-
من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أحـمـد ::
جاء في عمدة الحفّاظ، للسمين الحلبي، أنّ لفظ ( الاسم ) مشتق من السُّمو، وهذا قول البصريين. وقيل من الوسم، وهو قول الكوفيين. وعليه فالأصل في الاسم أنّه رفعة وعلامة. وتستخدم الأسماء لتمييز الذوات عن غيرها، ويغلب أن تشير الأسماء إلى صفات، ومن هنا يميل الناس إلى اختيار الأسماء ذات الدلالات الإيجابية، وهم يأملون أن يكون للمرء من اسمه نصيب.
المستقرئ للقرآن الكريم يجد أنّ الاسم يدل على صفة، وأسماء الله تعالى كلها تدل على صفاته عزّ وجل. وعليه يكون المعنى في قوله تعالى: " هل تعلمُ له سَميا": أي هل تعلم له مثيلا في صفاته. وقد أخطأ من ظن أنّ أسماء الله مجرد أعلام، فقال إنّ معنى " هل تعلمُ له سميا ": أي هل تجد من تسمّى باسمه. وهذا غير مقبول، لأن هناك من تسمّى برحمن، ورحيم، وكريم...الخ
جاء في سورة الرعد:" وجعلوا لله شركاء قُل سمّوهم ". يقول السمين الحلبي، في عمدة الحفاظ:" ليس المعنى أظهروا أساميها فقولوا : اللات، والعزّى، وهبل، ونحو ذلك، وإنما المعنى أظهروا حقيقة ما يدّعون فيها من الإلهية. وإنكم تَجدون تحقيق ذلك فيها؟ " ويقول في قوله تعالى: تبارك اسم ربّك: " أي يتزايد خيرهُ وإنعامه. والمعنى أنّ البركة والنعمة الفائضة في صفاته..."
جاء في سورة الصف: " ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد...": أي أنّ صفاته، عليه السلام، تستجلب الحمد في أقوى صوره، وأجلاها، وأفضلها. فهو إذن يُحمدُ أكثر من غيره، لأن صفاته تجعله يُحمد من الناس أكثر. أمّا ( محمّد) فدال على كثرة حمد الحامدين إيّاه. وعليه فإذا قصدنا بالاسم الصفة الذاتيّة، التي تدفع الناس إلى حمده، عليه السلام، فهو (أحمد)، أمّا إذا نظرنا إلى ردّة فعل الناس عندما يصفونه، عليه السلام، بما يليق بصفاته، فإنّه يكون عندها محمداً. فهو، عليه السلام، أحمد في ذاته، ومحمّد ومحمودُ من قبل الناس.
ونقول بعبارة أخرى : المقدّمات الموجودة في ذاته، عليه السلام، يلخصها اسم أحمد، أمّا النتيجة الموجودة خارج الذات فيعبر عنها اسم محمد.
لقد اشتهر النبي، صلى الله عليه وسلم، قبل الإسلام بأنّه الصادق الأمين، وكانت هذه الشهرة نتيجة لما لمسته قريش من صِدقه وأمانته، عليه السلام، أمّا اليوم، وبعد أكثر من ألفٍ وأربعمائةِ سنة، فإننا نجد أنّ الشخصية التي تُمتدح أكثر، وذلك لما يتجلى فيها من صفات حميدة، هي شخصية الرسول، عليه السلام، فهو أحمد من غيره على مدى التاريخ البشري وإلى يومنا هذا. فتبشير عيسى، عليه السلام، كان برسول يأتي من بعده، صفته أنّه أحمد من غيره.
بعد كل ما ذكرناه نخلص إلى نتيجة أنّه لا بد لنا من إعادة النظر في التعامل مع الأسماء القرآنيّة. فهل يجوز لنا أن نعتبرها مجرد أعلام تخلو من المعاني والأسرار، وعلى وجه الخصوص عندما تكون التسميات ربانية المصدر؟! انظر قوله تعالى :" اسمه المسيح عيسى ابن مريم ". ثم انظر قوله تعالى:" إنا نبشرك بغلام اسمه يحيى لم نجعل له من قبل سميّا " وانظر قوله تعالى:" فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحق يعقوب ". ويعقوب، عليه السلام، هو أيضاً في القرآن الكريم إسرائيل، كما أنّ يونس، عليه السلام، هو أيضاً ذو النون، وإدريس، عليه السلام، فيما يرجحه بعض المفسرين هو إلياس، ومحمد، عليه السلام، هو أحمد.
هذه الأسماء وغيرها هي كنوز وأسرار، ونحن نهدف، بمثل هذا المقال، إلى لفت الانتباه إليها، لتصبح في دائرة اهتمام الدارسين، لأننا وجدنا أنّ الكثير من أسرار هذه الأسماء تتجلّى عند التحقق والمتابعة. ولا بأس بالرجوع إلى اللغات السّاميّة، بعيداً عن علماء التوراة والكتاب المقدس، الذين يُطوّعون اللغة لتوافق تصوّرات كَتبة أسفار العهد القديم، حتى عندما يجمح بهم خيال الأسطورة.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: التقويـم ::
قال تعالى في سورة التين: " لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم، ثم رددناه أسفل سافلين، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ". قالوا في التقويم: إنّه جَعلُ الشيء ذا قوام. وقوام الشيء: ما يقوم به ويثبت. وتُصرّح الآية الكريمة بأنّ الله تعالى خلق الإنسان في أحسن تقويم، ويذهب بعض أهل التفسير إلى أنّ المقصود هنا القوام الجسدي، وهذا بعيد عن سياق النص القرآني، وإن كان اللفظ يحتمله. والراجح أنّ المقصود هنا هو تعديل القوى الظاهرة والباطنة معا، أي المادّية والمعنويّة، وعلى وجه الخصوص القوى المعنوية، من مثل العقل والإدراك.
واضح من الآية الكريمة أنّ تقويم الإنسان خاص به، وهو يتميّز في ذلك عن باقي الكائنات، كيف لا، والله قد سخّر للإنسان ما في السماوات وما في الأرض. وقد يستشكل البعض قوله تعالى: " في أحسن تقويم ". إذ على المستوى المادي يمكن أن يكون الإنسان أشدّ تحصيناً من الأمراض الجسدية، وعلى المستوى المعنوي محفوظاً من الأمراض النفسية، وبذلك يكون في تقويم أحسن. ويزول الإشكال عندما ندرك أنّ " أحسن" تتعلق بخلق الإنسان على ضوء وظيفته في الأرض. ومن هنا لا يلزم مثلاً أن يكون قوام الإنسان يؤدّي به إلى الخلود في الدنيا، لأنّ هذا ما سيكون في الآخرة. وقد جاء في الأثر: " خُلقت الدنيا لكم وخلقتم للآخرة ". وهذا من بدهيّات الدين.
الأصل في الإنسان الخير والعدالة، وأمّا الشّر فهو طارئ على الكيان الإنساني؛ ففي الوقت الذي خلق فيه الإنسان في أحسن تقويم، بحيث يحقق وظيفته في الأرض، خلق فيه أيضاً قابلية الانتكاس والارتكاس، والارتداد إلى الأسوأ: " ثم رددناهُ أسفلَ سافلين ". وهذا يعني أنّ التقويم المعنوي المنسجم مع وظيفة الإنسان في الأرض يمكن أن يتحول إلى النقيض. وحتى لا يكون هذا الارتداد، لا بد من العمل الصالح، القائم على أساس من الإيمان الصحيح: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات .. ". فكل مولود يولد على الفطرة، أي في أحسن تقويم. ويمكن المحافظة على هذه الفطرة وتوظيفها في تحقيق الخلافة في الأرض، إذا ما كانت التربية تستند إلى الإيمان الداعي إلى العمل الصالح. ومن هنا ندرك أنّ الدين ضرورة بشرية، وليس بخيار يُضاف إلى خيارات الإنسان.
هل استطاع العلم في القرن الحادي والعشرين أن يخلق في الأمم الغربية الإنسان الصالح، الذي يقوم بواجب الخلافة ؟! والإجابة نجدها واضحة في واقع البشرية اليوم، فنكتشف أنّ الظلم والتجبّر، والغطرسة والفجور، هي من أهم مميزات الدول التي تقع في أعلى سُلّم العلم والتكنولوجيا. إنّه إفلاس الغني، وضعف القوي. إنّه العلو الذي هو في حقيقته أسفل سافلين. وتبقى مشيئة الله تعالى فوق الجميع: " فأمّا الزبد فيذهب جفاء، وأمّا ما ينفع النّاس فيمكث في الأرض ". ولا ينفع الناس إلا ما كان ينسجم مع فطرتهم السّوية.
إنّ مهمة المصلحين تستند إلى فطرة الإنسان، ومن هنا تكون احتمالات النجاح كبيرة، وهذا ما نلحظه اليوم من سقوط الكثير من الطروحات المتناقضة مع الفطرة، حيث أنه لم يكد يغادرنا القرن العشرون إلا وقد أخذ معه الكثير من العقائد والأفكار والأوهام، وظهر ذلك جليا في البيئات الاجتماعية التي ظهر فيها مصلحون. ولا نزعم أبدا أنّ الصورة الآن جميلة ومشرقة بما فيه الكفاية، ولكن مسار الأمور يشير إلى أنّ الخلاص هو مستقبل الإنسان في المدى غير البعيد.
والله غالب على أمره ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
المـدينـة ::
هاجر الرسول، صلى الله عليه وسلم، من مكة إلى يثرب. وقبل أن ينزل، عليه السلام، بيتاً من بيوتها كان قد حدد المكان الذي يُبنى فيه المسجد. وهذا الفعل يدل على أهمية المسجد في المجتمع الإسلامي. ثم ما لبث الرسول، صلى الله عليه وسلم، أن استبدل اسم يثرب باسم المدينة. ومن اللافت للانتباه أن تُسمّى مدينة ما باسم المدينة، وعلى وجه الخصوص عندما تُعرّف، فكأنّها وحدها المدينة.
أطال المفكرون والفلاسفة الحديث في أفضل صيغة ممكنة للاجتماع البشري، أو ما يُسمّى: المدينة الفاضلة. ولا شك أنّ المدينة الفاضلة هي حُلم البشرية منذ القديم وإلى يومنا هذا. وقد ظنّ الإنسان المعاصر أنّ الحلّ سيكون في التطور العلمي والتكنولوجي، إلاّ أنّ مرور عدّة قرون على النهضة العلميّة أثبت أنّ العلم وحده قاصر عن إيجاد المجتمع البشري الفاضل، بل إنّ التفكك الأسري، والاجتماعي، وانتشار الجرائم، وسيطرة الفلسفة العبثيّة، أصبحت من خصائص المجتمعات العلمانيّة المتقدمة علمياً وتكنولوجيا، فعاد الإنسان فيها، بعد طول معاناة، يحاول أن يستعين بالدين، ليعيد التوازن إلى مسيرته المتعثّرة.
كان مما نزل في المدينة بعد الهجرة: " كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس، تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ": تُعلن الآية الكريمة عن ميلاد ووجود المجتمع المنشود والمدينة الفاضلة، التي يبحث عنها البشر. ولم تَخرُج هذه الأمة نتيجة التطور العلمي والتكنولوجي، فكل هذا مجرد وسائل ميسّرة للعيش ومساعدة على البقاء. بل إنّ التطور العلمي والمادّي، في المجتمعات الإسلاميّة، جاء ثمرة لصياغة الإنسان على مستوى الفكرة، والسلوك الفردي والاجتماعي. من هنا لم يكن من قبيل الصدفة أن يظهر، مثلاً، الإمام أبو حنيفة والإمام مالك، قبل ظهور الرازي وابن سينا وجابر بن حيان. وليس من قبيل الصدفة أيضاً أن يشتهر عَدل عمر بن الخطاب قبل اشتهار فقه الشافعي، أو فلسفة واصل بن عطاء….
الإسلام عقيدة وشريعة، ودين منه الدولة. وإذا كانت الفلسفة يمكن أن تبقى فكرة نظرية بعيدة عن الواقع التطبيقي، فان الدين قد نزل من أجل أن يخلق واقعاً جديداً في عالم الاجتماع الإنساني، ولا يجوز أن يبقى سجين الإطار النظري، ومن هنا كانت ضرورة الهجرة من مكة إلى يثرب. وبما أنّ الهجرة قد أوجدت الواقع الذي يجب أن يتحرك فيه الدين، فقد جاء الإعلان المجلجل عن ميلاد المدينة الفاضلة، التي يحلم بها الإنسان منذ فجره الأول. وإذا كانت التسمية للمولود تحمل الرغبة والأمل والتوقّع، فإنّ هذا كان واضحاً تماماً في دلالة تغيير اسم (يثرب) لتصبح (المدينة).
بعد هذا الحدث بأقل من عشر سنوات جاء الإعلان عن تخريج شعب المدينة الفاضلة: " كنتم خير أمة أخرجت للناس…". وعليه فإذا أراد الناس أن يصنعوا مجتمعاً فاضلا، فان هذا هو المثال، وهذه هي المدينة الفاضلة. وليس غريباً بعد ذلك أن نجد المسلمين، عبر العصور والى يومنا هذا، يتوقون بشدّة إلى المجتمع المدني الأول، وأن نجدهم يحكمون على كل المجتمعات الإسلامية، التي جاءت بعد المرحلة الراشدة، بالانحراف النسبي. ولا يزال الحنين الشديد إلى تلك الحقبة يشدُّ الجميع، ولا يزال الناس يتخذون من تلك المرحلة مقياساً. ألا يدل كل ذلك بوضوح على أنّ المدينة الفاضلة ولدت ووجدت في مجتمع المدينة الأول من أجل أن تكون على مدى العصور مصدر الإلهام، والقدوة والميزان ؟ وسيبقى كل ما سواها دونها، لأنّها أخرجت وخُرّجت لأجل الناس.
أما يثرب فقد ماتت، ولم تعد تعني أحدا من الناس، إلا ما كان من بعض المتنفذين في مرحلة الجاهلية، من أمثال عبد الله بن أبي بن سلول، الذي توقّع وتمنّى زوال المدينة، وذلك عندما رأى الأحزاب تُطبق بجيوشها على أطرافها، فكانت منه الصيحة التي تكشف عن أسرار القلوب، وتعلن عن رغائب الموتورين من أعداء الحقيقة، وأعداء المدينة الفاضلة: " وإذ قالت طائفة منهم يا أهل يثربَ لا مُقام لكم فارجعوا…" الأحزاب13. وإذا كانت يثرب أمنية بعض المنافقين فإنّ المدينة ستبقى أمنية الإنسانية جمعاء.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: ســورة ::
القرآن الكريم هو المعجزة الدالة على صدق رسالة الرسول، صلى الله عليه وسلّم، وعلى وجه الخصوص في إعجازه البياني. وقد تحدى القرآن العرب أن يأتوا بسورة من مثله، ولم يتحدّهم بما هو أقل من سورة. والسُّورة كلٌّ متكامل وتشتمل على ألوان من العلوم والمعارف والتشريعات والآداب … وغير ذلك. واللافت للانتباه أنّ كلمة سورة لم تُذكر في أول خمسين سورة نُزّلت على الرسول، عليه السلام ؛ فقد جاء التحدي بعشر سور في سورة هود، والتي هي السّورة 52 في ترتيب النزول. أمّا التحدي بسورة واحدة فقد جاء في سورة يونس، والتي هي السورة 51 في ترتيب النزول. وهذا يعني أنّ العرب، في زمن الوحي، قد أَلِفَت معنى قرآن قبل أن تألف معنى سورة. وهناك الكثير من السُّور القصار التي نزلت قبل أن يُسَمِّي القرآن الكريم كل قطعة متكاملة باسم سورة. ويجدر أن نلفت الانتباه هنا إلى أنّ ما يقال في ترتيب نزول السور هو من الأمور الاجتهاديّة المحتملة التي يصعب إثباتها، على خلاف ترتيب المصحف، فإنه ترتيب توقيفي، أي بفعل الرسول، صلى الله عليه وسلم، وحياً.
السُّورة: مشتقّة من السُّور. ومعلوم أنّ السُّور في القديم كان يحيط بالمدينة، ثم هو يرتفع كثيراً بغرض الحماية والحفظ. وقد يكون معنى الارتفاع في السور ولّد في اللغة بعض معاني سورة، والتي منها الدرجة الرفيعة والمنزلة العالية. يقول النابغة الذبياني في البيت المشهور :
ألم ترَ أنّ الله أعطاك سورةً ترى كلّ مَلك دونها يتذبذبُ
ومعلوم أنّ بناء السُّور يتم دورة فوقها أخرى، حتى يكتمل. ولا يبعد أن تكون السُّورة هي كل دورة من هذه الدورات. ويُرَجِّح هذا أنّ بعض علماء اللغة قال إنّ سورة تُجمع على سُوَر، وكذلك سُوْر. وعليه فإن اسم سورة يتضمن معنى الإحاطة، ومعنى السُّمو والرفعة. ومعنى الإحاطة يتضمن الاشتمال، والتمييز وتحديد المعالم ؛ فالسُّور يشتمل على المدينة وما فيها، ثم هو يحدد معالمها ويميزها عما سواها. واللافت للانتباه أنّ الآية الكريمة التي تتحدى البشر أن يأتوا بسورة: " أم يقولون افتراه، قل فأتوا بسورة مثله، وادعوا من استطعتم من دون الله إن كنتم صادقين " يأتي بعدها مباشرة: " بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه…"؛ فسور القرآن الكريم تحيط بعلوم شتّى، وهي تسمو وترتفع، وهي تحفظ وتقي. ونحن هنا سنركز فقط على كون السّورة محدَدة المعالم.
القرآن الكريم 114 سورة، لم تتجاوز أطول سورة فيه 24 صفحة، على اعتبار أنّ كل صفحة تتألف من (260) كلمة، في حين كانت أقصر سورة تتكون من (10) كلمات فقط. وباقي السّور تتراوح بين ذلك. وتتكون كل سورة من عدد من الآيات، بحيث يكون متوسط عدد كلمات الآيات هو: (4, 12) كلمة. ويغلب أن تَقصُر السّور والآيات التي نزلت في المرحلة المكية، والتي ركّزت أكثر على الجانب العقائدي. وتطول السّور والآيات التي نزلت في المرحلة المدنية، وعلى وجه الخصوص عندما يكون الكلام في الشريعة والأحكام.
ومن هذا نستنتج :
أولاً: عندما نُخاطب الناس في أمور العقيدة فيحسن أن نوجز ونحدد بما يشبه أسلوب الشعارات، بعيداً عن التطويل والإسهاب المستخدم لدى الفلاسفة.
ثانياً: الإكثار من الفُصول، والأبواب، والفقرات، يساعد على الفهم، ويجذب القارئ بشكل أفضل، ويُبرز الأفكار من خلال تحديدها في إطار يفصلها عن غيرها بفاصل محسوس.
ثالثاً: الإطار العام دون تبويب يعطي فكرة كليّة مع شيء من الغموض في الأجزاء والتفاصيل. وأسلوب التسوير، والتقسيم إلى آيات، يساعد كثيراً في إدراك الجزء، فيؤدّى ذلك إلى إدراك الكل بشكل أوضح وفهم أعمق.
رابعاً: هناك علاقات بين السُّور تشبه العلاقة بين كل دورة وأخرى في بناء السور حتى يكتمل. ولا يسهل إدراك العلاقة بين سورتين متلازمتين في المصحف حتى ندرك معاني كل واحدة منهما. والمفسّر المتمرس في معاني القرآن الكريم بكامله هو الأقدر على إدراك العلاقات بين السّور والآيات. ومن هنا نجد أنّ علم التناسب بين الآيات والسُّور جاء متأخراً عن علم التفسير.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الفضــل ::
الفضل: هو الزيادة، والعرب تقول لما يبقى من الماء في الإناء بعد الشرب فضلة، وعليه تكون الفضلة: ما يبقى من الشيء، وما يزيد عن الاقتصاد والحاجة. فالألفاظ المشتقة من (فضل) يغلب أن تستخدم في الزيادة الإيجابية. يقول تعالى في سورة النحل: " والله فضّل بعضكم على بعض في الرزق": واضح أنّ المقصود بالفضل هنا الزيادة في الرزق. ويقول سبحانه في سورة الإسراء: " انظر كيف فضّلنا بعضهم على بعض..": فالتفاوت الإيجابي في خَلْق الناس من أهم أسس التحضّر الإنساني. ويقول سبحانه في سورة الرعد: "... ونُفضّلُ بعضها على بعضٍ في الأُكُل ": والمقصود هنا التمايز في أَطعام النباتات، وقيمتها الغذائيّة. ويتفاضل بعضها على بعض، مما يؤدي إلى التنوع الإيجابي.
قد يخلط الناس أحياناً بين مفهوم (الخيريّة)، ومفهوم (الأفضليّة)؛ فإذا كانت الأفضليّة تتعلق بزيادة في المال، أو القوة، أو الجمال، أو العقل...، فإن الخيريّة تتعلق بزيادة الخير؛ فإذا كان فلان يفضلني بمال، أو قوة، أو عقل.. فليس بالضرورة أن يكون هو خيراً مني؛ فكم من فقير هو خير من ألف غني، وكم من ضعيف هو خير من ألف قوي. من هنا كان الحكم الربّاني الذي صدر في حق مجتمع الصحابة، رضوان الله عليهم: " كنتم خير أمّة أخرجت للناس "، ولم يقل سبحانه وتعالى: " كنتم أفضل أمة.."، لأنّ الفضل يحتمل وجوهاً كثيرة، ولا يستلزم الخيريّة إلا إذا كان فضل تقوى. والتفضيل الأخروي لا يستند إلى الفضل الدنيوي، بل يستند إلى الخيريّة في الحياة الدنيا.
يقول سبحانه وتعالى في سورة البقرة: " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتيَ التي أنعمتُ عليكم، وأنّي فضلتكم على العالمين". هذه الآية الكريمة هي من الآيات التي أنّبت اليهود، لنكرانهم النعمة، وعدم شكرهم لله، الذي فضلهم، أي زادهم في العطاء الدنيوي بالإضافة إلى الكتاب والفرقان. وتُعدّد الآيات التي جاءت بعد هذه الآية، من سورة البقرة، النّعم التي كانت لبني إسرائيل ولم تكن لغيرهم من الأمم، فاستحقوا بكفرهم هذه النعمة أن تضرب عليهم الذلة والمسكنة، وأن يبوءوا بغضب من الله، بل: " وإذ تأذّنَ ربك ليبعثنّ عليهم إلى يوم القيامة من يسومُهم سوءَ العذاب ". بهذا تتضح بعض أسرار الغضب الربّانيّ النازل باليهود: " غير المغضوب عليهم "؛ فقد كانت خيانتهم كبيرة. لاحظ بعض هذه النعم التي ذكرت وعُدّدت بعد قوله تعالى: " يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي..." : " وإذ نجيناكم من آل فرعون..." ، " وإذ فرقنا بكم البحر.." ، " وإذ واعدنا موسى.." ، " .. ثم بعثناكم من بعد موتكم لعلكم تشكرون" ، " وظللنا عليكم الغمام، وأنزلنا عليكم المنّ والسلوى " ، " وإذ قلنا ادخلوا هذه القريةَ فكلوا منها حيث شئتم رغدا.." ، " وإذ استسقى موسى لقومه فقلنا اضرب.." ، " وإذ قلتم يا موسى لن نصبرَ على طعام واحد..". نعم، هذه النّعم، وغيرها مما ذكر في سورة البقرة وسور أخرى، لم تحصل لأمّة من الأمم، ولو حصلت لغيرهم لكانت من دواعي الشكر والطاعة، ولكنّهم كفروا النعمة، وتمادوا في غيّهم وتنكروا لفضل الخالق سبحانه؛ فكان الحكم العادل، هو ما نصّت عليه الآيات التي ختمت الحديث عن هذه النّعم: "وضربت عليهم الذلّة والمسكنة وباءوا بغضب من الله..". وهذا ليس لهم فقط، بل لكل خائن لا تزيده النعم إلا ضلالا.
وأخيراً نقول: إذا كانت الآية الكريمة هي من أشدّ الآيات ذمّاً لليهود، ولخيانتهم، فكيف فهمها البعض على أنها آية مدح ؟! ولماذا ذهب البعض في تأويلها المذاهب، على الرغم من أنّ صيغتها هي صيغة تقريع ؟! يبدو أنّ السبب في ذلك يرجع إلى الخلط بين مفهوم الخيريّة ومفهوم الأفضليّة.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
الكـعـبـة ::
الكَعَب: هو النتوء والبروز، ومن هنا سمي الجزء المرتفع والبارز من القدم كعباً. وورد في اللغة أنّ الكعبة: هي البيت المكعب، أي المربع، وقيل المرتفع. وصحّح بعضهم المعنى الأول، أي أنّ الكعبة: هي كل بيت مربع. وبما أنّ الكعبة هي أول بيت وُضِع للناس من أجل العبادة، كما ينص القرآن الكريم، فلا يبعد أن تكون التسمية ربّانية المصدر، ولأنّ الكعبة بُنيت مربعة فقد أصبح الناس يَصِفون كل بيت مربع بأنه كعبة، ثمّ اشتق منه المكعّب ليعني المربع، ثم أُطلِق المكعّب على المجسّم ثلاثي الأبعاد ذي الأوجه المربعة. وبما أنّ الكعبة هي أول بيت مرتفع وبارز فوق الأرض، فقد كانت كل الألفاظ المشتقة من هذا الاسم تدل على الارتفاع، وبالتالي لا داعي لأن نُرجّح معنى على آخر. ولأنّ الكعبة هي قبلة المسلمين في الصلاة والحج، فقد وجدنا الناس يجعلون لفظة الكعبة مرادفة للفظة القبلة.
جاء في الآية 97 من سورة المائدة: " جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَام... ".
واضح أنّ البيت الحرام كان في البداية لا يزيد عن مساحة الكعبة، والتي تقارب (100 م2). من هنا نجد أنّ الآية تُصرّح بأنّ الكعبة هي البيت الحرام. أمّا اليوم فإنّ مساحة البيت الحرام ضخمة جداً، ويمكن أن تزاد وتلحق بها مساحات أخرى حتى تصل الحدود التي حددها الرسول، صلى الله عليه وسلم، كمنطقة حرام، لها أحكام خاصة. ويبقى للكعبة مركزيتها، بل إنّ كل ما أحاط بها اكتسب مكانته لصلته وقربه منها.
جاء في الآية 5 من سورة النساء: " وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَاماً ": فقد جعل الله تعالى المال قوام الحياة، فلا تقوم الحياة، ولا تثبت، ولا تستمر، إلا بالمال. وهذا معلوم وبدهي، وليس هو محل جدال أو تشكيك. واللافت للنظر أنّ القرآن الكريم لم يستخدم مثل هذا التعبير مرّة أخرى إلا في سورة المائدة، في قوله تعالى: " جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَام..." فجَعْلُ المال من مقومات الحياة أمر مفهوم ومجمع عليه بين الناس. ولكن الأمر الذي قد لا يُفهم بداهة، وليس هو محل إجماع، فهو الإيمان، الذي يولّد في النفوس مفهوم القداسة، ومفهوم الواجب، ومفهوم الحرمات. وقد نزلت الرسالات الربّانية لتقيمه، وتحرسه، وتعززه.
فالحياة البشرية لا تقوم بالمال وحده، ولا مجال لاستمرار الوجود المجتمعي الإنساني بعيداً عن المفاهيم التي يغرسها الدين في النفوس. من هنا يمكن للمستقرئ أن يُلاحظ ذلك؛ فالمجتمعات التي يضعف فيها تأثير الدين، وتزلزل فيها قِيمهُ ومفاهيمه، لا بد أن تظهر فيها عوامل التفكك والانحلال، بل إنّ الإنسان، في مثل هذه المجتمعات، يفتقد هدفية وجوده ومسوّغ استمراره. ومن هنا نجد، مثلاً، أنّ الفلسفة الوجوديّة في الغرب، والتي ترفع شعار: (لا إله)، هي أيضاً التي ترفع شعار (العبثيّة)، بل إنّ من أساسيات مبادئهم: " لا شيء له معنى إلا الموت، وغاية إمكانيات الإنسان الانتحار ". ولا شكّ أنّ للدين دوراً متنامياً في المجتمعات البشرية المختلفة، ولذلك يصعب أن نجد اليوم مجتمعاً يتجرّد من الإيمان، ومن مفهوم القداسة، والواجب، والحرمة، إلا أنه بالإمكان أن نلاحظ التناسب الطردي بين قوة الإيمان وقيمهِ في المجتمع، وقوة التماسك الاجتماعي. وقد ثبت بالتجربة أنّ توافر المال، والذي هو القوام الأول، غير كافٍ إلى أن يتحقق الإيمان، والذي هو القوام الثاني. ويمكن ملاحظة أثر فقدان القوام الثاني في المدارس المادّيّة، مثل المدرسة الوجودية، وذلك على المستوى الفلسفي، ومثل المدرسة الماركسية، وذلك على المستوى الفلسفي والواقعي. وما تجربة الاتحاد السوفييتي عنّا ببعيد، فهي غنيّة الآن عن البيان.
فالأحكام المتعلقة بالكعبة والحجّ إليها، والأحكام المتعلقة بالأشهر الحُرُم، والأحكام المتعلقة بالهَدي والأضاحي، وغير ذلك من الأحكام ذات العلاقة بمكانة الكعبة، تُشكّل في شِقّها الإيماني وشقّها السلوكي القوام الثاني. وقد يكون من السهل على الناس أن يدركوا أهمّية نظام العقوبات، مثلا، وضرورته لقيام الحياة المجتمعيّة المستقرّة، إلا أنّهم قد يغفلون عن أهمّية وضرورة تشريعاتٍ كالحج وأحكامه؛ فيلتبس على البعض فَهْم كيف يمكن أن تكون الكعبة قياما للناس. ويبدو أننا بحاجة إلى إعادة نظر ومزيد تدبُّر لأحكام وأسرار الركن الخامس من أركان الإسلام.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: سليمــان عليه الســلام ::
تكرر اسم سليمان، عليه السّلام، في القرآن الكريم 17 مرّة، واللافت للانتباه أنّ القرآن الكريم لم ينص على أية علاقة لسليمان، عليه السلام، ببني إسرائيل، ولا بد من دلالة لهذا السكوت. نعم، فالقرآن الكريم قد نصّ على نبوة سليمان، عليه السلام، وكونه ملكا، ولكنه لم يذكر شيئاً عن قومه، ولا عن الأقوام والأمم التي تبعته وآمنت به، عليه السلام، وانضوت تحت لوائه، فكانت من رعاياه. بل إنّ في قصة ملكة سبأ لدلالة واضحة على اتساع ملكه وتعدد الأمم التي استجابت لدعوته. فلم يكن، عليه السلام، ملكاً لليهود، كما يعتقد الكثير من الناس متأثرين في ذلك بكتب العهد القديم.
ورد ذكر سليمان، عليه السلام، باستفاضة في سفر الملوك الأول، والذي يقال إنه قد دوّن في القرن السادس قبل الميلاد، في حين يقال إنّ سليمان، عليه السلام، قد مات في القرن العاشر قبل الميلاد. ووردت قصته مفصلة أيضاً في سفر أخبار الأيام الثاني، والذي يقال إنّه قد دوّن في القرن الخامس قبل الميلاد. ولا يستطيع المسلم أن يصدّق الكثير مما ورد في هذه الأسفار؛ فصورة سليمان، عليه السلام، في القرآن الكريم في غاية السمو والجمال، أمّا هذه الأسفار فتزعم أنه - وحاشاه- قد عبد الأصنام إرضاءً لزوجاته الوثنيّات. انظر هذا النص من سفر الملوك الأول: " فغضب الربُّ على سليمان، لأنّ قلبه ضلّ عنه، مع أنّه تجلّى له مرتين، ونهاه عن الغواية وراء آلهة أخرى، فلم يطع وصيته، لهذا قال الله لسليمان: لأنّّك انحرفت عني ونكثت عهدي، ولم تطع فرائضي التي أوصيتك بها، فإني حتماً أمزّق أوصال مملكتك، وأعطيها لأحد عبيدك، إلا أنني لا أفعل هذا في أيّامك …" أمّا صورته عليه السلام في القرآن الكريم فيكفيك ما جاء في سورة ص: " ووهبنا لداود سليمان نعم العبد إنّه أوّاب ".
يبدو أنّ ملك سليمان، عليه السلام، كان يشمل عدداّ من الأمم التي اتبعت دينه الحق، وانضوت تحت لوائه، وهذا ما جعل المنحرفين من بني إسرائيل يحقدون على هذا النبي الصالح، لأنهم يريدونها مملكة عنصرية، تجعل من اليهود سادة يُسخّرون الشعوب لخدمتهم، ثم هم يريدونها يهوديّة تتناقض مع نبوة سليمان وإسلامه لله: " وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين ". فليس غريباً إذن أن يشوّه اليهود سيرة هذا النبي الصالح، ويصبّوا عليه جام غضبهم، حتى عندما كتبوا قصّته بعد وفاته بخمسمائة سنة. ومن يتدبر النص الذي اقتبسناه من سفر الملوك الأول يلاحظ أنّهم يحقدون عليه وينقمون من فترة ملكه، ويجعلون الرّب غاضباً منه، ومقرراً أن يدمّر هذا الملك. وإذا صحّ ما ورد في أخبار الملوك الثاني فإن الأمر يصبح واضحاً؛ فهذا سليمان، عليه السلام، قد أذلهم، وكذلك فعل ابنه رَحُبعام من بعده. ويصبح الأمر أشدّ وضوحاً عندما نعلم أنّهم قد شقّوا الدولة بعد وفاته، عليه السلام، بأيّام.
تدبّر هذا النص الوارد في أخبار الملوك الثاني، والذي إن صحّ يكون دليلاً آخر على أنّ سليمان، عليه السلام، لم يكن ملكاً لليهود فقط، بل هو نبي صالح وملك عادل، يحارب العنصريّة ويقمع المنحرفين: " فجاء يربعام وكل جماعة إسرائيل وقالوا لرحبعام بن سليمان: إنّ أباك قد أثقل النّير علينا، فخفف أنت الآن من عبء عبودية أبيك وثقل نيره الذي وضعه علينا فنخدمك. فأجابهم بعد أيّام قائلاً: أبي أثقل عليكم النير وأنا أزيد عليه. أبي أدّبكم بالسياط وأنا أؤدّبكم بالعقارب". فكان أن تمرّدوا، وشقّوا عصا الطاعة، وشقّوا الدولة. ويبدو أنّ ذلك كان بداية فسادهم وعلوهم، المنصوص عليه في القرآن الكريم: " لتُفسِدُنّ في الأرض مرّتين...". فقد أرادوها عنصريّة غاشمة، ويهوديّة متسلطة، وكان منهم ما أرادوا، فتحقق فيهم وعد الله الأول. وفي القرن العشرين كان مكرهم الثاني، ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الشــهيـد ::
الشهيد: اسم من أسماء الله الحسنى، فعلم الله تعالى يحيط بكل شيء، فهو، سبحانه وتعالى، عالم الغيب والشهادة. جاء في سورة الرعد: "قل كفى بالله شهيداًً" وقد كرّم اللهُ بعض خلقه فجعلهم شهداء على النّاس، جاء في سورة النساء: " فكيف إذا جئنا من كل أمّة بشهيد، وجئنا بك على هؤلاء شهيداً ". فالأنبياء شهداء على أقوامهم، والرسول، عليه السّلام، شهيد على الأمّة الآخرة، والأمّة الإسلامية شاهدة وشهيدة على باقي الأمم حتى تقوم السّاعة. جاء في سورة البقرة: " وكذلك جعلناكم أمّةً وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً " .
وحتى تكون الأمّة شهيدة على الناس، لا بد أن تكون ممثلة لحقيقة الإسلام في إيمانها، وسلوكها، ولا بد أن تحيط بالواقع من حولها، وتكون قادرة على تقييم هذا الواقع، والحكم عليه، على ضوء مقاييس الإسلام. ويكتمل معنى الشهادة في الأمّة عندما تقدّم البدائل للواقع السلبي، وبذلك تكون شهيدة في الدنيا، وهذا يؤهلها لأن تكون في مقام الشهادة يوم القيامة، أي في مقام التكريم. جاء في سورة النساء:" ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً". وجاء في سورة الزمر: " وجيء بالنبيين والشهداء..".
إنّ الشهداء في الآخرة هم الشهداء في الدنيا، فهم الذين يعملون على إقامة العدل، على أساس من شرع الله. جاء في سورة المائدة: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوّامين لله شهداء بالقسط ". وجاء في سورة النساء: " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ". ومعلوم من النص القرآني الحكيم أنّ الله تعالى قد أرسل الرسل وأنزل الكتب من أجل أن يقوم الناسُ بالعدل، جاء في سورة الحديد: " لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناسُ بالقسط ". وللقيام بالعدل، ولإقامة العدل، لا يكفي قوة الفكرة وتماسكها، وسمّوها، بل لا بد من القوة التي تحق الحق، أي تجعله واقعاً راسخاً في الأرض. انظر تتمة الآية من سورة الحديد: " وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز ".
والقيام بالقسط، والسير في سبيل الله قد يترتب عليه موت أو قتل، وهذا في منطق الذين لا يؤمنون مجازفة وخسارة. جاء في سورة آل عمران: " يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين كفروا وقالوا لإخوانهم إذا ضربوا في الأرض أو كانوا غُزّى لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا، ليجعل الله ذلك حسرة في قلوبهم، والله يحيي ويميت، والله بما تعملون بصير ". يستفاد من هذه الآية أيضاً أنّ القرآن الكريم يفرّق بين الموت في سبيل الله، والقتل في سبيل الله. جاء في الآية 157 من سورة آل عمران: " ولئن قتلتم في سبيل الله أو متم لمغفرة من الله ورحمة خير مما يجمعون ". ويظهر مثل هذا الفرق في اعتبار من يُقتل في سبيل الله شهيداً حيّا. والشهادة اختيار ربّاني، جاء في سورة آل عمران: " ويتخذَ منكم شهداء ". والشهيد شاهد بفعله على صدق مبدئه، وعمق إيمانه، وهو شاهد على تقاعس المتقاعسين، ثم هو يوم القيامة من الشهداء الذين يشهدون على الناس. ولا يصح في إيمان المؤمن أن يظنّ أنّ الشهيد ميت، ولا يجوز لنا أن نتفوّه بذلك، بل نحكم له بالحياة عند ربّه، لأننا ملزمون بالأخذ بما يظهر لنا من حاله.
من اللافت للانتباه أنّ كلمة شهيد هي من الكلمات التي لا مرادف لها في اللغة العربية، وهي من الألفاظ الإسلامية التي يستخدمها حتى غير المسلمين، وغير الموقنين، إذا أرادوا تكريم قتلاهم، أو حتى موتاهم. وفي الوقت الذي استبدل فيه هؤلاء مصطلح الجهاد، مثلاً، فقالوا: كفاح، ونضال، و قتال، … فإننا نجدهم يحرصون على استخدام مصطلح شهيد. وقد يَشهَد هذا الموقف بحقيقة ما تُكِنّ صدورهم من شكّ وتردد تجاه عقائدهم، وما تستشعره عقولهم وقلوبهم من جلال الإسلام وأحقّيته.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: عـرفـات ::
المتدبّر لمناسك الحجّ يجد أنّها ترمز إلى أساسيّات الفكرة الدينيّة، بل قد تلخّص المقاصد والأهداف من نزول الرسالات؛ فالطواف يرمز إلى ضرورة الانسجام مع قوانين الخلق والفطرة. أمّا السعي بين الصفا والمروة فهو يرمز إلى قطبي الخوف والرجاء ودورهما في البناء الحضاري الإنساني، وقد فصّلنا القول في ذلك في مقام آخر. ونريد هنا أن نتوقّف قليلاً عند ركن الوقوف بعرفة، والذي هو الأهم في كل مناسك الحج، إلى درجة أنّ الحج يتلخّص في هذا الوقوف؛ فقد قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: " الحجُّ عرفة ". ومن لم يقف بعرفة فحجُّه باطل.
إذا أعلن كلُّ حاج بطوافه عن انسجامه، في حركته وسلوكه، مع حركة الكون من حوله، أو بمعنى آخر أعلن عن استسلامه طوعاً كما استسلم الكون، أو بمعنى ثالث أعلن عن رغبته في تحقيق جوهر الإسلام. نعم، إذا تحقق هذا، ثمّ قام الحاج بالإعلان عن خوفه وطمعه، رغبته ورهبته، بسعيه وتردّده بين الصفا والمروة، إذا حصل كل هذا، فقد آن لكل هؤلاء أن يقفوا في صعيد واحدٍ في عرفات. نعم، لقد آن لهم أن يتعارفوا، وآن لهم أن يعترفوا لله بالربوبيّة، وأن يعترفوا بفقرهم والتجائهم إليه عز وجل. وآن لهم أن يتعرّفوا إلى الله ليعرفهم. جاء في الحديث الشريف: "...تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدّة..".
يصح لغةً أن تكون عرفات جمع عرفة. وكلّ قطعة أرض يقف عليها حاج فهي عرفة، وكلّ موقف لكلّ حاج عرفة. لذا فالموقف كلّه عرفات. إنّه موقف تعارف، واعتراف، وتعرّف. وما يهمنا في هذه العجالة هو التعارف؛ ففي يوم عرفة تسقط الفوارق والحواجز، وتقف الأمم والشعوب أمام الحقيقة التي تُذكّر بصلة الرحم: " يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا…": إنّه صوت الدين الخالد يتواصل عبر العصور يَرُدُّ مسيرة البشرية إلى الطريق المستقيم. ما أكثر النزعات والدعوات والشهوات، التي تحاول أن تنحرف بالمسيرة البشريّة، وتجهد في محاولة طمس حقيقة الأخوّة الإنسانية. وتبلغ البشاعة مبلغها عندما تلبس هذه الدعوات لباس الدين، كما هو في العنصريّة الصّهيونيّة، وليدة اليهوديّة المنحرفة.
لم ينزل الدين ليحقق القناعات الفكرية فقط، بل جاء ليجعل الفكرة عاملة وفاعلة في الواقع البشري. وتكتمل الصّورة عندما يتطابق الواقع المحسوس مع الفكرة، فيكون الانسجام بين النظرية والتطبيق. ويظهر ذلك جلياً في إجابة عائشة، رضي الله عنها، عندما سُئلت عن خُلق الرسول، صلى الله عليه وسلم، فقالت: " كان خلقه القرآن". وفي الوقت الذي يكون فيه الواقع هو الانعكاس الحقيقي للفكرة الإسلاميّة، والتعبير الصادق عن صدقها وفاعليتها، عندها سيشهد الناس اكتمالين؛ الاكتمال الأول، ويكون بتجلّي يأس أعداء الحقيقة الدينيّة من إمكانية تطويق الدين، أو تطويعه، أو الوقوف حجر عثرة أمام مسيرته. ويكون ذلك نتيجةً لمشاهدتهم الواقع غير القابل للنقض والإفناء. أما الاكتمال الثاني، فهو تحقق المقاصد من إرسال الرسالات، وتجلي الفكرة بتجسدها الكامل في أرض الواقع.
في التاسع من ذي الحِجّة، في يوم عرفة، من السنة العاشرة للهجرة، وبينما الناس جميعاً يقفون في عرفات، يشهدون الموقف، ويشهد لهم الموقف، نزل الوحي بالإعلان الآتي: "... اليومَ يئس الذين كفروا من دينكم فلا تخشوهم واخشون، اليوم أكملتُ لكم دينكم وأتممتُ عليكم نعمتي، ورضيتُ لكم الإسلام ديناً ": في عرفات اكتملت المعرفة، واكتمل العمل. أمّا البداية فقد كانت في غار حراء والرسول، عليه السلام، في الغار وحده. وبعد سنين وسنين، وبعد أن بُنيت الأمة لَبِنة لبنة، كان لا بدّ للبناء أن يكتمل في العلن، وفي ضوء الشمس. كيف لا، وقد أُخرِجت الأمّة وتخرّجت ؟!
أمّا اليوم فإنّ كلّ الوقائع تُرهص بالاكتمال، كما يرهص الهلال باكتمال البدر، مع يقيننا بأنّ التاريخ لن يعيد نفسه، ومع يقيننا بأنّ أمّة الصحابة هي المثال البشري الأعلى الذي لن يتكرر، لأنّه وجد ليكون المقياس. ولكن المؤشّرات كلها تقول إنّ الغد، بإذن الله، خير من اليوم. وقد يَعجبُ البعض من هذا القول، كما عَجِب آخرون من بشريات الرسول، عليه السلام، عندما حاصر الأحزابُ المدينة المنورة، وما علموا أنّ هذا الحصار، والذي كان يمثّل أوج الكيد الكُفريّ، هو في حقيقته وواقعه، الامتحان الذي سيتمّ بعده تخريج خير أمّة أخرجت من أجل الناس.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
الزبـور ::
ورد في السنّة الصحيحة أنّ الله، سبحانه وتعالى، أنزل التوراة على موسى، عليه السّلام. ولكن اللافت للانتباه أنّ القرآن الكريم لم ينص صراحة على ذلك. ومعلوم أنّ الله تعالى أنزل الإنجيل على عيسى، عليه السلام، وقد نص القرآن الكريم على ذلك. والمشهور أنّ الله تعالى قد أنزل الزبور على داود، عليه السلام، فهل نص القرآن الكريم على ذلك ؟!
المستقرئ لآيات الله الكريمة يجد أنّ القرآن الكريم قد نص في موضعين فقط على أنّ الله تعالى آتى داود، عليه السلام، زبوراً، ولم ينص على إيتائه (الزبور). جاء في الآية 163 من سورة النساء: " وآتينا داود زبوراً". وجاء في الآية 55 من سورة الإسراء: " وآتينا داود زبورا ً". أمّا قوله تعالى في سورة الأنبياء: " ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون ". فلا دليل على أنّ المقصود هو زبور داود، عليه السلام. ومن يرجع إلى كتب التفسير يلاحظ اختلاف المفسرين حول المقصود بالزبور في سورة الأنبياء.
قال تعالى في الآية 25 من سورة فاطر: " وإن يكذبوك فقد كذّب الذين من قبلهم، جاءتهم رسلهم بالبينات وبالزُّبر وبالكتاب المنير ". نستفيد من هذه الآية الكريمة أنّ الزُّبر، والتي هي جمع زبور، نزلت على الرسل. ويستفاد أيضاً أنّ الزبر تحمل معنى يختلف عن معنى الكتب. وقد نص العلماء على أنّ الزبور هو الكتاب، وأنّ الزُبُر هي الكتب. وهذا صحيح، لأن الزُبُر هي فعلاً كتب نزلت وحياً على الرسل، ولو كانت الزبر لغةً ترادف في معناها الكتب لاستشكلنا قوله تعالى: " وبالزُّبر وبالكتاب المنير ". من هنا قد يجدر بنا أن نبحث عن معنى الزبر في القرآن الكريم.
جاء في الآية 53 من سورة المؤمنين: " فتقطّعوا أمرهم بينهم زُبُرا، كل حزب بما لديهم فرحون ". وجاء في الآية 96 من سورة الكهف: " آتوني زُبَرَ الحديد... ". أي: قِطع الحديد. وهذا يعني أنّ الزَّبْر: هو التقطيع، وأنّ الزُبرة: هي القطعة، وجمعها زُبَر. وعليه يمكن أن نقول إنّ الزبور: هو كتاب اقتطع من غيره من الكتب، أي أنّ هناك احتمالاً أن يكون الزبور جزءاً من كتاب ربّاني سبق نزوله، أو جزءاً من كتاب سينـزل، فكان الكلُّ كتابا، والجزءُ قطعةً أي: زبوراً.
الخلاف بين أهل السنّة والجماعة، وبين المعتزلة، في القول بخلق القرآن مشهور، ومعلوم أنّ أهل السنّة والجماعة يرون أنّ القرآن الكريم هو من كلام الله تعالى، والكلام صفة المتكلم، والمتكلم أزلي غير مخلوق. وعليه يكون القرآن أزليا غير مخلوق. وهذه مسألة يجدر بنا ألا نثيرها، في عصر تجاوز فيه الإنسان المسلم هذه الجدليّات، ولكن دفعنا إلى هذه الإشارة الرغبة في التذكير بأنّ القرآن الكريم هو في اللوح المحفوظ قبل نزوله على الرسول، صلى الله عليه وسلّم: " إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون …". وهذا يعني أنّ الأسبقية التاريخية في النزول لا تدل على الأسبقيّة في اللوح المحفوظ، وأنّ أسبقيّة النزول لا تعني أسبقية الكتابة. وبهذا الفهم قد يزول بعض الإشكال في فهمنا لقوله تعالى من سورة الأنبياء: " ولقد كتبنا في الزّبور من بعد الذكر …". فمعلوم أنّ الذكر مُعرَّفا في القرآن الكريم لم يرد صريحا في أيٍّ من الكتب المنزّلة سوى القرآن الكريم.
جاء في الآيات: (192-196) من سورة الشعراء: " وإنّهُ لتنزيلُ ربّ العالمين، نزلَ به الروحُ الأمينُ، على قلبكَ لتكونَ من المُنذِرين، بلسانٍ عربيٍّ مبين، وإنّهُ لفي زُبُرِ الأولين ". فكيف يكون القرآن الكريم في كتب الأولين ؟! هل المقصود أنّ الكتب السابقة قد بشّرت بنزول القرآن الكريم، أم أنّ المقصود هو معاني القرآن الكريم دون الألفاظ، أم أنّ المقصود المعاني والألفاظ جميعاً ؟
هذه مسألة خاض فيها العلماء، والذي قصدنا إليه من هذا المقال أن نلفت الانتباه إلى احتمال أن يكون قد تنـزّل بعض القرآن في كتب الرسل السابقين، فأوتيَ كل رسول جزءاً، أي زبوراً، حتى جاء الوقت المعلوم لنزول القرآن الكريم كاملاً للبشرية جمعاء. ويصبح الأمر مستحقاً للبحث عندما نقرأ الحديث الصحيح الوارد في البخاري: " خُفّف على داود القرآن، فكان يأمرُ بدوابّه فتُسرّج، فيقرأ القرآنَ من قبل أن تُسرّج دوابه …". والحديث الوارد في مسند أحمد: " ألا أُعلمكَ خير ثلاث سور أُنزلت في التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم، قال: قلت بلى ... ". وقد جاء هذا المعنى في أكثر من حديث شريف.
خُتِمت سورة الأعلى بقوله تعالى: " إنّ هذا لفي الصُحُفِ الأولى، صُحُفِ إبراهيمَ وموسى ". والأصل أن نأخذ بظاهر النص فنقول: إنّ ما ذُكر في السورة الكريمة كان قد تنزّل في صحف إبراهيم وموسى، عليهما السلام. ويعزز هذا ما جاء في سورة النجم، ابتداء من الآية 36: " أم لم يُنبّأ بما في صُحفِ موسى، وإبراهيمَ الذي وفّى... ". وإذا أردتَ أن تعلم ما جاء في هذه الصحف فاقرأ الآيات الكريمة حتى نهاية السورة.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الوكيــل ::
الوكيل: هو الموكول إليه، والمفوض إليه الأمر. وعليه فلا وكيل على الحقيقة إلا الله تعالى. وهو سبحانه سبب الأسباب، ومن يتوكل على الله فهو حسبه. ومعلوم أنّ التوكل هو من أفعال القلوب؛ فهو إيمان وتصديق، ثم هو توجه ورغبة، وهو قوة عظيمة تشحن الإرادات، كيف لا وهو الركون إلى ركن شديد ؟! وما من إنسان إلا ويرغب في وكيل. وما عالم الحسرة، والوهن، والإحباط، وسوء الظن، وما إلى ذلك من أمراض القلوب والإرادات، إلا من نتائج التوكل على غير الله، من المخلوقات الضعيفة، والكائنات المحتاجة.
تُستهل سورة الإسراء بآية تتحدث عن حادثة الإسراء بالرسول، عليه السلام، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. ويدهشك أنّ الآيات التي تلي تتحدث عن إفسادين لليهود في الأرض المباركة. والذي يهمنا، في هذه العُجالة، الوصية التي أنزلها الله تعالى في التوراة، ثم أنزلها في الآية الثانية من سورة الإسراء: " وآتينا موسى الكتاب وجعلناه هدى لبني إسرائيل، ألا تتخذوا من دوني وكيلا..". فلماذا هذه الوصية المشددة والمكررة ؟! وما علاقتها بالإفساد اليهودي في الأرض المقدسة ؟! والواضح من نصّها الكريم أنها وصية وتحذير: " ألا تتخذوا من دوني وكيلا..". وقد يكون من أسرارها أنّ النهايات المفجعة للمجتمعات اليهودية ترجع إلى اعتماد هؤلاء اليهود على وكلاء من عالم الشهادة، وهذا مؤشر على ضعف الإيمان بالله تعالى، وهو دليل أيضا على شدة تعلق هؤلاء بعالم المادة وبالأسباب الأرضية.
إسرائيل شاحاك من الكتاب اليهود الذين يُلفتون انتباهك في قربهم النسبي من الموضوعيّة، وهو من القلة التي انتقدت العنصرية الصهيونية، وكشفت حقيقة الكيان الإسرائيلي في فلسطين. وهو يرى أنّ المذابح، التي تعرّض لها اليهود في المجتمعات الغربية، ترجع في الأساس إلى التحالفات التي كان يقيمها اليهود مع القوى المتنفّذة والظالمة. والعجيب أنّ هذا الخطأ يتكرر وكأنه قانون في حياة اليهود، على الرُّغم من أنّ النتائج كانت دائما مفجعة، وعلى وجه الخصوص عندما تَنقضّ الشعوب على جلاديها. والأعجب من هذا أنّ اليهود لم يستخلصوا العبر، وما زالوا يؤمنون بإمكانية الركون والتوكل على القوى البشرية والماديّة، حتى باتت المادة، وبات رأس المال، المعبود الذي يتوكلون عليه.
عندما شعر اليهود بصعود أمريكا، القوة الجديدة، وجدناهم يسارعون إلى الهجرة إليها، حتى باتوا في أعلى درجات السلم السياسي والاقتصادي، وأصبح الأمريكي شيئا فشيئا يشعر بوطأة أقدامهم على رقبته. وهذا الشعور قابل للتصاعد على ضوء المعطيات التي تُخبرنا بانّ المجتمع الأمريكي يتحول، شيئا فشيئا، إلى مجتمع الأقلية المالكة والأكثرية المغلوبة على أمرها، والتي باتت تشكل الآلة التي تخدم الأسياد، ولديها شعور متفاقم بالغُبن والإجحاف. هذا في داخل أمريكا، أما في الخارج، فقد بات المجتمع الدولي يشعر بالنفور الشديد من هذا المتطفل، الذي يضرب بسيف المارد الأمريكي، ولا يقيم وزنا لمشاعر الآخرين، ولا يشعر أبدا باحتمال انقلاب الموازين، وتغيّر الوقائع، بل ينطلق في سلوكه من منطلق أنّ هذه هي نهاية التاريخ. وبهذا نجدهم يكررون الخطأ، ويقعون في المحذور. ولم يعد بإمكانهم أن يستمعوا إلى رب الناس يحذرهم: " ألا تتخذوا من دوني وكيلا...".
إنّ هذه الوصية لا تخص اليهود دون غيرهم، وإن كانوا هم الأحوج إليها. ونحن لا نعجب من سلوك اليهود هذا عندما نطلع على تراثهم الديني والثقافي، وإنما العجب، كل العجب، أن يذهل عن هذه الوصية الربانيّة بعض من عايش الإسلام، فنهل من القرآن الكريم، والسنّة الشريفة، وتنسَّم عبير تراثه المفعم بالإيمان والثقة واليقين والتوكل: " ومن يتوكل على الله فهو حسبه، إنّ الله بالغ أمره، قد جعل الله لكل شيء قدرا
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
الحـج ::
جاء في الآية 97 من سورة آل عمران: " ولله على الناس حجّ البيت …" وجاء في الآية 27 من سورة الحج: " وأذّن في الناس بالحج…". فالحج يُمثّل الأفق العالمي للدين. وإذا كان الحج هو الركن الخامس، فإن تشريعه أيضاً جاء خامساً بعد الأركان الأربعة. وتمثل هذه الشعيرة خلاصة أساسيات الدين. والمتدبر لرموز كل خطوة من خطوات الحاج يجد الانسجام بين قوانين الحج وقوانين الحياة الإنسانية، فالحج ثري بالرموز والدلالات.
يمكن الحكم على صِدقيّة أي دين على أساس مدى انسجام مبادئه وأحكامه مع قوانين الكون؛ فمن غير المتصور أن تتناقض مبادئ الدين الحق وأحكامه مع قوانين الخلق وسننه، لأنّ الذي خلق هو الذي أنزل. وإذا كان الخمر ضاراً كسنّة كونيّة، فلا بد أن يكون محرماً كسنّة تشريعيّة. ومن هنا نجد أنّ الفقهاء، وبعد استقراء أحكام الشريعة الإسلامية، ذهبوا إلى أنّ الشريعة الإسلامية تقصد في أحكامها إلى المحافظة على الدين، والنفس، والعقل، والنسل، والمال. وبمعنى آخر فقد جاء الدين ليحقق الانسجام بين حركة الإنسان وحركة الكون من حوله. وعليه يمكن تعريف الطاعة: بأنها الانسجام بين القانون الشرعي والقانون الكوني. ويمكن تعريف المعصية: بأنها التعارض والتناقض بين القانون الكوني والسلوك البشري. وعندما نقول: إنّ الإسلام هو الحل، فإنما نقصد أن نقول: إنّ الانسجام هو الحل.
يجعل الحاج المسلم الكعبة عن يساره ويبدأ الطواف في حركة دائرية ومتواصلة، وبذلك يكون الإنسان قد أعلن في حركته هذه عن انسجامه الطوعي مع حركة الكون، من أصغر جزء فيه، أي الذرة، إلى المجموعة والمجرّة. نعم إنّه إعلان المخلوق الحر، بأنّ الحريّة، والتي هي منحة الله تعالى للإنسان، لا تعني الفوضى ولا الخروج ولا التناقض، بل هي التوافق والنظام والانسجام. وهذه هي الرسالة الأولى للدين الحق.
المتدبر لحركة الإنسان في الأرض يجد أنّ قانون التردد بين الخوف والرجاء هو القانون الأساس في بناء الحضارات الإنسانية؛ انظر إلى حركة الناس على مستوى الاقتصاد، تجد أنّ أهم دوافع حركتهم هو الخوف من الفقر ورجاء الغنى. وانظر إلى عالم الدراسة والتعليم، تجد أنّ الدافع إلى الجد يكمن في الخوف من الإخفاق، وفي ورجاء النجاح. وانظر إلى تقدم الطب، تجد خوف الألم ورجاء العافية، وخوف الموت ورجاء الحياة... وهكذا نجد أنّ هذا القانون يشمل كل نشاطات الحياة. وفي الوقت الذي ينعدم فيه قُطبُ الخوف أو قطب الرجاء، نجد أنّ الحركة تتوقف؛ فالخوف الذي لا رجاء عنده يُحبط القدرات. والرجاء لا يكون رجاءً حتى يلابسه خوف. أمّا الأمن الكامل، إن وُجِد، فهو من أكبر دواعي الخمول والسكون. انظر قوله تعالى: " إنّه لا يأمنُ مكر الله إلا القوم الخاسرون ". في المقابل:" إنّه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ". ثم انظر قوله تعالى: " يدعوننا رغباً ورهباً "، " ...خوفاً وطمعاً ".
هل كانت هاجر، عليها السلام، تدرك وهي تسعى بين الصفا والمروة، تبحث عن الماء ثم ترجع مهرولة إلى رضيعها إسماعيل، عليه السلام، لتطمئن عليه، أنّ هذه اللحظات الجليلة ترمز إلى قانون الخوف والرجاء؟! وكيف بها لو كُشف لها الغيب فرأت الملايين من الحجاج تُحاكي حركتها في سعيها الحثيث بين القطبين؟! إنّه القانون والسنّة المحكّمة قبل أن تكون الحادثة، بل إنّ الترغيب بالجنّة والترهيب من النار، في كل دين حق، لهو بعض تجلّيات حكمة خالق القوانين والسنن. وما تلك الحادثة إلا بعض تكريم الحكيم لمن اصطفى من عباده.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الصّـــرح ::
جاء في بعض كتب اللغة أنّ الصّرح: هو القصر، وكل بناء عالٍ مشرف. ولكن لماذا سُمي القصرُ قصرا، ولماذا سمي البناء المشرف صرحاً ؟. يبدو أنّ الصّرح مأخوذ من الصراحة، والتي هي خلوصٌ من الشوائب. والصراحة فيها وضوح. وإذا صرّح الإنسان بالشيء فقد كشفه وأظهره. ونظراً لوضوح القصر والبناء العالي سمي صرحا. من هنا لا ينحصر مُسمّى الصرح في البناء العالي المشرف، ولا ينحصر في البناء الضخم الظاهر في الحس. وقد وردت كلمة الصرح في القرآن الكريم أربع مرّات؛ في سورة النمل عند الحديث عن سليمان، عليه السلام، وملكة سبأ، وفي سورة القصص وغافر.
جاء في سورة القصص على لسان فرعون: " فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ ". وقد تكرر هذا الطلب في سورة غافر:" وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَاب، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأظُنُّهُ كَاذِباً..." هل بلغت السذاجة بفرعون أن يطلب بناءاً عالياً يرقاه لينظر ويتحقق من وجود إله موسى؟! وهل يَتصوّر فرعون أنّ المستمعين لهُ من الملأ بهذه السذاجة أيضاً ؟! ما الذي يمنع أن يكون ما يطلبه فرعون أكثر جدّيّة مما يتبادر إلى الذهن؟ ثم لماذا يبني فرعون هذا الصّرح من طينٍ يُطبخ، وهناك ما هو أفضل من الطين لبناء صرحٍ ضخم يتطاول في السماء؟! فلماذا لا يكون هذا الصرح من الحجارة، وقد عرف الفراعنة بناء الأهرامات الضخمة؟! ثم ألم يصعد فرعون في حياته الجبال العالية ليدرك أنّ أعلى بناء ممكن هو أقل ارتفاعاً من جبل صغير ؟!
من يدرس تاريخ الفراعنة يجد أنّ لهم السبق في تحديد السنة الشمسية بمقدار 365 يوما، وتقسيم السنة إلى 12 شهراً، والشهر30 يوما، واليوم 24 ساعة. بل إنّ بناء الأهرامات له علاقة بأبعاد فلكية، وقد بلغت الدّقة الهندسية لديهم بحيث أنّ الشمس تدخل الغرفةً الملكيّة مرّة في العام، وذلك في اليوم المحدد والساعة المحددة. من هنا ندرك أنّ فرعون كان يريد بناء مرصد يساعده في فهم حقائق البناء السّماوي. ويبدو أنّ استخدام الزجاج في هذه المراصد كان هو الأساس في عمل المرصد، كما هو مفترض. على ضوء ذلك نفهم طلب فرعون: " فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحا..". فالأقرب إلى التّصور الجادّ أنّه يريد صناعة الزجاج، لبناء مرصد، فهو لا يحتاج إلى بناء عال ليرتقيه، فلديه الأهرامات التي بُنِيت قبل عصره. ومعلوم تاريخيّاً أنّ الفراعنة قد عرفوا المراصد، وراقبوا السماء، وبلغوا في ذلك مبلغاً.
أمّا آيـة سورة غافر: " وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الأسْبَاب، أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى..". فالمتصوّر أن يكون هذا في عالم الرصد والمراصد أكثر مما يُتصوّر في عالم الارتقاء إلى أعلى، وعلى وجه الخصوص عندما نعلم أنّ الأمم القديمة قبل الميلاد كان لها سبق في علم الفلك. وقد كانوا يعتقدون أنّ للأفلاك تأثيراً وتَحكُّماً، حتى في مصائر البشر. وبالتالي فإنّ العلل والأسباب الحقيقيّة عندهم هي في عالم الفلك. وفرعون هنا يريد أن يبلغ عالم الأسباب هذا ليطلّ منه بزعمه على حقائق الكون، ومنها حقيقة أنّ موسى، عليه السلام، هو رسول من الله. وهو بذلك يستخدم علم التنجيم لينفي أن يكون موسى، عليه السلام، مرسلاً من ربه. وقد لمّح فرعون إلى ذلك بقوله: " وإني لأظنّه كاذبا". وعدم جزم فرعون هنا من أجل أن يظهر نفسه بمظهر الإنسان الموضوعي، الذي يبحث عن الدليل والبرهان.
إذا صحّ فهمنا هذا، فإنّ ذلك يدعونا إلى إعادة النظر في فهم كلمة الصّرح التي وردت في سورة النمل؛ فقد كانت ملكة سبأ ممن يعبدون الشمس، كما صرّحت الآيات الكريمة، وهذا يشير إلى احتمال أنّهم كانوا يهتموّن بالفلك أيضا. لقد وجدنا ملكة سبأ تصرّ على دينها، حتى عندما تجلّت أمامها معجزة إحضار العرش، فكان لا بد من مناقشتها في عقيدتها، وتعريفها بحقيقة الشمس والأفلاك التي تعبدها. من هنا يحتمل أن يكون دخولها الصرح هو دخولٌ للمرصد الزجاجي الضخم، من أجل تعريفها بواقع الأفلاك، ومناقشتها في عقيدتها؛ فهي مُهيّأة لمثل هذا العلم: " قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِير..". نعم فهو من زجاج مُملس، وهو شفّاف وخالص من الشوائب، فهو إذن صرح، وهو أيضاً قوارير. ويبدو أنّ عظمة هذا المرصد تتجلّى في انعكاس الأجرام السماويّة في قاعدته الزجاجيّة، وظهر ذلك في ردّة فعل ملكة سبأ، عندما كشفت عن ساقيها. ولا ندري كم استغرق من الوقت وجود ملكة سبأ داخل المرصد، ولكن يبدو أنّ هذا التواجد هو الذي جعلها تُعلن إسلامها: " قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ". ويبدو أنّه قد تمّ تعريفها بحقيقة عالم الأفلاك، الذي كانت تعبد من دون الله. ولا شك أنّ النقلة في المعارف تساعد على النقلة العقائدية. وتسمية المرصد صرحاً مفهوم إذا عرفنا أنّ المرصد: يكشف، ويُجلّي، ويُظهر، ثم إنّ عدساته وملحقاتها مصنوعة من الزجاج الخالص الصريح، ثم هو يُبنى في مكان عالٍ ومشرف.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
الآل والأهل ::
أهل الرجل في الأصل هم من يجمعه وإياهم مسكن واحد. ونلحظ بالاستقراء أنّ الملازمة هي أبرز دلالات كلمة الأهل، ومن هنا نقول: أهل المدينة، أهل البيت، أهل الكتاب، أهل العلم … أما الآل فهم الذين يؤول إليهم الإنسان، أي يرجع إليهم، أو يرجعون إليه في دين، أو مذهب، أو نسب … من هنا يقال للأهل أحياناً آل، ولكنّ كلمة آل تستخدم في بيان شرف من يؤول إليهم الإنسان، أو شرف من يؤولون إليه.
جاء في الآية 33 من سورة الأحزاب: " إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً ". المتدبر للآيات الكريمة يدرك أنّ مسؤولية الملازمين للرسول، صلى الله عليه وسلم، من أقرباء وأزواج هي أكبر من مسؤولية الآخرين، ومن هنا خصّهم الله تعالى بأحكام فيها من التشدد والاحتياط ما فيها، نظراً لحساسية موقف الرسول القائد، عليه السلام، والذي هو القدوة الحسنة: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ". وعلى الرغم من وضوح هذا في القرآن والسنة، فقد تصور البعض أنّ وصف أهل البيت يعطي من ينتسبون إلى الرسول، صلى الله عليه وسلم، الأفضلية، فيدعوهم ذلك إلى التحلل من المسؤولية، ويتوسّلون بالنسب الشريف للتسلط على رقاب الناس، وتبرير خيانتهم لله ولرسوله وللمؤمنين. ولما كانت كلمة أهل تدل على الملابسة والملازمة، فلا يستطيع أحد أن يزعمها بعد 1400 سنة، بل يُلحظ أنّ كثيراً ممن يزعمونها اليوم هم الأبعدون، الذين لا ينتمون إلى الأمة بل إلى أعدائها.
جاء في الحديث الشريف أنّ صحابياً سأل الرسول صلى الله عليه وسلم قائلاً: " كيف نُسلّم عليكم أهل البيت؟ ". فجاء جواب الرسول الكريم ليجعل السلام على المتقين من أمته، الذين يرجعون دوماً إلى دينه وشريعته، بحيث أصبح الرسول مرجعهم ومرجعيتهم، فقال، عليه السلام: " قولوا اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد … ". نعم، لا معنى لأن نخص بالدعاء أهل البيت، حيث لم يشهد القرآن ولم تشهد السنّة لهم بالعصمة، ولم يرد في الدين ما يدل على تميّزهم وتفضيلهم، بل لو أنّ فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد، عليه السلام، يدها. نعم لا معنى لهذا الاختصاص، وقد وجدنا أنّ من أقربائه، عليه السلام، من قاوم دعوة الله، وأساء إلى رسوله. وهذا إبراهيم، عليه السلام، يطلب أن تكون الإمامة في ذريته فجاءه الوحي بالجواب الحاسم: " لا ينال عهدي الظالمين ". أمّا تكريم المجتمع المسلم لأهل بيت الرسول، صلى الله عليه وسلم، فهو دليل على صدق الإيمان، وصدق الاتباع، وصدق المحبة، كيف لا، وقد أوصى رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بأهل بيته الكرام. وقد شهد الواقع التاريخي بخيريَّتهم، وإمامتهم في التقوى والصلاح، وصبروا وصابروا حتى لقوا وجه الله تعالى.
جاء في الآية 4 من سورة التحريم: "…فإنّ الله هو مولاه وجبريل وصالح المؤمنين ". فإذا كان آل الرسول، عليه السلام، أعظم منزلة من أهله، فإن أولياءه أعظم منزلة من آله، لأنهم أصحاب النسب الحقيقي، ولأنهم اختاروه، وأحبّوه، ونصروه، وقدّموه على كل ما سواه. وقد يَحسن أن نختم بكلمات للإمام جعفر الصادق عندما سئل عن آل البيت فقال: " إذا قاموا بشرائط شريعته كانوا آله " وهذا يعني أنّ آله في اعتبار الإمام جعفر الصادق، هم أولياؤه الذين يحملون دعوته، وينصرون شريعته، فيبلغون بذلك أعلى مراتب القرب والقرابة.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: طـواف الوجـود ::
المتدبّر لشعائر الحج يلحظ تجلّي الرمزيّة في كل عمل من أعمال الحجيج. ولكننا نهدف هنا إلى أن نلفت الانتباه إلى بعض رموز شعيرتي الطواف ورمي الجِمار. ومعلوم أنّ الطّواف حول الكعبة المشرفة هو من أهم أعمال الحج، وأكثرها تكرراً. والطواف صلاة، كما جاء في الحديث الشريف، بل إنّ الطواف مقدّم على الصلاة عند البيت الحرام. وإذا كان الطواف سبعة أشواط، فإنّ رمي الجمار يكون سبع حصيات. وإذا كان الطواف يتكرر بشكل لافت، فإنّ رمي الجمار يتكرر أيضاً.
يقوم الكون في جوهره على الحركة، ولا يعرف العِلم وجوداً مادياً ساكناً، وإذا كانت الذرّة هي المكوّن الأساسي للمادّة المعروفة، فإنّ صيغة الطواف هي الأبرز في العلاقة بين مكونات الذرّة؛ فالالكترونات في حالة طواف دائم حول النواة، ويكون ذلك في مدارات لا تزيد عن سبعة، وإنْ وجد المدار الثامن فمن أجل حلّ هذه العلاقة ونقضها. ويدهشك أن تجد أنّ هذه العلاقة تتجلى أيضاً في المجموعات والمجرّات الفلكيّة، أي أنّ صيغة الطواف هي الأبرز في خلق الكون، من أصغر ذرّاته إلى أكبر مجرّاته. إنه الانسجام التام والتناسق البديع.
بسم الله الرحمن الرحيم، هي أول آية في ترتيب المصحف. ولمّا كانت كل حركةٍ للإنسان في هذا الوجود يجب أن تصدر باسم الله، الذي تتجلى رحمته بإرسال الرسل وإنزال الكتب، فستكتمل عندها الصّورة، وسيتحقق الانسجام الكامل في حركة الوجود. وإن صحّ التعبير فإن الدين هو الرياضة التي تعلمك كيف تُحقق الانسجام مع حركة الكون، لتكتشف أنّ الكون يبلغ في انسجامه غاية الجمال والكمال. أمّا الخروج على تعليمات وإرشادات الخالق الحكيم فهي الحركة العشوائيّة التي تجعل الإنسان يبرز كنغمة شاذّة في لحن الكون الرائع.
عندما يجتمع الناس في بيت الله الحرام لتأدية الركن الخامس من أركان الإسلام، فإنّ هذا يعني أنّه قد تحققت الآثار المرجوة من القيام بالأركان الأربعة. وعندما تحتشد جموع الحجيج معلنةً: " لبيك اللهمّ لبيك "، فإنّ هذا الإعلان هو التأكيد لرغبة الإنسان الطوعيّة في الانسجام مع حركة الكون المستسلم لله. من هنا نجد أنّ الحاجّ يبدأ حجّه بالطواف، ويختمه بالطواف، وبين البداية والخاتمة طواف وطواف. إنّه التعبير العملي عن الاستسلام الكامل، والانسجام التام مع حركة الوجود. إنّه قناعةٌ، وقرارٌ للكائن الحر أن ينسجم طواعية مع حركة الكون المستسلم فطرياً. إنّها لحظات جليلة، يكتمل جلالها عندما يستحضر الحاج في ضميره هذه الحقيقة، ويدرك أنّه يعيش لحظات الانسجام الكوني.
إذا كان الخير هو الحركة نحو الانسجام الكوني، فإنّ الشر هو الحركة نحو التباين والفوضى، وهو الشذوذ المؤذي، وهو التبعثُر المُذهب لجمال الصورة، إنه السير بعكس التيار. لذا لا يمكن لشرٍ أن يدوم، لأنّه مناقض للفطرة ولقانون الوجود. ولا يجوز لنا أن ننتظر حتى يلقى الشرّ مصيره، باعتباره معاكساً لحركة الوجود، لأننا جزء من هذه الحركة. من هنا كان الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أبرز الفروض في الشريعة الإسلامية. وفي الوقت الذي نُعلن فيه انسجامنا مع حركة الوجود فلا بد لنا من أن ننسجم أيضاً مع هذا الوجود في رفضه للباطل، ولا بد من ممارسة ذلك عملياً، وهذا ما يعلنه الحاج مراراً وهو يرمي الجِمار، أو كما يُقال: " يرجم إبليس".
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الصـافنـات الجـيـاد ::
جاء في سورة ص: " ووهبنا لداود سليمان، نعم العبدُ إنه أوّاب، إذ عُرض عليه بالعَشي الصافناتُ الجياد…".
تصف الآية الكريمة الخيل بأنّها صافنات، وبأنها جياد. واللافت أنّ الصفة الثانية هي نقيض للصفة الأولى؛ فمعلوم أنّ الخيل عند راحتها تكون قائمة لا تتحرك، بل تنام وقوفا، وصمتها فيه هدوء ووقار، فأنت تعجب من هذا الحيوان الذي يمضي حياته واقفا، وتعجب كيف ينام واقفا، وتعجب كيف لا يرهقه الوقوف! ويزول العجب عندما نعلم أنّ القانون في خلق الخيل، يختلف عنه في خلق الإنسان، وخلق الكثير من الحيوانات التي تنام مستلقية، فراحة الحصان في وقوفه. والهدوء العميق لهذا الكائن، وصمتُهُ ووقاره، كل ذلك هي المقدّمات الضرورية التي تُفجّر حيويّته ونشاطه.
نعم إنّه الجواد الذي يجودُ بالحركة، ويفيضُ بالنشاط. ويندر أن نجد في الحيوانات حيواناً يماثله في هذه المتناقضات؛ فهو الساكنُ المتحرك، والصامتُ المتفجّر.
آية في سورة ص، جاءت عقب الآيات سالفة الذكر، لا تزال لغزاً على الرُّغم من أقوال المفسرين الكثيرة فيها: " ولقد فتنا سليمانَ وألقينا على كُرسيّه جسداً ثمّ أناب". وليس هذا مقام الإفاضة في تفسيرها، وأكثر ما جاء فيها من تفسير لا يستند إلى دليل معتبر. وقد يكون الأقرب إلى الصواب أن نقول: بأنّ الجسد الذي حلّ في كرسي المُلْك هو سليمان، عليه السلام. وقُلنا (حلّ) لأننا وجدناها أليق بمقام سليمان، عليه السلام. ومن لطائف القرآن الكريم أن يقول سبحانه وتعالى: " وألقينا على كرسيّه"، ولم يقل: " وألقيناه على كرسيّه". هذا إذا كان المقصود سليمان، عليه السلام؛ لأنّ كلمة ألقيناه تفيد الإلقاء مع النبذ على خلاف ألقينا. والذي يبدو لنا راجحاً هو احتمال أن يكون سليمان، عليه السلام، قد أصيب بمرض أقعده عن الحركة، أو تحول إلى جسد ساكنٍ لا حراك فيه، واستمر على هذه الحال مدّة من الزمن، ثم شفاهُ الله وعافاهُ مما حلّ به، عليه السلام. وقد يعزز هذا القول أنّ الآيات التي تلي هذه القصّة جاءت على ذكر أيوب، عليه السّلام، وما حلّ به من بلاء: " واذكر عبدنا أيّوب إذ نادى ربّهُ أنّي مَسَّنِيَ الشيطانُ بنُصْبٍ وعذاب ". ويعززهُ أيضاً قوله تعالى: " ثمّ أناب "، لأنّ من معانيه أنّهُ رجع إلى حالة الصّحّة والمعافاة. واستخدام ثُمّ التي هي للتراخي يؤكّدُ ذلك؛ لأنّ سرعة الإنابة، التي فيها معنى التّوبة، هي من مستلزمات صفة الأوّاب التي وصف بها سليمان، عليه السلام. وهذا يعني أنّ الإنابة هنا لا علاقة لها بالرجوع إلى الله، بل الرجوع إلى الصّحة والمعافاة بعد وقتٍ فيه طول.
المدّة الزمنية التي يُحتمل أن يكون سليمان، عليه السلام، قضاها فاقداً للقدرة على الحركة، والقدرة على إدارة شؤون الدولة، لا بُدّ أن تكون فرصة للتدبر والتأمّل، وإعادة النظر في أمر المُلْك والسلطان، والنظر فيما يمكن أن يفعله الحاكم الذي يملك الجاه والسلطان والقوة. ويمكننا أن نتصوّر الأماني والأمنيات التي تجول في خاطر من فقد القدرة على الإدارة والحكم، وهو لا يزال على كرسيّه سلطاناً معترفاً به. إنّ هذه اللحظات الجليلة تجعل المرء يدرك أنّ الحَوْل والطَوْل كله لله. ومن يمرّ من الصالحين بمثل بهذه التجربة لا يمكن أن يغترّ بالقوة والسلطان، وعلى وجه الخصوص عندما يكون أواباً منيباً لله تعالى.
من يقرأ الآيات التي تلي هذه الآية يجدها مفعمة بالحركة، والقوة، والتسخير، والعطاء الوفير. ويجد سلطاناً يُعطى من كل شيء، ثم هو لا يحاسب: "هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب". والمتدبر للآيات يجد أنّ سليمان، عليه السلام، قد انتقل من النقيض إلى النقيض، تماماً كحالة الصافنات الجياد؛ فسكون تلك الصافنات هو المقدمة الضرورية للحيويّة المتفجرة، والحركة الفعّالة. وقد لاحظنا هذا في حالة سليمان، عليه السلام، بعد شفائه من مرضه؛ فقد أصبح سلطاناً يوظّفُ كل ما سُخّر له من أجل رعيته، ومن أجل الحقيقة التي يؤمن بها، وقد بلغ عهده في الحضارة والمدنيّة الأوج، إلى درجة أن نجد الأمم التي جاءت من بعده تنسب كل شيء خارق وعظيم إلى عصره، عليه السّلام. فإذا كانت حالة الصفون في الخيل هي المقدّمة الضروريّة لحالة الجَود، فإنّ حالة سليمان، عليه السلام، في سكونه على كرسيّهِ كانت المقدّمة لإطلاق طاقاته الفاعلة، الموهوبة له من الله تعالى، لإحداث نقلة عظيمة في حياة البشر، وتكون على يديه، عليه السلام، تكريماً له
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الأرض المقـدســة ::
جاء في الآية 21 من سورة المائدة على لسان موسى، عليه السلام:" يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ...". الراجح أنّ المقصود بالأرض المقدسة، في هذه الآية الكريمة، أرض فلسطين. ولسنا هنا في مقام تحديد حدودها الجغرافية في المنظار الديني. وواضح، في الآية الكريمة، أنّ موسى، عليه السلام، قد طلب من قومه أن يدخلوا الأرض المقدسة، التي فَرض الله عليهم دخولها في حينه. وقد ارتبط هذا الفرض بوعد أن يتم دخولهم بسهولة ويسر: " ادخلوا عليهم الباب، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون ...". ولسنا أيضاً في مقام رفع الالتباس الذي وقع عند البعض في فهم هذه الآية، فظنّوا أنّ المعنى: " الأرض المقدسة التي كتبها الله لكم .." أو " كُتِبت لكم "، في صيغة المبني للمجهول. وإنّما نريد هنا أن نلقي الضوء على بعض دلالات عبارة: الأرض المقدّسة.
القُدُسُ أو القُدْس: هو الطُهر. والأرض المقدسة: هي الأرض المطهّرة. وهناك فرق بين قولنا: الأرض الطاهرة، وقولنا: الأرض المطهّرة؛ فالطاهرة هي التي لا يلابسها دنس. أمّا المطهّرة فقد يلابسها الدّنس، ولكن لا تلبث أن تُطهّر، فكلما تكرر وجود الدنس تكرر التطهير. ويُفهم من هذا أنّ لفلسطين وظيفة مباركة، تتعلق بمسيرة البشرية كلها: " الأرض التي باركنا فيها للعالمين ". فهي الأرض التي لايتجذّر فيها باطل، ولا يدوم فيها شر؛ لأنها الأرض المطهرة من ذلك كله. وقد يُعّبر عن هذا المعنى ما ورد من أنّها لا يُعمّر فيها ظالم.
فيها كانت نهاية سلطان الرومان الشرقيين، وكان ذلك في معركة اليرموك. أما نهاية البطش المغولي فكانت في عين جالوت. ولا تسأل عن نهاية نابليون، ولا تنس أنّ نهاية المسيح الدجّال ستكون في الأرض المقدّسة ، وكذلك نهاية يأجوج ومأجوج. أمّا اليوم، فإنّ وجود إسرائيل يكاد يُنسينا حقيقة وجوهر هذه الأرض، بل قد يظن البعض أنّ عجلة التاريخ ستتوقف عند هذه اللحظة، أو أنّ سنة الله في المجتمعات ستتخلف، وأنّ كينونة فلسطين المتميّزة في كونها مُطهّرة ستزول، وما أدركوا أنّ وجود إسرائيل على الصّورة التي وجدت فيها، وبلوغ الإفساد الصهيوني أبعاداً عالمية، بحيث يصدر هذا الفساد عن هيمنة وسيطرة كونية الامتداد، لهو الدليل على أنّ الأمور تسير في طريق التقاء أقدار المفسدين بقَدْر فلسطين، الأرض المقدسة.
جاء في الحديث الشريف: " إنّ الأرض لا تُقدّس أحداً، ولكن يُقدِسُ الرجلَ عملُهُ ". فوجود الإنسان في الأرض المقدسة لا يطهره من ذنوبه وأدرانه، بل لا بد من العمل الصالح حتى تتطهر النفس من أمراضها وأدرانها: "...ولكن يُطهر الرجلَ عملُه ". فعمر الشرّ في الأرض المقدسة قصير إذا ما قورن بما سواها من أراضٍ وبلاد. وقد يفسر هذا اضطراب المنطقة المستمر عبر العصور؛ فقدسيتها تأبى عليها أن تتقبل على ظهرها الإفساد. ولا ننسى أننا ننظر هنا بمنظار غيبي، بغض النظر عما يؤيده في عالم الشهادة. ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى النظرة المستندة إلى بُعدين؛ بُعد واقعي يرفده بُعد غيبي، حتى لا يؤدي ثقل الواقع المحسوس إلى الإحباط والتحلل. والدارس للتاريخ يجد أنّ صلاح الدين، ومن عاصره من المسلمين، كانوا يملكون هذا المنظار الثنائي المتكامل.
فإذا كانت فلسطين متميزة في كينونتها على باقي بقاع الأرض بأنّها مطهّرة، فإن ذلك من أهم العوامل التي تساعد أهل الجدّ والإخلاص في تحقيق العدالة، في الوقت الذي طغى فيه الشّر واستشرى. وأخيراً نذكّر بما قاله الرجلان في الآية 23 من سورة المائدة: " ادخلوا عليهم الباب ...".
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الســّبت ::
السبت فيه معنى الانقطاع، وفيه معنى الخلود إلى الراحة والدّعة. وقد وردت كلمة السبت في القرآن الكريم (5) مرات، وإذا أضفنا كلمة (سبتهم) و (يسبتون) يكون المجموع (7) مرات. واللافت للانتباه أنّ السبت عند اليهود مرتبط بالعدد (7)، ولم يرد السبت في القرآن الكريم إلا عند الحديث عن شريعة السبت عند اليهود. والمتدبر للآيات القرآنية المتعلقة بالسبت يدرك أنّ هناك خصوصية لهذا اليوم عندهم، وإذا أخذنا ما ورد في التوراة الحالية بعين الاعتبار ندرك أنّ خصوصية يوم السبت تكمن في كونه يوماً ينقطع فيه اليهود عن العمل الدنيوي، ويفترض أن ينقطعوا فيه إلى العبادة، ولا يتناقض هذا مع ظلال معاني الآيات القرآنية الكريمة.
واضح أنّ تسمية السبت جاءت من خصوصيته وأحكامه عند اليهود؛ فهناك علاقة بين الاسم وما يفترض أن يمارس فيه من عبادات، مثل ما أنّ اسم يوم الجمعة يناسب ما يكون فيه من اجتماع المسلمين في المسجد للصلاة. وخصوصية يوم السبت عند اليهود، وخصوصية يوم الجمعة عند المسلمين، يدللان على أنّ تقسيم الأسبوع إلى سبعة أيام يرجع إلى أساس ديني، ولا نعلم له أساساً فلكياً. وقد نص القرآن الكريم، وكذلك نصت التوراة المحرّفة على أنّ الله تعالى قد خلق السماوات والأرض في ستة أيام. وقد يعني هذا أنّ اليوم السابع هو اليوم الذي جاء بعد تمام الخلق، أي أنّه اليوم الذي لم يكن فيه خلق يتعلق بالسماوات والأرض، أي أنّه يوم انقطاع. وقد يكون هذا التفسير مقبولاً في توضيح العلاقة بين السبت والعدد سبعة. ولا يُقبل إطلاقاً ما يزعمه اليهود من أنّ الله تعالى قد استراح في اليوم السابع.
لا نستطيع أن نركن إلى التوراة الحالية لما طرأ عليها من إضافات وحذف عبر القرون. ولكنّ الدارس يلاحظ أنّ مفهوم السبت عند اليهود يتعلق بيوم السبت الذي هو اليوم السابع من الأسبوع، ثم هو يتعلق بالسنة السابعة، التي يجب أن تكون السنة التي لا تزرع فيها أرض فلسطين، بل تكون راحة للأرض. ويتكرر هذا كل سبع سنين. وبعد سبع سبوتات، أي (49) سنة، تكون السنة أل (50) هي سنة اليوبيل، ولها أحكام فُصّلت في السفر الثالث من أسفار التوراة. ويلحظ الدارس للتوراة أنّ عدم احترام اليهود لهذه الشريعة يكون سبباً لإخراجهم من الأرض المقدسة، وسبباً لتشتيتهم في الأرض. ويبدو أنّ ذلك أدى إلى الربط بين الرقم (7) والزوال والانقطاع. لذا يعتقد اليهود بأنّ دنيا الإنسان تكتمل سنة (6000) عبري، أي أنّه في الألف السابعة يكون الزوال بزعمهم. وبالرجوع إلى القرآن الكريم نلاحظ أنّ السبع مرات التي ذكر فيها السبت تكرر ثلاث منها في السورة السابعة، وهي سورة الأعراف. وآخر ورود لكلمة السبت في القرآن الكريم كان في الآية (124) من سورة النحل والتي هي (128) آية، ثم تأتي سورة الإسراء التي تتحدث عن زوال الإفساد الإسرائيلي من الأرض المقدسة: "إنما جعل السبت على الذين اختلفوا فيه…..".
واضح أنّ جعل السبت كان بعد الاختلاف فيه، وهذا يعني أنّ (جعل) السبت يختلف عن (فرضه)؛ فاحتيال اليهود لانتهاك حرمة السبت، وذهابهم في هذه الحيل مذاهب شتى، أدى إلى التشديد عليهم في أحكام السبت، فكان السبت من الإصر الذي حملوه نتيجة فسوقهم وعصيانهم وانتهاكهم لحرمات السبت ابتداءً. والمتدبر لسياق الآيات من سورة النحل يلاحظ أنّ هناك شيئاً آخر، ألا وهو حكم الله عليهم بالانقطاع، فلم يعودوا ضمن المسيرة المتصلة لدعاة الخير، ولم يعودوا من قادة الهداية، ولم يعودوا يسيرون تحت لواء التوحيد. فكان اعتداؤهم واحتيالهم، وتفرقهم باتباعهم الأهواء، سبباً في حذفهم من قافلة الخير، فانقطع وجودهم وذكرهم في عالم الصلاح والإصلاح، فلا تجدهم إلا أئمة للفسق وقادة للشر.
وأخيراً نقول: من يقرأ عجائب صنع اليهود في احتيالهم للقفز عن المقدسات، يدرك أنّ يهود اليوم على استعداد أن يتنكروا لكل مقدس، بشرط أن ينسجم ذلك مع مصالحهم المادية، أي مع عجلهم المقدس المصنوع من الذهب.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
الإيمـــان ::
الإيمان هو التصديق، ولكنه التصديق الذي معه أَمْن. والإيمان في الدين يحقق الأمن الفردي والجماعي، الدنيوي والأخروي. وأنّى لغير المؤمن أن يحس بالأمن ؟! لقد استعاض العلماء في فترة ما عن هذه اللفظة (الإيمان) بلفظة (العقيدة) والتي تدل على الجزم في التصديق. وتبقى لفظة (الإيمان) هي اللفظة التي نص عليها القرآن الكريم، والسنّة الشريفة.
يأخذ الإنسان المعرفة إمّا عن طريق العقل؛ كالمبادئ الرياضيّة. وإمّا عن طريق الحس؛ كالألوان. وإمّا عن طريق الخبر الصادق؛ كالمعارف التاريخيّة، والوحي الرّباني. ولا يوجد طريق رابع معروف لأخذ المعرفة. أمّا الإلهام والرؤى الصادقة فهي من الخبر الصادق، وهو ما يُعرَف في الدين بلمَّة المَلَك. ويمكن إرجاع ما يُسمّى بالتّخاطُر إلى حاسّة مجهولة في الإنسان. وإذا ما استعرضنا أركان الإيمان في الإسلام نجد أنّ ركن الإيمان بالله تعالى يثبت عن طريق العقل فقط. وأمّا ركن الإيمان بالملائكة فثبت عن طريق الخبر الصادق (الوحي). وأمّا ركن الإيمان بالكتب فثبت عن طريق العقل، إذا كان المقصود القرآن الكريم، أمّا إيمان المسلم بالتوراة والإنجيل فيكون عن طريق الخبر الصادق، وكذلك الأمر في ركن الإيمان بالرسل؛ فإذا كان المقصود الإيمان برسالة محمد، صلى الله عليه وسلّم، فلا يكون ذلك إلا عن طريق العقل، ومن هنا كانت المعجزة. وأمّا إذا كان قصدنا الإيمان بباقي الرسل فيكون ذلك عن طريق الخبر الصادق، والذي هو هنا الوحي الثابت بالعقل. أمّا ركن الإيمان باليوم الآخِر، وركن القضاء والقدر، فيثبتان عن طريق الخبر الصادق.
على ضوء ما سلف نجد أنّ أركان الإيمان في الإسلام لا تثبت إلا من طريقين؛ العقل والخبر الصادق. أمّا الحس فليس من طرق إثبات القضايا الإيمانية، لأنّ الإيمان يتعلق بالمسائل الغيبيّة، ولا يتعلق بالمحسوسات؛ فالمعارف التي تؤخذ عن طريق الحس لا يتعلق بها إيمان. فلا نقول: نؤمن بوجود اللون الأحمر، مثلا. ولا نقول نؤمن بأنّ النار تحرق، وبأنّ الماء يروي …الخ. وبذلك يتبين لنا خطأ من ينكر بعض القضايا الإيمانيّة بذريعة أنها غير محسوسة، لأنّ الحس هو طريق من ثلاث طرق تؤخذ بواسطتها المعرفة، وكل طريق يقودنا إلى معرفة تختلف تماماً عن المعارف التي تقودنا إليها الطرق الأخرى. فمعلوم أنّه يستحيل على الأعمى، مثلاً، أن يدرك حقيقة الألوان، ولكنه يؤمن بوجودها عن طريق الخبر الصادق. فالألوان بالنسبة للمبصر هي قضية حسيّة غير إيمانيّة، وهي بالنسبة للأعمى قضية إيمانيّة غير حسّية.
عُرّف الإيمان الديني بأنّه: ما وقر في القلب وصدّقه العمل. وبهذا يظهر الفرق بين الإيمان الفلسفي والإيمان الديني؛ فالإيمان الفلسفي لا يستلزم سلوكا، ولا يوجب التزاما، أمّا الإيمان الديني فلا يصح حتى ينعكس سلوكا. فالدين لا يقبل أن يكون الإيمان ترفاً فكريا، بل إن الإيمان الذي لا يصدقه عمل يوشك أن يموت؛ فالفكرة كالجسد إذا لم تعمل تموت. ومن هنا ليس عجيباً أن نجد في الواقع أنّ أشدَّ الناس إيماناً أشدّهم التزاما، وأنّ قوة الإيمان تتجلى في الذين يتحركون بالفكرة.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الأرض المبـاركـة ::
بوركت فلسطين في القرآن الكريم خمس مرّات، وقدّست مرّة. وسبق لنا أن ناقشنا مفهوم القداسة، وبالتالي مفهوم الأرض المقدسة، أي المطهرة، والتي لا يُعَمَّر فيها ظالم. ولقد تميزت فلسطين على باقي بقاع الأرض بأنها المقدسة والمباركة. جاء في الآية 18 من سورة المائدة على لسان موسى، عليه السلام : " يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة... " وجاء في الآية 71 من سورة الأنبياء في حق ابراهيم، عليه السلام: " ونجيناه ولوطاً إلى الارض التي باركنا فيها للعالمين ". واللافت للاهتمام في هذه الآية أنّ فلسطين مبارك فيها للبشرية جمعاء، وهذا يدعو إلى التدبّر، لعلنا ندرك بعض أسرار هذه البركة.
البركة فيها معنى الثبات والاستقرار، وفيها معنى الاستمرار والملازمة، ومنه سمي المكان الذي هو محبس للماء بركة. وعليه فالبرَكَة هنا _ كما جاء في قول المفسرين _ هي ثبوت الخير الإلهي في الشيء، أو هي الخير المستقر في الشيء اللازم له. وهذا يعني أنّ الخير الإلهي حَلَّ في كينونة فلسطين، وهذا الخير يلازمها في كل العصور، إلى يوم القيامة. وتتجلى بركتها في كونها مقدّسة ومطهّرة من الشّر، ولا يتجذر فيها باطل.
لقد نجحت الحملات الصليبية في احتلال مساحات شاسعة من العالم العربي والإسلامي، وكانت فلسطين هي الهدف المركزي لهذه الحملات، وعندما حُسم الصراع على أرضها المباركة، رجع الصليبيون الى بلادهم وقد تأثروا تأثراً بالغاً بفكر وأخلاقيات الشرق الاسلامي. وكانت هزيمتهم من اهم المقدمات للنهضة الغربية في كافة المجالات. وكان لهذه التجربة الأثر الكبير في انسياح الأوروبيين غرباً مما أدّى الى اكتشاف الأمريكيتين. وإذا كانت حطين هي نقطة تحوّل هامّة في تاريخ المسلمين والأوروبيين، فإن عين جالوت كانت المنعطف الحاد الذي نقل المغول من أمّة مفسدة، وسافكة للدماء، إلى أمّة متحضّرة، تقيم العدل على أساس من الدين الاسلامي الحنيف.
لا نستطيع أن نتخيل صورة العالم لو نجحت حملة نابليون في الشرق العربي، ومعلوم أنّ هزيمته في فلسطين هي التي قضت تماماً على طموحه في السيطرة على الشرق الإسلامي، بل وقوّضت سيطرته في أوروبا، وقلبت موازين القوى في حينه. واليوم شكّل الاحتلال الصهيوني لفلسطين تحدياً كبيراً للعرب والمسلمين، ولا يزال هذا التحدي يشكل استفزازاً لوعي الشعوب في المنطقة؛ فالإخفاقات قد تسبب إحباطاً مؤقتاً ولكنها تسرّع في الوعي، وتسقط الكثير من الأصنام والوثنيّات، وتدفع بقوة نحو العودة إلى الذات الحضارية الواعيّة.
لقد شكلت القضيّة الفلسطينيّة حاجزاً صلباً حمى وحفظ شعوب المنطقة من الذوبان في الحضارة الغربيّة. وقد وقع ذلك في الوقت الذي كان فيه الإنسان في العالم العربي والإسلامي يعاني من الأمية والتخلف؛ فعندما شعرت الشعوب العربية والإسلامية بعداوة الغرب الشرسة، وعندما رأت هذا الغرب يبذل المال والسلاح والخبرات ليقيم الكيان الصهيوني على تراب الأرض المباركة، أدركت أنّه العدو التاريخي، وأنّه النقيض الحضاري، فأصبح الإنتماء إلى الذات الحضاريّة يقود بالضرورة إلى رفض التغريب. إنّ الإخفاق في حل المسألة الفلسطينيّة يعني أنّ الأمّة لم تصل بعد إلى طور العالميّة. وفي الوقت الذي نستطيع فيه أن نحل هذه المسألة حلاً عادلاً نكون قد أصبحنا في المستوى اللائق بحمل رسالة الاسلام للعالم. وإذا تكلمنا بمنطق من يدرس التاريخ، ويراقب الواقع، ويرصد التحولات، فلن نتردد لحظة في القول بأنّ حل المسألة الفلسطينيّة هو مسألة وقت. وتاريخ الأرض المباركة يشهد بذلك. ولسنا بحاجة إلى الإصغاء إلى المحبطين، لأنّهم حالة مرضيّة، وعقيدة وثنيّة، وبمثل هؤلاء لا يزداد الناس إلا سقوطاً
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
التــابوت ::
جاء في الآية 248 من سورة البقرة: " إنّ آية مُلكِه أن يأتيكم التابوتُ فيه سكينة من ربكم وبقيّة مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة …".
عندما طلب بنو إسرائيل، قبل عهد داود عليه السلام، أن يجعل الله لهم مَلكاً يجمعهم، ويوحّد كلمتهم، ويقودهم في حربهم لأعدائهم، استجاب الله لهم، وجعل طالوت ملكاً عليهم، وجعل علامة اختياره أن تأتي الملائكةُ بالتابوت، الذي استولى عليه أعداؤهم. وهو صندوق فيه بقية من آثار آل موسى وهارون، عليهما السلام، توارثه الصالحون من بني إسرائيل. وعند عودة التابوت إليهم جعل الله فيه الطمأنينة لنفوسهم، التي بقيت مضطربة لفقده واستيلاء الأعداء عليه.
واضح في النص القرآني الكريم أنّ التابوت له قدسيّة، وعلى وجه الخصوص ما فيه من الآثار المتوارثة من عهد موسى وهارون، عليهما السلام. ونحن نعلم أنّ الله تعالى قد أنزل على موسى، عليه السلام، الألواح، والتي خطّت فيها الوصايا، وقد جاء في سفر الخروج، في التوراة الحالية: " واجعل في التابوت الشهادة التي أعطيكها ". والمقصود بالشهادة، ما ورد في سفر الخروج أيضاً:" ولما فرغ من مخاطبة موسى على طور سيناء دفع إليه لَوْحَي الشهادة، لوحين من حجر …". وقد ورد في سفر صموئيل أنّ أعداء بني إسرائيل قد سيطروا على التابوت هذا لمدة سبعة أشهر.
كلمة التابوت مشتقة من التّوب: وهو الرجوع، لأنه يُرجع إليه تكراراً لأخذ وإرجاع المُودَعات فيه. وعليه تكون اللفظة عربية، على قول الكثير من أهل اللغة. وقد ذكرت التوراة الحالية أنّ التابوت، المقدس عندهم، صنع من الخشب والذهب بأمر من الله تعالى. ويقولون إنّ طوله يبلغ متراً وربع المتر، أما عرضه فيبلغ 75 سم، وكذلك ارتفاعه. وورد أنّ بني إسرائيل كانوا يحملون التابوت ويتقدمون به أمام الجيش، فيكون ذلك دافعاً لهم للاستبسال، لثقتهم بالنصر بوجود التابوت. وقد ورد في أخبار الأيام الأول، من العهد القديم، على لسان داود، عليه السلام: ".. حتى نُرجع تابوت إلهنا، لأننا أهملنا طلب المشورة بواسطته منذ أيام شاوُل ". ويقصدون بشاوُل هنا طالوت المذكور في القرآن الكريم.
والتابوت عندهم من أقدس المقدّسات، وكانوا في البداية يضعونه في وسط خيمة، ثم أحضره داود، عليه السلام، حسب رواية العهد القديم، إلى (مدينة داود). وتقول الرواية إنّه عندما بنى سليمان، عليه السلام، الهيكل وضع التابوت في أقدس بقعة منه، وتسمّى ( قدس الأقداس ): وهي عبارة عن غرفة لا نوافذ لها، وتكون أعلى جزء في الهيكل، وهي محرابه. وهم يعتقدون أنّ روح الله قد حلّت في التابوت. وعندما تمّ تدمير الهيكل 586 ق.م على يد نبوخذ نصّر البابلي، فُقدت التوراة، وفقد تابوت العهد. ويبدو أنّه تمّ إحراقهما مع ما أُحرق من محتويات الهيكل. واللافت للانتباه أنّ سفر أخبار الأيام الثاني، من العهد القديم، والذي يُرجّح أنّه دوّن في القرن الخامس قبل الميلاد، والذي ينتهي بالحديث عن تدمير الهيكل وإحراق محتوياته، ينص على بقاء العصي التي يُحْمَل بها التابوت، ولم يتطرق إلى ذكر التابوت. يقول النّص: " … وهي ما برحت هناك إلى هذا اليوم …". وواضح أنّ الذي يكتب هذا الكلام يكتبه وهو يقيم بعيدا، ويظهر ذلك من قوله "هناك".
كثرت القصص والأساطير حول مصير التابوت. ومن هذه القصص قصة تقول إنّ ابن سليمان، عليه السلام، من زوجته بلقيس، فرّ بالتابوت إلى مصر، ثم نقل التابوت إلى الحبشة. ولكن اليهود لا يزالون يبحثون عن هذا الصندوق الخشبي الصغير، والذي مضى على صناعته ما يقرب من (3200) سنة، على أقل تقدير. ويتوقّع بعضهم أن يكون مدفوناً في ساحات الأقصى. وبالمناسبة نرى أنّه من المصلحة أن نذكر أنّ رجلاً فلسطينيا، ممن شارك في ترميم وإصلاحات المسجد الأقصى في العهد الأردني، ذكر بعد أن سمع بدرسنا الذي ألقيناهُ في مسجد البيرة الكبير حول التابوت، أنّه رأى من يدفن صندوقاً تنطبق عليه الأوصاف في موضع من المسجد الأقصى. نعم، ما الذي يمنعهم من أن يصنعوا تابوتاً وفق الأوصاف الواردة في العهد القديم، ثم يدسّوه في التراب، ثم يزعموا اكتشافه بعد نصف قرن أو يزيد، ليكون الدليل والمستند على أنّ لهم حقّاً في فلسطين، بعد أن كذّبتهم كل الآثار والحفريّات، فقد اعتدنا أن نرى منهم كل غريب، فهم يستخدمون المقدس وغير المقدس لأجل أغراضهم الدنيويّة، ولا شيء عندهم مقدساً إلا مصالحهم.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الـغـيـب 1::
الغيب: هو كل ما غاب عن الحس، أو غاب عن العقل. وفي الوقت الذي يصبح فيه الشيء الغائب محسوساً، أو مُدرَكاً بالعقل، فإنه لا يعود بعدها غيباً. وما يغيب عن الإنسان قد يكون من أمور الماضي، وقد يكون من أمور الحاضر، وقد يكون من أمور المستقبل. وقد فطر الله تعالى الإنسان على حب معرفة الغيب، فهو يسعى دائماً إلى كشف أستار الغيوب. ومن الممكن أن نُرجع تطور المعارف والعلوم إلى شوق الإنسان الدائم إلى معرفة ما غاب عن حِسّهِ أو عقله. وقد يدفعه هذا الشوق الجامح إلى سلوك بعض الطرق العابثة، والتي تُهدر وقته وجهده، وتضره ولا تنفعه. من هنا وجدنا أنّ الدين يُحرّم العرافة والكهانة، والشعوذة، لأنها تَصْرِف الإنسان عن الطرق الصحيحة لمعرفة الغيب.
لا يدّخر الإنسان جهداً في اتخاذ الوسائل المختلفة الموصلة إلى معرفة الغيب، وفي الوقت الذي ينجح فيه في كشف أستار غيبٍ ما، يتحوّل هذا الغيب إلى شهادة، ولا يعود غيباً بالنسبة له، وإن كان لا يزال غيباً بالنسبة إلى غيره من الناس. وسيبقى الإنسان يتوسّل بعالم الشهادة للاطلاع على عالم الغيب، في مسيرة لا تتوقف حتى تنتهي خلافته على الأرض. ولا يقتصر عالم الشهادة على المحسوسات، بل إنّ ما يثبت بالعقل هو أيضاً من عالم الشهادة، وعليه فإنّ وجود الخالق، سبحانه وتعالى، هو من عالم الشهادة، وليس من عالم الغيب. وقد يكون هذا من بعض أسرار شهادة أن لا إله إلا الله.
يمكن للإنسان أن يتعرف على ما يغيب عنه عن طريق الحس، أو عن طريق العقل، أو عن طريق الخبر الصادق. وعندما نصف الخبر بأنّه صادق فإننا نقصد بذلك أنّه قام الدليل العقلي على صدق هذا الخبر. من هنا تتفاوت الأخبار في درجة صِدقيتها، وعلى ضوء هذا التفاوت يتفاوت التصديق قوّةً وضعفاً. فعلى سبيل المثال: هناك الحديث الضعيف، والحسن، والصحيح، والمتواتر. فما جاءنا عن طريق الحديث الحسن لا يكون في قوة ما جاء عن طريق الحديث الصحيح، وما جاء عن طريق الحديث المتواتر فهو القطعي في ثبوته. والتواتر مسألة عقليّة، وليست بمسألة شرعيّة.
كل الناس يؤمنون بالغيب، فما معنى أن يُثني الله تعالى، في كتابه العزيز، على المتقين أنهم: " يؤمنون بالغيب " ؟ وللإجابة عن هذا السؤال نقول: إذا قام الدليل العقلي على صدق النبي فيما يُبلّغ عن ربّه، فإنّ المؤمن عندها يُصدّق ما جاء به النبي من أخبار تتعلق بعالم الغيب، حتى وإن كان الحس والعقل عاجزين عن إدراك هذا الغيب، لأنّ صدق المُخبر يغني عن ذلك.
يقول تعالى في الآية 26 من سورة الجن: "عالمُ الغيبِ فلا يُظهر على غيبهِ أحداً، إلا من ارتضى من رسول…" إنّ الله تعالى لا يغيب عنه شيء، فعلمه مطلق. وعليه فما دلالة إضافة الغيب إليه سبحانه وتعالى؟ تشير الآية الكريمة إلى غيب أراد الله تعالى أن يُغيّبه عن المخلوقات، وهذا يعني أنّ هناك غيوباً يمكن للخلق أن يُحيطوا بها إذا ما توصّلوا إليها بالحس، أو بالعقل، أو بالخبر الصادق. وإنّ هناك غيوباً لم يأذن سبحانه وتعالى بعلمها لأحد من المخلوقات. وقد يُستثنى من ذلك بعض الرسل والرسالات. فغيبهُ سبحانه وتعالى ليس كل ما غاب عنّا، بل هو ما استأثرَ بعلمه دون خَلقِه. وهذا يعني أنه قد يكون بإمكاننا أن نطلع على بعض الغيوب إذا ما تدبّرنا القرآن الكريم، الذي فيه خبر ما قبلنا، وعلم ما بعدنا.
وأخيراً نسأل: هل حُرِم الناس من الاطلاع على الغيب بختم النبوَات والرسالات ؟ نقول: لا، لم يُحْرموا؛ فالرؤيا الصادقة هي نوع من إطلاع الإنسان على الغيب، وكذلك الإلهام. ولكن هذا لا يتعلق بالغيب الذي شاء الله أن يُغيّبه (غيبه)، بل هو مما أراد أن يُظهره. أما ما أراد أن يُغيّبه، فقد شاء سبحانه وتعالى أن يجعل الوحي هو الطريق الوحيد للإطلال عليه. وعليه فهناك غيب يمكن الاطلاع عليه بواسطة الحس، أو العقل، أو الخبر الصادق، ومنه الإلهام والرؤى. وهناك غيب لا طريق إليه إلا بتدبّر الرسالة الإلهيّة، المتمثلة بالقرآن والسنّة.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الغيـب 2 ::
نزلت سورة الإسراء قبل الهجرة بسنة. وجاءت الآية الأولى من السورة لتتحدث عن حادثة الإسراء بالرسول، صلى الله عليه وسلم، من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله. ويدهشك أنّ الآيات التي تلي تتحدث في بعدٍ غيبي يتعلق بمسألة ستأتي بعد قرون، ألا وهي القضية الفلسطينية، وهذا يعني أنّ هذا الصراع المستقبلي سيشكل في حينهِ حدثا في غاية الأهمية بالنسبة للبشرية. ولا ننسى أنّ فلسطين هي الأرض التي بارك الله فيها للعالمين، كما جاء في سورة الأنبياء: " ونجّيناهُ ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين ".
جاء في الآية الثالثة من سورة الإسراء: " ذرية من حملنا مع نوح إنّه كان عبدا شكورا ". وقد جاء في القرآن الكريم أنّ كلّ من حُمِل مع نوح، عليه السلام، كان مؤمناً. وعليه، فما هي الإشارات التي تحملها عبارة: " ذُرية من حملنا مع نوح…"، ولماذا لم تكن: " ذُرية من آمن مع نوح " ؟.
يمكن للمفسر أن يذهب في ذلك مذاهب شتى، ويبقى كلام الله فوق كلام كل حكيم، ولكننا هنا ندلي برأي له ارتباط بواقع الناس المعاصر؛ فنوح، عليه السلام، بنى السفينة بأمر الله ووحيه، كما جاء في سورة هود: " واصنع الفلك بأعيننا ووحينا " ويبدو أنّ المكان الذي صُنعت فيه السفينة كان بعيداً عن البحر، ويبدو أنّ كل ما يحيط بالمكان يجعل بناء نوح، عليه السلام، للسفينة أمراً مستغرباً داعياً للاستهزاء. جاء في سورة هود: " ويصنع الفلك وكلما مرّ عليه ملأ من قومه سخِروا منه " وهذا أمر مفهوم، فهم لا يملكون البعد الغيبي ليدركوا الحكمة من بناء السفينة في ذلك المكان. وأنّى لهم ذلك وعقيدتهم الوثنية ترهن عقولهم للواقع المحسوس.
واليوم نجد أنّ الأحداث في العالم تتسارع، والعواصف، التي تعصف بالناس، تجعل الكثيرين في حالة من الحيرة. وقد يصل البعض إلى حالة اليأس والإحباط، وعلى وجه الخصوص أولئك الذين لا يملكون البعد الغيبي الذي تنـزّلت به الرسالات؛ فالعقيدة الماديّة تأسرُ صاحبها في سجن عالم الشهادة الآنيّ، ومن هنا تكون الأحكام والمواقف والقناعات متأثرة بثقل وطأة الواقع المحسوس.
عندما أسقطت أمريكا حكم مُصَدَّق في إيران، وذلك في الخمسينات من القرن العشرين، وأعادت الشاه إلى عرشه الملكي، كان ذلك في حينه نجاحاً ظاهراً. لكنّ أحداث العام 1979م، وما بعدها، جاءت لتثبت قصور عقول عباقرة السياسة الأمريكية، فأنّى لهم أن يدركوا أبعاد مكرهم، ونهاياته، ومآلاته ؟! نعم، يستطيع لاعب الكُرة الماهر أن يقذف بالكرة إلى الهدف، ولكنّه يفقد السيطرة عليها بمجرد قذفها، ثمّ هو غير مُتحكّم بعد ذلك بمسارها، ولا يعلم مكان وهيئة استقرارها. وهكذا نحن البشر، قد يكون لنا سيطرة على أفعالنا الآنيّة، فتأتينا النتائج الفورية والمرجوّة. أما تفاعلات الأفعال ومآلاتها في المدى البعيد، فلا مجال للسيطرة عليها؛ فكلما طال الزمان فقدنا السيطرة والتحكّم، وتكون مفاجآت عالم الغيب، الذي لا يعلمه إلا الله.
سورة الإسراء ثريّة بمعالجات الأبعاد الغيبيّة المتعلقة بأمّة الإسلام والرسالة الإسلامية. وعندما نضيف إليها سورة الكهف التي تليها تتجلّى لنا هذه الأبعاد بصورة أوضح. وما أحوج الناس اليوم إلى تدبّر معاني السورتين في مثل هذه الأجواء التي تحيط بنا. كيف لا، والعواصف تعصف بالكثير من حقائق الواقع التي كانت تبدو راسخة. ويبقى الوحي الكريم هو الطبيب الوحيد الذي يلامس القلوب المؤمنة، فيزيل ما بها من شوائب الشك والحيرة والتردد. وما أجملَ أن تتعلق القلوبُ بالأمل الذي مصدره اليقين: " كتب اللهُ لأغلبنَّ أنا ورسلي…".
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الآخــرة ::
عندما تؤمن المدرسة الوجوديّة بالعبثيّة، وعندما ترفع شعاراً يقول:" لا شيء له معنى إلا الموت"، فإنها تكون قد عبّرت بوضوح عن الحقيقة التي يهرب من مواجهتها الماديّون، لأن هذه النتيجة لا بد أن يصل إليها كل من أنكر اليوم الآخر؛ فعظمة الكون، وإبداع الخلق، والهدفيّة المتجليّة في كل صغير وكبير من هذا الوجود، كل ذلك يفقد معناه عندما نعتبر أنّ الدنيا هي نهاية المطاف.
إذا كان وجودي ينتهي بالموت، فلماذا أعيش ؟! هل يوجد في الحياة الدنيا ما يسوّغ الاستمرار فيها ؟! وماذا يعنى التزامنا بالمبادئ والقيم، وماذا يبقى من سلطة الالزام إذا ما أقصينا الدين ؟! وما مدى منطقية القول: هذا يجوز، وهذا لا يجوز ؟! نعم فبإمكانك أن تشكك في كل القيم، ويمكنك أن ترفض كل شيء، ويمكنك أن تفعل ما تشاء، لأن الدنيا هي نهاية المطاف. نعم سيكتشف الناس أن إنكار اليوم الآخر يُفرغ الحياة الدنيا من معناها، وعندها لا بد أن تكون السيادة للفلسفة العبثيّة، وعندها سيكون الانتحار هو الشجاعة التي تستند إلى العقل والمنطق، وسيكون الاستمرار هو الغباء الذي يورث الجبن والتردد.
حتى الآخرة تفقد معناها عندما يكون لها نهاية. ومن هنا كان الخلود من أكبر حقائق اليوم الآخر، بل إنّ الرغبة الملحة لدى الإنسان في البقاء والاستمرار لهي من أوضح حقائق النفس البشريّة، وكأنّه لا يصلح لعالم الخلود إلا من رُكّب فيه الميل إلى الخلود. وقد جاء الدين منسجماً مع حقائق الخلق، فكانت الآخرة من حقائق الوجود، وكان الخلود من حقائق الآخرة. وهنا يتحقق الانسجام الكامل في كل شيء، وبذلك تظهر الفلسفة الماديّة كعارض مرضي، وشذوذ تأباه البشريّة، لأنه يتناقض مع فطرتها. لذا سيبقى الإلحاد استثناءً غير قابل لأن يكون القاعدة.
من يقرأ القرآن الكريم يجد أنّ قضية اليوم الآخر تكاد تكون هي القضية الأولى، وتحظى بمساحة ضخمة في كتاب الله العزيز، ويكتشف أنّ صلاح الدنيا لا يكون إلا بالايمان بالآخرة، وأنّ صلاحها هو المقدمة الضرورية لصلاح الآخرة، ولا مجال للفصل بين العالمين، بل لقد باءت كل محاولات الفصل، عبر التاريخ البشري، بالإخفاق الذريع. وأبرز علامات هذا الإخفاق الإيمان بالعبثيّة، والشعور بفقدان الهدفيّة، وانهيار القيم الأخلاقية. وليس عجيباً بعد ذلك أن نسمع أنّ أعلى نسبة للانتحار في العالم هي في البلاد الاسكندنافيّة، والتي هي الأولى في مستوى الرفاه المادّي. وليس غريباً أيضاً أن نجد الجموح والتمرد يسودان في المجتمعات الغربية، التي سادت فيها، يوماً ما، فلسفة احتقار الدنيا، وانتشرت فيها الرهبنة وتقديس العزلة، التي عبّر عنها أصدق تعبير بعض كتّاب الغرب في تلك العصور عندما قال :" إنّ القديس فلاناً لم يرتكب إثم غسل الوجه ثلاثين عاما، وإنّ القديس فلاناً لم يرتكب إثم غسل الرجلين خمسين عاما، أمّا نحن، فواأسفاه، ندخل الحمّام كل يوم !".
تكرر (اليوم الآخر) في القرآن الكريم 26 مرّة. وتكررت كلمة الآخرة بمعنى اليوم الآخر 113 مرّة. وتكرر ( يوم الدين) 11 مرّة، وتكرر ( يوم القيامة) 70 مرّة. فكيف بنا إذا أحصينا أيضاً: يوم الحساب، ويوم التغابن، والصاخّة، والحاقة، والجنة، والنّار، …… وغير ذلك، من الألفاظ الدالّة على اليوم الآخر؟! في المقابل نريد من الذين قرأوا التوراة الحالية، والعهد القديم، أن يدلونا على نص واحد يُصرّح بعقيدة اليوم الآخر لدى اليهود. في حين نجد هناك أكثر من نص في الأناجيل المتداولة ينص على عقيدة اليوم الآخر. وهذا يعني أنّ قضية اليوم الآخر عند اليهود هي قضيّة اجتهاديّة. وبإمكانك بعد ذلك أن تفهم الكثير من مواقفهم وسلوكيّاتهم … !!
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الظّـــن ::
هل يستطيع العربي الفصيح أن يستوعب أنّ الظّن قد يأتي بمعنى اليقين؟ لا نظنّ ذلك. ولكنّ الكثير منّا قد يقبل هذا القول على مضض، لأن أهل التفسير يقولون بأن الظّن قد يرد أحياناً في القرآن الكريم بمعنى اليقين، ويستشهدون للتدليل على مذهبهم هذا بمثل قوله تعالى: " الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ". فلمّا قالوا إنّ العقيدة لا بد لها من جزم، ولما رأوا أنّ الإيمان لا بد أن يكون قاطعا، قادهم ذلك إلى حتمية القول بأن الظّن قد يأتي بمعنى اليقين. ولم يقولوا لنا لماذا شاء الله تعالى أن يقول: " يظنون" بدل "يوقنون" !!
يبدو أنّ الخطأ نتج عن زعمنا بأنّ العقيدة يجب أن تكون جازمة حتى ينجو المؤمن يوم القيامة. ولا ندري من أين جئنا بهذا الزعم في مواجهة آيات صريحة تَقبلُ من العبد أن يسلك وفق غلبة الظّن، وإلا فما معنى أنّ الإيمان يزيد وينقص؟ يقول الله تعالى: " وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً ". فمعلوم أن لا مجال للزيادة على ال 100% ولا مجال للنقصان. هذا إذا كان المطلوب هو الجزم القاطع. وهنا لا بد من لفت الانتباه إلى أنّ القرآن الكريم يُسمّي العقيدة إيماناً. وقد نزلت الرسالات لتبني الإيمان في النفوس ليبلغ الإنسان درجة اليقين. وعندما يتكلم القرآن الكريم عن وظيفة الرسالات المنزّلة يُذكِّر بالنتائج المرجو تحققها، والأدلة على ذلك في القرآن كثيرة، مثل قوله تعالى: " ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ. الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ. وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ". وهذا لا يعني إطلاقاً أنّ الذي أسلم نفسه لله تعالى، وهو في دائرة غلبة الظن، غير مقبول عند الله. بل إنّ الآيات الكريمة واضحة وصريحة في قبول من يسلك على ضوء غلبة الظن. والمشكلة هنا في تحكيم وجهة النظر السابقة في النص القرآني.
يقول سبحانه وتعالى: " إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ". فلا يصحّ في الدين أن يكون كلّ الظنّ إثماً، لأنّ هناك الكثير من المسائل في العقيدة والشريعة لا يمكن الوصول فيها إلى درجة اليقين؛ فلا بد عندها من الاستناد إلى الظن الغالب. والمقصود بالظن الغالب هنا هو الظن الذي يغلب الظنون الأخرى. وعليه فإذا كان الظن في مواجهة الدليل اليقيني فإنه يكون مذموما. وكذلك يُذم الظن في مواجهة غلبة الظن. انظر قوله تعالى: " إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً ". فلا قيمة للظن في مواجهة الحقيقة.
فرّق البعض بين العقيدة والشريعة فقالوا: إنّ العقيدة لا تثبت إلا بالدليل القطعي، أمّا الشريعة فتثبت بالدليل الظنّي. وعندما نبحث عن سند شرعي لهذا التفريق يصعب أن نجده. بل نجد أنّ الأحاديث الكثيرة تُثبتُ بأنّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، كان يبعث آحاد الناس لتعليم العقيدة والشريعة، ولم يكن يُفرّق؛ فلم نجده، مثلا، عند تعليم العقيدة يشترط، عليه السلام، الكثرة التي تبلغ حد التواتر. ويجدر هنا لفت الانتباه إلى أنّ كل حكم شرعي فيه جانب إخباري (عقيدة)، وفيه جانب تشريعي؛ فعندما نقول: " الصلاة فرض"، فإنّ هذه العبارة هي خبر يتضمن طلباً، فمن أنكر فرضيّة الصلاة كفر، ومن لم يُصلّ عصى.
وكما وقع أولئك في الخطأ فوصلوا إلى نتائج عجيبة، كذلك وقع خصومهم في خطأ أكبر عندما ذهبوا إلى أنّ العقيدة الجازمة تثبت بخبر الواحد، فقالوا إنّ خبر الواحد يوجب العلم، واستدلوا على ذلك بفعل الرسول، صلى الله عليه وسلم، فقد كان يبعث آحاد الناس ليعلموا العقيدة، وقد تواترت الأخبار بذلك. وفي الحقيقة أنّ فعل الرسول، صلى الله عليه وسلم، يُعتبر دليلاً على جواز أن يكون ناقل العقيدة والشريعة شخصاً واحدا، أو آحاداً من الناس، وأنّه يجوز لنا أن نُصدّق آحاد الناس، ولا فرق في ذلك بين عقيدة وشريعة. ولكن من أين لنا أنّ خبر الآحاد يوجب العلم الجازم، والله سبحانه وتعالى يقول: " وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُم..."، وهو القائل سبحانه: " وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَة..." ؟! والعجيب هنا أنهم لا يقبلون في إثبات دَيْن على مدين بشهادة رجل واحد، حتى ولو كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، ثم هم يوجبون التصديق الجازم بخبر رجل واحد أو امرأة واحدة في دِين يلتزمه المليارات من البشر إلى يوم القيامة.
هناك فرق بين التصديق ووجوب التصديق؛ فمن البدهي أنّه يجوز لنا أن نتتلمذ في العقيدة أو الشريعة على عالم واحد، أو على آحادٍ من العلماء، ولكن من قال بأننا ملزمون بتصديقه أو تصديقهم، في كل ما يقول أو يقولون، وعلى وجه الخصوص عندما يتعارض قولهم مع ظاهر القرآن الكريم، أو ظواهر الشريعة، أو بدهيّات العقول؟!
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الأقصى ::
لو سألت الياباني: أين تقع أمريكا بالنسبة لليابان؟ يغلب أن يكون الجواب: هي في الغرب. وخطأ هذه الإجابة واضح، لان أمريكا تقع شرق اليابان، لذا يسافر الياباني شرقاً ليصل إلى أمريكا، لأن طريق الغرب طويلة جداً. وعلى الرُّغم من ذلك فانّ الياباني يتعامل على أساس أنّ أمريكا هي غرب، وذلك لأن أمريكا تقع إلى الغرب من خط غرينتش، خط التأريخ الدولي، الذي اصطلح عليه عندما كانت بريطانيا دولة عظمى، وكان الشرق كله يعاني من التخلف والأميّة، وكانت بريطانيا في مركز القيادة العالمي. واليوم لا زال الغرب هو القائد والمسيطر، ولا يُتوقع أن يُغيّر العالم من اصطلاحات الغرب حتى تتغير موازين القوى، وحتى يتغيّر مركز الثقل على هذه الأرض.
من مقاصد الشريعة الإسلامية أن تتميز الأمة لتكون القدوة للبشرية، ولتتمكن من التأثير، من أجل التغيير الإيجابي، لإخراج الناس من الظلمات إلى النور. ويظهر هذا التميّز في أمور كثيرة، ومنها التميّز في المصطلحات. وقد سادت المصطلحات الإسلاميّة في العصور الذهبيّة للدولة الإسلاميّة وتعدّت حدود هذه الدولة. ولكن في الوقت الذي فقد فيه العالم الإسلامي مركز الصدارة تراجعت مصطلحاته، ولم تعد مستعملة من قبل الآخرين، بل لم يعد العالم الإسلامي يعتز بما لديه من مصطلحات، لأنه أصبح تابعاً ومقلداً. ويبدو أنّ هذه نتيجة حتمية للتخلف الذي أصاب المسلمين على مدى قرون من الزمن. في المقابل نجد أنّ العودة إلى الذات في العقود الأخيرة أحيت الكثير من المصطلحات، فعاد المسلم يعتز بذاته الحضاريّة بعد أن كان مسلوب الإرادة أمام بريق الآخرين.
عندما نزل قوله تعالى: " سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى …" كانت مراكز القوى تتمثل في بلاد فارس، وبلاد الرومان. ولا شك أنّ مسجد بيت المقدس كان أقرب إلى بلاد الرومان من المسجد الحرام، إلا أنّ القرآن اعتبره المسجد الأقصى، وفي ذلك إشارة إلى أنّ مكة المكرّمة هي المقياس المرجع، الذي يجب أن نقيس عليه، وأن نرجع عند القياس إليه. ومعلوم أنّ المساجد التي تشدّ إليها الرحال في الدين الإسلامي هي: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، والمسجد النبوي، الذي يقع بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى. وقد ذكر بعض العلماء أنّ تسمية مسجد بيت المقدس بالمسجد الأقصى فيه إشارة إلى أنّ المسجد النبوي سيُبنى، على اعتبار أنّ ذكر الأقصى يُشير إلى القصيّ، كما تشير كلمة الأبعد إلى البعيد. أي أنّ هذه التسمية الربّانيّة تتضمن خبراً غيبياً.
إذا فُهم هذا سيكون من السهل علينا أن نفهم عبارة: " أدنى الأرض " في قوله تعالى من سورة الروم: " غُلبت الرومُ في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين…"؛ فقد كانت هزيمة الروم في أدنى الأرض، هذا بالنسبة إلى جزيرة العرب؛ حيث كانت بلاد الروم مترامية الأطراف شاسعة المساحات، إلا أنّ هزيمتها المشار إليها كانت في بلاد الشام، أي في أدنى الأراضي التي يسيطر عليها الرومان بالنسبة إلى جزيرة العرب. بهذا يتّضح أنّ القرآن الكريم يجعل من مكة، وما يحيط بها من جزيرة العرب، المكان الذي يرجع إليه، أي هو المكان الذي يجب أن تكون له المركزية في فكر المسلم، وضميره، وحِسِّه، وواقعه، ومصطلحاته. وعلى أية حال لا يكون هذا واقعاً حتى تتغير أمور كثيرة.والمراقب للتطورات الفكرية والاجتماعية في العالم العربي والإسلامي يلاحظ المؤشرات الكثيرة التي تُعلن عن عودة الأمّة إلى ذاتها وحضارتها.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: المسجد الأقـصـى ::
في المقال السابق تناولنا بعض أسرار اسم الأقصى، وما نهدف إليه في هذا المقال أن نلقي الأضواء على مساحة المسجد الأقصى، والذي دفعنا إلى هذا ما يتردد تصحيحاً لأوهام النّاس، بأن الأقصى هو البناء الجنوبي، وليس قبة الصّخرة. وهذا الأسلوب في تصحيح الخطأ يوقع الناس في بلبلة واضطراب، إضافة إلى أنّه يجافي الحقيقة، لأن المسجد الأقصى هو تلك المساحة التي تقارب ال (144) دونما، وهي المساحة المحاطة بحلقة من الأبنية، والتي تشكّل مع السّور حدود المسجد الأقصى. وتشمل هذه المساحة، كما هو معروف، بناء قبة الصّخرة، والبناء الجنوبي، المسمّى بالأقصى. وأية مساحة تضاف مستقبلاً تأخذ حكم المسجد الأقصى.
ومعلوم في التاريخ الإسلامي أنّ عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، هو أول من أنشأ بناءً في القسم الجنوبي من الأقصى. أمّا لماذا في أقصى الجنوب، فهذا واضح، لأنّ القبلة هي في الاتجاه الجنوبي من فلسطين، ومعلوم أنّ الإمام يقف في مقدمة المسجد ثم تكون الصفوف من خلفه متكاملة نحو الشمال. وعليه لا لا بد من أن يكون محراب الإمام في أقصى الجنوب، وغير هذا يعني إلغاء جزء من مسجِديّة المسجد. من هنا وجدنا العامّة تسمي البناء الجنوبي بالأقصى، مع علم الجميع بأنّ اسم الأقصى يطلق على الكل، ولا إشكال في إطلاق الاسم على الجزء. وعليه تكون قبة الصّخرة جزءاً لا يتجزأ من الأقصى، وهذا معلوم بداهة. ولكن قد يتوهم من لم يعش في فلسطين أنّ الأقصى ينحصر في قبة الصّخرة، وقد يتوهم آخرون بأن الأقصى ينحصر في البناء الجنوبي.
ولكن هل هناك خصوصية لصخرة بيت المقدس تجعلها متميّزة دينياً على باقي أرجاء المسجد الأقصى ؟
لقد نُسجت حول الصّخرة الأساطير الكثيرة، روجها بعض العلماء قبل أنّ يروجها العامّة. وقد ساعد عدم وجود أحاديث صحيحة حول خصوصية الصّخرة في ذهاب الخيال مذاهب كثيرة، بل لقد اتُخذت الصّخرة في عصور الجهل قبلة في الصلاة، وطاف بها عوام المسلمين كما يطوفون بالكعبة، وتقرّبوا إليها بأنواع القربات، مما جعل العلماء المحققين يجهرون بأنّه لم يصح شيء عن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا عن الصحابة الكرام، يدل على خصوصية الصّخرة، وبالتالي يحرم شرعاً أن تُخَصّ بطواف أو ذبح، ويحرم تعمّد اتخاذها قبلة.
بعد كل ما ذكر يبقى السؤال الكبير الذي يحتاج إلى إجابة مقنعة وهو: إذا لم يكن للصخرة خصوصية بالنسبة إلى باقي المسجد، فلماذا أقام عبد الملك بن مروان هذا البناء البديع، المسمّى قبة الصّخرة؟! ومعلوم أنّ عبد الملك بن مروان هو من التابعين الذين عاصروا الصحابة الكرام، وكان من فقهاء المدينة، ومن هنا نجد أنه قد بادر إلى بناء قبة الصّخرة قبل أن يبدأ ببناء الأقصى الجنوبي. وهذا يدل على معرفته بمقام هذه الصّخرة، ووجود البناء يُغني عن كثير من الكلام، كيف لا والكل يجمع على شخوصها لأكثر من ألف وثلاثمائة وخمسين سنة. فهي الشاهد الماثل في الحس، الذي يُغني عن قيل وقال، كما أغنت الأبنيّة المحددة لساحات المسجد الأقصى عن حاجتنا إلى الأسانيد التي تحدد لنا الأطوال والمساحات، وهذا في علم التاريخ أبلغ من كل الروايات.
لقد دفعت بدع العوام بعض العلماء إلى المبالغة في الرّد، إلى درجة الذهول عن معنى بناء قبة الصّخرة في عصر التابعين المعاصرين للصحابة الكرام، بل إنّ بعض كبار العلماء يذهب به رفضه لبدع العوام إلى أن يقبل الرواية التي زعمت أنّ عبد الملك بن مروان بنى قبة الصّخرة ليصرف الناس عن الكعبة المشرّفة. والغريب أنّهم يقبلون مثل هذه المزاعم من غير أن يطلبوا الدليل على صدق الرواية، وهم يعلمون أنّ أعداء بني أميّة قد أكثروا في ذمّهم، والكذب في حقهم، وللكذب علامات لا تخفى على الباحث.
قال ابن كثير في تفسير الآية 142 من سورة البقرة: " سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها..". "وحاصل الأمر أنه قد كان رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أُمر باستقبال الصخرة من بيت المقدس… قاله ابن عباس والجمهور". وعليه فإننا نستطيع أن نقدّر بأنّ الصّخرة هي ثاني بيت وضع للناس، ثم اتسعت المساحات من حولها، كما هو في الكعبة أول بيت عَبد فيه الناس رب العالمين. ولنا زيادة على هذا التقدير أدلة قرآنية على أنّ كهف الصّخرة هو كهف أصحاب الكهف، ولعلنا نبسط هذا الأمر في مقام آخر إن شاء الله.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الـروم ::
سورة الروم سورة مكيّة، نزلت قبل الهجرة بأشهر، هي أقل من سنة. وتستهل السورة الكريمة بالإعلان عن هزيمة دولة عظمى، هي دولة الروم: " غُلبت الروم في أدنى الأرض... ". ولم تصرح الآيات باسم دولة الفرس التي غلبت الروم، لأن المهم هنا الحديث عن دولة الروم، حتى ولو كانت هي الطرف الضعيف المهزوم. فالحديث عن الحاضر ينبغي أن يكون من أجل استشراف المستقبل، والمستقبل يكشف عنه قول الحكيم العليم: " وهم من بعد غلبهم سيغلبون ". أمّا دولة الفرس فعلم المستقبل يقول إنها دولة ستؤول إلى السقوط، ثم تتلاشى، بعد أن يتحول شعبها إلى الإسلام. وإذا كانت المعارك قد دارت قريباً من جزيرة العرب: " في أدنى الأرض "، فإن علم المستقبل يقول إنها ستدور مرّة أخرى، في زمن قريب: " في بضع سنين ".
أليس عجيباً أن يُلفت انتباه القلة المؤمنة المضطهدة في مكة إلى الصراع القائم بين الدول العظمى، وإلى التحولات السريعة في الأحداث ؟! أليس عجيباً أيضاً أن يُشدّ انتباه هذه القلّة، لبضع سنين قادمة، إلى خارج الجزيرة العربيّة، لتراقب وترقب الصراعات الدّولية ؟! نعم، ونزداد عجباً عندما نعلم أنّ هذه القلّة توشك أن تهاجر إلى المدينة المنورة، لتبني دولة ومجتمعاً فاضلاً، لا يلبث أن يحمل رسالة عالميّة، ولا يلبث أن يُسقِط كل هذه القوى المتصارعة، ليؤسس حضارة تدوم وتدوم.
ما الحكمة وراء هذا التزامن العجيب: " ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله " ؟! فانتصار المسلمين ببدر يزامنه انتصار الروم على الفرس. ألا يوحي هذا بأنّ خارطة الصراع توشك أن تتبدل ؟! واللافت أنّ الآيات الكريمة تتجاوز الواقع المؤلم للقلة المؤمنة، والمضطهدة، وتشدّها إلى البعد الغيبي لحركة عالم الشهادة، إلى الأفق البعيد زماناً ومكانا. وهذا هو ما يليق بعقيدة هذه القلّة، ورسالتها. ولا شك أنّ هذا في حينه لا يفهم من قبل جماهير الوثنيين، الذين يفقدون البعد الغيبي، الذي تنزّلت به الرسالة الإسلامية.
أنت يا من تقرأ هذه السّطور، وتعيش بعد قرون من الحدث، وقد وقرأتَ السيرة النبويّة، قف قليلاً وتدبّر هذه الآية، التي تُختم بها سورة الروم المكيّة: " فاصبر إنّ وعد الله حق، ولا يستخفّنّك الذين لا يوقنون ". تدبّر هذه الآية ثمّ انظر واقع الإعلام الرسمي العربي ودوره في إحباط الأمّة، واستمع إلى خطابات الملوك والزعماء وتصريحاتهم. فإن كان بإمكانك أن تصدقهم لحظات، فسوف تشعر بخفة وزنك، وانعدام شعورك بذاتيتك، وعندها لا يحتاج عدوك إلى عاصفة الصحراء، لأنّ النسيم يكفي.
جاء في الحديث الشريف المروي في صحيح مسلم: " تقوم الساعة والروم أكثر الناس ". وإذا عرفنا أنّ الأحاديث الشريفة تنص على أنّ السّاعة تقوم على شرار النّاس، علمنا أنّ أكثر الشر يوجد في الروم. والعجيب أنّ المسيحيّة المنتشرة بينهم تقول: " من ضربك على خدك الأيمن فأدر له الأيسر، ومن نازعك ثوبك فدعه له ". وتقول: " أحبّوا مبغضيكم، باركوا لاعنيكم ". ثم هم أشدّ الناس قسوة، وأكثرهم بطشاً بالأمم الضعيفة، يبنون أبراجهم من جماجم الفقراء، لا يملّون من التآمر، ولا يكلّون من كثرة القتل، ثم هم أكثر النّاس تبجُّحاً بحضارتهم، وقيمهم الإنسانية، بزعمهم. فلا عجب بعد ذلك وغيره أن تقوم السّاعة والروم أكثر النّاس.
ماذا كانت تملك دولة فارس عندما انتصرت بجحافلها الهائلة غير فلسفة مزدك الإباحيّة؟! وكيف لمثل هذا النصر أن يدوم أكثر من بضع سنين؟! وماذا كانت تملك إمبراطورية الرومان وهي تواجه بجيوشها الجرارة القلّة المؤمنة من صحابة رسول الله، صلى الله عليه وسلم ؟!
واليوم إذا استثنينا العلم والتكنولوجيا، وسألنا ماذا قدّمت الحضارة الغربيّة للبشرية ؟! نعم، إذا استثنينا ما هو عام وعالمي، وسألنا: ماذا يمكن أن تُقدِّم الخصوصيّة الغربية للبشرية ؟! ماذا عسى أن تكون إجابة رجل مثل بِرلسكوني، الرئيس الإيطالي، الذي تغنّى مؤخراً بقيم بالحضارة الغربيّة؟ إنّ ما يحدث اليوم في أفغانستان وغيرها لهو شاهد على إفلاس هذه الحضارة الغربية وأُفولها، والمستقبل كفيل بإثبات ذلك.[1]
--------------------------------------------------------------------------------
[1] المقصود ما حصل عند احتلال أفغانستان بعد أحداث 11 سبتمبر المشهورة.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: أم القـرى ::
جاء في الآية 92 من سورة الأنعام: " وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه، ولتنذر أم القرى ومن حولها...". وجاء في الآية 7 من سورة الشورى: " وكذلك أوحينا إليك قرآناً عربياً لتنذر أمّ القرى ومن حولها... " واضح أنّ أم القرى هنا هي مكة. وقد يقال إنّ المقصود بذلك أنها العاصمة بمفهومنا المعاصر. وإذا علمنا بأنّ القرآن الكريم قد نزل إلى البشرية جمعاء، أصبح من المحتمل أن يكون المقصود بمن حولها: مجموع الناس. وقد سبق أن بيّنا في مقام آخر أنّ القرآن الكريم يجعل من مكة البؤرة والمركز، والمكان الذي ينسب إليه، ويقاس عليه، غيره من الأمكنة؛ فالمسجد الأقصى هو الأقصى بالنسبة إلى مكة، أمّا القصي فهو المسجد النبوي. وعليه يصح أن يكون المقصود بمن حولها: مجموع البشريّة. وإذا كان هذا صحيحاً فما المقصود بأم القرى ؟
القَرْيُ: هو الجمع. ولما كان الناس يجتمعون في صيغة شعوب وقبائل، فقد سمّيت مجموعاتهم هذه قرى، وسمّيت كل مجموعة قرية. فالقرية إذن تعبر عن الاجتماع البشري. ولما كان هذا الاجتماع لا بد أن يكون في مكان، فصحّ أن يسمى مكان الاجتماع قرية. جاء في الآية 59 من سورة الكهف: " وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا " : إنّ المقصود هنا أهل القرى، لأنّ القرى تطلق، كما قلنا، على الاجتماع البشري، وعلى مكان الاجتماع أيضاً. وعليه يحتمل أن يكون المقصود بأم القرى: أم الأمم. ومعلوم أنّ الأم هي الأصل الذي يصدر عنه الفرع. وهذا يقودنا إلى القول بأنّ مكة هي المكان الذي خرج منه الناس إلى بقاع الأرض المختلفة، أي أنّ مكة هي أول مكانٍ اجتمع فيه البشر، ومنه صدروا، وذلك بعد أن تكاثروا. وقد يعني هذا أنّ مكة هي أول نقطة التقاءٍ للبشريةِ بالأرض. ويبدو أنها كانت المكان الذي نزل فيه آدم، عليه السلام، أول ما نزل.
جاء في الآية 96 من سورة آل عمران: " إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين ". إذا كان أول بيت وُضِع، ليتعبّد فيه الناس، هو المسجد الحرام في مكة، فإنّ ذلك يعني أنّه مُغرق في القدم، والأقرب أن يكون قد وضع للناس في فجر البشرية، لأنه بعيد في العقل أن يبقى الناس فترة طويلة من الزمن لا يجتمعون في مكان يجمعهم على عبادة الله، وعلى وجه الخصوص عندما نعلم بأنّ آدم، عليه السلام، كان نبياً، فهذا يعني أنّ البشرية قد بدأت مسيرتها في الأرض وهي تعرف الخالق وتعبده، ثم كانت الانحرافات بعد فترة من الزمن، فبعث الله سبحانه وتعالى نوحاً، عليه السلام، فكان أول رسول للناس.
فإن قيل إنّ قلة عدد الناس، في البداية، لا يحتم وجود مكان يجمعهم للعبادة، بل لا ضرورة لذلك. قلنا نعم هذا ممكن، ولكن إذا عرفنا أنّ مساحة الكعبة من الداخل لا يزيد كثيراً عن (80 متراً مربعاً ) وإذا أدخلنا ( الحِجر ) فقد لا تتجاوز (100متر مربع). وعليه فكم يمكن أن يكون عدد الذين يحتشدون في مثل هذه المساحة من أجل أداء العبادة ؟. ولا يتوقع أن تكون أول عبادة على صيغة طواف، وإلا فما معنى المساحة الداخلية، وما معنى أنه مسجد ؟ وقد سئل الرسول، صلى الله عليه وسلم، كما جاء في الحديث الصحيح، عن أول بيت وضع للناس فقال، عليه السلام: المسجد الحرام. قيل: ثم أي ؟ قال: المسجد الأقصى… ومعلوم أنّ المسجد الأقصى لا طواف عنده.
" إنّ أول بيت وُضِع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين ". لفظة: (وُضع) تدل على أنّ الأمر كان بوحي سماوي، وتكليف ربّاني. أما لفظة: (بيت) فتدل على أنّ العبادة في البداية كانت في داخله. وأما لفظة: ( للناس) فتشير إلى أنّه وضع لجميع الناس. وإذا كانت مساحة البيت هي ما ذكرناه آنفا، فانّ هذا يشير إلى عدد الناس القليل، مما يدل على أنّه قد وضع في فجر البشرية، أما جملة: " للذي ببكة مباركاً" فلها مقام آخر، إن شاء الله تعالى؟ وأما جملة: " وهدى للعالمين " فتؤكد أنّه وضع لجميع البشر. وإذا كان صحيحاً ما توصلنا إليه، من أنّ مكة هي أول مكان أقام فيه البشر وجودهم الاجتماعي، أفلا يصبح فهمنا للأمور الآتية أكثر وضوحاً :
أولا: أنّ حج الناس كل الناس يجب أن يكون إلى مكة.
ثانيا: أن أذان إبراهيم، عليه السلام، بالحج كان من مكة، وإلى الناس في كل مكان، كما توحي الآيات الكريمة من سورة الحج.
ثالثا: أنّ فريضة الحج يُخاطب بها الناس، في حين أنّ أركان الإسلام الأخرى يُخاطب بها المؤمنون. وأنّ أعلى نسبة تكرار لكلمة الناس هي في سورة الناس، ثم سورة الحج.
رابعا: أنّ لباس الحاج يكون بسيطاً بحيث يلغي الفوارق، فيعود الناس كما كانوا في أول اجتماع لهم على الأرض، فيذكرهم ذلك بأخوتهم الإنسانيّة.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
بنو إسرائيــل ::
إسرائيل: هو نبي الله يعقوب، عليه السّلام. وبنوه هم أصحاب القصة التي فُصّلت في سورة يوسف، ويوسف، عليه السلام، هو واحد منهم، وهم الذين سمّوا بالأسباط، وقصتهم الواردة في القرآن الكريم تبين أنهم سكنوا مصر قبل وفاة والدهم، عليه السلام. وبعد ما يقارب 450 سنة، بُعث موسى، عليه السلام، لينقذهم من ظلم واضطهاد الفراعنة، ومن هنا بدأت العلاقة بين بني إسرائيل واليهوديّة. واستمرت هذه العلاقة لقرون، بين مد وجزر، إلى أن انتهت واقعياً بفك الارتباط بين اليهودية وبني إسرائيل؛ فبعد أن كانت اليهودية تنحصر في بني إسرائيل أصبحت الغالبية العظمى من اليهود تنتمي إلى أجناس وقوميّات مختلفة.
بعد وفاة سليمان، عليه السلام، (953 ق.م)، انقسمت الدولة اليهودية إلى دولتين: إسرائيل في الشمال، ويهوذا في الجنوب. وكان شعب دولة إسرائيل يتألف من أحفاد عشرة من أبناء يعقوب، عليه السلام، كما يذكر العهد القديم. أمّا دولة يهوذا فشعبها هم أحفاد اثنين من أبنائه، عليه السّلام. وكان بين الدولتين حروب وأحقاد، واستشرى فيهما الفساد، وعمّت الانحرافات، إلى درجة أنهم ارتدّوا إلى الوثنية وعبادة الأصنام، واستمرّوا في ذلك حتى لاقوا مصيرهم المحتوم بغزو الآشوريين للدولة الشمالية عام (722 ق.م)، فجرى سبي الشعب بكامله إلى العراق، وبذلك أسدل الستار على علاقة عشرة أسباط بالديانة اليهوديّة، ولم يعودوا يهوداً، فقد انخرطوا في الشعب الغازي وتأثروا بعقائده، وذابوا فيه.
أما الدولة الجنوبيّة فقد قام الملك البابلي نبوخذ نصّر بغزوها وتدميرها عام (586 ق.م )، وسبى من بقي منهم حيّاً إلى العراق أيضا. وبعد مضي سبعين سنة على هذا الحدث عادت قِلّة من هؤلاء المسبيين إلى فلسطين، وذلك في عهد الملك كورش الفارسي. وقد اضطرت هذه القّلة أن تُكثّر عددها بإدخال جزء من أهل البلاد إلى اليهوديّة، وبذلك بدأت اليهودية تنتشر بين من هم من غير بني إسرائيل، واستمر ذلك إلى أن جاء السبي الروماني في العام (70 م)، والعام (135م)؛ فشُتّت شمل اليهود في أرجاء العالم، مما أدّى إلى ذوبانهم في الأمم. في المقابل كان هناك من الشعوب من تهوّد، كما حصل في مملكة بحر الخزر، والتي دامت من عام (860-1016م). وكما حصل من تَهوّد بعض قبائل العرب وغيرهم. واستمر الخروج من اليهوديّة والدخول فيها عبر القرون مما أدّى إلى انفكاك العلاقة بين اليهودية كدين وبين بني إسرائيل كعنصر. وتستطيع أن تقول اليوم إنّ الغالبية العظمى من بني إسرائيل القدماء قد تحوّلوا إلى الإسلام، أمّا البقية الباقية فتحوّل معظمها إلى المسيحيّة. من هنا لا صحة اليوم للادعاءات التي تزعم وجوداً تاريخياً لقومية يهودية في فلسطين، لأن اليهوديّة هي دين اعتنقته شعوب مختلفة. وكلامنا هذا لا يعني أنّه لا يوجد في يهود اليوم من له علاقة نسب ببني إسرائيل القدماء، وعلى وجه الخصوص أحفاد أولئك الذين كانوا في الجزيرة العربية زمن نزول الرسالة الإسلاميّة، والذين تحوّل عدد منهم، عبر العصور، إلى الإسلام وآخرون إلى المسيحيّة.
واليوم يتكرر في وسائل الإعلام الإسرائيلية أخبار البعثات اليهودية التي تسافر إلى أفغانستان للبحث عن أحفاد دولة إسرائيل الأولى، اعتقاداً منهم بأنّ الأغلبية العظمى من الشعب الأفغاني، أي قبائل البشتون، هم الأسباط العشرة الضائعة. ومعلوم أنّ هؤلاء من المسلمين السنّة، ولا يبعد أن يكون لهم في المستقبل دور في تحرير فلسطين من سلطان الصهيونية، ليعلم الناس أنّ العقائد والفلسفات هي التي تصنع الأمم والجماعات، وأنّ العنصريّات تقوم على الأوهام، وأنّ الصراع في جوهره هو بين الحق والباطل. وإذا كانت إسرائيل الأولى تضم شعباً متجانساً من الناحية العِرقيّة، فإن إسرائيل اليوم تتألف من سبعين قوميّة يتكلمون تسعين لغة.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الشـجرة الملـعـونـة ::
قال تعالى في سورة الإسراء، الآية 60: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس، والشجرةَ الملعونةَ في القرآن ".
يرى جماهير المفسرين أنّ الشجرة الملعونة هنا هي شجرة الزقّوم. أما الشيعة فإنهم يذهبون إلى أنّ الشجرة الملعونة هم بنو أمية، ويستندون في ذلك إلى حديث شريف ينص على: " أنّ الرسول، صلى الله عليه وسلم، قد رأى في المنام بني الحكم، أو بني العاص، يَنزون على منبره كما تنزو القرود، فأصبح كالمتغيظ...". والتشيّع واضح في الربط بين هذا الحديث والآية الكريمة. وفي الوقت الذي نجد فيه مفسراً شيعيّاً معاصراً كالطباطبائي، صاحب تفسير الميزان، يُقوّي هذا القول عند تفسيره للآية الكريمة، نجد أنّ الطبرسي، صاحب تفسير مجمع البيان، وهو من كبار علماء الشيعة في القرن السادس الهجري، يجعل هذا التفسير قولاً ثالثاً.
الملاحظ أنّ القرآن الكريم لم يلعن شجرة الزقّوم، وبالتالي كيف يمكننا أن نقول إنها الشجرة الملعونة ؟. لذلك قال بعض المفسرين إنّ المقصود بالملعونة أي الملعون آكلها. وهذا تقدير تأباه اللغة العربيّة، ثم إنّ اللعن، الذي هو الطرد من الرحمة، لا يكون إلا للمكلفين، والشجرة، كما هو معلوم، غير مكلفة، ولم ترتكب جُرماً حتى تُلعن. وقال البعض إنّ الشجرة هي وسيلة لتعذيب الكفار ومن هنا جاء اللعن. وهذا المعنى تأباه اللغة، ويأباه العقل، ويأباه النص القرآني، لأنّ خزنة جهنم هم من الملائكة، ولا يتصور لعنهم لمجرد أنّ لهم علاقة بتعذيب الكفار. وعليه نرى أنّ آراء جماهير المفسرين مضطربة عند القول بأنّ الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم المذكورة في القرآن الكريم. وما نجده اليوم في كتب التفسير هو نوع من متابعة بعض المفسّرين لبعض.
الماوردي من أشهر علماء القرن الخامس الهجري، وله تفسير (النكت والعيون)، ويتميز بجمعه لآراء المفسرين على صورة سهلة ومختصرة. وهو يورد في الشجرة الملعونة أربعة أقوال، ويجعل القول الرابع في القوم الذين يصعدون منبر الرسول، صلى الله عليه وسلم. أما القول الثالث فيقول فيه: " أنهم اليهود تظاهروا على رسول الله مع الأحزاب، قاله ابن بحر ". أما كيف يمكن أن يكون النسل شجرة ؟! فنجد الماوردي يقول: " والشجرة كناية عن المرأة، والجماعة أولاد المرأة كالأغصان للشجرة ". فالنسل هو في حقيقته شجرة نامية ومتفرعة. وإنّ كل ما يقوم على أصل اعتقادي، ويتفرع عن هذا الأصل، هو في حقيقته شجرة. والقرآن الكريم مثّل الكلمة الطيبة، والتي هي الإسلام، بالشجرة الطيبة. وشبّه الكلمة الخبيثة بالشجرة الخبيثة. وإذا كان اليهود هم الشجرة الملعونة في القرآن، فهذا يكون على اعتبار أنهم يلتقون في أصل اعتقادي، ولا يصح أن تكون اليهوديّة قائمة على النسل، لأنّ اليهودي في الحقيقة هو الذي يؤمن بالأصول اليهوديّة؛ في الاعتقاد والتشريع، والأخلاق. والعدل يقتضي أن يكون اللعن نتيجة لممارسة الفرد أو الأمة لأمر اختياري.
الذي يُرجِّح أنّ المقصود بالشجرة الملعونة هم اليهود، أمور منها:
أولاً: إنّ الآية التي نحن بصددها هي في سورة الإسراء، والتي تسمى أيضاً سورة بني إسرائيل، وهي تتحدث عن إفساد اليهود في الأرض المباركة. وتُسْتَهل السورة بنبوءة مستقبلية تتحدث عن إفساد اليهود في الأرض المباركة. ويرد الكلام عن هذا الإفساد في خواتيم السورة أيضاً، مما يشير إلى مركزية هذا الحدث في السورة، التي تسمى الإسراء، وفي هذا إشارة إلى المسجد الأقصى. أمّا تسمية سورة بني إسرائيل فتشير إلى الإفساد. وعليه لا يبعد أن تكون الرؤيا تتعلق بهذه القضية المحورية في السورة.
ثانياّ: طريقة كتابة كلمة الرؤيا في قوله تعالى: " وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس والشجرة الملعونة…"، تُرجّح أنها رؤيا منامية. ولو كانت رؤية بصرية لكتبت هكذا: رؤية. وقد نقل عن ابن عباس، وسعيد بن جبير، والحسن، وقتادة، ومجاهد: أنّ ما رآه الرسول، صلى الله عليه وسلم، ليلة الإسراء والمعراج هو الرؤيا المذكورة في هذه الآية. وبما أنها تمت ليلاً، وتحدث عنها الرسول، صلى الله عليه وسلم، عندما أصبح، فقد سمّاها القرآن الكريم رؤيا. وهي أيضاً فتنة للناس الذين كذبوا خبر الرسول، عليه السلام. والذي نراه أنّ المسألة لا تتعلق بالرؤية البصريّة، أو المناميّة، وإنما تتعلق بالأمر الذي رآه الرسول، عليه السلام؛ فإذا كان قد رأى ببصره أموراً واقعة فهي إذن رؤية. وإذا كان قد رأى أموراً ستقع في المستقبل فهي رؤيا؛ لأنها غير موجودة في الحال وإنما في الاستقبال. وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا في سورة الإسراء: " لنريه من آياتنا..." وفي سورة النجم:" لقد رأى من آيات ربه الكبرى …". على ضوء هذا لا يوجد ما ينفي احتمال أن يكون ما رآه الرسول، عليه السلام، من أمور مستقبلية كانت تتعلق بسيطرة اليهود على المسجد الأقصى، وعلى الأرض المباركة، والتي هي عقر دار الإسلام، وتتعلّق أيضاً بسيطرة هذه الشجرة الخبيثة على المستوى العالمي، وذلك في المرحلة الزمنيّة نفسها. ولا شك أنّ ذلك يُحزن الرسول، صلى الله عليه وسلم، فكانت التعزية له، عليه السلام، أن قيل له: " وإذ قلنا لك إنّ ربك أحاط بالناس "؛ فمقاليد الأمور هي بيد الله، أما ما رأيتَه يا محمد من سيطرة هؤلاء فهو نوع من الفتنة للبشر، وما رأيتَه فهو في حقيقته الشجرة الملعونة، وبالتالي لن تكون لها ثمار ممتدة، بل إنّ هذه السيطرة العارضة محكوم عليها بالإخفاق، وهي مطاردة باللعن الإلهي. وهذا يعني أنّ سيطرة اليهود في أيامنا هذه تنحصر في كونها فتنة أرادها الله لتمحيص الناس، وهي سيطرة الشجرة الملعونة، التي هي شجرة خبيثة، جذورها واهية، وثمارها غير مباركة، ومن هنا يسهل على أهل الحق أن يَجتثّوها، وأن يقوا الناس من آثارها الخبيثة.
ثالثاً: يقول تعالى: " الشجرة الملعونة في القرآن ". وهذا يعني أنّه لا بد أن نجد لعنها في القرآن. وبالرجوع إلى ألفاظ اللعن في القرآن الكريم نجد أنّ لَعَنَ ومشتقاتها قد وردت (41) مرة. ولوحظ أنّ منها (18) مرة وقع فيها لعن اليهود على وجه الخصوص، ولم يشترك غيرهم معهم في هذه اللعنات. أمّا باقي اللعنات، فإنها كانت للكافرين، أو الظالمين، أو الكاذبين… ولا شكّ أنّ اليهود يشتركون في هذه الصفات مع غيرهم. وعليه ألا تكون هذه الملاحظة الإحصائية مؤشراً على أنّ اليهود هم الشجرة الملعونة في القرآن؟ ولا ننسى أنّ الكثير من الأفكار والمذاهب والمدارس المنحرفة هي من صنع اليهود، أو هي متأثّرة بعقائدهم؛ كالماركسية، والوجودية، والماسونية… والمستهدف بهذه الأفكار والمذاهب هم البشر، الذين نزلت رسالات السماء رحمة بهم. أفلا يستحق اللعنة كل من نصّب نفسه عدواً لله ولرسالاته، وعدواً للحق والعدل ؟! ألم يخبرنا الواقع بأنّ هذا هو مسلك اليهود عبر العصور المختلفة وإلى يومنا هذا ؟! بل إنّ القرآن الكريم ينص على أنّ هذا سيكون مسلكهم إلى يوم القيامة.
"وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس، والشجرة الملعونة في القرآن". فسّر العلماء الآيةَ على أساس أنّ الرؤيا شيء، والشجرة الملعونة شيء آخر. والمعنى عندهم: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس، وكذلك الشجرة الملعونة فتنة أيضاً. وهذا الوجه تحتمله اللغة، والذي نراه أقرب إلى ظاهر النص أن يكون المعنى: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس، وجعلناها أيضاً الشجرة الملعونة، التي يرد لعنها في القرآن. وهذا يعني أنّ الرؤيا هنا يقصد بها الشيء المرئي، أي موضوع الرؤيا. وعلى هذا يكون ما رآه الرسول، صلى الله عليه وسلم، من أمر هو في واقعه فتنة للناس وابتلاء لهم، وهو عند الله شجرة ملعونة، وهذا اللعن حكم به الله تعالى في القرآن الكريم. وفي رأينا أنّ اليهود هم فتنة للناس على مر العصور، وهم أيضاً شجرة ملعونة محكوم أن لا تثمر جهودهم ثمراً يدوم ويستمر، وهذا من رحمة الله بعباده. وحتى يتّضح المعنى بشكل أفضل نقول: وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنةً للناس وشجرةً ملعونة في القرآن الكريم. أما إضافة (ال) إلى كلمتي: ( شجرة و ملعونة) فإنها تعني أنّ هذه هي الشجرة الوحيدة الملعونة في القرآن الكريم، أمّا لعن باقي الظالمين، أو الكافرين، أو الكاذبين، فقد ورد دون أن ينسب أصحاب هذه الصفات إلى شجرة.
بالرجوع إلى واقعنا المعاصر يمكن أن نستفيد من تدبّر هذه الآية الأمور الآتية :
أولاً :إنّ سيطرة اليهود في فلسطين، وكذلك سيطرتهم على المستوى العالمي، ما هي إلا فتنة وابتلاء وتمحيص للناس. ومعلوم أنّ الفتن يقصد منها أن يتميّز الناس في مواقفهم، ولا بد أن ينتج عن هذا واقع أفضل، فالفتن هي قانون في التغيير.
ثانياً: إنّ المذاهب والفلسفات المنبثقة عن اليهوديّة، والتي حاولت وتحاول أن تفسد المجتمعات البشرية، لا بد أن تتلاشى. والماركسيّة من أوضح الأمثلة على ذلك.
ثالثاً: إذا كان الإسلام شجرة مباركة، وكانت اليهودية شجرة ملعونة، فإنّ هذا يعني أنّ العقبات التي يُقيمها اليهود في طريق المسلمين، هي من ضرورات هذا الطريق الحق، ولكن لا بد في النهاية من ثمار طيبة تطرحها شجرة الإسلام المباركة. أمّا الثمار الخبيثة للشجرة الملعونة فإن الفطرة البشرية تأباها وتمجّها.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
:: الســّامري ::
ورد اسم السّامري في القرآن الكريم ثلاث مرّات، وذلك في سورة طه. وقد اختلف في معنى هذا الاسم، ويرجح لدينا أنّه نسبة إلى (شومير) والذي يعني بالعبريّة الحفظ والحراسة. هذا يجعل من المحتمل أن يكون السّامري أحد كبار الكهنة، ومن حرّاس وحفظة العقيدة الوثنيّة. وإذا كان الاسم نسبة إلى (سامر) العربيّة، والتي تعني الساهر، فإنها تلتقي في مآل المعنى مع شومير، التي تعني الحراسة. وأمثال هؤلاء الكهنة والحراس يكون لديهم العلوم والقدرات التي تميّزهم على أهل عصرهم، ويغلب أن تكون لديهم قدرات قيادية. وقد يفسر هذا السرعة التي استطاع فيها السامري أن يُضّل بني إسرائيل، ويستغل غيبة موسى، عليه السلام.
إنّ مثل هذه الشخصية يمكن أن تتكرر في حياة الدعاة والدعوات، ومن قَبْلُ في حياة الرسل، وفي طريق الرسالات. من هنا لا معنى لمحاولة البعض أن يُضفي الطابع الأسطوري على هذه الشخصيّة. والغريب أن نجد اليوم كتابات كثيرة تلقى القبول لدى الناس، ولا يميّزها إلا ميلها إلى الأسطورة والخرافة، وإغراقها في الأوهام والتخيلات، تماماً كأفلام الخيال العلمي، إلا أنها بعيدة عن العلم. ويستغل هؤلاء الكتّاب الغموض الظاهري لبعض ألفاظ القرآن الكريم، والسنةّ الشريفة. والغالبيّة منهم تقصد إلى التجارة والربح المادي. منهم من كتب عن المهدي، ومنهم من كتب عن إبليس ومثلث برمودا، ومنهم من كتب عن الدجّال والسّامرّي، ومنهم، ومنهم... وقد لا يعنينا أن نلوم هؤلاء من الذين يطلبون الشهرة والمال، ولكننا نلوم العلماء الذين لا يزالون يردّدون ما لا يصح من أوهام وأساطير وإسرائيليات أُدخِلت في كتب التفسير، وراجت في أسواق العامة، فكانت التربة الخصبة لصائدي السُذّج والبسطاء.
لقد استغل السّامري قرب عهد بني إسرائيل بالوثنية، واستغل كهانته السابقة، وكونه من حرّاس الفكرة الوثنية، فاستطاع بزعمه أن يمحو الأثر الذي أحدثته رسالة موسى وهرون، عليهما السلام. لذا نجده لا يستحي من التباهي بقدراته التي مكنته من إزالة الأثر الخيّر الذي أحدثته الرسالة الجديدة فقال: " قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي". (طـه:96).
إنّ الغموض الظاهري لهذه العبارة فتح المجال للكثير من المفسرين أن يتّكِئوا على روايات منسوبة إلى ابن عبّاس، رضي الله عنهما، وليقولوا إنّ السّامري قد رأى جبريل، عليه السلام، يركب حِصانه، واستطاع السّامري أن يأخذ قبضة من التراب الذي داسه حصان جبريل، وساعدته هذه القبضة على أن يبعث الحياة في العِجل الذي صنعه من ذهب، ليعبده بنو إسرائيل. وبهذا وجدناهم يصنعون حول السّامري هالة تجعله شخصية غامضة، قادرة على بعث الحياة في المادة. ثمّ نجد بعض المعاصرين تذهب بهم أوهامهم إلى درجة أن يتصوّروا استمرار حياة السامري، لأن موسى، عليه السلام، قال له: " وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَه... " (طـه:97). ويرد هذا كثير في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى في سورة الكهف: " بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً ". ومن يُدقّق في النص القرآني الكريم يجد أنّ العجل الذي صنعه السامري هو مجرد جسد لا حياة فيه، ثم هو في غاية الإتقان من ناحية الصناعة إلى درجة أنّه يصوت فله خُوار. ومن يعرف تاريخ الفراعنة وحضارتهم لا يستغرب حصول مثل هذا الأمر منهم. وقصة موسىّ، عليه السلامّ، مع السحرة تبيّن لنا المدى الذي وصل إليه الكُهّان وحرّاس العقيدة الوثنية في عالم العلم والصناعة.
إذا كان السّامري قد استطاع أن يبعث الحياة في العِجل الذهبي بزعمهم، فإنّ ذلك يُعدّ دليلاً مُلزماً لبني إسرائيل كي يطيعوا السامري، وبالتالي فهم معذورون لا يستحقّون اللوم، لأنهم اتبعوا عن دليل. ولو تدبّر الذين ينسبون إلى السامري الخوارق، لفظة (فنبذتها)، الواردة في الآية الكريمة، لأدركوا أنّ هذه اللفظة تدل على الرمي والإهمال، ولا تدل على الاعتناء والاستخدام؛ فالسامري يتبجح بقدراته العلميّة التي جعلته يُبصر أموراً لم يبصرها الشعب، وبالتالي استطاع أن يمحو، بزعمه، آثار رسالة موسى، عليه السلام، من قلوبهم، واستطاع أن يجعلها فكرة منبوذة.
فماذا كان رد موسى، عليه السلام، على هذا المُتبجّح ؟ المتدبّر للآيات يلاحظ أنّ موسى، عليه السلام، قد أطلق للسامري حرية الكلام، فقال له: إنّ لك مدّة حياتك أن تقول ما شئتَ من غير أن تُمسّ، ومن غير أن يتعرّض لك أحد بإساءة. وهذا الموقف يشبه ما حصل لإبليس في إنظاره، وإطلاق يده في محاولة إضلال الناس، ليكون بذلك آلة من آلات اختبار المكلفين من البشر. كما جاء في سورة الإسراء: " قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورا "ً. (الإسراء:63). وهنا يقول موسى، عليه السلام، للسامري، المغتر بعلمه: " قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لا مِسَاسَ". (طـه:97). وهذا يعني أنّ: (لا مساس) ليست مقول القول، وبالتالي لا داعي للخيال المُجَنِّح، الذي يحاول أن يتصوّر لنا المرض الذي يُحتمل أن يكون قد مسّ السّامري، بحيث هام في البيداء بعيداً عن الناس. والذي يبدو لنا أنّه قد بقي مقيماً في الناس، وتُرِك ليدّعي ما يشاء، فإن العقيدة الحقة يُجلّيها ويصفّيها كيد الكائدين؛ فما عرَف الناس الصحوة الإسلامية إلا بعد معاناتهم من ضلالات الملاحدة والمادّيين. وإذا أراد الله نشر فضيلة طويت أتاح لها لسان حسود.
-
رد: من أسرار الأسماء في القرآن الكريم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
تم بحمد الله
احفظ (كتاب من أسرار الأسماء في القرآن الكريم)
بقلم : بسّام جرّار