الحلقة الثالثة والتسعون
أخرج مسلم وأبوداود والترمذي والنسائي وإبن ماجة عن أبي ذر أنه عليه السلام قال " ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المسبل والمنان والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ".
ـــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــ
موضوعه : أبغض رداء يلتحف به إنسان رداء الكبر وأبغض إعتداء هو الاعتداء على الانسان .
أذكر بداية بملاحظة قديمة وهي أن من أراد جمع خطام الكبائر والمهلكات والموبقات من الذنب فليس عليه سوى جمع سائر ما ذكر في ذلك بدء بالقرآن وإنتهاء بالسنة دون الاكتفاء بنص واحد أو بعدة نصوص مهما كانوا شاملين في عينك وهي ملاحظة مرتبطة بمبحث قرآني إسمه تنجيم القرآن أي نزوله متفرقا مبثوثا على مدى عقدين من الزمان ومثله السنة وفي ذلك قال " وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث " وعادة ما يقع الناس في الاخطاء عندما يستعجلون فيكتفون بنص أو نصوص في موضوع معين . كما لك أن تلاحظ معي هنا أن الخصال الثلاث التي ذكرها الحديث بلغ النكير فيها درجة لم يبلغها غيرها مما يوحي بكبرها عند ربك سبحانه وبعظيم أثرها في الدنيا على عباده سواء الذين يأتونها أو الذين يكونون ضحاياها " لا يكلمهم ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم " وقليلة جدا هي الذنوب التي تجمع كل هذا الوعيد فحتى الكافر غير الظالم لا يفعل به كل هذا من العذاب المعنوي والمادي سواء بسواء .
من هو المسبل ؟:
المقصود به من يرخي ثوبه إلى أسفل كعبيه . ومعلوم أن أبابكر الصديق عليه الرضوان كان يسبل ثوبه : أخرج الشيخان وأبوداود والنسائي عن إبن عمر أنه عليه السلام قال " من جر ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة " فقال أبوبكر " يارسول الله إن إزاري يسترخي إلا أن أتعاهده" فقال له عليه السلام " إنك لست ممن يفعله خيلاء ". ربما يظن بعض الناس أن الاجتهاد مطلقا محل صواب دوما وربما يستندون في ذلك إلى حادثة صلاة العصر في الطريق إلى بين قريظة بعيد الاحزاب وهي حادثة معروفة مشهورة لكل طالب علم في يومه الاول منه وإذا كانت المسألة لها إرتباط بالاصول فيما عرف بالمصوبة والمخطئة فإن الثابت أن الاجتهاد منه المصيب ومنه المخطئ " من إجتهد وأصاب فله أجران ومن إجتهد فلم يصب فله أجر واحد " سوى أن الناس ينطلي عليهم مثل ذلك الازدواج بسبب خلطهم بين القضايا التي يتعين فيها حق واحد لا يتعدد في أصله على الاقل من مثل وحدانية الله سبحانه وسائر العقائد اليقينية الثابتة المطلقة وبين القضايا التي يمكن للحق فيها أن يتعدد ليسع الناس في بيئاتهم وعقولهم وسائر متغيرات أمرهم . وتبعا لذلك فإن بعض الناس يضيقون من دائرة الاختلاف والتنوع فيسقطون في التنطع والغلو والتشدد غير أن بعضهم الاخر يوسعون من تلك الدائرة حتى ليجتمع الامر ونقيضه والعقل الذي جعله سبحانه مناطا للتكليف الشرعي يقوم على التفريق بين المختلفات والجمع بين المتماثلات . ففي موضوعنا مثلا موضوع الاسبال ليس من الحكمة البتة أن نقول أن الاسبال ممقوت لذاته ليس لان رواة الحديث الاول هم ذاتهم الذين رووا عنه عليه السلام بأن أبابكر ليس منهم حقيقة رغم أنه منهم صورة فحسب ولكن كذلك لانه يوجد في كل عصر وفي كل مصر أناس يأتون من الكبر والاستكبار على الله وعلى الناس ضروبا لا تحصى ولاتعد وهم ربما عراة أصلا أو يرتدون تبابين بالكاد تستر منهم العورات المغلظة فنعدهم غير مغضوب عليهم رغم كبرهم الذي تضج منه الخليقة والبسيطة لو نطقت بحجة أنهم لا يسبلون الثياب فنحارب المسبلين أي نحارب أبا بكر الصديق وندع عتاة المستكبرين . هذا وهم وحمق في الفهم وخطل في الفقه وقول على الله ورسوله بغير علم لا يشفع لاصحابه أن الورع حملهم على تحري سنته عليه السلام في كل كبيرة وصغيرة لان تحري السنة في الصغيرة لا يتضارب مع حسن الفهم ودقة الفقه فمن تحري السنة في الصغيرة مثلا إحياء سنة الاكتحال رغم أنها اليوم في بيئات كثيرة أعرفها منفرة ولكن لو تحراها العبد فلا بأس ومنها إرخاء اللحية بحد القبضة وليس دون ذلك ولا أكثر ومنها إلتزام السواك وتتبع أثره في مناسك الحج شبرا بشبر وذراعا بذراع لو إستطاع الانسان ذلك وسوق هذه الامثلة يبرز أن التحري الدقيق شئ وهو أمر محمود ولا شك إلا أن يصرف عن واجب دعوي مثلا أما التشديد في تقصير الثوب فوق الكعبين بما يخالف العرف والعادة بإسم تحري السنة والاعتقاد بأن المسبل غير المتكبر مثل أبي بكر هو في النار فذلك وهم وسوء تدين .
من هو المنان ؟:
المن هو القطع لغة وسمي كذلك شرعا لان الاستكبار على الناس ببذل المال والسعي في حاجتهم مؤذن بسرعتهم تعففا ولو مع حاجة شديدة إلى قطع ذلك عنهم وهو في قمة ما يغضبه سبحانه لانه هو المنان إذ لايجوز المن سوى لمالك كل العطايا إسداء ومنعا ملك أصالة لا تبعية كما هو حال الانسان . وإذا أردت أن تعرف غضب الله على المنان فلك أن تراجع أواخر سورة البقرة وتحديدا في بداية آيات الانفاق الطويلة فإنك لاف أن أغلب آيات الانفاق ومنذ البداية لا تدعو إلى الانفاق بل تدعو إلى عدم المن فيه وظلت تضرب لذلك الامثال وتقص القصص حتى ليخرج التالي بدرس بليغ مفاده أن منع الانفاق مع منع المن أولى من بذل الانفاق مع بذل المن فماهو السر في ذلك يا ترى ؟ ذلك هو السؤال الصحيح الذي عليك أن تطرحه كلما ألفيت سلوكا صغيرا رتب عليه الباري سبحانه عذابا أليما . ولك في الاسبال مثال رائع فهو سلوك صغير جدا عادة ما يتعلق بالاعراف والتقاليد لا بالاديان ولكن لم شدد الوحي فيه إذن ؟ الجواب : لان الاسبال يومها كان مصحوبا في الغالب بالكبر فلو جاء زمان مغاير كان الكبر فيه بالتعري جملة وتفصيلا هل نغض الطرف عن الكبر أم ندور مع المقصد الذي من أجله حرم الاسبال دوما ؟ فالسر في تحريم المن إذن هو تحرير ذمم الناس وخاصة الممنون عليهم وعادة ما يكونون فقراء وضعفة من عبودية الاغنياء والموسرين فمن أراد أن يسعى في حاجة الناس دون أذى لكراماتهم أي بإخلاص لله سبحانه فليفعل وله بذلك أجر المجاهدين ومن لا يستطيع ذلك سوى بإستعبادهم فإن ربك أولى بإستعباد خلقه والمن عليهم لذلك يقذف يوم القيامة بالمتكبرين على خلقه سواء كان ذلك عبر إسبال الثوب لتهديد الناس والتبرج بالنعمة وقود الطامعين الخائفين الجائعين إلى سحتهم قود العبيد أو كان ذلك عبر إستعباد العباد بالمن لان المنان ربما يشبع بطنا جوعاء ولكنه يسجن نفسا كريمة ويخفر ذمة محرمة ومعلوم أن رسالة الاسلام إنما جاءت لتحرير العباد من عبادة العباد .
من هو المنفق سلعته بالحلف الكاذب ؟:
عبر الاسبال إستكبارا لا عادة أو عرفا بريئا لا يزرع رياء ولا مهابة في صدور الناس وعبر المن إستعلاء يمكن خفر ذمة الانسان المعنوية لذلك كان الاسبال رمز الكبر محرما كما هو حال المن غير أن الانسان لا يتقوم بالذمة المعنوية فحسب رغم أنها الاولى فالانسان كذلك حاجة مادية لابد له من تكريم نفسه بالمال وحتى يحرر الاسلام الانسان بالكلية مادة ومعنى كان لابد لهذا الحديث الكريم العظيم أن يحشر في النار المستكبر على الانسان المستعبد لذمته مع المتعدي على ماله سواء بسواء فكان تحريم أكل أموال الناس بالباطل وهو أسرع طريق للاحتيال والنصب لذلك وعد سبحانه التاجر الصدوق بالحشر مع الانبياء والصديقين والشهداء ولذلك كذلك ليس يسيرا جدا أن يكون التاجر دوما ومع كل الناس وفي كل الازمات صدوقا لان التاجر معرض للكذب في كل لحظة بإعتباره في علاقة مع زبون جديد ويستوي في ذلك أن يكون التاجر صغيرا يعرض سلعته بنفسه أو كبيرا تتولى عرضها آلاف الوكالات وملايين العملة وليس يسيرا جدا على التاجر الذي يمر بضائقة مالية ومنافسة قوية إلتزام الصدق دوما ومع كل أحد ولو كان كافرا إبن كافر وليس يسيرا جدا أن ينجح كل تاجر وكل إنسان في إمتحان المال إذ أن المادتين الرئيستين في إمتحاننا بأسره الذي يظل معقودا عقودا طويلة والتي على أساسهما يرسب الواحد منا في الامتحان أو يفوز ليستا هما سوى مادة النساء ومادة المال فإن فاز الانسان فيهما فاز فيما سواهما وإن سقط فيهما لم يفز ولو بنى لله مليون كعبة وطاف بها مليون طائف مع مطلع كل شمس. وليس يسيرا على التاجر أن يحفظ لسانه من الحلف ومن شأن الحلاف أن يقع في الكذب ولو كذب الانسان مرة فإنه ولج بابا ليس يسيرا عليه أن يخرج منه فليس كثيراعلى المنفق سلعته بالحلف الكاذب إذن أن يحشر مع المعتدين على ذمم الناس بالمن أو بالكبر سواء عبر الاسبال أو عبر غيره وذلك لانه إرتكب آثاما كثيرة مرة واحدة : أولها أنه أكل مال الناس بالباطل وثانيها أنه حلف بالله سبحانه من أجل ذلك فكان المال أغلى عنده من عظمة ربه سبحانه أما لو حلف بغيره فقد أشرك والعياذ بالله وثالثها أنه كان كاذبا في حلفه .
الخلاصة : مامن كبيرة مبغوضة عنده سبحانه إلاوهي مرتبطة بالعدوان على صنعته التي فضلها على الملائكة وهي الانسان وأبغض عدوان على الانسان يكون بالاستكبار عليه لان الكبر يعبد الناس لغير ربهم الحق ولو لم يكن الكبر كبيرا عنده سبحانه لماقال فيه " لايدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر" وسواء كان الكبر بالاسبال أو بغيره من الصور فإن الكبر محله القلب وفي كل عصر ومصر يتخذ له صورة فلا تكن سليب الارادة سجين النفس حبيس الحرية حتى حيال أشرف من خلق الله سوى الانبياء فالمسلوب حيال أولئك لا يأمن على نفسه أن يكون سليبا حيال هؤلاء اليوم فالامعية هي هي والتميز مطلوب فكن أنت بنفسك لا ترض أن تكون نسخة من أحد ولا تتبع سوى الانبياء وسائر من عداهم مجتهد لا يسلم من كبوة كائنا من كان ثم كن على حذر من ذمم الناس وأموالهم فإن نجحت في مادتي النساء والدنيا فأبشر بالجنة ولو في جهة الاعراف المقابلة لها وإن رسبت في مادتي النساء والدنيا فأبشر بالنار كانت ما كانت عبادتك.
مواقع النشر (المفضلة)