الحلقة الثامنة والثمانون
أخرج مالك بسنده عن علي أنه كرم الله وجهه قال " الامر ينزل بنا لم ينزل فيه قرآن ولم تمض فيه منك سنة يا رسوالله " فقال عليه السلام "إجمعوا له العالمين من المؤمنين فأجعلوه شورى بينكم ولا تقضوافيه برأي واحد ".
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــ
من شواهده " وشاورهم في الامر " و" وأمرهم شورى بينهم " و" عن تراض منهما وتشاور".
موضوعه : الشورى في الاسلام خلق تزكية ومظهر تكريم وتحرير ومقوم ملزم في الحياة .
لم يعد خافيا اليوم بين سائر المسلمين المهتمين بأمر الامة نهضة وإنحطاطا أن غياب الشورى في سائر مجالات حياتنا وبخاصة في المجال السياسي بحكم هيمنته على بقية الميادين مسؤول بحظ كبير جدا عن تفكك عرانا عبر تفشي التظالم وتنزل التجزئة محل التوحد والفقر محل الرخاء والاستقلال محل الاحتلال والجهل محل الامية والامعية محل التميز .
النبي الاكرم عليه السلام يحذر من نكبة الاستبداد بالرأي ويجعله مفتاح الانحطاط .
قبل إيراد الحديث المناسب لذلك لابد من التذكير بتصحيح لبعض الفهوم التي لفرط تأثرها بواقع الانحطاط جمودا على الماضي وتقليدا للاسلاف أو هرعا إلى الغالب شبرا بشبر وذراعا بذراع لم تفقه الامر سوى على أنه قدر غالب لا فائدة من مقاومته حتى إنك لازلت إلى اليوم تستمع إلى مقولات موغلة في الابتذال والمجاجة من مثل أن جبة الحكم التي يلبسها هذا الحاكم أو ذاك ليست سوى جبة من تفصيل ربك سبحانه على مقاس ذلك الذئب الذي لم يرع لله يوما في عباده إلا ولاذمة . أخرج أحمد والطبراني عن أبي أمامة أنه عليه السلام قال " لتنقضن عرى الاسلام عروة عروة كلما أنتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها وأولها نقضا الحكم وآخرها الصلاة " وهل ثمة أفدح خطرا وأنكى ناكية من تحول ما حذر منه عليه السلام من عقبات وحواجز ومطبات في طريق الامة إلى ربها كدحا إليه سبحانه وشهادة على الناس إلى قدر رحماني قاهر لا مناص من الاستسلام له ثم أنى لنا بعد مصيبة ثقافية وفكرية في التعامل مع الوحي من مثل هذه أن نتشوف إلى مجد تليد نشهد فيه على الناس بالعلم والعدل والرحمة والقوة ؟ وهل يبغي الظالمون فينا من حكام ولفائف كثيفة تعيش على فتات موائد سحته سوى ردة ثقافية من مثل هذه؟ واليوم وقد إنتقضت عروة الحكم وفق ما صدر عن الوحي الكريم الصادق هل نفرط في الصلاة وفي سائر ما يتعلق بها من مساجد وجماعة وشعائر أذان وإمامة وقرآن وعلم بدعوى أنها عروة آئلة إلى السقوط تماما كما سقطت عروة الحكم ؟ خذ أليك هذه محكمة قبل فوات الاوان : نكبتنا ثقافية فكرية بالاساس وليست مظاهرها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقومية سوى إنعكاسات وظلال ولن يستقيم ظل عوده أعوج .
ماهو مقصوده عليه السلام تحديدا بإنتقاض عروة الحكم ؟ : أليس هي روحه وهي الشورى ؟
لم يكن المقصود أن الناس سيعيشون فوضى لا سراة لهم كما قال الشاعر لان ذلك محال إجتماعا وفطرة كما قال المرحوم إبن خلدون " الانسان مدني بطبعه " ولكن المقصود هو إنبناء الحكم الاسلامي على أساس مضاد لشورى الناس سواء في مستوى رضاهم عنه عبر البيعة العامة ودعنا نركز على أس عملية التراضي لا عن آلياتها ووسائلها لان ذلك من المتغيرات أو في مستوى سلوك الحاكم وسائر مؤسسات الحكم بعد البيعة العامة وروح التراضي تسييرا لدواليب الحياة في سائر المجالات وهو ما نسميه اليوم إبتلاع الدولة للمجتمع وتحولها إلى غول مفترس نهم . وإذا كان الانقلاب الاموي الرهيب الذي يظل يتجرع للعنات تلك السنة السيئة جزاء وفاقا قد حقق تحذيره عليه السلام من تحول الخلافة الراشدة إلى ملك عضوض إنحصر تأثيره تقريبا في المجال السلطاني بينما ظل المجتمع بسائر مناشطه يتحرك بحرية وعدل وكرامة فإن الانقلاب المعاصر من لدن دولة التجزئة دولة ما بعد الاستقلال واليوم هي دولة الارتباط الصهيوني الامريكي بإمتياز شديد ...إبتلع الامة بأسرها وبسائر مقدراتها فقيدها وعطل نهضتها وأجهض قومتها عبر كفران بقيمة الشورى كفرانا يعكس مدى غربة أولئك الذئاب عن ثقافة الامة ومصالحها وهو الامر الذي أدى بعد ذلك إلى الارتماء في أحضان الصهيونية وأذنابها خوفا من نقمة الشعوب التي تمهل ولا تهمل . فبالخلاصة فإن إنتقاض الحكم معناه إنتقاض مبدإ الشورى والشورى هي وراء إندياح قيم العدل والقسط والحرية والكرامة والرخاء وسائر أسباب السعادة.
نكبتنا الراهنة مزدوجة : تنكر للاسلام في محكماته القطعية و تنكر للامة في إرادتها الشعبية .
لما أرسل عليه السلام معاذا إلى اليمن قاضيا قال له بم تحكم فقال بكتاب الله فقال فإن لم تجد قال فبسنة رسوله عليه السلام قال فإن لم تجد قال أجتهد رأيي ولا ألوي فضرب عليه السلام على صدر رسوله وقال مبتهجا " الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله لما يحبه الله ورسوله " وهو حديث مستخدم عند الاصوليين كثيرا لانه يرسم جانبا كبيرا من علم أصول الفقه وخاصة في مستوى ترتيب مصادره واليوم وقد ورثتنا هذه الحكومات المتصهينة طوعا وكرها لا نحن نسعد بقضاء سياسي وإقتصادي وإجتماعي وثقافي وعسكري يرجع فيه إلى كتاب الله ثم إلى سنة رسوله عليه السلام فيما هو محكم قاطع من مثل الشورى السياسية والعدل الاقتصادي والحرية الاجتماعية والشخصية الثقافية المتميزة والقوة العسكرية الحامية للاوطان ولا نحن نسعد بحرية إجتهاد من سائر أهل الاجتهاد في سائر المجالات فيما هو مختلف فيه أو من العفو المباح .
السؤال الكبير الملح : كيف السبيل إلى إستئناف حياة الشورى في بلادنا ؟
لايوجد اليوم واحد من الامة سوى أزلام الصهيونية وبناتها وهم قليل من قليل رغم تسلطهم على منابر الحكم والتوجيه غير مؤمن حتى النخاع بحيوية الشورى أداة تحرير وتكريم للانسان وعامل طرد لنكباتنا من إستبداد وظلم وقهر وإحتلال وذلك التقدم في الوعي هو مظهر من مظاهر إنجازات الصحوة الاسلامية المعاصرة سوى أن السبيل إلى إحلال الشورى محل التظالم مازال طويلا وبعيدا ومعقدا ومن أهم العقبات : تناول كثير منا للشورى على أساس أنها آلية إدارية سياسية والحقيقة أنها خلق يزكي النفس وعبادة تطهر شح الصدور تماما كالصلاة والذكر والتلاوة والصدقة وبما أنها كذلك فذلك يعني أن عملا تربويا من لدن سائر من له بالتربية صلة لابد له من التنزل ضمن تربية روحية على نبذ الفردية لصالح الشورى وتربية فكرية على إحداث التوازن الزوجي في كل أمر يحتمل ذلك وتربية إجتماعية في العيش ضمن جماعة ومؤسسة وإدارة فيها الشورى والوحدة والحرية والصبر وقس على ذلك سائر الدوائر التي يباشرها الانسان .ــ العقبة الاخرى : الابتعاد بدوائر حياتنا الاولية وخاصة الاسرة إنشاء وتواصلا عن قيمة الشورى ولو لم يكن ذلك كفيلا بزرع الشورى في الاسرة وما يليها من بيئات لما قصر سبحانه جذر الشورى على ثلاثة مواضع فحسب في القرآن وهي المشارإليها أعلاه في ا لشواهد ومنها موضع الاسرة وتحديدا مسألة الاسترضاع ولك أن تقول بإطمئنان الواثق بأن مجتمعا تتأسس أغلب خلاياه الاسرية على الاستبداد جدير بتسلط الحاكم عليه فكما تكونوا يولى عليكم كما ورد في الاثر وهو بعد ذلك سنة ماضية في الاجتماع البشري . العقبة الثالثة : عزوف الناس عن الانخراط في الشأن العام وهو عزوف يعزى إلى بضاعة فكرية مزجاة قائمة على فكرة التذرر لا الجماعة وإلى أثرة نفسية مقيتة قائمة على الانانية وإلى تطور الاستبداد الاجتماعي والسياسي في بلداننا إلى حد زرع الخوف والجزع في نفوس الناس فنكل ذلك بمن خلفهم وهذه عقبة تعالج بالثقافة والاعلام والفكر والتجرئة والتضحية من لدن المنخرطين في الشأن العام والصبر على ذلك عقودا طويلة إلى حين إستلام الاجيال الشابة اليوم مشاعل الاصلاح في المجتمع . العقبة الرابعة هي عزوف المنخرطين في دوائر الاصلاح والتغيير وسائر من في حكمهم فكرا وثقافة وإهتماما عن مواطن المشاركة في مؤسسات المجتمع والدولة وإذا كان ذلك ليس دوما متاح بحكم إندياح الاستبداد الحكومي المنظم فإن ما يتاح منه عادة ما يقابل من أكثر هؤلاء بالنفور خوفا من الادانة والوقوع في الاخطاء وتهم الانحياز إلى السلطان على حساب مصالح الشعب إذ عادة ما تغلب ثقافة وممارسة النأي والبعد وتأسيس مواطن النفوذ المستقلة على ثقافة المشاركة وهي مشاركة لها كفلها من الخسائر ولا ريب ولكن دوائر التغيير لابد لها من التعدد والتوزع بين الرسمي والشعبي وبين أجندة أخرى كثيرة " لاتدخلوا من باب واحد وأدخلوا من أبواب متفرقة".
الرسول الاكرم عليه السلام يرسم نظرية الشورى " إجمعوا له العالمين من المؤمنين ".
لولم يتعبأ الصحابة بروح الشورى وحق الناس في إختيار حاكمهم على أساس أن الحاكم خادم مستأجر للامة صاحبة القضية تكلف وتراقب وتجازي وتعزل ... لما إجتمعوا في السقيفة قبل دفنه عليه السلام ولما دار بينهم الذي دار من الحوار ولو لم يكونوا متعبئين بفقه زوجية الحياة ناموسا ماضيا لما تناول الحوار مكونات مجتمعهم الجديد من مهاجرين وأنصار ولو لم يكونوا متعبئين بأن عقد البيعة العامة هو عقد تراض بين طرفين محددين لما أهتبلت صلاة الجماعة لقيام كل من رضي بالخليفة الاول حاكما ببيعته شخصيا ولو لم يكونوا متعبئين بذلك لما رفض بعض كبار الصحابة بيعة الخليفة الاول ولثار على الرافضين الثوار وكل ذلك تشكل ثقافة عملية بعد أن كانت قولية إنسحبت على سائر مراحل الخلافة الراشدة على مدى عقود أربعة كاملة حتى أن الشورى في إنتخاب الحاكم أبت إلا أن تتسلل إلى العذراء في خدرها بل أبت إلا أن تحمل عليا على إشتراط تجاوز منهج الشيخين في الحكم وإختطاط منهج جديد تفرضه التحولات بل أبت إلا أن تفرض على ذي النورين التضحية بحياته تحت ضربات المتمردين فلا حالة طوارئ ولا هيبة دولة ولا قوى حماية خاصة وليس ذلك كله طبعا من جانب آخر إيجابي . " إجمعوا له العالمين " هي من مشكاة " ولا ينبئك مثل خبير " و" إسأل به خبيرا " فالعالمين في تولية الحاكم في كل المستويات هم أبناء ذلك البلد بأسرهم وهم أهل الاقتصاد في الغرفة الاقتصادية وأهل التربية والتعليم في الكليات والمعاهد وهم القضاة في مجلس القضاء الاعلى وهم الفقهاء في مؤسسات الافتاء والبحث العلمي وهم أهل الخبرة الرياضية في المجال الرياضي والعسكريون في مجالهم.
الخلاصة : إن أشد ما نئن منه اليوم هو داء الاستبداد في سائر مجالات حياتنا ولاينفعنا كثيرا أن نعلم أن الشورى هي البلسم الشافي من ذلك سوى أن نتناول حبات الشورى يوما بعد يوم تزكية وعلما وتفعيلا بدء من الاسرة إختيارا وتواصلا ومرورا بسائر مؤسساتنا وإنتهاء بمولد الطاقة الاستبدادية الاكبر فوق الارض أي الدولة المؤممة للمجتمع فليست الشورى إدارة سياسية فحسب بل هي قبل ذلك بالتأكيد خلقا كالكرم والوفاء والشجاعة وليست الشورى شرطا للحرية السياسية فحسب بل هي شرط للرخاء المادي والعدل الاقتصادي والحرية الاجتماعية وتميز الشخصية الثقافية وتحرر الاوطان السليبة وعقبات الشورى كامنة فينا ثقافة وفكرا وسلوكا وتراثا وتاريخا قبل أن تكون في واقعنا رغم مرارته ولاسبيل لاستخلاص الشورى سوى بالتربية والعلم والعمل والصبر والجماعة وحشر الناس للانخراط في الشأن العام والتواصي بذلك وليس كالاعلام الفضائي والالكتروني اليوم يوسع من دوائر الوعي بالشورى ويحاصر جيوب الاستبداد .
مواقع النشر (المفضلة)