سلطان اسمه الموت !!
قريتي يوم الخميس ..
أعود من سفر طويل .تحط بي العربة في مدخل بلدتي يطالعني ذات المنظر الذي تركت عليه قريتي منذ أعوام بعيدة . تذكرت إذ كنت صغيرا إصرار جدتي على أخذ أختي معها إلي القبور دون إرادتها وكيف كنت أريد الذهاب معها فتوليني نظرة صارمة فأطبق الصمت ولا أنطق بشيء . وتذكرت كيف كنت أتعلق بثوب أمي حين تذهب للقبور لتقرأ الفاتحة لجدي الراحل .. تذكرت هذا إذ هبطت من العربة لأجد قريتي تبكى موتاها يوم الخميس . وولجت القبور أسير فيها الهوينى كأني أبحث عن سر مفقود غامض تركته هنا وسط القبور إذ لا يعرفه سواي وعدت أبحث عنه وأنبش في القبور كنبش الكتاكيت طعامها إذ يروق لها اللعب في أي شيء وكل شيء . ونظرت لتلك الباكية التى تنتحب في ألم على فراق من فارقها وتركها للدنيا ولأمه التي ما تتركها لحالها.ومضيت في القبور أكثر وتذكرت موباسان وموتاه الذين لا يكذبون ولكن الأمر لا يروق له الابتسام مطلقا .وانتظرت طويلا حتى بوغت بصبي يتعلق بثوبي قائلا :-
- رحمه يا عم !!
ولم أجد ما أقدمه له فدفعت يدي إلي جيبي باحثا عن أي شيء ينقذني من تلك الورطة التي وضعني فيها ذلك الصبي وأخرجت جنيها من جيبي ودفعته نحوه فقال :-
- سورة يس ع المرحوم ولا الدخان ؟
وصمت وتركته لقبر جدي وجدتي التي لحقت به أقرأ الفاتحة لهما . وأقبل الليل وأظلمت قريتي وخرج أقارب الموتى إلا امرأة لا تزال تجلس أمام قبر تبكى وتولول فأخذت بيدها ونظرت للسماء ولاحظت زوال الشمس وولوج الليل فقامت مستندة على يدي وكفت من بكاؤها بغتة فعجبت لها !! ما بال أقارب الموتى يبكون موتاهم وينوحون إذا ما ولجو القبور وإذا ما خرجوا من القبور تذكروا أنهم لا يزالون أحياء فيفرحون ويطربون ويقبلون على الدنيا من جديد !! وعدت لبيتي واحتوتني أمي في صدرها وبكت كما عهدتها دوما كلما رأتني أعود بعد غياب . أبحث عن أبي ولا أجده . أنظر إليها . ألمح ثوبها الأسود .
- مات .
- حقا ؟.
- حقيقة لا مراء فيها !!
أصمت إذ يقبل أخي الأصغر فور أن سمع صوتي فأحتويه في صدري وأنا أنظر لصورة والدي التي تتوسط الجدار . أذكر جدتي وجدي . وجدي وجدتي . وأبي.إنهم ضحايا السلطان . سلطان قادر منتصر دوما . في الصباح وأنا واقف إلي جوار قبره أبك تذكرت يوما كنت أتدثر بصدره من كلب يعوي منتصف الليل وأتذكر قول صبي الأمس الذي تعلق بي وهو يقول :-
-رحمه يا عم !!
حمادة البيلي
مواقع النشر (المفضلة)