الحلقة الثالثة والستون
أخرج مسلم عن جابر وعن أنس أنه عليه السلام قال " إذا سقطت لقمة أحدكم فليأخذها وليمط عنها الاذى وليأكلها ولا يدعها للشيطان "
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــ
من شواهده " وكلوا وأشربوا ولا تسرفوا " وغيرذلك كثير ...
موضوعه : الكبر والاسراف خلتان لامكان لهما في الاسلام :
قد يقول بعض السذج من الناس بأن مثل هذا الحديث يتعلق بحياة بدو الجزيرة العربية الذين بعث فيهم محمد عليه السلام وربما ينسحب الحكم على سائر من في حكمهم اليوم من فقراء المسلمين ومساكينهم من ساكني أدغال آسيا ومجاهيل إفريقيا أولئك الذين مازالوا بعيدين عن الحضارة والتقدم وإستخدام الموائد والشوكات والملاعق لا بل أولئك الذين ما زالوا لا يقدرون سوى على الطعام الذي لابد له من إستخدام الايدي لتناوله أولئك الذين لو سقطت من يد أحدهم لقمة واحدة من طعامه لاخترمته أنياب الجوع لفرط قلة يده أولئك الذين مازالوا يعتقدون أن الشيطان قابع بجانب كل مائدة يقتله الجوع يرقب كل لقمة ساقطة يلتهمها أولئك الذين لا يعلمون شيئا عن عالم الجراثيم التي ينوء بها عالمنا الفضائي فهي لفرط جهلهم ونهمهم وراء لقمة لفتها الاتربة والاوساخ تستبد بهم الامراض وتفتك بهم الاوبئة ... أما نحن أهل تقدم العلوم الطبية والموائد الفاخرة والاطعمة الجاهزة والمشروبات الكثيرة اللذيذة الذين لم نعد بحاجة إلى الايدي القذرة لتناول الطعام فقد أغنتنا الملاعق والشوكات والسكاكين عن ذلك ... فإننا لا يزيدنا هذا الحديث سوى أننا نؤمن به في أحسن الاحوال أما معالجته لشؤوننا المتطورة المتقدمة فهو أمر بعيد .
الدرس الاول من الحديث : الانسان لا يأنف عن تربية نفسه حتى على مائدة الافطار:
التربية حيال الانسان صغيرا وكبيرا وقويا وضعيفا وحاكما ومحكوما وفي كل أحواله أمر لا يفارقه أبدا ومن أعجب ما قرره الكاتب الاسلامي الكبير مالك بن نبي عليه رحمة الله سبحانه هو أن قيم الحضارة والتقدم والرقي والثقافة التي نروم سلوكها والتغني بها تبدأ من صغائر حياتنا الشخصية في طريقة أكلنا وقعودنا وقيامنا ونومنا وتحيتنا وسائر ما يلي ذلك فإذا فاتنا ذلك فإن بلوغ أكابر مراقيها ومعاظم مراميها لعسير وأنت تلفى في دراستك للسنة والسيرة محمدا عليه السلام له في كل شأن دعاء أو ذكر أو مراسيم معينة يذكر فيها ربه شكرا وحمدا أو يصل فيها غيره بحسن ومعروف أو يعافس فيها مرفقا من مرافق الدنيا حتى لو كان خلاء يقضي فيه حاجته البشرية بأدب جم فهل يفعل ذلك تضييعا للوقت أم لزوما لطقوس لا تغني ولا تسمن من جوع ؟ كلا بل يظل عابدا في كل آن وأوان لولي نعمته سبحانه وفي كل لحظة تغفل فيها عن ربك سبحانه فأعلم علم اليقين أن الطبيعة تأبى الفراغ فالشيطان رابض بجانبك يرقب كل غفلة منك ليملاها بذكره وأول ما يلقي في نفسك أنك أنت ولي النعمة الجدير بالحمد أو بأن فلانا أو فلانة من الاموات أو الاحياء هو ولي ذلك فيوقعك في عبادة ذاتك أو غيرك دون الله سبحانه فتهلك .
الدرس الثاني من الحديث : أول ما نتربى عليه هو أن التواضع له سبحانه طريق العلا:
ليس أقسى على القلب البشرى من خلة الكبر حتى أنه عليه السلام قال " لايدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر" وكأن الكبر لتطاير شرره عقيدة لا يرضى سبحانه فيها بسوى التمام والكمال حتى أن ذبابة واحدة قربها رجل إتقاء شر قطاع الطرق أودت به إلى قعر جهنم بينما رفض ذلك رفيقه فضربت عنقه فأودت به ذات الذبابة إلى فراديس الجنان وسائر خلال الاسراف والتبذير وما في حكمها جميعا لا ترتد عند سبرات التحقيق سوى إلى داء الكبر وليس الكبر خلة نستوردها من الخارج بل خميرتها فينا أصيلة لان مبعثها الهوى الساري فينا سريان الهواء في الفضاء وكل الخلال السيئة التي لا نستوردها من الخارج بل نذعن لها عبادة للشهوة رتب الله عليها جزاء موفورا في الاتجاهين حلاوة إيمان لمن قمعها أو لباها في الحلال المباح وشقاء للاخر والكبر كما تعلم ليس معصية عادية بل هي معصية مركبة كيف لا وهي التي أودت بإبليس إلى النار وظاهر الامر أنه لم يزد على أنه عصى ربه تماما كما عصى آدم ربه وجاء في الحديث " ثلاثة أقسم عليهن : منهم ماتواضع عبد لله سبحانه إلا زاده به عزا" والعلاقة بينك وبين ربك هي علاقة بين مالك ومملوك فالمملوك يرفعه مالكه يوم يتواضع له ويخفضه يوم يتكبر عليه ولك أن ترى في حياتك فيمن حولك أي الناس اليوم أقرب إلى قلوب الناس ومن ثم إلى الرحمان سبحانه هل هم المتكبرون حتى لو أضطر الناس إلى مصانعتهم أم المتواضعون حتى لو كانوا سجناء أبد الدهر ؟ مثلك مع التواضع والتكبر أي مع العز والذلة هو مثل السحاب يرتفع وهو وضيع والقمر يتواضع حتى لتراه في الماء الصافي ليلا وهو رفيع كما قالت حكمة الشعر وأعلم أن الذي تسقط من يده اللقمة فيهملها أو يتجاهلها سواء كان غنيا أم فقيرا وجائعا أم شبعا فيه من الكبر ما فيه والعجيب أن خلتي التواضع والكبر لا تحكمها المظاهر كما هو معروف اليوم في حياتنا بل تحكمها تلك التصرفات الصغيرة التي لا نلقي لها بالا كلقمة ساقطة ذلك أن بعض عتاة المستكبرين يملؤون الشاشات كذبا يظل طول حياته متلفعا بما حاكى ملابس العامة وأكل مثلهم وهو يكفيه كبرا ومقتا أنه سخر من إمام المتواضعين محمد عليه السلام وفي المقابل تجد الرجل جميلا أنيقا جاوز إزاره أسفل كعبه وهو يحكي سيرة الصديق أبي بكر في صدق التواضع لله .
الدرس الثالث من الحديث : اللقمة نعمة قيض لها الرزاق سبحانه مالا تحصيه من الخدم:
من تمام إيمان الانسان أن يظل متفكرا ذاكرا بقلبه وعقله على الاقل متدبرا في كل ما يقع له وعليه وبجانبه فإن التفكر في كل شئ سوى في ذاته سبحانه لا يأتي سوى بالعقل والحكمة ولو تدبر الواحد منا في لقمة لا تزن عشرة غرامات تسقط منه فيهملها لالفى أن ما لا يحصيه هو ولاغيره من العملة والخدم والالات والعمليات التي قيضها الرزاق سبحانه مذ كانت بذرة في يد فلاح بسيط فقير يبعد عنه ألاف الاميال حتى تجهزت له لقمة سائغة يسد بها رمقه ولو ذكر الانسان ذلك فأستحى إهمالها لكان وفيا مخلصا فيكف لو زاد على ذلك أن الرزاق سبحانه من عليه هو بذلك رغم عصيانه وكفره ومنعه عن كثير من عباده الذين يتضورون جوعا فيعمدون إلى تمضية الوقت في الركوع والسجود والتضرع والتلاوة والعبادة ولايسألون الناس إلحافا.
الدرس الرابع من الحديث : لو عمل كل واحد منا بهذا الادب لمات الفقر ومامات أحد جوعا:
كثيرا ما أكون في حاجة لي في بعض شوارع ألمانيا فألفى في كل يوم مرة على الاقل رغم الخدمات البلدية التي لا توصف جودتها قطعة من الخبز ملقاة تكفي لاعالة نفر واحد على الاقل يوما كاملا في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية أما لو حدثتك عن جودة وكمية الاطعمة والاشربة التي يلقى بها في الفضلات من البيوت الخاصة فضلا عن المطاعم المخصصة للمآوي والنزل وغيرها وأقف على ذلك بنفسي بحكم إشتغالي في مجال التنظيف ربما لعسر عليك التصديق ولن يزال خبر إلقاء كثير من الدول المحتكرة لكميات رهيبة من القمح وسائر الاطعمة في البحر لعبا بالاسواق والاسعار وحرمانا للفقراء منها يجعل كل مؤمن بالله سبحانه في شك مريب من الشعارات التي ترفعها هذه الحضارة الدجالة الكاذبة من كرامة الانسان والعدالة والحرية ولعلك تهمس إلي الان أن أمر الاسراف والتبذير في دنيا المسلمين يضاهي كل منافس في التبذير وهوحق غير أن السفهاء سيما فينا كلما ذكر الفقر لا يتهمون سوى الاسلام وثقافته المحرضة على التناسل والتوالد أما إتهام أخلاق الكبر والاثرة والاسراف والتبذير وجحود نعمة ولي النعمة مما يولد تفاوتا رهيبا بين الفقراء والاغنياء فوق هذه البسيطة فهو أمر دونه سيف الحجاج وذهب المعتز كما يقولون ولاعاشت الجبناء كما قال سيف الله المسلول سيدنا خالد عليه الرضوان .
الدرس الخامس من الحديث : حسبنا عالم الشهادة نفهمه أما عالم الغيب فحسبنا الايمان به :
لتجدن كثيرا من الناس إذا ما عرض عليهم مثل هذا الحديث يهرعون إلى إتهامك وإتهام محمد عليه السلام بعد ذلك بمعاداة العقل وحرية التفكير وذلك لان الشيطان عندهم لا يأكل فلا يجب عليك سوى عدم التطرق إلى كل ما يمت بصلة إلى الغيب حتى لا تثير حفيظتهم . قتل الانسان ما أكفره . وهل أحطت أيها الانسان بسائر مشاهد عالم الشهادة حتى تستخف بالغيب وها أنت مجهول إبن مجهول في نفسك تكوينا بدنيا ونفسيا فلم الكبر ولم الغرور ولم عدم التسليم لربك الذي خلقك فسواك فعدلك بعالم الغيب وما يضيرك أن الشيطان يأكل لقمتك التي منعك كبرك عن إلتقاطها وما يضيرك أن يكون ذلك حقيقة لا نعلم كنهها أو مجازا يتوسل فينا إلى نبذ خلق الكبر والاسراف والغفلة عن الرزاق وعمن سخرهم الرزاق لاطعامك فقل لهؤلاء هل تنكر حياتك فإن قال لا فقل لي أين هي حياتك وأين هي روحك وأين هي نفسك وأين هو عقلك وأين أين ...؟
الخلاصة: الحديث رسالة مؤداها أن الانسان كائن أخلاقي أو لا يكون وأسمى خلقه التواضع لله والشكر لعباده الذين قيضهم لخدمته وأرذل خلقه الكبر والاسراف والتبذير وأن طريقه إلى العلا في الدنيا والاخرة يمر حتما عبر إلتزام الخلق الاسلامي النبيل في صغائر حياته الخاصة مهما كان في منأى من الملا فالله دوما معه يراه وأن حسن الاقتصاد وإطعام الفقراء وتحرير الناس من ذل السؤال والموت جوعا لا يحتاج شعارات كثيرة بل يحتاج إيمانا بالله سبحانه ينبذ عنك الكبر ويزينك بالتواضع والشكر كما يحتاج سلوكا يوميا يدخر للمسكين لقمة وأن جمع كل تلك اللقمات الساقطة يسد رمق ملايين من الاطفال يقضون جوعا ومرضا أما مسالك الكبر والاسراف فضلا عن التبذير والاحتكار فلا تعود على البشرية سوى بنكد المفارقات .
مواقع النشر (المفضلة)