التربية الروحية في الإسلام
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مقدمَّة:
لم يقتصر دين الإسلام على مجرَّد الدعوة للإيمان بالله فحسب؛ بل جاء للناس بمنهج تربوي كامل وشامل، لشتَّى فروع التربية الَّتي تستند إليها المجتمعات الإنسانية، في عمليَّة التقدُّم والتطوُّر نحو الأفضل، وفي سـبيل تحقيق ما يصبو إليه أفرادها من سعادة ونجاح، وطمأنينة وسلام.
إن التربية الروحيَّة نواة التربية الإسلامية وجوهرها، وقد قامت على قواعد قويَّة، وأسس متينة من شأنها توطيد أواصر الصلة بين المسلم وربِّه، وربط أسباب دنياه بأسباب آخرته. وقد رافقتها التربية الأخلاقية كظلِّها، ثمَّ أُكملتا بالتربية الاجتماعية، الَّتي كانت بمثابة الطابق الثالث في بناء التربية في الإسلام. وإن أهمَّ طاقة تنير هذا البناء : دوام ذكر الله وتسبيحه، وتلاوة كتابه، والاستقامة على عبادته، والتضرُّع إليه بالدعاء.
إن من أبرز سمات تربية الإسلام الروحية، الاعتدال والتوازن بين مطالب الروح ومطالب الجسد، وأقرب مثال على ذلك العبادات الَّتي تُعنى بالجانبين الروحي والمادي في الإنسان، وقد جُعلت متنوِّعة ومتكرِّرة ليبقى المسلم على طهارة روحية متجدِّدة تقرِّبه من الله، وتجذبه إليه كلَّما نأت به ماديَّات الحياة بعيداً عن الحضرة الإلهية.
وقد ظهرت ميزة الاعتدال بشكل أوضح في كثير من الآيات القرآنية؛ ففي طائفة منها نجد حضّاً للمؤمنين على طلب المنزلتين الروحيَّة والماديَّة معاً كقوله تعالى: {وابْتَغِ فيما آتاكَ الله الدَّارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبكَ من الدُّنيا وأَحْسِن كما أَحْسَن الله إليك ولاتَبْغِ الفَسادَ في الأَرضِ إنَّ الله لا يحبُ المُفسِدينَ} (28 القصص آية 77).
وفي طائفة أخرى من الآيات يرشد الله المؤمنين لكي يَجْمَعوا في دعائهم بين طلب الدنيا وطلب الآخرة وذلك في قوله جلَّ وعلا: {..فَمِنَ النَّاسِ من يقول ربَّنَا آتِنَا في الدُّنيا وما له في الآخرةِ من خَلاق * ومنهم من يقولُ ربَّنا آتِنَا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النَّار * أولئك لهم نصيبٌ ممَّا كَسَبُوا والله سريعُ الحِساب} (2 البقرة آية 200ـ202). فالوسطيَّة بين الروحانيَّة المتطرِّفة، والماديَّة المفرطة الجامحة، أمر تستدعيه حياة المجتمع، والإسلام هو الَّذي تحقَّقت فيه هذه الميزة، وتفرَّد بها عن غيره، قال تعالى: {وكَذلكَ جَعَلنَاكُم أمَّة وَسَطاً..} (2 البقرة آية 143).
وفي هذا الباب سنتناول أبرز الدعائم الَّتي قامت عليها تربية الروح في الإسلام، ونوجزها ضمن عدد من الفصول، ثمَّ ننتقل إلى التربية الأخلاقية في الإسلام بإذن الله.
رد: التربية الروحية في الإسلام
الفصل الأوَّل:
ذكر الله وحسن الصلة به
سورة الأحزاب(33)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اذكروا الله ذِكراً كثيراً(41) وسبِّحوه بُكْرَةً وأصيلا(42) هوَ الَّذي يُصلِّي عليكُمْ وملائِكَتُهُ ليخرجَكُم من الظُّلمات إلى النُّورِ وكان بالمؤمنين رحيماً(43) تحيَّتُهُمْ يومَ يَلْقَونَهُ سلامٌ وأَعدَّ لهم أجراً كريماً(44)}
ومضات:
ـ إن ذكر الله تعالى هو قوام الحياة الروحية، وهو العنصر الفعَّال الَّذي يتفاعل داخل كيان الذاكر، ويتَّحد مع ذرَّات القلب ليتحوَّل إلى طاقة نورانيَّة ربانيَّة، تولِّد في روح المؤمن القوَّة والنشاط، وتدفعه للقيام بالمزيد من الطاعات والعبادات والعمل المنتج، وهو عطاء مستمر لا ينقطع، ومن ثمراته خروج المؤمن من الظلمات النفسيَّة والماديَّة إلى رحاب الحقِّ والحكمة والعمل الصالح، وهذا من رحمة الله بعباده وهو أرحم الراحمين.
ـ في الدار الآخرة ـ يوم اللقاء العظيم مع حضرة الله ـ يجد المؤمن كل سلام وتقدير ومحبَّة، مع التكريم في المُقَام، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
في رحاب الآيات:
أعطيات الله تعالى سابقة لعباداتنا، فقد رزقنا العقل لندرك عظمته وقدراته الخلاَّقة، ووهبنا الحسَّ الروحي والفطرة السليمة، لنذوق حلاوة الإيمان، ومنحنا أجساماً قويَّة، كاملة البنية، لنستعين بها على القيام بالعمل المطلوب منَّا، ولنسخِّرها مع جملة الطاقات الَّتي أودعها الله فينا للتحرُّر من ظلمات الجهل والتقاليد، والخروج منها إلى نور العلم والمعرفة واليقين.
ولما كان ذكر الله من أهم الأبواب الَّتي يَلِجُها المؤمن؛ للوصول إلى رحاب المعرفة الإلهيَّة، جاء الحضُّ عليه في آيات من القرآن الكريم، يفوق عددها عدد الآيات الَّتي تحضُّ على غيره من العبادات المحدَّدة بأوقات معيَّنة، كما جاء الأمر بالمداومة عليه في كل حين وعدم الانشغال عنه في أي حال من الأحوال، قال تعالى: {..فاذكروا الله قِياماً وقُعوداً وعلى جُنُوبكم..} (4 النساء آية 103) فهو مطلوب بالليل والنهار، وفي البَرِّ أو البحر، في السفر أو الحضر، في الغنى أو الفقر، في الصحَّة أو السُّقم، في السرِّ أو الجَهْر، وعلى كل الأحوال.
وليس الذكر مجرَّد تحريك للِّسان؛ بل هو اتصال قلبي بالله، ونشاط روحي بنَّاء. والقلب الفارغ من الذكر يبقى لاهياً حائراً مظلماً، ما لم يحصل له الاتصال بالله والأنس بمجالسته، فإذا امتلأ من نور ذكره، صحا صاحبه من لهوه، واهتدى بعد حيرته، فأبصر طريقه وعلم من أين وإلى أين ينقل خطاه. ومن خير ما قيل في تصوير القلوب الخالية من الذكر والقلوب العامرة به، قول أحد العلماء العارفين:
قلـوب إذا منـه خلت فنفوس لأَحْرُف وسواس اللعين طروس
وإِن مُلِّئَت منه ومن نور ذكره فتلك بـدور أشـرقت وشـموس
ولا يزال لسان العبد يلهج باسم الله حتَّى يحصل له الحضور الدائم معه، وحينها يفوز بالشـهود القلبي، فلا يفتر عن مراقبة الله وذكره، إلى أن يحظى باليقين والطمأنينة المطلقَيْن، قال تعالى: {الَّذين آمَنُوا وتَطْمَئِنُ قُلُوبُهم بذِكرِ الله ألاَ بذِكْرِ الله تَطمئِنُّ القُلوب} (13 الرعد آية 28) وإذا غلب الذكر على الذاكر امتزج حبُّ المذكور بروحه، حتَّى تزول الحجب بينه وبين ربِّه، ويلمس حقيقة وجوده بعين البصيرة، فيغدق عليه الحقُّ تعالى من العلوم والأنوار ما يليق بفضله وكرمه.
ويجب أن يكون الذكر مقترناً بالتسبيح الَّذي هو تنزيه لله جلَّ وعلا عما لا يليق به من الصفات، وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل التسبيح بقوله: «من قال سبحان الله العظيم نَبتَ له غرس في الجنَّة» (أخرجه ابن مردويه). كما أخرج ابن أبي شيبة عن مصعب بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال العبد: سبحان الله قالت الملائكة: وبحمده، وإذا قال: سبحان الله وبحمده، صلُّوا عليه». وثواب الذكر هو صلاة الله وملائكته على العبد الذاكر المسبِّح لله {هُوَ الَّذي يُصَلِّي عَلَيْكُم ومَلائِكَتُهُ..}، وصلاة الله رعاية لعبده، وعناية بأمره، ورفع لدرجاته، وصلاة الملائكة استغفار له ودعاء. وهذا من شأنه أن يخرجه من ظلمات الضلالة إلى نور الله؛ ونور الله واحد متَّصل شامل، وهو يشرق في قلوب المؤمنين، ويغمر أرواحهم، ويهديهم إلى فطرة التَّوحيد الَّتي يقوم عليها الوجود كله، وذلك أجرهم في الدنيا دار العمل، أمَّا أجرهم في الآخرة دار الجزاء فهو الأمان من عذاب الله يوم القيامة، والفوز بالأجر العظيم. والله واسع الرحمة بالمؤمنين حيث يقبل القليل من أعمالهم، ويعفو عن الكثير من ذنوبهم إذا أخلصوا وصدقوا في إيمانهم.
وتحيَّة المؤمنين الذاكرين يوم يلقون ربَّهم سلام؛ وهل هناك ما هو أجمل وأصفى من السَّلام؟ سلام من كلِّ خوف، ومن كلِّ تعب، ومن كلِّ كدٍّ، سلام يتلقَّونه من الله تحمله إليهم الملائكة، وهم يدخلون عليهم من كلِّ باب، يبلِّغونهم التحيَّة العلويَّة، إلى جانب ما أَعَدَّ الله لهم من أجر كريم، فياله من تكريم.
سورة الزخرف(43)
قال الله تعالى: {ومن يَعْشُ عن ذِكْرِ الرَّحمنِ نُقَيِّضْ له شيطاناً فهو له قرينٌ(36)}
ومضات:
ـ إن نور الله تعالى يحصِّن قلب المؤمن ويضرب حوله سوراً منيعاً يصعب على الشيطان أن يخترقه، ولا يزال هذا السور قائماً ما اسـتقام الذاكر على ذكر الله تعالى. أمَّا من غفل عن الله وقطع اتصاله به، فهو أعزل أجرد لا حول له ولا قوَّة، تغزوه نزغات الشيطان من شتَّى الاتجاهات.
في رحاب الآيات:
قضت سنَّة الله في الكون أن يطرد النور الظلام، فما إن يظهر النور حتَّى يختفي الظلام، وبمجرَّد أن ينحسر النور وينطفئ، يعود الظلام ليحلَّ من جديد. وبذرة النور الإلهي مزروعة في ساحة القلب الإنساني، وهي الفطرة الَّتي أودعها الله تعالى قلوب خلائقه، وهذه الساحة تُشِعُّ وتضيء، وتنبض بالحياة الإيمانيَّة كلَّما مَسَّتها النفحات الإلهية، وتبقى هكذا مضيئة مشرقة طالما بقي لها هذا الاتصال مع حضرة الله، فلا تكتنفها ظلمة أو غفلة.
ولا يتحقَّق الاتصال بحضرة الله تعالى إلا بكثرة ذكره، الَّذي تدخل ضمن دائرته بعض العبادات كالصَّلاة والحجِّ، وتندرج في أنواعه المداومة على قراءة القرآن الكريم بوعي وتبصُّر، وعندها تصبح ساحة القلب مهبطاً للعلوم الربَّانية، وملتقى للأنوار الإلهيَّة، وبهذا يطمئنُّ القلب ويخشع، وينقاد لأوامر الله بكل محبَّة ورغبة. أمَّا إذا أُهمل هذا القلب، وأعرض به صاحبه عن عطاء الله وتجلِّياته، فإنه يغدو نفقاً للشيطان ينفذ من خلاله إلى أعماق نفسه، لينفث فيها سمومه وأفكاره، فيصبح أداة طيِّعة له، فقد أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما منكم من أحد إلا وقد وَكَّل الله به قرينه من الجن، قالوا: وإيَّاك يارسول الله؟ قال: وإيَّاي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير». فكما أن الظلمات والنور لا يجتمعان في مكان واحد ووقت واحد، كذلك فإن الشيطان لا يمكن أن يدخل قلباً استقرَّ فيه النور الإلهي.
فالقلب إمَّا عرش للرحمن، وإمَّا عشٌّ للشيطان، والشقيُّ المحروم من أهمل قلبه، حتَّى جعل منه بؤرة، ينفث فيها الشيطان وساوسه وشروره، والسعيد الموفَّق من نظَّف سريرته، وطهَّر قلبه فصار منزلاً لأنوار الله، وانتصر بذلك على شيطانه فابتعد عنه ولاذ بالفرار؛ كما كان شأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الَّذي قال في حقِّه النبي صلى الله عليه وسلم : «والله إن الشيطان ليفرُّ منك ياعمر» (رواه الشيخان).
سورة الأنفال(8)
قال الله تعالى: {إنَّما المؤمنونَ الَّذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبُهُمْ وإذا تُلِيَتْ عليهِمْ آياتُهُ زادتْهُمْ إيماناً وعلى ربِّهِم يتوكَّلون(2)}
سورة الرعد(13)
وقال أيضاً: {الَّذين آمنوا وتَطْمَئِنُّ قُلوبُهُم بذكْرِ الله ألا بذكْرِ الله تَطمئِنُّ القلوبُ(28)}
ومضات:
ـ للإيمان علائم وإشارات تدلُّ على صدق الإنسان في ادِّعائه؛ إنه لا يهدأ باله، ولا تسكن نفسه إلا عندما يلزم محراب ذكر الله عزَّ وجل. وإذا ما سمع ذكره من غيره، وتليت عليه آياته انتابه شعور بعظمته وجلاله، وسيطر عليه خشوع يمتزج به رجاء مرضاته، والوجل والخوف من حرمان رتبة القبول عنده.
ـ غريزة الخوف هي إحدى الغرائز الفطرية في النفس البشريَّة، إلا أن التربية الإيمانيَّة تهذِّبها وتوجِّهها نحو الله تعالى وحده، وتخلِّصها من الخوف ممَّا سواه، وليصبح الخوف من الله حافزاً للمؤمن وسبباً لطمأنينته، بدلاً من أن يكون عاملاً مثبِّطاً له.
ـ يجب أن تظهر ثمـرات الذكر والخشـية ـ الَّتي هي خـوف ممزوجٌ بالحـبِّ ـ في سـائر أعمالنا الخاصَّة والعامَّة، كانعكاسات إيمانيَّة طيِّبة لجمال هذا الذكر وصفاته.
في رحاب الآيات:
غريزة الخوف بمعناها الواسع مزروعة في أعماق النفس البشريَّة، غير أن التربية الإيمانيَّة تنظِّم هذه الغريزة وتوجِّهها كغيرها من الغرائز، حتَّى تبقى ضمن إطارها الصحيح ليستفاد منها في إعمار قلب المؤمن بتقوى الله تعالى واستشعار عظمته وهيبته. والخوف من الله نوعٌ من السمو الروحي الَّذي يقرِّب الإنسان من خالقه سبحانه، فتراه كلَّما ازداد منه خوفاً ازداد قرباً إليه لا هروباً. فالمؤمن الوَجِل من الله يخشى أن يخالف أوامره، ولا يغترُّ بالكثير من الأعمال والقربات الَّتي يقوم بها ابتغاء وجهه؛ بل يبقى خائفاً من عدم رضا الله عنها، وعدم اختتامها بخاتمة القبول، وقد قال تعالى في حقِّ هذا المؤمن وحقِّ من كان على شاكلته: {والَّذين يُؤْتُون ما آتَوا وقُلوبُهُمْ وَجِلَةٌ أنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ راجعون * أولئك يُسَارِعُونَ في الخيراتِ وهُمْ لها سابقون} (23 المؤمنون آية 60ـ61) فكانت هذه الآيات أعظم شهادة لهم من الله، وأصدق تعبير عن حالهم، فهم يستصغرون كل عمل يعملونه من أجله، ويرون أنه أقلُّ بكثير ممَّا يتوجَّب عليهم من فروض الطاعة والولاء لخالقهم، فتراهم يتحرَّقون شوقاً للقيام بمزيد من الطاعات، والمسارعة في فعل الخيرات، ويتسابقون إلى الخير ولا يَدَعُون لحظة تمرُّ دون أن يشغلوها، بذكر أو عبادة أو عمل صالح، أو إصلاح بين الناس، أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فمن أحبَّ الله أحبَّ مخلوقاته حُبّاً به، لا فرق في ذلك بين إنسان وحيوان ونبات.
والمؤمنون الذاكرون صفوة مختارة من مخلوقات الله، تنتاب قلوبهم رعشة الإيمان المنعشة؛ كلَّما طرق سمعهم اسم الله، وتستيقظ فيهم عواطف متباينة لكنها سامية، نبيلة، أدناها الحبُّ والشوق، وأعلاها الخوف والخشية، لأنهم يستشعرون عظمة من يقفون على بابه بشكل جليٍّ، وذلك لقوَّة إيمانهم، وشدَّة قربهم منه وكأنهم ماثلون بين يديه، قال تعالى: {..وبَشِّر المُخْبِتِينَ * الَّذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَت قُلوبُهُم..} (22 الحج آية 34ـ35). وهؤلاء المخبتـون ـ أي المتواضعـون المذعنون لله ـ الخاشـعون قد شـفَّت أرواحهم فارتقت، وصفت قلوبهم فاطمأنت، وإذا ما تناهى إلى سمع أحدهم آية من آيات الله تتلى، تواضع وخشع، ولان قلبه وفاض دمعه، واستسلم بكليَّته إلى خالقه. وهذه صورة من صور إعجاز القرآن الكريم في سرعة تأثيره في النفوس، وقوَّة جاذبيته لها؛ إنه يتعامل مع القلب البشري بلا وساطة، فإذا دخل نوره إلى القلب ذاق حلاوته، ووجد في كلماته النورانيَّة المنسجمة، زيادة في الإيمان تبلغ درجة الاطمئنان. وقد وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة من أهل الكتاب عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال: {وإذا سمعوا ما أُنْزِل إلى الرَّسُولِ ترى أعينَهُمْ تَفيضُ من الدَّمْعِ ممَّا عَرَفُوا من الحقِّ يقولونَ ربَّنا آمنَّا فاكْتُبْنَا مع الشَّاهِدِين} (5 المائدة آية 83) فمن عرف صغار شأنه أمام عظمة الله، آمن به وبما أرسله إيماناً نقيّاً خالياً من كلِّ شائبة، فلا تسوِّل له نفسه أن يحيد عن دربه، ولا يسوِّغ له قلبه أن يشرك معه شيئاً من مخلوقاته، أو أن يتوكَّل على أحد منها في تصريف شؤونه وأحواله، بل يتوكَّل على الله وحده، ويبذل الأسباب الَّتي يملكها تنفيذاً لتعاليمه سبحانه وتعالى، في حسن التوكُّل، ثمَّ يفوِّض أمره إليه.
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {واذكر ربَّكَ في نفْسِكَ تَضَرُّعاً وخِيفَةً ودون الجهرِ من القولِ بالغُدُوِّ والآصال ولا تكن من الغافلين(205) إنَّ الَّذين عندَ ربِّكَ لا يستكبِرونَ عن عبادَتِهِ ويُسبِّحونَهُ وله يَسجُدون(206)}
ومضات:
ـ خير الذكر وأفضله الذكر الممزوج بالخوف، الَّذي يصحبه التضرُّع والتذلُّل لله، مع السكينة والخشية منه عزَّ وجل.
ـ ذكر الله عبادة تتَّصف بكونها دائمةً، ومطلقةً عن قيود الزمان والمكان، فأينما كان المؤمن يجب أن يكون مع الله، وأيُّ وقت يمرُّ عليه يجب أن لا يغفل فيه عن ذكره، لاسيَّما في أوَّل نهاره وفي آخره، بالغدوِّ والآصال.
ـ إن الملائكة الأطهار لا يفترون عن هذه العبادة، ودأبهم التسبيح والسجود، شكراً لله على نعمائه، وتمجيداً لعظمته وكبريائه، وهكذا ينبغي أن يكون شأن المؤمن وحاله.
في رحاب الآيات:
في الآية الكريمة إرشاد وتوجيه إلى مداومة الذِّكر النابض بالخوف والتضرُّع، الخافت الخفي، ويؤيِّد ذلك ما رواه أحمد وابن حبان عن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الذِّكر الخفي». فيستحسن للذاكر أن يكثر من خلوته بربِّه بعيداً عن أعين الناس، استزادة في التأمُّل والتبتُّل، وابتعاداً عن الرِّياء والمفاخرة. والخلوةُ بالله هي حضانة روحيَّة، وانقطاع عن كل العلائق المادية والمشاغل الدنيوية، حتَّى إذا بلغت الروح درجة عالية في الصفاء والرقي؛ رجـع صاحبها إلى خوض غمار الدعوة إلى الله، والانتقال من مرحلة التأهُّل الذاتي إلى تأهيل الآخرين. وهذه الخلوة كانت سنَّة جميع المرسلين، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر منها في غار حراء، الَّذي كان الاعتكاف فيه بمثابة الرَّحِمِ، الَّتي احتضنت روحه الشريفة، إلى أن اكتمل إعداده، وأصبح على استعداد لتلقِّي الوحي السماوي، والدعوة إلى دين الله.
فإن لم يكن للمؤمن حظٌّ كبير من ذكر الله، الَّذي يمثِّل الغذاء الأساسي للروح، خرج من الدنيا ولم يكتمل نموُّه الإيماني ونضجه الروحي، فلا تنطلق روحه في ملكوت السموات، بل تبقى أسيرة العذاب والضيق والحرج، وفي ذلك قال السيِّد المسيح عليه السَّلام: (لا يدخل ملكوت السموات من لم يولد ولادتين) أي الولادة الجسدية، والولادة الروحية. وذِكْرُ الله تعالى بوعي وخشوع، طريق يسلكه الذاكرون، فتُفْتَح في وجوههم جميع الأبواب الموصدة، وتزول من أمامهم كلُّ الحُجب المانعة، فيزول الوَقْرُ من الأسماع، وينجلي العمى عن البصائر، وتنقشع الظلمة عن القلوب والعقول. وعلى النقيض من ذلك حال الغافلين الَّذين أهملوا تغذية أرواحهم، وأسرفوا في الاهتمام بمتطلَّبات أجسادهم، فصدق فيهم قول الله تعالى: {..لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يُبْصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعامِ بل هم أضلُّ أولئك هُمُ الغافلون} (7 الأعراف آية 179).
وعندما يستحضر الذاكر جلال الله وعظمته، ويهيمن عليه الشعور بالخوف من غضبه وعقابه، مع رجاء رحمته ومرضاته؛ تصفو روحه، ويرِّق قلبه فيتصل بالله، ويرتبط به برباط الحبِّ الَّذي يدفعه لمراقبته في جميع أحواله، وعدم الغفلة عنه ولو للحظة واحدة. وعندها يصل لأعلى مقامات القرب والشهود، ويتحقَّق بمقام الإحسان الَّذي عرَّفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (متفق عليه عن عمر رضي الله عنه ).
والله جليس الذاكرين ما ذكروه منفردين أو مجتمعين، مُسرِّين أو معلنين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى أنا عند ظنِّ عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» (متفق عليه). وما من جماعة يجتمعون على ذكر الله إلا حفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، وعمَّهم بمغفرته ورحمته. روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذِّكر فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله عزَّ وجل، تنادَوْا: هلُمُّوا إلى حاجتكم، فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا قال: فيسألهم ربُّهم وهو أعلم بهم، ما يقول عبادي: قالوا: يسبِّحونك ويكبِّرونك ويحمدونك ويمجِّدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني: قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادة وأشدَّ لك تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً. قال: يقول: فما يسألونني؟ قال: يقولون: يسألونك الجنَّة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ياربُّ ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدَّ عليها حرصاً وأشدَّ لها طلباً وأعظم فيها رغبة. قال: فممَّ يتعوَّذون؟ قال: يقولون: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدَّ منها فراراً وأشدَّ منها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم».
وأفضل أوقات الذِّكر طرفا النهار، حيث يُحسُّ الذاكر شدَّة ارتباطه بما حوله، ومن ثمَّ شدَّة ارتباطه بخالقه. ومن افتتح نهاره بذكر الله، واختتمه به كان جديراً بأن يراقب الله ولا ينساه فيما بينهما، ولقد كثر في القرآن الكريم التوجيه إلى ذكر الله وتسبيحه، في الآونة الَّتي تشارك فيها ظواهر الكون، في التأثير على القلب البشري وترقيقه، وإرهافه، وتشويقه للاتصال بالله، قال تعالى: {فاصبرْ على ما يقولونَ وسَبِّح بحمدِ ربِّك قبل طُلوعِ الشَّمسِ وقبل الغروب} (50 ق آية 39) وقال: {واذكر اسمَ رَبِّك بُكْرَةً وأَصِيْلاً * ومن اللَّيلِ فاسجدْ له وسبِّحهُ ليلاً طويلاً} (76 الإنسان آية 25ـ26).
وينبغي أن يقترن ذكر الله بالصحوة الفكريَّة واليقظة الروحيَّة، فلا يذكره اللسان، ويغفل عنه القلب، فالإنسان أحوج ما يكون للاتصال بربِّه ليتقوَّى على نزغات الشيطان. فالله تعالى يقوِّي عزيمة عباده المؤمنين، ويشحذ همَّتهم لإحسان عبادته، والتوجُّه إليه، والاتصال به، فيزوِّدهم بما يغنيهم عمَّن سواه. ويضرب الله لعباده مثلاً بالملائكة الأطهار الَّذين هم دائبون على عبادته، يسبِّحونه، ويقدِّسونه، ويسجدون لجلاله، وقد اختصَّ السجود بالذِّكر لأن العبد أقرب ما يكون إلى الله وهو ساجد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول: ياويله! أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنَّة، وأُمرت بالسجود فأبيتُ فلي النار» (أخرجه مسلم وابن ماجه والبيهقي). وفي هذا قال أحد العارفين المحبِّين: [اعلم أنه لا شيء أنكأ على إبليس من ابن آدم في جميع أحواله في صلاته من سجوده، لأنه خطيئته، فكثرة السجود وتطويله يحزن الشيطان وليس الإنسان بمعصوم من إبليس في صلاته إلا في سجوده، لأنه حينئذ يذكر الشيطان معصيته فيحزن، فيشتغل بنفسه عنك]، ولذلك أصبح دأب الشيطان المستمر، وشغله الشاغل الترصُّد للمؤمنين، والحيلولة بينهم وبين الذِّكر، قال تعالى: {إنَّما يُرِيْدُ الشَّيطانُ أن يُوقِعَ بينَكُمُ العداوَةَ والبَغْضَاءَ في الخمر والميسرِ ويَصُدَّكُم عن ذكرِ الله وعن الصَّلاة فهل أنتم مُنْتَهُون} (5 المائدة آية 91).
وتُخبرنا الآية الكريمة بأن الملائكة الأطهار دائبون على تسبيح الله وذكره، لا يستكبرون عن عبادته ولا يقصِّرون. وهم الَّذين لا ينزغ في أنفسهم شيطان، ولا تستبدُّ بهم نزوة، ولا تغلبهم شهوة لأنهم مبرَّؤون من ذلك. فما أحوج الإنسان إلى الاقتداء بهم في كثرة ذكر الله وتسبيحه؛ وهو المخلوق الَّذي فُطِرَ على حبِّ الخير ولديه القابليَّة للشر، وفيه لمَّة من المَلَكِ ونزعة من الشيطان؛ فإنْ أَكثر من ذكر الله، غلب عليه الخير واتَّصف بالصفات الملائكيَّة، وإن غفل عن ذكره تعالى، تحكَّم به الشرُّ وصار الشيطان له قريناً، يأمره بالسوء والفحشاء، حتَّى يرديه في أودية الشقاء.
سورة الزُّمَر(39)
قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ الله صدرهُ للإسلامِ فهو على نُورٍ من رَبِّهِ فويلٌ للقاسيةِ قُلوبُهُم من ذكرِ الله أولئك في ضلالٍ مبين(22) الله نَزَّل أَحْسَن الحديثِ كتاباً متشابهاً مَثَانِيَ تقشَعِرُّ منه جلودُ الَّذين يخشونَ ربَّهُم ثمَّ تَلينُ جلودُهُمْ وقُلوبُهُمْ إلى ذكْرِ الله ذلك هُدى الله يهدي به من يشاءُ ومن يُضْلِلِ الله فما له من هَادٍ(23)}
ومضات:
ـ إن انشراح الصدر للإسلام يعني تفتُّح خلايا العقل والقلب والنفس، لاستقبال العلم الإلهي المودع في رسالة الإسلام، ومن ثمَّ هضمه واستيعابه ليتمثَّل عملاً وأخلاقاً.
ـ مَثَلُ القلوب القاسية الَّتي تراكمت عليها الحجب، وحالت دون وصول نور الله وهدايته إليها، فأضحت صلدة ميتة كمثل البئر المهجورة الَّتي سدَّتها الصخور، فحالت دون نزول الغيث فيها، فجفَّت وغارت مياهها.
ـ إن لذكر الله حلاوة وعذوبة ترتعش لها أوصال الذاكر، وتُسْتقى منها برودة اليقين، وإن حلاوتها لتزيد في كلِّ مرة أكثر من سابقتها.
ـ من تعرَّض للهداية الإلهية وفتح لها مغاليق قلبه أخذ بقسط وافر منها، ومن أعرض عنها تشعَّبت به المسالك فلا هادي يرشده، ولا نور يضيء له الطريق.
في رحاب الآيات:
الكآبة والانقباض، والسرور والانشراح، حالات متباينة ومختلفة تعتري النفس البشرية، وتعود في أصلها لأسباب كثيرة، قد تكون ظاهرة يسهل على الإنسان تحديدها ومعالجتها، وقد تكون خفيَّة وغامضة يصعب عليه معرفتها وإدراكها. والقرآن الكريم يعطينا من خلال هذه الآيات، تفسيراً واضحاً لهذه الحالات، الَّتي تنتاب أحدنا فتجعله يشعر بالانشراح أو الانقباض؛ فالانشراح علامة من علامات دخول النور للقلب المتصل بالله، أمَّا الانقباض فهو أثر يخلِّفه البعد عن الله، والإعراض عن ذكره.
وإن جوهر الإسلام نور إلهي يخترق حجب الصدور، ليشيع في القلوب أجواء الراحة والسعادة النفسيَّة، وهذا النور القدسي عندما لا يجد في القلب مستقراً، يعود من حيث أتى، تاركاً المُعرض عنه في ظلمات بعضها فوق بعض، ويصبح من العسير إزالتها. فالعاقل من يتفقَّد قلبه ويتأكَّد من سلامته من التلوُّث، ويراقب تقلُّباته خشية أن تتراكم عليه الآفات، فتحيله إلى قلب أجرد قاحل، لا ينبت إلا الشوك والضريع، كما يسعى جاهداً لوقايته والمحافظة عليه بكثرة الذِّكر، الَّذي يستمطر به أنوار الله، فتتفجَّر ينابيع الحكمة المودعة في أعماقه على لسانه، وتتندَّى تربة هذا القلب فيشدُّها الحنين والشوق إلى بارئها، ويطلب صاحبها الصلة والوصال بإرادة المحبِّ الظمآن، وبعزيمة العاشق الولهان!! فياحسرة على القاسية قلوبهم الَّذين إذا ذكر الله عندهم، وذُكِرَتْ دلائل قدرته وبدائع صنعته أمامهم، أعرضت نفوسهم، وازدادت قلوبهم قسوة، فحُرموا من تذوُّق حلاوة الإيمان، مثلهم في ذلك كمثل المريض الَّذي تعاف نفسه أطايب الطعام. أخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي»، وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تُوْرِثُ القسوةَ في القلب ثلاثُ خصال: حبُّ الطعام، وحبُّ النوم، وحبُّ الراحة». وكما أن للقسوة أسبابها، فللانشراح علاماته وأسبابه، أخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً قال: «يارسول الله! أيُّ المؤمنين أَكْيَس؟ قال: أكثرهم ذكراً للموت، وأحسنهم له استعداداً، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع، فقال: وما آية ذلك يانبي الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت».
فالمؤمنون يتلقَّون القرآن الكريم بمحبَّة وقبول، لأنهم يوقنون أنه كتاب الله، الَّذي لا اختلاف في طبيعته، ولا في اتجاهاته، ولا في روحه، ولا في خصائصه، بل هو كلٌ متماسك، تتكرَّر مقاطعه وقصصه، وتوجيهاته ومشاهده، ولكنها لا تختلف ولا تتعارض، إنما تُعاد في مواضع متعددة، وفق حكمة تتحقَّق في الإعادة والتكرار في تناسق واستقرار، على أصول ثابتة متشابهة، لا تعارض فيها ولا اصطدام. والَّذين يخشون ربَّهم ويتَّقونه، ويعيشون في تطلُّع ورجاء، يتلقَّون هذا الذِّكر في وجل وارتعاش، وفي تأثُّر شديد تقشعرُّ له الجلود، ثمَّ تهدأ نفوسهم، وتأنس قلوبهم بهذا الذِّكر، قال زيد بن أسلم: قرأ أُبَيُّ بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فرقُّوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اغتنموا الدُّعاء عند الرِّقة فإنها رحمة» (أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أُبي بن كعب)، وعن العباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اقشعرَّ جلد المؤمن من مخافة الله تحاتَّت عنه خطاياه كما يتحاتُّ عن الشجرة البالية ورقُها» (أخرجه البيهقي في الشعب والخطيب والبزار). وقال أحد المحبِّين الذاكرين: [ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة].
وإن القلوب الطاهرة لترتعش حين تحرِّكها النفحات الإلهية نحو الهدى والاستجابة والإشراق، وهي على النقيض من قلوب الضالِّين الَّتي لا تقبل الهدى، ولا تجنح إليه؛ فتغدو قاسية غافلة لا تستشعر الأنوار الإلهية، ولا تتحسَّس العطايا الربانية.
سورة الحديد(57)
قال الله تعالى: {ألم يَأْنِ للَّذين آمنوا أن تخشعَ قُلوبُهُم لِذكْرِ الله وما نَزَلَ من الحقِّ ولا يكونوا كالَّذين أُوتوا الكتابَ من قبلُ فَطَالَ عليهِمُ الأمَدُ فقَسَتْ قُلوبُهُم وكثيرٌ منهم فاسقون(16) اعلموا أنَّ الله يُحيي الأرضَ بعد موتِها قد بيَّنَّا لكُمُ الآياتِ لعلَّكم تَعقلون(17)}
ومضات:
ـ لابدَّ للمؤمنين من شحذ هممهم لاجتياز طريق الإيمان بمحبَّة الله تعالى وخشيته، حتَّى تمتزج خلاياهم الروحية بأنواره القدسية، وتتفجَّر ينابيع عواطفهم بذكره وتلاوة كتابه الكريم.
ـ لقد ابتعد الكثير من الناس عن المنابع الروحية لرسالات أنبيائهم ردحاً طويلاً من الزمن، فتحجَّرت عواطفهم الإيمانية، وانحرفوا عن السلوك القويم الموصل إلى محبَّة الله تعالى ورضوانه.
ـ إن الله تعالى قادر على أن يحيي أرض القلوب بعد مواتها.
ـ تعاليم الله تعالى واضحة؛ فإذا تدبَّرناها أدركنا ما فيها من خير ورشاد للفرد والمجتمع.
في رحاب الآيات:
بعض الصحابة الكرام توهَّجت قلوبهم بمحبَّة الله بمجرد مبايعتهم للنبي عليه السَّلام على الإسلام، ولم تمضِ عليهم أيَّام قليلة حتَّى تعرضوا لمختلف أنواع الابتلاء والتعذيب الجسدي، فصبروا وصابروا، ومنهم من استشهد، فما وهنوا ولا تراجعوا. وبعضهم الآخر أعلن إسلامه ظاهراً، ولم تنبض قلوبهم بروح الإسلام، ولم تنصهر مشاعرهم بذكر الله، فكان عليهم أن يتنبَّهوا لحسن إسلامهم، وإعمار قلوبهم بمحبَّة الله سبحانه وعشقه. وهذه الآية تحمل لهم عتاباً مؤثِّراً من المولى الكريم، واستبطاءً لاستجابة قلوبهم الَّتي أفاض عليها من فضله، حيث بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم للإيمان، ونزَّل عليهم الآيات البيِّنات لتخرجهم من الظلمات إلى النور.
إنه عتاب فيه ودٌّ ومحبَّة لاستثارة المشاعر بجلال الله والخشوع لذكره، وإلى جانب ذلك فيه تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ، حين يمتدُّ بها الزمن دون جلاء، وما تنتهي إليه من القسوة، حين تغفل عن ذكر الله، وما أشدَّ العذاب النفسي الَّذي يقع فيه من قسا قلبه بعد الإيمان! وما أخطر أن يقسوَ القلب فيفسق عن أمر الله، ويبتعد عن حوض عطائه النوراني الكريم. والعِبَرُ كثيرة في قسوة القلوب عند كثيرٍ من أتباع الرسالات السماوية، الَّذين تحوَّلت عباداتهم إلى طقوس جوفاء، لا تنعش الروح ولا تغذِّي القلب؛ وكان جدير بهم أن يلتجئوا إلى الله تعالى، الَّذي يليِّن أرض القلوب بعد قسوتها، كما يحيي التربة بعد موتها.
فلنسرع إلى مجالس الذِّكر والإيمان، مجالس الحبِّ في الله مع الأولياء الصالحين، حيث تنتعش القلوب بالتجلِّيات الربَّانية والنفحات الإلهية، ولنسرع إلى صلوات الجماعة ففيها عطاء وبركة، وإلى كتاب الله نتدارس آياته بوعي وفهم، بعشق وحنين، ليتفتَّح ورد الإيمان، وتزهر أغصان العمل. عن مالك بن أنس أنه قال: بلغني أن عيسى عليه السَّلام قال لقومه: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله تعالى، فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا فيها كأنكم عبيد، فإنَّما الناس رجلان معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَت قُلوبُكُم من بَعدِ ذلك فهي كالِحجارةِ أو أشَدُّ قَسوَةً وإنَّ من الحِجَارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنهُ الأَنهَارُ وإنَّ منها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخرُجُ مِنهُ الماءُ وإنَّ منها لَما يَهبِطُ من خَشيَةِ الله وما الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعمَلُونَ(74)}
ومضات:
ـ وصف الله تعالى قلوب الغافلين عن ذكره، بالصلابة والغلظة، بسبب ما تراكم عليها من ظلمات المعاصي والذنوب، فصارت لا تتأثر بالعظات والمعجزات الإلهية الَّتي تَلِيْنُ لها الصخور الصلدة.
ـ إن قلوب الغافلين أكثر عقماً من الحجارة، بل الحجارة خير منها، إذ أن بعضها مكامن للماء، تتفجَّر منها الينابيع وتحمل الخير للجميع، وبعضها الآخر يلين ويتشقق لقلَّة صلابته، بينما قلوب هؤلاء صمَّاءُ قاسية، لا يرجى منها خير، وما كانوا كذلك إلا لانقطاعهم عن الله.
ـ الله تعالى عليم بمخلوقاته، لا يغفل عن عمل مهما صغر شأنه.
في رحاب الآيات:
الإنسان مخلوق بديع التكوين، معقَّد التركيب، يتألَّف من عناصر مختلفة متباينة لكنها متكاملة منسجمة، تترك بَصَماتها الواضحة على سـلوكه وانفعالاته. فهو جسدٌ مادِّي ينتمي إلى الأرض، وروح تنتمي إلى ملكوت السموات وعالم الغيب، ومن جهة أخرى فهو يخضع لقوى يشدُّه بعضها إلى الأرض ـ منشأ جسده ـ وبعضها الآخر إلى الأعالي، حيث مصدر روحه، وفي خضمِّ ذلك تدور صراعات عنيفة في داخله، يديرها ويتحكم فيها طرفان هما العقل والقلب من جهة، والنفس والأهواء من جهة أخرى، وإن نتيجة هذا الصراع هي الَّتي تحدِّد الملامح الخاصَّة الَّتي تميِّز شخصية كلِّ إنسان.
فالشخصية الإنسانية تُصَنَّفُ في أنماط مختلفة، وفقاً لما يعتلج في وجدانها من البواعث والانفعالات، الَّتي تؤثِّر وتتأثَّر من خلالها بما حولها. والناس يتدرَّجون في الرقي والسمو، تبعاً للكيفية والمقدار الَّذي تتجاوب فيه عقولهم وقلوبهم مع شريعة الله، فأدنى الناس درجةً هم أولئك الَّذين يكادون يتساوون مع الجماد لقسوة قلوبهم؛ الَّتي لا تلين أمام آلاء الله ومعجزاته العظيمة، فلا خير يرجى منهم، لأنفسهم أو لمن حولهم، وهم بذلك يضربون مثلاً سيِّئاً في التصلُّب والقسوة يفوق قسوة الحجارة؛ إذ أنَّ الحجارة ليست كلَّها صمَّاء عقيمة، بل إنَّ بعضها قد يكون مصدراً للخير والعطاء. ويُهيب تعالى بهؤلاء أن يتفكَّروا في خلق هذه الحجارة، الَّتي تتفاوت من حيث تكوينها والدور الَّذي خلقت من أجله، فإنَّ منها ما تتفجَّر منه العيون الصافية، جداول وأنهاراً وفيرة غزيرة، تحمل أسباب استمرار الحياة إلى سائر المخلوقات، ومنها ما تنساب منه المياه بشكل يسير ضئيل، لكنه يطفئ ظمأ العطشى ويلبِّي حاجاتهم، ومنها ما يمضي عليه ردحٌ من الزمن مثبت إلى الأرض كالجبال الشامخة، حتَّى إذا أراد الله بها أمراً تكسَّرت وهبطت من علو، كما أصاب الجبل حين تبدَّى له نور الله أثناء مناجاة موسى عليه السَّلام فخشع وتصدَّع من هيبة الله وجلاله.
ولعـلَّ أولئـك يدركون ـ إذا ما تفكَّروا في ذلـك كلِّه ـ أنَّ مخلوقات الله جميعاً هي مصدر خير لهذا الكون، وإن تفاوت مقداره بينها، وحريٌّ بالإنسان أن يكون مصدراً للخير على الدوام، لأنه مؤهَّل بما لم يؤهَّل به غيره من سائر المخلوقات، فهو أكرم الخلق على الله عزَّ وجل، لذلك نجد بين الناس من هو منيب إلى الله، داعٍ إلى صراطه المستقيم، يضمُّ بين جوارحه نفساً لوَّامة توَّاقة إلى لقاء الله عزَّ وجل، وقلباً نابضاً بذكر الله يفيض بالخير والعطاء على من حوله، فتحيا قلوب الناس به، ومنهم أيضاً من لا يطيق الذنوب ويكثر من الاستغفار، فهو في عداد التائبين، تفيض عيناه بالدمع عند تذكُّرِ ضعفه أمام قوَّة الله، والتفكُّر في ذنبه أمام سعة رحمة الله وغفرانه، ومنهم من لا يتحرك قلبه بالإيمان، ولا تستكين جوارحه لعظمة الله وجبروته، إلا إذا واجهته المحن وضاقت به السبل، عندها تنطلق صيحة الرجاء من أعماقه لحضرة الله طالبة النجاة، لأنه إنسان غافل يحتاج إلى هزَّة عنيفة، توقظ مشاعره وتفتِّح بصيرته، ليستفيق ويعود إلى سبيل الرشاد.
فمعيار الخير في ذات الإنسان إذن، هو مقدار الحبِّ والإيمان وذِكْر الله الَّذي يعمر قلبه، وقد شَبَّهَتِ الآية القلب بالنبع، لأنهما كلاهما يشتركان بخاصيَّة التدفُّق ونشر الحياة، فإذا تدفَّق القلب بالحبِّ والإيمان عمَّر ما حوله بالنور والخير، وإذا تدفَّق النبع بالمياه العذبة حوَّل الصحارى القاحلة إلى واحات خضراء. وإن جفاف القلب كذلك يشبه جفاف النبع، فمن جفَّ قلبه فقد نضب من ماء محبَّة الله تعالى، وماء محبَّة الخلق، فعاش بجسد حيٍّ وقلب ميت، فلا ينفع نفسه ولا ينفع غيره.
رد: التربية الروحية في الإسلام
الفصل الثاني:
التَّسبيح
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {تُسبِّحُ له السَّمواتُ السَّبعُ والأرضُ وَمَن فيهنَّ وإنْ من شيءٍ إلاَّ يُسبِّحُ بحمدهِ ولكن لا تفقهونَ تَسبيحَهُم إنَّه كان حليماً غَفوراً(44)}
سورة النور(24)
وقال أيضاً: {ألم تَرَ أنَّ الله يُسَبِّحُ له منْ في السَّمواتِ والأرضِ والطَّيرُ صافَّاتٍ كلٌّ قد عَلِمَ صلاتَهُ وتسبيحَهُ والله عليمٌ بما يفعلون(41)}
سورة الروم(30)
وقال أيضاً: {فسبحانَ الله حينَ تُمسونَ وحينَ تُصبحونَ(17) وله الحمدُ في السَّمواتِ والأرضِ وَعَشِيّاً وحينَ تُظْهِرُون(18)}
ومضات:
ـ إن التَّسبيح والتَّحميد لله هما لغةُ العاشقين لله، وترجمان قلوبهم الَّتي تشهد جماله في إبداع خلقه وجميل صنعته؛ فتلهج بالثناء عليه حمداً وشكراً، وعرفاناً وتنزيهاً له سبحانه عمَّا لا يليق بكماله.
ـ لا تقتصر عبادة التَّسبيح على الإنسان؛ بل إن جميع الموجودات والعوالم، تتقرَّب إلى الله بهذه الصلة الروحية، وتستديم عليها، وتجد فيها حياتها واستمراريَّتها.
ـ إن في تســبيح العوالم لله، وقيام جميـع الكائنـات به ـ ما عقل منهـا وما لا يعقل ـ تعليماً وإرشـاداً للإنسان بأن يعترف بفضل الله عليه؛ فيشكر نعماءه ويسبِّح بحمده، لئلا تكون تلك المخلوقات الَّتي فضَّله الله عليها أكثر ذكراً لله، وأفضل منه شكراً وعرفاناً بعظيم فضله عليها.
ـ ينبغي على المؤمن أن يُكْثِرَ من التَّسبيح مع بداية كلِّ نهار، وعند إقبال كلِّ ليلة من ليالي عمره؛ وذلك لما في هذين الوقتين المتعاقبين من شهودٍ حسيٍّ لآثار القدرة الإلهية من جهة، وليبقى المؤمن دائم الصلة بربِّه من جهة أخرى.
في رحاب الآيات:
التَّسبيح تنزيهٌ لله تعالى عن كلِّ نقصٍ لا يليق بكمال ذاته وصفاته، ومعنىً من معاني تمجيد عظمته وقدسيته، وصورة من صور إفراده بالعبوديَّة والطاعة والمحبَّة.
وهذه الآيات الكريمة تصوِّر لنا مشهداً فريداً للكون تحت عرش الله، يتوجَّه بالتَّسبيح إليه (عزَّ وجل) منزِّهاً إيَّاه، ومقدِّساً لعظمته عن كلِّ ما لا يليق بذاته العليَّة. فما من ذرَّة فيه ولا حصاة ولا حبَّة إلا وتنبض بالحمد والتَّسبيح، وما من حجر أو شجر أو ورقة أو زهرة، أو نبتة أو ثمرة إلا وتلهج بذكره والثناء عليه. فالكون الكبير الواسع المدى كلُّه حركة وحياة، وكلُّ دابَّة فيه، وكلُّ سابحة في الماء أو طائرة في الهواء، وكلُّ ساكن ومتحرِّك في الأرض والسماء يسبِّحون الله ويتوجَّهون إليه، ويشهدون بوحدانيَّة ربوبيَّته وألوهيَّته، وكلٌّ يضرعُ بطريقته ولغته البعيدة عن الفهم البشري.
فالله جلَّ وعلا أثبت أن لكلِّ ذرَّة لساناً ناطقاً بالتَّسبيح والتَّحميد والتَّنزيه لصانعه وبارئه، وحامداً له على ما أولاه من نعمه، وبهذا اللسان تنطق الأرض يوم القيامة، كما قال تعالى: {يومئذ تُحدِّثُ أخبارها} (99 الزلزلة آية 4) وبهذا اللسان تشهد أجزاء الإنسان يوم القيامة: {يومَ تَشْهدُ عَليِهِمْ ألسِنَتُهُمْ وأَيديهِمْ وَأَرجُلُهُمْ بمَا كَانُوا يَعْمَلْونْ} (24 النور آية 24).
وقد أثبتت الأبحاث العلميَّة وجود الحياة في كلِّ ذرَّات الوجود، وأن هذه الذرَّات مؤلَّفة من شوارد تعمل مع بعضها بعضاً، حسب الوظائف المنوطة بها، وكلُّها تعمل بأمر الله تعالى، حسب ما صمَّمه لها، من أجل استمرار الحياة في هذا الكون، وطالما أن فيها حياةً فمن البديهي أن تسبِّح الله تعالى الواحد القهَّار؛ يؤكد ذلك قوله تعالى: {ألم تَرَ أنَّ الله يُسَبِّحُ له منْ في السَّمواتِ والأرضِ والطَّيرُ صافَّاتٍ كلٌّ قد عَلِمَ صلاتَهُ وتسبيحَهُ والله عليمٌ بما يفعلون}.
ومن الملاحظ أن هذه الآية جاءت لتقرِّر حقيقة تسبيح الموجودات لله سبحانه، ولكنها قد سُبقت بصيغة استفهام تقريري تَكرَّر ورودها كثيراً في القرآن الكريم وهي {ألم تر} والحقيقة أن هذه الرؤية الَّتي يريد الله لعباده أن يشهدوا بها ما ذُكر بعدها؛ لا يقصد بها الرؤية الَّتي تُشاهد بعين البصر، ولكنَّها الَّتي تُدرك بعين البصيرة. وهي رؤيةٌ لا تتحقَّق إلا لمن طهُرت قلوبهم من نجاسات الغفلة وملوِّثات المعاصي، وغدت كالمرآة صفاءً ونقاءً، فانعكس عليها قبس من نور الله، فأبصر أهلها الحقائق، وسمعوا ما لا يسمعه غيرهم. وأمثال هؤلاء يتمكَّنون من إدراك حقيقة تسبيح الكائنات لله تعالى، بل إنهم ما إن يسبِّحون الله ويذكرونه حتَّى يُسبِّح ما في الكون بتسبيحهم، ويذكر بذكرهم، كما قال تعالى في شأن نبيِّه داود عليه السَّلام: {إنَّا سخَّرنا الجِبَال معه يُسبِّحنَ بالعَشيِّ والإشراق} (38 ص آية 18). وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (كنَّا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل).
فكلُّ مخلوق في السموات أو في الأرض قد علم صلاته وتسبيحه، وأرشده الله إلى طريقة معيَّنة، ومسلك خاص في عبادته. أخرج أحمد وابن مردويه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن نوحاً لما حضرته الوفاة قال لابْنَيْهِ: آمركما بسبحان الله وبحمده، فإنهما صلاة كلِّ شيء وبهما يرزق كلُّ شيء». وجاء في فضل التَّسبيح أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه : «ألا أخبرك بأحبِّ الكلام إلى الله؟ قلت: أخبرني يارسول الله، قال: إن أحبَّ الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده» (رواه مسلم والترمذي). ومعنى قولنا (سبحان الله): أي براءةً وتنزيهاً لله من كلِّ نقص. ومعنى قولنا (وبحمده): فهو شكر لله على نعمه واعتراف بها.
والمراد من قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُون} الأمر بالتَّسبيح والتَّنزيه والحمد والصَّلاة له في جميع أوقات الليل والنهار. وقد أُمر المؤمن بالتَّسبيح في هذين الوقتين المتعاقبين، لأنهما آيتان حسِّيتان من آيات قدرة الله، وبإمكان المؤمن أن يشهدهما كلَّ يوم، فيستقبل نهاره بتنزيه الله عن جميع صفات النقص، ويصفه بجميع صفات الكمال، ويقرن تسبيحه هذا بالحمد والشكر على نعمائه سبحانه وتعالى، وكذلك يكون حاله عند إدبار النهار وإقبال الليل. وما الصلوات الخمس الَّتي يؤدِّيها المسلم في أوقات متعاقبة إلا بعض مظاهر التَّسبيح العملي لاشتمالها عليه وعلى الحمد أيضاً.
ولعل السبب في تخصيص الطير بالتَّسبيح، في الآية الكريمة، مع أنها تدخل في عموم المخلوقات الَّتي تسبِّح لله في السموات والأرض؛ هو لفت الأنظار إلى كمال القدرة الإلهية في صنعها، ولأن وقوف الأشياء الثقيلة في الجو أثناء الطيران حجَّة واضحة على عظيم قدرة الخالق المبدع. فسبحان الله وبحمده؛ هو المُنزَّه والمحمود من جميع أهل السموات والأرض، وفي كلِّ الأحوال والأماكن والأزمان، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، سبحانه وتعالى عمَّا يصفون.
رد: التربية الروحية في الإسلام
الفصل الثالث:
الاستقامة والوفاء بعهد الله
سورة فُصِّلَتْ(41)
قال الله تعالى: {إنَّ الَّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا تَتَنزَّلُ عليهمُ الملائكَةُ ألاَّ تَخَافوا ولا تَحزنوا وأبشِرُوا بالجنَّة الَّتي كُنتم تُوعدون(30) نحن أولياؤُكُم في الحياة الدُّنيا وفي الآخرةِ ولكم فيها ما تشتهي أنفُسُكُمْ ولكم فيها ما تَدَّعُون(31) نُزُلاً من غفورٍ رحيم(32) ومن أحسَنُ قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمِلَ صالحاً وقال إنَّني من المسلمين(33)}
سورة الأحقاف(46)
وقال أيضاً: {إنَّ الَّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون(13) أولئك أصحابُ الجنَّةِ خالدينَ فيها جَزَاءً بما كانوا يعملون(14)}
سورة الجن(72)
وقال أيضاً: {وأَنْ لوِ استقاموا على الطَّريقَةِ لأسقيناهُم ماءً غَدَقاً(16)}
ومضات:
ـ الاستقامة تعني الالتزام الكامل بالتوجُّه نحو الله وبالله وفي سبيل الله.
ـ إن من يُخلص العبوديَّة لله تعالى ويسير ضمن تعاليمه، يحصل على الدعم الروحي في رحلته الحياتيَّة، حيث تُظلُّه العناية الربانيَّة، وتُسخَّر له الملائكة لتيسير أموره وحفظه، وكذلك في رحلة الآخرة بدءاً من حفرة القبر، وحتَّى دخول جنان الخلد بإذن الله عزَّ وجل؛ حيث فيها ما تقرُّ به الأعين وتطرب له القلوب.
ـ يتمايز الناس في الدنيا بأنسابهم وأحسابهم وأموالهم، أمَّا عند الله فإن أفضل الناس من حسن كلامه وصلح عمله، وطاب سلوكه وممشاه، وانتسب إلى مدرسة الإسلام بصدق وجدارة.
في رحاب الآيات:
أن يقول المرء (ربِّيَ الله) فهذا سهل على اللسان، ويكاد أهل الأرض يجمعون على ترداد هذا القول، ولكن قليلاً منهم من يشعر بالمسؤوليات والالتزامات الَّتي تترتب على الاعتراف بوجوده تعالى، وبكونه خالقهم ومقدِّر أمورهم، ويدركون أنَّ عليهم أن ينظِّموا برنامـج حياتهم وفق مخططاته عزَّ وجل. وسبيلهم إلى ذلك يتلخَّص في كلمة واحدة حيث يُتْبِعُ أحدهم القول بالعمل؛ إنها الاستقامة.
فالاستقامة هي المسار الصحيح للإنسان في حياته العملية فيما يُرضي الله عنه تعبديّاً، وبما يُسْعِد مجتمعه فكريّاً أو ماديّاً أو جهداً عمليّاً. وأعضاء مجتمع الاستقامة هم أهل الله وخلفاؤه في الأرض، تحوطهم العناية الربَّانية في الدنيا والآخرة، وتحفُّ بهم ملائكة الرحمة بالبشائر والاستغفار، والرعاية الكريمة؛ قلوبهم واثقة بالله، مطمئنة به، لا تعرف الخوف إلا منه عزَّ وجل. جاء في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: «قلت يارسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك؛ قال: قل آمنت بالله، ثمَّ استقم».
وبمجرَّد أن ينوي المؤمن الاستقامة، ويقرِّر السير عليها بصدق، فإن الله يُسخِّر له ملائكة الرحمة لتلهمه الحقَّ، وترشده إلى طريق الخير والصلاح، ولتكون معه في وحشة القبر تؤنسه، وتزيل عنه الروع من أهوال يوم القيامة، وتدخله معزَّزاً مكرَّماً إلى دار الخلود قائلة له: طبت وطاب محياك وطاب مماتك. قال بعض الصالحين: [إن الملائكة تتنزَّل حين الاحتضار على المؤمنين بهذه البشارة، ألا تخافوا من هول الموت ولا من هول القبر، وشدائد يوم القيامة، وإن المؤمن ينظر إلى حافظَيه قائمَين على رأسه يقولان له: لا تخف اليوم ولا تحزن، وأبشر بالجنَّة الَّتي كنت توعد، وإنك سترى اليوم أموراً لم تر مثلها، فلا تهولنَّك فإنما يُراد بها غيرك]. وقيل أيضاً: [البشرى للمؤمنين المستقيمين في ثلاثة مواطن: عند الموت وفي القبر وعند البعث].
ولاشكَّ في أن الصبر على تكاليف الاستقامة أمر عسير، ولذلك يستحقُّ الصابرون عند الله هذا الإنعام الكبير، الَّذي هو صحبة الملائكة وولاؤهم ومودَّتهم، وبشائرهم بالجنَّة الَّتي فيها ما تشتهي أنفسهم وما يدَّعون، والَّتي اختارها تعالى داراً لإقامتهم: {نُزلاً من غفور رحيم} فهي من عند الله أنزلهم فيها بمغفرته ورحمته، فأيُّ نعيم بعد هذا النعيم؟.
لقد استحقَّ المؤمنون هذا التكريم بسبب رفعهم لواء التَّوحيد، لذلك فإن أحسن كلمة تقال في الأرض، هي كلمة التَّوحيد، الَّتي تصعد في مقدِّمة الكلم الطَّيب إلى السَّماء، شريطة أن تقترن بالعمل الصالح الَّذي يصدِّقها، مع الاستسلام لله الَّذي تتوارى معه الذَّات، فتصبح الدعوة خالصة له سبحانه ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ.
كان الحسن رضي الله عنه إذا تلا هذه الآية {ومن أَحسَنُ قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنَّني من المسلمين}، قال: (هذا الداعي إلى الله، هذا حبيب الله، هذا وليُّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحبُّ أهل الأرض إلى الله، أجاب الله دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه).
إذن، فالإسلام يجعل مركز الصدارة للدعاة الَّذين استقاموا على طريق الله عزَّ وجل، فهم أشرف الخلق، وأحبُّ الخلق إلى الله، يدعون الناس إلى الإيمان بأقوالهم وأفعالهم، بل إن أفعالهم لتسبق أقوالهم، فهم منارات للهدى، وبصائر للأفئدة، وهم المسلمون حقاً وصدقاً.
سورة الأحزاب(33)
قال الله تعالى: {من المؤمنينَ رِجَالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليهِ فمنهم من قضى نَحْبَهُ ومنهم من ينتظِرُ وما بدَّلُوا تبديلاً(23) ليجزي الله الصَّادقينَ بصدقِهِم ويُعذِّبَ المنافقينَ إن شاءَ أو يتوبَ عليهِمْ إنَّ الله كان غفوراً رحيماً(24)}
ومضات:
ـ المؤمن الصَّادق هو الَّذي يُكْمِل مسيرة العمل والخدمة والتضحية حتَّى نهايته، دون ملل أو كلل، متحمِّلا ما يعترضه من المتاعب والإيذاء.
ـ المكافأة الَّتي يرجوها الصَّادق من عمله هي رضاء الله عنه، فهي وحدها الَّتي تبلِّغه طموحه وتروي ظمأه. وليست الجنَّة حافزه أو النار مفزعه فقط، لأنَّ صدقه الحقيقي لا ينبع من اهتمامات ماديَّة يطلبها جسده بل من إشراقات روحيَّة ومعنويَّة تستمدُّ زخمها من الصلة بالله عزَّ وجل.
ـ الإيمان والنفاق لا يجتمعان في قلب واحد، ومن تعرَّض قلبه للإصابة بالنفاق أو صفة من صفاته، فأمره متروك إلى الله تعالى إمَّا أن يعذبه، أو يتوب عليه إذا أفاق من سباته قبل فوات الأوان واستدرك ما فاته، فمغفرة الله قائمة ورحمته واسعة وهو أرحم الراحمين.
في رحاب الآيات:
في خضمِّ معترك الحياة وأثناء مواجهة الأحداث أخذت الشخصية المؤمنة تتبلور بشكل جديد، ويوماً بعد يوم وحدثاً بعد حدث، كانت هذه الشخصية تنضج وتنمو وتتَّضح سماتها، وكانت الفئة المؤمنة الَّتي تتكوَّن من مجموع تلك الشخصيات تبرز إلى الوجود بمقوِّماتها الخاصَّة، وقيمها الأصيلة، وطابعها المتميِّز بين سائر الفئات. وكانت الأحداث تقسو على الجماعة الناشئة أحياناً، وتشتدُّ قسوتها فتبلغ درجة الفتنة، لكنَّها فتنة كأنَّها النار الَّتي تصوغ الذهب، فهي تفصل بين الجوهر الأصيل والزبد الزائف، وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها، فلا تبقى خليطاً مجهول القيم.
لقد علِم الله جلَّ وعلا أن هذه الخليقة البشريَّة لا تُصاغ صياغة سليمة، ولا تنضج نضجاً حقيقيّاً، ولا تصحُّ ولا تستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبيَّة الواقعيَّة، الَّتي تُحفر في القلوب، وتُنقش في الصدور وتأخذ من النفوس، وتعطي في معترك الحياة وملتقى الأحداث. لقد كانت مرحلة عجيبة حقاً تلك الَّتي قضاها المسلمون أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، مرحلة اتصال السماء بالأرض اتصالاً مباشراً ظاهراً، مُبَلْوَراً في أحداث وكلمات، فكان كلُّ مؤمن يبيت وهو يشعر أن عين الله ترقبه، وأن سمع الله يناله، وأن كلَّ كلمة منه وكلَّ حركة، بل وكلَّ خاطر قد يصبح مكشوفاً للناس ويتنزَّل في شأنه قرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان كلُّ مؤمن يُحِسُّ الصلة القوية الَّتي تربطه بربِّه، فإذا أصابه أمر أو واجهته معضلة انتظر أن تُفتح أبواب السماء ليتنزَّل منها حلٌّ لمعضلته، أو فتوى في أمره، أو قضاء في شأنه.
والنصُّ القرآني هنا يُغفل أسماء الأشخاص، ليصوِّر نماذج البشر وأنماط الطباع، ويُغفل تفصيلات الحوادث وجزئيَّات الوقائع، ليصوِّر القيم الثابتة والسنن الباقية، الَّتي لا تنتهي بانتهاء الحدث، ولا تنقطع بذهاب الأشخاص، بل تبقى قاعدة ومثلاً لكلِّ جيل. فهو يهتمُّ بربط المواقف والحوادث بقدر الله المسيطر على الأحداث والأشخاص، ويُظهر فيها يد الله القادرة وتدبيره الحكيم، ويقف عند كلِّ مرحلة من مراحل الدعوة للتوجيه والتعقيب، والربط بالأصل الكبير. فالقرآن الكريم معدٌّ للعمل لا في وسط محدَّد ولا في تاريخ معيَّن، بل هو معدٌّ للعمل دائماً كلَّما واجه المرء مثل هذا الحدث أو شبهه مادامت الحياة، وفي مختلف البيئات، بالقوَّة نفسها الَّتي عمل بها في حياة المجموعة الأولى. والأحداث الَّتي مرَّ بها المسلمون الأوائل طبعتهم بطبائع مختلفة، لكنَّها إيجابية، وأوَّلها وأهمُّها الوفاء بالعهد مع الله. فكان كلُّ من يريد أن يرتقي سُلَّم الإيمان يعاهد الله تعالى عهداً لا ينكث فيه ولا يتراجع عنه، على أن يسخِّر إمكاناته الجسدية والفكرية والروحية جميعها، وكذلك وقته كلَّه للعمل البنَّاء الدائم والمستمر لما فيه سعادة الإنسانية، وبما يُرضي الله تعالى عنه. وقد صدقوا بعهدهم، فمنهم من قضى نحبه أي وفَّى بعهده وهلك في سبيل مبدئه، كأنس بن النضر رضي الله عنه الَّذي عاهد الله على قتال أعداء الحقِّ حتَّى الرمق الأخير في حياته؛ فوفَّى بعهده في معركة أُحد، حيث أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أنس رضي الله عنه قال: (غاب عمِّي أنس بن النضر عن بدر، فكبُر عليه، فقال: أوَّل مشهد قد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غِبت عنه. لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرينَّ الله ما أصنع، فشهد يوم أحد فقاتل حتَّى قُتل، فَوُجِدَ في جسده بضع وثمانون من بين ضربة، وطعنة ورمية). ومنهم من ينتظر اللحظة المناسبة للوفاء بهذا النذر، وما تراجعوا عن عهدهم، ولا غيَّروا اتجاههم، خلافاً للمنافقين الَّذين قالوا لا نولِّي الأدبار فبدَّلوا قولهم، وتراجعوا عن العمل من أجل حماية العقيدة والدعوة إليها، وهذا شأنهم لأنهم كاذبون مع أنفسهم فكانوا كاذبين مع ربِّهم.
والله جلَّ وعلا يختبر عباده ليُميِّز الخبيث من الطيب، ويُظْهِرَ أمر كلٍّ منهما واضحاً، ثمَّ يثيب أهل الصدق منهم بوفائهم فيما عـاهدوا الله عليه، ويعذِّب المنافقين الناقضين لعهدهم، المخالفين لأوامره إذا استمروا على نفاقهم حتَّى يلقَوْه، إلا إذا تابوا وأقلعوا عن نفاقهم، وعملوا صالح الأعمال، فإنه يغفر لهم ما أسلفوا من السيئات. فالله من شأنه الستر على ذنوب التائبين والرحمة بهم، فلا يعاقبهم بعد التوبة، وفي هذا حثٌّ عليها في كلِّ حين، وبيان نفعها للتائبين.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغ قُلُوبَنَا بعد إذ هَدَيتَنا وهَبْ لنا من لدُنكَ رحمَةً إنَّكَ أنتَ الوهَّابُ(8) ربَّنَا إنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ ليومٍ لا ريبَ فيه إنَّ الله لا يُخلِفُ المِيعَادَ(9)}
ومضات:
ـ ينبغي على المؤمن مهما بلغ من درجات العلم والمعرفة ألا يُفتتن بعلمه وعمله، وأن يُبقي قلبه في حالة اتصال بالله عزَّ وجل وتوكُّل مطلق عليه، ليثبِّته على الصراط المستقيم، فلا يخطئ طريق الحقِّ، لاسيَّما وأنه قد ذاق حلاوة الإيمان بالدِّين القويم، وعرف حكمة الشرع المستقيم. وعليه أن يسأل الله تعالى التَّفَضُّلَ عليه بنعمة الثبات على دينه الحقِّ، لأنه يدرك أنه لا يقدر على شيء إلا بفضل الله ورحمته، وأن قلبه بين أصابع الرحمن يُقلِّبه كيف يشاء.
ـ على المؤمن أن يدرك أنه سائر لا محالة إلى يوم عظيم سيَجمَعُ فيه تعالى الخلائق للحساب، وأن يترجم إدراكه إلى عمل يوافقه، فهذا وعد الله الحقُّ، والله لا يخلف وعده.
في رحاب الآيات:
إن للإيمان حلاوة وعذوبة يعرفها من سلَّم جوارحه ووجدانه لله عزَّ وجل، ورقَّت مشاعره وأحاسيسه حتَّى صارت مرهفة تلتقط كلَّ الإشارات والدلالات الربَّانية. والقلب الَّذي صدق مع الله ومع نفسه ينعم بأمن الله وطمأنينته، لأن أجهزة الإنذار ضدَّ الزيغ أو الخطأ، جاهزة في أعماقه دائماً، لترسل تحذيرها موقظة منبِّهة.
وهذه الآية هي بمثابة صيحة التحذير وجرس التنبيه والإنذار بالخطر، يُقرع في أعماق القلب المؤمن بشكل دائم، لئلا ينسى تربُّص الشيطان للميل به عن طريق الهدى، وإلقائه في مهاوي التهلكة. فالمؤمن حذر يقظ في مراقبة الثغرات الَّتي يمكن أن ينفذ الشيطان إليه من خلالها. ولما كانت استمرارية هذه المراقبة شاقَّة عسيرة عليه، كان لابدَّ له من طلب مدد إلهي يساعده ويُمِدُّه بالقوَّة لِيُثَبِّتَ أقدامه على الصراط المستقيم.
وفي مواجهة خوفه من تسلُّل الشيطان إلى قلبه، وهدمه للصرح الإيماني فيه، يتوجَّه العبد إلى ربِّه بالدعاء خاشعاً متوسِّلاً، أن يثبِّته على دينه، لأن هذا عطاء لا يعدله عطاء، وهو في أمسِّ الحاجة إليه لأنه يدرك حقيقة ضعفه، وكونه عرضة للتقلُّب والنسيان والانحراف، ولأنه لا يملك قلبه، بل هو في يد الله يقلِّبه كيف يشاء، لذلك يدعوه ألا يزيغ قلبه، وأن يسبغ عليه من رحمته وفضله، ويعطيه القوَّة للاستمرار في عملية البناء الأخلاقي والحضاري، وهو يتذكَّر يوم الحساب الَّذي لا ريب فيه، حيث تُعرض عليه صحيفة أعماله، ويُحاسَبُ بدقَّة وتُقام عليه الحُجَّة في كلِّ ذنب قام به.
وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو: يا مُقَلِّبَ القلوب ثبِّت قلبي على دينك. قلت: يارسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء! فقال: ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، أمَّا تسمعين قوله تعالى: {ربَّنا لا تُزِغْ قُلوبَنا بعد إذ هديتنا وهَبْ لنا من لدُنكَ رحمةً إنَّك أنت الوهَّاب}» (رواه ابن مردويه). وهذا هو حال الراسخين في الإيمان مع ربِّهم، الإيمان الَّذي يولِّد الطمأنينة المستمدَّة من الصلة بالله والثِّقة بوعده وعهده، والتَّقوى واليقظة ورقَّة الإحساس؛ الَّتي يفرضها على قلوب أهله، فلا تغفل ولا تنحرف عن سواء السبيل.
سورة الزمر(39)
قال الله تعالى: {وإذا مَسَّ الإنسانَ ضُرٌّ دعا ربَّهُ مُنيْباً إليه ثمَّ إذا خَوَّلَهُ نِعْمةً منه نسيَ ما كان يدعو إليه من قبلُ وجَعَلَ لله أنداداً ليُضِلَّ عن سبيلهِ قُلْ تمتَّعْ بكفرِكَ قليلاً إنَّك من أصحابِ النَّار(8) أمَّنْ هوَ قَانِتٌ آناءَ اللَّيلِ ساجداً وقائماً يَحْذرُ الآخرةَ ويرجوا رحمةَ ربِّهِ قُلْ هل يستوي الَّذين يعلمونَ والَّذين لا يعلمونَ إنَّما يتذكَّرُ أُولوا الألباب(9)}
ومضات:
ـ هذه صورة معبِّرة عن الإنسان الَّذي تُلِمُّ به مصيبة، أو يقع في ضائقة، فيطلب المساعدة الإلهية بإلحاح، حتَّى إذا تحقَّقت له نسي أو تناسى ما كان به بالأمس وكأنَّ شيئاً لم يكن، فيُعرِض عن الله. وقد يصل به الجحود إلى أكثر من ذلك حتَّى يلتفت عنه، ويَتَّبِع آلهة يبتدعها لنفسه، وأبغض هذه الآلهة المزيَّفة (الهوى). ولكن مهما طال الزمن بهذا الإنسان، وجرت به الريح فإن مصير سفينته إلى براثن الأعاصير والعذاب في الدنيا والآخرة.
ـ كلَّما ازداد عطاء الله للمؤمن الحقيقي، ازداد من ربِّه قرباً وعبادة خشية أن تزِلَّ به قدم غرور أو فتنة.
ـ أبواب العلم كثيرة، وكلها تزوِّد المؤمن بالقوَّة الروحية والإيمان العميق، وجميعها تدلُّ وتشهد على عظمة الله وقدرته. فمن صار له هذا الإحساس والشهود، صار من أولي الألباب أصحاب القلب والعقل المستنير بنور الله سبحانه وتعالى.
في رحاب الآيات:
للإنسان طاقة محدودة على تحمُّل الألم الناجم عن المصائب أو الأمراض الَّتي تصيب جسده، أو الناتج عن النكبات الَّتي يتعرض لها في ماله أو في أهله. وفي الأحوال جميعها فإن هذه الطاقة وشدَّة تحمُّلها تختلف من شخص لآخر. وعندما يزيد الألم تتَّجه قوى المرء الفكرية والروحية تلقائياً إلى حضرة الله تطلب منه العون والمدد، فتكون هذه المحنة امتحاناً، فهو إمَّا أن يتعرَّف الحقيقة فيدرك حاجته الدائمة إلى ربِّه، أو أن يتحوَّل عن خالقه بمجرَّد زوال الألم وكشفه الغمَّة عنه، وكأنَّ هذه العلاقة علاقة آنيَّة مرتبطة بالمصالح المؤقَّتة، والحاجة الطارئة، وبذلك يفشل وتزِلُّ قدمه.
إن صلة المؤمن بخالقه صلة مستقيمة مرتبطة مع أنفاسه ونبضات قلبه، في السرَّاء والضرَّاء، في العُسر واليُسر، صلة تعطيه كوابح تضبط عواطفه، فلا طغيان في حال الفرح، ولا يأس في حال الحزن، بل اتزان وسكينة ورضاً بقدر الله تعالى خيره وشرِّه. وهذه الصلة لا يمكن أن تقوى وتتمتَّن إلا بالكثير من التعبُّد والخشوع والتقرُّب من الله عزَّ وجل، وخاصَّة في جوف الليل حين تهدأ حركة الأحياء، وترتاح الأعصاب، وتحنُّ القلوب، وتنسكب العبرات. فإذا قويت هذه الصلة، تذكًّر المؤمن خالقه في جميع الأحوال، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنه : «تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدَّة» (رواه الترمذي والحاكم بإسناد صحيح) وقال الحسين رضي الله عنه : (من نسي الحقَّ عند العوافي لم يُجِبِ الله دعاءَه عند المحن والاضطرار).
إن الجحود لا يقف بالضالِّ عند نسيان فضل ربِّه فحسب، بل يمتدُّ به حتَّى يجعل لربِّه أنداداً، إمَّا آلهة يعبدها كما كان في جاهليته الأولى، وإمَّا رموزاً وأشخاصاً وأوضاعاً يجعلها في نفسه شريكة مع الله، فإذا هو يعبد شهواته وميوله ومطامعه ومخاوفه وماله، ويتعلَّق بأولاده وأهله كما يتعلَّق بالله أو أشدَّ تعلُّقاً، فيطيعهم بمعصية الله ويرضيهم بسخطه، وتكون العاقبة هي الانحراف أكثر فأكثر عن سبيل الله. فسبيل الله واحد لا يتعدَّد، وإفراده بالعبادة والتوجُّه والحبِّ هو وحده الطريق إليه، والعقيدة في الله لا تحتمل معه شريكاً في القلب، كائناً من كان، لا مال ولا ولد ولا صديق ولا قريب، فأيُّما مشاركة قامت في القلب من هذا النوع وأمثاله، فهي من قبيل اتخاذ أنداد مع الله، وضلال عن سبيله، تؤول بصاحبها إلى النار بعد قليل من التمتُّع في هذه الأرض. وكلُّ متاع مهما طال قليل، وأيام الفرد على هذه الأرض معدودة مهما عُمِّر، بل إن حياة الجنس البشري كلِّه على الأرض، متاع قليل، إذا قيست بأعمار بقية مخلوقات الله الكونية. روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: (ياأيُّها الناس! ألا تستحون؟ إلى متى تؤمِّلون ما لا تبلغون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون؟ إن من كان قبلكم أمَّلوا بعيداً، وبنَوْا مشيداً، وجمعوا كثيراً، فأصبح أملهم غروراً، وجمعهم بوراً، ومساكنهم قبوراً).
وبعد الانتهاء من عرض الصورة المظلمة، للإنسان اللاهي المنصرف عن ربِّه، تعرض الآية الصورة المشرقة، للإنسان الواعي المتصل بالله اتصالاً سوياً مستقيماً، فهو قانت لربِّه، مطيع له، متوجِّه إليه، ساجد على أعتابه، قائم بين يديه، حَذِرٌ من عقابه، راجٍ لرحمته. وكلمة القانت لله فيها أربعة وجوه: فهو المطيع، وهو الخاشع، وهو القائم، وهو الداعي إلى الله. ومن ذلك كلِّه ندرك أن الصلة القويمة بالله يجب أن تكون في السرَّاء والضرَّاء، وأن الله لا يقبل إلا الإيمان الخالص من كل الشوائب.
سورة يونس(10)
قال الله تعالى: {هو الَّذي يُسيِّرُكُم في البرِّ والبحرِ حتَّى إذا كنتُمْ في الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهمْ بريحٍ طيِّبَةٍ وفرِحُوا بها جاءتها رِيْحٌ عاصفٌ وجاءهُمُ الموجُ من كلِّ مكان وظنُّوا أنَّهم أُحِيطَ بهم دَعَوا الله مُخلصينَ له الدِّينَ لَئِنْ أنجيتَنَا من هذه لنكوننَّ من الشَّاكرين(22) فلمَّا أنجاهُمْ إذا هم يَبْغُونَ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ ياأيُّها النَّاسُ إنَّما بَغيُكُم على أنفسِكُمْ متاعَ الحياةِ الدُّنيا ثمَّ إلينا مَرْجِعُكُم فننبِّئُكُمْ بما كنتُمْ تعملون(23)}
ومضات:
ـ لا يمكن لسفينة الحياة أن تمضي في مسيرتها ما لم تعترضها الرياح الهادرة، وتحيط بها الأمواج العاصفة، ومهما كانت مهارة الربَّان وقدراته الفنية، فإن أعاصير القدر أشدُّ هولاً من أن يجتنبها بإمكاناته الفردية، لذا كان لابدَّ له من المساعدة الإلهية تمدُّه بالعون، وتنقذه من براثن الخوف والذعر. وإن كريم الصفات، وجميل الأخلاق، لا ينسى فضل الله حين يأتيه، بل يحمده ويشكره، ويرعى مخلوقاته بالعطف والرعاية. أمَّا لئيم النفس خبيث الصفات، فإنه سرعان ما ينسى فضل الله عليه ومدده في وقت حاجته، فيتابع مسيرة الحياة، بالظلم والبغي والاعتداء على حقوق الناس. وهذا العنت والصلف والتسلُّط سيرتدُّ عليه بالويل والثُّبور، إِنْ عاجلاً أو في يوم تنشر فيه صحائف الأعمال، ويلقى المرء كتاباً لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، ويفزع المجرم من سوء عمله، ويتمنَّى لو أنه كان ترابا.
في رحاب الآيات:
صفحة من صفحات الوجود تُنْشَر أمام أنظارنا بكلِّ غناها ورحابتها ونبضاتها الدافقة، بمدِّها وجزرها، تلهب خيال الإنسان، وتذكي نار القلب ليلتمس العون من الخالق العظيم، وتلفت الانتباه إلى حقيقة ربَّما غابت عن كثير من الناس، وهم مندفعون وراء تيَّار الحياة الصاخب، لعلَّهم يتوقَّفون قليلاً، يلتقطون أنفاسهم ولو للحظة وهم يقلِّبون كتاب الكون المفتوح، ويقرؤون صفحاته الزاخرة، ويأخذون منه العبرة الَّتي تنفعهم في رحلتهم القصيرة على الأرض.
إنها صورة البحر بسعته ومهابته، بهوله ورعبه، بهدوئه ووداعته، ترسمها لنا ريشة مبدعة لا تستخدم من أدوات الرسم إلا الكلمة المعبِّرة، وما أفقرها من أداة إن لم تكن صادرة عن ذاتٍ قادرة، تُخضع ما في الوجود لسلطانها. وتبدأ الريشة بالرسم فترصد حياة الإنسان الوادعة الهانئة، فتبدو كمراكب في البحر تتهادى بِزَهْوٍ وخُيَلاء، وريح طيبة تحرِّك السفن بوداعة ورفق، وعلى حين غِرَّة تقطِّب السماء جبينها، وتسري رعدة على سطح البحر، وتهبُّ الريح الهوجاء، ويعلو الموج، وتتقلقل السفينة، ويحدق الموت بمن عليها فتراهم يترنَّحون وكأنَّهم سكارى وما هم بسكارى، ولكنَّه الخطب الشديد والغرق الوشيك.
عندها، وبشكل فطري لا إرادي، تتَّجه أنظار القوم نحو السماء، وتَسْبَحُ في عالم الملكوت، ويدركون أن الله وحده هو المنقذ، فتعتريهم رعدة الرجوع إلى الحقِّ، وترتفع الأصوات بالدعاء والاستغاثة، مصطدمة بعويل الريح وعاتي الأمواج، وتتعرَّى فطرتهم ممَّا علاها من ركام البعد، ويخلع القلب حجاب الغفلة، فيتخذ عهداً عند الله أن يثوب إليه ويؤوب، وأن يحوِّل اتجاهه من الضلال إلى الهدى، ومن الغيِّ إلى الرشد. ويأتي الأمر إلى الريح من الله الرحيم بعباده فتهدأ، وإلى البحر فيسكن، ويسكن معه كلُّ شيء بما في ذلك القلوب الَّتي تستردُّ طمأنينتها، وتواصل السفينة رحلتها وكأنَّ شيئاً لم يحدث، حتَّى إذا وصلت إلى شاطئ الأمان، ولامست أقدام الناس الأرض اليابسة، تحرَّك وحش الغفلة والأنانية في أعماقهم، فإذا هم ينسون أو يتناسون ما قطعوه من عهد لله، فيعيثون في الأرض فساداً، ينشرون الجهل والجاهلية، ويحوِّلون فراديس العلم إلى مقابر للعقل والقلب والهداية، ويَلْبِسُون الحقَّ بالباطل ويشوِّهون كلَّ ما هو جميل، ويعتدون على حقوق الله وحقوق العباد، تحقيقاً لمصلحة عابرة لا تلبث أن تزول، ويبقى الظلم منقوشاً في صحائفهم بأحرف سوداء، وسيحصدون سوء ما زرعوا، ويجنون نتائج الخراب الَّذي صنعوه.
وهذه الصورة ليست إلا تلخيصاً لرحلة الإنسان الغافل على الأرض، فتراه يتقلَّب في أحضان النعيم، لاهثاً وراء إرضاء أنانيته، متجاوزاً حقوق غيره، ناسياً الغاية الَّتي خُلق من أجلها، وهي عمارة الكون، وخلافة الله في الأرض، وإقامة ميزان العدل، وإعلاء كلمة الحقِّ، والإقبال على بارئ الخلق، فتراه يظلم ويبطش ويسرف على نفسه، ويعتدي على غيره، حتَّى إذا داهمته مصيبة لَجَّ بالشكوى، وتوجَّه إلى الخالق بالدعاء، وقطع العهود على نفسه ببذل البرِّ والخير والتَّقوى. فإذا كشف الله غُمَّته، رجع إلى أنانيَّته وغطرسته وظلمه، فيكون من الخاسرين الظالمين لأنفسهم، وتكون عاقبته الندم على ما فرَّط في جنب الله عزَّ وجل. وكان الأجدر به أن يغتنم الفرصة الَّتي منحها الله تعالى له ليستيقظ من غفلته، ويعود إلى رشده فيستقيم، ولكنَّها الغفلة تحيق بالقلوب اللاهية، وترمي بظلالها الثقيلة السوداء على العقول والأبصار. والله نسأل أن يحفَّنا باللطف والرحمة، ليثبِّت أقدامنا على صراطه المستقيم، وينوِّر قلوبنا بشرعه القويم، حتَّى نبقى عابدين مخلصين له الدِّين، ولحلاوة محبَّته ذائقين، ولساعات أعمارنا بطاعته مالئين، ولفرص السعادة الحقيقية مغتنمين آمين يا ربَّ العالمين.
رد: التربية الروحية في الإسلام
الفصل الرابع:
التَّقوى
سورة الحشر(59)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا الله ولْتَنْظُرْ نفسٌ ما قدَّمت لِغَدٍ واتَّقوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون(18) ولا تكونوا كالَّذين نَسُوا الله فأنساهُمْ أنفسَهُمْ أولئك همُ الفاسقون(19)}
ومضات:
ـ التَّقوى تعني العفَّة عن المحارم والشهوات، ومحاذرة ارتكاب ما يغضب الله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه. وهي بمجملها الالتزام بشرع الله طاعةً ورغبةً.
ـ في الآيات نداء للمؤمنين لينهلوا من معين التَّقوى، وليحاسبوا أنفسهم على ما قدَّموه من أعمال لرحلتهم الأبدية.
ـ الإنسان اللاهي الغافل عن الله تعالى ضائع، وفاقد لمقوِّمات بناء الشخصية المؤمنة، وهو مفتقر للاستقرار النفسي، وبعيد عن أسس النجاح وفق ميزان الله.
في رحاب الآيات:
عندما ينوي المرء السفر إلى بلد ما، فإن أوَّل ما يفكر فيه هو كيفيَّة الحصول على العملة المتداولة في ذلك البلد، ومعرفة أسعارها، من أجل تيسير أموره وتمكينه من تحقيق قصده من هذا السفر. ويلفت الله تعالى نظر عباده إلى اليوم القريب، الَّذي تنطلق فيه رحلتهم الأبدية، تلك الرحلة ذات الاتجاه الواحد، والَّتي لا عودة بعدها، إنها الرحلة الَّتي يصل فيها المرء إلى مكانٍ؛ العملةُ المتداولة فيه هي أعماله فقط، تلك الأعمال الَّتي كان يقوم بها خلال مسيرة الحياة الجسدية. وفي هذه الرحلة يحقُّ له أن يحمل من حقائب السَّفر ما شاء، فلا قيود على الوزن، لأن محتويات هذه الحقائب هي محصِّلة أعماله، وزاده من الَّتقوى. التَّقوى الَّتي تجعل القلب، وهو يقطع رحلة الحياة يقظاً، حسَّاساً شاعراً بالله في كلِّ حالة، خائفاً متحرِّجاً، خجلاً من أن يطَّلع الله عليه في حالة يكرهها؛ وعين الله على كلِّ قلب، في كلِّ لحظة، لا تغفل ولا تنام، فمتى يأمن ألا يراه؟.
ويحذِّر الله عباده من أن يكونوا كأولئك الَّذين نسوه فأنساهم أنفسهم، وهي حالة عجيبة، ولكَّنها حقيقية، فالَّذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشدُّه إلى أفق أعلى، وبلا هدف يرفعه عن السائمة الَّتي ترعى، وفي هذا نسيان لإنسانيته. وهذه الحقيقة تنشأ عنها حقيقة أخرى، هي نسيان هذا المخلوق لنفسه، فلا يدَّخر لها زاداً للحياة الأخروية الباقية، ولا ينظر فيما قدَّم لها للغد القريب من رصيد. وهذا كله يتطلَّب من المرء صحوة روحية وهو في عالم المادَّة، حيث ينسى نفسه في غمرة انشغاله بالدنيا لاهثاً وراءها، ومكثراً من تحصيل متاعها، ليعلم أن أعماله الخيِّرة والبنَّاءة تتحوَّل إلى حسابه الجاري في عالم الروح، وتُسجَّل له في رصيد الحسنات، وأن أعماله السيئة وذنوبه تُكْتَب في رصيد السيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته فقد فاز الفوز العظيم ونجا من العذاب الأليم، وإلا فهو من النادمين، ولاتَ حين مندم فلا ينفع الندم.
سورة آل عمران(3)
قال الله تعالى: {وسَارِعُوا إلى مَغفِرةٍ من ربِّكُم وجَنَّةٍ عَرضُها السَّمَواتُ والأرضُ أُعِدَّت للمُتَّقِينَ(133) الَّذين يُنفِقُونَ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاء والكَاظِمِينَ الغَيظَ والعافينَ عن النَّاسِ والله يُحِبُّ المُحسِنِينَ(134) والَّذين إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أنفُسَهُم ذَكَرُوا الله فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم ومن يَغفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ الله ولم يُصِرُّوا على ما فَعَلُوا وهُم يَعلَمُونَ(135) أُولَئِكَ جَزاؤهُم مغفِرَةٌ من ربِّهِم وجَنَّاتٌ تَجري من تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فيها ونِعمَ أجرُ العامِلينَ(136)}
ومضات:
ـ تحمل هذه الآيات دعوة للمؤمنين ليدخلوا في ميدان التنافس في الخير وينالوا درجة المتَّقين، والجائزة الَّتي تُمنَح للفائزين هي جنان الخلد ونعيم لا يفنى.
ـ المتَّقون هم أولئك الَّذين نذروا ما يملكونه؛ سواء كان قليلاً أم كثيراً، ومهما كان مقدار حاجتهم إليه، لمساعدة المحوجين والبائسين، وهم أيضاً الَّذين يملكون أنفسهم عند الغضب، ويتجاوزون عن أخطاء الناس.
ـ المتَّقون المحسنون يملكون قلوباً طاهرة ومنوَّرة، فإذا شابها ذنب أو غفلة، سارَعُوا إلى الله بالإنابة والتوبة الصادقة، دون تباطؤ أو إصرار على التَّمادي في الذنب.
ـ الجائزة الكبرى الَّتي ينالها الفائزون في هذا التنافس الحارِّ في تقوى الله، هي نيل مغفرته تعالى ورضاه، وخلود في أحضان الجنان وفي ظلال عرش الرحمن.
في رحاب الآيات:
الإسلام دين الواقعيَّة والمنطق السليم، والتَّقوى فيه عامل أساسي لشدِّ الهمم والعزائم، لأنها ترادف معنى الإخلاص، ولا تقاعس مع الإخلاص، ولا تسويف مع الحبِّ الصادق الَّذي أعطانا نبي الله موسى عليه السَّلام مثلاً رائعاً عنه، وصوَّره الله تعالى لنا بقوله: {وما أعجلَكَ عن قومِكَ ياموسى * قال هُمْ أُوْلاءِ على أثري وعَجِلْتُ إليك ربِّ لِتَرضى} (20 طه آية 83ـ84). فالمحبُّ العاشق لله يسارع إلى كلِّ عمل يوصله إلى رضاه تعالى ودخول جنَّته، تلك الجنَّة الرحبة الواسعة الَّتي أعدَّها الله لمن امتثل أوامره وترك نواهيه، وزكَّى نفسه ونمَّى عقله وأنار قلبه، وأمضى رحلة حياته في الإشادة والبناء وإسعاد الناس وخدمة الخلائق، إلى أن يصل إلى مرتبة المتقين الَّذين تصفهم الآيات بجملة من الصفات الجليلة.
فهم ينفقون في السَّعة والضيق كلٌّ حسب حاله، وهذا أَدَلُّ على التَّقوى، لأنَّ المال عزيز على النفس، يشقُّ عليها بذله في طرق الخير والمنافع العامَّة، وحبُّ الخير هو الَّذي يحرِّك في الإنسان دافع البذل، فإن لم يتوافر هذا الدافع بقرار ذاتي، فالدِّين ينمِّيه ويقوِّيه، لأنه جاء لتعديل الأمزجة المعتلَّة، وإصلاح النفوس المريضة.
وكذلك هم الَّذين يملكون زمام نفوسهم، فلا يظهرون غيظهم مع قدرتهم على الإيقاع بأعدائهم، ولا يُغلَب الغيظ إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبثقة من إشراقة التَّقوى، وبتلك القوَّة الروحية المنبعثة من التطلُّع إلى أفق أعلى وأسمى من أفق الذَّات وضروراتها. إن كظم الغيظ هو المرحلة الأولى فقط، وهو وحده لا يكفي، فقد يكظم الإنسان غيظه دون زوال حقده، لذلك تمضي الآيات لتشير إلى المرحلة الثانية الكفيلة بانتزاع الأحقاد من صدور المؤمنين، وهي العفو والسماحة والتجاوز، والله سبحانه لم يدعُ الناس إلى السماحة فيما بينهم، إلا بعد أن أطلعهم على جانب من سماحته معهم ليتذوَّقوا ويتعلَّموا. فهو غفَّار الذنوب؛ بل إنه جعل المغفرة الحقيقية بيده وحده جلَّ وعلا في قوله: {ومن يَغفِرُ الذنوبَ إلاَّ الله}، وهو يحبُّ أولئك العافين عن الناس، وحبُّه لهم من شأنه أن يطلق في نفوسهم حبَّ الإحسان والخير، ويبعث في قلوبهم الرغبة في عمل ما يقرِّبهم منه. ولكن الإنسان لا يخلو من لحظات ضعف تنتابه، فيزِلُّ أو يقع في ذنب، وعندها لا ينبذه الإسلام ولا يطرده الله من رحمته، بل يفتح أمامه باب الأمل للتواصل من جديد مع الله تعالى ونيل مغفرته؛ إنْ هو استغفر لذنبه وتاب، وندم على فعلته، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «قال إبليس: يارب! وعزَّتك لاأزال أغوي بني آدم مادامت أرواحهم في أجسادهم، فقال تعالى: وعزَّتي وجلالي لاأزال أغفر لهم ما استغفروني» (رواه الإمام أحمد).
فالإسلام يدرك ضعف المخلوق البشري، الَّذي قد تدفعه نزواته وشهواته إلى مخالفة أمر الله، فلا يقسو عليه، ولا يبادر إلى احتقاره، بل يفترض فيه الخير مادامت شعلة إيمانه متوقِّدة لم تخمد، وطالما عرف أنه مخطئ وأن له ربّاً يغفر، فاستغفر وعاد عن خطئه، ولا يزال هذا العبد الضعيف المذنب بخير، مادام ممسكاً بالعروة الوثقى الَّتي تربطه بحضرة الله، سائراً في الدرب لم يقع في دائرة اليأس، ومهما تعثَّر فإنه سيصل في النهاية، مادامت الشعلة مضيئة تنير دربه، والأمل يشدُّ عزيمته، ومادام يذكر الله ولا ينساه، ويستغفره مُقِرّاً له بالعبوديَّة.
والإسلام لا يدعو بهذا إلى التهاون، ولا يمجِّد العاثر الهابط، إنما يتجاوز عن عثرة الضعيف ليستثير في النفس الرجاء، وليحضَّ على طلب المغفرة من الله، وأمَّا الَّذين يستهترون ويُصِرُّون على المعصية فقد ظلموا أنفسهم وتعدَّوا على حرمات الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار» (رواه البيهقي والبزَّار)، فالله لم ينكر على الإنسان وقوعه في الذنب، ولكنَّه أنكر إصراره عليه. والإصرار هو امتلاك القوَّة الجسدية والعقلية عند تكرار ارتكاب الذنب مع معرفة أنه ذنب، ومع ذلك يكرِّر فعله من أجل مصلحة أو مكسب أو هوى. فالمرء قد يسرق لظرف ما ثمَّ يتوب، ويردُّ المال المسروق، لكنَّ في تكرار السرقة إصراراً عليها، وقد يكذب ثمَّ يتوب، لكنه إذا عاد إلى الكذب فهو مصرٌّ عليه. ولكن إذا تيقَّظ الضمير، وآبت النفس إلى جادَّة الصواب، وحاولت إصلاح الخطأ، كان ذلك توبة يفرح الله بها، ومدعاة لمغفرة الذنوب، جاء في الحديث القدسي فيما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه عزَّ وجل: «أنا عند ظنِّ عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني، ومن تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبت إليه ذراعاً ومن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقرَّبت إليه باعاً وإذا أقبل إليَّ يمشي أقبلت إليه أهرول» (متفق عليه).
والاستغفار هو طلب المرء المغفرة من الله على ما اقترفه من إثم أو ما قصَّر فيه من عمل، وهو يعجِّل بالخلاص إذا قصد به التوبة النصوح، قال صلى الله عليه وسلم : «من لزم الاستغفار جعل الله له من كلِّ ضيق مخرجاً، ومن كلِّ همٍّ فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب» (رواه أبو داود).
والتوبة النصوح تستلزم النَّدم على ما مضى، والإقلاع عن الذنب، والعزم الأكيد على استئناف حياة صالحة فيما يُستَقبَلُ من الزمان، فإن كان ثمَّةَ حقوق للعباد وجب ردُّها إلى أصحابها ما أمكن، وهذه التوبة هي الَّتي يقبلها الله ويفرح بها، وحسب التائب شرفاً أن يقول الله في شأنه: {..إنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابينَ ويُحِبُّ المُتَطهِّرين} (2 البقرة آية 222).
والمتَّقون الَّذين وصفتهم الآيات بما تقدَّم، لهم ثواب عظيم وأمن من العقاب، وعفوٌ عما سلف من ذنوبهم، وجنَّات تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها أبداً، فنعمت الجنَّة جزاءً لمن أطاع الله.
سورة التحريم(66)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا قُوا أنفسَكُم وأهلِيكُمْ ناراً وَقُودُها النَّاسُ والحجارَةُ عليها ملائكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يعصونَ الله ما أمرَهُمْ ويفعَلون ما يُؤمرون(6)}
ومضات:
ـ يأمر الله تعالى المؤمنين أن يوجِّهوا أزواجهم وأولادهم، ويعلِّموهم أسس الصلاح والحلال والحرام، وقاية لهم من نار رهيبة تشتعل بها أجسام الناس والحجارة.
في رحاب الآيات:
يوجِّهُ الله تعالى من خلال الآية نداء إنذار وإنقاذ إلى كلِّ مؤمن بل إلى كلِّ إنسان؛ أن يعمل صالحاً، ويأمر أهله بالطاعة، لتكون حجاباً له ولهم من نار جهنَّم، الَّتي وقودها الناس والحجارة، وهي الَّتي كان المشركون يعبدونها من دون الله، وهذا منتهى التحدِّي للإنسان الَّذي ظلم نفسه فعبد غير الله، والآن يُكَبُّ هو ومعبوده في النار، فهل يستطيع أحدهما أن ينقذ الآخر؟. أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {قُوا أنفسَكُم وأهلِيكُمْ ناراً} قال: (اعملوا بطاعة الله، واتَّقوا معاصيه، وَمُروا أهليكم بالذِّكر ينجيكم الله من النار). وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {قُوا أنفسَكُم وأهلِيكُم ناراً} قال: (أدِّبوا أهليكم). وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {قوا أنفسكم...} فقالوا: يارسول الله كيف نقي أهلنا النار؟ قال: تأمرونهم بما يحبُّه الله وتنهونهم عما يكره الله».
ففي الآية إرشاد إلى أنه يجب على الرجل تعلُّم ما يجب من فرائض الدِّين وتعليمها لأهله، لاسيَّما أولاده، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّذي رواه ابن عمر رضي الله عنه : «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيَّته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيَّته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيَّتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيَّته، وكلُّكم راعٍ ومسؤول عن رعيَّته» (متفق عليه). فالأبناء يُخلقون مزوَّدين بقوى فطرية تصلح أن توجَّه للخير، كما تصلح أن توجَّه للشر، وعلى الآباء أن يستغلوا هذه القوى ويوجِّهوها وجهة الخير، ويعوِّدوا أبناءهم العادات الحسنة، حتَّى ينشأ الطفل خيِّراً ينفع نفسه وينفع أمَّته.
ووقاية النفس والأهل من النار لا تكون إلا بالتعليم والتربية، وتنشئتهم على الأخلاق الفاضلة، وإرشادهم إلى ما فيه نفعهم وفلاحهم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «الزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم» (رواه ابن ماجه) وفي هذا الحديث دلالة على ما ينبغي أن يكون عليه الآباء من ملازمة أولادهم، ليكون تصرُّف الأبناء تحت نظر الآباء وإشرافهم، فإذا تصرَّف أحدهم أيَّ تصرُّف يحتاج إلى توجيه، كان ذلك التصرُّف موضع العناية والنظر. والإسلام لا يفرِّق بين الذكور والإناث في هذه الناحية، فلكلٍّ من الجنسين الحقُّ في التنشئة الصالحة، وتعلُّم العلم النافع، ودراسة المعارف الصحيحة، وأن تتاح له أسباب التأديب ووسائل التهذيب، لتكمل إنسانيته، ويستطيع النهوض بالأعباء الملقاة على عاتقه. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كانت له ابنة فأدَّبها فأحسن تأديبها، وربَّاها فأحسن تربيتها، وغذَّاها فأحسـن غذاءها، كانت لـه وقـاية من النار» (رواه الخمسة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ). والمقصود بالتربية: إعداد الطفل بدنيّاً وعقليّاً وروحيّاً حتَّى يكون عضواً نافعاً لنفسه ولأمَّته، وذلك بتهيئته ليكون سليم الجسم قويَّ البنية، قادراً على مواجهة الصعاب الَّتي تعترضه، بعيداً عن الأمراض والعلل الَّتي تشلُّ حركته وتعطِّل نشاطه. وأن يتهيَّأ عقله ليكون سليم التفكير، قادراً على النظر والتأمُّل، يستطيع أن يفهم البنية الَّتي تحيط به، ويُحْسِنَ الحكم على الأشياء، ويمكنه أن ينتفع بتجاربه وتجارب الآخرين. وأمَّا إعداده الروحي فيتمُّ بأن يُهَيَّأ ليكون متيقِّظ العواطف والمشاعر، ينبسط للخير ويفرح به، ويحرص عليه، وينقبض عن الشرِّ ويضيق به، وينفر منه. وأمَّا الوسائل الَّتي يمكن للأب أن يهيِّئ ابنه من خلالها فتتلخَّص بما يلي:
1 ـ إبراز قيمة الفضائل وآثارها الفردية والاجتماعية، وإظهار مساوئ الرذائل وآثارها أمام الطفل بقدر ما يتسع له فهمه.
2 ـ أن يكون الآباء أنفسهم مثلاً صالحاً لأبنائهم؛ فإن من عادة الأطفال أن يتشبَّهوا بآبائهم ويحاكوهم في أقوالهم وأفعالهم، والقدوة الصالحة ما هي إلا عَرْض مجسَّم للفضائل. وإن الطفل الَّذي يرى والديه يهتمَّان بأداء الشعائر والبعد عما يُخِلُّ بتعاليم الدِّين، مثل الكذب، والغيبة، والنميمة، والأثرة، والبخل، وغير ذلك من الصفات الذميمة، لابدَّ وأن يتأثَّر تأثُّراً بالغاً بهما وبما يصدر عنهما.
3 ـ تلقين الطفل مبادئ الدِّين وتمرينه على العبادات، وتعويده على ممارسة فعل الخير، فإن ذلك يجعل منه نواة صالحة لمجتمع سليم راق.
4 ـ على الآباء أن تكون معاملتهم لأولادهم قائمة على أساس الملاطفة والرفق واللين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه أن يعاملوا أولادهم بالرفق واللين، ويضرب لهم المثل بما يمارسه هو بنفسه: «فكان يصلِّي صلى الله عليه وسلم يوماً إماماً، فارتحله الحسن؛ ابن بنته، فأطال السجود، فلمَّا فرغ قالت الصحابة: يارسول الله، أطلت السجود! فقال صلى الله عليه وسلم : إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله» (أخرجه النسائي وأحمد والحاكم عن عبد الله بن شداد عن أبيه). «وقبَّل صلى الله عليه وسلم طفلاً من أبناء بناته، فقال رجل من الأعراب: أتقبِّلون أبناءكم؟ إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت واحداً منهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَوَ أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك» (متفق عليه) أي ما الَّذي أستطيع أن أفعله معك وقد غاض نبع الرحمة في قلبك؟.
5 ـ ومن الضروري أن يحبِّب الآباء أبناءهم في اختيار الأصدقاء الأخيار ومزاملة أصحاب الخلق الفاضل، فإن الأطفال يحاكي بعضهم بعضاً، ويتشبَّه كلٌّ منهم بالآخر.
يُستَخلَصُ ممَّا تقدَّم أهميَّة دور المؤمن في الإشراف على تربية أولاده وتوجيه سلوكهم، لوقايتهم من شرور أنفسهم، بالتعاون مع الأمِّ المؤمنة الصالحة. فإن كانت عاطفة الأبوين تدفعهما ألاَّ يقفا مكتوفي الأيدي عند رؤية أولادهما على وشك الوقوع في نار الدنيا، فالأَوْلى بهما أن يحفظوهم من نار الآخرة، الَّتي سبيلها المعاصي والفسق والجهل والتمرُّد، وأن يزرعا فيهم حبَّ الله ورسوله، وحبَّ الخير لأنفسهم وللناس أجمعين. فالأبناء أمانة وضعها الله بين يدي الآباء، وهم مسؤولون عنها، فإن أحسنوا إليهم بحسن التربية، كانت لهم المثوبة، وأنقذوهم من سوء الخاتمة، وإن أساؤوا تربيتهم استوجبوا العقوبة ورموا بهم وبأنفسهم إلى التهلكة.
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {ولو أنَّ أهلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوا لفتحنا عليهِمْ بركاتٍ من السَّماءِ والأرضِ ولكِنْ كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يَكْسِبُون(96)}
ومضات:
ـ الإيمان والتَّقوى هما مفتاحا الرزق والخير لأنهما يقودان إلى حسن التعامل وتوثيق الصلات بين الناس.
ـ هناك عوامل فعَّالة غير منظورة تؤثِّر على رزق الإنسان سلباً أو إيجاباً على الرغم من تعاطيه الأسباب للكسب، ولا تتوضح معالم هذه العوامل إلا لمن ربط فؤاده بموجد الأسباب والمسبَّبات، وأدرك أنه تعالى هو وحده القادر على بسط الرزق إنعاماً وتكريماً للمحسنين، أو حجبه وتضييقه جزاءً للغافلين والمكذِّبين.
في رحاب الآيات:
ينصح علماء الطبيعة والبيئة بالإكثار من التشجير، والمحافظة على الغابات من عبث الإنسان، ويؤكِّدون أهمية الأشجار في ترطيب أجواء الأرض واستقطاب الغيوم إليها؛ وهذا يدلُّ على وجود علاقة خاصَّة بين الشجر والغيوم. ويبدو من سياق الآية الكريمة أيضاً وجود علاقة بين تقوى الإنسان وورعه، وبين عوامل الطبيعة في الجو، وكأنَّ الأعمال الصالحة والاتجاه الروحي الصافي نحو حضرة الله، يستقطب الرزق من السماء والأرض، كما يستقطب الشجر ماء المطر ويمتصُّ غذاءه من الأرض.
إذن: هناك علاقة وثيقة خفيَّة بين الإيمان وتقوى الله من جهة، وبين الرزق الإلهي الوفير من جهة أخرى، ويمكن أن يدركها أولو البصيرة ويستشفَّها أصحاب اليقين، كما يمكن للإنسان المؤمن أن يتلمَّسها من خلال تجاربه اليومية. وميزة هذه العلاقة أنها تعطي الإنسان الأمل والتفاؤل، وتدفعه للدعاء والتضرُّع، وتزرع في قلبه الثقة بالله، والتسليم بأنه الرازق الحقيقي بعد تعاطي الأسباب الَّتي تثمر عادةً المسببات المرغوبة.
فالإيمان بالله قوَّة دافعة دافقة تُستَمَدُّ من قوَّة الله، وتعمل على تحقيق مشيئته في الأرض، بعمارتها ودفع الفساد والفتنة عنها. وتقوى الله يَقظةٌ واعية تصون الإنسان من التهوُّر والغرور، وتوجِّه الجهد البشري بعناية ليكمِّل رسالة البناء والإعمار. وهكذا يسير الإيمان والتَّقوى متناسقين متلازمين في طريق الخير، فيحدث بينهما لقاح خفيٌّ يومض بأنوار البركات الربَّانية، لينهمر العطاء الإلهي، وليتلاحم مع جود الأرض وكرمها، ويتفتَّح الخير في ذلك كله فيعمَّ البلاد والعباد.
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {يابني آدمَ قد أنزلنا عليكُمْ لِباساً يُواري سَوْءَاتِكُمْ وريشاً ولباسُ التَّقوى ذلك خيرٌ ذلك من آياتِ الله لعلَّهم يذَّكَّرون(26)}
ومضات:
ـ على الإنسان الواعي أن يَحذَرَ الحملة الموجَّهة لتمزيق برقع حيائه، وتهديم ركائزه الأخلاقية، والَّتي تدعوه إلى التخلِّي عن الأخلاق والفضائل باسم التحرُّر والمدنية، وأن يحارب هذه الحملات الهادفة إلى تعطيل طاقاته والسيطرة عليه، ليكون أداة طيِّعة لتحقيق الفساد والإفساد.
ـ ربط الله سبحانه وتعالى بين الثياب والتَّقوى، لأن الأولى لباس الجسد والثانية لباس القلب والروح، وفي ذلك قال الشاعر:
إذا المرء لم يلبس ثياباً من التُّقى تقلَّب عُريانا وإن كان كاسياً
في رحاب الآيات:
من الأدعية المأثورة: (اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا)، ولعل هناك رابطاً متيناً بين العورة والقلق الَّذي يروِّع الإنسان ويخرجه عن اتزانه وهدوء أعصابه وتفكيره. وهذا ما أدركه تجار الجنس وحاولوا أن يستغلُّوه، في محاولاتهم المستميتة، للتكسُّب من وراء تأجيج الغرائز الجنسية، بالأفلام الَّتي تتضمَّن مشاهد العري، وما أرفقوها من العنف الَّذي يولِّد القلق وتوتُّر الأعصاب، في أجواء تصيب النفس العفيفة بالغثيان. ذلك لأن الإنسان بشكل عام يخجل من كشف العورة، ويحاول جاهداً أن يسترها عن أعين الناس، ويرى في هتك الستر عنها شيئاً مخالفاً للآداب العامة. لذلك أتت الشريعة الإسلامية متوافقة مع المبادئ السليمة، محدِّدة ما يباح كشفه وما يجب ستره، وتناولت ما هو أشدُّ أهمية، وهو عيوب النفس وما يحاول الإنسان أن يخفيه منها عوضاً عن أن يعالجه بالتَّقوى ويتخلَّص منه.
وهذا الكلام يقودنا إلى التمييز بين نوعين من العورة: العورة الجسدية، والعورة النفسية. فالأولى تكرَّم الله علينا بسترها فخلق لنا لباساً يكسوها ويحجبها، ليحفظ لنا ماء وجوهنا ويرفعنا عن مرتبة البهائم، وجعل لنا آداباً لشكره عليها، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوباً جديداً قال: «الحمد لله الَّذي كساني من الرِّياش ما أواري به عورتي وأتجمَّل به في الناس» (رواه أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي رضي الله عنه ). أمَّا العورات النفسية فهي كلُّ عيب من العيوب الخُلقية أو النفسية، ومن حقِّ المسلم على أخيه المسلم أن يستر عورته، فمن سترها على أخيه ستر الله عليه، ومن بحث عنها وأفشاها كشف الله ستره وفضحه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستر عبد عبداً إلا ستره الله يوم القيامة» (رواه مسلم).
إن اللباس الأجمل والأرقى الَّذي جعله الله لعباده المخلصين الَّذين حسُنت صلتهم بخالقهم، هو لباس التَّقوى الَّذي يؤهِّلهم لتلقِّي نور الله حيث يفيض على الجوارح، فَيُظهر في عيني صاحبه الصَّفاء والنَّقاء، وفي وجهه النور والبهاء، وفي معاملته الإخلاص والوفاء، وفي مشيته السكينة والوقار، وفي خلقه التسامي والنُّبْل، وفي غضبه الحلم والأناة، وفي لسانه الصدق والعدل، وفي سلوكه الصبر والسماح، وفي مشاعره التواضع والرحمة، لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى صدره الشريف ويقول: «التَّقوى ههنا، التَّقوى ههنا» (رواه الترمذي ومسلم).
وأجمل ثوب تكسو به التَّقوى صاحبها هو ثوب الحياء، الَّذي جاء فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان» (متفق عليه) وكذلك ورد عن عمران بن حُصَيِن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الحياء لا يأتي إلا بخير» (متفق عليه).
رد: التربية الروحية في الإسلام
الفصل الخامس:
التَّوبة وَسعَةُ المغفرة الإلهيَّة
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {وإذا جاءَكَ الَّذين يُؤمنون بآياتنا فقلْ سلامٌ عليكم كَتَبَ ربُّكم على نفسهِ الرَّحمةَ أنَّهُ من عَمِلَ منكم سُوءاً بجهالةٍ ثمَّ تابَ من بعدِهِ وأصلحَ فأنَّه غفورٌ رحيمٌ(54)}
ومضات:
ـ إذا جاءكم الَّذين يؤمنون بالله الواحد الأحد، وبتعاليمه وآياته في خلقه وإبداعه، فقولوا لهم سلام عليكم، السرور والطمأنينة والسعادة لكم في أحضان الإسلام، والرحمة منحة لكم من الرحيم الرحمن، فما أنتم إلا بشر تنحدرون من آدم عليه السَّلام، وكلُّ بني آدم خطَّاء وخير الخطَّائين التوَّابون المصلحون.
في رحاب الآيات:
خطاب كريم من ربٍّ كريم لرسول كريم، لكنَّه يشمل كلَّ مسلم في كلِّ حين، ومضمونه: يا أيُّها النبي إذا جاءك الَّذين يؤمنون بآياتي المبثوثة في كلِّ ركن من أركان هذا الكون، في السموات والأرض والنجوم والكواكب، والشجر والدواب، وفي أنفسهم، فبارك إيمانهم، وشدَّ على أيديهم مقوِّياً عزائمهم مباركاً جهودهم، وبشِّرهُم إن صدقوا وأخلصوا؛ برحمة الله ورضوانه، وبأن لهم منه السَّلامة من كلِّ عقاب، والبراءة من كلِّ عذاب. قال عكرمة: نزلت هذه الآية في الَّذين نهى الله تعالى نبيَّه صلى الله عليه و سلم عن طردهم، فكان إذا رآهم النبي صلى الله عليه و سلم بدأهم بالسَّلام وقال: «الحمد لله الَّذي جعل في أمَّتي من أمرني أن أبدأهم بالسَّلام» (أخرجه أبو داود عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ).
وقد استعملت الآية كلمة (سلام) لما فيها من دلالة على الأمن والرِّضا والطمأنينة، الَّتي يتوخَّاها كلُّ إنسان يعيش على ظهر هذا الكوكب، ولأن السَّلام اسم من أسماء الله الحسنى، وصفة من صفاته. ومع السَّلام أتت الرحمة الَّتي كتبها الله على ذاته القدسية، كرماً منه ومِنَّةً وتفضُّلاً، فقد ورد في الصحيحين عن الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : «لـمَّا قضى الله على الخلق كَتَبَ في كتاب، فهو عنده فوق العرش: إن رحمتي غلبت غضبي».
وقد قضى الله تعالى عندما خلق الإنسان أن جعله مخلوقاً مشرَّفاً بالتكليف، ولم يكلِّفه الكمال، لأن التكليف به تكليف بما لا يطيق، {لا يُكَلِّفُ الله نَفْساً إلاَّ وُسْعَهَا..} (2 البقرة آية 286) وإنما كلَّفه أن يستعين بربِّه ليتغلَّب على وسوسة الشيطان، وأن يتطهَّر من الدنس كلَّما تورَّط في الإثم، وأن يرتقي في مدارج الاستقامة، ويبتعد عن مسالك الخطيئة؛ الَّتي لا عصمة له من ارتكابها، ولكنَّه مأمور بالرجوع عنها، ليخرج من دائرة الشرِّ والأشرار، ويدخل في زمرة الأخيار الَّذين قال في حقِّهم رسول الله صلى الله عليه و سلم : «كلُّ ابن آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوَّابون» (رواه الترمذي وابن ماجه والحاكم عن أنس رضي الله عنه ). فهذا القول هو تفسير لطبيعة سلوك البشر؛ فكما أخطأ أبوهم آدم فكلُّ واحد منهم معرَّض للخطأ. فإمَّا أن يسرع بالتَّوبة ويتوب، فيتوب الله عليه كما تاب على آدم، وإمَّا أن يصرَّ على ذنبه ويستكبر عن التَّوبة، فيُحرم رحمة الله ورضوانه كما حُرم منها إبليس الَّذي أصرَّ على ذنبه واستكبر.
فالتَّوبة هي صلة مباشرة بالله، ويقظة روحية واستشعار بالانحراف، والعمل على العودة إلى الصراط المستقيم والثبات عليه. أمَّا الإصرار على الإثم والتمادي فيه، فهو مظهر للفراغ الروحي المتولِّد عن موت الإحساس والضمير عند من يرتكبونه، لذلك فهم قلَّما يشعرون بالألم الباعث على الندم. ولهذا كان الإصرار على الذنب من صفات الكافرين، قال تعالى: {إنَّهم كانوا قَبْلَ ذلك مُتْرَفين * وكانوا يُصِرُّونَ على الحِنثِ العظيم} (56 الواقعة آية 45ـ46).
وقد فتح الله تعالى باب التَّوبة على مصراعيه أمام عباده، فقد روى مسلم والنسائي عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «إن الله يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتَّى تطلع الشمس من مغربها».
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {إنَّما التَّوبة على الله للَّذين يعملونَ السُّوءَ بجهالةٍ ثمَّ يتوبونَ من قريبٍ فأولئكَ يتوبُ الله عليهِمْ وكان الله عليماً حكيماً(17) وليستِ التَّوبة للَّذين يعملونَ السَّيِّئاتِ حتَّى إذا حَضَرَ أحدَهُمُ الموتُ قال إنِّي تُبْتُ الآن ولا الَّذين يموتون وهمْ كُفَّارٌ أولئكَ أعتدْنا لهمْ عذاباً أليماً(18)}
سورة النساء(4)
وقال أيضاً: {ومن يعملْ سُوءاً أو يَظْلِمْ نفسَهُ ثمَّ يستغفِرِ الله يَجِدِ الله غفوراً رحيماً(110)}
سورة النحل(16)
وقال أيضاً: {ثمَّ إنَّ ربَّكَ للَّذين عَمِلُوا السُّوءَ بجهالةٍ ثمَّ تابوا من بعدِ ذلك وأصلَحُوا إنَّ ربَّك من بعدِها لغفورٌ رحيم(119)}
سورة طه(20)
وقال أيضاً: {وإنِّي لغفَّارٌ لمن تابَ وآمنَ وعَمِلَ صالحاً ثمَّ اهتدى(82)}
ومضات:
ـ الذنب يسبب البعد عن الحضرة الإلهية، والتَّوبة تقرِّب إلى الرحمن الرحيم لما فيها من ندم وإنابة إليه سبحانه، فما أحلى المسارعة في الاستغفار، وتصحيح المسار، وتقديم الاعتذار للواحد القهار.
ـ المغفرة الإلهية تعني عفوه تعالى عن الذنب الَّذي يرتكبه المؤمن أو عن التقصير الَّذي يبدر منه.
ـ لا يمنح الله تعالى المغفرة هكذا جزافاً لمن يخطئ، بل يقيِّد ذلك بشروط أهمُّها:
ا ـ أن يتخذ المذنب قراراً حازماً بالإقلاع عن الذنب وعدم العودة إليه.
ب ـ أن ينهـج طريـق العمل الصحيـح المثمر، ويكثر ـ جهده ـ من العبادات وعمل الخير، ويصلح ما نجم عن خطئه فالحسنات يذهبن السيئات.
ج ـ أن يتحلَّى بالإيمان الكامل بأن ما رسمه تعالى له هو لخيره ولصالحه، وأن يجعل النور الإلهي قائده ودليله في مسيرة حياته.
في رحاب الآيات:
إن جهلك للقانون لا يعفيك من المسؤولية، ولا ينجيك من عواقب مخالفته. هذا هو مقتضى مجموع النُظُم والقوانين البشرية الَّتي تحكم المجتمع الدنيوي في كل بلدان العالم. أمَّا القانون الإلهي فيحدِّد أنه متى كانت نيَّتك في العمل صادقة خالصة لوجه الله تعالى، فأنت غير مؤاخذ عما يبدر منك من الأخطاء، الَّتي تجهل أنها أخطاء، وهذا بعض ما عناه الرسول صلى الله عليه و سلم بقوله: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى» (متفق عليه) إلا أنه في اللحظة الَّتي تدرك فيها خطأك، فأنت مطالبٌ بالتَّوبة النصوح، الَّتي تعني الرجوع عن الخطأ وعدم العودة إليه.
فالإنسان قد يخطئ فيسيء إلى نفسه، أو إلى غيره دون علم وبحسن نية، أو تحت تأثير الضعف البشري الَّذي يعتريه كلما عُرضت أمامه صنوف الشهوات وأنواع الفتن. فإن سارع إلى استدراك ما فرَّط فيه فندم ثمَّ أَتْبع عمله السيء عملاً حسناً، وأصلح ما نجم عنه من إفساد تاب الله عليه، ووجد أبواب رحمته مفتَّحة أمامه، وأمام جميع الخاطئين المتطهرين، إذا أنابوا إليه بتوبة صادقة، مقرونة بصلاح القلب وإصلاح الحال، مشفوعة بالتزام شرع الله القويم، بإرجاع الحقوق إلى أصحابها، سواءً منها المادية كالمال، أو المعنوية كالإساءة إلى الناس وذلك بردِّ اعتبارهم وصيانة كراماتهم. فلعلَّهم بذلك يندرجون في طائفة التائبين الَّذين استثناهم الله من عذابه وأكرمهم بمغفرته، قال تعالى: {إلاَّ من تابَ وآمنَ وعَمِلَ عملاً صالحاً فأولئكَ يُبَدِّلُ الله سيِّئاتِهِم حسناتٍ وكان الله غفوراً رحيماً} (25 الفرقان آية 70). لكن وللأسف الشـديد فقد درج العوامُّ من الناس ـ عنـدما ينصحهم أهـل الفضل بالكـفِّ عن المعاصي والموبقات ـ على أن يقولوا: دعونا نَعِشِ الحياة كما يحلو لنا فالله غفور رحيم. إن هذه العبارة ناقصة وهي تعبِّر عن جزء من الحقيقة ، فالله واسع المغفرة، بدليل قوله تعالى في الحديث القدسي: «أنا عند ظنِّ عبدي بي، فليظنَّ بي الظنَّ الحسن» (رواه البخاري) ولكن الله أيضاً شديد العقاب، بدليل قوله تعالى: {ومن يبدِّل نِعمة الله منْ بعدِ ما جاءَتهُ فإن الله شديدُ العقاب} (2 البقرة آية 211). ثمَّ إن مغفرته تعالى متاحة لمن يطلبها بصدق العزيمة، ويُصلح ما نجم عن خطئه من الفساد؛ فهل يصحُّ أن نكسر نافذة الجيران ثمَّ نقول لهم: عفواً على كسرها دون أن نتقدَّم لإصلاحها، طامعين بسماحهم وسعة صدرهم؟. فالذنب يُحدث أثراً في نفس مرتكبه، وفي نفوس الآخرين، ولهذا كان لابدَّ من عمل جادٍّ لإزالة آثار الخطأ سواء من صفحات قلوبنا أم من صفحات قلوب الآخرين. وهذا العمل الجادُّ هو ما نسميه بالتَّوبة، وهي تغيير مسار حياتنا من الخطأ إلى الصواب، ويكون ذلك عن طريق الندم بالقلب، والاعتذار باللسان بأن نستغفر الله، والإقلاع بالجوارح وهو الكفُّ عن الذنب وإصلاح ما نجم عنه من ضرر وإساءة للآخرين، ثمَّ الاتجاه فكراً وقلباً نحو حضرة الله، والعمل على إصلاح أخطاء المجتمع وعيوبه بكلِّ وسائل الحكمة والرفق واللين، وتقديم الخدمات المختلفة له، من نشرٍ للعلم، وإصلاح بين المتخاصمين وغيره، وأن يكون عملنا خالصاً لوجه الله، وابتغاء محبَّته ورضوانه.
والتَّوبة الحقيقية المثمرة ليست كلمة تقال، وإنما هي توبة النفس الَّتي يهزُّها الندم من الأعماق، فتتوب وتنيب وهي في فسحة من العمر وبحبوحة من الأمل. لا توبةَ الَّذي اقترف من الآثام ما اقترف مع العلم والإصرار، حتَّى إذا أشرف على الموت وآذنت شمسه بالمغيب، وأدرك أنه هالك، أعلن توبته بصوت خنقته حشرجات الاحتضار، وجسد يغالب أنياب الموت، كتوبة فرعون لمَّا أدركه الغرق فقال: {..آمنتُ أَنَّهُ لا إله إلاَّ الَّذي آمنَتْ به بنو إسرائيلَ وأنا من المسلِمين} (10 يونس آية 90) ذلك أن توبته هذه هي توبة المفلس الَّذي أحاطت به خطيئته، ولم يبقَ لديه القدرة على ارتكاب المزيد من الذنوب، ولا فسحة من العمر للانقياد للهوى. وهي توبة ولدت ميتة لا رجاء منها ولا قبول لها، إذ لا يمكن لها أن تنشئ في القلب ندماً بعد أن توقفت نبضاته، أو في الحياة تبدُّلاً بعد أن انتهى أجلها، وبالتالي فإنها لن تُحْدِثَ النتيجة المرجوَّة من التَّوبة وهي الارتقاء في الخُلُق والعودة إلى الرشاد، وهكذا يشترك العاصي المُصِرُّ؛ مع الكافر في مصير واحد، هو عذاب جهنم وبئس المصير؛ ومع ذلك: «فإن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» كما ورد في حديث رسول الله صلى الله عليه و سلم الَّذي رواه الترمذي والحاكم وأحمد بسند صحيح.
وقدكتب تعالى على نفسه قبول توبة عباده على الرُّغم من استغنائه عنهم، فلا تنفعه توبتهم ولا تضرُّه معصيتهم، ولكنها رحمة منه وزيادة في نفعهم، فبالتَّوبة عن الأخطاء رجوع عن الفساد، وإصلاح لحياة الأفراد والمجتمع. ولو لم يشرع تعالى لهم التَّوبة لما كان لديهم الحافز على الرجوع عن أخطائهم، ولهلكوا بسبب استرسالهم في المعاصي واتِّباع الهوى، ولتصدَّعت البنية الأخلاقية للمجتمع، وانزلق أفراده وراء وسوسة الشيطان، واستسلموا لليأس والقنوط. وبهذا يكون الإسلام قد فتح أمام الإنسان العاصي بابين: باب الإصلاح بالتَّوبة والإنابة، وباب الرجاء والأمل بفضل الله تعالى وكرمه وحسن تقبُّله للمنيبين والتوَّابين، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «الله أفرح بتوبة عبده من أحدكم سقط على بعيره (أي وجده) وقد أضلَّه في أرضٍ فلاة» (متفق عليه) ذلك أن توبة العاصي تعني عودة الضالِّ إلى جادة الصواب، وهذا ما يريده تعالى لنا، فقد خلقنا لنكون سعداء آمنين في الدنيا، ثمَّ لننعم بجنَّاته وبفضله في الحياة الآخرة، لا ليشقينا في الدنيا ثمَّ يعذِّبنا في الآخرة، تنزَّه الله تعالى عن ذلك. ولهذا كلِّه ينبغي على المسلم أن ينتسب لمدارس الإيمان والتربية الروحية، ويصحب أساتذتها ليشرفوا على تربية قلبه، إلى أن يصبح قلباً سليماً منوَّراً؛ يرى الحقَّ بنور الله فيتَّبِعُه، ويرى الباطل بذلك النور فيجتنبه، وبهذا ينجو من موارد الشكِّ والشبهة الَّتي قد توقعه في الخطأ من حيث لا يدري، ويصبح طريقه آمناً فيمضي فيه مسرع الخطا قاصداً رضوان الله. وإذا ما تعرَّض لزلَّة قدم في مسيرته، فأصاب شيئاً من الذنوب، وتلظَّى بنار الندم على اقترافها، أقبل نحو شجرة التَّوبة، وجعل يستظلُّ بظلالها الوارفة، ثمَّ يتابع مسيرته.
سورة التَّوبة(9)
قال الله تعالى: {وآخرون اعتَرَفُوا بذُنُوبِهِم خَلَطوا عملاً صالحاً وآخرَ سيِّئاً عسى الله أن يتوبَ عليهم إنَّ الله غفورٌ رحيم(102) خُذْ من أموالِهِمْ صدقةً تُطهِّرُهُمْ وتُزكِّيهِمْ بها وَصَلِّ عليهِمْ إنَّ صلاتَكَ سكنٌ لهم والله سميعٌ عليم(103) ألم يعلموا أنَّ الله هو يَقْبَلُ التَّوبة عن عبادِهِ ويأخُذُ الصَّدَقَاتِ وأنَّ الله هو التَّوَّابُ الرَّحيمُ(104) وقُلِ اعملوا فسَيَرى الله عمَلَكُم ورسولُهُ والمؤمنون وسَتُرَدُّون إلى عالِمِ الغيبِ والشَّهادَةِ فينبِّئُكُم بما كنتم تعملون(105) وآخرونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ الله إمَّا يُعذِّبُهُم وإمَّا يتوبُ عليهم والله عليمٌ حكيم(106)}
ومضات:
ـ تختلف شرائح المخطئين بين معترف بذنبه نادم على فعله، وبين معاند مُصرٍّ ومستهتر؛ والمُقرُّ بذنوبه والمكثر من عمل الخير، تُرجى له المغفرة والتَّوبة عليه من حضرة الله.
ـ الإكثار من الصدقات من أنجع الوسائل في تطهير النفس، وزرع الشعور بالمشاركة والانتماء إلى المجتمع السليم المعافى، كما أن الإنفاق في سبيل الله هو دعامة مكينة للتوبة الحقيقية؛ وكذا كلُّ عمل مُجْدٍ ومستمر هو بمثابة بطاقة انتساب للمجتمع الإيماني.
ـ دعاء الرسول الكريم للصحابة، وكذلك دعاء العلماء الصالحين للمؤمنين، يمنحهم شعوراً قوياً بالطمأنينة والراحة النفسية، لما لهم من قرب وحظوة عند ربٍّ سميع مجيب.
ـ تُعرَضُ الأعمال يوم القيامة على الحضرة الإلهية وعلى الرسول صلى الله عليه و سلم ، وعلى المؤمنين الصالحين.
ـ باب الرجاء والأمل برحمة الله تعالى يضيء شعلة التفاؤل، ويبقي المؤمن على أعتاب الحضرة الإلهية لائذاً ومستجيراً.
في رحاب الآيات:
يتفاوت تقييم الناس لبعض المفاهيم بحسب المنظار الَّذي ينظرون إليها من خلاله، وكذلك هو الأمر بالنسبة للمؤمن فقد يعرِّض قلبه لنسمات الإيمان فتتحرَّك كوامن الخير في نفسه، ويتجلَّى له العمل الصالح فيتلقَّفه ويتعهَّده، وهو مدرك بأنه يفعل ما فيه الخير والفائدة من العمل، وقد تأخذه الدنيا بمشاغلها ولهوها فتفوته تلك النسمات، فيتقاعس عن الخير، أو يرتكب ذنباً دون أن يدرك أنه يسيء إلى نفسه أو إلى من حوله. فقيامه بصالح العمل لا يعني أنه ملاك لا يخطئ، وارتكابه لمعصية ما؛ لا يعني بأنه انحطَّ إلى درك الفسق والشر؛ بل إن ذنبه يثقل كاهله، وتضيق به نفسه، فيستغفر الله تعالى وكلُّه أمل بأن يتوب عليه، يحدوه إلى ذلك أمله بعظيم مغفرة الله، فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه أن الرسول صلى الله عليه و سلم قال: «إن الله تعالى لا يتعاظمه ذنب عبده أن يغفره» (أخرجه الطبراني ورجاله رجال الصحيح) ذلك أن رحمته تعالى أوسع من أن يدركها عقل بشر. روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع في جنَّته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد» (أخرجه مسلم).
ومن عظيم فضله تعالى في قبوله توبة العبد المذنب، نسخُ ذنبه ومحوه من كلِّ السجلات الَّتي تحفظ أعماله، روى أنس رضي الله عنه عن الرسول صلى الله عليه و سلم أنه قال: «إذا تاب العبد تاب الله عليه، وأَنْسَى الحفظة ما كانوا كتبوا من مساوئ عمله، وأَنْسَى جوارحه ما عملت من الخطايا، وأَنْسَى مقامه من الأرض، وأَنْسَى مقامه من السماء، ليجيء يوم القيامة وليس شيء من الخلق يشهد عليه بذلك» (أخرجه ابن عساكر). وبناء على ذلك فإن صدور أيِّ زلَّة أو هفوة من المؤمن لا يقتضي إحباط سائر عمله، أو وضعه في قائمة الهالكين؛ فإن لكلِّ جواد كبوة، ولابدَّ من إعطاء المخطئين الفرصة لمعرفة أخطائهم وتبيُّنها، حتَّى يُقِرُّوا بها، ويشعروا بالأسف والندم على ما نجم عنها من آثار سلبية، ومن ثمَّ يباشروا عملية الإصلاح والترميم من جديد. وأوَّل ما عني به الإسلام هو إصلاح أعماق النفس الإنسانية، فما على المخطئ إلا أن يتوجَّه إلى خالقه وحده، ويعترف بين يديه بتقصيره، ويُظهِرَ الرغبة بإصلاح فعلته، دونما حاجة إلى واسطة من البشر، بل إن الله ستر عليه معصيته ويكره منه أن يفضح نفسه.
والخطوة الأولى في طريق الإصلاح تتمثَّل بالإكثار من العبادات والنوافل، فقد روي عن الإمام علي كرَّم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «ما من عبد يذنب ذنباً فيتوضَّأ فيحسن الوضوء ويصلِّي ركعتين ويستغفر الله إلا غفر الله له» (أخرجه أحمد في مسنده) ثمَّ تلا هذه الآية: {ومن يعملْ سُوءاً أو يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثمَّ يستغْفِرِ الله يَجِدِ الله غفوراً رحيماً} (4 النساء آية 110).
أمَّا الخطوة الثانية فهي الإنفاق في سبيل الله، بوجوه البرِّ كافَّة، وهذا ما يربط المرء المقصِّر بإخوانه، حيث تتوطَّد أواصر المحبَّة، وتُمَتَّنُ صلة التراحم والتوادد في المجتمع الإنساني. وقد كان الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم يتولَّى أخذ الصدقات من المؤمنين لتوزيعها على المحتاجين، وكان من حسن حظِّهم حصولهم على دعائه عليه السَّلام لهم بالخير والبركة، مِمَّا يثلج صدورهم ويشعرهم بالأمان والاطمئنان الروحي والنفسي، ويعطيهم دفعاً إيمانيا يقوِّي إرادتهم للسيطرة على أنفسهم، وتصعيد ميولها، وهذا ما عنته الآية آنفة الذكر: {خُذْ من أموالِهِم صدقةً تُطهِّرهُم وتُزكِّيهِم بها وَصَلِّ عليهِمْ إنَّ صلاتَكَ سكنٌ لهم..}.
وقد ترك الإسلام فُسْحَةً واسعة للتوبة الَّتي تنجم عن الرغبة الداخلية والإرادة المصمِّمة، وجعل لها مظهراً عملياً يتمثَّل في الإنفاق الخصب المجدي، لأن عدم إتاحة مثل هذه الفرص أمام المذنبين المستغفرين، يصيبهم بنوع من اليأس يشلُّ شعورهم وتفكيرهم، ثمَّ يقعدهم عن العمل والمشاركة الجماعية، لذا أتى الأمر الإلهي: {وقُلِ اعملوا}، فالمؤمن الَّذي يعمل ويخطئ خير من الَّذي لا يعمل ولا يخطئ. وطالما أن هذا العمل سيكون مشهوداً من قبل حضرة الله ورسوله وسائر المؤمنين، فلابدَّ أنه سيكون عملاً محاطاً بالعناية والرعاية، وبملاحظة المجتمع له وتقويمه إذا اعوجَّ أو انحرف عن جادَّة الصواب، وفي يوم الحساب ستُعْرَضُ نتائج الأعمال على الله تعالى والرسول والمؤمنين لقوله تعالى: {يومئذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخفى منكم خافية} (69 الحاقة آية 18) لذلك فهم يقدِّمون أعمالهم في الحياة الدنيا، وهم في حالة من الرجاء والأمل بأن يقبل الله تعالى عملهم، ويشملهم بعفوه الكريم ويبعدهم عن عذابه، وأن يبلِّغهم مقاصدهم. روي عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: «ما اجتمع الرجاء والخوف في قلب امرئ مسلم عند الموت إلا أعطاه الله ما يرجو وصرف عنه ما يخاف» (أخرجه الترمذي وابن ماجه عن أنس رضي الله عنه وأخرجه البيهقي في الشعب عن سعيد بن المسيب عن عمر رضي الله عنه ).
لذلك كلِّه فلا ينبغي أن تُرفع عصا الانتقام والعقاب، في وجه المذنب والمقصِّر، طالما أن فرصة التَّوبة متاحة أمامه لينال بها من رحمة الله تعالى، قال صلى الله عليه و سلم : «جعل الله الرحمة مئة جزء، فأمسك عنده تسعة وتسعين، وأنزل في الأرض جزءاً واحداً. فمن ذلك الجزء تتراحم الخلائق، حتَّى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه» (أخرجه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه )، وقد روى أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال: «يسِّروا ولا تعسِّروا وبشِّروا ولا تنفِّروا» (متفق عليه). فإذا تاب العبد من ذنبه وأناب فقد حقَّ على المجتمع المسلم أن يحبَّه لأن الله تعالى قد أحبَّه، وأن يدعو له بالثبات على التَّوبة، وأن لا يعيِّره بما سلف من ذنبه، وأن يتعهَّده بالرعاية والعناية فيذكِّره بالله ويعينه على الاستقامة.
سورة التحريم(66)
قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا تُوبُوا إلى الله تَوْبَةً نَصُوحاً عسى ربُّكُمْ أن يُكفِّرَ عنكم سيِّئاتِكُمْ ويُدْخِلَكُمْ جنَّاتٍ تجري من تحتها الأنهارُ يومَ لا يُخْزِي الله النَّبيَّ والَّذين آمنوا معهُ نورُهُم يسعى بين أيْدِيْهِمْ وبأيمانِهِمْ يقولون ربَّنا أتممْ لنا نُورَنَا واغفرْ لنا إنَّك على كلِّ شيءٍ قدير(8)}
ومضات:
ـ يدعو الله تعالى عباده المؤمنين ليتوبوا إليه توبة صادقة يلتزمون بشروطها وآدابها، حتَّى يغفر لهم ويدخلهم فسيح جنانه.
ـ يوم الحساب، هو يوم الخزي والعار والندامة للكفار والعاصين، ويوم الإجلال والتقدير للأنبياء ـ صلوات الله عليهم ـ ولمن تبعهم من الصالحين التائبين المنيبين، حيث سيجعل لهم الله نوراً يحيط بهم ويُشِعُّ من حولهم، وهم في غبطة وأمل في ظلِّ هذا الفيض الغامر راجين المغفرة التامَّة؛ ومَنْ غيرُ الله قادر على أن يغفر ويرحم؟.
في رحاب الآيات:
المنهج الإلهي المودع في القرآن الكريم غاية في الوضوح، غايـة في الدِّقَّـة، قد وُضـع من أجل إنقاذ الإنسان من أجواء الجهل والتخلُّف والانحطاط الأخلاقي، والارتقاء به إلى مرتبة المؤمن العاقل طاهر القلب. ومع ذلك فإن بعض الناس يجعلون القرآن من وراء ظهورهم فلا يقرؤونه، وبعضهم الآخر يُعْنَى بتجويد حروفه ويهمل فهم معانيه، أو يعرف معانيه ويغفل عن العمل بمضمونها. أمَّا السالك إلى مقام المؤمن الحقيقي فهو الَّذي يوطِّد العزم على تغيير مسار حياته من طريق الضلال إلى طريق الهدى، مع الشعور بالندم على أخطائه، لعلَّ الله يرحمه ويمحو ذنوبه، ويدخله في الآخرة حدائق وبساتين ناضرة تجري من تحت قصورها أنهار الجنَّة. ثمَّ إن لهذا المؤمن من رحمة الله ومغفرته نوراً يُظلُّه في دنياه وآخرته، نوراً من الحكمة والفيض الربَّاني يذيقه حلاوة الإيمان فيطرب لها، ويشعره بقربه من حضرة الله فيهيم وجداً ويقول: هل من مزيد؟. وفي الآخرة ينضوي هذا المؤمن وأمثاله تحت لواء النبي صلى الله عليه و سلم ، فيفيض عليهم الله تعالى نوراً يضيء لهم الصراط، ويسطع أمامهم وخلفهم، وعن أيمانهم وشمائلهم كإضاءة القمر في الليلة الظلماء، فيدعون الله قائلين: ربَّنا أكمل علينا هذا النور وأَدِمْهُ لنا، ولا تَدَعْنا نتخبَّط في الظلمات ونحن نجتاز الصراط؛ وحينها يستغيث بهم المنافقون والمنافقات قائلين: {..انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ من نُورِكُمْ...} (57 الحديد آية 13). أخرج الحاكم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {يومَ لا يُخْزِي الله النَّبيَّ والَّذين آمنوا معهُ نورُهُم يسعى بين أيدِيهِمْ وبأيمانِهِمْ..} قال: (ليس أحد من الموحِّدين إلا يُعطى نوراً يوم القيامة، فأمَّا المنافق فيُطفأ نوره، والمؤمن يُشفق ممَّا يرى من إطفاء نور المنافق فهو يقول: {ربَّنا أتممْ لنا نورنا} وامحُ لنا ذنوبنا، إنك أنت القادر على المغفرة والعقاب، والرحمة والعذاب). وإلهامُهم هذا الدعاء في هذا الموقف الَّذي يُلجم الألسنة، ويُروِّع القلوب، هو علامة الاستجابة، فما يُلْهِمُ الله المؤمنين الدعاء إلا بعد أن يهيِّئ لهم الإجابة، فالدعاء هنا نعمة يمنُّ بها الله عليهم تضاف إلى مِنَّته بالتكريم وبالنور، فأين هذا النور من النار الَّتي وقودها الناس والحجارة؟ إنَّ هذا لهو الثواب العظيم والفوز الكبير.
سورة الزمر(39)
قال الله تعالى: {قُلْ ياعباديَ الَّذين أَسْرَفوا على أنفسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رحمةِ الله إنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ جميعاً إنَّه هوَ الغفورُ الرَّحيم(53) وأَنِيْبُوا إلى ربِّكُمْ وأسلمُوا له من قبلِ أن يأتِيَكُمُ العذابُ ثمَّ لا تُنصَرُون(54) واتَّبِعُوا أحسَنَ ما أُنزِلَ إليكُمْ من ربِّكُمْ من قبْلِ أن يأتِيَكُمُ العذابُ بَغْتَةً وأَنتم لا تشعرون(55) أن تقولَ نَفْسٌ ياحسرتى على ما فرَّطتُ في جَنبِ الله وإن كنتُ لَمِنَ السَّاخرين(56)}
ومضات:
ـ إنها دعوة ربَّانية لجميع القوافل البشرية الهائمة في دروب الذنوب والمعاصي، لكي يرجعوا تائبين إلى ربٍّ كريم غفور رحيم، فالله يغفر الذنوب جميعاً، وهو أرحم الراحمين. فليستدركوا منيبين مصلحين لما أفسدوا، ويسلموا القيادة إليه، فلا منقذ من العذاب ولا ناصر لهم إلا هو.
ـ ينبغي على العباد أن يشدُّوا الهمم والعزائم لتطبيق التعاليم الإلهية بكل قوَّة ونشاط، قبل أن يفوتَ الأوان ويحلَّ العذاب، فتغرق المراكب بغتة وهم لا يشعرون.
ـ من فاته قطار التَّوبة، وانقطع في صحارى الذنوب والمعاصي، ليس له إلا الهوان والحسرات، فقد تهاون واشتطَّ في اللامبالاة؛ وسخر واستهزأ ثمَّ ندم حيث لا ينفع الندم.
في رحاب الآيات:
إن من أخطر الأسلحة الَّتي يستخدمها الشيطان لإبعاد الخلائق عن الله هو سعيه لإيقاعهم في اليأس والقنوط من رحمة الله. فإذا اقترف عبدٌ ذنباً ولم يكن يدرك سعة رحمته تعالى، ولا يعرف السبيل للوصول إليها، فإن الشيطان لا يزال يحوم حوله ليهوِّل له ما اقترف من إثم، وليشعره بأنه عبدٌ خطَّاء لا خير فيه، ولا أمل يُرتجى منه حتَّى ينكفئ على نفسه مصاباً بالإحباط، وهو يعاني أشدَّ المعاناة ندماً على ما اقترفت يداه، وحزناً لعدم تمكُّنه من التَّوبة، أو عدم قبول توبته كما وسوس الشيطان له. وتأتي رحمة ربِّ العالمين، الرحمة المزجاة للخلائق كافَّة، رحمة الرحمن الرحيم، لتنشر ظلالها على الناس جميعاً، ليطمئنوا بأن الله يغفر الذنوب جميعاً، وأنه لا مكان لليأس في رحاب الله، وبالتالي فلا داعي للتردِّي في مهاوي القنوط والبؤس. إنها الرحمة الواسعة الَّتي تسع كلَّ تائب عن المعصية، وإنها الدعوة للأوبة إلى الله، وإلى الثِّقة بعفوه، فالله رحيم بعباده وهو يعلم ضعفهم وعجزهم، ويعلم العوامل المسلَّطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه، ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كلَّ مرصد، ويتربَّص بهم الدوائر، ويعلم أن الإنسان مخلوق ضعيف سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الَّذي يربطه بالله، والعروة الَّتي تشدُّه إليه. فالله عليم بكنه هذا المخلوق وتكوينه؛ لذا يمدُّ له يد العون، ويوسع له في الرحمة، ولا يأخذه بمعصيته حتَّى يهيئ له جميع الوسائل ليصلح خطأه، ويثبِّت خطاه على الصراط المستقيم.
فبعد أن يلج العبد باب المعصية، ويسرف في الذنب، ويحسب أنه قد طُرد وانتهى أمره، ولم يعد يُقبَل ولا يُستقبَل، في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط، يسمع نداء الرحمة النَّديِّ اللطيف: {قُلْ ياعباديَ الَّذين أسرفوا على أنفسِهِمْ لا تَقْنَطُوا من رحمةِ الله إنَّ الله يغفرُ الذُّنوبَ جميعاً إنَّه هوَ الغفورُ الرَّحيم}. أخرج أحمد وأبو يعلى والضياء عن أنس رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه و سلم يقول: «والَّذي نفسي بيده، لو أخطأتم حتَّى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض، ثمَّ استغفرتم لغُفر لكم، والَّذي نفس محمَّد بيده، لو لم تخطئوا لجاء الله بقوم يخطئون ثمَّ يستغفرون فيغفر لهم». فليس بين العبد وبين ربِّه حاجز مانع؛ فالتَّوبة تخترق السموات السبع لتصل إلى ربِّ العالمين فَيَمُنُّ بعفوه وغفرانه.
ومع ذلك فإن بعض المتعصِّبين المحجِّرين لرحابة عفو الله وكرمه، يدَّعون بأن الاستشهاد بهذه الآيات والأحاديث يشجِّع الناس على ارتكاب المزيد من الذنوب والآثام طمعاً بهذا العفو الإلهي. والواقع أن إبقاء العبد في محيط حسن الظنِّ بالله، أفضل بكثير من إيقاعه في اليأس، لأن حسن الظنِّ بالله يورث الإقبال على التَّوبة الصادقة في أيَّة لحظة، بينما يغلق اليأس الباب في وجه العاصي، وكأنه بذلك قد أصدر الحكم على نفسه بأنَّ مصيره جهنَّم لا محالة. لذلك فقد أتى الأنبياء الكرام مبشِّرين لا مُنفِّرين، ويتعيَّن على الداعي أيضاً أينما كان أن يكون مبشِّراً مؤلِّفاً للقلوب لا منفِّراً لها، أخرج البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «خرج النبي صلى الله عليه و سلم على رهط من أصحابه يضحكون فقال: والَّذي نفسي بيده لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً، ثمَّ انصرف وبكى القوم، فأوحى الله إليه: يامحمَّد! لمَ تقنِّط عبادي؟ فرجع النبي صلى الله عليه و سلم وقال: أبشروا، وقرِّبوا، وسدِّدوا».
ذلك أن التَّوبة عندما تلامس شغاف قلب العبد فإنها تشدُّ عزيمته في طريق الصلاح والإصلاح، وتحثُّه على الالتزام بالطاعة بصدق وإخلاص، وتؤهِّل نفسه للتحلِّي بأحسن الأخلاق، واكتساب أفضل العلوم. روي في حديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قال: «من السعادة أن يطيل الله عمر المرء في الطاعة ويرزقه الإنابة، وإن من الشقاوة أن يعمل المرء ويعجب بعمله» (أخرجه أحمد في مسنده والحاكم في المستدرك وابن أبي شيبة في مصنفه).
وها هي دعوة أخرى توجِّهها الآية إلى الإنابة لله، والعودة إلى رحاب الطاعة وظلالها، دون مراسم أو حواجز، وبغير وسطاء أو شفعاء. إنه اتصال مباشر بين العبد والربِّ، بين المخلوق والخالق سبحانه، فَمَنْ أراد الأوبة من الشاردين فليَؤُبْ، ومن أراد الاستسلام لله فليستسلم، فالباب مفتوح، لا حاجب دونه ولا حسيب عليه.
فهلمُّوا عباد الله إلى التَّوبة قبل فوات الأوان، {وأَنِيْبُوا إلى ربِّكُمْ وأسْلِموا له من قبْلِ أن يأتِيَكُمُ العذابُ ثمَّ لا تُنصرون} واتَّبِعوا ما أمركم به ربُّكم في تنزيله، واجتنبوا ما نهاكم عنه، من قبل أن يأتيكم العذاب فجأة، وأنتم لا تعلمون به حتَّى يغشاكم. فالرجوع إلى الله، والالتزام بمبادئ شريعته يجنِّب الإنسان الوقوع في الخطأ، ويدفع عن نفسه الحسرة والألم، فتراه يقول: ياحسرتى وياندمي على تفريطي في طاعة الله وفي حقِّه، أو على سخريتي واستهزائي بدين الله وكتابه وبالرسول وأولياء الله الصالحين.
سورة هود(11)
قال الله تعالى: {وياقوم استغفِروا ربَّكُمْ ثمَّ تُوبُوا إليه يُرْسِلِ السَّماءَ عليْكُم مِدْراراً ويَزِدْكُمْ قوَّةً إلى قوَّتِكُمْ ولا تَتَولَّوا مُجرمين(52)}
ومضات:
ـ كلَّما كان الاستغفار جادّاً والتَّوبة حقيقية، كلَّما انهمرت بركات السماء على الإنسان بأنواع وفيرة وأشكال مختلفة.
ـ الصلة بالله تعالى تولِّد قوى روحيَّة وجسديَّة تعين المرء على أداء دوره بنجاح على مسرح الحياة.
ـ إن انقطاع صلة الإنسان بخالقه يبقيه في محيط الجهل والانحطاط.
في رحاب الآيات:
هناك علاقة غير منظورة بين عمل الإنسان ورحمة السماء؛ وعمل المؤمن لا يقتصر على العبادة وأداء المناسك، بل يتَّسع ليشمل كل عمل مفيد يؤدِّيه لمجتمعه، ومهما بلغت حسناته واتَّسعت، فإن رحمة الله أوسع وأجلُّ وأعظم وهو محتاج إليها، والحسُّ الروحي الإيماني هو الأساس المعوَّل عليه للشعور بهذه الحاجة. وإن ممَّا لاشكَّ فيه أن القلوب الطاهرة الزكيَّة المزكَّاة، المستغفرة المنيبة، تشدُّ إليها العطاء الإلهي والخير والبركة من السماء، وهذا ما يزيد الإنسان قوَّة وينزله مكانة عالية، لاسيَّما إذا سخَّر هذا العطاء لمصلحة الكلِّ دون أنانية أو مطامع شخصية. وبذلك تتجلَّى لنا الأواصر المتينة بين القيم الإيمانيَّة والقيم الواقعيَّة في حياة البشر، واللُحمة بين طبيعة الكون ونواميسه الكليَّة والحقِّ الَّذي جاء به هذا الدِّين، وهذا ما يحتاج إلى جلاء وتوضيح، خاصَّة في نفوس الَّذين لم تصقل أرواحهم وتشِف، حتَّى ترى هذه العلاقة أو تستشعرها.
والآية الكريمة الَّتي نحن بصددها ترسي أسس الحياة السليمة على الأرض، فإذا أراد الإنسان أن يستزيد من الخير والنجاح والفلاح، في دنياه وآخرته، فعليه بالاستغفار المقرون بالتَّوبة النصوح، والندم على ما اقترف، ممَّا يؤهِّله لمحو خطاياه، ويقرِّبه من مولاه، ويفتح عليه أبواب خيرات الأرض والسماء. روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه خرج يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتَّى رجع، فقيل له: ما رأيناك استقيت؟ قال: لقد طلبت المطر بمخاديج السماء الَّتي يُستنزل بها المطر، ثمَّ قرأ: {وياقومِ استغفروا ربَّكُمْ..}.
وهناك علاقة وثيقة بين الاستغفار والقوَّة، إذ أن القلب النظيف والعمل الصالح يزيدان المؤمن قوَّة وصحَّة في الجسم بالاعتدال والاقتصار على الطيبات من الرزق، ويمنحانه راحة الضمير، وهدوء النفس، والاطمئنان إلى عدل الله، والثقة برحمته، ويزيدانه قوَّة ليعمل وينتج ويؤدِّي تكاليف الخلافة في الأرض، كما أن القلوب المستغفرة تتَّحد مع بعضها بعضاً في حبٍّ إيماني وصفاء ربَّاني يزيل الضغائن، وينمِّي أواصر التعاون والتباذل، ليصبح المجتمع قويّاً متماسكاً تجاه الشرِّ وأعوانه. وقد تتوافر القوَّة لمن لا يحكِّمون شريعة الله، ولكنها قوَّة آنيَّة سرعان ما تتحطَّم وتعود عليهم بالوبال والخسران، لأنها لا تستند إلى أساس متين من الإيمان والخير.
سورة يونس(10)
قال الله تعالى: {ولو يُعَجِّلُ الله للنَّاس الشَّرَّ استِعْجَالَهُم بالخيرِ لَقُضيَ إليهِمْ أجلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذين لا يرجونَ لقاءَنا في طغيانِهِمْ يعمهون(11)}
ومضات:
ـ الله رؤوف بعباده، رحيم بهم، لا يستجيب دعاءهم بالشرِّ على أنفسهم، أو أولادهم، أو أموالهم في حال الغضب؛ ولو فعل لقضوا نحبهم وهلكوا.
في رحاب الآيات:
هناك صور تتكرَّر في آيات القرآن الكريم، تكشف خفايا النفس الإنسانية، الَّتي لم تستكمل إيمانها الخالص بالله. فبعض الناس يريدون أن يمسكوا بزمام القضاء والقدر فيجعلوه يأتمر بأمرهم، ويغدق عليهم الخير متى أرادوا، ويتنزَّل بالشرِّ على أعدائهم متى شاؤوا، وكأنهم بذلك يتألَّهون على الله ويجعلون أنفسهم أصحاب القرار من دونه! ولكنَّهم بهذا التفكير المريض يتخبَّطون في دياجير الضلال والطغيان، ممَّا يجعلهم متسرِّعين في اتِّخاذ القرارات، فهم يستعجلون في طلب الخير، كما يستعجلون في طلب دفع الشر. وقد فُطر الإنسان على العجلة كما بيَّن القرآن الكريم ذلك حين قال تعالى: {خُلِقَ الإنسانُ من عَجَل..} (21 الأنبياء آية 37) وما استعجاله الخير إلا لشدَّة حرصه على المنافع، أمَّا استعجاله الضُّر فلقلَّة صبره على المحن والخطوب، وكثرة الانفعالات الَّتي تعتمل في صدره، كالغضب أو الجهل أو العناد أو غير ذلك. فقد يدعو الإنسان على نفسه أو ماله أو ولده حين الغضب أو اليأس، ولكنَّ لله جلَّ وعلا قوانينه الَّتي تغاير انفعالات البشر، فهو الحليم، المتجاوز عن السيِّئات، وهو الربُّ الرحيم الَّذي يعرف أين تكمن مصلحة عباده، ولو أنه استجاب لدعائهم لأهلكهم، لذلك يقول صلى الله عليه و سلم : «لا تدعوا على أنفسكم ولا تدعوا على أولادكم ولا تدعوا على أموالكم، لا توافقوا من الله ساعة يُسأل فيها عطاءً فيستجيب لكم» (رواه مسلم في صحيحه). والتعجيل في طلب الشرِّ من قبل الإنسان لم يقتصر على شؤونه الخاصَّة بل تعدَّاها إلى علاقته بأنبياء الله ورسله، فما إن يدعو رسولٌ قومه إلى الإيمان بالله، ويحذِّرهم من عاقبة تكذيبه، حتَّى يسخروا منه ويطلبوا تعجيل العقوبة الَّتي يتوعَّدهم بها، وقد سجَّل القرآن الكريم ذلك فقال تعالى: {ويقولونَ متى هذا الوعدُ إن كنتم صادقين} (67 الملك آية 25)، وقال أيضاً: {وإذ قالوا اللَّهمَّ إن كان هذا هو الحقَّ من عندكَ فأمْطِر علينا حجارةً من السَّماءِ أو ائْتِنا بعذابٍ أليمٍ} (8 الأنفال آية 32) فهؤلاء لا يرجون لقاء الله، ولا يخافون وعيده، لذلك فإن الله يمهلهم ويتركهم يخوضون ويلعبون، وقد يغترُّون بحلم الله، ويحسبونه عاجزاً عن ردع مخالفاتهم، ولكنَّ إمهال الله إمَّا أن يكون استدراجاً لهم، أو رأفة بهم عسى أن يتنبَّهوا فينيبوا إلى الرحمن ويتوبوا، أو يخرج من أصلابهم من يوحِّد الله.
سورة النحل(16)
قال الله تعالى: {ولو يُؤاخِذُ الله النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عليها من دابَّةٍ ولكن يُؤخِّرُهُمْ إلى أجلٍ مسمىً فإذا جاءَ أجلُهُمْ لا يستئخِرُون ساعةً ولا يستقدِمُون(61)}
ومضات:
ـ الله حليم حكيم، لا يعجِّل عقابه للكافرين بنعمه ورسالاته، بل يمهلهم إلى أجل مسمَّى لا يتأخر لحظة واحدة عن موعده الَّذي يقرِّره جلَّ وعلا. وما تأخير الله إنزال عقابه إلا رحمة بالمقصِّرين عسى أن يستدركوا ويتوبوا.
في رحاب الآيات:
يختلف قانون العقوبات السماوي عن القانون الوضعي البشري بشموليَّته لحياة الإنسان الخاصَّة والعامَّة، وحتَّى بشموله لتفكيره ونواياه، وكلِّ كلمة تنبس بها شفتاه! كما أنه يختلف في توقيته لتنفيذ العقوبة. والإسلام لا يتهاون تجاه من يخطئ بحقِّ غيره، بل لقد شرع قوانين مشدَّدة رادعة بحق المخالفين من أجل بثِّ الطمأنينة داخل المجتمع الإنساني؛ فلا سرقة ولا خمرة، ولا زنا ولا ربا، ولا اعتداء بالقتل ولا بغيره. وكذلك حمى المحصنات من القذف، والأعراض من الهتك، ومنع شهادة الزور، وحذَّر من التلاعب بأرزاق العباد، أو احتكارها، أو الغشِّ فيها، وحثَّ على رعاية الفقير وعيادة المريض، ومساعدة الغريب وابن السبيل. ولكنْ هل استجاب الناس جميعاً لتعاليم الله؟. إن ما يرتكبه الناس من كفر بأنعم الله، ومن شرٍّ وفساد في الأرض، لهو نتيجة انحرافهم عن تعاليمه عزَّ وجل، ولو عجَّل بمؤاخذتهم لأهلكهم جميعاً.
ولكنَّ الله تعالى لا يؤاخذ المقصِّرين إلا بعد أن يعطيهم فسحة من الوقت، فإذا قصَّروا في أمورهم التعبديَّة، أو بحقِّ أنفسهم، أو بحقِّ غيرهم، منحهم مهلة عساهم يعودون إلى جادَّة الصواب، ويعوِّضون ما فاتهم ويصلحون ما أفسدوا؛ فإن أصرُّوا على الذنوب واستكبروا أوقع بهم عقابه في الزمان والمكان اللَّذَيْن يختارهما.
والتأخير يكون على أنواع: فقد يؤخِّرهم أفراداً إلى أجلهم الفردي كلٌّ بحسب تماديه وفحشه، وقد يؤخِّرهم جماعات إلى أجلهم في الخلافة المقدَّرة لهم، إلى أن يسلِّموها إلى جيل آخر، وقد يؤخِّرهم جنساً إلى أجلهم المحدَّد لعمر هذا العالم ومجيء الساعة الكبرى، ويفسح لهم الفرصة علَّهم يحسنون صنعاً، فإذا حلَّ ذلك الأجل فإن الله يجازي المكلَّفين بما عملوا من خير أو شر، لا يخفى عليه من أمرهم شيء، دقَّ أو جلَّ، ظهر أو استتر.
وفي الآية الكريمة إشارة إلى أنه ما من إنسان إلا ويصدر منه ما يستوجب المؤاخذة، ولكنَّ الله تعالى بفضله ورحمته يمهل ثمَّ يؤاخذ من كان مصرّاً على عناده وتقصيره، ويعفو عمَّن تاب وأناب، تأكيداً لحلمه وسعة صبره، فإن رحمته قد سبقت غضبه، وهو يمهل العبد لكنَّه لا يهمله؛ بل يأخذه بالعذاب في أجله المحدَّد، فلكل أمَّة أجل ولكل أجل كتاب.
سورة الأنعام(6)
قال الله تعالى: {قُلْ هوَ القَادِرُ على أن يَبْعَثَ عليكُمْ عذاباً من فَوْقِكُمْ أو من تحتِ أرْجُلِكُمْ أو يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ويُذِيْقَ بعضَكُمْ بأسَ بعضٍ انظرْ كيف نُصرِّفُ الآياتِ لعلَّهم يفقهون(65)}
ومضات:
ـ بعد أن يتأكَّد الإنسان من عظمة الخالق عزَّ وجل وقدرته، عليه أن يستوعب التعاليم الإلهيَّة الَّتي يجب أن يلتزم بها، والَّتي وضعها الله تعالى لمصلحة الإنسان وسعادته، وأيُّ تقصير في تنفيذ هذه التعاليم يؤدِّي إلى خلل في المجتمع الإنساني، فإذا كثر التمادي والتخريب كان لابدَّ من العقوبات الإلهيَّة لإصلاح هذا الخلل.
في رحاب الآيات:
بيَّن الله سبحانه وتعالى خطَّ المسيرة لآدم وذرِّيته، منذ أَمَرَهُ بالهبوط إلى الأرض، وهو أن يتَّبعوا منهج الله فقال: {قُلنَا اهبِطُوا منها جميعاً فإمَّا يأتِيَنَّكُمْ منِّي هُدىً فمن تَبِعَ هُدايَ فلا خوفٌ عليهِمْ ولا همْ يحزنون} (2 البقرة آية 38) إذن في حال الالتزام أمنٌ وسرور، وفي حال المخالفة خوفٌ وحزن.
وأوَّل نموذج للمخالفة هو مخالفة آدم عليه السَّلام، حين أكل هو وزوجه من الشجرة فبدت لهما سوآتهما، (والسوأة هي العورة، والعورة هي ما لا يحبُّ الإنسان المؤمن كشفه على الآخرين إمَّا لأنه مخجل أو لأنه مخزي)، وأيُّ عورة في المجتمع إذا بحثتَ عن أسبابها، وجدتَ أنها حدثت بسبب مخالفة مبدأ من مبادئ الله في الأرض. والله ليس بعاجز عن تأديب المخالفين والمقصِّرين، المتهاونين بشريعته، والأمثلة في تاريخ الإنسانية كثيرة، وقد أورد القرآن الكريم جانباً منها، فمن هؤلاء من انصبَّ عليهم العذاب من فوقهم، كالرجم بالحجارة والطوفان، والصيحة، والريح، كما فُعل بعاد وثمود وأقوام شعيب ولوط ونوح عليهم السَّلام. ومنهم من فاجأهم العذاب من تحت أرجلهم، كالخسف والزلزال، والرجفة، والبركان، كما فُعل بقارون، وأصحاب مَدْيَن.
ومنهم من يُسلِّط الله عليه عذاباً أشدَّ وأقسى هو العذاب النفسي، حيث يعيش الإنسان المخالف في دوَّامة، يفترسه الألم، وينهشه الحزن، ولا يعرف سبيلاً للخلاص. وقد يُسلِّط الله بعض المنحرفين على بعض، فكم من ظالم يتمادى في ظلمه، أو طاغية يستبدُّ بطغيانه، ويستمتع بخيرات الآخرين مستعيناً بالحديد والنار لِكَمِّ أفواه المعارضين، وكم من دول تسلَّطت على أخرى ونهبت ثرواتها وتركتها تعاني شظف العيش والحرمان. وقد يجعل الله المنحرفين فِرَقاً متناحرة، متحاربة، أهواؤهم شتَّى، ومذاهبهم مختلفة وغير ذلك.
وتصوير الآية للعذاب بأنه يأتيهم من فوقهم ومن تحت أرجلهم، فيه من الرعب والإثارة ما فيه، فهو عذاب عامٌّ، شامل، غامر، يحيق بصاحبه، ولا يدع له مجالاً للحركة أو الهرب، ولو كان العذاب يأتيهم فقط عن يمين أو عن شمال لكان وقعه أخف، إذ بوسع المخالف أن يجد ملاذاً في الأرض يحميه، أو ركناً من أركانها يؤويه، ولكنَّه عذاب يُصبُّ عليه صبّاً، أو ينبع من تحت قدميه نبعاً، فلا يدع له مجالاً لأيَّة حركة.
فيا أيُّها الإنسان! تأمَّل بعين بصيرتك كيف تَرِدُ الآيات والدلائل بطرق مختلفة، منها عن طريق العقل، ومنها عن طريق علم الغيب، لعلَّك تفقه الحقَّ، وتدرك الحقائق بأسبابها وعللها والَّتي تفضي إلى الاعتبار والعمل بما يرضي الله.
سورة النساء(4)
قال الله تعالى: {ما يفعَلُ الله بِعَذابِكُمْ إن شَكرتُمْ وآمنتُمْ وكان الله شاكِراً عليماً(147)}
ومضات:
ـ قد يكون مفهوم العذاب بالنسبة لبعض المنحرفين يحمل معنى اللذَّة بتعذيب الآخرين إرضاءً لشهوة الانتقام، أو بسبب عقدة نفسية متأصِّلة في نفوسهم المريضة. أمَّا مفهوم التعذيب عند الله عزَّ وجل فهو غير ذلك تماماً، فحاشا لله سبحانه وتعالى أن يعذِّب الخلائق سروراً ومتعة بعذابهم، لأن عقابه للمذنبين في كثير من الأحوال رحمة بهم، ومعالجة روحية تخلِّص نفوسهم ممَّا علق بها من أدران الذنوب، وتوصلها في النهاية إلى الشفاء والراحة.
ـ يعتقد بعض الخلق خطأً أن تعذيب النفس وإرهاقها هو أحد الأبواب المقرِّبة إلى الله عزَّ وجل، إلا أن هذا مرفوض في شرائع الله تعالى، لأنها مبنية أساساً على موازين ثابتة من الحبِّ والعقلانية.
في رحاب الآيات:
خلق الله الإنسان ووهبه السمع والبصر، والعقل والقلب، ليستمتع بما في الوجود، وليشكر المنعم على نعمائه. ولكن الإنسان قد يضيع في زحمة الحياة، ويغرق في النعيم المادي، وينسى النعيم الروحي الَّذي لا يتحقَّق إلا بالاتصال بربِّه، وشكره والعمل على مرضاته. وقد يؤدِّي به هذا النسيان للتردِّي في حمأة الرذيلة فيكفر بنعم الله، ويسيء إلى مخلوقاته. من هنا رتَّب الله تعالى عقوبات رادعة لأمثال هؤلاء العصاة، بهدف إحقاق الحقِّ، وإقامة ميزان العدل في الأرض لا رغبةً في الانتقام، أو أخذاً بثأر، أو تشفِّياً، أو سعياً لمغنم أو دفعاً لمغرم، تنزَّه الله وتعالى عن ذلك علوّاً كبيراً. وإنما هو العقاب الزاجر والرادع عن المعاصي وأكل الحقوق، فلو أن الحياة كانت تجري بالإنسان من غير هذا الرادع، المتمثِّل بالعقاب الدنيوي أو الأخروي، أو كليهما معاً، لرأينا المجتمع الإنساني أشبه بالغابة، يأكل كبيرُ وحوشها صغيرَها، ويهتك قويُّها حرمة ضعيفها. فكان لابدَّ من وجود العقاب على الإساءة والجحود، مقابل الثواب على الإحسان والشكر.
فليس سواءً مَنْ شَكَرَ نِعَمَ الله ووظَّف حواسَّه وقدراته في سبيل عبادته وخدمة مخلوقاته، ومن كفر بها وجحد وعطَّل هذه النعم وأساء استعمالها. فالشكر هو إدراك قيمة هذه النعم واستثمارها مع التعبير عن الامتنان لذلك، والكفر هو الجهل بها وتبديدها وإظهار الجحود والنكران لها، وقد ربطت الآية الكريمة الشكر مع الإيمان لأنه قرينه الملازم له، فالمؤمن يشكر الله على نعمه ويشكر العباد على إحسانهم إليه، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه و سلم : «من لم يشكر الناس لم يشكر الله» (رواه أبو داود والترمذي)، والكافر يجحد نعم الله تعالى وإحسان الناس إليه.
ولا يقتصر واجب الشكر على الضعيف دون القوي، أو الفقير دون الغني، بل الناس كلهم في ذلك سواء، لأن الله تعالى هو القويُّ العزيز، مالك الملك، الغني عن عباده يشكر لهم إيمانهم وإخلاصهم وحسن عبادتهم، فكيف بالخلائق الضُّعفاء المغمورين بنعم الله؟.
رد: التربية الروحية في الإسلام
الفصل السادس:
الدعاء والاستجابة
سورة البقرة(2)
قال الله تعالى: {وإذا سَألَكَ عِبَادِي عَنِّي فإنِّي قَريبٌ أُجِيبُ دعوةَ الدَّاعِ إذا دَعانِ فلْيستجيبوا لي ولْيُؤمِنُوا بي لَعلَّهُم يَرشُدونَ(186)}
ومضات:
ـ يزيل الله تعالى بهذه الآية كلَّ الحواجز النفسية والمادية والبشرية، الَّتي يتوهَّم المرء وجودها بينه وبين الله، ويحثُّه بذلك على التجرُّد من كلِّ شيء، والتوجُّه إليه بقلب نقيٍّ صافٍ، واثق من حسن إجابته عزَّ وجل.
ـ في الآية إرشاد إلى المداومة على الدعاء والاجتهاد فيه؛ لاستمرار القرب من الله، والصلة معه.
في رحاب الآيات:
الدعاء الحارُّ النابع من الأعماق، يغسل القلب ويطهِّر النفس من الأدران، وهو ملجأ المحبِّ العاشق، والمحتاج الملهوف، والسعيد الظافر، والحزين السقيم، والمتألِّم المتأوِّه. فهو مخرج من كلِّ ضيق، وتعبير عن كلِّ نشوة، ولهذا فإن الله جلَّ وعلا يحبُّ اللحُوحَ في الدعاء، الَّذي يضرع إليه في سائر الأوقات والظروف.
والإنسان في حاجة دائمة إلى مَدَدٍ علوي، وعَونٍ إلهي في كلِّ أموره، لذلك فهو بالفطرة يبسط كفَّيه بالدُّعاء كلَّما داهمه خطب، أو ألمَّت به نازلة وضاقت به السبل، طالباً المعونة والفرج من خالقه، مستزيداً من فضله. والله تعالى يُطمئن عباده بأنه قريب منهم، بل أقرب إليهم من حبل الوريد، فليتوجَّهوا إليه بقلوبهم وجوارحهم، فهو معهم يسمعهم ويستجيب لهم، وليس بينه وبينهم واسطة أو حجاب، فليدعوه وليرجوه بما شاؤوا. فالدعاء مخُّ العبادة، لما له من دور هامٍّ في تمتين الصلة مع الله عزَّ وجل، وإبقائها حيَّة نابضة، وقد حثَّ عليه الرسول الكريم في أحاديث كثيرة منها قوله: «إن الله تعالى حييٌّ كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردَّهما صفراً خائبتين» (رواه أحمد وأبو داود عن سلمان رضي الله عنه ). وقوله صلى الله عليه وسلم : «الدعاء سلاح المؤمن، وعماد الدِّين، ونور السموات والأرض» (رواه أبو يعلى والحاكم عن الإمام علي رضي الله عنه ).
وفي لحظات الدعاء الحقيقي يصل المؤمن إلى ذروة الصفاء مع الله عزَّ وجل، فتنحلُّ القيود وتنزاح الحجب بين المخلوق والخالق، ويهيم القلب المشرق بنور الله بين التذلُّل والتدلُّل، خاشعاً منيباً، طامعاً بفضل الله، راغباً في طلب المزيد، متوجِّهاً إلى ربٍّ جليلٍ كريم؛ حيث يقول سبحانه: {قُلْ ما يَعْبَأُ بِكُمْ ربِّي لولا دُعاؤكُم..} (25 الفرقان آية 77).
وللدعاء آداب يجب توفُّرها عند الشروع به ومنها:
1 ـ تحميد الله والثناء عليه ثمَّ الصَّلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا ما دعا إليه الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: «إذا صلَّى أحدكم فليبدأ بتحميد الله تعالى والثناء عليه وليُصلِّ على النبي ثمَّ ليدعُ بما شاء» (رواه أبو داود والترمذي وابن حِبَّان عن فُضالة بن عبيد رضي الله عنه ). ومن أجمل كلمات الثناء؛ ثناء رسول الله عليه الصَّلاة والسَّلام على الله عزَّ وجل عندما استسقى لقومه فقال لهم: «إنكم شكوتم جَدْبَ دياركم واستئخار المطر عن إبَّان زمنه عنكم، وقد أمركم الله بالدعاء ووعدكم أن يستجيب لكم، ثمَّ دعا قائلاً: الحمد لله ربِّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدِّين، لا إله إلا الله يفعل ما يريد، اللهمَّ أنت الله، لا إله إلا أنت الغني ونحن الفقراء، أنْزِلْ علينا الغيث، واجعل ما أنزلت لنا قوَّة وبلاغاً إلى حين» (رواه أبو داود والحاكم).
2 ـ مدُّ اليدين ورفعهما إلى السماء والسؤال ببطون الأكُفِّ لا بظهورها، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «سلوا الله ببطون أكفِّكم ولا تسألوه بظهورها، فإذا فرغتم فامسحوا بها وجوهكم» (رواه أبو داود والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنه ).
3 ـ الدعاء بالخير، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «لا تدْعوا على أنفسكم إلا بخير فإن الملائكة يؤمِّنون على ما تقولون» (رواه أحمد ومسلم وأبو داود عن أم سلمة رضي الله عنها).
4 ـ التأمين: أي أن نقول آمين يارب العالمين في ختام الدعاء؛ قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «إذا دعا أحدكم فليؤمِّن على دعاء نفسه» (رواه ابن عدي عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
ويستجاب الدعاء في مواطن كثيرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن أبواب السماء تُفتَّح، ويستجاب الدعاء في أربعة مواطن: عند التقاء الصفوف في سبيل الله، وعند نزول الغيث، وعند إقامة الصَّلاة، وعند رؤية الكعبة» (رواه الطبراني عن أبي أمامة رضي الله عنه ). ويُستحبُّ الدعاء في جوف الليل قال صلى الله عليه وسلم : «أقرب ما يكون الربُّ من العبد في جوف الليل الأخير فإن استطعت أن تكون ممَّن يذكر الله في تلك الساعة فكن» (رواه الترمذي والنَّسَائي والحاكم عن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه ).
أمَّا الَّذين لا تُرَدُّ دعوتهم فمنهم ثلاثة، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : «ثلاثة لا تردُّ دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حتَّى يفطر، ودعوة المظلوم يرفعها الله فوق الغمام، وتُفتَّح لها أبواب السماء ويقول الربُّ تبارك وتعالى: وعزَّتي لأنصرنَّك ولو بعد حين» (رواه أحمد والترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه )، وكذلك دعوة الأخ لأخيه في غيابه مستجابة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «دعاء المسلم مستجاب لأخيه بظهر الغيب، عند رأسه ملك موكَّل به كلَّما دعا لأخيه بخير قال الملك آمين ولك مثل ذلك» (رواه أحمد ومسلم وابن ماجه عن أبي الدرداء رضي الله عنه ) ، وكذلك دعوة المريض والمبتلى مستجابة ، قال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم :«إذا دخلت على مريضِ فَمُرْهُ يدعو لك فإن دعاءه كدعاء الملائكة» (أخرجه ابن ماجه عن ابن عمر رضي الله عنه )، وذلك لأن المريض المبتلى يرقُّ قلبه، فيلتجئ إلى الله بصدق وانكسار .
أمَّا شروط استجابة الدعاء فهي:
1 ـ اليقين بالإجابة مع حضور القلب، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب من قلب غافل لاهٍ» (رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
2 ـ عدم الدعاء بـإثم أو قطيعة رحم وعدم الاستعجال على الله في الإجابة، قال الرسول صلى الله عليه وسلم : «ما من رجل يدعو بدعاء إلا استُجيب له، فإمَّا أن يُعجَّل له في الدنيا، وإمَّا أن يؤخَّر له في الآخرة، وإمَّا أن يُكفَّر عنه ذنوبه بقدر ما دعا، ما لم يدعُ بإثم أو قطيعة رحم، أو يستعجل فيقول: دعوتُ ربِّي فما استجاب لي» (رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ). وقال صلى الله عليه وسلم : «يُستجاب لأحدكم ما لم يَعجل، يقول دعوت فلم يُستجب لي» (رواه الشيخان).
3 ـ توخِّي الحلال في المأكل والمشرب والملبس، فقد ورد في الحديث الشريف: «إن الرجل يطيل السفر، أشعث أغبر، يمُدُّ يديه إلى السماء، يارب، يارب، ومطعمه حرام، ومشربه حرام، وملبسه حرام وغُذيَ بالحرام فأنَّى يستجاب لذلك؟» (رواه أحمد ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
4 ـ الإكثار من الدعاء حين الرَّخاء، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «مَن سَرَّهُ أن يستجيب الله له عند الشدائد والكُرَب فليكثر الدعاء في الرخاء» (رواه الترمذي والحاكم عن أبي هريرة رضي الله عنه ).
أمَّا استجابة الدعاء؛ فقد تكون معجَّلة في الدنيا، أو مؤخَّرة إلى الآخرة، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «يدعو الله بالمؤمن يوم القيامة حتَّى يوقفه بين يديه فيقول: عبدي! إني أمرتك أن تدعوني، ووعدتك أن أستجيبَ لك، أليس دعوتني يوم كذا وكذا لغمٍّ نزل بك أن أفرِّج عنك ففرَّجتُ عنك؟ فيقول: نعم يارب، فيقول: إني عجَّلتُها لك في الدنيا، ودعوتني يوم كذا وكذا لغمٍّ نزل بك أن أُفَرِّج عنك فلم تَر فرجاً؟ قال: نعم يارب، فيقول: إني ادَّخرتُ لك بها في الجنَّة كذا وكذا، فلا يَدَعُ الله دعوةً دعا بها عبده المؤمن إلا بيَّن له، إمَّا أن يكون عجَّل له في الدنيا، وإمَّا أن يكون ادَّخر له في الآخرة، قال: فيقول المؤمن في ذلك المقام: ليته لم يكن عجَّلَ له شيئاً من دعائه» (رواه الحاكم عن جابر رضي الله عنه ).
ويخاطب الله تعالى النفوس المؤمنة، ويهزُّها من الأعماق هزّاً خفيفاً رفيقاً، فربَّما نسـيت ـ وهي في غمرة الحياة ومشـاغلها ـ واجبـاتهـا نحو خالـقها، أو قصَّرت فيهـا فيذكِّرها بقوله: إذا كنت أنا ربُّكم الغني عنكم أستجيب دعاءكم، أفلا تستجيبون أنتم لدعوتي فتؤمنون بي، وتمتثلون لأوامري وأنتم مفتقرون إليَّ، وفي استجابتكم لندائي حياتكم ونجاتكم؟ إنها دعوة رائعة تسكب في قلب المؤمن وُدّاً وأُنْساً ورضاً، ويعيش معها في ملاذٍ أمين وقرار مكين في حمى ربٍ قريب مجيب.
سورة الأعراف(7)
قال الله تعالى: {ادعوا ربَّكُمْ تضرُّعاً وخُفْيَةً إنَّه لا يُحبُّ المعتدين(55) ولا تُفسدوا في الأرضِ بعد إصلاحِهَا وادعُوهُ خوفاً وطمعاً إنَّ رحمةَ الله قريبٌ من المحسنين(56)}
ومضات:
ـ الدعاء هو طلب المخلوق من الخالق تحقيق بعض غاياته أو قضاء حوائجه، ولا يمكن أن يثمر دعاء من أجل إصلاح ما فسد، أو إعادة بناء ما تهدَّم، ما لم يقترن بالعمل الجادِّ لتحقيق هذه الأهداف؛ ولا يقبل الله تعالى دعاء من يترجَّى الله بلسانه من أجل الإعمار، بينما تحمل يده معول التخريب وتُعْمِل الهدم والفساد في الأرض.
ـ الدعاء اللحوح، المتفجِّر في خفية عن الأعين والأسـماع ـ سوى عين الله وسمعه ـ والممزوجُ بدموع القلوب المحترقة بحبِّ الله، المعترفة بفضله وقوَّته؛ هو الطريق لإعمار النفوس بالإيمان، والمجتمع بالخير والسَّلام.
في رحاب الآيات:
الدعاء مناجاة حميمة بين المخلوق والخالق، ووسيلة اتصال مباشرة بحضرة الله. إنه مكالمة سرِّية بين العبد الفقير المحتاج والربِّ الغني المعطاء، تنقلها أسلاك خفيَّة تصل ما بين قلب العبد والذَّات الإلهية، وما أكثر ما يحتاج العبد، وما أكثر ما يستجيب الله!. وإن أبلغ الدعاء ما كان في خفية وتضرُّع، لأنه أَلْيَق بجلال الله وعظمته، إذ هو دليل على عمق الإيمان وعلى الثقة المطلقة بقرب الله وسعة رحمته. عن أبي موسى رضي الله عنه قال: «كنَّا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيُّها الناس ارْبَعُوا (أي ارفقوا وهوِّنوا) على أنفسكم، إنكم لستم تدعون أصمَّ ولا غائباً، إنكم تدعون سميعاً قريباً وهو معكم» (رواه مسلم) وقال أحد الصالحين: [إن الله إنما يُتَقرَّب إليه بطاعته فما كان من دعائكم الله، فليكن في سكينة ووقار، وحسنِ سَمْتٍ وزيٍّ وهدي وحسن دعة]. والدعاء الخفي إن لم يكن واجباً فهو مندوب ويدلُّ على ذلك وجوه:
1 ـ إن الله تعالى أثنى على نبيِّهِ زكريا فقال: {ذِكْرُ رحمةِ ربِّكَ عبدَهُ زكريَّا * إذ نادى ربَّه نداءً خفيّاً} (19 مريم آية 2ـ3).
2 ـ قال الرسولصلى الله عليه وسلم : «دعوة في السرِّ تعدل سبعين دعوة في العلانية» (رواه الحسن البصري) وأضاف: لقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يُسمع لهم صوت، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربِّهم، وذلك أن الله يقول: {ادعوا ربَّكُمْ تضرُّعاً وخُفْيَة}.
3 ـ إن النفس شديدة الرغبة في الرِّياء والسمعة، فكان الأَولى في الدعاء الإخفاء ليبقى مصوناً عن الرِّياء.
وعلى المؤمن أن يتوخَّى في الدعاء عدم الاعتداء، وذلك بطلب غير المشروع، كضرر العباد، أو طلب الغنى بلا كسب؛ كأن يكتفي الإنسان بالكلمات دون العمل وتعاطي الأسباب، فما كان الله ليرزق عبداً يجلس في أعالي الجبال يطلب القوت والمأوى، فالله يحب المتوكِّلين ولا يحب المتواكلين. وطلب المغفرة مع الإصرار على الذَّنب، صورة من صور الاعتداء، فلابدَّ من توبة وإنابة لكي يُقبَل الدعاء، ومنها كذلك التوجُّه بالدعاء لغير الله.
كما أن على المؤمن أن يدرك أن دفقة الحياة في الدعاء، هي الخوف والطمع والرجاء: الخوف من عقاب الله، والطمع والرجاء في مغفرته ورضوانه، حتَّى يكون الرجاء والخوف ملازمين له كجناحي الطائر، يحملانه في طريق استقامته، فإذا اكتفى بأحدهما هلك. والترغيب بالرجاء يقترن مع الدعوة إلى خشية الله، واتِّقاء عذابه في جميع آيات القرآن الكريم، قال تعالى: {نَبِّئ عبادي أَنِّي أنا الغفور الرَّحيم * وأَنَّ عَذابِي هوَ العذابُ الأليم} (15 الحجر آية 49ـ50).
فمن صحَّة الدعاء أن تذوب على أعتاب الله بقلب يحترق حبّاً وخوفاً، ودموع سخيَّة مدرارة تغسل الذُّنوب، وتبدي الندم على ما فرَّطت من حقوق الله، وأنت بين رجاء وأمل لا تقنط من رحمة الله ولا تيأس، موكلاً الأمر كله إلى ربِّ العالمين، وموقناً بالإجابة. جاء في الحديث القدسي: «أنا عند ظنِّ عبدي بي، فإن ظنَّ بي خيراً فله، وإن ظنَّ شراً فله» (رواه الإمام أحمد وابن حِبَّان في صحيحه والبيهقي)، ثمَّ تترك تقدير الأمور لحضرة الله، فلا تستبطئ الإجابة من الله تعالى، فهو أدرى بما يناسبك، وهو يرى ما لا ترى.
فالدعاء هو توثيق الصلة بين المؤمن وخالقه، وتمتين للعلاقة الفريدة بين الإنسان وربِّه، وهو حالة من حالات الوجد ولون من ألوان الوصال، تصلح به تربة القلب فلا ينبت فيها إلا صالحاً، فإذا صلحت تربة القلوب صلحت أرض المجتمع، وتلاشت عناصر الفساد، وانهارت قوى الإفساد. ورحمة الله ليست محجوبة عن أحد من خلقه شريطة أن ينفِّذ تعاليم الله، وأن يحسن إلى نفسه فيجنِّبها مواطن الزلل، وأن يحسن إلى مخلوقات الله بالحبِّ والوُدِّ والعطاء.
سورة غافر(40)
قال الله تعالى: {وقالَ ربُّكُمُ ادعوني أستجِبْ لكمْ إنَّ الَّذين يستكبِرُون عن عبادَتِي سيَدْخُلُون جهنَّمَ داخِرِين(60)}
ومضات:
ـ يحلو الدعاء في لحظات التجلِّي، حين يُغْمَرُ القلب بنور الخالق عزَّ وجل، ويتفجَّر بالمحبَّة والعشق، وتتولَّد فيه الرغبة للُّجوء إلى المبدع العظيم، فيضع المؤمن أمانيه ورغباته وأحلامه بين يدي ربٍّ كريم عطوف رحيم.
ـ ندب الله تعالى عباده إلى دعائه وتكفَّل لهم بالإجابة فضلاً منه وكرماً، ومَنْ أعرض عن دعاء ربِّه فهو مستكبر متعال، مآله إلى جهنَّم صاغراً ذليلاً فيها.
في رحاب الآيات:
تزداد إيجابية القرآن الكريم وضوحاً كلَّما تكررت الآيات الكريمة؛ الَّتي تشجع الإنسان وتحثُّه على التوجُّه المستمر إلى الله عزَّ وجل بالدعاء طلباً لقضاء حاجاته، مهما عظُم شأنها أو صغر. وقد حثَّ الله تعالى عباده على الدعاء، ووعدهم بالإجابة فضلاً منه وكرماً. روى النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «الدعاء هو العبادة، ثمَّ قرأ: {وقال ربُّكُم ادعُوني أستجبْ لكم...}» (رواه مسلم والطبراني وأحمد والبخاري وقال الترمذي حسن صحيح)، وقال أنس رضي الله عنه : قال النبي صلى الله عليه وسلم : «لِيَسْأَلْ أحدُكُمْ ربَّه حاجته كلَّها» (أخرجه الترمذي وابن حبان)، وعن معاذ بن جبل رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا ينفع حَذَرٌ مِنْ قَدَرٍ، ولكنَّ الدعاء ينفع مـمَّا نزل ومـمَّا لم ينزل، فعليكم بالدعاء» (أخرجه أحمد وأبو يعلى والطبراني)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الدعاء مخُّ العبادة» (رواه الترمذي)، وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إن الله يحبُّ الملحِّين في الدعاء» (رواه الطبراني وأبو الشيخ القضاعي عن عائشة رضي الله عنها مرفوعاً). وأخرج ابن المنذر عن أنس بن مالك رضي الله عنه في قوله تعالى: {ادعوني أستجب لكم} قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «قال ربُّكم: عبدي إنك ما دعوتني ورجوتني فإني سأغفر لك على ما كان فيك، ولو لقيتني بقراب الأرض خطايا لقيتك بقرابها مغفرة، ولو أخطأت حتَّى تبلغ خطاياك عنان السماء ثمَّ استغفرتني غفرت لك ولا أبالي». وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: (أفضل العبادة الدعاء) ثمَّ قرأ هذه الآية.
والتوجُّه للدعاء توفيق من الله، كان عمر رضي الله عنه يقول: (أنا إن مُنعتُ الدعاء أشدُّ عليَّ إن مُنعتُ الإجابة، فإذا أُلْهِمْتُ الدعاء كانت الاستجابة معه). ولكنَّ بعض الناس يعتدُّون بأنفسهم، ممَّا يصرفهم عن اللجوء إلى الله بالدعاء، فيتوهمون أنهم ليسوا في حاجة إلى أية مساعدة إلهيَّة، وأنهم بقوَّتهم وإمكاناتهم يستطيعون تحقيق ما يشاؤون، فَيَحْرِمُونَ بذلك أنفسهم من فيض الله الواسع، ويجعلون بينهم وبينه حجاباً، ولذلك فقد حقَّ عليهم مقت الله والذُّلُّ والهوان سواء في الدنيا أم في الآخرة، أو فيهما معاً، ذلك أنهم نسوا أن ما بأيديهم من قوَّة ومال وصحَّة وعقل، إنما هي في الأصل عطاءات من حضرة الله تفضَّل بها عليهم، فاستعلَوْا استكباراً، ونسُوا أن الله جلَّ وعلا يمهل ولا يهمل، فإذا أخذ الظالم لا يفلته.
سورة النمل(27)
قال الله تعالى: {أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إذا دعاهُ ويكْشِفُ السُّوءَ ويجعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرضِ أإلهٌ مع الله قليلاً ما تذكَّرون(62)}
ومضات:
ـ يقع بعض الناس في الشِّرْكِ الخفي بتوجُّههم الكُلِّي إلى أصحاب النفوذ والجاه والسلطة، ليقضوا لهم حوائجهم، فيكيلون لهم المديح والثَّناء ويكثرون لهم العطاء، متناسين قدرة الله عزَّ وجل على قضاء حوائج الناس وإجابة دعائهم، وأنَّ تصريف الأمور كلِّها بيده وحده جلَّت عظمته.
ـ إن الله سبحانه وتعالى لا يقضي حوائج الإنسان الآنيَّة فقط، بل يدعم وجوده الإنساني بالإمكانات ليصبح أهلاً لقيادة الأمور وتذليل الصعاب.
في رحاب الآيات:
ما أحلى أن يجد الإنسان من يقف بجانبه في الشدائد والأزمات! ومَن أجلُّ وأعظمُ من ربِّ العالمين يغيث عباده عند اضطراب أمورهم، وانقطاع حبل آمالهم؟ وما أكرمها من ساعة نفقد فيها أسباب النجاة، فيتكرَّم علينا مسبِّب الأسباب بالمساعدة والإنقاذ!. ولكن هذه النعم لن تتوافر لعبدٍ، ما لم يلجأ بقلب صادق التوجُّه إلى حضرة الله؛ ولن تتحقَّق لعبد، ما لم يُهْرَع بلهفة إلى خالقه ومولاه يطلب العون والمدد؛ عندها، وبصدق الدعاء والتضرُّع، تحفُّه العناية الإلهية لتقلب عسره يسراً، متخطِّية جميع الموازين البشرية. بينما نجد الناس يغفلون عن هذه الحقيقة في ساعات الرخاء، فيلتمسون القوَّة والنصرة والحماية في قوَّة من قوى الأرض الضعيفة الهزيلة. أمَّا حين تلجئهم الشدَّة، ويضطرهم الكرب، تزول عن فطرتهم غشاوة الغفلة، ويرجعون إلى ربِّهم منيبين مهما كانوا من قبلُ غافلين أو مكابرين، أخرج الإمام أحمد عن رجل من أهل البادية قال: «قلت يارسول الله إلامَ تدعو؟ قال: أدعو إلى الله وحده الَّذي إن نزل بك ضُرٌّ فدعوته كشف عنك، والَّذي إن ضللت بأرض قفر فدعوته رَدَّ عليك، والَّذي إن أصابك سَنة فدعوته أنزل لك».
والقرآن يُوقظ مشاعر بني آدم بما هو واقع في حياتهم {ويجعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الأرضِ}، فمن الَّذي يجعل الناس خلفاء الأرض؟ أليس هو الله الَّذي استخلف جنسهم في الأرض أوَّلاً، ثمَّ جعلهم قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل يخلف بعضهم بعضاً في مملكة الأرض؟ أليس هو الله الَّذي فطرهم وفق النواميس الَّتي وضعها لإيجادهم في هذه الأرض، وزوَّدهم بالطاقات والاستعدادات الَّتي تسمح لهم بالخلافة فيها، وتعينهم على أداء هذه المهمَّة الضخمة؟ أليس هو الله الَّذي وضع النواميس الَّتي تجعل الأرض قراراً، وتنظِّم الكون بتناسق بحيث تتهيَّأ للأرض تلك الظروف المُساعِدة للحياة، فلو اختلَّ شرط واحد من هذه الشروط الكثيرة، المتوافرة في تصميم هذا الوجود وتنسيقه، لأصبحت الحياة على هذه الأرض مستحيلة. وأخيراً، أليس الله هو الَّذي قدَّر الموت والحياة؟ فلو عاش الأوَّلون لضاقت الأرض بهم وبمن جاء بعدهم، ولغدا سير الحياة والحضارة بطيئاً؛ لأن تجدُّد الأجيال هو الَّذي يسمح بتجدُّد الأفكار وبتجدُّد أنماط الحياة دون تصادمٍ، بين القدامى والمحدثين، إلا في عالم الفكر والشعور، ولو بقي القدامى أحياءً، عَظُم التصادم والتناقض، وتعطل موكب الحياة المندفع إلى الأمام. فعلينا جميعاً بعون الله تعالى أن ننفِّذ القوانين الإلهية بما يتناسب وكمال هذه القوانين لنصبح أمناء الله في أرضه.
فَمَنِ الَّذي حقَّق وجود هذه الحقائق وأنشأها؟ إنَّه الله لا إله إلا هو، ولكنَّ بعض الناس يغفلون عن هذه الحقائق، وهي كامنة في أعماق نفوسهم، مشهودة في واقع حياتهم، ولكن: {قليلاً ما تذكَّرون} ولو تذكَّرها الإنسان وعقلها، لبقي موصولاً بالله صلة الفطرة الأولى، فلا يغفل عنه ولا يشرك بعبادته أحداً.
سورة الإسراء(17)
قال الله تعالى: {ويَدْعُ الإنسانُ بالشَّرِّ دُعاءَهُ بالخيرِ وكان الإنسانُ عَجُولاً(11)}
ومضات:
ـ الإنسان الحكيم لا يطلب من الله تعالى لنفسه أو لغيره إلا الخير، ولا يستسلم لثورات الغضب أو نوبات اليأس، فيتمنى الهلاك والسوء لنفسه أو لعياله، بل يتحلَّى بالصبر والجَلد، ولا يتخلَّى عن ثقته بالله تعالى الَّذي بيده الخير كله.
ـ قد يطلب الإنسان من الله عزَّ وجل أمراً يعتقد فيه خيره فلا يستجاب له، فإن صبر ورضي فسرعان ما يتبيَّن له خطؤُه، وأن الخير يكمن فيما اختاره الله تعالى له، لذلك قال صلى الله عليه وسلم : «لو اطَّلعتم على ما في الغيب لرضيتم بالواقع» (متفق عليه).
في رحاب الآيات:
قال الله تعالى: {خُلِقَ الإنسانُ من عَجَلٍ..} (21 الأنبياء آية 37) فالعجلة في طبع الإنسان وتكوينه، فهو يمدُّ بصره إلى ما وراء اللحظة الحاضرة، يريد أن يتحقَّق له كلُّ ما يخطر بباله، وكلُّ ما تصبو إليه نفسه، وقد يكون في ذلك ضرره، أو حتَّى هلاكه. إلا أن من امتلأ قلبه بحبِّ الله فإنه يثبت عند الشدائد، ويصبر، وَيَكِل الأمر لله فلا يتعجَّل قضاءه. ذلك أنَّ الإيمان ثقة وصبر واطمئنان، فالمؤمن يتعاطى الأسباب بالشكل الصحيح المدروس، ويخطِّط لكلِّ عمل يقوم به، ويعطي كلَّ مرحلة من مراحل التنفيذ حقَّها من الجهد والعمل والتطبيق؛ فيعمل بوعي وهدوء وإتقان، وبإمكانات عقلية متفتِّحة، وبذلك تصبح إمكانية الوقوع في الخطأ أقل، وهذا من شأنه أن ينظِّم العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. فالمجتمع المبني على النظام يَحدُّ من تجاوز بعض أفراده لرقاب بعض، واتِّخاذهم مطيَّة للوصول إلى أهدافهم، فالتأنِّي والهدوء يجعلان العقل هو القائد وهو الرائد، والعجلة تجعل الهوى والشهوة هما المسيطران وهما الدافعان، ومتى كان الهوى يقود إلى الصواب؟ ومتى كانت الشهوة تنظر بعين الحق؟.
وقد نهى الله جلَّ وعلا الإنسان عن العجلة الَّتي جُبِلَ عليها تكوينه، لأن له من الإرادة وحريَّة الاختيار، ما يجعله قادراً على امتلاك جماح نفسه، والنأي بها عن طريق الخطر. وهذا ليس من قبيل تكليفه بما لا يُطاق، بل إنه امتحان واختبار لإرادته، ولتمييز من امتثل أوامر ربِّه ممَّن ضرب بها عرض الحائط فخسر وندم، لذلك قيل: [إياكم والعجلة فإن العرب تكنِّيها أمَّ الندامات]، وقال آدم عليه السَّلام لأولاده: (كُلُّ عملٍ تريدون أن تعملوه فقفوا له ساعة، فإني لو وقفتُ ساعة لم يكن أصابني ما أصابني).
ومن أنواع العجلة أن يبالغ الإنسان في الدعاء طلباً لشيء يعتقد أنَّ فيه خيره، مع أن ذلك قد يكون سبب بلائه وإيذائه، وإنما يُقْدِم على ذلك العمل لكونه عجولاً مغترّاً بظواهر الأمور، غير متفحِّص لحقائقها وأسرارها. وقد يدعو على نفسه أو ولده عند الضجر أو اليأس بما يتمنَّى بعد خمود ثورة غضبه ألا يكون قد استجيب له، فالعاقل مَنْ يتحرَّى الهدوء وضبط الأعصاب ما أمكن، لأن في ذلك نجاحه واستقرار المجتمع الَّذي ينتمي إليه؛ وأن يسلِّم قيادته لله تعالى ويوكل أمره إليه، موقناً بأنَّه تعالى أدرى بمصلحته، وبما فيه خيره في دينه ودنياه ومعاشه وعاقبة أمره.
رد: التربية الروحية في الإسلام
الفصل السابع:
إعمار بيوت الله
سورة النور(24)
قال الله تعالى: {في بيوتٍ أَذِنَ الله أن تُرفعَ ويُذكَرَ فيها اسمُهُ يُسَبِّحُ له فيها بالغُدُوِّ والآصالِ(36) رجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تجارةٌ ولا بيعٌ عن ذكر الله وإقامِ الصَّلاة وإيتاء الزَّكاةِ يخافونَ يوماً تَتَقَلَّبُ فيه القلوبُ والأبصار(37) ليجزيَهُمُ الله أحسنَ ما عملوا ويزيدَهُم من فضلهِ والله يرزقُ من يشاءُ بغير حساب(38)}
ومضات:
ـ بيت الله تعالى هو كلُّ مكان يجتمع فيه أصحاب القلوب المؤمنة لإقامة الصَّلاة، وذكر الله وتسبيحه، وللتعليم والتعلُّم، وتدارس كلِّ ما يفيد أمر الأمَّة، وتحسين أحوال المسلمين.
ـ رُوَّاد هذه البيوت رجال ربانيُّون، تعمل أيديهم بالتجارة وغيرها من أسباب الرزق، بينما قلوبهم عامرة بذكر الله، وتقيم أجسادهم وأرواحهم الصَّلاة الحقيقية، فتراهم ينفقون وينيبون للواحد القهار خوفاً من يومٍ تنفطر فيه القلوب وتخشع الأبصار؛ يومٌ يجعل الولدان شيبا.
ـ يغدق الله تعالى على المؤمنين الذاكرين أفضل الجزاء، ويزيدهم من حسن كرمه رزقاً بغير حساب.
في رحاب الآيات:
النور الطليق الفائض والغامر في السموات والأرض، يتجلَّى ويتألَّق في بيوت العبادة الَّتي تتفرَّغ فيها القلوب للصلة بالله، وتتطلَّع إليه وتذكره وتخشاه، وتُخلص له وتؤْثِره على كلِّ ما سواه. هذه البيوت يمكن أن تكون المساجد، أو بيوت المسلمين، أو نوادي تجمُّعهم، أو أماكن عملهم؛ فالمقصود هو أن يحوِّلوا كلَّ مكان يجتمعون فيه، إلى مركز لذكر الله وتوحيده وتسبيحه وتمجيده.
تلك البيوت: {أَذِنَ الله أن تُرفَعَ} وإِذْنُ الله هو أمر نافذ، فهي مرفوعة قائمة، وهي مطهَّرة رفيعة، يتناسق مشهدها المرفوع مع النور المتألِّق في السموات والأرض، وتتناسق طبيعتها الرفيعة مع طبيعة النور السني الوضيء، وتتهيأ بالبناء لتضُمَّ مجالس العلم والذِّكر والعبادة، وتتآلف معها القلوب المؤمنة الطاهرة، المسبِّحة الواجفة، المصلِّية الواهبة، قال تعالى: {إنَّما يَعْمُرُ مساجدَ الله من آمن بالله واليومِ الآخرِ وأقام الصَّلاة وآتى الزَّكاة ولم يخشَ إلاَّ الله فعسى أُولئكَ أن يكونوا من المهتدين} (9 التوبة آية 18). وقال النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان» (رواه الترمذي وابن ماجه وابن خُزَيمة وابن حِبَّان في صحيحهما والحاكم).
ولهذه البيوت حرمات وللإقامـة فيهـا آداب، فعن الســيدة فاطمة ـ رضي الله عنها ـ بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد قال: باسم الله، والسَّلام على رسول الله، اللهمَّ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك، وإذا خرج قال: باسم الله والصَّلاة على رسول الله، اللهمَّ اغفر لي ذنوبي، وافتح لي أبواب رحمتك وفضلك» (أخرجه الترمذي في سننه وقال حديث حسن). وروى الحكم بن عُمَيْر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كونوا في الدنيا أضيافاً، واتَّخذوا المساجد بيوتاً، وعوِّدوا قلوبكم الرِّقة، وأكثروا التفكُّر والبكاء، ولا تختلف بكم الأهواء، تبنون ما لا تسكنون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتؤمِّلون ما لا تدركون» (رواه مسلم). وكان المسجد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم مسرحاً للنشاطات البنَّاءة كافَّة ومنها:
ـ استقبال الوفود وإنزالهم فيه، فقد روي أنه صلى الله عليه وسلم استقبل في مسجده وفد نصارى نجران، كما استقبل أيضاً وفد ثقيف، وضرب لهم قبَّةً فيه.
ـ إنزال بعض الأسرى فيه، أملاً أن تلين قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحقّ.
ـ اللهو المباح مثل المصارعة، ولعب الأحباش بالحراب، وإنشاد الشعر.
ولخدمة المساجد وتطهيرها وتنظيفها وتعطيرها والقيام على شؤونها فضل كبير، فعن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من أسرج في مسجد سراجاً لم تزل الملائكة وحملة العرش يصلُّون عليه، ويستغفرون له مادام ذلك الضوء فيه» (رواه الحرث بن أبي أمامة وأبو الشيخ). وقد أمر الله تعالى بتطهير هذه البيوت من النجاسات الحسيَّة والمعنوية، كاللغو وغيره، وأمر بذكره فيها، وإخلاص العبادة له. وأجمع العلماء على تعظيم المساجد ووجوب الحفاظ على حرمتها ومراعاة آداب دخولها. فمن حرمة المسجد أن يسلِّم الداخل وقت الدخول إن كان القوم جلوساً، وإن لم يكن في المسجد أحد قال: السَّلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، وأن يركع ركعتين قبل أن يجلس، وألا يشتري فيه ولا يبيع، ولا يَسُلَّ فيه سهماً ولا سيفاً، ولا يطلب فيه ضالَّة، ولا يرفع فيه صوتاً بغير ذكر الله تعالى، ولا يتكلَّم فيه بأحاديث الدنيا، ولا يتخطَّى رقاب الناس، ولا ينازع في المكان، ولا يضيِّق على أحد في الصفِّ، ولا يمرُّ بين يدي مصلٍّ، ولا يبصق، ولا يتنخَّم، ولا يفرقع أصابعه، ولا يعبث بشيء من جسده، وأن يُنزِّهه عن النجاسات والصبيان والمجانين وإقامة الحدود، وأن يُكثر فيه ذِكر الله تعالى ولا يغفل عنه، فإذا فعل هذه الخصال فقد أدَّى حقَّ المسجد، وكان المسجد حرزاً له، وحصناً من الشيطان الرجيم.
والله تعالى يصف عباده المؤمنين الَّذين يعمرون المساجد، بأنهم رجال لا تشغلهم الدنيا وزخرفها، ولا بيعهم وتجارتهم عن ذِكر ربِّهم، وهو خالقهم ورازقهم، إذ يعلمون أن ما عنده خير لهم وأنفع ممَّا في أيديهم، فما عندهم ينفد وما عند الله باق. وهم يؤدُّون الصَّلاة في مواقيتها على الوجه الَّذي رسمه الدِّين، ويؤتون الزَّكاة المفروضة عليهم تطهيراً لأموالهم وأنفسهم من الأرجاس. وليس في ذلك انصراف عن الدنيا، بل إنهم يجمعون بين الدِّين والدُّنيا معاً، بشكل متوازن متساوٍ ومتكافئ، فالرجل الصالح يعمل في البيع والشراء بهمَّة ومقدرة وذكاء، ويملك الدنيا بيده دون أن يتعلَّق بها قلبه المحصَّن بذِكر الله على الدوام، فإذا أوشك القلب أن ينشغل عن الله تأتي الصَّلاة القويمة لتعيده إلى طريق الذِّكر، وتغرس في حناياه مخافة يومٍ شديد البأس، تنفطر فيه القلوب وتزيغ الأبصار، هلعاً ورهبةً من محكمة ربِّ العالمين. ورعاية المسلم لأقربائه وأقرانه، وسائر أفراد مجتمعه، وخاصَّة الفقراء والمحتاجين منهم؛ يخفِّف عنه بأس هذا اليوم.
ويبيِّن الله تعالى في هذه الآية للمؤمنين، مآل أمرهم وحسن عاقبتهم، فيقول: {ليجزيَهُمُ الله أحسنَ ما عملوا} أي على ما يقدِّمون من قربات محفوفة بالخوف من عذاب الله يوم القيامة، والرجاء في تقبُّل تلك القربات، كالتسبيح والذِّكر وإيتاء الزكاة، إلا أن الله لا يضيع أجر المحسنين، فيثيبهم على ما فعلوا من حسنات، وأعمال صالحة. وقد بيَّن الله حالهم تلك في قوله: {إنَّا نخافُ من ربِّنا يوماً عَبوساً قَمْطَريراً * فَوَقَاهُمُ الله شرَّ ذلك اليومِ ولقَّاهُمْ نَضْرَةً وسروراً * وجزاهُمْ بما صبروا جَنَّةً وحريراً} (76 الإنسان آية 10ـ12). وفي قوله تعالى: {ليجزيَهُمُ الله أحسنَ ما عملوا} إيحاء إلى أنه لا يجازيهم على مساوئ أعمالهم بل يغفر لهم، أي يجزيهم على الإحسان إحساناً، وعلى الإساءة عفواً وغفراناً، قال تعالى: {من جاءَ بالحسنةِ فله عشرُ أمثالها..} (6 الأنعام آية 160) وقال أيضاً: {للَّذين أحسنوا الحُسنى وزيادة..} (10 يونس آية 26) وقال في حديث قدسي: «أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر» (متفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه ) ثمَّ نبَّه الله تعالى إلى كمال قدرته وعظيم جوده، وسعة إحسانه بقوله: {والله يرزق من يشاء بغير حساب} أي يعطيهم الثواب العظيم على طاعاتهم، ويزيدهم من الفضل الَّذي لا حدَّ له، في مقابل امتثالهم له، وخوفهم من قهره وشديد عذابه.
سورة التوبة(9)
قال الله تعالى: {إنَّما يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله من آمَنَ بالله واليَومِ الآخِرِ وأقامَ الصَّلاة وآتى الزَّكَاةَ ولم يَخشَ إلاَّ الله فَعَسَى أولَئكَ أن يَكُونُوا من المُهتَدِينَ(18)}
سورة البقرة(2)
وقال أيضاً: {ومن أظلَمُ ممَّن مَنَعَ مَسَاجِدَ الله أن يُذكَرَ فيها اسمُهُ وسَعى في خَرابِها أولَئِكَ ما كان لَهُم أن يَدخُلُوها إلاَّ خَائِفينَ لهم في الدُّنيا خِزيٌ ولهم في الآخِرةِ عَذابٌ عَظيمٌ(114)}
ومضات:
ـ مساجد الله تعالى هي البقع الطاهرة من الأرض، الَّتي يتَّخذها الناس مراكز للعبادة، يتعلَّمون فيها مبادئ دينهم وتعاليمه، ويتدارسون أمور بعضهم بعضاً.
ـ تستقيم عمارة المساجد بارتيادها من قبل المؤمنين الموحِّدين الموقنين بالآخرة، الَّذين يقيمون الصَّلاة كما يجب أن تقام، ويؤتون ما فرضه الله تعالى في أموالهم من حقوق للفقراء.
ـ الإنسان الَّذي تمكَّن الإيمان من قلبه، مطمئن بالله لا يساوره القلق أو الخوف من غيره.
ـ الوظيفة المنوطة بالمساجد هي ذِكر الله تعالى في رحابها، فالَّذين يمنعون النـاس من الصَّلاة أو قراءة القرآن أو الذِّكر الخاشع، قد اقترفوا إثماً لا يفوقه ظلم أو اعتداء، لأنَّهم يعتدون بذلك على حقٍّ من حقوق الله تعالى يقوم عليه بناء المجتمع وإعماره. وكان حريٌّ بهم أن يدخلوا المساجد بقلوب وَجِلة خاشعة من هيبة الله تعالى، وبما أنهم أساؤوا وأفسدوا، فإنهم يدخلونها محاطين بسوء عملهم، ولو أنهم علموا سوء عاقبتهم لاعتصر الهلع والفزع قلوبهم، فهم سيلاقون الخِزْي والعار في الدنيا، ثمَّ ينقلبون إلى عذابٍ أليم في الآخرة.
في رحاب الآيات:
كانت بيوت الله ـ وما تزال ـ مراكز تجمُّع للمؤمنين، وأمكنة تلتقي فيها مشاعرهم، وتتوثَّق روابط قلوبهم، وتتصعَّد فيها ميولهم وتسمو، وهي أيضاً ملتقيات لدراسة أمور المجتمع، ووضع الحلول لمشاكله الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والماديَّة، لذلك فقد حظيت بالأهميَّة البالغة لدى من أدرك قيمة رسالتها.
والمساجد لا تُقيَّم بفخامة بنيانها، وبديع هندستها، وروعة زخرفتها، وإنفاق الأموال الطائلة على حجارةٍ مرصوفة، وزخارف منقوشة فيها، ولا قباب متعالية، ومآذن متطاولة، وطنافس مفروشة، ومصابيح مدلاَّة، بل إن عمارة المساجد تُقَيَّم بالعلماء الصادقين الَّذين يؤمُّون الناس فيها، العاملين على نشر العلم بفروعه، وعلى هداية البشر، وتذكيرهم بخالقهم وإخلاص العبادة له، وبذلك يُخَرِّجون بناة للأمَّة ودعاة للأُخوَّة والسَّلام، والمحبَّة والوئام، بين أفراد المجتمع بكلِّ طوائفه وطبقاته، ودون تمييز عنصري أو طبقي لكي تسود المحبَّة والأُلْفة والسعادة والرحمة بين الجميع، وبهذا تكون المساجد مراكز إشعاع إيماني وحضاري وفكري.
ويعمِّر المسجد من كان يملك القدرة على تحقيق المعاني السابقة والدعوة إليها وكان قلبه عامراً بالإيمان بوحدانيَّة الله، موقناً أن الله تعالى هو المهيمن على ما في الوجود، وأنه الربُّ المعبود، ولا معبود سواه، وأن ثَمَّةَ يوماً ترجع فيه الخلائق إلى بارئها، ويُنصب ميزان العدل، وتُوزن أعمال العباد بالقسطاس المستقيم. ذلك المعمِّر هو مؤمن خاشع عاقل، متعلِّق القلب بالله، فهو إن صلَّى، فالانسجام يقود حركة جسده وتسبيح قلبه، وإن ركع فهو يركع بجسمه، وبروحه، وإن سجد فقد أيقن أنه يسجد على أعتاب الرحمن، فلا شرود ولا استغراق في وساوس النفس، وإن خرج من المسجد ليمارس حياته العمليَّة لازمته خشية الله؛ فلا ظلم ولا تظالم، بل قلب رحيم يصبو إلى إسعاد مخلوقات الله، لا يهدأ من العمل الدؤوب من أجل بناء المجتمع الفاضل، القائم على العلم والتَّراحم والتآخي. وإن تعرَّض لامتحان صمد، وله من إيمانه السند، ومن ربِّه المدد، لذلك فهو يتبع الحقَّ وهو موقن أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، وأن سلطان الله هو الأقوى والأبقى، فهو قويٌّ بالله لا يخشى سواه. ومن توافرت فيه هذه الأخلاق ممَّن يعمرون مساجد الله فلن يضنَّ الله عليه بالهدى والرضا، وسيُدرج اسمه في قائمة الأبرار المهتدين، قال صلى الله عليه وسلم : «إن عُمَّار بيوت الله هم أهل بيوت الله» (رواه الطبراني مرفوعاً) وقال أيضاً: «من توضَّأ في بيته فأحسن الوضوء، ثمَّ أتى المسجد فهو زائر الله وحقٌّ على المزور أن يكرم الزائر» (رواه الطبراني).
وفي مُقابل أعمال البناء والعطاء، هناك نشاطات الهدم والتخريب، إذ أن فريقاً من الناس قد غشيهم الظلام، فأصابهم منه ما أصابهم، جعلوا دأبهم إطفاء شعلة الإيمان، وإخماد صوت الحقِّ، فركَّزوا حملاتهم على تشويه تعاليم الشريعة السمحة بالتطرُّف والمغالاة، وإساءة استعمال بيوت الله في غير ما أقيمت له، وسعوا في تخريبها؛ خراباً معنويّاً بدسِّ الفتن بين أبنائها، وتشويه معتقداتهم، وتشكيكهم بتعاليم شريعتهم. ليس لهم غرض إلا إشباع ميولهم العدوانيَّة بدافع الحسد لأولئك المُنْضَوِين تحت ظلِّ الله، فهم كالحشـرات الضـارَّة الَّـتي لا تنسجم مع كـلِّ نظيـف وأصيـل. ولكنَّ هؤلاء المخرِّبين يعرفون ـ ضمناً ـ أنَّهم يحاربون قوَّة لا قِبَل لهم بها، هي قوَّة الله، لذلك تراهم خائفين قلقين، وهذا طبيعي، فالعين تنكسر أمام الحقِّ، والهَامَة تنحني أمام جلاله، فهم وإن لم يتراجعوا ظاهريّاً، فإنهم ممزَّقون من داخلهم، يخافون أن ينكشف عنهم الحجاب، ويتعرَّوا أمام الخلائق، وكان يجدر بهم أن يراعوا حرمات مساجد الله، فيدخلوها منكِّسي رؤوسهم، خافضي أبصارهم خجلاً من صَغارهم أمام عظمة الله، أَمَا وإنهم لم يفعلوا فإنَّ لهم في الدنيا خزياً، ولهم في الآخرة عذاباً عظيماً.
وهذا الحديث يقودنا إلى تقليب صفحات التاريخ لنجد أن الإسلام قد حافظ على حرمات المعابد أنَّى وُجدت، وأباح لغير المسلمين حريَّة العبادة، وأوصى جنوده في الحرب ألا يعتدوا عليها، وألا يتعرَّضوا لرجال الدِّين، بل أمرهم بأن يتركوهم وما يعبدون. وتعتبر وصية الخليفة الراشدي الأوَّل أبي بكر رضي الله عنه لجنوده المتوجِّهين إلى الشام لدعوة الرومان إلى الإسلام، وثيقة هامَّة في هذا المجال، حيث يقول: (وإنكم ستمرُّون بأقوام قد فرَّغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرَّغوا أنفسهم له، سيروا على بركة الله).
رد: التربية الروحية في الإسلام
الفصل الثامن:
الرضا بالقضاء والقدر
سورة يونس(10)
قال الله تعالى: {وإن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فلا كاشفَ له إلاَّ هوَ وإن يُرِدْكَ بخيرٍ فلا رادَّ لفضلهِ يُصيبُ به من يشاءُ من عبادهِ وهو الغفورُ الرَّحيم(107) قُل ياأيُّها النَّاسُ قد جاءكُمُ الحقُّ من ربِّكُمْ فمن اهتدى فإنَّما يهتدي لنفسهِ ومن ضلَّ فإنَّما يَضِلُّ عليها وما أنا عليكُم بوكيل(108)}
ومضات:
ـ مقاليد أمور الخلق، وتصاريف أقدارهم بيد الله سبحانه وتعالى، وهو الَّذي قدَّر ما هو كائن لهم أو عليهم، وهو الَّذي قسم بينهم أرزاقهم ولا رادَّ لإرادته.
ـ الخير والشرُّ مفهومان متناقضان يصيب الله بهما من يشاء من عباده، ويكونان كجزاء عادل على أعمالهم في أغلب الأحيان، وقد يوجَّهان من الله إليهم ليبلُوَهم ويختبرهم، أيُّهم يحسن التصرُّف بالخير حين جريانه بين يديه، وأيُّهم يحسن الصبر على الضُّرِّ إذا أصابه، ثمَّ يجازيهم أو يثيبهم في الحياة الدنيا وفي الآخرة حسبما يستحقُّون.
ـ المؤمن هو المستفيد الأوَّل من ثمرات هدايته واتِّباعه تعاليم الحضرة الإلهيَّة، والضالُّ هو أوَّل من يعاني من آثار تعنُّته وفجوره، والله غنيٌّ عن إيماننا ولا يضرُّه ضلالنا.
في رحاب الآيات:
إذا خرج الإنسان عن قواعد الله وتعاليمه الحكيمة الَّتي وضعها من أجل سلامته وسعادته، فإنه سيلقى عقاب الله تعالى في الدنيا أو الآخرة أو فيهما معاً. هذا هو قانونه الأزلي، قانون الثواب والعقاب، فعمل الإنسان إمَّا أن يؤدِّي به إلى الإضرار بنفسه أو إلى خير يصيبه، وتضطلع إرادة الله المطلقة في تقدير الأمور، وتبقى النتيجة والمسؤولية متعلِّقة بإرادة الإنسان واختياره الشخصي؛ فإن زكَّى نفسه فقد أفلح، وإن أهلكها بالمخالفات والمعاصي فقد خاب وهلك. لذلك جهر الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى الخير ليعلِّمَنا كيف ننقذ أنفسنا من دائرة عذاب الله، فقال: «اطلبوا الخير دهْرَكُم، وتعرَّضوا لنفحات رحمة الله تعالى، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده، وسلوه أن يستر عوراتكم ويؤمِّن روعاتكم» (أخرجه البيهقي).
وقد يسأل أحدهم: إذا كان الله يقدِّر الخير للطائعين والشرَّ للعاصين، فلماذا نرى الكثير من المؤمنين الطائعين وقد ابتُلُوا بمصائب مختلفة، كالمرض أو الفقر أو فَقْدِ الولد وغير ذلك، بينما نرى من العاصين من يغرق في النعيم والخيرات؟ والجواب نسوقه من خلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: «لا يقضي الله للمؤمن من قضاء إلا كان خيراً له، إن أصابته سرَّاءُ شكر وكان خيراً له، وإن أصابته ضرَّاءُ صبر وكان خيراً له، وليس ذلك إلا للمؤمن» (رواه مسلم مرفوعاً) فالله تعالى إذا أحبَّ عبداً ابتلاه فإذا صبر اجتباه، وكلَّما ازداد صبراً وشكراً ارتقت درجته عند الله. ولا يزال المؤمن بين شكر على النعم وصبر على المحن حتَّى ينال درجة الأبرار والصدِّيقين، قال صلى الله عليه وسلم : «أشدُّ الناس بلاءً الأنبياء ثمَّ الأمثل فالأمثل. يُبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صلابة اشتدَّ بلاؤه، وإن كان في دينه رِقَّة ابتُلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء الإنسان حتَّى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة» (أخرجه الترمذي). وأيّاً كان قضاء الله تعالى في المؤمن فإنه يرضى به لأنه لا رادَّ لقضائه، فلو اجتمع الناس جميعاً على أن يدفعوا عنه ضُرّاً قد كتبه الله عليه فإنهم لن يردُّوه، ولو اجتمعوا على أن يمنعوا عنه خيراً قدَّره له فإنهم لن يستطيعوا إلى ذلك سبيلاً. وقد أُثِر عن الرسول صلى الله عليه وسلم دعاؤه: «اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء» (أخرجه الطبراني عن فضالة بن عبيد رضي الله عنه )، والرضا أعلى درجة من الصبر.
وأمَّا الكفار والمتمرِّدون فقد يزيد لهم الله تعالى من أسباب النعيم والقوَّة، ما يجعلهم يزدادون ظلماً وطغياناً، حتَّى يستحقُّوا عظيم العقاب، قال تعالى يتوعَّدهم: {وذَرْنِي والمكذِّبينَ أُوْلِي النَّعْمَةِ ومَهِّلْهُمْ قليلاً * إنَّ لَدَينا أَنْكَالاً وجحيماً} (73 المُزَّمل آية 11ـ12) وقال أيضاً: {ذَرْنِي ومن خَلَقتُ وحيداً * وجعَلْتُ له مالاً ممدوداً * وبَنِينَ شُهوداً * ومَهَّدت له تمهيداً * ثمَّ يطمعُ أن أَزيدَ * كلاَّ إنَّه كان لآياتنا عنيداً * سأُرْهِقُهُ صَعُوداً} (74 المُدَّثر آية 11ـ17) وهكذا فإنك ترى أن هذه النعم الدنيوية ما هي إلا امتحان يريد الله به اختبارنا أيُّنا أحسن عملاً، ومع ذلك فإنه تعالى يختصُّ برحمته من يشاء لنفسه الهداية، فيهديه إلى سواء السبيل.
إن نداء الله عامٌّ شامل، وقد نزل القرآن للناس كافَّةً دون تخصيص المؤمنين، لذلك فهو يدعوهم جميعاً إلى تدبُّره، سواء من سمع هذه الدعوة من الرسول صلى الله عليه وسلم ، أم مِنَ الدعاة بعده إلى أن تقوم الساعة؛ فقد أرسل الله القرآن هدىً ونوراً، ولو أن الناس اطَّلعوا على ما في ثناياه من الحكمة والموعظة لم يخالفوه، ومن سلك سبيل الحقِّ وصدَّق بما جاء من عند الله فإن الفائدة عائدة إليه، ومن اعْوَجَّ وأعرض، فإن وبال ضلاله عائد على نفسه، بما يفوته من فوائد الاهتداء، وما يصيبه من العذاب. إنها دعوة صريحة وواضحة، ولكلٍّ أن يختار لنفسه ما يشاء، وما الرسول أو الداعي إلا مبلِّغين عن الله، وليسا مكلَّفين بسوق الناس إلى الهدى كُرْهاً، بل إنَّ أمْرَ هداهم وضلالهم موكَّل إلى إرادتهم واختيارهم، وقد كتب الله لهم أو عليهم ما علمه من اختيارهم، ضمن إطار إرادته سبحانه، فلا يحدث شيء في هذا الكون إلا بإرادته.
سورة الحديد(57)
قال الله تعالى: {ما أصابَ من مُصيبةٍ في الأرضِ ولا في أنفُسِكُمْ إلاَّ في كتابٍ من قَبْلِ أن نبرَأَهَا إنَّ ذلك على الله يسيرٌ(22) لِكَيْلا تَأْسَوْا على ما فاتكم ولا تفرَحُوا بما آتاكُمْ والله لا يحبُّ كلَّ مُختالٍ فخور(23)}
ومضات:
ـ إن اعتقاد المؤمن أنه يتحرَّك ضمن دائرة الإرادة الإلهيَّة، يعطيه شعوراً بالاطمئنان أنَّ أمور الحياة مرتَّبة من قِبَل ربِّ العالمين، ومقدَّرة من لَدُنْ عليم حكيم، منذ خلق الأكوان وأراد لهذه الخليقة أن تكون. وهذا الشعور بالإحاطة الإلهيَّة يعطيه التوازن في عواطفه وردود أفعاله، فتكون معتدلة لا تطرُّف فيها، سواء في حالات الحزن أو الفرح، بحيث يمضي مع قدر الله في طواعية ورضا.
ـ إن الله تعالى لا يحبُّ من يختال طرباً، متباهياً بين أقرانه بما حَصَّل عليه من نعيم وعطاء متميزين، ناسباً الفضل لنفسه فيما آتاه الله، ناسياً فضل ربِّ العالمين في تقدير الأرزاق والأعمار بين الناس أجمعين.
في رحاب الآيات:
مَن للإنسان يحملُ عنه همومه ومصائبه وآلامه غير إيمانه القوي بحضرة الله؟؛ فكثيرٌ من الناسِ يُصابون بانهيارات عصبيَّة، أو أزمات قلبيَّة بمجرَّد تعرُّضهم لنكبة تقضُّ مضجعهم. أمَّا العبوديَّة الحقيقية لله فهي تعين المرء على الاستسلام الكامل لإرادة الحضرة الإلهيَّة، فما نحن سوى مؤتمنين من قِبَلِه عزَّ وجل على أنفسنا ومالنا وأهلنا، ولنا حقُّ الإدارة دون حقِّ الملكية المطلقة، لأننا وما نملك مِلك للمالك الأحد الفرد الصمد. وهذا الوجود هو من الدِّقة والتنظيم بحيث لا يقع فيه حادث إلا وهو مقدَّر منذ تصميمه، محسوب حسابه في كيانه، لا مكان فيه للمصادفة، فقبل خلق الأرض وخلق الأنفس، كان في علم الله الكامل الشامل الدقيق كلُّ حدث سيظهر للخلائق في وقته المعيَّن، وفي علم الله لا شيء ماضٍ، ولا شيء حاضرٌ، ولا شيء قادم، فتلك الفواصل الزمنيَّة إنما هي معالم لنا ـ نحن أبناء الفَناء ـ نرى بها حدود الأشياء، إذ لا ندرك الأشياء بغير حدود تميِّزها، حدود من الزمان، وحدود من المكان. وكلُّ حادث من خير أو شرٍّ يقع في الأرض هو في ذلك الكتاب الأزلي، من قبل ظهور الأرض في صورتها الَّتي ظهرت بها: {إنَّ ذلك على الله يسير}، ومن شأن معرفة هذه الحقيقة في النفس البشرية، أن تسكب فيها الطمأنينة عند استقبال الأحداث، خيرها وشرِّها، تلك الطمأنينة بالله، الَّتي يبحث عنها الملايين من البشر المنكوبين، لأن فيها تهدئة للعواطف، فلا فرح طاغٍ، ولا حزن مُدمِّر، بل عواطف متوازنة، متماسكة، تضع المرء في حجمه الحقيقي دون مباهاة ولا تفاخر، فالَّذي أعطى قادر على أن يأخذ، والَّذي وهب قادر على أن يمنع، وكلُّنا لا حول لنا ولا قوَّة إلا بالله العليِّ العظيم. قال عكرمة رضي الله عنه : (ليس أحدٌ إلا وهو يفرح ويحزن، ولكن اجعلوا الفرح شكراً والحزن صبراً) وهذا هو الاعتدال الَّذي يتمتَّع به المسلم الحقيقي.
إن هذه العقيدة الَّتي تملأ نفس المؤمن، هي من أعظم العلاجات لآثار الحوادث المؤلمة الَّتي تصادف الإنسان في حياته، وهي في الوقت نفسه، تُعَدُّ من أشدِّ العوامل الإيجابيَّة في النظر إلى المستقبل، حيث يُقبِل الإنسان على عمله ومسؤولياته وهو واثق بأن عمله لن يذهب سدى، فإن هو نجح فقد حقَّق مراده، وقطف ثمرات سعيه، وشكر الله المنعم، فكان خيراً له، وإن حال بينه وبين هدفه عارض سلبي، من مرض أو خسارة أو ما شابه ذلك، علم أن ذلك مقدَّر كائن ولا يستطيع دفعه مهما بذل، وليس له ملاذٌ إلا الصبر فكان الصبر خيراً له، لأن من ثمار الصبر الأجر والمثوبة عند الله من جهة، والحفاظ على الأعصاب والملكات والصحَّة من جهة أخرى. وهكذا يُقْبِل المؤمن وكلُّه ثقة بالله عزَّ وجل على المستقبل، بكامل طاقاته وملكاته، ممَّا يهيِّئ له الفرصة للفوز والنجاح وتحقيق الأهداف، بعيداً عن التقاعس واليأس والقنوط.
سورة الكهف(18)
قال الله تعالى: {ولا تقولنَّ لشيء إنِّي فاعلٌ ذلك غداً(23) إلاَّ أن يشاءَ الله واذكرْ ربَّكَ إذا نسيتَ وقُلْ عسى أن يهدِيَنِ ربِّي لأقربَ من هذا رَشَداً(24)}
ومضات:
ـ إنَّ ربط المؤمن مشيئته بمشيئة الله عزَّ وجل، حالة روحية تذكِّره بالله في كلِّ حين، وتخلق لديه شعوراً بالثقة والطمأنينة والتسليم، وهذا لا يتنافى مع الدراسة والتخطيط المسبق الدقيق لأمور حياته كافَّة.
ـ يُرجِع بعض الناس أسباب تراخيهم وكسلهم إلى الإرادة الإلهيَّة، بقولهم (لو شاء الله لفعلنا) وهذا فهم خاطئ للعقيدة، فلو فعلوا لوجدوا أن الله قد شاء، ولا يمنعهم من تنفيذ ما أرادوه، فقد ترك لهم حرية الاختيار والعمل.
في رحاب الآيات:
إن كلَّ عمل من أعمال الكائن الحي مرهون بإرادة الله، وليس معنى هذا أن يقعد الإنسان دون تفكير في أمر المستقبل أو التدبير له، بل من المفروض في الإنسان العاقل أن يخطِّط لأموره كلِّها، ويبرمجها وفق نظام يتقيَّد به، وبذلك يستثمر كلَّ أوقاته بشكل مُجْدٍ لا هدر فيه. ولكن يجب أن لا يغيب عن باله أنه يعيش أصلاً ضمن المخطَّط الإلهي، وهذا يعني أن يحسب حساب الغيب، وحساب المشيئة الَّتي تدبِّره، وأن يعزم ويستعين بمشيئة الله، فلا يستبعد أن يكون لله تدبير غير تدبيره، فإن جرت مشيئة الله بغير ما دبَّر لم يحزن ولم ييئس لأن الأمر لله أوَّلاً وأخيراً.
فالموت حقٌّ ويمكن أن يقع في أيَّة لحظة، والحوادث يمكن أن تعترض المرء في أيِّ مكان، والأمراض يمكن أن تنزل به على حين غِرَّة، لذا فإن تنفيذ رغباته مرهون أبداً بقوى تحيط به قد لا يستطيع التصرُّف أو التحكُّم فيها. ومن هنا كان على الإنسان الابتعاد عن الحتميَّة في قراراته، وأن يربط إرادته بإرادة الله، وأن يَعِدَ بتنفيذ الأمور المخطَّط لها أو الموعود بها بعد ربطها بمشيئة الله، فيقول: سأفعل بإذن الله؛ حتَّى وإن أقسم على فعلٍ وهو واثق بأنه لابدَّ فاعله، فليقرن يمينه بمشيئة الله، لعلَّه أن يعترضه ما يمنعه من أن يبرَّ بقسمه، فعن ابن عمر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من حلف فقال: إن شاء الله، فإن شاء مضى، وإن شاء رجع غير حانث» (أخرجه النسائي وابن ماجه والبيهقي)، وبهذا يستمرُّ الارتباط الروحي بين العبد وخالقه، وبين الأسباب ومسبِّبها. هذا هو المنهج الَّذي يأخذ به الإسلام قلب المسلم، فلا يشعر بالوحدة والوحشة وهو يفكِّر ويدبِّر، ولا يُحِسُّ بالغرور وهو يفلح وينجح، ولا يستشعر القنوط واليأس وهو يفشل ويخفق، بل يبقى في كلِّ أحواله متَّصلاً بالله، قويّاً بالاعتماد عليه، شاكراً لتوفيقه إيَّاه، مسلِّماً بقضائه وقدره. وإن دوام إعمار القلب بذكر الله يُمَتِّن أواصر هذا الارتباط، ويعمِّق جذوره، وبه يحصل المؤمن على الطمأنينة، فلا يشعر بالهلع والجزع عندما تخرج الأمور من يده، وفي الوقت نفسه لا يتوانى عن مواصلة تعاطي الأسباب والمسبَّبات، ولا يُحِسُّ بكسلٍ أو تراخٍ، بل يشعر بالثقة والقوَّة لأنه لائذٌ بربه، راضٍ بقضائه، فإذا انكشف له تدبير الله المخالف لتدبيره، فإنه سيقبل قضاءه بالرضا والتسليم.
رد: التربية الروحية في الإسلام
رد: التربية الروحية في الإسلام
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
بارك الله فيك اخي