكاح ) .
ج - ولاية التّزويج .
4 - اختلاف الدّين بالإسلام والكفر أحد موانع ولاية التّزويج باتّفاق المذاهب الأربعة . فلا يلي كافر تزويج مسلمة ، ولا مسلم تزويج كافرة ، لقول اللّه تعالى : { والّذين كفروا بعضهم أولياء بعض } وقوله : { إنّما وليّكم اللّه ورسوله والّذين آمنوا } . واستثنوا جميعاً تزويج المسلم أمته الكافرة ؛ لأنّه إنّما يزوّجها بالملك لا بالولاية ، وتزويج السّلطان المسلم أو نائبه المرأة الكافرة إن تعذّر وليّها الخاصّ . وعند المالكيّة : إن زوّج المسلم ابنته الكافرة لكافر ، يترك فلا يتعرّض له ، وقد ظلم نفسه . أمّا إن اختلف الدّين بغير الإسلام والكفر ، كتزويج اليهوديّ مولّيته النّصرانيّة ، وعكسه ، فقد صرّح الشّافعيّة بجواز ذلك . ولم يصرّح به غيرهم ، وعند الحنابلة يتخرّج على الرّوايتين في التّوريث ، والمقدّم منعه .
د - الولاية على المال :
5 - لا تثبت هذه الولاية لغير المسلم على المسلم ، لقول اللّه تعالى . { ولن يجعل اللّه للكافرين على المؤمنين سبيلاً } صرّح بذلك الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . ولم يصرّحوا بمنع ولاية المسلم على الكافر ، إلاّ أنّهم صرّحوا بولاية القاضي المسلم على المحجور عليه الذّمّيّ . ولم يتعرّض المالكيّة لهذه المسألة وإن صرّحوا في الوصيّ خاصّةً أنّ من شرطه الإسلام .
هـ - الحضانة :
6 - للفقهاء في أثر اختلاف الدّين في إسقاط حقّ الحضانة ثلاث اتّجاهات : فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّ الحضانة لا تثبت للكافر على المسلم ولو كان الكافر أمّاً ، وتثبت للمسلم على الكافر . وذهب المالكيّة إلى أنّه لا أثر لاختلاف الدّين في إسقاط حقّ الحضانة حتّى ولو كان الحاضن كافراً مجوسيّاً أو غيره ، وكان المحضون مسلماً . وسواء أكان الحاضن ، ذكراً أو أنثى . فإن خيف على المحضون من الحاضن فساد ، كأن يغذّيه بلحم خنزير أو خمر ، ضمّ إلى مسلم ليكون رقيباً عليه ، ولا ينزع منه . وذهب الحنفيّة إلى التّفريق بين حضانة النّساء وحضانة الرّجال ، فلا يشترط عندهم اتّحاد الدّين بين المرأة الحاضنة وبين المحضون . كذا في بدائع الصّنائع نقلاً عن الأصل . وعلّله بأنّ الشّفقة على المحضون المطلوبة لا تختلف في الحاضنة باختلاف الدّين . قال : وكان الرّازيّ من الحنفيّة يقول بالنّسبة لحضانة الأمّ إذا كانت كتابيّةً وولدها مسلم : إنّها أحقّ بالصّغير والصّغيرة حتّى يعقلا . فإذا عقلا سقط حقّها لأنّها تعوّدهما أخلاق الكفرة . وقيّده في النّهر بسبع سنين . وإن خيف منها أن يألف الكفر ينزع منها وإن لم يعقل . أمّا حضانة الرّجل فيمنع استحقاقها عند الحنفيّة اختلاف الدّين ، فلا حقّ للعصبة في حضانة الصّبيّ إلاّ أن يكون على دينه ، لأنّ هذا الحقّ لا يثبت إلاّ للعصبة ، واختلاف الدّين يمنع التّعصيب ، فلو كان للصّبيّ اليهوديّ أخوان أحدهما مسلم والآخر يهوديّ فحضانته لأخيه اليهوديّ لأنّه عصبته .
و - تبعيّة الولد في الدّين :
7 - أوّلاً : إذا اختلف دين الوالدين بأن كان أحدهما مسلماً والآخر كافراً فإنّ ولدهما الصّغير ، أو الكبير الّذي بلغ مجنوناً ، يكون مسلماً تبعاً لخيرهما ديناً . هذا مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة . واشترط الحنفيّة أن يكون الولد وخير أبويه متحدّي الدّار حقيقةً وحكماً كأن يكون خير الأبوين مع الولد في دار الإسلام أو دار الحرب ، أو حكماً فقط بأن كان الصّغير في دارنا والأب في دار الحرب . فإن اختلفت الدّار حقيقةً وحكماً بأن كان الأب في دارنا والولد في دار الحرب لم يتبعه . أمّا عند المالكيّة فإنّ الولد غير المميّز يتبع في الإسلام أباه فقط لا أمّه ولا جدّه .
8 - ثانياً : إذا اختلف دين الوالدين ولم يكن أحدهما مسلماً ، فإنّ الولد غير المميّز يتبع خيرهما ديناً عند الحنفيّة . ومقتضى قول المالكيّة أنّ الولد تبع لأبيه في الدّين دون أمّه ، واضح . وعند الشّافعيّة إذا لم يكن أحدهما مسلماً واختلفت ملّتهما فإنّ الولد يتخيّر بعد بلوغه حتّى لو كان أحد الأبوين نصرانيّاً والآخر يهوديّاً وكان لهما ولدان فاختار أحدهما اليهوديّة والآخر النّصرانيّة حصل التّوارث بينهم . ولم يعثر للحنابلة على نصّ في هذه المسألة .
ز - النّفقة :
9 - لا يمنع اختلاف الدّين وجوب نفقة الزّوجيّة اتّفاقاً ، وكذلك نفقة المماليك . أمّا النّفقة على الأقارب فيمنعها اختلاف الدّين . فلا يجب على الشّخص نفقة قريبه إن لم يكن دينهما واحداً . ولم يختلف في هذا في غير عمودي النّسب .
10 - أمّا عمودا النّسب ، وهما الأصول والفروع ففيهما اتّجاهان : الأوّل : تجب النّفقة لهم سواء اتّفق الدّين أم اختلف وهذا مذهب جمهور العلماء : الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة ، وهو رواية مرجوحة عند الحنابلة ، إلاّ أنّ المالكيّة يقصرون نفقة الأصول والفروع على الوالدين والولد ، ولا يوجبونها للأجداد والجدّات وولد البنين . واستثنى ابن الهمام الحربيّين منهم فلا تجب نفقتهم على المسلم وإن كانوا مستأمنين ؛ لأنّا نهينا عن البرّ في حقّ من يقاتلنا في الدّين . ودليل هذا الاتّجاه أنّ هذا القريب يعتق على قريبه فيجب عليه نفقته ، وأنّ وجوب النّفقة هنا بحقّ الجزئيّة والبعضيّة بين الوالد والولد ، ولا يختلف ذلك باختلاف الدّين ، وجزء المرء في معنى نفسه . والاتّجاه الثّاني : لا تجب نفقتهم مع اختلاف الدّين . وهو مذهب الحنابلة . ودليله أنّها مواساة تجب على سبيل البرّ والصّلة ، فلم تجب مع اختلاف الدّين كنفقة غير عمودي النّسب ؛ ولأنّهما غير متوارثين ، فلم يجب لأحدهما نفقة على الآخر .
ح - العقل ( حمل الدّية ) :
11 - اختلاف الدّين بالإسلام والكفر يمنع العقل ، فلا يعقل كافر عن مسلم ولا مسلم عن كافر ، باتّفاق المذاهب الأربعة ، حتّى لقد نصّ المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ بيت مال المسلمين يعقل عن المسلم إن عجزت عاقلته ، ولا يعقل عن كافر ذمّيّ أو معاهد ، أو مرتدّ ؛ لاختلاف الدّين . ثمّ قد صرّح المالكيّة والحنابلة أنّه لا يعقل يهوديّ عن نصرانيّ ، ولا نصرانيّ عن يهوديّ . وخالفهم الحنفيّة والشّافعيّة ، فالكفّار عندهم يتعاقلون وإن اختلفت مللهم . قال صاحب الدّرّ : لأنّ الكفر ملّة واحدة ، وفي نهاية المحتاج اشتراط اتّحاد الدّار .
ط - الوصيّة :
12 - يتّفق الحنفيّة والحنابلة وأكثر الشّافعيّة على صحّة الوصيّة إذا صدرت من مسلم لذمّيّ ، أو من ذمّيّ لمسلم ، واحتجّ لذلك بقول اللّه تعالى : { لا ينهاكم اللّه عن الّذين لم يقاتلوكم في الدّين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبرّوهم وتقسطوا إليهم إنّ اللّه يحبّ المقسطين } ، ولأنّ الكفر لا ينافي أهليّة التّملّك ، فكما يصحّ بيع الكافر وهبته فكذلك الوصيّة . ورأى بعض الشّافعيّة أنّها إنّما تصحّ للذّمّيّ إذا كان معيّناً ، كما لو قال : أوصيت لفلان . أمّا لو قال : أوصيت لليهود أو للنّصارى أو حتّى لو قال : أوصيت لفلان الكافر فلا تصحّ ؛ لأنّه جعل الكفر حاملاً على الوصيّة . أمّا المالكيّة فيوافقون من سواهم على صحّة وصيّة الذّمّيّ لمسلم . أمّا وصيّة المسلم لذمّيّ فيرى ابن القاسم وأشهب الجواز إذا كانت على وجه الصّلة ، بأن كانت لأجل قرابة ، وإلاّ كرهت . إذ لا يوصي للكافر ويدع المسلم إلاّ مسلم مريض الإيمان . وصرّح الحنفيّة كما في الطّحاويّ على الدّرّ ، وغيره ، بأنّ الكافر إذا أوصى لكافر من ملّة أخرى جاز ، اعتباراً للإرث ، إذ الكفر كلّه ملّة واحدة .
ي - الشّركة :
13 - لا يمنع اختلاف الدّين قيام الشّركة بين المسلم والكافر . واشترط المالكيّة والحنابلة ألاّ ينفرد الكافر بالتّصرّف لأنّه يعمل بالرّبا ولا يحترز ممّا يحترز منه المسلم . قال الحنابلة : وما يشتريه الكتابيّ أو يبيعه من الخمر بمال الشّركة أو المضاربة فإنّه يقع فاسداً وعليه ضمانه . وقال المالكيّة : شركة الذّمّيّ لمسلم صحيحة بقيد حضور المسلم لتصرّف الكافر . وأمّا عند غيبته عنه وقت البيع والشّراء فلا يجوز ، ويصحّ بعد الوقوع . وبعد ذلك إن حصل للمسلم شكّ في عمل الذّمّيّ بالرّبا استحبّ له التّصدّق بالرّبح فقط لقوله تعالى : { فلكم رءوس أموالكم } وإن شكّ في عمله بالخمر استحبّ له التّصدّق بالرّبح ورأس المال جميعاً لوجوب إراقة الخمر على المسلم . وإن تحقّق وجب التّصدّق . وذكر الحنابلة أنّ الذّمّيّ المجوسيّ تكره مشاركته أصلاً وتصحّ بالقيود السّابقة . والشّافعيّة يعمّمون الكراهة في مشاركة كلّ كافر . أمّا الحنفيّة فإنّهم اشترطوا في المفاوضة خاصّةً التّساوي في الدّين ، فتصحّ بين مسلمين ، وبين نصرانيّين ولا تصحّ بين مسلم ونصرانيّ ؛ لأنّ من شرطها التّساوي في التّصرّف " لأنّ الكافر إذا اشترى خمراً أو خنزيراً لا يقدر المسلم أن يبيعه وكالةً من جهته فيفوت شرط التّساوي في التّصرّف » . وأجازها أبو يوسف مع الكراهة ، وعلّل الكراهة بأنّ الكافر لا يهتدي إلى الجائز من العقود . وأمّا بين كافرين مختلفي الملّة كيهوديّ ونصرانيّ فتصحّ عند الحنفيّة وأمّا شركة العنان فتصحّ بين المسلم والكافر أيضاً . وفي البدائع أنّ شركة المضاربة تصحّ بينهما أيضاً ولم يتعرّضوا لاختلاف الدّين في شركة الوجوه وشركة الأعمال .
ك - حدّ القذف :
14 - إذا قذف الذّمّيّ بالزّنا مسلماً أو مسلمةً فعليه حدّ القذف ، إذا تمّت شروطه ، باتّفاق المذاهب . وإذا قذف المسلم أو المسلمة كافراً ، ذمّيّاً أو غيره ، فلا حدّ عليه اتّفاقاً كذلك ؛ لأنّ إحصان المقذوف شرط إقامة الحدّ ، والإحصان شرطه الإسلام . وفي هذه الحالة يعزّر القاذف لأجل الفرية . وخالف سعيد بن المسيّب وابن أبي ليلى فيمن قذف ذمّيّةً لها ولد مسلم ، فقالا : يحدّ لذلك .
اختلاف المطالع
انظر : مطالع .
اختلال
التّعريف
1 - الاختلال لغةً مصدر اختلّ . وأصله يكون من الخلل ، وهو الفساد والوهن في الرّأي والأمر ، كأنّه ترك منه موضع لم يبرم ولا أحكم . ومن هنا فإنّ الاختلال إمّا حسّيّ وإمّا معنويّ . فالحسّيّ نحو اختلال الجدار والبناء . والمعنويّ بمعنى الفقر والحاجة . والاختلال في اصطلاح الفقهاء لا يبعد عن المعنى اللّغويّ المذكور ، إذ يأتي بمعنى مداخلة الوهن والنّقص للشّيء أو الأمر . ومنه " اختلال العقل " ، وهو العته الّذي يختلط معه كلام صاحبه فيشبه مرّةً كلام العقلاء ، ومرّةً كلام المجانين ، " واختلال العبادة أو العقد " بفقد شرط أو ركن أو فسادهما ، " واختلال الرّضا " بالإكراه أو تفريق الصّفقة أو غيرهما ، " واختلال الضّبط " لدى الرّاوي الّذي يتبيّن بمخالفته روايات الثّقات .
( الألفاظ ذات الصّلة ) :
2 - أ - الإخلال : هو فعل الشّخص إذا أوقع الخلل بشيء ما ، والاختلال مطاوعة ، " والإخلال " بالعهد والعقد عدم الوفاء بهما ، وإخلال التّصرّف بالنّظام العام أو الآداب كونه مخالفاً لهما .
ب - الفساد والبطلان : الاختلال أعمّ من الفساد والبطلان ، إذ يدخل فيه اختلال العبادة أو العقد أو غيرهما بنقص بعض المكمّلات الّتي لا يقتضي نقصها بطلاناً ولا فساداً ، كترك إزالة النّجاسة نسياناً بالنّسبة إلى الصّلاة ، وترك المبيت بمنًى للحاجّ ، وترك الإشهاد على البيع ، أو بفعل مخالف لمقتضى الكمال في العبادة أو التّصرّف ، كالحركة اليسيرة في الصّلاة ، وكإيقاع البيع بعد نداء الجمعة عند من لا يبطله بذلك . فإنّ كلّ ذلك لا يقتضي فساداً ولا بطلاناً ، ولا تخرج به العبادة أو التّصرّف عن الصّحّة ، ولكن تفقد بعض الكمال .
( الحكم الإجماليّ )
يتعرّض الفقهاء للاختلال في مواضع كثيرة من كلامهم ، ومن أبرزها ما يلي :
3 - أ - قسّم الشّاطبيّ وغيره التّكاليف الشّرعيّة ثلاثة أقسام : الضّروريّات ، والحاجيّات ، والتّحسينات ( أو التّكميليّات ) ، ثمّ قعّد الشّاطبيّ لتأثير اختلال كلّ منها فيما سواه ممّا له ارتباط به خمس قواعد :
1 - أنّ الضّروريّ أصل لما سواه من الحاجيّ والتّكميليّ .
2 - أنّ اختلال الضّروريّ يلزم منه اختلال الباقيين بإطلاق .
3 - أنّه لا يلزم من اختلال الباقيين بإطلاق اختلال الضّروريّ .
4 - أنّه قد يلزم من اختلال التّحسينيّ بإطلاق ، أو الحاجيّ بإطلاق ، اختلال الضّروريّ بوجه ما .
5 - أنّه ينبغي المحافظة على الحاجيّ والتّحسينيّ والضّروريّ . ثمّ أطال في بيان ذلك فليرجع إليه من شاء .
ب - الاختلال في العبادات :
4 - الخلل في العبادة إمّا أن يكون بترك شرط فيها أو ركن أو واجب أو مستحبّ ، أو بارتكاب محظور فيها أو مكروه . وقد يترك ذلك ، أو يفعل عمداً أو خطأً أو نسياناً . ثمّ قد يؤدّي بعض ذلك إلى بطلان العبادة أو فسادها . وقد يمكن تدارك المتروك أحياناً أو يجبر بنحو سجود سهو أو فدية أو قضاء أو غيرهما . وينظر تفصيل كلّ ذلك في مواضعه ( ر : استدراك . بطلان . سهو . فدية . فساد . . إلخ ) .
ج - اختلال العقود :
5 - اختلال العقد إن كان بخلل في ركن العقد فإنّه يمنع انعقاده . فبيع الصّبيّ غير المميّز وبيع المجنون وشراؤهما باطل . وإن كان بخلل في غير الرّكن بل في بعض أوصافه الخارجة ، كما إذا كان المبيع مجهولاً ، أو كان الخلل في أوصاف الثّمن ، فإنّ ذلك لا يوجب البطلان بل قد يوجب الفساد . وهذا مذهب الحنفيّة . وقد يختلّ تنفيذ العقد نتيجةً لحادث لا مجال معه لتنفيذ العقد على الصّورة الّتي تمّ التّعاقد عليها ، كما في حالة تفرّق الصّفقة بهلاك بعض المبيع أو استحقاقه . وهذا يؤدّي إلى تعيّب رضا الطّرف الآخر ، فيوجب الخيار . وكذلك قد يختلّ رضا أحد العاقدين بوجود العيب في المبيع أو الثّمن المعيّن ، فيثبت الخيار ، جبراً لذلك . قال الكاسانيّ : « لأنّ السّلامة لمّا كانت مرغوبةً للمشتري ، ولم تحصل ، فقد اختلّ رضاه . وهذا يوجب الخيار ؛ لأنّ الرّضا شرط صحّة البيع ؛ لقول اللّه تعالى : { يأيّها الّذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلاّ أن تكون تجارةً عن تراض منكم } فامتناع الرّضا يمنع صحّة البيع ، واختلاله يوجب الخيار فيه ، إثباتاً للحكم على قدر الدّليل » . وللتّوسّع في ذلك ( ر : خيار ) .
اختيار
التّعريف
1 - الاختيار لغةً : تفضيل الشّيء على غيره . واصطلاحاً : القصد إلى أمر متردّد بين الوجود والعدم داخل في قدرة الفاعل بترجيح أحد الجانبين على الآخر . الألفاظ ذات الصّلة : أ - الخيار :
2 - الخيار حقّ ينشأ بتخويل من الشّارع ، كخيار البلوغ ، أو من العاقد ، كخيار الشّرط . فالفرق بينه وبين الاختيار أنّ بينهما عموماً وخصوصاً مطلقاً ، فكلّ خيار يعقبه اختيار ، وليس كلّ اختيار يكون مبنيّاً على خيار .
ب - الإرادة :
3 - الإرادة لغةً : المشيئة ، وفي استعمال الفقهاء هي " القصد " ، أي اعتزام الفعل والاتّجاه إليه ، فيقولون في طلاق الكناية مثلاً : إن أراد به الطّلاق وقع طلاقاً ، وإن لم يرد به طلاقاً لم يقع طلاقاً . ويقولون في العقود : يشترط لصحّتها تلاقي الإرادتين . ويقولون في الأيمان : يسأل الحالف عن مراده . . . وهكذا . ومن هنا يتبيّن أنّ كلّ اختيار لا بدّ أن يشتمل على إرادة ، وليس من الضّروريّ أن يكون في كلّ إرادة اختيار .
ج - الرّضا :
4 - يفرّق الحنفيّة دون غيرهم بين الاختيار والرّضا . وإذا كان الاختيار كما تقدّم ترجيح أحد الجانبين على الآخر ، فإنّ الرّضا . هو الانشراح النّفسيّ ، ولا تلازم بينهما بوجه عامّ ، فقد يختار المرء أمراً لا يرضاه . ويظهر هذا التّفريق عندهم - أي الحنفيّة - في مسائل الإكراه ، فالإكراه غير الملجئ - كالضّرب المحتمل ، والقيد ، ونحوهما - يفسد الرّضا ولكنّه لا يفسد الاختيار ، أمّا الإكراه الملجئ فإنّه يعدم الرّضا ويفسد الاختيار .
شروط الاختيار
5 - لكي يكون الاختيار صحيحاً لا بدّ أن يكون من له الاختيار مكلّفاً ، وأن يكون في قصده مستبدّاً ، أي : لا سلطان لأحد عليه . وعلى هذا فإنّ الاختيار يكون فاسداً إذا اختلّ شرط من شروط التّكليف ، بأن كان من له الاختيار مجنوناً ، أو صغيراً غير مميّز ، أو كان اختياره مبنيّاً على اختيار غيره ، فإذا اضطرّ إلى مباشرة أمر بالإكراه الملجئ ، كان قصده بالمباشرة دفع الإكراه حقيقةً ، فيصير الاختيار فاسداً ؛ لابتنائه على اختيار المكره - بالكسر - وإن لم ينعدم أصلاً .
تعارض الاختيار الصّحيح مع الاختيار الفاسد
6 - إذا تعارض الاختيار الفاسد والاختيار الصّحيح ، وجب ترجيح الاختيار الصّحيح على الاختيار الفاسد إن أمكن نسبة الفعل إلى الاختيار الصّحيح . وإن لم يمكن نسبته إلى الاختيار الصّحيح بقي منسوباً إلى الاختيار الفاسد ، كما هو الحال في الإكراه على الأقوال وعلى الأفعال الّتي لا يصلح أن يكون فيها الإنسان آلةً لغيره ، كالأكل والوطء ونحوهما . ومحلّ تفصيل ذلك بحث ( إكراه ) .
المخيّر
7 - التّخيير إمّا أن يكون صادراً عن الشّارع ، كتخيير المستنجي بين استعمال الماء أو الحجارة ونحوها للاستنجاء ، وتخيير الحانث في التّكفير عن يمينه بين ما تضمّنته الآية من خصال . وإمّا أن يكون صادراً عن غيره كتخيير الشّريك شريكه بين شراء حصّته من الدّكّان أو بيع حصّته له ، أو بيع الدّكّان كاملاً لشخص ثالث . ولا يملك التّخيير إلاّ صاحب الحقّ أو من ينوب عنه شرعاً . وسيأتي الكلام على ذلك مفصّلاً في مصطلح ( تخيير ) إن شاء اللّه تعالى .
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
ما يرد عليه الاختيار
8 - أ - الحقوق على نوعين ، حقوق اللّه تعالى ، وحقوق العباد . أمّا ما يتعلّق بحقوق اللّه تعالى من الواجب المعيّن كالصّلاة ومن المحرّم كالزّنى ، فلا اختيار للعبد فيها من النّاحية التّكليفيّة . أمّا ما يتعلّق بحقوق العباد كالدّين ، والهبة ، والرّدّ بالعيب ، والأخذ بالشّفعة ، ونحو ذلك ، فإنّ له فيه اختياراً . قال الشّاطبيّ : « ما كان من حقوق اللّه فلا خيرة فيه للمكلّف على حال ، وأمّا ما كان من حقّ العبد في نفسه فله فيه الخيرة " ، من حيث جعل اللّه له ذلك لا من جهة أنّه مستقلّ بالاختيار .
ب - والتّخيير قد يرد على شيئين كلاهما حلال ، وفي هذه الحالة يجوز أن يرد الاختيار على أيّ الشّيئين يريده المخيّر ( بكسر الياء ) . وقد يرد على شيئين كلاهما محرّم ، فإذا ما أكره المخيّر ( بفتح الياء ) على اختيار واحد منهما لزمه اختيار ما كان أخفّ ضرراً ؛ لأنّه يرتكب أخفّ الضّررين لاتّقاء أشدّهما . وقد يرد على شيئين أحدهما حلال والآخر حرام ، وفي هذه الحالة لا يجوز أن يرد الاختيار على غير الحلال .
اشتراط الاختيار لترتيب الثّواب والعقاب
9 - الاختيار شرط لترتّب الثّواب والعقاب في الآخرة ، وهو شرط لترتّب العقوبة على الفعل في الدّنيا ، ومحلّ بحث ذلك كلّه مصطلح ( إكراه ) .
حكمة مشروعيّة الاختيار
10 - شرع الاختيار لتحقيق مصالح العباد الّتي هي غاية من غايات الشّريعة ، وهذه المصلحة قد تكون مصلحةً فرديّةً للمختار نفسه أو غيره عندما يكون محلّ الاختيار قاصراً عليه لا يتعدّاه إلى غيره . وقد تكون المصلحة الّتي يجب توخّيها في الاختيار مصلحةً جماعيّةً .
مواطن البحث
11 - اختيار المستنجي بين استعمال الماء وغيره من أدوات التّطهير ، ذكره الفقهاء في كتاب الطّهارة ، باب الاستنجاء . واختيار المنفرد بين الجهر والإسرار في الصّلوات الجهريّة ، ذكره الفقهاء في كتاب الصّلاة . واختيار من رخّص له في الجمع بين الصّلاتين بين الجمع وعدمه ذكره الفقهاء في كتاب الصّلاة ، باب صلاة المسافر . واختيار الّذي قرأ آية السّجدة في الصّلاة بين السّجود حالاً والإرجاء ، ذكره الفقهاء في كتاب الصّلاة باب سجود التّلاوة . واختيار الحاجّ بين الإفراد والتّمتّع والقران ، واختياره في فدية حلق الشّعر بين الصّيام والصّدقة والنّسك ، واختياره بين الحلق والتّقصير في التّحلّل من الإحرام ، واختياره بين التّعجّل في يومين - من أيّام منًى - وبين التّأخّر ، ذكر الفقهاء ذلك كلّه في كتاب الحجّ . واختيار دافع الزّكاة - عند البعض - إن لم يجد السّنّ المطلوبة في زكاة الإبل أن يدفع السّنّ الأدنى مع دفع الفرق - وهو عشرة دراهم - أو يدفع السّنّ الأعلى مع أخذ الفرق . كما نصّوا على ذلك في كتاب الزّكاة . واختيار المسافر بين الصّوم والفطر ، عند البعض ، كما ذكروا ذلك في كتاب الصّيام . - واختيار الحانث بين الإعتاق والكسوة والإطعام في الكفّارة كما نصّوا على ذلك في كتاب الأيمان . واختيار الزّوج في الطّلاق الرّجعيّ بين إرجاع زوجته أو بتّ طلاقها ، واختيار الزّوجة الّتي خيّرت بين إيقاع الطّلاق وعدمه كما هو منصوص عليه في كتاب الطّلاق من كتب الفقه . واختيار الصّغير عند انتهاء مدّة الحضانة أحد والديه ليكون معه - عند البعض - كما هو منصوص عليه في كتاب الحضانة من كتب الفقه . واختيار صاحب الحقّ بين مطالبة الأصيل أو الوكيل ، أو مطالبة أيّ الكفيلين شاء كما هو مذكور في كتاب الوكالة ، وفي كتاب الكفالة من كتب الفقه . واختيار الصّغيرة المتزوّجة حين بلوغها بين البقاء على النّكاح أو فسخه ، كما هو مذكور في خيار البلوغ من كتب الفقه . واختيار الأمة المتزوّجة إذا عتقت بين البقاء على النّكاح أو فسخه كما هو مذكور في خيار العتق من كتب الفقه . والاختيار يبحث أيضاً " في العيب وفي تفرّق الصّفقة وغيرها من الخيارات العقديّة . واختيار من له الشّفعة بين الأخذ بالشّفعة والتّرك كما هو مذكور في كتاب الشّفعة من كتب الفقه . واختيار الإمام في الأراضي المفتوحة عنوةً بين قسمتها ووقفها كما ذكر ذلك الفقهاء في كتاب الجهاد باب الغنائم . واختيار الإمام بين التّنفيل وعدمه في الجهاد كما هو مذكور في بابه . واختيار الإمام بين الإجابة إلى الهدنة وعدمها كما هو مذكور في كتاب الجهاد من كتب الفقه . واختيار القاضي العقوبة الرّادعة في التّعزير كما هو مذكور في باب التّعزير من كتب الفقه .
اختيال
التّعريف
1 - الاختيال في اللّغة يطلق بمعنى الكبر ، كما يطلق بمعنى العجب ، ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن هذين الإطلاقين .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - الكبر :
2 - من المعلوم أنّ الكبر ينقسم إلى باطن ، وظاهر فالباطن هو خلق في النّفس ، والظّاهر هو أعمال تصدر عن الجوارح . واسم الكبر بالخلق الباطن أحقّ ، وأمّا الأعمال فإنّها ثمرات لذلك الخلق . وخلق الكبر موجب للأعمال ، ولذلك إذا ظهر على الجوارح يقال : تكبّر ، وإذا لم يظهر يقال : في نفسه كبر ، فالأصل هو الخلق الّذي في النّفس ، وهو الاسترواح والرّكون إلى رؤية النّفس فوق المتكبّر عليه . ولهذا فإنّ الكبر يستدعي متكبّراً عليه ؛ لأنّه لا يتصوّر أن يكون متكبّر ، إلاّ أن يكون مع غيره ، وهو يرى نفسه فوق هذا الغير في صفات الكمال ، فعندئذ يكون متكبّراً ، ولا يكفي أن يستعظم نفسه ليكون متكبّراً ، فإنّه قد يستعظم نفسه ، ولكنّه يرى غيره أعظم من نفسه ، أو مثل نفسه ، فلا يتكبّر عليه . ولا يكفي أن يستحقر غيره . فإنّه مع ذلك لو رأى غيره مثل نفسه لم يتكبّر . بل ينبغي ليكون متكبّراً أن يرى لنفسه مرتبةً ولغيره مرتبةً ، ثمّ يرى مرتبة نفسه فوق مرتبة غيره ، فعند هذه الاعتقادات الثّلاثة يحصل فيه خلق الكبر . بل إنّ هذه العقيدة تنفخ فيه ، فيحصل في قلبه اعتداد ، وهزّة ، وفرح ، وركون إلى ما اعتقده ، وعزّ في نفسه بسبب ذلك ، فتلك العزّة ، والهزّة ، والرّكون إلى العقيدة هو خلق الكبر .
ب - العجب :
3 - العجب في اللّغة هو : الزّهوّ ، يقال رجل معجب : يعني مزهوّ بما يكون منه حسناً أو قبيحاً . وأصل العجب عند العلماء هو حمد النّفس ، ونسيان النّعمة ، وهو نظر العبد إلى نفسه ، وأفعاله ، وينسى أنّ ذلك إنّما هو منّة من اللّه تعالى عليه ، فيحسن حال نفسه عنده ، ويقلّ شكره ، وينسب إلى نفسه شيئاً هو من غيرها ، وهي مطبوعة على خلافه . ح - التّبختر :
4 - التّبختر مشية خاصّة ، وهي مشية المتكبّر المعجب بنفسه . والتّبختر آفة من الآفات المهلكة ؛ لأنّه مظهر من مظاهر العجب والكبر .
5 - وهذه الألفاظ المتشابهة يفرّق بينها بأنّ الكبر يكون بالمنزلة ، والعجب يكون بالفضيلة ، فالمتكبّر يجلّ نفسه ، والمعجب يستكثر فضله . والكبر يستلزم متكبّراً عليه ؛ لأنّه لا يتحقّق إلاّ بذلك ، أمّا العجب فلا يستلزمه ؛ لأنّ العجب صفة نفسيّة ، فقد يعجب الشّخص بلبسه أو مشيته أو علمه . . . إلخ . كما أنّ العجب قد يحدث بأسباب الكبر كالعلم ، والعمل ، والنّسب ، والجمال ، والمال . . . إلخ ، وقد يحدث بغير أسباب الكبر كعجبه برأيه الخطأ الّذي يزيّن له بجهله . والاختيال أحد مظاهر الكبر ، سواء في المشي ، أو الرّكوب ، أو اللّباس ، أو البنيان . وقد يكون مظهراً لإعجاب المرء بنفسه ، ذلك أنّ من أسباب العجب الجمال ، والمال . واللّباس والرّكوب والمشي من الجمال والزّينة . وكذلك فإنّ العجب آفة نفسيّة تحتاج إلى إظهار آثارها ، ولهذا فقد يظهر العجب في صورة اختيال في المشي أو اللّباس . . إلخ . أمّا التّبختر فهو مظهر من مظاهر الكبر ، والعجب ، والاختيال ، وهو خاصّ بالمشي ، يقال : فلان يمشي البختري ، أي مشيةً حسنةً . فأهل هذا الخلق ملازمون للفخر ، والخيلاء . فالمرح مختال في مشيته . صفة الاختيال ( حكمه التّكليفيّ ) :
6 - الأصل في الاختيال أنّه حرام ، وهو من الكبائر ، لنهي اللّه ورسوله ( ص ) عنه ، وسيأتي دليل كلّ مظهر من مظاهر الاختيال عند بيانه . ومظاهر الاختيال كثيرة ، منها الاختيال في المشي والرّكوب ، ومنها الاختيال في اللّباس ، ومنها الاختيال في البنيان .
أ - الاختيال في المشي :
7 - الاختيال في المشي يحدث بتجاوز الإنسان حدّ القصد والاعتدال في مشيته . والقصد في المشي يكون بين الإسراع والبطء . والمعنى أنّ الإنسان لا يسرع في مشيته بأن يثب وثب الشّطّار ، لقوله عليه السلام : « سرعة المشي مذهب بهاء المؤمن » كما أنّه لا يبطئ في مشيته بحيث يدبّ على الأرض دبيب المتماوتين المتثاقلين . ولهذا أمر اللّه بالقصد في المشي ، فقال تعالى : { واقصد في مشيك } ، كما امتدح اللّه تعالى من يقتصد في مشيته ولا يتجاوز الاعتدال بقوله : { وعباد الرّحمن الّذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاماً } . ومن ثمّ إذا تجاوز الإنسان حدّ الاعتدال والقصد في المشي يكون قد وقع في المحظور ، وهو الاختيال . والأصل في تحريم الاختيال في المشي وأنّه من الكبائر قوله تعالى : { ولا تمش في الأرض مرحاً إنّك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولاً . كلّ ذلك كان سيّئه عند ربّك مكروهاً } . والمراد بالمرح المنهيّ عنه في الآية الكريمة هو الخيلاء في المشي . والمعنى أنّ اللّه نهى عن الخيلاء وأمر بالتّواضع . وقد استدلّ العلماء بالآية على ذمّ الاختيال . ووجه الاستدلال أنّ اللّه تعالى قد أعقب النّهي عن المرح بأنّ ذلك عمل سيّئ مكروه ، في : { كلّ ذلك كان سيّئه عند ربّك مكروهاً } فهذا يدلّ على حظره وتحريمه ، كما أنّه قرنه بالزّنا والقتل وسائر الكبائر ، فدلّ على أنّه من جملة هذه الكبائر . ومن معاني المرح : الكبر ، وتجاوز الإنسان قدره ، وذلك مذموم ، ومن أدلّة تحريمه أيضاً ما روي أنّه عليه السلام قال : « من تعظّم في نفسه ، واختال في مشيته ، لقي اللّه وهو عليه غضبان » .
ب - الاختيال في اللّباس :
8 - الاختيال في اللّباس يحدث بسبب تجاوز حدّ الاعتدال والقصد فيه ، مع عدم وجود الدّاعية إلى ذلك . والنّيّة والقصد هما الأصل في ذلك . وحدّ الاعتدال والقصد في اللّباس يكون باتّباع ما ورد في صفة اللّباس من آثار صحيحة ، واجتناب ما ورد النّهي عنه . وللعرف مدخل في ذلك ، ما لم يلغه الشّرع . وفي المواهب : ما كان من ذلك على سبيل الخيلاء فلا شكّ في تحريمه ، وما كان على طريق العادة فلا تحريم فيه ، ما لم يصل إلى جرّ الذّيل الممنوع منه . ونقل القاضي عياض عن العلماء كراهة كلّ ما زاد على العادة في اللّباس لمثل لابسه في الطّول والسّعة .
ما يحلّ من ثياب الزّينة ولا يعتبر اختيالاً :
9 - الأصل في لبس الثّياب الجميلة للتّزيّن بها الإباحة ، لقوله تعالى : { قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده والطّيّبات من الرّزق } ، ولما روي عن عبد اللّه بن مسعود رضي الله عنه ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « لا يدخل الجنّة من كان في قلبه مثقال ذرّة من كبر ، فقال رجل : يا رسول اللّه إنّ الرّجل منّا يحبّ أن يكون ثوبه حسناً ، ونعله حسنةً قال عليه الصلاة والسلام : إنّ اللّه جميل يحبّ الجمال ، الكبر بطر الحقّ ، وغمط النّاس » رواه مسلم . وبطر الحقّ هو دفعه وإنكاره ترفّعاً وتجبّراً ، قاله النّوويّ . وفي القاموس : بطر الحقّ أن يتكبّر عنده فلا يقبله ، والغمط والغمص بمعنًى واحد . وقيل غمص النّاس احتقارهم . والحديث يدلّ على أنّ محبّة لبس الثّوب الحسن ، والنّعل الحسنة ، وتخيّر اللّباس الجميل ، ليس من الكبر في شيء ، قال الشّوكانيّ : وهذا ممّا لا خلاف فيه فيما أعلم . وفي سبل السّلام قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ اللّه يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده » ، وفيه دليل على أنّ اللّه إذا أنعم على عبد نعمةً فإنّه يحبّ أن يرى أثرها عليه في مأكله ، وملبسه ، فإنّه شكر للنّعمة ؛ ولأنّه إذا رآه المحتاج في هيئة حسنة قصده ليتصدّق عليه ؛ ولأنّ بذاذة الهيئة سؤال وإظهار للفقر بلسان الحال ، ولذا قيل : ولسان حالي بالشّكاية ينطق وقيل : وكفاك شاهد منظري عن مخبري ، وقد يكون التّزيّن باللّباس واجباً . كتوقّف تنفيذ الواجب عليه ، في نحو ولاة الأمور وغيرهم ، فإنّ الهيئة الرّثّة لا تحصل معها مصالح العامّة من ولاة الأمور . وقد يكون مندوباً ، كما في الصّلوات . قال اللّه تعالى : { خذوا زينتكم عند كلّ مسجد } ، وفي الجماعات ؛ لحديث : « إنّ اللّه يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده » ، وحديث « إنّ اللّه جميل يحبّ الجمال » . رواه مسلم ، وكما في الحروب لإرهاب العدوّ ، وفي المرأة لزوجها ، وفي العلماء لتعظيم العلم في نفوس النّاس ، وقد قال عمر بن الخطّاب : أحبّ أن أنظر إلى قارئ القرآن أبيض الثّياب . وقد يكون حراماً إذا كان وسيلةً لمحرّم ، كمن يتزيّن للنّساء الأجنبيّات ، وكمن تتزيّن للرّجال الأجانب .
إطالة المرأة ثيابها :
10 - شرع للنّساء إسبال الإزار والثّياب وكلّ ما يستر جميع أبدانهنّ . يدلّ على ذلك حديث « أمّ سلمة أنّها قالت حين ذكر الإزار فالمرأة يا رسول اللّه . قال : ترخيه شبراً . قالت أمّ سلمة : إذن ينكشف عنها . قال : فذراعاً ، لا تزد عليه » ، إذ به يحصل أمن الانكشاف . والحاصل أنّ لها حالة استحباب ، وهو قدر شبر ، وحالة جواز ، بقدر الذّراع . قال الإمام الزّرقانيّ : ويؤخذ من ذلك أنّ للمرأة أن تسبل إزارها ، أي تجرّه على الأرض ذراعاً . والمراد ذراع اليد - وهو شبران - لما روى ابن ماجه عن ابن عمر ، قال : « رخّص صلى الله عليه وسلم لأمّهات المؤمنين شبراً ، ثمّ استزدنه فزادهنّ شبراً » . فدلّ على أنّ الذّراع المأذون فيه شبران . وإنّما جاز ذلك لأنّ المرأة كلّها عورة إلاّ وجهها وكفّيها .
ج - الاختيال في الرّكوب :
11 - قد يكون في استعمال المركوب واقتنائه خيلاء ، وقد يكون تحدّثاً بنعمة اللّه وإظهاراً لها ، مثلها مثل الثّياب الجميلة . ولهذا وجب على كلّ مسلم يتّخذ مركوباً للزّينة ألاّ يكون قاصداً به الخيلاء . والأصل في إباحة اتّخاذ المركوب الجميل للزّينة إذا لم يكن بغرض الخيلاء قوله تعالى : { والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينةً ويخلق ما لا تعلمون } ، وقوله تعالى : { ولكم فيها جمال حين تريحون وحين تسرحون } . وهذا الجمال والتّزيّن ، وإن كان من متاع الدّنيا ، فقد أذن اللّه سبحانه وتعالى لعباده فيه .
د - الاختيال في البنيان :
12 - يباح للمسلم أن يتّخذ له داراً يسكنها يدفع بها الحرّ والبرد والمطر ويدفع بها الأذى والأعين ، وينبغي ألاّ يقصد بها الاختيال أو تؤدّي إليه .
هـ - الاختيال لإرهاب العدوّ :
13 - من الاختيال ما يكون محموداً يحبّه اللّه تعالى ، وهو الاختيال لإرهاب العدوّ الكافر وإغاظته في الملبس والمشي والرّكوب .
إخدام
التّعريف
1 - الإخدام لغةً : إعطاء خادم . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى . الحكم الإجماليّ :
2 - إعطاء الخادم إمّا أن يكون من الزّوج إلى زوجته ممّن يخدم مثلها أو غير ذلك . فجمهور الفقهاء يرون أنّه يجب الإخدام على الزّوج لزوجته إن كانت ممّن يخدم مثلها ، والإنفاق على خادمها الّذي معها لحصول المقصود بذلك .
( مواطن البحث )
3 - يذكر الفقهاء الإخدام في مواضع عدّة : فإخدام الزّوج زوجته يذكر في أبواب النّفقات ، وإخدام المفلس لزمانته - أي إن كان مريضاً مزمناً ، ويحتاج فضلاً عن النّفقة إلى الخادم ، أو إن اقتضى ذلك منصبه - يبحث في التّفليس ، عند الحديث عمّا يفعل بمال المحجور عليه للفلس ، وإخدام المحبوس في التّفليس عند الحديث عن حبس الفلس ليقرّ بما عليه ، أو بمال ثبت كتمانه .
إخراج
التّعريف
1 - الإخراج لغةً الدّفع من الدّاخل . وهو أيضاً الإبعاد والتّنحية . وهو عند الفقهاء كذلك .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : التّخارج :
2 - يفرّق الفقهاء بين الإخراج والتّخارج ، فيجعلون بينهما عموماً وخصوصاً فيخصّون التّخارج بتصالح الورثة على إخراج بعضهم من الميراث بشيء معلوم من التّركة . الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث :
3 - ما يكون به الإخراج : يتبيّن من استقراء كلام الفقهاء أنّهم يعتبرون إخراج كلّ شيء بحسبه : أ - فالإخراج للإنسان القائم من الدّار يكون بإخراج قدميه عند البعض ، وعند البعض الآخر يكون بإخراج إحدى قدميه إن كان يعتمد عليها ، وإن كان قاعداً يكون بإخراج رجليه وبدنه ، وإن كان مستلقياً يكون بإخراج أكثر بدنه ، كما فصّل ذلك الفقهاء في كتاب الأيمان عند كلامهم على اليمين على الدّخول والخروج .
ب - والإخراج من المدينة يكون بمجاوزة عمرانها ببدنه .
ج - والإخراج من الدّار المسكونة يكون بإخراج السّاكن بنفسه ومتاعه وعياله .
د - وإخراج الزّكاة والكفّارات يكون بتمليكها للفقير عند البعض ، حتّى لو تلفت قبل ذلك وجب عليه إخراجها ثانيةً . وعند البعض الآخر يكون إخراجها بالعزل دون اشتراط التّمليك ، حتّى لو تلفت بعد العزل بغير تعدّ لم يكلّف المزكّي إخراجها ثانيةً ، كما ذكر الفقهاء ذلك في كتاب الزّكاة ، وفي كتاب الكفّارات .
هـ - وإخراج المسروق من الحرز يكون بإخراجه ظاهراً - أي مظهراً - عند الحنفيّة ، ولا يشترط ظهوره عند غيرهم ، فمن ابتلع جوهرةً وخرج بها لا يقطع عند الحنفيّة ، ويقطع عند غيرهم ، كما ذكر الفقهاء ذلك في كتاب السّرقة . وذهب جمهور الفقهاء خلافاً للحنفيّة إلى أنّ الإخراج ينسب إلى الفاعل إذا كان ابتداء الإخراج منه ، ولا يضرّ انقطاعه بعد ذلك ، ولذلك قالوا في إخراج المسروق من الحرز وإلقائه بعيداً ثمّ أخذه إيّاه إنّه يقطع ، كما فسّر الفقهاء ذلك في باب السّرقة عند كلامهم على شروط الإخراج من الحرز .
الحكم التّكليفيّ للإخراج :
4 - يتبيّن من استقراء الأحكام المتّصلة بالإخراج أنّه لا ينتظمه حكم واحد ، بل يكون حكمه حسب أحواله . فأحياناً يكون الإخراج واجباً - أي فرضاً - كإخراج الزّكاة ، والكفّارات وما قام الدّليل على فرضيّته - كما هو مذكور في كتاب الزّكاة وكتاب الكفّارات من كتب الفقه ، وإخراج من استحقّ الحدّ من المسجد لإقامة الحدّ عليه ، كما هو مذكور في كتاب الحدود من كتب الفقه ، وكإخراج المحترفين في المسجد منه . وأحياناً يكون حراماً كإخراج المعتدّة من بيتها بغير حقّ ، كما هو مذكور في كتاب العدّة من كتب الفقه ، وفي شرح قوله تعالى { لا تخرجوهنّ من بيوتهنّ } من كتب التّفسير ، وكإخراج المتاع من الحرز بنيّة السّرقة ، كما هو مذكور في حدّ السّرقة من كتب الفقه .
إخلاف
التّعريف
1 - من معاني الإخلاف في اللّغة عدم الوفاء بالعهد قال الزّجّاج : والعقود أوكد من العهود ، إذ العهد إلزام ، والعقود إلزام على سبيل الإحكام والاستيثاق ، من عقد الشّيء بغيره : وصله به كما يعقد الحبل بالحبل . ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ المذكور .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : الكذب 2 - من الفقهاء من سوّى بين الكذب والإخلاف ، ومنهم من فرّق بينهما فجعل الكذب في الماضي والحاضر ، وإخلاف الوعد في المستقبل . ما يقع فيه الإخلاف :
3 - يقع الإخلاف في الوعد وفي العهد ومن الفقهاء من جعل الوعد والعهد واحداً ، ومنهم من جعل الوعد غير العهد ، فخصّ العهد بما أوجبه اللّه تعالى أو حرّمه ، وجعل الوعد فيما عدا ذلك .
الحكم التّكليفيّ للإخلاف :
4 - على التّفرقة بين العهد والوعد يكون إخلاف العهد حراماً أمّا الإخلاف بالوعد فقد قال النّوويّ : وقد أجمع العلماء على أنّ من وعد إنساناً شيئاً ليس بمنهيّ عنه فينبغي أن يفي بوعده وهل ذلك واجب أم مستحبّ ؟ فيه خلاف بينهم . ذهب الشّافعيّ وأبو حنيفة والجمهور إلى أنّه مستحبّ ، فلو تركه فاته الفضل وارتكب المكروه كراهة تنزيه شديدة ، ولكن لا يأثم . وذهب جماعة إلى أنّه واجب ، قال الإمام أبو بكر بن العربيّ المالكيّ : أجلّ من ذهب إلى هذا المذهب عمر بن عبد العزيز . قال : وذهبت المالكيّة مذهباً ثالثاً أنّه إن ارتبط الوعد بسبب كقوله : تزوّج ولك كذا ، أو احلف أنّك لا تشتمني ولك كذا ، أو نحو ذلك ، وجب الوفاء ، وإن كان وعداً مطلقاً لم يجب . واستدلّ من لم يوجبه بأنّه في معنى الهبة ، والهبة لا تلزم إلاّ بالقبض عند الجمهور ، وعند المالكيّة : تلزم قبل القبض . هذا ، وإنّ من وعد وفي نيّته الإخلاف فهو آثم قطعاً ، ويصدق عليه أنّه على شعبة من النّفاق ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان » .
آثار الإخلاف
أ - إخلاف الوعد :
5 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ الوعد لا يلزم قضاءً إلاّ إذا كان معلّقاً . أمّا المالكيّة ففي رواية عندهم أنّ الوعد بالعقد ملزم للواعد قضاءً إذا دخل الموعود تحت التزام ماليّ بناءً على ذلك الوعد ، كما إذا قال له : اهدم دارك وأنا أسلّفك ما تبني به . فإذا ما أخلف وعده - ضمن الشّروط الّتي اشترطها الحنفيّة أو المالكيّة - أجبر على التّنفيذ . وأمّا الحنابلة فقد صرّح الرّحيبانيّ منهم بأنّه لا يلزم الوفاء بالوعد حكماً ( وفسّره بقوله : أي في الظّاهر ) . وهو الصّحيح عندهم . ومقتضى حكم الشّافعيّة بكراهة الإخلاف عدم إجبار المخلف على التّنفيذ .
ب - إخلاف الشّرط : الأصل في الشّرط أن يكون ملزماً ، فإذا أخلفه ، اعتبر إخلافه إخلالاً بالعقد أو مثبتاً خياراً ، عدا بعض الشّروط الّتي لا يضرّ الإخلال بها في النّكاح خاصّةً ؛ لأنّها تعتبر ملغاةً منذ اشتراطها عند البعض ، كما ذكر الفقهاء ذلك في كتاب النّكاح .
أداء
التّعريف
1 - الأداء : الإيصال يقال : أدّى الشّيء أوصله ، وأدّى دينه تأديةً أي قضاه . والاسم : الأداء . كذلك الأداء والقضاء يطلقان في اللّغة على الإتيان بالمؤقّتات ، كأداء صلاة الفريضة وقضائها ، وبغير المؤقّتات ، كأداء الزّكاة والأمانة ، وقضاء الحقوق ونحو ذلك . وفي اصطلاح الجمهور من الأصوليّين والفقهاء : الأداء فعل بعض ( وقيل كلّ ) ما دخل وقته قبل خروجه واجباً كان أو مندوباً ، أمّا ما لم يقدّر له زمان في الشّرع ، كالنّفل والنّذر المطلق والزّكاة ، فلا يسمّى فعله أداءً ولا قضاءً . وعند الحنفيّة : الأداء تسليم عين ما ثبت بالأمر . ولم يعتبر في التّعريف التّقييد بالوقت ليشمل أداء الزّكاة والأمانات والمنذورات والكفّارات ، كما أنّه يعمّ فعل الواجب والنّفل . وقد يطلق كلّ من الأداء والقضاء على الآخر مجازاً شرعيّاً ، كقوله تعالى : { فإذا قضيتم مناسككم } أي أدّيتم ، وكقولك : نويت أداء ظهر الأمس .
2 - والأداء إمّا محض ، سواء أكان كاملاً كصلاة المكتوبة في جماعة ، أم قاصراً كصلاة المنفرد ؛ وإمّا غير محض ، وهو الشّبيه بالقضاء ، كفعل اللاّحق الّذي أدرك أوّل الصّلاة بالجماعة ، وفاته الباقي فأتمّ صلاته بعد فراغ الإمام ، ففعله أداء باعتبار كونه في الوقت ، قضاء باعتبار فوات ما التزمه من الأداء مع الإمام ، فهو يقضي ما انعقد له إحرام الإمام ، من المتابعة والمشاركة معه بمثله .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - القضاء :
3 - القضاء لغةً : معناه الأداء . واستعمله الفقهاء بالمعنى الاصطلاحيّ الآتي ، خلافاً للوضع اللّغويّ للتّمييز بينه وبين الأداء . واصطلاحاً : ما فعل بعد خروج وقت أدائه استدراكاً لما سبق لفعله مقتض ، أو تسليم مثل ما وجب بالأمر ، كما يقول الحنفيّة . فالفرق بينه وبين الأداء عند الجمهور مراعاة قيد الوقت في الأداء دون القضاء ، وعند الحنفيّة مراعاة العين في الأداء والمثل في القضاء ، إذ الأداء كما سبق هو فعل المأمور به في وقته بالنّسبة لما له وقت ، عند الجمهور ، وفي أيّ وقت بالنّسبة لما ليس له وقت محدّد ، عند الحنفيّة .
ب - الإعادة :
4 - الإعادة لغةً : ردّ الشّيء ثانياً ، واصطلاحاً : ما فعل في وقت الأداء ثانياً لخلل في الأوّل وقيل لعذر . فالصّلاة بالجماعة بعد الصّلاة منفرداً تكون إعادةً باعتبار أنّ طلب الفضيلة عذر ، فالفرق بينها وبين الأداء السّبق وعدمه .
الأداء في العبادات :
5 - العبادات الّتي لم تحدّد بوقت لا توصف بالأداء بالمعنى الاصطلاحيّ ، أي الّذي يقابل القضاء ، وذلك عند غير الحنفيّة ، إلاّ أنّهم يطلقون عليها لفظ الأداء إطلاقاً لغويّاً بمعنى الإتيان بالمأمور به الأعمّ من الأداء الّذي يقابل القضاء . ولذلك يقول الشبراملسي عند الكلام على أداء الزّكاة - أي دفعها : ليس المراد بالأداء المعنى المصطلح عليه ؛ لأنّ الزّكاة لا وقت لها محدّداً حتّى تصير قضاءً بخروجه . أمّا الحنفيّة فغير الوقت عندهم يسمّى أداءً شرعاً وعرفاً ، والقضاء يختصّ بالواجب الموقّت .
أقسام العبادات باعتبار وقت الأداء :
6 - العبادات باعتبار وقت الأداء نوعان : مطلقة ومؤقّتة . فالمطلقة : هي الّتي لم يقيّد أداؤها بوقت محدّد له طرفان ؛ لأنّ جميع العمر فيها بمنزلة الوقت فيما هو موقّت ، وسواء أكانت العبادة واجبةً كالزّكاة والكفّارات ، أم مندوبةً كالنّفل المطلق . وأمّا العبادات الموقّتة : فهي ما حدّد الشّارع وقتاً معيّناً لأدائها ، لا يجب الأداء قبله ، ويأثم بالتّأخير بعد أن كان المطلوب واجباً ، وذلك كالصّلوات الخمس وصوم رمضان . ووقت الأداء إمّا موسّع وأمّا مضيّق . فالمضيّق : هو ما كان الوقت فيه يسع الفعل وحده ، ولا يسع غيره معه ، وذلك كرمضان فإنّ وقته لا يتّسع لأداء صوم آخر فيه ، ويسمّى معياراً أو مساوياً . والموسّع : هو ما كان الوقت فيه يفضل عن أدائه ، أي أنّه يتّسع لأداء الفعل وأداء غيره من جنسه ، وذلك كوقت الظّهر مثلاً ، فإنّه يسع أداء صلاة الظّهر وأداء صلوات أخرى ، ولذلك يسمّى ظرفاً . والحجّ من العبادات الّتي يشتبه وقت أدائه بالموسّع والمضيّق ؛ لأنّ المكلّف لا يستطيع أن يؤدّي حجّتين في عام واحد ، فهو بهذا يشبه المضيّق ، ولكن أعمال الحجّ لا تستوعب وقته ، فهو بهذا يشبه الموسّع ، هذا على اعتباره من الوقت ، وقيل إنّه من المطلق باعتبار أنّ العمر وقت للأداء كالزّكاة .
صفة الأداء ( حكمه التّكليفيّ ) :
7 - العبادات إمّا فرض أو مندوب ، فإن كانت فرضاً كالصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ والجهاد والنّذور والكفّارات فإنّه يجب على المكلّف الأهل أداؤها على الوجه المشروع ، إذا تحقّق سببها ، وتوفّرت شروطها . فإن كانت العبادة محدّدةً بوقت له طرفان ، سواء أكان الوقت موسّعاً ، كوقت الصّلاة ، أم كان مضيّقاً كرمضان فإنّه يجب أداؤها في الوقت المحدّد ، ولا يجوز أن تتقدّم عليه ولا أن تتأخّر عنه إلاّ لعذر ؛ لأنّها تفوت بفوات الوقت المحدّد دون أداءً ، وتتعلّق بالذّمّة إلى أن تقتضي . ولا خلاف بين الفقهاء في تحديد الوقت الّذي يجب فيه الأداء فيما كان وقته مضيّقاً ؛ لأنّ الوقت كلّه مشغول بالعبادة ، وليس فيه زمن فارغ منها ، إلاّ أنّهم يختلفون في تعيين النّيّة لصحّة الأداء فعند الحنفيّة يكفي مطلق النّيّة ؛ لأنّ الوقت لمّا كان معياراً فلا يصلح لعمل آخر من جنسه ، وعند الجمهور لا بدّ من التّعيين ، فإن لم يعيّن لم يجزه . أمّا ما كان وقته موسّعاً فقد اختلف الفقهاء في تحديد الجزء الّذي يتعلّق به وجوب الأداء ، فعند الجمهور هو الكلّ لا جزء منه ؛ لأنّ الأمر يقتضي إيقاع الفعل في أيّ جزء من أجزاء الوقت ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الوقت ما بين هذين » ، وهو يتناول جميع أجزائه ، وليس تعيين بعض الأجزاء لوجوب الأداء بأولى من تعيين البعض الآخر ، إلاّ أنّ الأداء يجب في أوّل الوقت مع الإمكان ، وقيل يستحبّ ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أوّل الوقت رضوان اللّه ، وآخره عفو اللّه » . ويجوز التّأخير إلى آخر الوقت المختار ؛ لأنّ عدم جواز التّأخير فيه ضيق على النّاس ، فسمح لهم بالتّأخير ، وعند الحنابلة وبعض الشّافعيّة يجوز التّأخير لكن مع العزم على الفعل ، فإن لم يعزم أثم . وإن ظنّ المكلّف أنّه لا يعيش إلى آخر الوقت ، الموسّع تضيّق عليه الوقت وحرم عليه التّأخير اعتباراً بظنّه ، فإن أخّره ومات عصى اتّفاقاً ، فإن لم يمت بل عاش وفعل في آخر الوقت فهو قضاء عند القاضي أبي بكر الباقلاّنيّ أداء عند الجمهور ، لصدق تعريف الأداء عليه ، ولا عبرة بالظّنّ البيّن خطؤه . وعند المحقّقين من الحنفيّة وقت الأداء هو الجزء الّذي يقع فيه الفعل ، وأنّ الصّلاة لا تجب في أوّل الوقت على التّعيين ، وإنّما تجب في جزء من الوقت غير معيّن ، وإنّما التّعيين إلى المصلّي من حيث الفعل حتّى إنّه إذا شرع في أوّل الوقت يجب في ذلك الوقت ، وكذا إذا شرع في وسطه أو آخره ، ومتى لم يعيّن حتّى بقي من الوقت مقدار ما يصلّي فيه أربعاً - وهو مقيم - يجب عليه تعيين ذلك الوقت للأداء فعلاً ويأثم بترك التّعيين . وقال بعض الحنفيّة العراقيّين : إنّ وجوب الأداء يتعلّق بآخر الوقت ، فعلى هذا ، فإن قدّمه ثمّ زالت أهليّته قبل آخر الوقت فالمؤدّى نفل . وقال بعض أصحاب الشّافعيّ : إنّ الوجوب يتعلّق بأوّل الوقت فإن أخّره فهو قضاء . وكلا الفريقين ممّن ينكرون التّوسّع في الوجوب .
بم يتحقّق الأداء إذا تضيّق الوقت ؟
8 - اختلف الفقهاء فيما يمكن به إدراك الفرض إذا تضيّق الوقت ، فعند الجمهور يمكن إدراكه بركعة بسجدتيها في الوقت ، فمن صلّى ركعةً في الوقت ثمّ خرج الوقت يكون مؤدّياً للجميع ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . قال : « من أدرك ركعةً من الصّبح قبل أن تطلع الشّمس فقد أدرك الصّبح ، ومن أدرك ركعةً من العصر قبل أن تغرب الشّمس فقد أدرك العصر » ، وذهب أشهب إلى أنّها تدرك بالرّكوع وحده وعند الحنفيّة وبعض الحنابلة يمكن إدراك الصّلاة بتكبيرة الإحرام ، لما روى أبو هريرة عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا أدرك أحدكم أوّل سجدة من صلاة العصر قبل أن تغرب الشّمس فليتمّ صلاته ، وإذا أدرك أوّل سجدة من صلاة الصّبح قبل أن تطلع الشّمس فليتمّ صلاته » وفي رواية « : فقد أدرك » ؛ ولأنّ الإدراك إذا تعلّق به حكم في الصّلاة استوى فيه الرّكعة وما دونها . وقال بعض الحنفيّة والشّافعيّة : إنّه يكون مؤدّياً لما صلّى في الوقت قاضياً لما صلّى بعد خروج الوقت ، اعتباراً لكلّ جزء بزمانه ، واستثنى الحنفيّة من ذلك صلاة الصّبح وحدها ، فإنّها لا تدرك إلاّ بأدائها كلّها قبل طلوع الشّمس ، وعلّلوا ذلك بطروء الوقت النّاقص على الوقت الكامل ، ولذا عدّوا ذلك من مبطلات الصّلاة وأمّا ما كان وقته مطلقاً كالزّكاة والكفّارات والنّذور المطلقة فقد اختلف الفقهاء في وقت وجوب الأداء بناءً على اختلافهم في الأمر به ، هل هو على الفور أو على التّراخي ؟ والكلام فيه على مثال ما قيل فيما كان وقته موسّعاً في أنّه يجب تعجيل الأداء في أوّل أوقات الإمكان ، ويأثم بالتّأخير بدون عزم على الفعل ، أو أنّه على التّراخي ولا يجب التّعجيل ولا يأثم بالتّأخير عن أوّل أوقات الإمكان ، لكن الجميع متّفقون على أنّ وجوب الأداء يتضيّق في آخر عمره في زمان يتمكّن فيه من الأداء قبل موته بغالب ظنّه ، وأنّه إن لم يؤدّ حتّى مات أثم بتركه . هذا بالنّسبة للعبادات الواجبة سواء أكانت موقّتةً أم مطلقةً .
9 - أمّا المندوب من العبادات فمن المقرّر أنّ المندوب حكمه الثّواب على الفعل وعدم اللّوم على التّرك ، لكن فعله أولى من تركه . ومن المندوب ما هو موقّت كالرّكعتين قبل الظّهر والرّكعتين بعده ، وما بعد المغرب والعشاء ، وركعتي الفجر ، ومنه ما هو مسبّب كصلاة الخسوف والكسوف ، ومنه ما هو مطلق كالتّهجّد . ومثل ذلك في الصّوم أيضاً ، فمنه ما هو موقّت ، كصيام يوم عرفة لغير الحاجّ ، وصيام يوم عاشوراء ، ومنه ما يتطوّع به الإنسان في أيّ يوم . وقد وردت آثار كثيرة في فضل ما زاد على الفرض من العبادات من صلاة وصوم وحجّ وزكاة ، ومن ذلك قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أفضل الصّلاة بعد الفريضة صلاة اللّيل » . وقوله : « صوم يوم عاشوراء كفّارة سنة » . وكذلك روي عن عائشة رضي الله عنها عن رسول اللّه أنّه قال : « من ثابر على اثنتي عشرة ركعةً في اليوم واللّيلة بنى اللّه له بيتاً في الجنّة » . وهذه العبادات المندوبة يطلب أداؤها طلباً للثّواب ولا يجب الأداء إلاّ ما شرع فيه ، فيجب إتمامه ، وإذا فسد قضاه ، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة . أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فيستحبّ الإتمام إلاّ في تطوّع الحجّ والعمرة ، فإنّه إذا شرع فيهما فيجب إتمامهما باتّفاق الجميع .
أداء أصحاب الأعذار :
10 - يشترط لأداء العبادة أهليّة الأداء مع الإمكان والقدرة . وقد اختلف الفقهاء في وجوب الأداء بالنّسبة لمن كان أهلاً للأداء في أوّل الوقت ، ثمّ طرأ عليه عذر في آخره ، كمن كان أهلاً للصّلاة في أوّل الوقت ، فلم يصلّ حتّى طرأ عليه آخر الوقت عذر يمنع من الأداء ، كما إذا حاضت الطّاهرة في آخر الوقت أو نفست أو جنّ العاقل أو أغمي عليه ، أو ارتدّ المسلم والعياذ باللّه وقد بقي من الوقت ما يسع الفرض . فعند الجمهور يلزمهم الفرض ؛ لأنّ الوجوب والأهليّة ثابتة في أوّل الوقت فيلزمهم القضاء . أمّا عند الحنفيّة فلا يلزمهم الفرض ؛ لأنّ الوجوب يتعيّن في آخر الوقت إذا لم يوجد الأداء قبله ، فيستدعي الأهليّة فيه ؛ لاستحالة الإيجاب على غير الأهل ، ولم يوجد ، فلم يكن عليه قضاء . وهو أيضاً رأي الإمام مالك وابن الحاجب وابن عرفة ، خلافاً لبعض أهل المدينة وابن عبد البرّ حيث القضاء عندهم أحوط . أمّا من لم يكن أهلاً في أوّل الوقت ، ثمّ زال العذر في آخر الوقت ، كما إذا طهرت الحائض في آخر الوقت وأسلم الكافر وبلغ الصّبيّ وأفاق المجنون والمغمى عليه وأقام المسافر أو سافر المقيم فللحنفيّة قولان : أحدهما وهو قول زفر أنّه لا يجب الفرض ولا يتغيّر الأداء إلاّ إذا بقي من الوقت مقدار ما يمكن فيه أداء الفرض . والقول الثّاني للكرخيّ وأكثر المحقّقين : أنّه يجب الفرض ويتغيّر الأداء إذا بقي من الوقت مقدار ما يسع التّحريمة فقط ، وهو قول الحنابلة وبعض الشّافعيّة . وعند المالكيّة يجب الفرض إذا بقي من الوقت مقدار ركعة مع زمن يسع الطّهر ، وهو قول لبعض الشّافعيّة ، وفي قول آخر للشّافعيّة إذا بقي مقدار ركعة فقط . هذا مثال لاعتبار أهليّة الأداء في بعض العبادات البدنيّة . ولمعرفة التّفاصيل ( ر : أهليّة . حجّ . صلاة . صوم ) .
11 - أمّا بالنّسبة للقدرة على الأداء فإنّ المطلوب أداء العبادة على الصّفة الّتي ورد بها الشّرع ، ففي الصّلاة مثلاً يجب أن يكون أداؤها على الصّفة الّتي وردت عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم وذلك لما جاء في قوله : « صلّوا كما رأيتموني أصلّي » ، فمن عجز عن أداء الصّلاة على الصّفة المشروعة جاز له أن يصلّي بالصّفة الّتي يستطيع بها أداء الصّلاة ، فمن عجز عن القيام صلّى جالساً ، ومن لم يستطع فعلى جنب . وهذا باتّفاق « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعمران بن حصين : صلّ قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب » ، وهكذا ، وكذلك العاجز عن الصّوم لشيخوخة أو مرض لا يرجى برؤه لا يجب عليه الصّوم ؛ لقول اللّه تعالى : { وما جعل عليكم في الدّين من حرج } مع الاختلاف في وجوب الفدية وعدمها ، فقيل : تجب عن كلّ يوم مدّ من طعام ، وقيل : لا تجب . والحجّ أيضاً لا يجب أداؤه إلاّ على المستطيع بالمال والبدن والمحرم أو الرّفقة المأمونة بالنّسبة للمرأة . فمن عجز عن ذلك فلا يجب عليه الحجّ ؛ لقول اللّه تعالى : { وللّه على النّاس حجّ البيت من استطاع إليه سبيلاً } .
12 - وأمّا بالنّسبة للعبادات الماليّة كالزّكاة فنظراً للأهليّة اختلف الفقهاء في وجوب الزّكاة على الصّبيّ والمجنون ، فعند الجمهور تجب الزّكاة في مال الصّبيّ والمجنون ، لأنّه حقّ يتعلّق بالمال ، ويؤدّي عنهما وليّهما ، وتعتبر نيّة الوليّ في الإخراج . وعند الحنفيّة لا يجب عليهما الزّكاة ؛ لأنّ الزّكاة عبادة ، وهما ليسا من أهلها . وكذلك من عجز عن أداء ما وجب عليه من الكفّارة وقت الوجوب ، ثمّ تغيّر حاله ، فقد اختلف الفقهاء في ذلك . فعند الحنفيّة والمالكيّة : العبرة بوقت الأداء لا بوقت الوجوب ، وهو أحد الأقوال عند الشّافعيّة ، فلو كان موسراً وقت الوجوب جاز له الصّوم . وعند الحنابلة وفي قول عند الشّافعيّ أنّ العبرة بوقت الوجوب لا بوقت الأداء . وفي قول آخر للشّافعيّة والحنابلة أنّه يعتبر أغلظ الأحوال من حين الوجوب إلى حين التّكفير .
تعجيل الأداء عن وقت الوجوب أو سببه :
13 - العبادات الموقّتة بوقت ، والّتي يعتبر الوقت سبباً لوجوبها ، كالصّلاة والصّيام فإنّ الوقت فيهما سبب الوجوب ؛ لقول اللّه تعالى : { أقم الصّلاة لدلوك الشّمس } ، وقوله تعالى : { فمن شهد منكم الشّهر فليصمه } . هذه العبادات لا يجوز تعجيل الأداء فيها عن وقت الوجوب ، وهذا باتّفاق . أمّا العبادات الّتي لا يعتبر الوقت سبباً لوجوبها ، وإن كان شرطاً فيها ، كالزّكاة ، أو المطلقة الوقت كالكفّارات ، فإنّ الفقهاء يختلفون في جواز تعجيل الأداء عن وقت وجوبها أو عن أسبابها : ففي الزّكاة مثلاً يجوز تعجيل الأداء قبل الحول متى تمّ النّصاب ، وذلك عند جمهور الفقهاء ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم تسلّف من العبّاس رضي الله عنه زكاة عامين ؛ ولأنّه حقّ مال أجّل للرّفق ، فجاز تعجيله قبل محلّه ، كالدّين المؤجّل . أمّا المالكيّة فإنّه لا يجوز عندهم إخراج الواجب قبل تمام الحول إلاّ بالزّمن اليسير كالشّهر . وصدقة الفطر يجوز تعجيلها عن وقتها عند الحنفيّة والشّافعيّة ، أمّا عند المالكيّة والحنابلة فلا يجوز إخراجها قبل وقتها إلاّ بالزّمن اليسير ، كاليوم واليومين . وكفّارة اليمين يجوز تعجيلها قبل الحنث عند الجمهور ، مع تخصيص الشّافعيّة التّقديم إذا كان بغير الصّوم ، ولا يجوز التّقديم على الحنث عند الحنفيّة . وفي الموضوع تفصيلات كثيرة تنظر في مواضعها .
النّيابة في أداء العبادات :
14 - العبادات الماليّة المحضة كالزّكاة والصّدقات والكفّارات تجوز فيها النّيابة ، سواء كان من هي عليه قادراً على الأداء بنفسه أم لا ؛ لأنّ الواجب فيها إخراج المال ، وهو يحصل بفعل النّائب .
15 - أمّا العبادات البدنيّة المحضة كالصّلاة والصّوم فلا تجوز فيها النّيابة حال الحياة باتّفاق ؛ لقول اللّه تعالى : { وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى } ، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا يصوم أحد عن أحد ، ولا يصلّي أحد عن أحد » ، أي في حقّ الخروج عن العهدة ، لا في حقّ الثّواب . أمّا بعد الممات فكذلك الحكم عند الحنفيّة والمالكيّة ، إلاّ ما قاله ابن عبد الحكم من المالكيّة من أنّه يجوز أن يستأجر عن الميّت من يصلّي عنه ما فاته من الصّلوات . وعند الشّافعيّة لا تجوز النّيابة عن الميّت في الصّلاة . أمّا بالنّسبة للصّوم فعندهم أنّ من فاته شيء من رمضان ، ومات قبل إمكان القضاء ، فلا شيء عليه ، أي لا يفدى عنه ولا إثم عليه ، أمّا إذا تمكّن من القضاء ، ولم يصم حتّى مات ، ففيه قولان : أحدهما أنّه لا يصحّ الصّوم عنه ، لأنّه عبادة بدنيّة ، فلا تدخلها النّيابة في حال الحياة فكذلك بعد الموت . والقول الثّاني : أنّه يجوز أن يصوم وليّه عنه ، بل يندب ، لخبر الصّحيحين أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من مات وعليه صوم صام عنه وليّه » وهذا الرّأي هو الأظهر . قال السّبكيّ : ويتعيّن أن يكون هو المختار والمفتى به ، والقولان يجريان في الصّيام المنذور إذا لم يؤدّ . وعند الحنابلة لا تجوز النّيابة عن الميّت في الصّلاة أو الصّيام الواجب بأصل الشّرع - أي الصّلاة المفروضة وصوم رمضان - لأنّ هذه العبادات لا تدخلها النّيابة حال الحياة ، فبعد الموت كذلك . أمّا ما أوجبه الإنسان على نفسه بالنّذر ، من صلاة أو صوم ، فإن كان لم يتمكّن من فعل المنذور ، كمن نذر صوم شهر معيّن ومات قبل حلوله ، فلا شيء عليه ، فإن تمكّن من الأداء ولم يفعل حتّى مات سنّ لوليّه فعل النّذر عنه ؛ لحديث ابن عبّاس : « جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول اللّه إنّ أمّي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها ؟ قال : أرأيت لو كان على أمّك دين فقضيتيه أكان يؤدّي ذلك عنها ؟ قالت : نعم ، قال : فصومي عن أمّك » . ولأنّ النّيابة تدخل في العبادة بحسب خفّتها ، والنّذر أخفّ حكماً ؛ لأنّه لم يجب بأصل الشّرع . ويجوز لغير الوليّ فعل ما على الميّت من نذر بإذنه وبدون إذنه .
16 - وقد اختلف الفقهاء بالنّسبة للحجّ باعتبار ما فيه من جانب ماليّ وجانب بدنيّ . والمالكيّة - في المشهور عندهم - هم الّذين يقولون بعدم جواز النّيابة في الحجّ . أمّا بقيّة الفقهاء فتصحّ عندهم النّيابة في الحجّ ، لكنّهم يقيّدون ذلك بالعذر ، وهو العجز عن الحجّ بنفسه ؛ لما رواه ابن عبّاس « أنّ امرأةً من خثعم قالت : يا رسول اللّه إنّ فريضة اللّه على عباده في الحجّ أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الرّاحلة أفأحجّ عنه ؟ قال : نعم » . وفي حديث آخر قال لرجل : « أرأيتك لو كان على أبيك دين ، فقضيته عنه قبل منك ؟ قال : نعم ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : فاللّه أرحم . حجّ عن أبيك » . وضابط العذر الّذي تصحّ معه النّيابة هو العجز الدّائم إلى الموت ، وذلك كالشّيخ الفاني والزّمن والمريض الّذي لا يرجى برؤه . فهؤلاء إذا وجدوا مالاً يلزمهم الاستنابة في الحجّ عنهم . ومن أحجّ عن نفسه للعذر الدّائم ، ثمّ زال العذر قبل الموت ، فعند الحنفيّة لم يجز حجّ غيره عنه ، وعليه الحجّ ؛ لأنّ جواز الحجّ عن الغير ثبت بخلاف القياس ، لضرورة العجز الّذي لا يرجى زواله ، فيتقيّد الجواز به . وعند الحنابلة يجزئ حجّ الغير ، ويسقط عنه الفرض ؛ لأنّه أتى بما أمر به فخرج من العهدة ، كما لو لم يبرأ . لكن ذلك مقيّد بما إذا عوفي بعد فراغ النّائب من الحجّ ، فإذا عوفي قبل فراغ النّائب فينبغي أن لا يجزئه الحجّ ؛ لأنّه قدر على الأصل قبل تمام البدل ، ويحتمل أن يجزئه ، وإن برأ قبل إحرام النّائب لم يجزئه بحال . وللشّافعيّة قولان بالإجزاء وعدمه والمريض الّذي يرجى زوال مرضه والمحبوس ونحوه إذا أحجّ عنه فعند الحنفيّة هذا الحجّ موقوف . إن مات المحجوج عنه وهو مريض أو محبوس جاز الحجّ ، وإن زال المرض أو الحبس قبل الموت لم يجز . وعند الحنابلة وفي قول للشّافعيّة : ليس له أن يستنيب أصلاً ؛ لأنّه لم ييأس من الحجّ بنفسه ، فلا تجوز فيه النّيابة كالصّحيح ، فإن خالف وأحجّ عن نفسه ، لم يجزئه ولو لم يبرأ ؛ لأنّه يرجو القدرة على الحجّ بنفسه فلم يكن به الاستنابة ، وعليه أن يحجّ عن نفسه مرّةً أخرى ، وفي القول الثّاني للشّافعيّة أنّه يجزئه إذا مات ؛ لأنّه لمّا مات تبيّنّا أنّه كان مأيوساً منه . والمشهور عند المالكيّة أنّه لا تجوز النّيابة في الحجّ مطلقاً . وقيل تصحّ النّيابة في الحجّ لغير المستطيع ، قال الباجيّ : تجوز النّيابة للمعضوب كالزّمن والهرم . وقال أشهب : إن آجر صحيح من يحجّ عنه لزمه للخلاف . وسواء فيما مرّ في المذاهب حجّ الفريضة وحجّ النّذر . والعمرة في ذلك كالحجّ .
17 - أمّا بالنّسبة لحجّ التّطوّع فعند الحنفيّة تجوز فيه الاستنابة بعذر وبدون عذر ، وعند الحنابلة إن كان لعذر جاز وإن كان لغير عذر ففيه روايتان : إحداهما يجوز ؛ لأنّها حجّة لا تلزمه بنفسه ، فجاز أن يستنيب فيها كالمعضوب . والرّواية الثّانية لا يجوز ، لأنّه قادر على الحجّ بنفسه ، فلم يجز أن يستنيب فيه كالفرض ، وللشّافعيّة قولان فيما إذا كان بعذر : أحدهما لا يجوز ؛ لأنّه غير مضطرّ إلى الاستنابة فيه ، فلم تجز الاستنابة فيه كالصّحيح ، والثّاني يجوز ، وهو الصّحيح ؛ لأنّ كلّ عبادة جازت النّيابة في فرضها جازت النّيابة في نفلها . وتكره الاستنابة في التّطوّع عن المالكيّة .
18 - وما مرّ إنّما هو بالنّسبة للحيّ . أمّا الميّت فعند الحنابلة والشّافعيّة : من مات قبل أن يتمكّن من أداء الحجّ سقط فرضه ، ولا يجب القضاء عنه ، وإن مات بعد التّمكّن من الأداء ولم يؤدّ لم يسقط الفرض ، ويجب القضاء من تركته ، لما روى بريدة قال : « أتت النّبيّ صلى الله عليه وسلم امرأة فقالت : يا رسول اللّه إنّ أمّي ماتت ، ولم تحجّ فقال لها النّبيّ صلى الله عليه وسلم : حجّي عن أمّك » ، ولأنّه حقّ تدخله النّيابة حال الحياة ، فلم يسقط بالموت ، كدين الآدميّ ، ومثل ذلك الحجّ المنذور ؛ لما روى ابن عبّاس قال : « أتى رجل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فقال له : إنّ أختي نذرت أن تحجّ ، وإنّها ماتت ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : لو كان عليها دين أكنت قاضيه ؟ قال : نعم . قال : فاقض اللّه فهو أحقّ بالقضاء » . وعند الحنفيّة والمالكيّة : من مات ولم يحجّ فلا يجب الحجّ عنه ، إلاّ أن يوصي بذلك ، فإذا أوصى حجّ من تركته . وإذا لم يوص بالحجّ عنه ، فتبرّع الوارث بالحجّ بنفسه ، أو بالإحجاج عنه رجلاً جاز ، ولكن مع الكراهة عند المالكيّة .
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
تأخير الأداء عن وقت الوجوب :
19 - تأخير أداء العبادات عن وقت الوجوب دون عذر يوجب الإثم ، فإن كان من العبادات المؤقّتة بوقت محدّد ، كالصّلاة والصّيام وجب قضاؤها ، وكذلك النّذر المعيّن إذا لم يؤدّ . وإن كانت العبادات وقتها العمر ، كالزّكاة والحجّ فإنّه متى توفّرت شروط الأداء ، كحولان الحول وكمال النّصاب في الزّكاة مع إمكان الأداء ، ولم يتمّ الأداء ترتّب المال في الذّمّة ، وكذلك الحجّ إذا وجدت الاستطاعة الماليّة والبدنيّة ، ولم يؤدّ الحجّ فهو باق في ذمّته . ومثل ذلك الواجبات المطلقة كالنّذور والكفّارات مع اختلاف الفقهاء فيمن مات ، ولم يؤدّ الزّكاة أو الحجّ أو النّذر أو الكفّارة ، وكلّ ما كان واجباً ماليّاً ، وأمكن أداؤه ، ولم يؤدّ حتّى مات المكلّف ، فعند الحنفيّة والمالكيّة لا تؤدّى من تركته ، إلاّ إذا أوصى بها ، فإذا لم يوص فقد سقطت بالنّسبة لأحكام الدّنيا ، وعند الحنابلة والشّافعيّة تؤدّى من تركته وإن لم يوص . وهذا في الجملة وللتّفصيل ( ر : قضاء . حجّ . زكاة . نذر ) . هذا بالنّسبة للعبادات الواجبة سواء كانت مؤقّتةً أو غير مؤقّتة .
20 - أمّا النّفل - سواء منه المطلق أو المترتّب بسبب أو وقت - فقد اختلف الفقهاء في قضائه إذا فات : فعند الحنفيّة والمالكيّة لا يقضى شيء من السّنن سوى سنّة الفجر . واستدلّ الحنفيّة على ذلك بما روت أمّ سلمة « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم دخل حجرتي بعد العصر ، فصلّى ركعتين ، فقلت : يا رسول اللّه : ما هاتان الرّكعتان اللّتان لم تكن تصلّيهما من قبل ؟ فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : ركعتان كنت أصلّيهما بعد الظّهر » ، وفي رواية : « ركعتا الظّهر شغلني عنهما الوفد ، فكرهت أن أصلّيهما بحضرة النّاس ، فيروني . فقلت : أفأقضيهما إذا فاتتا ؟ قال : لا . » وهذا نصّ على أنّ القضاء غير واجب على الأمّة ، وإنّما هو شيء اختصّ به رسول اللّه صلى الله عليه وسلم . وقياس هذا الحديث أنّه لا يجب قضاء ركعتي الفجر أصلاً ، إلاّ أنّا استحسنّا القضاء إذا فاتتا مع الفرض ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم فعلهما مع الفرض ليلة التّعريس ، فنحن نفعل ذلك لنكون على طريقته ، وهذا بخلاف الوتر ؛ لأنّه واجب عند أبي حنيفة ، والواجب ملحق بالفرض في حقّ العمل . وعند الحنابلة قال الإمام أحمد : لم يبلغنا أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى شيئاً من التّطوّع إلاّ ركعتي الفجر والرّكعتين بعد العصر ، وقال القاضي وبعض الأصحاب : لا يقضى إلاّ ركعتا الفجر وركعتا الظّهر . وقال ابن حامد : تقضى جميع السّنن الرّواتب ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قضى بعضها وقسنا الباقي عليه . وفي شرح منتهى الإرادات : يسنّ قضاء الرّواتب إلاّ ما فات مع فرضه وكثر فالأولى تركه ، إلاّ سنّة فجر ، فيقضيها مطلقاً لتأكّدها . وللشّافعيّة قولان : أحدهما أنّ السّنن الرّاتبة لا تقضى ؛ لأنّها صلاة نفل ، فلم تقض ، كصلاة الكسوف والاستسقاء ، والثّاني تقضى لقوله صلى الله عليه وسلم : « من نام عن صلاة أو سها فليصلّها إذا ذكرها . » 21 - وأمّا قضاء سنّة الفجر إذا فاتت فعند الحنفيّة لا تقضى إلاّ إذا فاتت مع الفجر ، وإذا فاتت وحدها فلا تقضى . وعند جمهور الفقهاء تقضى سواء فاتت وحدها أو مع الفجر . واختلف في الوقت الّذي يمتدّ إليه القضاء ، فعند الحنفيّة والمالكيّة : تقضى إلى الزّوال ، وعند الحنابلة إلى الضّحى ، وعند الشّافعيّة تقضى أبداً . وهذا في الجملة . وينظر تفصيل ذلك في مكان آخر ( ر : نفل . قضاء ) .
22 - وما شرع فيه من النّفل المطلق فإنّه يجب إتمامه ، وإذا فسد يقضى . وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة . وعند الحنابلة والشّافعيّة يستحبّ الإتمام ولا يجب ، كما أنّه يستحبّ القضاء إلاّ في تطوّع الحجّ والعمرة فيجب إتمامهما إذا شرع فيهما .
الامتناع عن الأداء :
23 - العبادات الواجبة وجوباً عينيّاً أو كفائيّاً كالصّلاة والصّيام والزّكاة والحجّ والجهاد وصلاة الجنازة تعتبر من فرائض الإسلام ومعلومة من الدّين بالضّرورة ، وقد ورد الأمر بها في كثير من آيات القرآن الكريم ، ومن ذلك قوله تعالى : { وأقيموا الصّلاة وآتوا الزّكاة } وقوله تعالى : { كتب عليكم القتال } وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلاّ اللّه ، وأنّ محمّداً رسول اللّه ، وإقام الصّلاة وإيتاء الزّكاة ، والحجّ ، وصوم رمضان » . وهذه العبادات يجب على كلّ مكلّف أداؤها على الصّفة الّتي ورد بها الشّرع . ومن امتنع عن أدائها فإن كان جاحداً لها فإنّه يعتبر كافراً يقتل كفراً بعد أن يستتاب . وإن امتنع عن أدائها كسلاً ففي العبادات البدنيّة ، كالصّلاة يؤدّب ويعزّر ، ويترك إلى أن يتضيّق الوقت ، فإن ظلّ على امتناعه قتل حدّاً لا كفراً ، وهذا عند الجمهور . وعند الحنفيّة يحبس أبداً حتّى يصلّي . وفي العبادات الماليّة كالزّكاة إن امتنع عن أدائها بخلاً فإنّها تؤخذ منه كرهاً ، ويقاتل عليها كما فعل أبو بكر رضي الله عنه بمانعي الزّكاة ، أمّا تارك الحجّ كسلاً فسواء أكان على الفور أم على التّراخي فإنّه يترك ، ولكن يؤمر به ويديّن لأنّ شرطه الاستطاعة ، وقد يكون له عذر باطنيّ لم يعرف .
24 - أمّا غير الواجبات من العبادات وهو ما يسمّى مندوباً أو سنّةً أو نافلةً فهو ما يثاب فاعله ولا يذمّ تاركه ، وهذا على الجملة ؛ لأنّ من السّنّة ما يعتبر إظهاراً للدّين ، وتركها يوجب إساءةً وكراهيةً ، وذلك كالجماعة والأذان والإقامة وصلاة العيدين ؛ لأنّها من شعائر الإسلام ، وفي تركها تهاون بالشّرع ، ولذلك لو اتّفق أهل بلدة على تركها وجب قتالهم بخلاف سائر المندوبات ؛ لأنّها تفعل فرادى .
أثر الأداء في العبادات :
25 - أداء العبادة على الوجه المشروع باستيفاء أركانها وشرائطها يستلزم الإجزاء وهذا باتّفاق على تفسير الإجزاء بمعنى الامتثال بالإتيان بالمأمور به . وأنّ ذلك يبرّئ الذّمّة بغير خلاف ، وعلى تفسير الإجزاء بمعنى إسقاط القضاء فالمختار أنّه يستلزمه ، خلافاً لعبد الجبّار المعتزليّ من أنّه لا يستلزمه . والفعل المؤدّى على وجهه المشروع يوصف بالصّحّة ، وإلاّ فبالفساد أو البطلان ، مع تفريق الحنفيّة بين الفاسد والباطل . والصّحّة أعمّ من الإجزاء ؛ لأنّها تكون صفةً للعبادات والمعاملات ، أمّا الإجزاء فلا يوصف به إلاّ العبادات . وإذا كانت العبادات المستجمعة شرائطها وأركانها تبرّئ الذّمّة بلا خلاف فإنّه قد اختلف في ترتّب الثّواب على هذه العبادة أو عدم ترتّبه ، فقيل : إنّه لا يلزم من إبراء الذّمّة ترتّب الثّواب على الفعل ، فإنّ اللّه قد يبرّئ الذّمّة بالفعل ولا يثيب عليه في بعض الصّور ، وهذا هو معنى القبول ، وهذا بناءً على قاعدة أنّ القبول والثّواب غير الإجزاء وغير الفعل الصّحيح . وقيل : إنّه لم يكن في الشّرع واجب صحيح يجزئ إلاّ وهو مقبول مثاب عليه ، كما هو مقتضى قاعدة سعة الثّواب ، والآيات والأحاديث المتضمّنة لوعد المطيع بالثّواب .
أداء الشّهادة حكم أداء الشّهادة :
26 - أداء الشّهادة فرض كفاية ؛ لقول اللّه تعالى : { وأقيموا الشّهادة للّه } ، وقوله : { ولا يأب الشّهداء إذا ما دعوا } ، فإذا تحمّلها جماعة وقام بأدائها منهم من فيه كفاية سقط الأداء عن الباقين ، لأنّ المقصود بها حفظ الحقوق وذلك يحصل ببعضهم ، وإن امتنع الكلّ أثموا جميعاً لقول اللّه تعالى : { ولا تكتموا الشّهادة ومن يكتمها فإنّه آثم قلبه } ، ولأنّ الشّهادة أمانة فلزم الأداء عند الطّلب . وقد يكون أداء الشّهادة فرض عين إذا كان لا يوجد غيره ممّن يقع به الكفاية ، وتوقّف الحقّ على شهادته فإنّه يتعيّن عليه الأداء ؛ لأنّه لا يحصل المقصود إلاّ به . إلاّ أنّه إذا كانت الشّهادة متعلّقةً بحقوق العباد وأسبابها أي في محض حقّ الآدميّ ، وهو ما له إسقاطه كالدّين والقصاص فلا بدّ من طلب المشهود له لوجوب الأداء ، فإذا طلب وجب عليه الأداء ، حتّى لو امتنع بعد الطّلب يأثم ، ولا يجوز له أن يشهد قبل طلب المشهود له ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « خير النّاس قرني ، ثمّ الّذين يلونهم ، ثمّ الّذين يلونهم ، ثمّ يفشو الكذب حتّى يشهد الرّجل قبل أن يستشهد » . ولأنّ أداءها حقّ للمشهود له ، فلا يستوفى إلاّ برضاه ، وإذا لم يعلم ربّ الشّهادة بأنّ الشّاهد تحمّلها استحبّ لمن عنده الشّهادة إعلام ربّ الشّهادة بها . وإذا كانت الشّهادة متعلّقةً بحقوق اللّه تعالى ، وفيما سوى الحدود ، كالطّلاق والعتق وغيرها من أسباب الحرمات فيلزمه الأداء حسبةً للّه تعالى عند الحاجة إلى الأداء من غير طلب من أحد من العباد . وأمّا في أسباب الحدود من الزّنا والسّرقة وشرب الخمر فالسّتر أمر مندوب إليه ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من ستر مسلماً ستره اللّه في الدّنيا والآخرة » ، ولأنّه مأمور بدرء الحدّ . وصرّح الحنفيّة بأنّ الأولى السّتر إلاّ إذا كان الجاني متهتّكاً ، وبمثل ذلك قال المالكيّة .
27 - وإذا وجب أداء الشّهادة على إنسان ولكنّه عجز لبعد المسافة ، كأن دعي من مسافة القصر أو كان سيلحقه ضرر في بدنه أو ماله أو أهله فلا يلزمه الأداء لقول اللّه تعالى : { ولا يضارّ كاتب ولا شهيد } ، وقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « لا ضرر ولا ضرار » . ولأنّه لا يلزمه أن يضرّ نفسه لنفع غيره . كذلك قال بعض الفقهاء : لا يجب الأداء إذا كان الحاكم غير عدل ، قال الإمام أحمد : كيف أشهد عند رجل ليس عدلاً ، لا أشهد .
كيفيّة أداء الشّهادة :
28 - يعتبر لفظ الشّهادة في أدائها عند جمهور الفقهاء ، فيقول : أشهد أنّه أقرّ بكذا ونحوه ؛ لأنّ الشّهادة مصدر شهد يشهد ، فلا بدّ من الإتيان بفعلها المشتقّ منها ؛ ولأنّ فيها معنًى لا يحصل في غيرها من الألفاظ ، ولو قال : أعلم أو أتيقّن أو أعرف لم يعتدّ به ولا تقبل شهادته ، إلاّ أنّ من المالكيّة من لم يشترط لأداء الشّهادة صيغةً مخصوصةً بل قالوا : المدار فيها على ما يدلّ على حصول علم الشّاهد بما شهد به كرأيت كذا أو سمعت كذا وهو الأظهر عندهم . ولتحمّل الشّهادة وأدائها شروط تفصيلها في مصطلح ( شهادة ) .
أداء الدّين مفهوم الدّين :
29 - الدّين هو الوصف الثّابت في الذّمّة ، أو هو اشتغال الذّمّة بمال وجب بسبب من الأسباب ، سواء أكان عقداً كالبيع والكفالة والصّلح والخلع ، أم تبعاً للعقد كالنّفقة ، أم بغير ذلك كالغصب والزّكاة وضمان المتلفات ، ويطلق على المال الواجب في الذّمّة مجازاً ، لأنّه يؤول إلى المال . حكم أداء الدّين :
30 - أداء الدّين على الوصف الّذي وجب فرض بالإجماع ؛ لقول اللّه تعالى : { فليؤدّ الّذي اؤتمن أمانته } . وهو يعتبر كما قال بعض الفقهاء من الحوائج الأصليّة . وإذا كان الدّين حالّاً فإنّه يجب أداؤه على الفور عند الطّلب ، ويقال له الدّين المعجّل وذلك متى كان قادراً على الأداء لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « مطل الغنيّ ظلم » أمّا إذا كان الدّين مؤجّلاً فلا يجب أداؤه قبل حلول الأجل ، لكن لو أدّى قبله صحّ وسقط عن ذمّة المدين . وقد يصبح المؤجّل حالّاً فيجب أداؤه على الفور وذلك بالرّدّة أو بالموت أو بالتّفليس . وللفقهاء تفصيلات كثيرة في ذلك تنظر في ( دين . أجل . إفلاس ) .
كيفيّة أداء الدّين :
31 - الأداء هو تسليم الحقّ لمستحقّه ، وتسليم الحقّ في الدّيون إنّما يكون بأمثالها ؛ لأنّه لا طريق لأداء الدّيون سوى هذا ، ولهذا كان للمقبوض في الصّرف والسّلم حكم عين الحقّ إذ لو لم يكن كذلك لصار استبدالاً ببدل الصّرف ورأس مال السّلم والمسلم فيه قبل القبض وهو حرام ، وكذا له حكم عين الحقّ في غير الصّرف والسّلم ، بدليل أنّه يجبر ربّ الدّين على القبض ، ولو كان غير حقّه لم يجبر عليه ، وفيما لا مثل له ممّا تعلّق بالذّمّة تجب القيمة كما في الغصب والمتلفات . وقيل إنّه في القرض إذا تعذّر المثل فإنّه يجب ردّ المثل في الخلقة والصّورة ؛ لحديث أبي رافع « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمره أن يقضي البكر بالبكر » ؛ ولأنّ ما ثبت في الذّمّة بعقد السّلم ثبت بعقد القرض قياساً على ما له مثل . ويجوز الأداء بالأفضل إذا كان بدون شرط ، لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم « استسلف من رجل بكراً فقدمت عليه إبل من إبل الصّدقة فأمر أبا رافع أن يقضي الرّجل بكره ، فرجع إليه رافع فقال : لم أجد فيها إلاّ خياراً رباعيّاً ، فقال : أعطه إيّاه ، إنّ خيار النّاس أحسنهم قضاءً » . ومن طولب بالأداء ببلد آخر فيما لا حمل له ولا مؤنة وجب الأداء .
ما يقوم مقام الأداء
32 - إذا أدّى المدين ما عليه بالصّفة الواجبة سقط عنه الدّين ، وبرئت ذمّته ، ويقوم مقام الأداء في إسقاط الدّين وبراءة الذّمّة إبراء صاحب الدّين للمدين ممّا عليه أو هبته له أو تصدّقه به عليه ، كذلك يقوم مقام الأداء من حيث الجملة الحوالة بالدّين أو المقاصّة ، أو انقضاء المدّة أو الصّلح أو تعجيز العبد نفسه في بدل الكتابة ، وذلك كلّه بالشّروط الخاصّة الّتي ذكرها الفقهاء لكلّ حالة من ضرورة القبول أو عدمه ، وفيما يجوز فيه من الدّيون وما لا يجوز وغير ذلك من الشّروط . وينظر التّفصيل في ذلك في ( إبراء ، دين ، حوالة ، هبة ، إلخ ) .
الامتناع عن الأداء :
33 - من كان عليه دين وكان موسراً فإنّه يجب عليه أداؤه ، فإن ماطل ولم يؤدّ ألزمه الحاكم بالأداء بعد طلب الغرماء ، فإن امتنع حبسه لظلمه بتأخير الحقّ من غير ضرورة ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « ليّ الواجد يحلّ عرضه وعقوبته » ، والحبس عقوبة ، فإن لم يؤدّ وكان له مال ظاهر باعه الحاكم عليه ؛ لما روي « أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم باع على معاذ ماله وقضى ديونه » . وكذلك روي أنّ عمر رضي الله تعالى عنه باع مال أسيفع وقسمه بين غرمائه .
34 - وإن كان للمدين مال ولكنّه لا يفي بديونه وطلب الغرماء الحجر عليه لزم القاضي إجابتهم ، وله منعه من التّصرّف حتّى لا يضرّ بالغرماء ، ويبيع ماله إن امتنع هو عن بيعها ، ويقسمها بين الغرماء بالحصص . وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة والمالكيّة وأبي يوسف ومحمّد ، وخالف أبو حنيفة فقال : لا يحجر على المدين ، لأنّ الحجر فيه إهدار لآدميّته ، وإنّما يحبسه القاضي إذا كان له مال حتّى يبيع ويوفّي دينه ، إلاّ إن كان ماله دراهم أو دنانير ، والدّين مثله ، فإنّ القاضي يقضي الدّين منه بغير أمره ؛ لأنّ ربّ الدّين له أخذه بغير أمره فالقاضي يعينه عليه .
35 - وإن كان المدين معسراً وثبت ذلك خلّى سبيله ، ووجب إنظاره ؛ لقول اللّه تعالى : { وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة } .
36 - والمدين المعسر يجب عليه التّكسّب لوفاء ما عليه ، ولكنّه لا يجبر على التّكسّب ولا على قبول الهدايا والصّدقات ، لكن ما يجدّ له من مال من كسبه فإنّ حقّ الغرماء يتعلّق به .
37 - والغارم إن استدان لنفسه في غير معصية يؤدّي دينه من الزّكاة ؛ لأنّه من مصارفها .
38 - هذا بالنّسبة للحيّ ، أمّا من مات وعليه دين فإنّ الدّين يتعلّق بالتّركة ، ويجب الأداء منها قبل تنفيذ الوصايا وأخذ الورثة نصيبهم ؛ لأنّ الدّين مستحقّ عليه ؛ ولأنّ فراغ ذمّته من أهمّ حوائجه ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « الدّين حائل بينه وبين الجنّة » وأداء الفرض أولى من التّبرّعات ، وقد قدّمه اللّه تعالى على القسمة في قوله تعالى : { من بعد وصيّة يوصي بها أو دين } . فتجب المبادرة بأداء دينه تعجيلاً للخير لحديث : « نفس المؤمن معلّقة بدينه حتّى يقضى عنه » . وما مرّ إنّما هو بالنّسبة لديون الآدميّ . أمّا ديون اللّه تعالى كالزّكاة والكفّارات والنّذور فقد سبق بيانه . ( ف / 14 ، 16 )
أداء القراءة معنى الأداء في القراءة
39 - الأداء عند القرّاء يطلق على أخذ القرآن عن المشايخ . والفرق بينه وبين التّلاوة والقراءة ، أنّ التّلاوة هي قراءة القرآن متتابعاً كالأوراد والأحزاب ، والأداء هو الأخذ عن المشايخ ، والقراءة تطلق على الأداء والتّلاوة فهي أعمّ منهما . والأداء الحسن في القراءة هو تصحيح الألفاظ وإقامة الحروف على الصّفة المتلقّاة من أئمّة القراءة المتّصلة بالرّسول ( صلى الله عليه وسلم ) الّتي لا تجوز مخالفتها ، ولا العدول عنها إلى غيرها ، ولذلك فإنّ من اللّحن الخفيّ ما يختصّ بمعرفته علماء القراءة وأئمّة الأداء الّذين تلقّوا من أقوال العلماء ، وضبطوا عن ألفاظ أهل الأداء الّذين ترتضى تلاوتهم ، ويوثق بعربيّتهم ، ولم يخرجوا عن القواعد الصّحيحة فأعطوا كلّ حرف حقّه من التّجويد والإتقان . حكم حسن الأداء في القراءة :
40 - قال الشّيخ الإمام أبو عبد اللّه بن نصر عليّ بن محمّد الشّيرازيّ في كتابه ( الموضّح في وجوه القراءات ) : إنّ حسن الأداء فرض في القراءة ، ويجب على القارئ أن يتلو القرآن حقّ تلاوته صيانةً للقرآن عن أن يجد اللّحن والتّغيير إليه سبيلاً . وقد اختلف العلماء في الحالات الّتي يجب فيها حسن الأداء ، فذهب بعضهم إلى أنّ ذلك مقصور على ما يلزم المكلّف قراءته في المفترضات ، فإنّ تجويد اللّفظ وتقويم الحروف واجب فيه فحسب . وذهب آخرون إلى أنّ ذلك واجب على كلّ من قرأ شيئاً من القرآن كيفما كان ، لأنّه لا رخصة في تغيير النّطق بالقرآن واتّخاذ اللّحن إليه سبيلاً إلاّ عند الضّرورة وقد قال اللّه تعالى : { قرآناً عربيّاً غير ذي عوج } وينظر التّفصيل في مصطلحي " تجويد ، تلاوة » .
أداة
انظر : آلة .
أدب
التّعريف
1 - أصل معنى كلمة " أدب " في اللّغة : « الجمع " ، ومنه : الأدب بمعنى الظّرف وحسن التّناول . سمّي أدباً ؛ لأنّه يأدب - أي يجمع - النّاس إلى المحامد . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عند الفقهاء عن المعنى اللّغويّ ، فللأدب عند الفقهاء والأصوليّين عدّة إطلاقات : أ - قال الكمال بن الهمام : الأدب : الخصال الحميدة ، ولذلك بوّبوا فقالوا : « أدب القاضي " ، وتكلّموا في هذا الباب عمّا ينبغي للقاضي أن يفعله وما ينبغي أن ينتهي عنه . وكذلك قالوا : « آداب الاستنجاء " ، " وآداب الصّلاة » . وعرّفه بعضهم بقوله : الأدب : وضع الأشياء موضعها .
ب - كما يطلق الفقهاء والأصوليّون لفظ « أدب " أيضاً أصالةً على المندوب ، ويعبّرون عن ذلك بتعبيرات متعدّدة منها : النّفل ، والمستحبّ ، والتّطوّع ، وما فعله خير من تركه ، وما يمدح به المكلّف ولا يذمّ على تركه ، والمطلوب فعله شرعاً من غير ذمّ على تركه ، وكلّها متقاربة .
ج - وقد يطلق بعض الفقهاء كلمة " آداب " على كلّ ما هو مطلوب سواء أكان مندوباً أم واجباً . ولذلك بوّبوا فقالوا : « آداب الخلاء والاستنجاء " وأتوا في هذا الباب بما هو مندوب وما هو واجب ، وقالوا : إنّ المراد بكلمة " آداب " هو كلّ ما هو مطلوب .
د - ويطلق الفقهاء أحياناً ( الأدب ) على الزّجر والتّأديب بمعنى التّعزير . ( ر : تعزير ) .
حكمه
2 - الأدب في الجملة هو مرتبة من مراتب الحكم التّكليفيّ ، وهو غالباً يرادف المندوب ، وفاعله يستحقّ الثّواب بفعله ، ولا يستحقّ اللّوم على تركه .
( مواطن البحث )
3 - لقد نثر الفقهاء الآداب على أبواب الفقه ، فذكروا في كلّ باب ما يخصّه من الآداب ، ففي الاستنجاء ذكروا آداب الاستنجاء ، وفي الطّهارة بأقسامها ذكروا آدابها ، وفي القضاء ذكروا آداب القضاء ، بل صنّف بعضهم كتباً خاصّةً في الآداب الشّرعيّة ، كالآداب الشّرعيّة لابن مفلح ، وأدب الدّنيا والدّين للماورديّ ، وغيرهما .
ادّخار
التّعريف
1 - أصل كلمة " ادّخار " في اللّغة هو " اذتخار " فقلب كلّ من الذّال والتّاء دالاً مع الإدغام فتحوّلت الكلمة إلى ( ادّخار ) . ومعنى ادّخر الشّيء : خبّأه لوقت الحاجة . ولا يخرج المعنى الاصطلاحيّ عن المعنى اللّغويّ . الألفاظ ذات الصّلة : أ - الاكتناز :
2 - الاكتناز لغةً : إحراز المال في وعاء أو دفنه ، وشرعاً : هو المال الّذي لم تؤدّ زكاته ولو لم يكن مدفوناً . فالادّخار أعمّ في اللّغة والشّرع من الاكتناز .
ب - الاحتكار :
3 - الاحتكار لغةً : حبس الشّيء انتظاراً لغلائه . وشرعاً : اشتراء طعام ونحوه وحبسه إلى الغلاء . فالادّخار أعمّ من الاحتكار ؛ لأنّه يكون فيما يضرّ حبسه وما لا يضرّ .
ادّخار الدّولة الأموال من غير الضّروريّات :
4 - الأموال إمّا أن تكون بيد الدّولة ، أو بيد الأفراد . فإن كانت بيد الدّولة ، وقد فاضت عن مصارف بيت المال ، ففي جواز ادّخار الدّولة لها اتّجاهات : الاتّجاه الأوّل : لا يجوز للدّولة ادّخار شيء من الأموال ، بل عليها تفريقها على من يعمّ به صلاح المسلمين ، ولا تدّخرها ، وهو ما ذهب إليه الشّافعيّة ، وهو قول للحنابلة . وقد استدلّوا على ذلك بفعل الخلفاء الرّاشدين وبمبادئ الشّريعة ، أمّا فعل الخلفاء الرّاشدين : فقد روي ذلك عن عمر وعليّ وصنيعهما ببيت المال ، قال عمر بن الخطّاب لعبد اللّه بن أرقم : « اقسم بيت مال المسلمين في كلّ شهر مرّةً ، اقسم بيت مال المسلمين في كلّ جمعة مرّةً ، اقسم بيت مال المسلمين في كلّ يوم مرّةً " ، ثمّ قال رجل من القوم : يا أمير المؤمنين لو أبقيت في بيت المال بقيّةً تعدّها لنائبة أو صوت مستغيث ، فقال عمر للرّجل الّذي كلّمه : جرى الشّيطان على لسانك ، لقّنني اللّه حجّتها ووقاني شرّها ، أعدّ لها ما أعدّ لها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم طاعة اللّه ورسوله . وكان عليّ بن أبي طالب كما كان عمر ، فقد ورد أنّ عليّاً رضي الله عنه أعطى العطاء في سنة ثلاث مرّات ، ثمّ آتاه مال من أصبهان ، فقال : اغدوا إلى عطاء رابع ، إنّي لست بخازن . وأمّا مبادئ الشّريعة ، فإنّها تفرض على أغنياء المسلمين القيام برفع النّوائب عند نزولها . الاتّجاه الثّاني : أنّ على الدّولة ادّخار هذا الفائض عن مصارف بيت المال لما ينوب المسلمين من حادث ، لأنّ ذلك تقتضيه مصلحة المسلمين من سرعة التّصرّف لرفع النّائبات عنهم . وإلى هذا ذهب الحنفيّة ، وهو قول للحنابلة . الاتّجاه الثّالث : وهو للمالكيّة ، فإنّهم قالوا : إذا استوت الحاجة في كلّ البلدان فإنّ الإمام يبدأ بمن جبي فيهم المال حتّى يغنوا غنى سنة ، ثمّ ينقل ما فضل لغيرهم ويوقف لنوائب المسلمين ، فإن كان غير فقراء البلد أكثر حاجةً فإنّ الإمام يصرف القليل لأهل البلد الّذي جبي فيهم المال ثمّ ينقل الأكثر لغيرهم .
ادّخار الأفراد :
5 - الأموال في يد الأفراد إمّا أن تكون أقلّ من النّصاب أو أكثر ، فإن كانت أكثر من النّصاب فإمّا أن تكون قد أدّيت زكاتها أو لم تؤدّ ، فإن أدّيت زكاتها فإمّا أن تكون زائدةً عن حاجاته الأصليّة أو غير زائدة عن حاجاته الأصليّة .
6 - فإن كانت الأموال الّتي بيد الفرد دون . النّصاب حلّ ادّخارها ؛ لأنّ ما دون النّصاب قليل ، والمرء لا يستغني عن ادّخار القليل ولا تقوم حاجاته بغيره .
7 - وإن كانت أكثر من النّصاب ، وصاحبها لا يؤدّي زكاتها ، فهو ادّخار حرام ، وهو اكتناز بالاتّفاق . قال عمر بن الخطّاب رضي الله عنه : أيّ مال أدّيت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوناً في الأرض ، وأيّ مال لم تؤدّ زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض . وروي نحوه عن عبد اللّه بن عبّاس وجابر بن عبد اللّه ، وأبي هريرة مرفوعاً وموقوفاً . واكتناز المال حرام بنصّ القرآن الكريم حيث قال اللّه تعالى : { والّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشّرهم بعذاب أليم يوم يحمى عليها في نار جهنّم فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون } .
8 - وإن كانت الأموال المدّخرة أكثر من النّصاب ، وصاحبها يؤدّي زكاتها ، وهي فائضة عن حاجاته الأصليّة ، فقد وقع الخلاف في حكم ادّخارها : فذهب جمهور العلماء من الصّحابة وغيرهم إلى جوازه ، ومنهم عمر وابنه وابن عبّاس وجابر . ويستدلّ لما ذهبوا إليه بآيات المواريث ؛ لأنّ اللّه جعل في تركة المتوفّي أنصباء لورثته ، وهذا لا يكون إلاّ إذا ترك المتوفّون أموالاً مدّخرةً ، كما يستدلّ لهم بحديث سعد بن أبي وقّاص المشهور « إنّك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكفّفون النّاس في أيديهم » . وهذا نصّ في أنّ ادّخار شيء للورثة بعد أداء الحقوق الماليّة الواجبة من زكاة وغيرها خير من عدم التّرك . وذهب أبو ذرّ الغفاريّ رضي الله عنه إلى أنّ ادّخار المال الزّائد عن حاجة صاحبه - من نفقته ونفقة عياله - هو ادّخار حرام وإن كان يؤدّي زكاته وكان رضي الله عنه يفتي بذلك ، ويحثّ النّاس عليه ، فنهاه معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما - وكان أميراً على الشّام - عن ذلك ؛ لأنّه خاف أن يضرّه النّاس في هذا ، فلم يترك دعوة النّاس إلى ذلك ، فشكاه إلى أمير المؤمنين عثمان بن عفّان ، فاستقدمه عثمان إلى المدينة المنوّرة ، وأنزله الرّبذة ، فبقي فيها إلى أن توفّاه اللّه تعالى . وكان أبو ذرّ رضي الله عنه يحتجّ لما ذهب إليه بجملة من الأدلّة ، منها قوله تعالى في سورة التّوبة : { والّذين يكنزون الذّهب والفضّة ولا ينفقونها في سبيل اللّه فبشّرهم بعذاب أليم } ، ويقول : إنّ هذه الآية محكمة غير منسوخة . ويحتجّ بما رواه الإمام أحمد في مسنده عن عليّ رضي الله عنه أنّه مات رجل من أهل الصّفّة ، وترك دينارين ، أو درهمين ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « كيّتان ، صلّوا على صاحبكم » وبما رواه ابن أبي حاتم عن ثوبان مولى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « ما من رجل يموت وعنده أحمر أو أبيض إلاّ جعل اللّه بكلّ قيراط صفحةً من نار يكوى بها من قدمه إلى ذقنه » . وعن ثوبان قال : « كنّا في سفر ونحن نسير مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فقال المهاجرون : لوددنا أنّا علمنا أيّ المال نتّخذه ، إذ نزل في الذّهب والفضّة ما نزل ، فقال عمر : إن شئتم سألت رسول اللّه عن ذلك ، فقالوا : أجل ، فانطلق ، فتبعته أوضع على بعيري ، فقال يا رسول اللّه : إنّ المهاجرين لمّا أنزل اللّه في الذّهب والفضّة ما أنزل قالوا : وددنا أنّا علمنا أيّ المال خير نتّخذه ، قال : نعم ، فيتّخذ أحدكم لساناً ذاكراً ، وقلباً شاكراً ، وزوجةً تعين أحدكم على إيمانه » .
9 - وذهب البعض إلى أنّ ادّخار الأموال يكون حراماً وإن أدّى المدّخر زكاتها إذا لم يؤدّ صاحبها الحقوق العارضة فيها ، كإطعام الجائع ، وفكّ الأسير وتجهيز الغازي ونحو ذلك . وذهب عليّ بن أبي طالب إلى أنّه لا يحلّ لرجل أن يدّخر أربعة آلاف درهم فما فوق وإن أدّى زكاتها ، وكان رضي الله عنه يقول : « أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة ، وما فوقها كنز » . وكأنّ عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه رأى أنّ القيام بالحاجات الأصليّة للمرء لا يتطلّب أكثر من أربعة آلاف درهم في أحسن الأحوال ، فإن حبس الشّخص مبلغاً أكبر من هذا فقد حبس خيره عن النّاس ، وعن الفقراء بشكل خاصّ ، وهو أمر لا يجوز ، فقد كان رضي الله عنه يقول : « إنّ اللّه فرض على الأغنياء في أموالهم ما يكفي فقراءهم ، وإن جاعوا وعروا وجهدوا فبمنع الأغنياء ، وحقّ على اللّه أن يحاسبهم يوم القيامة ويعذّبهم عليه .
صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
10 - يختلف حكم الادّخار باختلاف الباعث عليه : فإن كان ادّخار ما يتضرّر النّاس بحبسه طلباً للرّبح ، فذلك ممّا يدخل في باب الاحتكار ( ر : احتكار ) . وإن كان لتأمين حاجات نفسه وعياله فهو الادّخار . واتّفق الفقهاء على جواز الادّخار في الجملة دون تقييد بمدّة عند الجمهور ، وهو الأوجه عند الشّافعيّة - ولهم وجه آخر أنّه يكره ادّخار ما فضل عن كفايته لمدّة سنة . ودليلهم في ذلك : ما رواه البخاريّ في كتاب النّفقات عن عمر بن الخطّاب رضي الله عنه قال : « كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ينفق على أهله نفقة سنتهم من هذا المال ، ثمّ يأخذ ما بقي فيجعله مجعل مال اللّه ، فعمل بذلك رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حياته » . وبما رواه عمر بن الخطّاب رضي الله عنه « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يبيع نخل بني النّضير ويحبس ؛ لأهله قوت سنتهم » . على أنّ الحطّاب نقل عن النّوويّ إجماع العلماء على أنّه إن كان عند إنسان ( أي ما يحتاجه النّاس ) أو اضطرّ النّاس إليه ولم يجدوا غيره أجبر على بيعه دفعاً للضّرر عن النّاس . وهو ما يتّفق مع قاعدة : ( يتحمّل الضّرر الخاصّ لدفع ضرر عامّ ) .
ادّخار لحوم الأضاحيّ :
11 - يجوز ادّخار لحوم الأضاحيّ فوق ثلاث في قول عامّة أهل العلم . ولم يجزه عليّ ولا ابن عمر رضي الله عنهما ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى عن ادّخار لحوم الأضاحيّ فوق ثلاث . وللجمهور أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « كنت نهيتكم عن ادّخار لحوم الأضاحيّ فوق ثلاث فأمسكوا ما بدا لكم » رواه مسلم - وروت عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّما نهيتكم للدّافّة الّتي دفّت . فكلوا وتزوّدوا وتصدّقوا وادّخروا » . وقال أحمد فيه أسانيد صحاح . أمّا عليّ وابن عمر فلم يبلغهما ترخيص رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وقد كانوا سمعوا النّهي فرووا على ما سمعوا .
ادّخار الدّولة الضّروريّات لوقت الحاجة :
12 - إذا توقّعت الدّولة نزول نازلة بالمسلمين من جائحة أو قحط أو حرب أو نحو ذلك وجب عليها أن تدّخر لهم من الأقوات والضّروريّات ما ينهض بمصالحهم ، ويخفّف عنهم شدّة هذه النّازلة ، واستدلّ لذلك بقصّة يوسف عليه السلام مع ملك مصر . وقد قصّ اللّه تعالى علينا ذلك من غير نكير ، وليس في شرعنا ما يخالفه ، فقال جلّ شأنه : { يوسف أيّها الصّدّيق أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهنّ سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات لعلّي أرجع إلى النّاس لعلّهم يعلمون قال : تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلاّ قليلاً ممّا تأكلون ثمّ يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدّمتم لهنّ إلاّ قليلاً ممّا تحصنون } . قال القرطبيّ في تفسيره لهذه الآيات : « وهذا يدلّ على جواز احتكار الطّعام لوقت الحاجة » .
إخراج المدّخرات وقت الضّرورة :
13 - يتّفق الفقهاء على أنّ من ادّخر شيئاً من الأقوات الضّروريّة لنفسه أو لعياله واضطرّ إليه أحد غيره كان عليه بذله له إن لم يكن محتاجاً إليه حالاً ؛ لأنّ الضّرر لا يزال بالضّرر . ويأثم بإمساكه عنه مع استغنائه ، وإن كانوا قد اختلفوا هل يبذله له بالقيمة أو بدونها . ومحلّ تفصيل ذلك مصطلح : ( اضطرار ) . دليل وجوب الإخراج في هذه الحال من السّنّة ما رواه أبو سعيد الخدريّ رضي الله عنه أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال : « من كان عنده فضل زاد فليعد به على من لا زاد له » . وعن جابر بن عبد اللّه قال « : بعث رسول اللّه بعثاً قبل السّاحل فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجرّاح ، وهم ثلاثمائة وأنا فيهم ، فخرجنا حتّى إذا كنّا ببعض الطّريق فني الزّاد ، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش ، فجمع ذلك كلّه ، فكان مزودي تمر ، فكان يقوتنا كلّ يوم قليلاً قليلاً حتّى فني ، فلم يكن يصيبنا إلاّ تمرة تمرة ، فقلت : وما تغني تمرة ، فقال : لقد وجدنا فقدها حين فنيت » - أخرجه البخاريّ في أوّل كتاب الشّركة . قال في عمدة القاريّ : قال القرطبيّ : جمع أبي عبيدة الأزواد وقسمها بالسّويّة إمّا أن يكون حكماً حكم به لمّا شاهد من الضّرورة ، وخوفه من تلف من لم يبق معه زاد ، فظهر أنّه وجب على من معه أن يواسي من ليس له زاد ، أو يكون عن رضاً منهم ، وقد فعل ذلك غير مرّة سيّدنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم .
ادّخار غير الأقوات :
14 - ادّخار غير الأقوات الضّروريّة جائز بالاتّفاق كالأمتعة والأواني ونحو ذلك . وعلى الدّولة أن تدّخر من غير الضّروريّة ما قد ينقلب ضروريّاً في وقت من الأوقات كالخيل مثلاً والكراع والسّلاح ونحو ذلك ، فإنّه غير ضروريّ في أوقات السّلم ، ولكنّه يصبح ضروريّاً أيّام الحرب ، وعلى الدّولة بذله للمحتاج حين اضطراره إليه .
ادّعاء
انظر : دعوى .
ادّهان
التّعريف
1 - الادّهان في اللّغة : الاطّلاء بالدّهن ، والدّهن ما يدهن به من زيت وغيره . والاطّلاء أعمّ من الادّهان ؛ لأنّه يكون بالدّهن وغيره ، كالاطّلاء بالنّورة . ولا يخرج استعمال الفقهاء له عن المعنى اللّغويّ . الحكم الإجماليّ :
2 - الادّهان بالطّيب أو بغيره ممّا لا نجاسة فيه مستحبّ في الجملة بالنّسبة للإنسان ، إذ هو من التّجمّل المطلوب لكلّ مسلم ، وهو من الزّينة الّتي يشملها قول اللّه تعالى : { قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده } . وقد رويت في الحثّ على الادّهان أحاديث كثيرة ، منها قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « استاكوا عرضاً وادّهنوا غبّاً » وورد أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان يكثر دهن رأسه ولحيته . ويستحبّ أن يكون الادّهان غبّاً ، وهو أن يدهن ، ثمّ يترك حتّى يجفّ الدّهن ، ثمّ يدهن ثانياً ، وقيل : يدهن يوماً ويوماً لا . ويتأكّد استحباب الادّهان لصلاة الجمعة ، والعيد ، ومجامع النّاس . وسواء في ذلك الرّجال والصّبيان والعبيد ، إلاّ النّساء ، فلا يجوز لمن أراد منهنّ حضور الجمعة . ويستثنى من الحكم بعض الحالات الّتي يحرم فيها الادّهان أو يكره ، كحالات الإحرام بالحجّ أو العمرة والاعتكاف ، والصّوم ، والإحداد بالنّسبة للمرأة .
3 - أمّا الادّهان بالنّسبة لغير الإنسان ، كدهن الحبل ، والعجلة ، والسّفينة ، والنّعل ، وغير ذلك ، فهو جائز بما لا نجاسة فيه ، أمّا المتنجّس ففيه خلاف على أساس جواز الانتفاع بالمتنجّس أو عدم الانتفاع به . مواطن البحث :
4 - للادّهان أحكام متعدّدة في كثير من المسائل الفقهيّة مفصّلة أحكامها في أبوابها ، ومن ذلك ادّهان المحرم في باب الحجّ ، والمعتكف في باب الاعتكاف ، والصّائم في باب الصّوم ، والمحدّة في باب العدّة . كذلك الادّهان بالمتنجّس في باب الطّهارة والنّجاسة .
إدراك
التّعريف
1 - يطلق الإدراك في اللّغة ويراد به اللّحوق والبلوغ في الحيوان ، والثّمر ، والرّؤية . واسم المصدر منه الدّرك بفتح الرّاء . والمدرك بضمّ الميم يكون مصدراً واسم زمان ومكان ، تقول : أدركته مدركاً ، أي إدراكاً ، وهذا مدركه ، أي موضع إدراكه أو زمانه . وقد استعمل الفقهاء الإدراك في هذه المعاني اللّغويّة ، ومن ذلك قولهم : أدركه الثّمن ، أي لزمه ، وهو لحوق معنويّ ، وأدرك الغلام : أي بلغ الحلم ، وأدركت الثّمار : أي نضجت . والدّرك بفتحتين ، وسكون الرّاء لغة فيه : اسم من أدركت الشّيء ، ومنه ضمان الدّرك . ويطلق بعض الفقهاء الإدراك ويريد به الجذاذ . وقد استعمل الأصوليّون والفقهاء ( مدارك الشّرع ) بمعنى مواضع طلب الأحكام ، وهي حيث يستدلّ بالنّصوص ، كالاجتهاد ، فإنّه مدرك من مدارك الشّرع .
( الألفاظ ذات الصّلة )
اللاّحق والمسبوق :
2 - يفرّق بعض الفقهاء بين المدرك للصّلاة مثلاً واللاّحق بها والمسبوق ، مع أنّ الإدراك واللّحاق في اللّغة مترادفان . فالمدرك للصّلاة من صلاّها كاملةً مع الإمام ، أي أدرك جميع ركعاتها معه ، سواء أدرك التّحريمة أو أدركه في جزء من ركوع الرّكعة الأولى . واللاّحق من فاتته الرّكعات كلّها أو بعضها بعذر بعد اقتدائه . أمّا المسبوق فهو من سبقه الإمام بكلّ الرّكعات أو بعضها .
( الحكم الإجماليّ )
3 - يختلف الحكم الإجماليّ للإدراك تبعاً للاستعمالات الفقهيّة أو الأصوليّة ، فاستعماله الأصوليّ سبقت الإشارة إليه عند الكلام عن مدارك الشّريعة ، وتفصيله في الملحق الأصوليّ . أمّا الاستعمال الفقهيّ فيصدق على أمور عدّة . فإدراك الفريضة : اللّحوق بها وأخذ أجرها كاملاً عند إتمامها على الوجه الأكمل ، مع الخلاف بأيّ شيء يكون الإدراك . وإدراك فضيلة صلاة الجماعة عند جمهور الفقهاء يكون باشتراك المأموم مع الإمام في جزء من صلاته ، ولو آخر القعدة الأخيرة قبل السّلام ، فلو كبّر قبل سلام إمامه فقد أدرك فضل الجماعة . أمّا المالكيّة فعندهم تدرك الصّلاة ويحصل فضلها بإدراك ركعة كاملة مع الإمام .
4 - وفي المعاملات نجد في الجملة القاعدة التّالية : وهي أنّ من أدرك عين ماله عند آخر فهو أحقّ به من كلّ أحد ، إذا ثبت أنّه ملكه بالبيّنة ، أو صدّقه من في يده العين . ويندرج تحت هذه القاعدة مسألة ( ضمان الدّرك ) وهو الرّجوع بالثّمن عند استحقاق المبيع . فعند جمهور الفقهاء يصحّ ضمان الدّرك ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « من وجد عين ماله عند رجل فهو أحقّ به ، ويتبع البيع من باعه » ، ولكون الحاجة تدعو إليه . مواطن البحث :
5 - يبحث الفقهاء مصطلح ( إدراك ) في كثير من المواطن . فمسألة إدراك الصّلاة بحثت في الصّلاة عند الحديث عن إدراك ركعة في آخر الوقت : ( إدراك الفريضة ، صلاة الجمعة ، صلاة الجماعة ، صلاة الخوف ) ، ومسألة إدراك الوقوف بعرفة في الحجّ عند الحديث عن الوقوف بعرفة ، ومسألة زكاة الثّمرة إذا أدركت في الزّكاة عند الحديث عن زكاة الثّمار ، وضمان الدّرك عند الشّافعيّة في الضّمان ، وعند المالكيّة في البيع ، وعند الحنفيّة في الكفالة ، أمّا الحنابلة ويسمّونه عهدة المبيع - فبحثوه في السّلم ، عند الحديث عن أخذ الضّمان على عهدة المبيع ، ومسألة إدراك الغلام والجارية في الحجر ، عند الحديث عن بلوغ الغلام ، ومسألة بيع الثّمر على الشّجر قبل الإدراك وبعده في المساقاة ، عند الحديث عن إدراك الثّمر ، ومسألة إدراك الصّيد حيّاً في الصّيد والذّبائح .
إدلاء
التّعريف
1 - في اللّغة : أدلى الدّلو أرسلها في البئر ليستقي بها ، وأدلى بحجّته أحضرها ، وأدلى إليه بماله دفعه ، وأدلى إلى الميّت بالبنوّة وصل بها ، والإدلاء إرسال الدّلو في البئر ، ثمّ استعير في إرسال كلّ شيء مجازاً . ولا يخرج استعمال الفقهاء للإدلاء عن المعنى اللّغويّ . الحكم الإجماليّ ومواطن البحث :
2 - أغلب استعمال الفقهاء للفظ : ( إدلاء ) في بابي الإرث والحضانة ، فيذكرون الإدلاء بالنّسب وهم يقصدون الصّلة الّتي تصل الإنسان بالميّت أو بالمحضون ، ويقدّمون من يدلي بنفسه على من يدلي بغيره ، ومن يدلي بجهتين على من يدلي بجهة واحدة .
إدمان
انظر : خمر - مخدّر .
أذًى
التّعريف
1 - الأذى في اللّغة يطلق على الشّيء تكرهه ولا تقرّه ، ومنه القذر . ويطلق أيضاً على الأثر الّذي يتركه ذلك الشّيء إذا كان أثراً يسيراً ، جاء في تاج العروس عن الخطّابيّ : الأذى : المكروه اليسير . والأذى يرد في استعمال الفقهاء بهذين المعنيين أيضاً ، فهم يطلقونه على الشّيء المؤذي ، وقد ورد في حديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « وأدناها إماطة الأذى عن الطّريق » .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - الضّرر :
2 - الشّرّ عندما يكون يسيراً يسمّيه أهل اللّغة " أذًى " ، وعندما يكون جسيماً يسمّونه " ضرراً » . قال في تاج العروس : « الأذى : الشّرّ الخفيف ، فإن زاد فهو ضرر » . أمّا الفقهاء فإنّ استعمالهم العامّ لهاتين الكلمتين ( أذًى ، ضرر ) يدلّ على أنّهم يعتمدون هذا الفرق ويراعونه في كلامهم ، فهم يقولون : على الطّائف حول الكعبة ألاّ يؤذي في طوافه أحداً ، ويقولون : على المسلمين ألاّ يؤذوا أحداً من أهل الهدنة ما داموا في هدنتهم ، ونحو ذلك كثير في كتب الفقه . بينما هم يقولون : لا يجوز لمريض أن يفطر إن كان لا يتضرّر بالصّوم . ويقولون : ضمان الضّرر ، ولا يقولون : ضمان الأذى ، كما هو معروف في كتاب الضّمان من كتب الفقه . فنسبة الأذى للضّرر كنسبة الصّغائر إلى الكبائر . الحكم الإجماليّ ومواطن البحث : أ - الأذى بمعنى الضّرر البسيط :
3 - الأذى حرام ، وتركه واجب بالاتّفاق ما لم يعارض بما هو أشدّ ، فعندئذ يرتكب الأذى ، عملاً بالقاعدة المتّفق عليها : يرتكب أخفّ الضّررين لاتّقاء أشدّهما . وقد ذكر الفقهاء ذلك في مواطن كثيرة منها : كتاب الحجّ ، عند كلامهم على لمس الحجر الأسود ، وفي كتاب الرّقّ ، عند كلامهم على معاملة الرّقيق ، وفي كتاب الحظر والإباحة عند الحنفيّة الكثير من هذا القبيل .
ب - الأذى بمعنى الشّيء المؤذي :
4 - يندب إزالة الأشياء المؤذية للمسلمين أينما وجدت ، فقد اعتبر الرّسول صلى الله عليه وسلم إماطة الأذى عن الطّريق من الإيمان بقوله : « الإيمان بضع وسبعون شعبةً أفضلها لا إله إلاّ اللّه ، وأدناها إماطة الأذى عن الطّريق » . « وقال أبو برزة : يا رسول اللّه دلّني على عمل يدخلني الجنّة . قال : اعزل الأذى عن طريق المسلمين » . ومن أراد أن يمرّ بنبله في مكان يكثر فيه النّاس فعليه أن يمسك بنصله ؛ لئلاّ يؤذي أحداً من المسلمين . ومن رأى على أخيه أذًى فعليه أن يميطه عنه ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم : « إنّ أحدكم مرآة أخيه ، فإن رأى به أذًى فليمطه عنه » . والمولود يحلق شعره في اليوم السّابع ويماط عنه الأذى . ويقتل الحيوان المؤذي ولو وجد في الحرم ، كفّاً لأذاه عن النّاس .
5 - الأشياء المؤذية إذا وجدت في بلاد الحرب فإنّها لا تزال إضعافاً للكفّار المحاربين ، فلا يقتل الحيوان المؤذي في بلادهم ، كما نصّ على ذلك الفقهاء في كتاب الجهاد .
أذان
التّعريف
1 - الأذان لغةً : الإعلام ، قال اللّه تعالى : { وأذّن في النّاس بالحجّ } أي أعلمهم به وشرعاً : الإعلام بوقت الصّلاة المفروضة ، بألفاظ معلومة مأثورة ، على صفة مخصوصة . أو الإعلام باقترابه بالنّسبة للفجر فقط عند بعض الفقهاء .
( الألفاظ ذات الصّلة ) : أ - الدّعوة - النّداء :
2 - كلا اللّفظين يتّفق مع الأذان في المعنى العامّ وهو النّداء والدّعاء وطلب الإقبال .
ب - الإقامة :
3 - للإقامة في اللّغة معان عدّة ، منها الاستقرار ، والإظهار ، والنّداء وإقامة القاعد . وهي في الشّرع : إعلام بالقيام إلى الصّلاة بألفاظ معلومة مأثورة على صفة مخصوصة .
ج - التّثويب :
4 - التّثويب في اللّغة : الرّجوع ، وهو في الأذان : العود إلى الإعلام بعد الإعلام ، وهو زيادة عبارة : ( الصّلاة خير من النّوم ) مرّتين بعد الحيعلتين في أذان الصّبح عند جميع الفقهاء ، أو زيادة عبارة ( حيّ على الصّلاة حيّ على الفلاح ) بين الأذان والإقامة ، كما يقول الحنفيّة . صفته ( حكمه التّكليفيّ ) :
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأذان من خصائص الإسلام وشعائره الظّاهرة ، وأنّه لو اتّفق أهل بلد على تركه قوتلوا ، ولكنّهم اختلفوا في حكمه ، فقيل : إنّه فرض كفاية ، وهو الصّحيح عند كلّ من الحنابلة في الحضر والمالكيّة على أهل المصر ، واستظهره بعض المالكيّة في مساجد الجماعات ، وهو رأي للشّافعيّة ورواية عن الإمام أحمد . كذلك نقل عن بعض الحنفيّة أنّه واجب على الكفاية ، بناءً على اصطلاحهم في الواجب . واستدلّ القائلون بذلك بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا حضرت الصّلاة فليؤذّن لكم أحدكم وليؤمّكم أكبركم » ، والأمر هنا يقتضي الوجوب على الكفاية ؛ ولأنّه من شعائر الإسلام الظّاهرة ، فكان فرض كفاية كالجهاد وقيل : إنّه سنّة مؤكّدة وهو الرّاجح عند الحنفيّة ، والأصحّ عند الشّافعيّة وبه قال بعض المالكيّة للجماعة الّتي تنتظر آخرين ليشاركوهم في الصّلاة ، وفي السّفر على الصّحيح عند الحنابلة ، ومطلقاً في رواية عن الإمام أحمد ، وهي الّتي مشى عليها الخرقيّ . واستدلّ القائلون بذلك بقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم للأعرابيّ المسيء صلاته : افعل كذا وكذا ولم يذكر الأذان مع أنّه صلى الله عليه وسلم ذكر الوضوء واستقبال القبلة وأركان الصّلاة . وعلى كلا الرّأيين لو أنّ قوماً صلّوا بغير أذان صحّت صلاتهم وأثموا ، لمخالفتهم السّنّة وأمر النّبيّ صلى الله عليه وسلم . وقيل هو فرض كفاية في الجمعة دون غيرها وهو رأي للشّافعيّة والحنابلة ؛ لأنّه دعاء للجماعة ، والجماعة واجبة في الجمعة ، سنّة في غيرها عند الجمهور .
بدء مشروعيّة الأذان :
6 - شرع الأذان بالمدينة في السّنة الأولى من الهجرة على الأصحّ ؛ للأحاديث الصّحيحة الواردة في ذلك ، ومنها ما رواه مسلم عن عبد اللّه بن عمر أنّه قال : « كان المسلمون حين قدموا المدينة يجتمعون فيتحيّنون الصّلاة وليس ينادي بها أحد فتكلّموا يوماً في ذلك ، فقال بعضهم : اتّخذوا ناقوساً مثل ناقوس النّصارى ، وقال بعضهم : قرناً مثل قرن اليهود ، فقال عمر رضي الله عنه : أولا تبعثون رجلاً ينادي بالصّلاة ، فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : يا بلال قم فناد بالصّلاة » ، « ثمّ جاءت رؤيا عبد اللّه بن زيد قال : لمّا أمر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بالنّاقوس ليعمل حتّى يضرب به ليجتمع النّاس للصّلاة طاف بي وأنا نائم رجل يحمل ناقوساً ، فقلت له : يا عبد اللّه أتبيع النّاقوس ؟ فقال : ما تصنع به ؟ قلت : ندعو به للصّلاة ، فقال : ألا أدلّك على ما هو خير من ذلك ؟ ، قلت : بلى ، قال : تقول : اللّه أكبر اللّه أكبر ، فذكر الأذان والإقامة ، فلمّا أصبحت أتيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما رأيت ، فقال : إنّها لرؤيا حقّ إن شاء اللّه ، فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت فليؤذّن به » . وقيل : إنّ الأذان شرع في السّنة الثّانية من الهجرة . وقيل : إنّه شرع بمكّة قبل الهجرة ، وهو بعيد لمعارضته الأحاديث الصّحيحة . وقد اتّفقت الأمّة الإسلاميّة على مشروعيّة الأذان ، والعمل به جار منذ عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا بلا خلاف .
حكمة مشروعيّة الأذان :
7 - شرع الأذان للإعلام بدخول وقت الصّلاة ، وإعلاء اسم اللّه بالتّكبير ، وإظهار شرعه ورفعة رسوله ، ونداء النّاس إلى الفلاح والنّجاح . فضل الأذان :
8 - الأذان من خير الأعمال الّتي تقرّب إلى اللّه تعالى ، وفيه فضل كثير وأجر عظيم ، وقد وردت في فضله أحاديث كثيرة ، منها ما رواه أبو هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « لو يعلم النّاس ما في النّداء والصّفّ الأوّل ثمّ لم يجدوا إلاّ أن يستهموا عليه لاستهموا » . وقوله صلى الله عليه وسلم : « المؤذّنون أطول النّاس أعناقاً يوم القيامة » . وقد فضّله بعض فقهاء الحنابلة والمالكيّة والشّافعيّة على الإمامة للأخبار الّتي وردت فيه قالوا : ولم يتولّه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه لضيق وقتهم ، ولهذا قال عمر بن الخطّاب : لولا الخلافة لأذّنت .
9 - ونظراً لما فيه من فضل ودعوة الرّسول صلى الله عليه وسلم إلى الإقبال عليه فقد ذكر الفقهاء أنّه إذا تشاحّ أكثر من واحد على الأذان قدّم من توافرت فيه شرائط الأذان ، فإن تساووا أقرع بينهم ، كما ورد في الحديث السّابق . وقد تشاحّ النّاس في الأذان يوم القادسيّة فأقرع بينهم سعد .
ألفاظ الأذان :
10 - ألفاظ الأذان الّتي وردت في حديث عبد اللّه بن زيد في رؤياه الّتي قصّها على النّبيّ صلى الله عليه وسلم هي الّتي أخذ بها الحنفيّة والحنابلة وهي : اللّه أكبر اللّه أكبر ، اللّه أكبر اللّه أكبر ، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، أشهد أن لا إله إلاّ اللّه ، أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه ، أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه ، حيّ على الصّلاة ، حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح ، حيّ على الفلاح اللّه أكبر اللّه أكبر ، لا إله إلاّ اللّه . هكذا حكى عبد اللّه بن زيد أذان ( الملك ) النّازل من السّماء ، ووافقه عمر وجماعة من الصّحابة ، فقال له رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : فقم مع بلال فألق عليه ما رأيت ، فليؤذّن به فإنّه أندى صوتاً منك " وأخذ الشّافعيّة بحديث أبي محذورة ، وهو بنفس الألفاظ الّتي وردت في حديث عبد اللّه بن زيد ، مع زيادة التّرجيع . وذهب المالكيّة وأبو يوسف ومحمّد بن الحسن من الحنفيّة إلى أنّ التّكبير في أوّل الأذان مرّتان فقط مثل آخره وليس أربعاً ؛ لأنّه عمل السّلف بالمدينة ، ولرواية أخرى عن عبد اللّه بن زيد فيها التّكبير في أوّل الأذان مرّتين فقط .
التّرجيع في الأذان :
11 - التّرجيع هو أن يخفض المؤذّن صوته بالشّهادتين مع إسماعه الحاضرين ، ثمّ يعود فيرفع صوته بهما . وهو مكروه تنزيهاً في الرّاجح عند الحنفيّة ؛ لأنّ بلالاً لم يكن يرجّع في أذانه ، ولأنّه ليس في أذان الملك النّازل من السّماء . وهو سنّة عند المالكيّة وفي الصّحيح عند الشّافعيّة ؛ لوروده في حديث أبي محذورة ، وهي الصّفة الّتي علّمها له النّبيّ صلى الله عليه وسلم ، وعليها السّلف والخلف . وقال الحنابلة : إنّه مباح ولا يكره الإتيان به لوروده في حديث أبي محذورة . وبهذا أيضاً قال بعض الحنفيّة والثّوريّ وإسحاق ، وقال القاضي حسين من الشّافعيّة : إنّه ركن في الأذان .
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
التّثويب :
12 - التّثويب هو أن يزيد المؤذّن عبارة ( الصّلاة خير من النّوم ) مرّتين بعد الحيعلتين في أذان الفجر ، أو بعد الأذان كما يقول بعض الحنفيّة ، وهو سنّة عند جميع الفقهاء ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي محذورة : فإذا كان صلاة الصّبح قلت : الصّلاة خير من النّوم ، الصّلاة خير من النّوم » ، كذلك « لمّا أتى بلال رضي الله عنه النّبيّ صلى الله عليه وسلم يؤذنه بالصّبح فوجده راقداً فقال : الصّلاة خير من النّوم مرّتين ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : ما أحسن هذا يا بلال ، اجعله في أذانك » . وخصّ التّثويب بالصّبح لما يعرض للنّائم من التّكاسل بسبب النّوم . وأجاز بعض الحنفيّة وبعض الشّافعيّة التّثويب في الصّبح والعشاء ؛ لأنّ العشاء وقت غفلة ونوم كالفجر وأجازه بعض الشّافعيّة في جميع الأوقات ؛ لفرط الغفلة على النّاس في زماننا ، وهو مكروه في غير الفجر عند المالكيّة والحنابلة ، وهو المذهب عند الحنفيّة والشّافعيّة ، وذلك لما روي عن بلال أنّه قال : « أمرني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أثوّب في الفجر ونهاني أن أثوّب في العشاء » . ودخل ابن عمر مسجداً يصلّي فيه فسمع رجلاً يثوّب في أذان الظّهر فخرج ، فقيل له : أين ؟ فقال : أخرجتني البدعة . هذا هو التّثويب الوارد في السّنّة .
13 - وقد استحدث علماء الكوفة من الحنفيّة بعد عهد الصّحابة تثويباً آخر ، وهو زيادة الحيعلتين أي عبارة " حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح " مرّتين بين الأذان والإقامة في الفجر ، واستحسنه متقدّمو الحنفيّة في الفجر فقط ، وكره عندهم في غيره ، والمتأخّرون منهم استحسنوه في الصّلوات كلّها - إلاّ في المغرب لضيق الوقت - وذلك لظهور التّواني في الأمور الدّينيّة وقالوا : إنّ التّثويب بين الأذان والإقامة في الصّلوات يكون بحسب ما يتعارفه أهل كلّ بلد ، بالتّنحنح ، أو الصّلاة ، الصّلاة ، أو غير ذلك . كذلك استحدث أبو يوسف جواز التّثويب ؛ لتنبيه كلّ من يشتغل بأمور المسلمين ومصالحهم ، كالإمام والقاضي ونحوهما ، فيقول المؤذّن بعد الأذان : السّلام عليك أيّها الأمير ، حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح ، الصّلاة يرحمك اللّه وشارك أبا يوسف في هذا الشّافعيّة وبعض المالكيّة ، وكذلك الحنابلة إن لم يكن الإمام ونحوه قد سمع الأذان ، واستبعده محمّد بن الحسن ؛ لأنّ النّاس سواسية في أمر الجماعة وشاركه في ذلك بعض المالكيّة .
14 - وأمّا ما يقوم به بعض المؤذّنين من التّسبيح والدّعاء والذّكر في آخر اللّيل فقد اعتبره بعض فقهاء المالكيّة بدعةً حسنةً ، وقال عنه الحنابلة : إنّه من البدع المكروهة ، ولا يلزم فعله ولو شرطه الواقف لمخالفته السّنّة .
الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد الأذان :
15 - يرى الشّافعيّة والحنابلة أنّ الصّلاة على النّبيّ صلى الله عليه وسلم من المؤذّن بعد الأذان سنّة ، وعندهم يسنّ للمؤذّن متابعة قوله سرّاً مثله كالمستمع ليجمع بين أداء الأذان والمتابعة ، وروي عن الإمام أحمد أنّه كان إذا أذّن فقال كلمةً من الأذان قال مثلها سرّاً ؛ ليكون ما يظهره أذاناً ودعاءً إلى الصّلاة ، وما يسرّه ذكراً للّه تعالى فيكون بمنزلة من سمع الأذان . بذلك يمكن أن يشمل المؤذّن الأمر الوارد في قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول ، ثمّ صلّوا عليّ فإنّه من صلّى عليّ صلاةً صلّى اللّه عليه بها عشراً ، ثمّ سلوا اللّه لي الوسيلة فإنّها منزلة في الجنّة لا ينبغي أن تكون إلاّ لعبد من عباد اللّه وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل اللّه لي الوسيلة حلّت عليه الشّفاعة » . واعتبره الحنفيّة والمالكيّة بدعةً حسنةً وقد ذكر الشّيخ أحمد البشبيشيّ في رسالته المسمّاة بالتّحفة السّنّيّة في أجوبة الأسئلة المرضيّة أنّ أوّل ما زيدت الصّلاة والسّلام على النّبيّ صلى الله عليه وسلم بعد كلّ أذان على المنارة زمن السّلطان المنصور حاجي بن الأشرف شعبان وذلك في شعبان سنة 791 هـ وكان قد حدث قبل ذلك في أيّام السّلطان يوسف صلاح الدّين بن أيّوب أن يقال قبل أذان الفجر في كلّ ليلة بمصر والشّام : السّلام عليك يا رسول اللّه واستمرّ ذلك إلى سنة 777 هـ فزيد فيه بأمر المحتسب صلاح الدّين البرلّسيّ أن يقال : الصّلاة والسّلام عليك يا رسول اللّه ثمّ جعل ذلك عقب كلّ أذان سنة ( 791 ) هـ .
النّداء بالصّلاة في المنازل :
16 - يجوز للمؤذّن أن يقول عند شدّة المطر أو الرّيح أو البرد : ألا صلّوا في رحالكم ، ويكون ذلك بعد الأذان ، وقد روي أنّ ابن عمر أذّن بالصّلاة في ليلة ذات برد وريح ، ثمّ قال : ألا صلّوا في الرّحال ، ثمّ قال : « إنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يأمر المؤذّن إذا كانت ليلة ذات برد ومطر أن يقول : ألا صلّوا في الرّحال » ، وروي أيضاً أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إذا ابتلّت النّعال فالصّلاة في الرّحال » .
شرائط الأذان
يشترط في الأذان للصّلاة ما يأتي : دخول وقت الصّلاة :
17 - دخول وقت الصّلاة المفروضة شرط للأذان ، فلا يصحّ الأذان قبل دخول الوقت - إلاّ في الأذان لصلاة الفجر على ما سيأتي - لأنّ الأذان شرع للإعلام بدخول الوقت ، فإذا قدّم على الوقت لم يكن له فائدة ، وإذا أذّن المؤذّن قبل الوقت أعاد الأذان بعد دخول الوقت ، إلاّ إذا صلّى النّاس في الوقت وكان الأذان قبله فلا يعاد . وقد روي « أنّ بلالاً أذّن قبل طلوع الفجر فأمره النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يرجع فينادي : ألا إنّ العبد قد نام ، فرجع فنادى : ألا إنّ العبد قد نام » . والمستحبّ إذا دخل الوقت أن يؤذّن في أوّله ، ليعلم النّاس فيأخذوا أهبتهم للصّلاة ، وكان بلال لا يؤخّر الأذان عن أوّل الوقت أمّا بالنّسبة للفجر فذهب مالك والشّافعيّ وأحمد وأبو يوسف من الحنفيّة إلى أنّه يجوز الأذان للفجر قبل الوقت ، في النّصف الأخير من اللّيل عند الشّافعيّة والحنابلة وأبي يوسف ، وفي السّدس الأخير عند المالكيّة . ويسنّ الأذان ثانياً عند دخول الوقت لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إنّ بلالاً يؤذّن بليل فكلوا واشربوا حتّى يؤذّن ابن أمّ مكتوم » . وعند الحنفيّة - غير أبي يوسف - لا يجوز الأذان لصلاة الفجر إلاّ عند دخول الوقت ، ولا فرق بينها وبين غيرها من الصّلوات ؛ لما روى شدّاد مولى عياض بن عامر أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لبلال : « لا تؤذّن حتّى يستبين لك الفجر » .
18 - وأمّا الجمعة فمثل باقي الصّلوات لا يجوز الأذان لها قبل دخول الوقت ، وللجمعة أذانان ، أوّلهما عند دخول الوقت ، وهو الّذي يؤتى به من خارج المسجد - على المئذنة ونحوها - وقد أمر به سيّدنا عثمان رضي الله عنه حين كثر النّاس . والثّاني وهو الّذي يؤتى به إذا صعد الإمام على المنبر ، ويكون داخل المسجد بين يدي الخطيب ، وهذا هو الّذي كان في عهد النّبيّ صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر وعمر حتّى أحدث عثمان الأذان الثّاني . وكلا الأذانين مشروع إلاّ ما روي عن الشّافعيّ من أنّه استحبّ أن يكون للجمعة أذان واحد عند المنبر . هذا وقد اختلف الفقهاء فيما يتعلّق بأذاني الجمعة من أحكام وأيّهما المعتبر في تحريم البيع ( ر : بيع ، وصلاة الجمعة ) .
النّيّة في الأذان :
19 - نيّة الأذان شرط لصحّته عند المالكيّة والحنابلة لحديث : « إنّما الأعمال بالنّيّات » ، ولذلك لو أخذ شخص في ذكر اللّه بالتّكبير ثمّ بدا له عقب ما كبّر أن يؤذّن فإنّه يبتدئ الأذان من أوّله ، ولا يبني على ما قال . والنّيّة ليست شرطاً عند الشّافعيّة على الأرجح ولكنّها مندوبة ، إلاّ أنّه يشترط عندهم عدم الصّارف فلو قصد تعليم غيره لم يعتدّ به . أمّا الحنفيّة فلا تشترط عندهم النّيّة لصحّة الأذان وإن كانت شرطاً للثّواب عليه .
أداء الأذان باللّغة العربيّة :
20 - اشترط الحنفيّة والحنابلة كون الأذان باللّفظ العربيّ على الصّحيح ولا يصحّ الإتيان به بأيّ لغة أخرى ولو علم أنّه أذان . أمّا الشّافعيّة فعندهم إن كان يؤذّن لجماعة وفيهم من يحسن العربيّة لم يجز الأذان بغيرها ، ويجزئ إن لم يوجد من يحسنها ، وإن كان يؤذّن لنفسه فإن كان يحسن العربيّة لا يجزئه الأذان بغيرها وإن كان لا يحسنها أجزأه . ولم يظهر للمالكيّة نصّ في هذه المسألة .
خلوّ الأذان من اللّحن :
21 - اللّحن الّذي يغيّر المعنى في الأذان كمدّ همزة اللّه أكبر أو بائه يبطل الأذان ، فإن لم يغيّر المعنى فهو مكروه وهذا عند الجمهور ، وهو مكروه عند الحنفيّة قال ابن عابدين : اللّحن الّذي يغيّر الكلمات لا يحلّ فعله .
التّرتيب بين كلمات الأذان :
22 - يقصد بالتّرتيب أن يأتي المؤذّن بكلمات الأذان على نفس النّظم والتّرتيب الوارد في السّنّة دون تقديم أو تأخير لكلمة أو جملة على الأخرى ، ومذهب الجمهور أنّ التّرتيب عندهم واجب فإن فعل المؤذّن ذلك استأنف الأذان من أوّله ؛ لأنّ ترك التّرتيب يخلّ بالإعلام المقصود ، ولأنّه ذكر يعتدّ به فلا يجوز الإخلال بنظمه ، وقيل : إنّه يجوز أن يبني على المنتظم منه ، فلو قدّم الشّهادة بالرّسالة على الشّهادة بالتّوحيد أعاد الشّهادة بالرّسالة ، وإن كان الاستئناف أولى . أمّا الحنفيّة فعندهم التّرتيب سنّة ، فلو قدّم في الأذان جملةً على الأخرى أعاد ما قدّم فقط ولا يستأنفه من أوّله .
الموالاة بين ألفاظ الأذان :
23 - الموالاة في الأذان هي المتابعة بين ألفاظه بدون فصل بقول أو فعل ، ومن الفصل بين ألفاظه ما يحدث دون إرادة كالإغماء أو الرّعاف أو الجنون . والفصل بين كلمات الأذان بأيّ شيء كسكوت أو نوم أو كلام أو إغماء أو غيره ، إن كان يسيراً فلا يبطل الأذان ويبني على ما مضى ، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة ، أمّا عند الشّافعيّة فيسنّ استئناف الأذان في غير السّكوت والكلام . هذا مع اتّفاق الفقهاء على كراهة الكلام اليسير إن كان لغير سبب أو ضرورة . أمّا إذا طال الفصل بين كلمات الأذان بكلام كثير ، ولو مضطرّاً إليه كإنقاذ أعمى ، أو نوم طويل أو إغماء أو جنون فيبطل الأذان ويجب استئنافه ، وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة وهو طريقة الخراسانيّين من الشّافعيّة ، قال الرّافعيّ : والأشبه وجوب الاستئناف عند طول الفصل ، وقطع العراقيّون من الشّافعيّة بعدم البطلان مع استحباب الاستئناف . وألحق الحنابلة بحالات بطلان الأذان ووجوب استئنافه الفصل بالكلام اليسير الفاحش كالشّتم والقذف .
رفع الصّوت بالأذان :
24 - أوجب الشّافعيّة والحنابلة رفع الصّوت بالأذان ؛ ليحصل السّماع المقصود للأذان ، وهو كذلك رأي للحنفيّة ، وهذا إذا كان الغرض إعلام غير الحاضرين بصلاة الجماعة ، أمّا من يؤذّن لنفسه أو لحاضر معه فلا يشترط رفع الصّوت به إلاّ بقدر ما يسمع نفسه أو يسمعه الحاضر معه ، وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي سعيد الخدريّ « إنّي أراك تحبّ الغنم والبادية ، فإذا كنت في غنمك وباديتك فأذّنت بالصّلاة فارفع صوتك بالنّداء ، فإنّه لا يسمع مدى صوت المؤذّن جنّ ولا إنس إلاّ شهد له يوم القيامة » وهو سنّة عند المالكيّة وهو الرّاجح عند الحنفيّة ، فإنّ « النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لعبد اللّه بن زيد : علّمه بلالاً فإنّه أندى وأمدّ صوتاً منك » .
25 - هذا وقد اتّفق الفقهاء على أنّه لا ينبغي أن يجهد المؤذّن نفسه بما فوق طاقته مبالغةً في رفع صوته بالأذان خشية حدوث بعض الأمراض له .
26 - ولكي يكون الأذان مسموعاً ومحقّقاً للغرض منه استحبّ الفقهاء أن يكون الأذان من فوق مكان مرتفع يساعد على انتشار الصّوت بحيث يسمعه أكبر عدد ممكن من النّاس كالمئذنة ونحوها .
سنن الأذان استقبال القبلة :
27 - يسنّ استقبال القبلة حال الأذان ، وهو مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، وهو الرّاجح عند المالكيّة ، ولو ترك الاستقبال يجزئه ويكره ، لتركه السّنّة المتواترة ؛ لأنّ مؤذّني النّبيّ صلى الله عليه وسلم كانوا يؤذّنون مستقبلي القبلة ، وجاز عند بعض كلّ من المالكيّة والحنابلة الدّوران حال الأذان إذا كان ذلك أسمع لصوته ، لأنّ المقصود هو الإعلام ، وعند الحنفيّة وبعض المالكيّة إذا لم يتمّ الإعلام بتحويل وجهه عند الحيعلتين فقط مع ثبات قدميه فإنّه يستدير بجسمه في المئذنة . وعند الحيعلتين أي قوله ( حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح ) يسنّ أن يلتفت المؤذّن فيحوّل وجهه - فقط دون استدارة جسمه - يميناً ويقول : حيّ على الصّلاة مرّتين ، ثمّ يحوّل وجهه شمالاً وهو يقول : حيّ على الفلاح مرّتين ، هكذا كان أذان بلال وبهذا قال الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة .
التّرسّل أو التّرتيل :
28 - التّرسّل هو التّمهّل والتّأنّي ، ويكون بسكتة - تسع الإجابة - بين كلّ جملتين من جمل الأذان ، على أن يجمع بين كلّ تكبيرتين بصوت ويفرد باقي كلماته ؛ للأمر بذلك في قول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا أذّنت فترسّل » ، ولأنّ المقصود من الأذان هو إعلام الغائبين بدخول وقت الصّلاة ، والتّرسّل أبلغ في ذلك من الإسراع وقد لخصّ ابن عابدين ما في مسألة حركة راء التّكبيرات فقال " الحاصل أنّ التّكبيرة الثّانية في الأذان ساكنة الرّاء للوقف حقيقةً ورفعها خطأ ، وأمّا التّكبيرة الأولى من كلّ تكبيرتين منه وجميع تكبيرات الإقامة فقيل محرّكة الرّاء بالفتحة على نيّة الوقف ، وقيل بالضّمّة إعراباً ، وقيل ساكنة بلا حركة على ما هو ظاهر كلام الأمداد والزّيلعيّ والبدائع وجماعة من الشّافعيّة ، والّذي يظهر الإعراب لما ذكره عن الطّلبة ، ولما في الأحاديث المشتهرة للجراحيّ أنّه سئل السّيوطيّ عن هذا الحديث فقال هو غير ثابت كما قال الحافظ ابن حجر ، وإنّما هو من قول إبراهيم النّخعيّ ، ومعناه كما قال جماعة منهم الرّافعيّ وابن الأثير أنّه لا يمدّ . وإطلاق الجزم على حذف الحركة الإعرابيّة لم يكن معهوداً في الصّدر الأوّل ، وإنّما هو اصطلاح حادث فلا يصحّ الحمل عليه » .
صفات المؤذّن ما يشترط فيه من الصّفات : الإسلام :
29 - إسلام المؤذّن شرط لصحّته ، فلا يصحّ أذان الكافر ؛ لأنّه ليس من أهل العبادة ؛ ولأنّه لا يعتقد الصّلاة الّتي يعتبر الأذان دعاءً لها ، فإتيانه بالأذان ضرب من الاستهزاء ، وهذا باتّفاق ، ولا يعتدّ بأذانه ، وفي حكم إسلامه لو أذّن ينظر مصطلح : ( إسلام ) .
الذّكورة :
30 - من الشّروط الواجبة في المؤذّن أن يكون رجلاً ، فلا يصحّ أذان المرأة ؛ لأنّ رفع صوتها قد يوقع في الفتنة ، وهذا عند الجمهور في الجملة ، ولا يعتدّ بأذانها لو أذّنت . واعتبر الحنفيّة الذّكورة من السّنن ، وكرهوا أذان المرأة ، واستحبّ الإمام أبو حنيفة إعادة الأذان لو أذّنت ، وفي البدائع : لو أذّنت للقوم أجزأ ، ولا يعاد ، لحصول المقصود ، وأجاز بعض الشّافعيّة أذانها لجماعة النّساء دون رفع صوتها .
العقل :
31 - يشترط في المؤذّن أن يكون عاقلاً ، فلا يصحّ الأذان من مجنون وسكران لعدم تمييزهما ، ويجب إعادة الأذان لو وقع منهما ؛ لأنّ كلامهما لغو ، وليسا في الحال من أهل العبادة ، وهذا عند الجمهور ، وكره الحنفيّة أذان غير العاقل ، واستحبّ في ظاهر الرّواية إعادة أذانه .
البلوغ :
32 - الصّبيّ غير العاقل ( أي غير المميّز ) لا يجوز أذانه باتّفاق ؛ لأنّ ما يصدر منه لا يعتدّ به ، أمّا الصّبيّ المميّز فيجوز أذانه عند الحنفيّة ( مع كراهته عند أبي حنيفة ) والشّافعيّة ، وهو إحدى الرّوايتين عند الحنابلة ، وهو أيضاً مذهب المالكيّة إذا اعتمد على بالغ عدل في معرفة دخول الوقت .
ما يستحبّ أن يتّصف به المؤذّن :
33 - يستحبّ أن يكون المؤذّن طاهراً من الحدث الأصغر والأكبر ؛ لأنّ الأذان ذكر معظّم ، فالإتيان به مع الطّهارة أقرب إلى التّعظيم ، ولحديث أبي هريرة مرفوعاً : « لا يؤذّن إلاّ متوضّئ » ، ويجوز أذان المحدث مع الكراهة بالنّسبة للحدث الأكبر عند جميع الفقهاء ، وعند المالكيّة والشّافعيّة بالنّسبة للحدث الأصغر كذلك .
34 - ويستحبّ أن يكون عدلاً ؛ لأنّه أمين على المواقيت ، وليؤمّن نظره إلى العورات . ويصحّ أذان الفاسق مع الكراهة ، وفي وجه عند الحنابلة لا يعتدّ بأذان ظاهر الفسق ؛ لأنّه لا يقبل خبره ، وفي الوجه الآخر يعتدّ بأذانه ؛ لأنّه تصحّ صلاته بالنّاس ، فكذا أذانه .
35 - ويستحبّ أن يكون صيّتاً ، أي حسن الصّوت ، « لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن زيد : فقم مع بلال ، فألق عليه ما رأيت ، فإنّه أندى صوتاً منك » ؛ ولأنّه أبلغ في الإعلام ، هذا مع كراهة التّمطيط والتّطريب .
36 - ويستحبّ أن يجعل أصبعيه في أذنيه حال الأذان ؛ لما روي « أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً بذلك وقال : إنّه أرفع لصوتك » .
37 - ويستحبّ أن يؤذّن قائماً ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم لبلال : « قم فأذّن بالصّلاة » ، قال ابن المنذر : أجمع كلّ من نحفظ عنه أنّه من السّنّة ؛ لأنّه أبلغ في الإسماع . ولا يؤذّن قاعداً إلاّ لعذر ، أو كان الأذان لنفسه كما يقول الحنفيّة ، ويكره أن يؤذّن راكباً إلاّ في سفر ، وأجاز أبو يوسف والمالكيّة أذان الرّاكب في الحضر 38 - ويستحبّ أن يكون عالماً بأوقات الصّلاة ؛ ليتحرّاها فيؤذّن في أوّلها ، حتّى كان البصير أفضل من الضّرير ، لأنّ الضّرير لا علم له بدخول الوقت 39 - ويستحبّ أن يكون المؤذّن هو المقيم ؛ لما ورد في حديث « زياد بن الحارث الصّدائيّ ، حين أذّن فأراد بلال أن يقيم ، فقال النّبيّ صلى الله عليه وسلم : إنّ أخا صداء قد أذّن ، ومن أذّن فهو يقيم » .
40 - ويستحبّ أن يؤذّن محتسباً ، ولا يأخذ على الأذان أجراً ؛ لأنّه استئجار على الطّاعة ، وقد ورد في الخبر : « من أذّن سبع سنين محتسباً كتبت له براءة من النّار » ، وإذا لم يوجد متطوّع رزق الإمام من بيت المال من يقوم به ؛ لحاجة المسلمين إليه . 41 - وبالنّسبة للإجارة على الأذان فقد أجازه متأخّرو الحنفيّة ، للحاجة إليه ، وأجازه كذلك الإمام مالك وبعض الشّافعيّة ، وهو رواية عن الإمام أحمد ( ر : إجارة ) .
ما يشرع له الأذان من الصّلوات :
42 - الأصل أنّ الأذان شرع للصّلوات المفروضة في حال الحضر والسّفر والجماعة والانفراد ، أداءً وقضاءً ، وهذا باتّفاق ، إلاّ ما قاله المالكيّة من أنّه يكره الأذان للفائتة ، وما قاله بعضهم من أنّه لا أذان في الحضر للمنفرد ، وللجماعة غير المسافرة المجتمعين بموضع ولا يريدون دعاء غيرهم ؛ لأنّ الأذان إنّما جعل ليدعى به الغائب ، ولا غائب حتّى يدعى . ويندب لهم الأذان في السّفر ويتفرّع على هذا الأصل بعض الفروع الّتي اختلف فيها الفقهاء وهي : الأذان للفوائت :
43 - سبق أنّ مذهب المالكيّة كراهة الأذان للفوائت ، وأمّا غيرهم فإنّ الفائتة الواحدة يؤذّن لها عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة ؛ لما روى أبو قتادة الأنصاريّ رضي الله عنه وفيه قال : « فمال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عن الطّريق ، فوضع رأسه ، ثمّ قال : احفظوا علينا صلاتنا ، فكان أوّل من استيقظ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والشّمس في ظهره . قال : فقمنا فزعين . ثمّ قال : اركبوا فركبنا ، فسرنا ، حتّى إذا ارتفعت الشّمس نزل . ثمّ دعا بميضأة كانت معي فيها شيء من ماء . قال فتوضّأ منها وضوءاً دون وضوء . قال : وبقي فيها شيء من ماء . ثمّ قال لأبي قتادة : احفظ علينا ميضأتك ، فسيكون لها نبأ ثمّ أذّن بلال بالصّلاة ، فصلّى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ركعتين ، ثمّ صلّى الغداة ، فصنع كما كان يصنع كلّ يوم » .
44 - أمّا إذا تعدّدت الفوائت فعند الحنفيّة : الأولى أن يؤذّن ويقيم لكلّ صلاة ، وعند الحنابلة وهو المعتمد عند الشّافعيّة يستحبّ أن يؤذّن للأولى فقط ويقيم لما بعدها ، وذلك جائز عند الحنفيّة أيضاً . وقد اختلفت الرّوايات في قضاء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم الصّلوات الّتي فاتته يوم الخندق ، ففي بعضها أنّه أمر بلالاً ، فأذّن وأقام لكلّ صلاة ، وفي بعضها أنّه أذّن وأقام للأولى ، ثمّ أقام لكلّ صلاة بعدها ، وفي بعضها أنّه اقتصر على الإقامة لكلّ صلاة . وبهذه الرّواية الأخيرة أخذ الشّافعيّ على ما جاء في الأمّ ، ولكن المعتمد في المذهب خلاف ذلك ، وورد عن الشّافعيّ في الإملاء أنّه إن أمل اجتماع النّاس أذّن وأقام ، وإن لم يؤمّل أقام ؛ لأنّ الأذان يراد لجمع النّاس ، فإذا لم يؤمل الجمع لم يكن للأذان وجه .
الأذان للصّلاتين المجموعتين :
45 - إذا جمعت صلاتان في وقت إحداهما ، كجمع العصر مع الظّهر في وقت الظّهر بعرفة ، وكجمع المغرب مع العشاء بمزدلفة ، فإنّه يؤذّن للأولى فقط ؛ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « صلّى المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان وإقامتين » . وهذا عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو المعتمد عند الشّافعيّة ، وهو قول بعض المالكيّة ، ولكن الأشهر عندهم أنّه يؤذّن لكلّ صلاة منهما .
الأذان في مسجد صلّيت فيه الجماعة
46 - لو أقيمت جماعة في مسجد فحضر قوم لم يصلّوا فالصّحيح عند الشّافعيّة أنّه يسنّ لهم الأذان دون رفع الصّوت لخوف اللّبس - سواء أكان المسجد مطروقاً أم غير مطروق ، وعند الحنابلة يستوي الأمر ، إن أرادوا أذّنوا وأقاموا ، وإلاّ صلّوا بغير أذان ، وقد روي عن أنس أنّه دخل مسجداً قد صلّوا فيه فأمر رجلاً فأذّن وأقام فصلّى بهم في جماعة . ويفصّل الحنفيّة فيقولون : إن كان المسجد له أهل معلومون وصلّى فيه غير أهله بأذان وإقامة لا يكره لأهله أن يعيدوا الأذان والإقامة إذا صلّوا ، وإن صلّى فيه أهله بأذان وإقامة أو بعض أهله يكره لغير أهله وللباقين من أهله أن يعيدوا الأذان والإقامة إذا صلّوا ، وإن كان المسجد ليس له أهل معلومون بأن كان على الطّريق لا يكره تكرار الأذان والإقامة فيه . ويقول المالكيّة : من أتى بعد صلاة الجماعة صلّى بغير أذان .
تعدّد المؤذّنين :
47 - يجوز أن يتعدّد المؤذّن في المسجد الواحد ، ولا يستحبّ الزّيادة على اثنين ؛ لأنّ الّذي حفظ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه كان له مؤذّنان بلال وابن أمّ مكتوم ، إلاّ أن تدعو الحاجة إلى الزّيادة عليهما فيجوز ، فقد روي عن عثمان أنّه كان له أربعة مؤذّنين ، وإن دعت الحاجة إلى أكثر من ذلك كان مشروعاً . وكيفيّة أذانهم أنّه إذا كان الواحد يسمع النّاس فالمستحبّ أن يؤذّن واحد بعد واحد ، لأنّ مؤذّني النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان أحدهما يؤذّن بعد الآخر ، وإذا كان الإعلام لا يحصل بواحد أذّنوا بحسب ما يحتاج إليه ، إمّا أن يؤذّن كلّ واحد في منارة أو ناحية أو أذّنوا دفعةً واحدةً في موضع واحد ، وإن خافوا من تأذين واحد بعد الآخر فوات أوّل الوقت أذّنوا جميعاً دفعةً واحدةً .
ما يعلن به عن الصّلوات الّتي لم يشرع لها الأذان :
48 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأذان إنّما شرع للصّلوات المفروضة ، ولا يؤذّن لصلاة غيرها كالجنازة والوتر والعيدين وغير ذلك ؛ لأنّ الأذان للإعلام بدخول وقت الصّلاة ، والمكتوبات هي المخصّصة بأوقات معيّنة ، والنّوافل تابعة للفرائض ، فجعل أذان الأصل أذاناً للتّبع تقديراً ، أمّا صلاة الجنازة فليست بصلاة على الحقيقة ، إذ لا قراءة فيها ولا ركوع ولا سجود . وممّا ورد في ذلك ما في مسلم عن جابر بن سمرة قال : « صلّيت مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم العيد غير مرّة ولا مرّتين بغير أذان ولا إقامة » .
49 - أمّا كيفيّة النّداء لهذه الصّلوات الّتي لا أذان لها فقد ذكر الشّافعيّة أنّه بالنّسبة للعيدين والكسوف والاستسقاء والتّراويح إذا صلّيت جماعةً - وفي وجه للشّافعيّة بالنّسبة لصلاة الجنازة - فإنّه ينادى لها : الصّلاة جامعة ، وهو رأي الحنابلة بالنّسبة للعيد والكسوف والاستسقاء ، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة بالنّسبة لصلاة الكسوف ، وعند بعض المالكيّة بالنّسبة لصلاة العيدين ، واستحسن عياض ما استحسنه الشّافعيّ ، وهو أن ينادى لكلّ صلاة لا يؤذّن لها : الصّلاة جامعة . وممّا استدلّ به الفقهاء حديث عائشة قالت : « خسفت الشّمس على عهد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فبعث منادياً ينادي الصّلاة جامعة » .
إجابة المؤذّن والدّعاء بعد الإجابة
50 - يسنّ لمن سمع الأذان متابعته بمثله ، وهو أن يقول مثل ما يقول ، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول المؤذّن » ويسنّ أن يقول عند الحيعلة : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه . فقد روى عمر بن الخطّاب ، قال : قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم : « إذا قال المؤذّن : اللّه أكبر اللّه أكبر فقال أحدكم : اللّه أكبر اللّه أكبر . ثمّ قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه قال : أشهد أن لا إله إلاّ اللّه . ثمّ قال : أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه . قال : أشهد أنّ محمّداً رسول اللّه . ثمّ قال : حيّ على الصّلاة . قال : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه . ثمّ قال : حيّ على الفلاح . قال : لا حول ولا قوّة إلاّ باللّه . ثمّ قال : اللّه أكبر اللّه أكبر . قال : اللّه أكبر اللّه أكبر . ثمّ قال : لا إله إلاّ اللّه . قال : لا إله إلاّ اللّه ، من قلبه - دخل الجنّة » . ولأنّ حيّ على الصّلاة ، حيّ على الفلاح خطاب فإعادته عبث . وفي التّثويب وهو قول : « الصّلاة خير من النّوم " في أذان الفجر يقول : صدقت وبررت - بكسر الرّاء الأولى - ثمّ يصلّي على النّبيّ صلى الله عليه وسلم ثمّ يقول : اللّهمّ ربّ هذه الدّعوة التّامّة والصّلاة القائمة آت محمّداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الّذي وعدته . والأصل في ذلك حديث ابن عمر مرفوعاً : « إذا سمعتم المؤذّن فقولوا مثل ما يقول ، ثمّ صلّوا عليّ فإنّه من صلّى عليّ صلاةً صلّى اللّه عليه بها عشراً ، ثمّ سلوا اللّه لي الوسيلة ، فإنّها منزلة في الجنّة لا ينبغي أن تكون إلاّ لعبد من عباد اللّه ، وأرجو أن أكون أنا هو ، فمن سأل اللّه لي الوسيلة حلّت عليه الشّفاعة » ، ثمّ يدعو بعد الأذان بما شاء ، لحديث أنس مرفوعاً : « الدّعاء لا يردّ بين الأذان والإقامة » " ، ويقول عند أذان المغرب : اللّهمّ هذا إقبال ليلك وإدبار نهارك وأصوات دعاتك فاغفر لي . ولو سمع مؤذّناً ثانياً أو ثالثاً استحبّ له المتابعة أيضاً . وما سبق هو باتّفاق إلاّ أنّ المشهور عند المالكيّة أن يحكي السّامع لآخر الشّهادتين فقط ، ولا يحكي التّرجيع ، ولا يحكي الصّلاة خير من النّوم ولا يبدّلها بصدقت وبررت ، ومقابل المشهور أنّه يحكي لآخر الأذان .
الأذان لغير الصّلاة :
51 - شرع الأذان أصلاً للإعلام بالصّلاة إلاّ أنّه قد يسنّ الأذان لغير الصّلاة تبرّكاً واستئناساً أو إزالةً لهمّ طارئ والّذين توسّعوا في ذكر ذلك هم فقهاء الشّافعيّة فقالوا : يسنّ الأذان في أذن المولود حين يولد ، وفي أذن المهموم فإنّه يزيل الهمّ ، وخلف المسافر ، ووقت الحريق ، وعند مزدحم الجيش ، وعند تغوّل الغيلان وعند الضّلال في السّفر ، وللمصروع ، والغضبان ، ومن ساء خلقه من إنسان أو بهيمة ، وعند إنزال الميّت القبر قياساً على أوّل خروجه إلى الدّنيا . وقد رويت في ذلك بعض الأحاديث منها ما روى أبو رافع : « رأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم أذّن في أذن الحسن حين ولدته فاطمة » ، كذلك روي أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « من ولد له مولود فأذّن في أذنه اليمنى وأقام في اليسرى لم تضرّه أمّ الصّبيان » . وروى أبو هريرة أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال : « إنّ الشّيطان إذا نودي بالصّلاة أدبر » ... إلخ . وقد ذكر الحنابلة مسألة الأذان في أذن المولود فقط ونقل الحنفيّة ما ذكره الشّافعيّ ولم يستبعدوه ، قال ابن عابدين : لأنّ ما صحّ فيه الخبر بلا معارض مذهب للمجتهد وإن لم ينصّ عليه ، وكره الإمام مالك هذه الأمور واعتبرها بدعةً ، إلاّ أنّ بعض المالكيّة نقل ما قاله الشّافعيّة ثمّ قالوا : لا بأس بالعمل به .
إذخر
التّعريف
1 - الإذخر نبات طيّب الرّائحة . الحكم الإجماليّ :
2 - لا يحلّ قطع شيء من شجر حرم مكّة الّذي نبت دون تدخّل الإنسان ، ويستثنى من ذلك الإذخر ، فإنّه يجوز قطعه ، لاستثناء رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إيّاه للحاجة إليه فيما رواه البخاريّ ومسلم عن ابن عبّاس رضي الله عنهما عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال « : حرّم اللّه مكّة فلم تحلّ لأحد قبلي ولا لأحد بعدي ، أحلّت لي ساعة من نهار ، لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ، ولا ينفّر صيدها ولا تلتقط لقطتها إلاّ لمعرّف ، قال العبّاس : إلاّ الإذخر لصاغتنا وقبورنا ، فقال : إلاّ الإذخر » ، وفي رواية « لقبورنا وبيوتنا » . وإذا جاز قطعه واستعماله فإنّ هذا الاستعمال يشترط ألاّ يكون في التّطيّب . وقد ذكر ذلك الفقهاء في الحجّ في باب ما يحظر في الحرم من الصّيد وقطع الشّجر ونحو ذلك .
!إذكار
انظر : ذكر .
أذن
التّعريف
1 - الأذن : بضمّ الذّال وسكونها ، عضو السّمع ، وهو معنًى متّفق عليه بين الفقهاء وأهل اللّغة . وإذا كانت الأذن عضو السّمع ، فإنّ السّمع هو إدراك الأصوات المسموعة وشتّان ما بينهما . الحكم الإجماليّ ، ومواطن البحث :
2 - الأذن عضو السّمع ، وفي الجسد منه اثنتان في العادة . ويترتّب على ذلك أحكام هي : أ - يطلب الأذان في أذن المولود اليمنى ، والإقامة في أذنه اليسرى ، ليكون الأذان بما فيه من التّوحيد الخالص أوّل ما يقرع سمعه ، وقد ورد الحديث الشّريف بذلك ، ويذكر الفقهاء هذا غالباً في الأذان عند كلامهم على المواطن الّتي يسنّ فيها الأذان ، وذكره بعضهم في الأضحيّة عند كلامهم على العقيقة .
ب - يرى الفقهاء عدم إباحة سماع المنكر ، ويرون وجوب كفّ السّمع عن سماعه ، حتّى إذا مرّ المرء بمكان لا مناص له من المرور فيه ، وفيه شيء من هذه المنكرات ، وضع أصابعه في آذانه لئلاّ يسمع شيئاً منها . كما فعل ابن عمر رضي الله عنه ، فقد روى نافع قال : إنّ ابن عمر سمع صوت مزمار راع فوضع أصبعيه في أذنيه وعدل راحلته عن الطّريق وهو يقول : يا نافع أتسمع ؟ فأقول : نعم ، فيمضي ، حتّى قلت : لا ، فرفع يده وعدل راحلته إلى الطّريق وقال : « رأيت رسول اللّه صلى الله عليه وسلم سمع زمّارة راع فصنع مثل هذا » .
ج - وإذا كانت الأذن غير السّمع وهي آلته ، فإنّ الجناية على الأذن الواحدة توجب القصاص في العمد ، ونصف الدّية في الخطأ حتّى ولو بقي السّمع سليماً . فإن ذهب السّمع أيضاً مع الأذن بجناية واحدة لم يجب أكثر من نصف الدّية . وقد فصّل الفقهاء ذلك في كتاب الجنايات ، وفي الدّيات .
هل الأذنان من الرّأس ؟
3 - في اعتبار الأذنين من الرّأس أو من الوجه خلاف بين الفقهاء ويترتّب على ذلك الاختلاف في حكم مسح الأذنين ، هل هو واجب أم غير واجب ؟ وهل يجزئ مسحهما بماء الرّأس أم لا يجزئ ؟ وفصّل الفقهاء القول في ذلك في كيفيّة المسح في باب الوضوء .
داخل الأذنين :
4 - اختلف الفقهاء في اعتبار داخل الأذن من الجوف . وبناءً على ذلك اختلفوا في إفطار الصّائم بإدخال شيء إلى باطن الأذن إذا لم يصل إلى حلقه . وفصّلوا الكلام في ذلك في كتاب الصّيام في باب ما يفطر الصّائم .
هل يعبّر بالأذن عن الجسد كلّه ؟
5 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأذن عضو من البدن لا يعبّر به عن الكلّ ، وفرّعوا على ذلك أنّ المرء إذا أضاف الظّهار أو الطّلاق أو العتق ونحوها إلى الأذن لا يقع ما قصد إليه . كما يؤخذ ذلك من كلامهم في الأبواب المذكورة .
هل الأذن من العورة ؟
6 - اتّفق الفقهاء على أنّ الأذن في المرأة من العورة ، ولا يجوز إظهارها للأجنبيّ . وما اتّصل بها من الزّينة - كالقرط - هو من الزّينة الباطنة الّتي لا يجوز إظهارها أيضاً إلاّ ما حكاه القرطبيّ عن ابن عبّاس والمسور بن مخرمة وقتادة من اعتبار القرط من الزّينة الظّاهرة الّتي يجوز إظهارها . واتّفقوا كذلك على أنّ الأذن موضع للزّينة في المرأة دون الرّجل ، ولذلك أباحوا ثقب أذن الجارية لإلباسها القرط . وليس لذلك مكان محدّد في كتب الفقه ، وقد ذكره الحنفيّة في كتاب الحظر والإباحة ، وذكره القليوبيّ في كتاب الصّيال ، وذكره بعضهم فيما يحقّ للوليّ فعله في الصّغير المولى عليه .
7 - واتّفق الفقهاء على عدم إجزاء مقطوعة الأذن في الأضحيّة والهدي ، واختلفوا فيما لو تعيّبت أذنها عيباً فاحشاً ، فأجازها البعض ولم يجزها البعض الآخر . ومحلّ تفصيل ذلك في كتاب الأضاحيّ من كتب الفقه .
8 - يستحبّ للمؤذّن أن يضع يديه في أذنيه أثناء الأذان . وقد نصّ الفقهاء على ذلك في كتاب الأذان عند كلامهم على ما يستحبّ للمؤذّن .
9 - ويسنّ للرّجل رفع يديه إلى حذاء أذنيه ، عند البعض ، في تكبيرة الإحرام وتكبيرات الانتقال في الصّلاة . وقد ذكر الفقهاء ذلك في كتاب الصّلاة .
10 - ذكر الفقهاء أنّ وسم الحيوانات لغاية مشروعة - كعدم اختلاطها بغيرها - مباح ، ويرى الشّافعيّة أنّ أفضل مكان لوسم الغنم هو آذانها ، لقلّة الشّعر فيها . وقد ذكروا هذه المسألة في باب قسم الصّدقات .
11 - وما يسيل من الأذن في حالة المرض نجس ، وفي انتقاض الوضوء به خلاف بين الفقهاء مبنيّ على خلافهم في انتقاض الوضوء بكلّ خارج نجس من البدن ، وقد تكلّموا على ذلك في باب الوضوء عند كلامهم على نواقض الوضوء .
إذن
التّعريف
1 - من معاني الإذن في اللّغة : إطلاق الفعل والإباحة . ولم يخرج الفقهاء في استعمالهم للإذن عن المعنى اللّغويّ . الألفاظ ذات الصّلة : أ - الإباحة :
2 - الإباحة هي التّخيير بين الفعل والتّرك دون ترتّب ثواب أو عقاب . ويذكرها الأصوليّون عند الكلام على الحكم وأقسامه باعتبارها من أقسام الحكم الشّرعيّ عند جمهور الأصوليّين . ولهم في ذلك تفصيلات كثيرة من حيث تقسيم الإباحة ، وتقسيم متعلّقها وهو المباح ( انظر : الملحق الأصوليّ ) . والفقهاء كذلك يفسّرون الإباحة بالمعنى السّابق الّذي ذكره الأصوليّون . وأيضاً يستعمل الفقهاء الإذن والإباحة بمعنًى واحد ، وهو ما يفيد إطلاق التّصرّف فقد قال الجرجانيّ : الإباحة هي الإذن بالإتيان بالفعل كيف شاء الفاعل . وقال ابن قدامة : من نثر على النّاس نثاراً كان إذناً في التقاطه وأبيح أخذه ، وفسّر الشّيخ عليش : المباح بالمأذون فيه . وإذا كان الإذن يستعمل بمعنى الإباحة فلأنّ الإباحة مرجعها الإذن . فالإذن هو أصل الإباحة . ولولا صدور ما يدلّ على الإذن لما كان الفعل جائز الوقوع ، فالإباحة الشّرعيّة حكم شرعيّ عند جمهور الأصوليّين ، ويتوقّف وجوده على الشّرع . وبذلك يتبيّن أنّ الإباحة تكون بمقتضى الإذن سواء أكان صريحاً أم ضمناً ، وسواء أكان من الشّارع أم من العباد بعضهم لبعض .
ب - الإجازة :
3 - الإجازة معناها الإمضاء يقال : أجاز أمره إذا أمضاه وجعله جائزاً ، وأجزت العقد جعلته جائزاً ونافذاً . والإذن هو إجازة الإتيان بالفعل . فالإجازة والإذن كلاهما يدلّ على الموافقة على الفعل إلاّ أنّ الإذن يكون قبل الفعل ، والإجازة تكون بعد وقوعه .
ج - الأمر :
4 - الأمر من معانيه لغةً : الطّلب ، واصطلاحاً : طلب الفعل على سبيل الاستعلاء . فكلّ أمر يتضمّن إذناً بالأولويّة .
أقسام الإذن
الإذن قد يكون عامّاً وقد يكون خاصّاً ، والعموم والخصوص قد يكون بالنّسبة للمأذون له ، وقد يكون بالنّسبة للموضوع أو الوقت أو الزّمان .
أ - الإذن بالنّسبة للمأذون له :
5 - الإذن قد يكون عامّاً بالنّسبة للشّخص المأذون له ، وذلك كمن ألقى شيئاً وقال : من أخذه فهو له فلمن سمعه أو بلغه ذلك القول أن يأخذه ، وكمن وضع الماء على بابه ، فإنّه يباح الشّرب منه لمن مرّ به من غنيّ أو فقير ، وكذا من غرس شجرةً في موضع لا ملك فيه لأحد ، ولم يقصد الإحياء ، فقد أباح للنّاس ثمارها . وكأن يجعل الإمام للمسلمين موضعاً لوقوف الدّوابّ فيه ، فلكلّ مسلم حقّ الوقوف فيه ؛ لأنّه مأذون من السّلطان . ومن ذلك الدّعوة العامّة للوليمة . وقد يكون الإذن خاصّاً بشخص ، كمن يقول : هذا الشّيء صدقة لفلان ، أو كالوقف على أهل مذهب معيّن لصرف غلّة الوقف عليهم ، أو تخصيص أحد الضّيفان بطعام خاصّ ، أو اقتصار الدّعوة على بعض النّاس .
ب - الإذن بالنّسبة للتّصرّف والوقت والمكان :
6 - قد يكون الإذن عامّاً بالنّسبة للتّصرّف والوقت والمكان ، وقد يكون خاصّاً ، فإذن السّيّد لعبده في التّجارة يعتبر عند الحنفيّة والمعتمد عند المالكيّة إذناً عامّاً يجيز للعبد المأذون له التّصرّف في سائر التّجارات ما عدا التّبرّعات ، حتّى لو أذن له في نوع من أنواع التّجارات فهو مأذون في جميعها ، خلافاً لزفر ؛ لأنّ الإذن عند الحنفيّة إسقاط الحقّ ، والإسقاطات لا تتوقّت بوقت ، ولا تتخصّص بنوع دون نوع ، ولا بمكان دون مكان ، فلو أذن له يوماً صار مأذوناً مطلقاً حتّى يحجر عليه ، وكذلك لو قال له : أذنت لك في التّجارة في البرّ دون البحر ، إلاّ أنّه إذا أمره بشراء شيء خاصّ كأن يقول له : اشتر بدرهم لحماً لنفسك أو اشتر كسوةً ففي الاستحسان يقتصر على ما أذن له فيه ؛ لأنّ هذا من باب الاستخدام ، يقول ابن عابدين : اعلم أنّ الإذن بالتّصرّف إذن بالتّجارة وبالشّخص استخدام . وعند الشّافعيّة والحنابلة وبعض المالكيّة وزفر من الحنفيّة يتقيّد الإذن بالنّسبة للعبد ، فلا يصير العبد مأذوناً إلاّ فيما أذن له فيه سيّده ؛ لأنّ تصرّفه مستفاد من الإذن ، فاقتصر على المأذون فيه ، فإذا أذن له في التّجارة في نوع ، كالثّياب ، أو في وقت كشهر كذا أو في بلد فلا يجوز له أن يتجاوزه ، كالوكيل وعامل القراض ؛ لأنّه متصرّف بالإذن من جهة الآدميّ ، فوجب أن يختصّ بما أذن له فيه ، فإن لم ينصّ على شيء وتصرّف حسب المصلحة عند الشّافعيّة فيتصرّف في كلّ الأنواع والأزمنة والبلدان . وأمثلة الإذن الخاصّ والعامّ كثيرة كما في الوكالة والقراض والشّركة والإعارة والإجارة وغيرها ، وتنظر في أبوابها .
من له حقّ الإذن : إذن الشّارع :
7 - إذن الشّارع يكون إمّا بنصّ ، أو باجتهاد من الحاكم فيما يتعلّق بمصالح العباد ، مع مراعاة القواعد العامّة لمقاصد الشّريعة ، كجلب المصالح ودرء المفاسد . ووجوه الإذن من الشّارع متعدّدة الأسباب لتفرّع مناحي الشّريعة في الحفاظ على كيان الفرد والمجتمع .
8 - فالإذن من الشّارع قد يكون للتّوسعة والتّيسير على العباد في حياتهم ، كالبيع والشّراء والإجارة والرّهن ، كما جاء في قوله تعالى : { وأحلّ اللّه البيع وحرّم الرّبا } ، وقوله تعالى : { فرهان مقبوضة } . . . إلخ . وكذلك الإذن بالتّمتّع بالطّيّبات ، كالمأكل والمشرب والمسكن والملبس ، كما جاء في قوله تعالى : { قل من حرّم زينة اللّه الّتي أخرج لعباده والطّيّبات من الرّزق } . والإذن بالنّكاح للتّمتّع والتّناسل على ما جاء في قوله تعالى : { فانكحوا ما طاب لكم من النّساء } . ومن ذلك أيضاً الإذن بالصّيد إلاّ في حالة الإحرام والإذن بإحياء الموات ، والإذن بالانتفاع بالطّريق العامّ والمسيل العامّ وهكذا .
9 - وقد يكون إذن الشّارع بالانتفاع على وجه التّعبّد والقربة ، كالانتفاع بالمساجد والمقابر والرّباطات . والإذن في كلّ ما سبق يجب أن يقتصر فيه على الأصل الّذي ورد من الشّارع مقيّداً بعدم الضّرر بالغير ، إذ لا ضرر ولا ضرار في الإسلام . وقد وضع الفقهاء لكلّ هذه التّصرّفات قواعد وشرائط لا بدّ من مراعاتها ، ومخالفة ذلك تبطل التّصرّف .
10 - وقد يكون الإذن من الشّارع رفعاً للحرج ودفعاً للمشقّة ؛ لأنّ الشّارع لم يقصد إلى التّكليف بالشّاقّ والإعنات فيه والنّصوص الدّالّة على ذلك كثيرة ، منها قوله تعالى : { لا يكلّف اللّه نفساً إلاّ وسعها } ، وقوله : { يريد اللّه بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } ، وقوله : { يريد اللّه أن يخفّف عنكم } . كذلك ورد أنّ « الرّسول صلى الله عليه وسلم ما خيّر بين أمرين إلاّ اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً » ، وكان صلى الله عليه وسلم ينهى عن الوصال في العبادة ويقول : « خذوا من الأعمال ما تطيقون فإنّ اللّه لن يملّ حتّى تملّوا » . وعلى هذا الأساس كان الإذن للمسافر والمريض بالفطر في رمضان . ولقد نقل عن مالك والشّافعيّ منع الصّوم إذا خاف التّلف به وأنّه لا يجزئه إن فعل ، ونقل المنع في الطّهارة عند خوف التّلف والانتقال إلى التّيمّم . والدّليل على المنع قوله : { ولا تقتلوا أنفسكم } ، وجاء في حديث النّاذر للصّيام قائماً في الشّمس حيث قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم حين علم بذلك : « مروه فليستظلّ وليتكلّم وليتمّ صومه » . وكذلك كان الإذن بإباحة ما كان محرّماً لذاته وأذن به لعارض كأكل الميتة ولحم الخنزير وشرب الخمر لإزالة الغصّة وذلك إذا عرضت ضرورة وهي خشية الموت أو التّلف ، وكذلك الإذن بإباحة ما كان محرّماً لغيره كالإذن بنظر الأجنبيّة للزّواج وبنظر العورة إذا عرضت حاجة كالعلاج . وكلّ ما كان من هذا القبيل ممّا فيه مشقّة وحرج سواء أكانت المشقّة حاصلةً باختيار المكلّف كالنّاذر الصّيام قائماً في الشّمس ، أم كانت المشقّة تابعةً للفعل كالمريض غير القادر على الصّوم أو الصّلاة ، والحاجّ الّذي لا يقدر على الحجّ ماشياً أو راكباً إلاّ بمشقّة خارجة عن المعتاد ، فهذا هو الّذي ورد فيه اليسر ومشروعيّة الرّخص . ولقد وضع الفقهاء بعض القواعد العامّة لذلك ، كقولهم : الضّرورات تبيح المحظورات . المشقّة تجلب التّيسير . الضّرر يزال . أمّا إذا كانت المشقّة الدّاخلة على المكلّف ليست بسببه ، ولا بسبب دخوله في عمل تنشأ عنه فلقد فهم من مجموع الشّريعة الإذن في دفعها على الإطلاق رفعاً للمشقّة ، بل إنّ الشّارع أذن في التّحرّز منها عند توقّعها وإن لم تقع ، ومن ذلك الإذن في دفع ألم الجوع والعطش والحرّ والبرد ، والإذن في التّداوي عند وقوع الأمراض ، وفي التّوقّي من كلّ مؤذ آدميّاً كان أو غيره . ولذلك يقول الفقهاء : لا ضمان في قتل الصّائل على نفس أو طرف أو بضع أو مال .
إذن المالك :
11 - الملك - كما جاء في دستور العلماء - هو اتّصال شرعيّ بين الإنسان وبين شيء يكون سبباً لتصرّفه فيه ومانعاً من تصرّف غيره فيه . ويقول ابن نجيم : الملك قدرة يثبتها الشّارع ابتداءً على التّصرّف . والأصل أنّ كلّ مملوك لشخص لا يجوز تصرّف غيره فيه بدون إذنه إلاّ لحاجة ، كأن يحتاج المريض لدواء ، فإنّه يجوز للولد والوالد الشّراء من مال المريض ما يحتاج إليه المريض بدون إذنه . وإذن المالك لغيره فيما يملكه يكون على الوجوه الآتية :
أ - الإذن بالصّرف :
12 - يجوز للمالك أن يأذن لغيره بالتّصرّف فيما يملكه ، وذلك كما في الوكالة والقراض ( المضاربة ) فإنّ الوكيل وعامل القراض يتصرّفان في ملك غيرهما بإذن المالك على ما يقع عليه الإذن من تصرّفات ، ومن ذلك أيضاً الوصيّ وناظر الوقف ، ولذلك شروط مفصّلة في كتب الفقه في الوكالة والقراض والوصيّة والوقف .
ب - الإذن بانتقال الملك إلى الغير :
13 - كما في البيع والهبة والوقف بشروطه .
ج - الإذن بالاستهلاك :
14 - وذلك بأن يأذن المالك باستهلاك ما هو مملوك له من رقبة العين ، حيث يأذن لغيره بتناولها وأخذها وذلك كالطّعام الّذي يقدّم في الولائم والمنائح والضّيافات ، وما ينثر على النّاس في الأحفال من دراهم وورود ، ويشمل ذلك أيضاً الإذن بالاستهلاك ببدل كما في القرض .
د - الإذن بالانتفاع :
15 - وذلك كأن يأذن بعض النّاس لبعضهم بالانتفاع بالشّيء المملوك ، والإذن بالانتفاع لا يقتضي ملكيّة الآذن للعين بل يكفي كونه مالكاً للمنفعة ، والإذن بالانتفاع قد يكون بدون عوض كما في العاريّة ، وقد يكون بعوض كما في الإجارة . وقد يتنوّع الإذن بالانتفاع حسب كون الآذن مالكاً للعين ملكيّةً تامّةً أو مالكاً لمنفعتها فقط وقت الإذن ، فقد يكون الآذن مستأجراً ويأذن لغيره بالانتفاع في الجملة على تفصيل في المذاهب ، ومثل ذلك الإعارة والوصيّة بالمنفعة والوقف فيكون للمستعير والموقوف عليه والموصى له بالمنفعة - إذا كان في صيغها ما يفيد الإذن بذلك - حقّ الإذن للغير بالانتفاع . ومن ذلك أيضاً إذن الأفراد بعضهم لبعض بالانتفاع بالطّريق الخاصّ والمجرى الخاصّ . فالإذن في كلّ ذلك إذن بالانتفاع ، إلاّ أنّه يجب أن يراعى أن يكون الإذن لا معصية فيه كإعارة الجارية للوطء وأن يكون الانتفاع على الوجه الّذي أذن فيه المالك أو دونه في الضّرر وإلاّ كان متعدّياً .
إذن صاحب الحقّ :
16 - حقّ الإنسان هو ما تتعلّق به مصلحة خاصّة مقرّرة بمقتضى الشّريعة ، سواء أكان ماليّاً أم غير ماليّ . والأصل أنّ كلّ تصرّف إذا كان يمسّ حقّاً لغير من يباشره وجب لنفاذه الإذن فيه من صاحب هذا الحقّ . وصور ذلك كثيرة في مسائل الفقه ومنها الأمثلة الآتية :
17 - أ - من حقوق الزّوج على الزّوجة منعها من الخروج من منزلها ، وعلى ذلك فلا يجوز لها الخروج إلاّ بإذنه ، ويستثنى من ذلك الخروج لحقّ أقوى من حقّه كحقّ الشّرع ( مثل حجّة الفريضة ) ، أو للعلاج ، أو لزيارة أبويها على تفصيل في المذاهب .
18 - ب - للمرتهن حقّ حبس المرهون ، حتّى يستوفي دينه ، وعلى ذلك فلا يجوز للرّاهن بيع المرهون إلاّ بإذن المرتهن ، وإذا باعه فهو موقوف على إجازة المرتهن أو قضاء دينه وذلك عند الحنفيّة وللفقهاء في ذلك تفصيل ينظر في مصطلح ( رهن ) .
19 - ج - للواهب قبل إقباض الهبة أو الإذن في الإقباض حقّ الملكيّة ، وعلى ذلك فلا يجوز للموهوب له قبض الهبة إلاّ بإذن الواهب ، فلو قبض بلا إذن أو إقباض لم يملكه ، وذلك عند الشّافعيّة ، خلافاً للمالكيّة على تفصيل للفقهاء في ذلك .
20 - د - للزّوجة حقّ في الوطء والاستمتاع ولذلك لا يجوز للزّوج أن يعزل عن الحرّة إلاّ بإذنها .
21 - هـ - للمرأة حقّ في أمر نفسها عند إنكاحها ، ولذلك تستأذن عند إنكاحها على الوجوب بالإجماع إن كانت ثيّباً ، وعلى الاختلاف بين الفقهاء بين الوجوب والاستحباب إن كانت بكراً . 22 ولصاحب البيت حقّ في عدم دخول أحد إلاّ بإذنه ، وعلى ذلك فلا يجوز لأحد دخول بيت إلاّ بإذن من ساكنه لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا } ، أي تستأذنوا . والصّور من هذا النّوع كثيرة تنظر في مواضعها .
إذن القاضي :
23 - القضاء من الولايات العامّة ، والغرض منه إقامة العدل وإيصال الحقّ إلى مستحقّه ، ولمّا كانت تصرّفات النّاس بعضهم مع بعض قد يشوبها الجور وعدم الإنصاف ممّا يكون محلّ نزاع بينهم كان لا بدّ لنفاذ هذه التّصرّفات من إذن القاضي تحقيقاً للعدل ومنعاً للتّنازع ومن أمثلة ذلك ما يأتي :
24 - تجب النّفقة على الزّوج لزوجته ، فإذا أعسر الزّوج بالنّفقة فعند الحنفيّة لا يفرّق بينهما ، بل يفرض القاضي لها النّفقة ، ثمّ يأمرها بالاستدانة ، فإذا استدانت بأمر القاضي صارت ديناً على الزّوج ويطالب بها ، أمّا لو استدانت بغير أمر القاضي فتكون المطالبة عليها وينظر التّفصيل في مصطلحي ( نفقة وإعسار ) .
25 - تجب الزّكاة في مال الصّغير عند المالكيّة ، فإذا كان للصّغير وصيّ فقد قال متأخّرو المذهب : لا يزكّي عنه الوصيّ إلاّ بإذن من الحاكم ، خروجاً من الخلاف وخاصّةً إذا كان هناك حاكم حنفيّ يرى عدم وجوب الزّكاة في مال المحجور عليه ، كذلك قال الإمام مالك : إذا وجد الوصيّ في التّركة خمراً فلا يريقها إلاّ بعد مطالعة السّلطان لئلاّ ، يكون مذهبه جواز تخليلها .
26 - يقول الحنابلة : من غاب وله وديعة أو نحوها وأولاد فإنّ الإنفاق عليهم لا يكون إلاّ بإذن الحاكم أمّا الإنفاق على اللّقيط فلا يشترط فيه إذن الحاكم وإن كان الأولى إذنه احتياطاً . ( ر : وديعة - نفقة ) . والصّور من هذا النّوع كثيرة وتنظر في مواضعها .
إذن الوليّ
27 - الوليّ هو من له ولاية التّصرّف على غيره ، في النّفس أو في المال ؛ لصغر أو سفه أو رقّ أو غير ذلك ويظلّ الحجر قائماً إلى أن يزول سببه . ولمّا كان المحجور عليهم قد يعود تصرّفهم بالضّرر عليهم ، أو على السّيّد بالنّسبة للعبد ، كان لا بدّ من نظر الوليّ وإذنه منعاً للضّرر . وفي الجملة فإنّ تصرّفات السّفيه والمميّز والعبد في المال والنّكاح لا بدّ فيها من إذن الوليّ عند جمهور الفقهاء ، وعند أبي حنيفة لا حجر على السّفيه والصّغير عند الشّافعيّة ، وفي رأي للحنابلة ، لا يجوز تصرّفه ولو بالإذن ؛ لأنّه يشترط البلوغ لصحّة عقدي النّكاح والبيع ، وكذلك السّفيه في الأصحّ عند الشّافعيّة ، وفي رأي للحنابلة لا يصحّ تصرّفه في المال ولو أذن له المولى لأنّ الحجر عليه لتبذيره وسوء تصرّفه ، فإذا أذن له فقد أذن فيما لا مصلحة فيه ، وقيل يصحّ بالإذن ، أمّا نكاحه فيصحّ . أمّا غير المميّز والمجنون فلا يصحّ تصرّفهما ولو بالإذن ، وقد اختلف الفقهاء إذا تصرّف المميّز والسّفيه والعبد بدون إذن الوليّ بين الإجازة والرّدّ والبطلان .
28 - والمرأة وإن كانت رشيدةً لا بدّ من إذن الوليّ عند نكاحها - بكراً كانت أو ثيّباً - عند جمهور الفقهاء ؛ لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم : « أيّما امرأة نكحت بدون إذن وليّها فنكاحها باطل » . وعند أبي حنيفة وأبي يوسف - في ظاهر الرّواية - ينعقد نكاح الحرّة العاقلة البالغة برضاها وإن لم يعقد عليها وليّ - بكراً كانت أو ثيّباً ؛ لأنّها تصرّفت في خالص حقّها ، وهي من أهله ؛ لكونها عاقلةً مميّزةً ، ولها اختيار الأزواج ، وإنّما يطالب الوليّ بالتّزويج كي لا تنسب إلى الوقاحة .
إذن متولّي الوقف :
29 - متولّي الوقف أو ناظر الوقف هو من يتولّى القيام بشئون الوقف وحفظه وعمارته وتنفيذ شرط الواقف ، ولا يتصرّف إلاّ بما فيه مصلحة الوقف ، ولا يجوز للموقوف عليهم أو لغيرهم إحداث شيء فيه ، من بناء أو غرس إلاّ بإذن ناظر الوقف - إذا رأى فيه مصلحةً ، ولا يحلّ للمتولّي الإذن إلاّ فيما يزيد الوقف به خيراً . كذلك من وظيفة النّاظر تحصيل الغلّة ، وقسمتها على مستحقّيها ، وتنزيل الطّلبة منازلهم ، ولا يجوز مثل ذلك للجابي ، ولا للعامل ولا للمدرّس إلاّ بإذن النّاظر . ومنافع الموقوف ملك للموقوف عليه ، يستوفيها بنفسه وبغيره ، بإعارة أو إجارة ، كما يقول الشّافعيّة ، ولكنّه لا يمكّن من ذلك إلاّ بإذن النّاظر ، مع تفصيل كثير للفقهاء في ذلك ، وينظر تفصيل ذلك في مصطلح : ( وقف ) .
إذن المأذون له :
30 - غالباً ما يطلق الفقهاء لفظ المأذون له على العبد الّذي أذن له سيّده في التّجارة ، ولذلك يعقدون له باباً يسمّى باب المأذون . ولقد اختلف الفقهاء بالنّسبة للعبد المأذون : هل يملك أن يأذن لغيره في التّجارة أم لا ؟ فعند الحنفيّة والمالكيّة يجوز أن يأذن العبد المأذون له لغيره في التّجارة ؛ لأنّ الإذن في التّجارة تجارة . أمّا الشّافعيّة والحنابلة فإنّهم يرون أنّه لا يجوز له أن يأذن لغيره بالتّجارة بدون إذن سيّده ، فإذا أذن له سيّده بذلك جاز ، قال الشّافعيّة : وهذا في التّصرّف العامّ ، فإن أذن له في تصرّف خاصّ كشراء ثوب جاز .
31 - وممّا يدخل في ذلك أيضاً عامل القراض باعتباره مأذوناً من ربّ المال في التّجارة . ويرى جمهور الفقهاء أنّه لا يجوز لعامل المضاربة أن يضارب غيره إلاّ بإذن ربّ المال ، فإن أذن له جاز . ويرى الحنفيّة أنّ ربّ المال لو فوّض الأمر للعامل ، بأن قال له اعمل برأيك مثلاً ، فإنّه يجوز للعامل أن يضارب بدون إذن ربّ المال . أمّا إذا قيّده بشيء فلا يجوز له . والأصحّ عند الشّافعيّة أنّه لا يجوز أن يقارض غيره ولو بالإذن ، لأنّ القراض على خلاف القياس . والرّأي الثّاني : يجوز بالإذن ، وقوّاه السّبكيّ ، وقال إنّه الّذي قطع به الجمهور . ومن ذلك أيضاً الوكيل والوصيّ والقاضي ، وتنظر في مصطلحاتها .
التّعارض في الإذن :
32 - إذا اجتمع اثنان أو أكثر ، ممّن لهم حقّ الإذن في تزويج المرأة مثلاً ، وكانوا في درجة واحدة ، كإخوة أو بنيهم أو أعمام ، وتشاحّوا فيما بينهم ، وطلب كلّ منهم أن يزوّج ، فعند الحنابلة والشّافعيّة يقرع بينهم ، قطعاً للنّزاع ، ولتساويهم في الحقّ وتعذّر الجمع بينهم ، فمن خرجت قرعته زوّج ، وقد كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفراً أقرع بين نسائه . وعند المالكيّة : ينظر الحاكم فيمن يراه أحسنهم رأياً من الأولياء ، وعند الحنفيّة : يكون لكلّ واحد منهم أن يزوّجها على حياله - رضي الآخر أو سخط - إذا كان التّزويج من كفء بمهر وافر . وهذا إذا اتّحد الخاطب ، أمّا إذا تعدّد الخاطب فإنّه يعتبر رضاها ، وتزوّج بمن عيّنته ، فإن لم تعيّن المرأة واحداً ورضيت بأيّ واحد منهم ، نظر الحاكم في تزويجها من الأصلح ، كما يقول المالكيّة والشّافعيّة فإن بادر أحدهم فزوّجها من كفء فإنّه يصحّ ؛ لأنّه لم يوجد ما يميّز أحدهم على غيره . ولو أذنت لهم في التّزويج ، فزوّجها أحد الأولياء المستوين في الدّرجة من واحد ، وزوّجها الآخر من غيره ، فإن عرف السّابق فهو الصّحيح والآخر باطل ، وإن وقع العقدان في زمن واحد ، أو جهل السّابق منهما فباطلان ، وهذا باتّفاق ، مع تفصيل في ذلك . ( ر : نكاح وليّ ) .
33 - وفي الوصيّة لو أوصي لاثنين معاً فهما وصيّان ، ولا يجوز لواحد منهما الانفراد بالتّصرّف ، فإن اختلف الوصيّان في أمر ، كبيع وشراء ، نظر الحاكم فيما فيه الأصلح ، كما يقول المالكيّة . وعند الحنفيّة - ما عدا أبا يوسف - لا ينفرد أحد الوصيّين بالتّصرّف إلاّ إذا كانا من جهة قاضيين من بلدتين ، فإنّه حينئذ يجوز أن ينفرد أحدهما بالتّصرّف . وقال أبو يوسف يجوز أن ينفرد كلّ واحد منهما بالتّصرّف في جميع الأمور .
بم يكون الإذن ؟
34 - للتّعبير عن الإذن وسائل متعدّدة ، ومن ذلك اللّفظ الصّريح الدّالّ على الإذن ، كقول الأب لولده المميّز : أذنت لك في التّجارة ، أو اشتر لي ثوباً وبعه ، أو اتّجر في كذا .
35 - وقد يكون الإذن بالإشارة أو الكتابة أو الرّسالة وذلك كإذن المرأة في إنكاحها إذا كانت خرساء ، أو إذن الوليّ بالإشارة إذا كان أخرس ، فإنّ الإذن هنا يصحّ بالإشارة إذا كانت الإشارة معهودةً مفهومةً ، وكذلك الدّعوة إلى الوليمة بكتاب أو رسول تعتبر إذناً في الدّخول والأكل ، لما روى أبو هريرة رضي الله عنه عنه عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال : « إذا دعي أحدكم فجاء مع الرّسول فإنّ ذلك له إذن » وكما يكون الإذن مباشرةً ممّن يملكه فإنّه يكون بالإنابة منه . كذلك التّوكيل بالكتابة والرّسالة يعتبر إذناً .
36 - وقد يعتبر السّكوت إذناً في بعض التّصرّفات . والأصل أنّ السّكوت لا يعتبر إذناً ، وذلك لقاعدة : « لا ينسب لساكت قول » ولكن خرج عن هذه القاعدة بعض الصّور الّتي يعتبر السّكوت فيها إذناً ، ومن ذلك سكوت البكر عند وليّها ، فإنّ سكوتها يعتبر إذناً ، وذلك بمقتضى الحديث : « استأمروا النّساء في أبضاعهنّ فإنّ البكر تستحي فتسكت فهو إذنها » وهذا باتّفاق الفقهاء سواء أكان الاستئذان مستحبّاً أم واجباً .
37 - وقد اختلف الفقهاء في سكوت الوليّ عند رؤيته مولّيه يبيع ويشتري فسكت هل يعتبر سكوته إذناً أم لا ؟ فعند الحنفيّة وفي قول للمالكيّة يعتبر إذناً ، وعند الشّافعيّة والحنابلة وزفر من الحنفيّة ، وفي قول للمالكيّة لا يعتبر إذناً ؛ لأنّ ما يكون الإذن فيه شرطاً لا يعتبر فيه السّكوت ، كمن يبيع مال غيره وصاحبه ساكت فلا يعتبر إذناً ؛ ولأنّ السّكوت يحتمل الرّضا ويحتمل السّخط ، فلا يصلح دليل الإذن عند الاحتمال .
38 - وقد يكون الإذن بطريق الدّلالة ، وذلك كتقديم الطّعام للضّيوف ، فإنّه قرينة تدلّ على الإذن وكشراء السّيّد لعبده بضاعةً ووضعها في حانوته ، وأمره بالجلوس فيه ، وكبناء السّقايات والخانات للمسلمين وأبناء السّبيل .
تقييد الإذن بالسّلامة :
39 - من القواعد الفقهيّة أنّ المتولّد من مأذون فيه لا أثر له ، أي لا يكون مضموناً ، ويستثنى من هذه القاعدة ما كان مشروطاً بسلامة العاقبة . ويقسم الحنفيّة الحقوق الّتي تثبت للمأذون إلى قسمين : حقوق واجبة ، سواء أكانت بإيجاب الشّارع ، كحقّ الإمام في إقامة الحدّ ، وفي القصاص والتّعزير ، أم كانت واجبةً بإيجاب العقد ، كعمل الفصّاد والحجّام والختّان . وهذه الحقوق لا يشترط فيها سلامة العاقبة إلاّ بالتّجاوز عن الحدّ المعتاد . حقوق مباحة ، كحقّ الوليّ في التّأديب عند أبي حنيفة ، وحقّ الزّوج في التّعزير فيما يباح له ، وحقّ الانتفاع بالطّريق العامّ ، وهذه الحقوق تتقيّد بوصف السّلامة . وبالنّظر في ذلك عند بقيّة الفقهاء يتبيّن أنّهم يسايرون الحنفيّة في هذا المعنى ، إلاّ أنّ الفقهاء جميعاً - ومنهم الحنفيّة - يختلفون في تحديد الحقوق الّتي تتقيّد بوصف السّلامة ، والّتي لا تتقيّد بها ، تبعاً لاختلاف وجهتهم في تعليل الفعل ، حتّى بين فقهاء المذهب الواحد نجد ذلك في الفعل الواحد كالخلاف بين الإمام أبي حنيفة وصاحبيه في اقتصاص الإنسان لنفسه . وبيان ذلك فيما يأتي :
أوّلاً - ما لا يتقيّد بوصف السّلامة :
أ - الحقوق الواجبة بإيجاب الشّارع ومن أمثلتها :
40 - إذا أقام الإمام الحدّ ، فجلد شارب الخمر ، أو قطع يد السّارق ، فمات المحدود فلا ضمان لأنّ الحدود إذا أتي بها على الوجه المشروع فلا ضمان فيما تلف بها ؛ لأنّ الإمام فعل ذلك بأمر اللّه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فلا يؤاخذ . وكذلك إذا اقتصّ من الجاني فيما دون النّفس دون تجاوز ، فسرت الجراحة ، فمات فلا ضمان ؛ لأنّه بفعل مأذون فيه ، فلا يتقيّد بوصف السّلامة . وهذا باتّفاق الفقهاء .
41 - وإذا عزّر الإمام فيما شرع فيه التّعزير ، فمات المعزّر لم يجب ضمانه ؛ لأنّه فعل ما فعل بأمر الشّرع ، وفعل المأمور لا يتقيّد بشرط السّلامة ، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة والمالكيّة . وفي قول للمالكيّة إنّه لا يضمن إن ظنّ السّلامة ، أمّا عند الشّافعيّة فإنّه يضمن ؛ لأنّ تعزير الإمام عندهم مشروط بسلامة العاقبة .
42 - وإذا اقتصّ المجنيّ عليه بنفسه ، فقطع يد القاطع ، فسرت الجراحة ، فمات فلا ضمان ؛ لأنّه قطع مستحقّ مقدّر فلا تضمن سرايته كقطع السّارق ، وهذا عند جميع الفقهاء ، ما عدا أبا حنيفة ، فإنّه يضمن عنده ، وتكون الدّية على عاقلته ؛ لأنّ القطع ليس بمستحقّ على من له القصاص ، بل هو مخيّر فيه والعفو أولى ، وعند المالكيّة والحنابلة يؤدّب لافتياته على الإمام ، ولا ضمان عليه .
ب - الحقوق الواجبة بإيجاب العقد ومن أمثلتها :
43 - الحجّام والفصّاد والختّان والطّبيب لا ضمان عليهم فيما يتلف بفعلهم ، إذا كان ذلك بالإذن ولم يجاوزوا الموضع المعتاد ، وكانت لهم بصنعتهم بصارة ومعرفة ، وهذا عند الحنفيّة والحنابلة والمالكيّة والشّافعيّة في الأصحّ . 44 - وفي عقد الإجارة يد المستأجر يد أمانة ، ولا يضمن المستأجر ما تلف بالاستعمال المأذون فيه ، وأمّا لو فرّط أو جاوز ما أذن له فيه ، بأن ضرب الدّابّة أو كبحها فوق العادة فتلفت ضمن ، وهذا باتّفاق .
ثانياً - ما يتقيّد بوصف السّلامة :
45 - وهو الحقوق المباحة ومن أمثلتها : ضرب الزّوجة للنّشوز ، فيه الضّمان فيما ينشأ منه من تلف عند الحنفيّة والشّافعيّة ، ولا ضمان فيه عند الحنابلة والمالكيّة إن ظنّ السّلامة . 46 - والانتفاع بالطّريق العامّة من سير وسوق مأذون فيه لكلّ النّاس بشرط سلامة العاقبة ، فما لم تسلم عاقبته لم يكن مأذوناً فيه ، فالمتولّد منه يكون مضموناً ، إلاّ إذا كان ممّا لا يمكن الاحتراز منه ، وعلى ذلك فالرّاكب إذا وطئت دابّته رجلاً فهو ضامن لما أصابت يدها أو رجلها أو رأسها أو صدمت ؛ لأنّ هذه أفعال يمكن الاحتزاز عنها . ولا يضمن ما نفحت برجلها أو ذنبها ؛ لأنّه لا يمكن الاحتزاز عنه ، ولو وقّفها في الطّريق فهو ضامن للنّفحة أيضاً ؛ لأنّ المأذون فيه شرعاً هو المرور ، وليس الوقوف إلاّ ما قاله بعض الحنابلة والمالكيّة من أنّ وقوف الدّابّة في الطّريق الواسع لغير شيء لا ضمان فيه . ولو وقّفها أمام باب المسجد فهو كالطّريق ، فيضمن ولو خصّص الإمام للمسلمين موقفاً فلا ضمان إلاّ إذا كان راكباً . ولو كان سائراً أو سائقاً أو قائداً في مواضع أذن الإمام للنّاس فيها بالوقوف ضمن ، لأنّ أثر الإذن في سقوط ضمان الوقوف ، لا في السّير والسّوق ، وهذا عند جميع الفقهاء . 47 - ومن حفر بئراً في طريق العامّة ، فإن لم تكن لمصلحة ففيها الضّمان بما تلف منها ، وإن كانت لمصلحة المسلمين ، فوقع فيها إنسان ومات فإن كان الحفر بإذن السّلطان فلا ضمان ، وإن كان بغير إذنه يضمن ؛ لأنّ أمر العامّة إلى الإمام ، فلا بدّ من إذنه ، وهذا عند الشّافعيّة والحنابلة والحنفيّة عدا أبي يوسف فعنده لا يضمن ؛ لأنّ ما كان من مصالح المسلمين كان الإذن فيه ثابتاً دلالةً ، وهو أيضاً رأي للشّافعيّة ، ولم يقيّد المالكيّة ذلك بالإذن . ومن حفر في ملكه أو في موات فلا ضمان عليه اتّفاقاً . ويرى أبو حنيفة أنّ الواقع في الحفر لو مات جوعاً أو غمّاً فلا ضمان على الحافر ويوافقه أبو يوسف في الموت جوعاً أمّا إن مات غمّاً فالضّمان على الحافر . 48 - ومن أخرج جناحاً إلى طريق المسلمين ، أو نصب ميزاباً أو بنى دكّاناً أو وضع حجراً أو خشبةً أو قشر بطّيخ أو صبّ ماءً ، فزلق به إنسان فما نشأ من ذلك فهو مضمون على فاعله ، وهذا عند الحنابلة والحنفيّة والشّافعيّة . وعند المالكيّة يضمن فيما وضعه في الطّريق ، كقشر البطّيخ أو صبّ الماء ، أمّا من وضع ميزاباً للمطر ، ونصبه على الشّارع ، ثمّ بعد مدّة سقط على رأس إنسان فقتله ، أو على مال فأتلفه فلا ضمان ، لأنّه فعل مأذون فيه . 49 - ومن بنى جداراً مائلاً إلى الشّارع فتلف به شيء ففيه الضّمان ، وإن بناه مستوياً أو مائلاً إلى ملكه فسقط فلا ضمان ، وإن مال قبل وقوعه إلى هواء الطّريق ، أو إلى ملك إنسان فإن لم يمكن نقضه ولا فرّط في ترك نقضه لعجزه فلا ضمان ، فإن أمكنه وطولب بذلك ولم يفعل ضمن ، وإن لم يطالب لم يضمن .
أثر الإذن في دخول البيوت :
50 - لا يجوز لأحد دخول دار غيره بدون إذنه ولذلك وجب الاستئذان عند إرادة الدّخول لقوله تعالى : { يا أيّها الّذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتّى تستأنسوا وتسلّموا على أهلها } ، فإن أذن له دخل وإن لم يؤذن له رجع . وللإذن في دخول البيوت أثر في حدّ السّرقة ، إذ يعتبر الإذن بالدّخول شبهة دارئة للحدّ ؛ لأنّ الدّار قد خرجت من أن تكون حرزاً بالإذن ، ولأنّه لمّا أذن له بالدّخول فقد صار في حكم أهل الدّار ، فإذا أخذ شيئاً فهو خائن لا سارق ، إلاّ أنّ الفقهاء يختلفون في تحديد ما يعتبر سرقةً وما لا يعتبر ، على تفصيل موطنه مصطلح ( سرقة ) .
51 - وكذلك للإذن في دخول البيوت أثر في الجناية والضّمان ، ومن ذلك من دخل دار غيره بإذنه فعقره كلبه ، فعند الحنابلة والمالكيّة وفي القول الثّاني للشّافعيّة فيه الضّمان على صاحبه ، لأنّه تسبّب في إتلافه بعدم كفّ الكلب عنه خلافاً للحنفيّة وقول للشّافعيّة . وكذلك من حفر بئراً في داره ، ودخل الدّار رجل بإذن صاحب الدّار ، فوقع فيها ، فلا ضمان على صاحب الدّار عند المالكيّة والحنفيّة ، وعند الحنابلة والشّافعيّة إن كانت البئر مكشوفةً والدّاخل بصير يبصرها فلا ضمان ، وإن كان الدّاخل أعمى ، أو كانت البئر في ظلمة لا يبصرها ، فعلى صاحب الدّار الضّمان عند الحنابلة ، والأظهر عند الشّافعيّة ، وفي القول الثّاني للشّافعيّة لا ضمان . وللتّفصيل يرجع إلى مصطلح ( جناية ) .
أثر الإذن في العقود :
52 - الأصل أنّ المأذون له في التّصرّفات ينفذ تصرّفه فيما له فيه نفع ، كالصّبيّ المأذون عند من يجيز تصرّف الصّبيّ . أمّا التّصرّفات الضّارّة فلا تصحّ ولو بالإذن ، ولذلك لا يصحّ تبرّعه . والصّبيّ المميّز المأذون له يملك ما يملكه البالغ لكن يشترط لصحّة الإذن أن يعقل أنّ البيع سالب للملك عن البائع ، والشّراء جالب له ، ويعرف الغبن اليسير من الفاحش . 53 - والإذن في العقود يفيد ثبوت ولاية التّصرّف الّذي تناوله الإذن ، وذلك كالوكالة والشّركة والقراض ( المضاربة ) ، فإنّه بمقتضى هذه العقود يثبت لكلّ من الوكيل وعامل القراض والشّريك ولاية التّصرّف الّذي تناوله الإذن ، كالوكالة في عقد البيع أو في عقد النّكاح وهكذا ، ولا يجوز له مباشرة أيّ عقد يخالف نصّ الإذن . وأمّا حقوق ما يباشرونه من عقود مأذون فيها فبالنّسبة للشّريك ترجع إليهما ، وبالنّسبة لعامل المضاربة ترجع إلى ربّ المال . أمّا بالنّسبة للوكيل فقد اختلف الفقهاء في ذلك : فعند الحنابلة وهو الأصحّ عند الشّافعيّة تكون العهدة على الموكّل ، ويرجع بالحقوق إليه ، وكذلك الحكم عند المالكيّة بالنّسبة للوكيل الخاصّ . أمّا الوكيل المفوّض عندهم فالطّلب عليه . ويقول الحنفيّة : كلّ عقد لا يحتاج فيه إلى إضافته إلى الموكّل ، ويكتفي الوكيل فيه بالإضافة إلى نفسه فحقوقه راجعة إلى العاقد ، كالبياعات والأشرية والإجارات ، فحقوق هذه العقود ترجع للوكيل وهي عليه أيضاً ، ويكون الوكيل في هذه الحقوق كالمالك والمالك كالأجنبيّ ، حتّى لا يملك الموكّل مطالبة المشتري من الوكيل بالثّمن ، وإذا استحقّ المبيع في يد المشتري يرجع بالثّمن على الوكيل . وكلّ عقد يحتاج فيه الوكيل إلى إضافته إلى الموكّل فحقوقه ترجع إلى الموكّل ، كالنّكاح والطّلاق والعتاق على مال والخلع ، فحقوق هذه العقود تكون للموكّل وهي عليه أيضاً ، والوكيل فيها سفير ومعبّر محض ، حتّى إنّ وكيل الزّوج في النّكاح لا يطالب بالمهر وإنّما يطالب به الزّوج إلاّ إذا ضمن المهر فحينئذ يطالب به لكلّ بحكم الضّمان . 54 - وقد يقوم إذن الشّارع مقام إذن المالك فيصحّ العقد وإن لم يأذن المالك ، وذلك كمن توجّه عليه دين وامتنع من الوفاء والبيع ، فإن شاء القاضي باع ماله بغير إذنه لوفاء دينه ، وإن شاء عزّره وحبسه إلى أن يبيعه . 55 - أمّا التّصرّف في مال الغير بدون إذنه ، وذلك كالفضوليّ يبيع مال غيره بغير إذنه فإنّه يتوقّف على الإجازة عند غير الشّافعيّة ، والإجازة اللاّحقة كالوكالة السّابقة ، والوكالة إذن ، وعند الشّافعيّة وفي رأي للحنابلة البيع باطل . 56 - وإذن المالك في العقود الّتي يباشرها بنفسه قد يفيد تمليك العين ، سواء أكان على سبيل البدل كما في القرض ، أم بدون عوض كما في الهبة والوصيّة بالعين . وقد يفيد تمليك المنفعة أو الانتفاع كالإجارة والإعارة أو تمليك الانتفاع بالبضع كما في عقد النّكاح وقد سبق بيان ذلك .
أثر الإذن في الاستهلاك :
57 - الإذن قد يرد على استهلاك رقبة الشّيء ومنافعه ، وهو من الشّارع يفيد التّملّك بالاستيلاء الحقيقيّ ، وذلك كالإذن بصيد البحر وصيد البرّ في غير الحرم ، ومن ذلك الماء والكلأ والنّار وهي المشتركات الثّلاث الّتي نصّ عليها الحديث : « المسلمون شركاء في ثلاث ، في الماء والكلأ والنّار » . أمّا الإذن بالاستهلاك من العباد بعضهم لبعض فإنّه يختلف أثره . فقد يفيد التّمليك على سبيل العوض كما في قرض الخبز والدّراهم والدّنانير . وقد يفيد الإذن التّمليك من غير عوض كما في هبة المأكول والمشروب والدّراهم والدّنانير . وقد لا يكون الإذن بالاستهلاك تمليكاً ، وإنّما يكون طريقاً إليه ، وذلك كما في الولائم والمنائح والضّيافات .
أثر الإذن في الجنايات :
58 - الأصل أنّ الدّماء لا تجري فيها الإباحة ، ولا تستباح بالإذن وإنّما يكون الإذن - إذا كان معتبراً - شبهةً تسقط القصاص ، ومن ذلك من قال لغيره : اقتلني فقتله ، فإنّ القود يسقط لشبهة الإذن ، وذلك عند الحنفيّة والحنابلة والشّافعيّة في الأظهر ، وهو قول للمالكيّة ، وفي قول آخر للمالكيّة أنّه يقتل وفي قول ثالث أنّه يضرب مائةً ويحبس عاماً . واختلف في وجوب الدّية ، فتجب عند الحنفيّة وهو قول للمالكيّة والشّافعيّة . وكذلك من قال لغيره : اقطع يديّ فقطع يده فلا ضمان فيه ، وذلك عند الحنفيّة والحنابلة ، وهو الأظهر عند الشّافعيّة ، ورجّحه البلقينيّ ، وقال المالكيّة أيضاً : يعاقب ولا قصاص عليه ، وتنظر التّفصيلات في مصطلح : ( جناية ) . 59 - ومن أمر إنساناً بقتل غيره فإن كان بلا إكراه ففيه القصاص على المأمور واختلف في الآمر . أمّا إذا كان الأمر بإكراه ملجئ فإنّ القصاص على الآمر ، واختلف في المأمور ، فعند الحنابلة والمالكيّة وهو الصّحيح عند الشّافعيّة وقول زفر من الحنفيّة ، أنّه يقتل لمباشرته القتل ، وقال أبو يوسف : لا قصاص على واحد منهما ، والمذهب أنّ المأمور لا يقتل . وفي الموضوع تفصيلات كثيرة ( ر : إكراه - قتل - جناية ) . 60 - ولا قصاص على من قتل غيره دفاعاً عن نفسه أو عرضه أو ماله ؛ لأنّ الدّفاع عن ذلك مأذون فيه لكن ذلك مشروط بما إذا كان الدّفع لا يتأتّى إلاّ بالقتل .
أثر الإذن في الانتفاع :
61 - الانتفاع إذا كان بإذن من الشّارع فإنّه قد يفيد التّمليك بالاستيلاء الحقيقيّ كما في تملّك الحيوان المباح بالصّيد ، وكما في تملّك الأرض الموات بالإحياء . وقد يفيد اختصاصاً لمن سبق ، كالسّبق إلى مقاعد المساجد للصّلاة والاعتكاف ، والسّبق إلى المدارس والرّبط ومقاعد الأسواق . وقد يفيد ثبوت حقّ الانتفاع المجرّد ، كالانتفاع بالطّريق العامّ والمسيل العامّ ، والانتفاع بذلك مشروط بسلامة العاقبة . 62 - وإذا كان الانتفاع بإذن من العباد بعضهم لبعض ، فإن كان الإذن بدون عقد كإذن صاحب الطّريق الخاصّ والمجرى الخاصّ لغيره بالانتفاع فإنّه لا يفيد تمليكاً ، وإنّما يترتّب عليه الضّمان بسوء الاستعمال . 63 - أمّا إذا كان منشأ الانتفاع عن عقد كالإجارة والإعارة ، فإنّ الفقهاء يتّفقون على أنّ عقد الإجارة يفيد ملك المنفعة ، فيكون للمستأجر أن يستوفي المنفعة بنفسه ، ويكون له أن يؤجّر فيملك المنفعة لغيره . أمّا عقد الإعارة فإنّهم يختلفون في إفادته ملك المنفعة . فعند الحنابلة والشّافعيّة على الصّحيح لا تفيد ذلك إلاّ بإذن من المالك ، وعلى ذلك فلا يجوز للمستعير أن يعير غيره وإنّما يستوفي المنفعة بنفسه ، وعند الحنفيّة والمالكيّة تفيد الإعارة ملك المنفعة فيجوز للمستعير أن يعير غيره . 64 - ويترتّب الضّمان على الانتفاع النّاشئ عن مثل هذه العقود بمجاوزة الانتفاع المأذون فيه أو بالتّفريط . على تفصيل في ذلك ، يرجع إليه في مصطلح : ( ضمان ) .
انتهاء الإذن :
65 - الإذن إذا كان من الشّارع فليس فيه إنهاء له ولا يتصوّر ذلك ؛ لأنّ إذن الشّارع في الأموال المباحة يفيد تملّكها ملكيّةً مستقرّةً بالاستيلاء . أمّا إذن العباد بعضهم لبعض ، فإن كان إذناً بالانتفاع ، وكان منشأ الانتفاع عقداً لازماً كالإجارة فإنّه ينتهي بانتهاء المدّة ، أو بانتهاء العمل وفق الإذن الصّادر له ومدّة قيام الإذن . وإن كان منشأ الانتفاع عقداً جائزاً كالإعارة فإنّ الإذن ينتهي برجوع المعير في أيّ وقت شاء سواء أكانت العاريّة مطلقةً أم مؤقّتةً ؛ لأنّها إباحة ، وهذا عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة ، إلاّ أنّ الحنفيّة يقولون : إن كانت الإعارة مؤقّتةً وفي الأرض غرس أو بناء فلا يجوز رجوعه قبل الوقت . ويقول الحنابلة والشّافعيّة : إن أعاره أرضاً للزّراعة فعليه الإبقاء إلى الحصاد . وإن أعاره أرضاً ليدفن فيها فلا يرجع حتّى يندرس أثر المدفون ، أمّا المالكيّة فعندهم لا يجوز الرّجوع في العاريّة المؤقّتة قبل انتهاء وقتها ، وإن كانت مطلقةً لزمه أن يتركه مدّةً معتادةً ينتفع بها في مثلها . وإن كان إذناً بالتّصرّف كالوكالة والشّركة والمضاربة فإنّ الإذن ينتهي بالعزل ، لكن بشرط أن يعلم المأذون بذلك ، وأن لا يتعلّق بالوكالة حقّ للغير . وينتهي الإذن كذلك بالموت ، وبالجنون المطبق وبالحجر على الموكّل ، وبهلاك ما وكّل فيه ، وبتصرّف الموكّل بنفسه فيما وكّل فيه ، وباللّحاق بدار الحرب مرتدّاً . ومثل ذلك ناظر الوقف والوصيّ فإنّهما ينعزلان بالرّجوع وبالخيانة وبالعجز .
الموسوعة الفقهية / نهاية الجزء الثاني
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
بارك الله فيك وجزاك كل خير
دمت بحفظ الرحمن
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
مشكور اخي باسم
بارك الله فيك
رد: الموسوعة الفقهية / الجزء الثاني
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
جزاك الله كل خير
:n200673: