+ الرد على الموضوع
النتائج 1 إلى 3 من 3
  1. #1
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    Icon3 حديث الجمعة:بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتًّا

    بسم الله الرحمن الرحيم

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    ‏حَدَّثَنَا ‏ ‏يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ ‏ ‏قَالَ : حَدَّثَنَا ‏ ‏شَرِيكُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏عُثْمَانَ بْنِ عُمَيْرٍ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏زَاذَانَ أَبِي عُمَرَ ‏ ‏عَنْ ‏ ‏عُلَيْمٍ ‏ ‏قَالَ ‏: كُنَّا جُلُوسًا عَلَى سَطْحٍ مَعَنَا رَجُلٌ مِنْ ‏ ‏أَصْحَابِ النَّبِيِّ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏قَالَ ‏ ‏يَزِيدُ ‏: ‏لَا أَعْلَمُهُ إِلَّا ‏ ‏عَبْسًا الْغِفَارِيَّ ‏ ‏وَالنَّاسُ يَخُوضُونَ فِي الطَّاعُونِ فَقَالَ ‏ ‏عَبَسٌ ‏ ‏يَا طَاعُونُ خُذْنِي ثَلَاثًا يَقُولُهَا فَقَالَ لَهُ ‏ ‏عُلَيْمٌ ‏: ‏لِمَ تَقُولُ هَذَا أَلَمْ يَقُلْ رَسُولُ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏لَا يَتَمَنَّى أَحَدُكُمْ الْمَوْتَ فَإِنَّهُ عِنْدَ انْقِطَاعِ عَمَلِهِ لَا يُرَدُّ فَيُسْتَعْتَبَ فَقَالَ إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ ‏ ‏صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ‏ ‏يَقُولُ بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتًّا ‏ ‏إِمْرَةَ ‏ ‏السُّفَهَاءِ ‏ ‏وَكَثْرَةَ ‏ ‏الشَّرْطِ ‏ ‏وَبَيْعَ الْحُكْمِ وَاسْتِخْفَافًا بِالدَّمِ وَقَطِيعَةَ ‏ ‏الرَّحِمِ ‏ ‏وَنَشْئًا يَتَّخِذُونَ الْقُرْآنَ مَزَامِيرَ يُقَدِّمُونَهُ ‏ ‏يُغَنِّيهِمْ وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ ‏ ‏مِنْهُمْ فِقْهًا

    (مسند الإمام أحمد )


    بسم الله الذي بنعمته تتم الصالحات.

    موضوع الحديث هو : الفتن والأمارات الصغرى للساعة.
    مقصد الحديث هو : تنبيه الأمة وتحذيرها لتتخذ من مواضع القوة ما يجنبها الوهن.
    أمران في مثل هذه الأحاديث ( الفتن وأمارات الساعة ) تقصر العقول عنهما :

    ـــ ليس في الإسلام ( قرآنا وسنة ) ما يبعث على اليأس أبدا مطلقا ولو كان ذلك كذلك لصار الوحي متناقضا لأنه يأمر بالأمل والرجاء حينا وباليأس والقنوط حينا آخر. فكل من يفهم من تلك الأحاديث ـ إذا صحت طبعا ـ ما يصادم محكمات الوحي من إمتلاء بالأمل وإستعدادا بالعمل حتى سكرات الموت فليتهم عقله ولا يضع الوحي منصرما فيه أو يبث ذلك في الناس فيأثم ويقول على الله بغير علم.

    ــ لا أحد يجزم على وجه اليقين بالمكان والزمان اللذين يشهدان بعضا من وقوع الفتن وأمارات الساعة ( صغراها وكبراها )إلا فيما ندر جدا مما هو معين في الحديث وهو قليل جدا دراية ومتنا أما رواية فأغلبه الأعظم لا ينتمي أبدا للحسن بله الصحيح. وبذلك لا يجزم أحدنا بأن هذا الحديث أو ذاك حل زمانه أو فات أو هو ينطبق على هؤلاء أو أولئك إنما تلك تخرصات تمليها الأهواء ورب عالم يتخذ هواه إلها شر من عابد يفعل ذلك شهوة.

    تلك مقدمة لا بد منها بين يدي حديث من أحاديث الفتن وأمارات الساعة وهو الأصل وليس الفرع حتى ليغدو إستيعاب ذلك كلية حاكمة على جزئياتها.

    كثرة الشرط :

    كثرة الشرط وردت بين أمرين من جنس واحد في الحديث هما :
    ــ إمرة السفهاء ( وردت في روايات أخرى إمرة الصبيان ).
    ــ بيع الحكم.

    الأمران ( إمرة السفهاء وبيع الحكم ) يتعلقان بالفساد السياسي في الأمة.
    فالمرجح إذن أن يكون ما بينهما منسجما معهما شرحا أو تبيينا أو تفصيلا أو غير ذلك. ذلك مجرد مرجح وليس شرطا مشروطا.

    إذا كان ذلك كذلك فإن معنى كثرة الشرط يكون :

    ــ كثرة الحرس والعسس الذين يتخذهم السفهاء من الأمراء لبيع الحكم.

    الشرط : معانيها كثيرة منها : الشرط بتضعيف الشين وضمها ونصب الراء وهي جمع شرطة ومنها : أشراط الساعة أي أماراتها وسماها القرآن مرة واحدة في سورة القتال أشراطا جمع شرط وهو الأمر الذي يتقدم حصول الشيء فلا يحصل بدونه من مثل ما يشترطه المتعاملون تجارة لأنفسهم والناكحون وغير ذلك.

    وبذلك يتردد المعنى هنا ـ والله تعالى أعلم ـ بين كون كثرة الشرط هي :

    ــ كثرة ورود أشراط الساعة أي أشراطها الصغرى
    ــ كثرة الحرس والعسس الذين يستعين بهم السفهاء من الأمراء على بيع الحكم.

    المعنى الثاني أرجح موافقة لنهج الحديث وسياقه العام ومدى وثوق العلاقة بين إمرة السفهاء وبيع الحكم.

    بيع الحكم :

    هذه أمرها أيسر بسبب أن عليا عليه الرضوان فسرها فيما نقله عنه إبن أبي شيبة في مصنفه بقوله وهو يجيب على سؤال متى الساعة : " ... الألسنة لينة والقلوب نيازك ... وبيع حكم الله بيعا".

    بيع الحكم إذن هو : عدم قيامه على الأسس التي جاء بها الوحي الكريم من مثل قيم الشورى والعدل والرضى والبيعة والحق والقسط والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأداء الأمانة والجماعة والطاعة والوحدة والحرية والمسؤولية وكرامة الإنسان والقوة وحراسة الدين وسياسة الدنيا به وعمارة الأرض بالخير وغير ذلك مما جاء به الوحي الكريم من أسس عامة على الناس تنزيلها بحسب ما يتيسر لهم وما تطرأ عليهم من حاجات وتلم بهم من ضرورات.

    الشورى خلق سديد وقوام حكم رشيد

    وردت الشورى في الدستور الإلهي العظيم ( القرآن الكريم ) في ثلاثة مواضع :

    1 ــ مؤسسة الأسرة :

    قال سبحانه :" فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما ". الفصال هو الفطام.
    والضميران يعودان على : المولود له والوالدة. قدم التراضي لأنه يسبق الشورى في حالة تقدير كل واحد منهما لذلك الوضع من فصال أو وصال وأخر الشورى لأنها ثمرة حوار وحديث ونقاش. أي إذا عز التراضي لسبب ما فإن التشاور في الأسرة هو الحل الأليق وليكن بعد ذلك إما التراضي أو الرضى. التراضي من الطرفين والرضى من طرف ويقابله القبول من الطرف الثاني. كما قدم الرضى لأنه أدنى إلى " مودة ورحمة " كما ورد في أسس الأسرة في سورة الروم ضمن سبع آيات ( أمارات وعلامات ) متتالية قال عنها العلماء من غفل عنها فقد ران على قلبه لفرط الذنب.

    ذكر الشورى في الأسرة وفي قضية الفطام خاصة لأنه عادة ما يكون محل خصام وخاصة في حالة الطلاق ومقدماته. فلا بد من إصلاح المشترك بينهما وهو الثمرة : ثمرة النكاح ومقصده الأعظم.

    ولكن ذكر الشورى في تلك القضية الجزئية في الحياة العائلية لا يدل على إنحصار الشورى فيه. ذلك موضع خطإ يقع فيه أكثر الناس. وفي ما يقابله يقعون في خطإ آخر وهو قوله " الرجال قوامون على النساء ". تدبر معي هذا مليا : أكثر الناس اليوم يرسلون القوامة خارج دائرة الأسرة فيكفرون من حيث لا يشعرون بقوله " والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض ". هل معناها : المؤمنون بعضهم أولياء بعض والمؤمنات بعضهن أولياء بعض؟

    وإذا كان ذلك كذلك فلم إنكفأ عنه البيان القرآني البديع؟ أنى للفاروق إذن أن يبسط ولاية الشفاء عليها الرحمة والرضوان ـ وعليهم جميعا ـ على سوق يبيع فيه ويشتري كل المبشرين بالجنة إلا أبا بكر والأصحاب وأهل بدر والشجرة ومن رضي الله عنهم في كتابه وهم يمشون بين الناس يأكلون ويشربون؟

    وفي المقابل تجد أكثر الناس بمثل ما جاروا هناك وطغوا ـ إرسال القوامة خارج دائرتها الأسرية ـ يقصرون الشورى على الفصال. هل نحن مأمورون بتدبر الذكر الحكيم وإعمال العقل للفهم؟ إذا كان ذلك كذلك فهل تستقيم عائلة تتشاور حول الفصال ثم يستبد بها آمر أو ناه رجلا كان أو إمرأة فيما دون ذلك وبعده؟

    أين معيار القياس في العقول؟ كيف نقصر الشورى حين الفصال بل حين الخصام فيه تاركين لشريعة الإستبداد بالرأي إن بإسم القوامة أو بإسم حرية المرأة فيما عدا ذلك من حياة الأسرة؟ ما هو حظ الفصال من حياة الأسرة؟ قليل جدا. أليس كذلك؟

    الحاصل إذن هو أن ذكر الشورى في قضية الفصال لا يراد به ذاته فحسب بل هو دليل وعلامة وأمارة على حضور حياة الشورى وخلقها في الحياة الأسرية وهي فيما تعم به البلوى من عظائم الأمور من مثل قضايا المال والنكاح والمهن ومواضع السكنى وغير ذلك أولى وأجدر.

    يدعم ذلك ما قامت عليه الأسرة من شرط لا قيام لها بدونه وهي بدونه باطلة ملغية : شرط التراضي وركن الإيجاب والقبول كما يسميه فقهاء النكاح. كيف تقوم الأسرة من أول يوم على ركن الشورى الذي بدونه يفرق بينهما أبدا كائنا ما كانت الظروف ثم نجمد ذلك الركن المشروط في حياتها فيما بعد تكونها أو نحصره في قضية صغيرة جزئية هي قضية الفصال؟ هل يكون الشارع بذلك حكيما؟ أبدا لو فعل ذلك ما يكون حكيما ولو فهمنا منه ذلك ما كنا حكماء ولا أهلا للحكمة.

    2 ــ مؤسسة الأمة :

    قال سبحانه وهو يصف أخلاق المؤمنين في سورة الشورى : " للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون والذين إستجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون ".

    ورد الخطاب ـ كعادته أبدا دون أدنى تخلف ـ بصيغة الجمع. ليدل على أن المكلف هي أمة قاطبة جمعاء بأسرها.

    وردت الشورى هنا خلقا من جملة أخلاق كثيرة وردت في هذه الآية. بل ورد خلق الشورى هنا محتلا لمكان عظيم جدا : مكان بين الصلاة وبين الزكاة. ولم يفرق بين الصلاة وبين الزكاة أبدا حتى عد فاعل هذا وتارك ذاك كافرا وقوتل حدا أو كفرا كما فعل الصديق في حروب الردة. ألا يدل ذلك على أن الشورى عبادة موقفة منزلة من السماء قدرها أن تكون بين أول عبادة روحية أي الصلاة وأول عبادة مالية أي الزكاة؟ أليس معنى ذلك أن مقيم الصلاة لا صلاة له إذا إستبد في أمر لا بد له فيه من الشورى وكذا فاعل الزكاة؟ الشورى خلقا فرديا وعائليا وجماعيا في كل مؤسسة من مؤسسات المجتمع في كل حقول نشاطه هي بمنزلة الحدقة من العين. العين إطار والحدقة هي آلة الإبصار. الصلاة عمل والزكاة عمل ولكن الشورى هي التي توشح الصلاة بالإكسير الصافي الذي يجعل الصلاة صلاة ومعراجا روحانيا صافيا خالصا بين العبد وربه والشورى هي التي تزكي المال.

    أولئك الذين آمنوا وتوكلوا وإجتنبوا كبائر الإثم والفواحش وغفروا عند الغضب وصلوا وأنفقوا وإنتصروا من البغي لا حظ لهم من كل ذلك لا في الدنيا والآخرة حتى يكونوا أهل شورى وتشاور وتراض.

    نسب الشورى للأمر. ونسب الأمر للأمة. فما هو الأمر؟ هو كل أمر وكل شيء لا بد فيه من الحوار والحديث والنقاش والكلام وتبادل الرأي قبل شجاعة الشجعان كما قال المتنبي. الأمر كلمة عامة جامعة شاملة لكل حديث يدار بين إثنين فأكثر بغرض تحرير الحق فيه من الباطل والصواب من الخطإ وأخف الضررين وأكبر المصلحتين. أو هو كل أمر يهم الجماعة بحيث لو إستقام صلح أمرهم جميعا ولو إعوج فسد أمرهم جميعا وهو ما يسميه العلماء فروض الكفاية. كالعدل والقسط والحرب والسلم والبيعة والقوة والأمر العام بمفهومنا المعاصر سياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا وتعليميا وتربويا وإعلاميا وحربيا وعسكريا وغير ذلك.

    يجب أن يكون ذلك الأمر أمرهم هم. أي عائدا عليهم إما بالنفع أو بالضر. كما يجب أن تكون تلك الشورى بينهم هم وليس بينهم وبين من لا دخل له فيها كعدو وغريب وغير ذلك. بينهم معناها : لا يستأثر بالأمر والشورى فيه واحد منهم دون الآخر ولا طرف منهم دون الآخر. وليست مقولة أهل الحل والعقد سوى أسلوبا إنحطاطيا لخرم دين الشورى وخلق التشاور بين الأمة. هل كان يعجز البيان القرآني العجيب البديع البليغ أن يخصص للشورى أهلا كما خص للعلم أهلا سماهم الراسخين وللإيمان أهلا سماهم " إنما المؤمنون ..." في مواضع ثلاثة؟

    كل أبناء الأمة هم أهل حل وعقد والدليل قوله : " بينهم ". بأي حق تخصص إذن أو تقيد؟ ثم كان لنا ذلك دينا ندين به وإتخذنا القرآن وراءنا ظهريا في هذه وفي أخواتها مما دونه الموت الزؤام وبقيت تقتقات المسابح وأنات المتصوفة وآليات الحرفيين تضنك العيش.

    3 ــ مؤسسة الحكم :

    قال سبحانه : " وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله ". قال ذلك وهو أمر مأمور عقب هزيمة أحد التي سببها أمران : أولهما العمل بنتيجة الشورى وترجيح الشباب لكفة الخروج رغم كراهيته لذلك عليه الصلاة والسلام وثانيهما مخالفة الرماة لأسس العمل الشوري أي الطاعة. أعظم درس من هزيمة أحد إذن هو : الشورى أمر من الرحمان سبحانه مأمور به المؤيد بالوحي في قضية عسكرية حتى لو أدت تلك الشورى إلى نتائج الهزيمة الثقيلة التي كادت تؤدي بحياة صاحب الرسالة نفسه عليه الصلاة والسلام. معنى الدرس : الشورى أمر رباني كالصلاة والصيام والزكاة والحج والجهاد والإنفاق والبر والعلم والقوة والعدل سواء أدت ممارستها إلى الخير أم إلى الشر أي إلى النصر أم إلى الهزيمة.

    ليس بعد ذلك من درس أبلغ في كون الشورى في الحكم ـ حتى لو كان المخاطب بها محمد عليه الصلاة والسلام وكانت الحالة حالة حرب دامية شعارها " لا صوت يعلو فوق صوت المعركة " ـ أس متين وركن منيع.

    معنى ذلك : لا تندم على مزاولة الشورى حتى للشباب الأغرار من غير ذوي التجربة في الحياة وأنس هزيمة أحد ولا تحبس نفسك على كون الشورى لأولئك الأغرار سببت لك هزيمة.

    معنى ذلك : حتى لو أدى مسار الحياة إلى حدوث ثقب في جدار الحكم من خلال عصيان الرماة برغم تنبيهك وتحذيرك فإن ذلك لا يبرر لك أبدا التنازل عن الشورى وليكن شعارك " لا صوت يعلو فوق صوت الشورى " وليس " لا صوت يعلو فوق صوت المعركة ".

    معنى ذلك : حتى لو كانت القضية عسكرية أمنية خطيرة إستراتيجية فيها حياة وموت فلا بد فيها من الشورى فليس ثمة أمر هو فوق كرامة الإنسان فلا يستشار فيه فالإنسان أكرم من كل شيء حتى الكعبة بيت الله الحرام.

    معنى ذلك : الخطاب بالشورى أمرا مأمورا هو لك تشريف وتكليف ولكنه لغيرك ممن يؤمن بحق بأنه دونك منزلة حتى لو كان صديقك الصديق عليه الرضوان فرض مفروض. لو جاء التكليف بصيغة الجمع كالعادة لعد أمرا من الأمور الكثيرة ولكنه إنما جاء الخطاب لك بصفتك ليكون عهدا على المؤمنين بك في كل زمان ومكان بألا يدوسوا الشورى مهما كانت مملكاتهم وحكوماتهم وشعوبهم وقضاياهم وأعداؤهم.

    خلاصة أولى :

    الشورى إذن في النظام الإسلامي العام الشامل : ترتيب تجري عليه حياة الأسرة ولذلك جاء القول بكلمة أخف من الشورى وهي تشاور لأنها تخص إثنين فحسب وهي خلق في حياة الأمة كأي عبادة وأي خلق لا فرق بينها وبين الصلاة والزكاة لا يختلفون سوى في المحل والحقل ومجال العمل وهي في نظام الحكم أمر مفروض سواء كنا في حالة حرب أو سلم أو يحكمنا نبي أو دون نبي وسواء كان أغلب أهل الشورى شبابا أو كهولا أو شيوخا أو نساء وسواء إنهزمنا بعد الشورى أو إنتصرنا بعدها. كل ذلك لا يغير من الأمر شيء.

    الشورى هي إذن حياة الأمة أفرادا وجماعات وأسرا وحكومات وشعوبا وقبائل ومؤسسات. ليست هي خلق نبيل في حياتنا الإجتماعية نستنكف عنه سياسيا وليست هي نظام حكم لا دخل له في حياتنا الأخلاقية.

    ليست هناك من مؤسسة مكونة من إثنين فأكثر في الأمة دون أن تكون عائلة عليها أن تتشاور أو أمة تتشاور في كل مؤسساتها وحقول عملها لإصابة كبد الحقيقة قدر الإمكان أو مؤسسة حكم سياسي أو قضائي أو إعلامي أو تربوي أو عسكري يحرص على جلب المصالح للناس ودرإ المفاسد عنهم قدر الإمكان.

    وبذلك فإن الشورى هي حياة المؤمن وحياة الأسرة وحياة الجماعة.

    فضائل الشورى :

    1 ــ تطعيم النفس الإنسانية بخلق التواضع : خلق الإنسان دون مشورة منه مزدوج التكوين " فألهمها فجورها وتقواها ". " وكان الإنسان أكثر شيء جدلا " و " خلق الإنسان عجولا " " إنه كان ظلوما جهولا ". تلك هي جينات الإنسان الغريزية فطرة مفطورة لا تتبدل ولا تتغير ولا تتطور يشترك فيها آدم الأول مع كل بنيه حتى يرث الله الأرض ومن عليها. والإنسان من خلال مزاولته للشورى مع غيره يختبر نفسه ويمتحن مناسيب التواضع فيه فإن فعل ذلك برضى وأدب وإلتزام فيما لا بد منه من الإلتزام بثمرة الشورى فقد إطمأن على نفسه من غوائل الكبر والكبر ـ ذاك الداء السرطاني الخبيث ـ أكبر موانع دخول الجنة " لن يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر". مثقال ذرة من كبر. تدبر معي ذلك جيدا ومليا. مثقال ذرة. هل وزنت الذرة؟ هل نخلت نفسك؟ البلسم الشافي ضد ذلك المثقال من كبر هو : التواضع ومن أسباب التواضع : بسط أمرك لشورى الناس بحسب الأمر طبعا.

    2 ــ تكريم الإنسان : قوام الإسلام على أمرين لا ثالث لهما : توحيد خالص للرحمان سبحانه وتكريم لبنائه الإنساني المكرم منه سبحانه. كل ما عدا ذينك هو فرع عنهما دون أدنى ريب. قال علماء النفس أن أكبر غريزة في الإنسان هي : حب البقاء ومن آثارها وفروعها العظمى بحسب ما قالوا ودلت التجربة : حب التقدير.
    طبعا التقدير يؤدي إلى حب البقاء ولو معنويا فهما متكاملان أو متخادمان. في الإنسان نزوع إلى العدوان والشر لا ينزعه سوى تلبية غريزة حب البقاء فيه وذلك بإظهار تقديره. إذا شعر بكرامته وقدره على قدر قدره طبعا دون طغيان ولا إخسار إنكسرت فيه العدوانية وفي ذلك قال سبحانه " هل جزاء الإحسان إلا الإحسان " وقالت العرب: جبلت النفس على حب من أحسن إليها. وقال الشاعر : لطالما إستعبد الإحسان إنسانا. من غرائزنا الغيرة لأنفسنا ولا يكسر ذلك فينا ويطامن من غلوائه سوى إشعارنا بالتقدير والتكريم.

    3 ــ بناء السلم الإجتماعي بين الناس وتغذية أواصر التآخي بينهم : قال الغزالي : في كل واحد منا فروعون رابض في أم صدره يقول بصوت عال في كل لحظة لا يسمعه سوانا : أنا ربكم الأعلى. فإذا قال كل واحد منا أنا ربكم الأعلى وخلي ذلك دون كسر وتهذيب وتشذيب برز الناس بعضهم لبعض ذئابا مفترسة. ذلك هو الذي يحدث اليوم وفي كل يوم وذلك هو أساس الحروب والمجاعات. إذا شعر الإنسان أنه مظلوم في رزقه وكسبه وثمرة جهده ـ حكما أو حقيقة ـ ورأى من الجائر كبرا ونكيرا وصلفا فإنه يعد نفسه للإنتقام دون شك. إذا بسطت الشورى يرجع الناس بعدها إما متفهمين لتلك الفوارق في الكسب والرزق وإما راضين أو مرضيين. عندها يشعرون بالتآخي والتعاون والسلام والأمن حتى لو كان فيهم الفقير والغني بل حتى لو كان فيهم ظلم خفيف محسور غير منشور. أما إذا عم الظلم وطم الإستبداد عليه فلا تنتظر من الناس سوى ما قاله الفاروق " عجبت لمن بات جوعان كيف لا يصبح شاهرا سيفه على الناس".

    4 ــ بناء أسس العدل والحرية في الناس وعلاقاتهم : العدل أساس العمران كما حقق ذلك إبن خلدون. وبمفهوم المخالفة فإن الظلم مؤذن بخراب العمران. يبدأ العدل بالمساواة بين الناس في مشورتهم في قضاياهم العامة المشتركة فيشعرون بكراماتهم وحرياتهم ثم يسود الأمن ثم تفضي الشورى إلى تحقيق العدل ولو بأقدار إبتدائية محتشمة من أثر إطلاع الناس على خبايا السياسات العامة وتصاريفها ومعادلاتها. يشعرون بالشراكة في الوطن والقضية والبلاد. يتجندون ضد المجرم والمفسد لأنه في نظرهم يفوت عليهم مصالح ويدني إليهم مفاسد.

    5 ــ تطوير التنمية الإقتصادية وتعمير الأرض بالخير المادي والمعنوي : كل ما مر معنا من فضائل هي فضائل معنوية لا بد منها لتشييد أركان المجتمع على أساس الحرية والكرامة والخلق القويم ولكن للشورى فضائل مادية إذ عندما يأمن الناس ينكبون على أعمالهم كل في حقله لإدراكه أن ملكه الذي يشغله ملك خاص به وهو حر فيه ويغنم منه بعمله وجهده فينافس هذا وذاك وتنتصب الأسعار وفق قاعدة العرض والطلب لا تسعير مجحف فيه بسبب تدخل حكومي أو دولي أو وسائطي حايف كما يدرك أنه مع الناس شركاء في مصادر وثمرات المشتركات البشرية العامة التي مصدرها المباشر الأرض ـ مصدرا خاما لا مصنعا ولا محولا ـ أي الماء والكلأ والنار وهي اليوم ركاز الأرض بموائدها البترولية والمعدنية الثمينة التي تحرك الإقتصاد الدولي كله وكلأ الناس وأنعامهم بغلالها وخضارها وكرومها وحقولها وأعلافها وحبوبها ولحومها وألبانها وسائر مشتقاتها ومرافقها والماء مصدر الحياة وسرها في المحيطات الهادرة والأنهار الجارية والوديان السايلة والآبار الفلاحية.

    6 ــ بناء صف داخلي عتيد ضد كل متربص وعدو وحليف للعدو : بني الكون على قانون التدافع قدرا مقدورا من أجل صلاح الأرض ولو إستقام كل الناس لفسدت فسادها لو فسقوا جميعا. البلدان والدول والحكومات والقبائل والمنظمات والأحزاب مع بعضها بعضا كالناس تماما. وليس كالشورى تجعل الصف الداخلي بين الناس في البلد الواحد مهما بعدت بهم الأديان واللغات والألوان والأعراق والمذاهب .. واحدا قويا متينا عتيدا ولا يكون كذلك حتى يكون متنوعا متعددا. الشورى خير دواء ضد داء الخيانة وبيع الأسرار وكون الإنسان يتحول عينا على عدو أهله وبلده. عندما يشعر الإنسان أن البلد بلده له نصيب من خيراته يكون عينا لبلده على عدوه. الناس لا ينتصرون لحاكم يحتقر الشعب في قضاياه الداخلية من حرية وعدالة وكرامة وتنمية وتعليم ثم يحشدهم لإطلاق شعارات ضد هذا المحتل أو ذاك. حتى لو فعلوا ذلك سرعان ما يتسلل اليأس إليهم.

    7 ــ حسم خلافات التعدد ضمن معادلة الوحدة : التعدد مكتوب على كل شيء في الكون " ومن كل شيء خلقنا زوجين ". الإنسان في داخله متعدد مزدوج وفي خارجه كذلك. الأسرة خلية مزدوجة التكوين ولذلك لن ينجح الزواج المثلي ولو أعترفت به شرائع الكون كلها لأنه ضد الفطرة وليس ضد الدين إذ لو كان ضد الدين لأمكن له تسجيل نجاح لقرون ثم ينهار. لا يطامن من غلواء كل عرق ضد العرق الآخر وقس على ذلك كل دين ولغة ولون وما لا يحصى من الفوارق بين الناس .. سوى نظام الشورى. لأنه يعترف بإختلافاتهم جميعا إعترافا كاملا دينيا وعقليا وعمليا ثم يعمل على أساس جمع كل تلك الأختلافات ضمن وحدة واحدة تلتقي حول هدف محدد ومقصد محدد يصنعه أهل تلك الأختلافات جميعا فيتحسمون له جميعا ويذبون عنه جميعا وينتفعون جميعا بمصالحه.
    يروج اليوم كثير من الناس ـ حتى من المسلمين الغرقي إما في ظلام الغرب أو دياجير الأنحطاط ـ بأن العلمانية هي البلسم الشافي ضد بروز نتوءات عرقية ومذهبية . العلمانية هي صنو الديمقراطية. كبرت كلمة تخرج من أفواهمم إن يقولون إلا كذبا. قد يكون ذلك صحيحا في الغرب وهو نسبيا صحيح إلى حين بسبب أن الدين هناك يختلف عن الدين هنا. أما عندنا فإن العلمانية مهما كانت مخففة أو مغلظة فهي داء الأدواء وشر المفرقات بيننا.
    السبب في ذلك أنها لا تتلاءم مع الإسلام لا من قليل ولا من كثير ولا من قريب ولا من بعيد. خطان لا يلتقيان أبدا. أنما تسري تلك المقولة ليس بسبب قوتها ولكن بسبب غلبة أهلها وغلبة حضارتهم في زمن لم يعش فيه الناس يوما واحدا تحت راية الخلافة الإسلامية في آخر صورها حتى لو كان ذلك الرجل المريض حقا ولكنه المريض الذي يرعى حدا أدنى من شؤون أهله ولو رمزا ورسما. وشر دون شر وضر ودون ضر دون ريب.

    8 ــ ضمان السير على نهج الحق ودرب الصواب : هذه فضيلة فكرية مفادها أنه بسبب تنوع النصوص في الوحي وفي غير الوحي وتنوع الأفهام والعقول وتنوع العصور والأمصار .. لا يستوعب الفذ من الناس مهما كان بصيرا أريبا حصيفا كل زوايا النظر في مسألة ما فلا بد إذن من جمع كل تلك الأفهام والعقول والتجارب والأختلافات ضمن بوتقة واحدة تصهرها جميعا ليبرق منها بعد حين حق من حق أو صواب من حق ويغدو ذلك مهما عندما يتحدث الناس فيما لم يعرض لمن سبقهم مما لا يصلح فيه التقليد ولا الإتباع كما لا يصلح معه الصمت والسكوت والتجاهل. أي فيما هو دون الحق الأبلج أو الصواب المترج مما يختلط فيه الحق بالباطل والصواب مع الخطإ وتتداخل فيه المصالح مع المفاسد وهو أكثر الحياة مطلقا. لا يصلح الناس لا سراة لهم كما قال الشاعر الحكيم ولا سراة إذا ما جهالهم سادوا.

    الشورى بين الإعلام والإلزام :

    الأعمال بمآلاتها في العقل البشري ولذلك جاء الإسلام مقاصدي النزعة. شأنه في ذلك شأن الحياة الدنيا لأن الدنيا والدين من صنع الخلاق سبحانه لذلك جاءت الصنعة واحدة أو من مشكاة واحدة بينهما مشتركات ومختلفات.

    المقصد الأسنى من الشورى أمر واحد لا ثاني له وهو : تحقيق كرامة الإنسان وتحريره من نفسه ومن الطواغيت من حوله وهي كرامة وتحرير يرجى منهما تحقيق الإجتماع البشري تحت لواء المساواة والعدل لكسب القوة اللازمة لأداء الخلافة والعمارة والعبادة والشهادة على الناس بالعلم والخلق الكريم والعيش الراغد.

    إذا لم يتحقق ذلك المقصد الأسنى من الشورى فلا شورى كما لا صلاة لمن سها قلبه وغفل فؤاده ولا صيام لمن لغا وولغ في أعراض الناس.

    قوام الشورى مؤداها إلى مآلها وناقضها الأكبر خرمها وخسرها فتكون حيلة ذئب ماكر. لكل شيء في علم المنطق سبب وسنة وشرط وركن وثمر ومآل ومانع وناقض وفساد وبطلان.

    ذلك هو الأصل العام.

    أما تفاصيله فهي :

    1 ــ الشورى في الشؤون الشخصية : وعادة ما تسمى إستشارة ولا مشاحة في الإصطلاح فهي معلمة غير ملزمة بسبب أن الإنسان المستشير يحقق منها إذا ما بسطها مصلحته الخاصة الشخصية كمن يستشير في نكاح إمرأة أو التسجيل في كلية أو إحتراف مهنة أو السفر إلى موضع كذا. لا تكون هنا ملزمة لأن المستشار لا يمكن له الإحاطة بكل جوانب الموضوع حتى لو عمد المستشير إلى بسط كل ذلك إذ تبقى شورى النفس " إستفت قلبك ولو أفتاك المفتون ". وهي بعد ذلك مرتبطة بعناصر الذوق والمهارة والإهتمام والحاجة والقدرة.

    2 ــ الشورى في الشؤون التخصصية : يتفاضل الناس في حظوظهم العلمية بقدر ما يتفاضلون في حظوظهم الوراثية وتلك سنة ماضية يقصد منها الإبتلاء والتكامل في عملية التعاون العامة على الخير والمعروف.

    الأصل العام في التخصصات بكل أنواعها هو إعلامية الشورى لا إلزاميتها بل تضييق تلك الإعلامية إلى حدود التخصص فليست هي شورى عامة تشمل كل المتخصصين في كل مجال سيما إذا تعذر ذلك أو لم تدع الحاجة إليه وليست هي شورى ملزمة حتى في تلك الحدود الضيقة.

    أ ــ التخصصات الشرعية : يضيق بنا المجال لو قلنا بأن العلوم الشرعية تنضوي تحت لواء علوم الإجتماع من فلسفة ودين وفكروأدب وفنون وسياسة وإقتصاد وإجتماع وثقافة. ذلك قول متداول وليس دقيقا إلا بوجه خاص ضيق لا يتعدى حدود مجاله السياقي بسبب قيام الإسلام على الشمول الأفقي والعمودي زمانا ومكانا وإنسانا وحضارة وثقافة وحالا بإطلاق لا يقيد وعموم لا يخصص.

    الأصل في التخصصات الشرعية أنها لا تقوم على الشورى بقصد إصطفاء رأي أو إجتهاد وفي ذلك قال العلماء بأن الإجتهاد لا يلغي الإجتهاد وهو مأجور سواء أصاب صاحبه أم أخطأ كلما إلتزم شرطين عظيمين هما : الأهلية من المجتهد والمحلية من الإجتهاد.

    العبرة في ذلك بالدليل المعتبر لا بالكثرة ولكن ليس على أساس إلغاء أعتبار السواد الأعظم حين إجتماعهم سيما من أهل الفن. لذلك جاء الإجماع أصلا ثالثا بعد الأصلين الثابتين. الإجماع هو ضرب من ضروب الشورى ولكنها شورى الإجتهاد والبحث وليس شورى الأغلبية إلا بوجه واحد.

    من ذلك شذوذ رأي فقهي أو علمي في زمن ما وإشتهاره في زمن آخر وهو كثير.

    ب ـ التخصصات الكونية : هي شبيهة بالتخصصات الشرعية سوى أن معطياتها عادة ما تكون مفردة مجزأة مجردة بشكل أدعى إلى اللمس والإحساس بما يفيد شيئا من الدقة بخلاف ما عليه العلوم الإجتماعية في إطلاقها دون حصر لمجال عن آخر. وبذلك تند هي الأخرى عن الشورى الملزمة لأنه لا إلزام في العلم فالبحث العلمي حر أو لا يكون فإذا ما قيدته الشورى إستعبدته وعبدت من بعده الفرد للجماعة.

    3 ــ الشورى في الشؤون العامة : مقابل الشؤون العامة هي الشؤون الخاصة سواء كانت متعلقة بالأفراد أم بالأسر فالشؤون الخاصة حلقات قد تصل حد الأقليات والشؤون العامة حلقات قد تصل حد البشرية قاطبة وبينهما مشتركات عامة فالأسرة مثلا شأن خاص على تخوم الشأن العام في كثير من قضاياها للناس قاطبة من مؤمنين وغير مؤمنين والأقلية في مكان ما هي شأن خاص من جانب وعام من جانب آخر وبقدر تقدم العولمة في بعض جوانبها سيما الإعلامية منها مكسرة للحدود ومحطمة للحواجز تذوب التخوم بين الخصوصيات والعموميات.

    ولكن المبنى العام الأصلي لكل شأن عام من الأسرة أصغر نواة حتى مشتركات البشرية قاطبة بمثل قضية التلوث البيئي مثلا .. هو الشورى الملزمة.

    أ ــ الشؤون العسكرية : لا بد لها من حديث خاص بسبب قيام الدنيا اليوم من حولنا على مبدإ القوة المادية دون أدنى ريب. وهي شأنان في الحقيقة : شأن عام لا بد فيه من الشورى العامة الملزمة يتعلق بالسياسات الكبرى وإعلان الحرب والهدنات والسلم والإتفاقات الثنائية ولو تحت قبة البرلمانات بما يلزمها من سرية وشأن خاص لا يتناوله سوى أهل الإختصاص من كبار الساسة المتنفذين وكبار القواد العسكريين.

    ب ـ الشؤون السياسية : يمكن أن نعبر بها عن كل الشؤون العامة التي تعالجها الدول والحكومات اليوم بسبب أن الدولة اليوم مركزية تبسط نفوذها على كل مناشط المجتمع وخاصة الإقتصاد الذي من أجله تقوم الحروب وتبرم المعاهدات السلمية والإتفاقات الثنائية. فالسياسة هنا لا تتعلق بعلاقات الحرية بين مؤسسات الدولة وبين الناس ومؤسساتهم الأهلية ولكنها تتعلق بكل شأن عام تتدخل فيه الدولة بحق أو بغير حق غلبة ضد المجتمع أو رضى منه وتسليما.

    الشورى هنا لا بد لها أن تكون مصونة وملزمة بدون أدنى ريب وخاصة في القضايا الكبرى ذات التوجه العام وليس بالتفاصيل العملية.

    مدار الشورى إعلاما وإلزما :

    مدار كل ما سبق من كون الشورى ملزمة أو معلمة هي الأمور التالية :

    1 ــ الأمر محل الشورى هل هو عام أو تخصصي.
    2 ــ الأمر محل الشورى هل للبحث أم للتقرير.
    3 ــ الأمر محل الشورى هل من حق هذا الطرف أو ذاك أو من حقهما معا. ( يقابله في الفقه حق الله أو حق الجماعة والأمة أم حق الفرد ).
    4 ــ الأمر محل الشورى على من ترجع تداعياته المباشرة وغير المباشرة.
    5 ــ الأمر محل الشورى هل هو محل إجتهاد أم ثوابت قطعية حسم فيها ورضي به منذ أمد بعيد.

    بحسب كل تلك المدارات تكون الشورى معلمة أم ملزمة. فكل ما هو حق عام للتقرير يرجع فعله علينا نحن بشكل مباشر أو غير مباشر قريبا أو بعيدا وهو خارج دائرة ثوابتنا العظمى تكون الشورى فيه فرضا ملزم الإتباع وكل ما كان ليس من حقنا المباشر أو غير المباشر خاضعا للتخصص وما زال في طور البحث ولا صلة لنا بنتائجه فإن الشورى فيه تكون معلمة.

    أمر مهم في الشورى :

    يتأهل الإنسان للشورى يوما بعد يوم من خلال العلم والتجربة. بما يعني أن من صميم خلق الشورى أن يؤهل الناس من قبل مؤسساتهم كما يؤهلون هم أنفسهم للترقي لمنزلة المستشار العليم الخبير. وبذلك تكون علمية الشورى في المجتمع والعائلة والأمة ومؤسسات الحكم والتوجيه عملية مفيدة مثمرة لا شكلية تستخدم فيها البشرية ألعوبة في أيدي من يملكون العلم والتجربة ووسائل التنفيذ وقوة البطش.

    الشورى بين مشروعية الأغلبية ومشروعية الصواب :

    المعادلة بين الأغلبية والحق معادلة إشكالية معقدة حقا. لا بد فيها من تنسيب القول وتحريره بقوة.
    حق واحد يملك مشروعية في دليله العلمي العقلي الباهر لا يحتاج إلى نصير من أغلبية لدعم مشروعية وأحقيته وهو : ثوابت الإسلام القطعية العظمى الكبرى التي لا جدال فيها أبدا مطلقا. وهي قليلة جدا جدا جدا طبعا.
    أما ما عدا ذلك من حقوق ـ على قول أن الحق يتعدد ـ فلا بد فيها من المزاوجة بين الدليل وبين القائلين به.
    قبل الحق ا لذي جاء به الإسلام قطعيا ثابتا أبدا لا بد من القول بأن حق الفطرة أسبق وكذا حق السنن والأسباب التي وضعها الباري سبحانه في كونه وخلقه وإجتماع عباده.
    كل حق في الدنيا وافق الفطرة والسنة يوافق الدين ـ أي الإسلام دون غيره ـ قطعا وهو بالتالي حق مطلق عام وكل حق لم يقم ذلك المقام من موافقة للفطرة والسنة فهو إما نسبي أو حق موهوم.

    الفطرة والسنة أسبق من الأديان كلها وإنما بنيت الأديان على أساسها.

    الصواب هو دون الحق طبعا إذ الحق يقابله الباطل أو الضلال بينما يقابل الصواب الخطأ. الحق الفطري والسنني ومنه الشرعي الثابت القطعي يحتمل صوابات كثيرة تلتقي وتتكامل ولا تتخاصم ومن باب أولى وأحرى أن تكون الحقوق التي هي فرع عن ذلك الحق الأعظم تعيش فيها صوابات كثيرة.

    الشورى إذن لا تدار حول قضايا الفطرة والسنن والأسباب ومنها الغرائز والأديان بالتالي في محكماتها القطعية رغم ندرتها جدا عددا. الشورى هنا تلغي الإنسان أصلا معنويا وكائنا فطريا وسنة قدرية تعتلج في الكون كما تعلتج الأقدار الأخرى تهدي من يشاء الله هدايته وتضل من يشاء سبحانه إضلاله.

    الشورى هنا إعدام للإنسان كمن يشاور غيره في حقيقة وجوده. إذا كان سليما قولنا : أنا أفكر إذن أنا موجود فإن من يبسط الشورى حول ثوابت وجوده من فطرة وسنة ودين قطعي قال بلسان حاله : ألغيت نفسي لأني ألغيت حقي في التفكير الحر.

    كل ما عدا ذلك أو دونه هو محل بحث ونظر وإختلاف وتعدد وتنوع فهو إذن محل تشاور بين الناس لتصريف معالجة ما.

    الأغلبية هنا هي القاعدة الأصيلة ولكن على أساس صون أشد المعادلات حيوية لتطور الإنسان : حفظ الوحدة العامة في أركانها العظمى من خلال رعاية أسس وثمرات تنوعاتها على إختلافاتها دون قيد ولا شرط.

    الشورى إذن تتغذى من مشروعيتين معا : الأغلبية والصواب معا. الأغلبية هي مظنة الصواب. لا حدود على ذلك سوى حد الثوابت الفطرية والقطعيات السننية العظمى التي بنيت عليها الأديان سيما الإسلام خاتمها.

    إذا لم يكن الصواب ـ هو هنا الحق ـ محددا معينا في بعض نصوص تلك الثلاثية المكينة ( الفطرة أو السنة أو الإسلام في قطعياته العظمى ) فهو في شورى الناس بالأغلبية وليكن صوابات تتعاون وتتكامل ما كان ذلك ممكنا إلا أن ترفع الجماعة ـ يعبر عن ذلك من قبل بالإمام والتعبير بالجماعة أو الأمة أسلم وأوفى ـ صوابات وتعمل بأخرى مراعاة لمصلحة الوحدة والتنوع معا.

    إذ لا إلهام ولا وحي ولا خبر من السماء بعد موت النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام لم يعد للناس سوى مجالين من مجالات إعمال العقل وتدبير السلوك الأرشد : محكمات ذلك الثلاثي المكين ثم تنظيم حلقات الحوار والبحث والجدال والشورى تنضيجا لقرار معين. أكاذيب الرؤى والإلهامات وفوقية جنس بشري على آخر ونسبة هذا إلى العترة الشريفة وغير ذلك مما لا يحصى .. كل ذلك في هذا الحقل خاصة لون من ألوان الإستلاب الحضاري والإعدام العقلي والضحك على ذقون الجماهير.

    كما يجب الحذر هنا من سوء فهم ذم القرآن الكريم في مواضع قليلة للكثرة من مثل قوله سبحانه في الذكر الحكيم " وما أكثر الناس ولو حرصت بمؤمنين " و" ما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون " و " إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله " الخ... بسبب أن تلك الأغلبية هي أكثرية في قضية عقدية مخها الأكبر هو قوله سبحانه " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر".

    فما ينبغي سحب ذلك على شؤون الدنيا حتى عندما تتلبس بإستنباط أحرى الأقوال وأصوب الإجتهادات في قضايا شرعية جزئية فرعية.

    المنهج الأقوم هنا هو بكلمة : الجمع بين مشروعية الأكثرية في محله وبين مشروعية الحق الثابت وليس مجرد الصواب أو الحق المختلف فيه في محله كذلك.

    مسائل أخرى طرحها السؤال :

    المقصود به سؤال الأخ المنصف قارة.

    1 ــ إعتماده عليه الصلاة والسلام على الأكثرية العددية في أحد وعلى التخصص العلمي في بدر وعلى الوحي في الحديبية وعلى التجربة البشرية في تأبير النخل ( أنتم أعلم بأمور دنياكم ).. يدل ذلك على ما قرر أعلاه من مشروعية الشورى الملزمة حينا والمعلمة حينا آخر والملغاة حينا ثالثا. هي ملزمة في أحد لأن العمل بشري تقديرا وإجتهادا وهو عمل يهم الجمهور حاضرا ومستقبلا فهم المجاهدون ومنهم سيكون الشهداء والأرامل وهم أهل الدار ( المدينة ) وهي تخصصية في بدر لأن القضية تتعلق بالتخصص الإستراتيجي الحربي في إشارة الحباب إبن المنذر وبمثل ذلك كان سيف الله المسلول خالد وكان كل واحد منهم في تخصصه من مثل أبي بكر في نسابة العرب وأبي إبن كعب في القراءة ومعاذ في القضاء وعلي في الخصوصيات الأسرية وهي ملغاة لا ورود لها البتة في الحديبية بسبب نزول الوحي بتفاصيل وأصول صلحها فليس له مثلا عليه الصلاة والسلام أن يتنازل عن صفته النبوية من تلقاء نفسه ولا رسم تلك الشروط المجحفة عند الفاروق وسائر الصحابة لو لم ينزل بذلك وحي لأن العقل عارضها وإن كانت معارضة العقل يومها لم تعكس عمقا كبيرا في النظر الإستراتيجي لمسار الدعوة عند إنفتاح الحريات ولا يلام على ذلك أحد في الحقيقة فهو شأن بشري عقلي خالص وهي تخصصية مرة أخرى عند تأبير النخل بسبب عدم تخصصه عليه الصلاةو السلام بحكم تضاريس مكة في ذلك الحقل من العمل. وإنما قال " أنتم أعلم بأمور دنياكم " وذلك مقيد بأمرين : أولهما أنه قال " دنياكم " ولم يقل دينكم ولا عمم الأمر أو أرسله أو أطلقه بل خصه بالدنيا وفهم الناس كما يفهمون في كل زمان ومكان أن الحياة دين ودنيا فلم يتلبس عليهم ذلك فقالوا إذن نرجع إلى النظام القبلي في الحكم بدل الشوري لأننا أعلم بأمور دنيانا بل فهموا أن ذلك وغيره مما لا يحصى الآن ليس من أمر الدنيا بل من أمر الدين وثاني الأمرين هو أن قوله ذلك له مناسبة نزول يجب مراعاتها وعدم تعديها إلاتعدية تؤدي المقصد العام وتؤول إلى مآله المراد منه. ولكن إلتقطها علمانيو العصر وراحوا يتخبطون ويخبطون من حولهم.

    2 ــ أشرت سابقا إلى حق الإمام ( الجماعة أو الأمة ) رفعا للخلاف فيما هو محل خلاف بين الناس في العمل برأي ما يرجحه أو يرجح له إن كان مفضولا أو غير مختص إجتهادا منه ملزما دون المس بمشروعيات الأراء الآخرى والإجتهادات المخالفة قيمة علمية ولكنه إجراء إداري ترتيبي ( مرسوم رئاسي أو ملكي ) كالشرطي الذي ينظم سير الناس والسيارة في الطريق العام : لا يمنعهم ولكن يقف بينهم لييسر لهم جميعا المرور دون إصطدام.


    المنهج القرآني العام يعلمنا الشورى خلقا وسياسة :

    مثال أول : " ما كنت قاطعة أمرا حتى تشهدون ". روى لنا ذلك على لسان ملكة سبإ بلقيس إذ جاءها كتاب سليمان عليه السلام. ترى لم قص علينا القرآن الكريم ذلك وهو يقصه جيلا بعد جيلا وأمة بعد أمة عرضا على الإنسان في كل زمان ومكان فهو كتاب الإنسان وليس كتاب الإنسان المؤمن فحسب. لم يفعل ذلك سوى ليعلمنا من خلال القصة منبرا فنيا ذكيا وبليغا بأن سلوك بلقيس وهو كافرة سلوك عادل ينبجس من صميم الفطرة وداعيات السنن وهو أمر قادها بإذنه سبحانه إلى الإسلام مع سليمان عليه السلام وليس له. لو كانت ظالمة لقالت أسلمت له ولكنها كانت عادلة رغم كفرها فقالت بوثوق النبهاء أسلمت معه وساوت نفسها معه ولم يعترض عليها معترض بقوله شتان. ذلك هو ما جعل النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام يرسل أصحابه إلى النجاشي معللا ذلك بأنه فيها ملكا لا يظلم عنده أحد. وربما كان عدله ذلك رغم كفره سبيلا من السبيل الذي قاد بلقيس إلى الإيمان الصافي من كدر التثليث.

    مثال ثان : " أيكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين ". في القصة ذاتها يجتمع الملك سليمان عليه السلام بجنوده من الإنس والجن والطير مستشيرا وكان يمكنه أن يأمر واحدا منهم دون حاجة إلى إجتماع وشورى. أليس هو ملك وهب له ملك لم يوهب لمن بعده؟

    مثال ثالث : " إني أرى في المنام أني أذبحك فأنظر ماذا ترى ". شورى بين الأب وإبنه في شأن رؤياه التي هي حق يجب تنفيذه ورغم ذلك فإن هناك حقا أعلى من ذلك الحق وهو : لا إكراه في الدين أي لا يذبح إسماعيل دون مشورته لأنه إنسان مكرم هو حر في مستوى أعلى من ذلك هو قبول الإيمان أو رفضه والذبح دون ذلك دون ريب. لو عصى إسماعيل الذبيح عليه السلام كتب العصيان عليه ولم يكتب على والده إبراهيم عليه السلام لأنه آمن بالرؤيا وعمل على تنفيذها ولكن في حدود إمكانه ولا حق له ولا سلطان على دم حرام عليه.



    وفي ا لختام فإنه يجب أن نتفق نحن معشر العرب والمسلمين على إختلافاتنا الكثيرة دينا ومذهبا ولغة وعرقا ولونا وغير ذلك على أن سر نهضتنا المعاصرة لا بد لها من القيام تحت لواءين لا غنى لنا عن أحدهما :

    ـــ الإسلام دينا وحضارة أو حضارة بالنسبة للمسيحيين في شموله وكماله وجماعه وتمامه.
    ـــ العمل على فرض الحريات الخاصة والعامة سياسيا وإقتصاديا وإجتماعيا بالشورى وتكريم الإنسان والتوحد تحت لواء الإسلام دينا أو حضارة وتحت لواء الأمة تاريخا وثقافة ولواء إحترام التعدديات والتنوعات من كل جنس ونوع.

    ذلك هو منهج النهضة الأصيل والمعاصر معا. داخل ذلك المنهج لننقسم ألف ألف طائفة وملة ولكن خارجه لنتوحد عصبة واحدة.

    من مظاهر بيع الحكم التي أشار إليها النبي الأكرم عليه الصلاة والسلام في مواضع أخرى : توسيد الأمر لغير أهله وهو يفضي إلى ساعة الجماعة أي فنائها مادة أو معنى والأرجح اليوم فناؤها معنى أي مستعبدة مستكرهة ومنها دوران الناس مع السلطان لا مع الكتاب ومنها الوهن ومنها إنتقاض عروة الحكم وغير ذلك مما فصل في السنة الكريمة.

    العلاقة إذن وثيقة جدا بين إمرة السفهاء ( ومنهم الصبيان في رواية أخرى ) وبين بيع الحكم بيعا وهي علاقة تقوم على تهاون الأمة في أمر الحكم الذي إشتغل به الأصحاب الكبار الكرام قبل تجهيز النبي الأكرم عليه الصلاةوالسلام وهو مسجى إلا من أهل بيته علي ومن معه عليهم الرضوان جميعا كما تقوم تلك العلاقة على إستخفاف أولئك الأمراء السفهاء بتلك الأمة تبعا لقاعدة إجتماعية سياسية نبه إليها القرآن الكريم " فأستخف قومه فأطاعوه ".

    عدم حرص الأمة إذن على عروة الحكم حتى تنتقض يسمى بيعا للحكم لأن الحكم حتى لو لم يكن من أركان الإسلام أو الإيمان العظمى الكبرى عند أهل السنة خلافا للشيعة فليس هو من نوافل الأمر ولا من مستحباته بل هو من باب ما لا يتم الواجب الأعظم إلا به وما لا يتم الواجب إلا به أوجب من الواجب لأنه شرط شرط الطهارة للصلاة والحكم بما هو الجماعة والشورى والعدل والأمانة وغير ذلك من القيم الإسلامية السياسية والحضارية واجب أعظم لا تتم به واجبات القوة والجماعة والوحدة والتنوع والعدل والقسط والأمانة والشهادة والعلم إلا به فهو أوجب من الواجب بل هو الواجب الأول.

    وبذا يغدو التفريط فيه لغير أهله أو بغير الطريقة التي أمر بها القرآن الكريم أي إنفاذ الشورى بين الأمة قاطبة بأي شكل من أشكال التراضي والتشاور بيعا له وهو من قبيل : بيع من لا يملك لمن لا يستحق.

    الأمة لا تملك ذلك الحق ملكية رقبة ولكن ملكية إنتفاع لأن الحكم هو في الحقيقة لله وحده سبحانه ولكن فوض أمرا منه إلى الإنسان تكريما وإبتلاء فما ينبغي دورانه على الوجه الذي لا يرضيه سبحانه ولكن الأمة تملك ذلك ملكية فريضة لا بد من تأديتها فإذا فرطت في تلك الفريضة لمن لا يستحق أي من جاء غلبة وقهرا وغشا وخديعة وزورا فلا هو قوي ولا هو أمين فقد باعت أمرا من أمر الله سبحانه لا تملكه لمن لا يستحقه.

    وذلك هو أصل الفساد كله في الأرض ولذلك كانت القرآن أغلبه قصة وأغلبه القصة قصة موسى مع بني إسرائيل وأطول مشهد من مشاهد تلك القصة هو مشهد موسى مع فرعون ولم يفعل القرآن ذلك بعد إندحار فرعون وموت موسى عليه السلام وذهاب بني إسرائيل إلا لحاجة الأمة المسلمة إلى ذلك الدرس أبد الدهر وإلا كان القرآن غريبا عن زماننا ومكاننا وحالنا وهو ما لا يكون لمؤمن.

    إمرة السفهاء إذن تفضي إلى بيع الحكم وبيع الحكم يفضي إلى إمرة السفهاء فهما من نفس واحدة كل منهما شرط للآخر وسبب له من جهة ونتيجة وثمرة من جهة أخرى.

    ولذلك يرجح أن يكون المقصود بالشرط أي كثرتها تلك الألة البشرية التي لا بد منها لتوطيد عرى إمرة السفهاء وبيع الحكم وهو عقد فاسد بين الأمة وبين السفهاء ولا بد لحماية ذلك العقد الفاسد بالشرط والعسس والحرس أي بالقوة والقهر والغلبة ولذلك نبه عليه الصلاة والسلام إلى أن أولئك لا يدخلون الجنة ولا يشمون ريحها بسبب أن بأيديهم سياطا كأذناب البقر يضربون بها أبشار الناس.

    ذلك مجرد ترجيح لما فيه من تناسب بين الأمرين ولا يبعد أن يكون المقصود هو كثرة أشراط الساعة.

    كما لا يبعد أن يكون المقصود معاني أخرى أي من كثرة الشرط مما قد يضيق المجال عنه الآن.

    المهم هو أن فساد الحكم أو الفساد السياسي بتعبيرنا المعاصر يفضي إلى أنواع الفساد الأخرى التي نبه إليها عليه الصلاة والسلام في الحديث ذاته وهي متعلقة بأمرين كبيرين يقيمان بقيامهما الأمة ويهدمان بإنهدامهما الإنسان :

    ــ كرامة الإنسان ( الإستخفاف بالدم ).
    ــ الأسرة ( قطيعة الرحم ).

    وكل ذلك يفضي ـ كما يكون ثمرة في الآن ذاته ـ إلى ما عبر عنه ترجمان القرآن إبن عباس عليه الرضوان حين قال : نحن في زمان قليل قراؤه كثير فقهاؤه وسيأتي على الناس زمان قليل فقهاؤه كثير قراؤه .. أي عندما يقيم الناس حروف القرآن ويضيعون حدوده.

    الحديث إذن في الجملة والعموم طبيب يصف الداء والدواء.

    الداء هو :

    ــ ذهاب الفقه وتعويض ذلك بتقويم الحروف وهو أمر مطلوب ولكنه في المقام الثاني وليس الأول. الفقه الذاهب هنا هو فقه الحياة كيف تدار سياسة ومالا وإجتماعا وأسرة وحكما وتداولا وعمارة وخلافة وأمانة وعبادة وحضارة ومدنية وجمالا وزينة. وذلك هو معنى قوله عليه الصلاة والسلام " من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ".

    ــ ذلك الداء يفرخ أدواء أخرى سرطانية قاتلة :

    1 ــ بيع الأمة للحكم لمن لا يستحق سوى غلبة وقهرا من الأمراء السفهاء ولك أن تنظر العلاقة بين تضييع حدود الفقه ـ بالمعنى القرآني لا الصناعي ـ وبين بيع الحكم فبذهاب ذلك الفقه فرطت الأمة في حقها وواجبها في الأمانة وهي الحكم بالعدل بين الناس وكبرت من شأن ما حقه التصغير وقدمت ما من شأنه التأخير.

    ــ وذلك هو الفساد السياسي في زمن تنبأ به عليه الصلاةوالسلام تحكم فيه السياسة على كل شيء وتحصي على الناس أنفاسهم وحركاتهم وسكناتهم وهو فساد يكر على فساد فرعي آخر في الأسرة وكرامة الإنسان وتفتت الرحم وضياع الحقوق وإهدار الذمم.

    تلك هي مظاهر الداء الأكبر والسرطان الأعظم مجملة من الحكم والسياسة حتى الفقه بمعناه القرآني وما بينهما تلاشي مؤسسة الأسرة وإهدار كرامة الإنسان بنيان الرحمان في الأرض.

    أما الدواء فهو :

    ــ إستباق ذلك بالموت " بادروا بالموت ستا " أي موتوا قبل ان تدرككم تلك الستة.

    المعنى ليس أقتلوا أنفسكم ولا هو تمني الموت المنهي عنه ولكن المعنى هو:

    ــ توقوا موتكم المعنوي قبل حلول تلك القارعات الست وهو القائل عليه الصلاةو السلام في حديث آخر " من يوق الشر يوقه ".

    أي قوموا على بناء أمتكم من كل الجوانب بدءا بالكلي والكبير والقطعي والعظيم والمحكم أولا بأول لئلا يدرككم الموت وأنتم مفرطون أو محل تلاعب من عدوكم.

    أما من فهم من ذلك الهروب والاهتمام بخويصة النفس والعزلة عن الناس فقد شق على نفسه وقال على الله ورسوله عليه الصلاة والسلام بغير علم وهو أكبر ذنب مطلقا طرا.

    كل ما ورد في القرآن والسنة ينحو ذلك المنحى : السبيل الوحيد لإصلاح الفرد هو إصلاح الجماعة والسبيل الوحيد لإصلاح الجماعة هو إصلاح الفرد والأسرة بينهما محرار ناطق وكرامة الإنسان بينهما معيار صادق.

    فما ينبغي على أحاديث الفتن وأمارات الساعة سوى أن تزيد المؤمن في ساعات العسرة ثباتا وأملا ورجاء ويقينا وثقة وعملا وجهادا وإجتهادا ونبذا لليأس فهي أحاديث إبتلاء أي إبتلاء للعقل وحسن الفقه.

    أما الأمل في ساعة اليسر فيبذله كل أحد مهما كان مملوءا يأسا ولكن يعرف الرجال بالحق والحق هو إنفاذ الأمل الذي جاء به الإسلام في الناس وفي رب الناس سبحانه.

    والله تعالى أعلم.

     
  2. #2
    صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute صناع الحياة has a reputation beyond repute الصورة الرمزية صناع الحياة
    تاريخ التسجيل
    09 / 06 / 2005
    الدولة
    مصر
    العمر
    52
    المشاركات
    21,349
    معدل تقييم المستوى
    26561

    افتراضي رد: حديث الجمعة:بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتًّا

    جزاك الله خيرا .. لك كل شكرى وتقديرى

     
  3. #3
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي رد: حديث الجمعة:بَادِرُوا بِالْمَوْتِ سِتًّا

    وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

    بارك الله فيك اخي

     

 
+ الرد على الموضوع

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك