بسم الله الرحمن الرحيم
أنا وابنتي والكحتوت!
أبو أنس عبدالوهاب عمارة
كنتُ جالسًا أنا وابنتي التي تبلُغ من العمر السنوات الثلاث والنِّصف، كنَّا نشاهد إحدى القنوات الفضائيَّة الإسلامية المتخصِّصة في الأطفال، وهي تشاهِدُ باستمتاع شديد، وترقُب كلَّ حرَكة، وكلَّ لفظة، لا تدَع شيئًا صغيرًا كان أو كبيرًا إلا سألتْ عنه، فإذا بأنشودة الكحتوت، أنشودة عن العِيد، يقوم فريقُ الأداء فيها بأداء كليب عن العيد، حيث يظهر المُنشِد وهو يتوارى عن ثُلَّة مِن الأطفال، والأطفال يَقفون في حَيْرة وترقُّب، وهو يتسلَّق السُّلَّم ليستخفي منهم، بينما هو يتسلَّق، إذ بهم قدْ لمحوه يمشي رويدًا على أطراف قدميه في بُطْء؛ حتى لا يُرَى، فنادوه أنَّهم قد رأوه، وطلبوا منه ألاَّ يتهرَّب منهم من أجل أن يأخذوا العيدية، وأنَّه لن يفلت منهم، وأنه غير (كحتوت)؛ أي: بخيل إلى هذا الحدِّ الذي يتهرَّب فيه مِن الصَّدَقة.
ولا أُطيل عليكم، بعد حوار دار بينهم أعطاهم العيدية، وأخَذ يُنادي على مَن صلَّى الفجر ليبدأَ به، وعلى مَن قبَّل يدي أبويه - وهذه لمحة طيِّبة - ولكن بعدَما نَفِد المال مِن حافظته ارْتَمى على الأرض كالموتى، وهنا نظرتِ ابنتي باستغراب ودهْشَة، والمسعفون يحملونه إلى سيَّارة الإسعاف، وقالت لي: (يا أبي لماذا يحملونه؟ أذلك لأنَّه أعطى للأولاد العيدية؟ وهل مَن يُعطي المالَ للأطفال يموت؟ ولماذا أنتَ لا تموت؟ فأنتَ تُعطينا كثيرًا ولا تموت).
أسئلةٌ تلفَّظت بها، وأسئلةٌ كثيرة ربَّما دارتْ في خَلَدها ولم تبُحْ بها، ودار حوار بيني وبين ابنتي، لعلِّي أبيِّن لها الصواب ولا أدري هل اقتنعتْ بكلامي أم أنَّ (عمو مجاهد) - المنشد الذي لا طالما حدَّثْناها عنه وعمَّن معه مِن الأطفال، وكيف تتمثَّل بهم وتُقبِّل يدي والديها وتفعل، وتفعل...........- والأنشودة وما فيها هو الذي استأثر بخَلَدها وعقلها؟
ومِن هنا أيقنتُ أنَّ جهاز التليفزيون يلعب دَورًا كبيرًا في تربية أولادنا، بل في التأثير على الكِبار من الناس، فيغيِّر كثيرًا من المفاهيم، ويُفسِد كثيرًا من الشباب، ويَهدي الكثيرَ والكثير.
وهنا خطَر ببالي - في هذه اللحظة - أن أكْتُبَ هذه الكلمات؛ لعلَّ الله ينفع بها، ولعلَّ المنشغلين بهذه الأمور يَعْلمون أنَّهم في أيديهم إصلاح كبير، ودَور عظيمٌ، لا يقلُّ أهمية عن دور المدارس والمعاهد والمساجِد، وكثير مِن الآباء والأمهات، بل ربما يعظمهم؛ لأنَّ الجميع كبارًا وصغارًا يُقبِلون بشغفٍ ويلتفُّون حولَ هذه الشاشة الساحِرة، وكذلك جهاز الحاسب الآلي.
وأهْمِس في أُذن الجميع بقولِ الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ ﴾ [المائدة: 32].
فربَّما بمشهد أو كلمة في نشيدٍ أو عمل مِن الأعمال الدِّرامية أو أي عمل تُحيي الكثير من القلوب الموات، وكذلك بكلمة ربَّما تُميت كثيرًا من القلوب اليانِعة، وتأتي يومَ القِيامة بجبال مِن الحسنات، وأنت لا تَدْري من أين أتَتْ، أو جبال مِن السيِّئات - والعياذ بالله.
وصَدَق النبيُّ الكريم - صلَّى الله عليه وسلَّم - إذ يقول عن أبي هُرَيرة - رضي الله عنه -: ((إنَّ العبدَ ليتكلَّم بالكلمةِ مِن رِضوان الله لا يُلقي لها بالاً، يرفَعه الله بها درجاتٍ، وإنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة مِن سَخِط الله لا يُلقي لها بالاً يهوي بها في جَهنَّمَ))؛ البخاري.
عن أبي هُرَيرةَ أنَّه سمِع رسولَ اللَّهِ - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: ((إنَّ العبد ليتكلَّمُ بالكلمة ما يَتبيَّن فيها، يَزِلُّ بها في النار أبعدَ ممَّا بيْن المشرِق))؛ البخاري ومسلم.
وكثيرٌ من الأحباب يُفسِدون من حيث يريدون الإصلاح، ففي ذلك (الكليب) أرادوا أن يَغرِسوا مفاهيمَ تربويَّة مِن صلاة الفجر، وتقبيل أيدي الآباء والأمهات، ولكن ربَّما فاتهم أنهم غرَسوا في مفاهيم بعض الأطفال أنَّ المتصدِّقين يموتون بسببِ صدقتِهم.
اقتراح:
أقترح على هذه القنوات - التي أكْرَمَنا الله بها - أن يكونَ لهم مستشارون في كلِّ مجال؛ في التربية، والشريعة، والاجتماع، وعِلم النفس، وغير ذلك.
واللهَ أسأل أن يُحيي مواتَ هذه الأمَّة، وأسأله - سبحانه - أنَّ مَن أراد بهذه الأُمَّة خيرًا أن يوفِّقه إلى كلِّ خير، وأن يُسدِّد خطاه، وأن يُبصِّره بخطاه.
﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 - 181]
والصلاة والسلام على مَنْ:
بَلَغَ العُلَى بِكَمَالِهِ
كَشَفَ الدُّجَى بِجَمَالِهِ
عَظُمَتْ جَمِيعُ خِصَالِهِ
صَلُّوا عَلَيْهِ وَآلِهِ