بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
بداية لا بد من التسجيل بأن هذا الحديث الذي أخرجه الإمام البخاري يتعلق بشريعة من قبلنا ـ شريعة عيسى إبن مريم عليه السلام ـ بمعنى أنه لا يؤسس حكما عمليا لنا نحن المسلمين الذين يتعبدون بالكتاب الكريم و بالسنة النبوية الشريفة. شريعة من قبلنا مبحث أصولي ليس هنا محل التفصيل فيه بين عامل به مطلقا و بين آخذ به بشروط وبين معرض عنه بالكلية.
الحديث النبوي الكريم ـ هذا ـ لا يحمل أمرا ولا نهيا بل يحمل إخبارا والإخبار لا يحمل تكليفا في العادة كما فيه قوله سبحانه " لا يمسه إلا المطهرون " في إشارة إلى المصحف الشريف الذي يحوي القرآن الكريم. و إلى ذلك يشير أهل الأصول بقولهم بأن البيان لا يتأخر عن وقت الحاجة إليه.
الإخباريات عامة منها ما يتعلق بالإخبار عن الغيب وهي العقيدة بأركانها الستة المعروفة التي يعد المؤمن بها مؤمنا بالإسلام والكافر بواحدة منها كافرا به في إجمالية لا تفصيلة كما هو الشأن في الرسل إذ جاء في قوله سبحانه " كذبت قوم نوح ا لمرسلين " وقوم نوح لم يكذبوا سوى نوحا ولكن عد تكذيبهم نوحا تكذيبا لكل رسول جاء من قبل نوح ومن بعد نوح عليهم السلام جميعا.
ومن الإخباريات ما يتعلق ـ بعد البيان الغيبي العقدي ـ بالقصص وهو أكثر ما ورد في القرآن الكريم من الزاوية الكمية وإن فيه " لعبرة " كما أخبر سبحانه.
ومن الإخباريات ما يتعلق بالدلالة على مكارم الإخلاق بشكل عام إذ رسالة الإسلام عنوانها " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ".
هذا الحديث من ذلك الضرب. أي أنه يرشدنا هنا عليه الصلاة والسلام إلى أن من مكارم الأخلاق ـ فرعا عن الإيمان الحق الصحيح ـ أن نعظم الله سبحانه في صدرونا ونخشاه في قلوبنا حتى يكون إسمه واللوذ به من الناس مبعث وجل وخوف وأخذ للأمر بجد وهو جد القوة " يا يحي خذ الكتاب بقوة ".
يؤكد ذلك ـ وأحسن ما يفسر الحديث الحديث والقرآن القرآن والقرآن الحديث ـ قوله سبحانه في الحديث القدسي الصحيح " ثلاث أنا خصمهم يوم القيامة : رجل أعطي بي ثم غدر ورجل أستأجر أجيرا فأستوفى منه حقه ولم يعطه أجره ورجل باع حرا فأكل ثمنه ". فإذا كان الغدر شيمة الجبناء من المؤمنين وغير المؤمنين فإن الغدر بإسم الله سبحانه أي بعد التوثيق لعقده السابق بإسمه سبحانه حتى لو كان من لدن كافر يكون أشد غدرا لذلك تولى سبحانه هنا بنفسه خصومته يوم القيامة ومن يخاصمه ملك يوم الدين يوم الدين لن تجد له وليا فهو مخصوم مسبقا.
كما يؤكد ذلك حديث آخر يقول في ما معناه عليه الصلاة والسلام أن من إستجار بالله فأجيره ومن طلب بالله فأعطوه بما يؤكد بأن إستخدام إسم الله سبحانه باعث للؤمن الذي يؤمن بالله إيمانا تجل منه مهجته ويخاف منه قلبه ويقعشر له بدنه ثم يلين على الوفاء بطلب الطالب وإستجارة المستجير.
مخ هذا الحديث أمران هما :
أن المؤمن عملا بشريعة من قبلنا فيما لا يتعارض مع ديننا لا يحسن به سوى تقدير إسم الله سبحانه كلما نطق به ناطق حق قدره لإنه الأسم العلم له سبحانه وتعالى وهو اكثر كلمة ترددت في القرآن الكريم وأيسر كلمة على لسان الوليد والرضيع وذلك موافق لقوله سبحانه في الآية التي غلطت فيه الأم العظيمة الكريمة عائشة عليها الرضوان وصححها له عليه الصلاة والسلام " الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ". وقوله " الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم ".
الأمر الثاني هو التنبيه إلى عظمة عيسى إبن مريم عليه السلام عظمة رقة ورفق ووفاء وحب وتعلق شديد بالله وحده سبحانه وهذا أمر معروف عن سيدنا عيسى عليه السلام وهو ما صبغ رسالته إلى قومه بذلك " ورهبانية إبتدعوها ما كتبناها عليهم إلا إبتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها " فهي مبتدعة بداية من قومه أي من بعض قومه وفي الأن ذاته هي مكتوبة عليهم بداية أيضا ولكنها بداية القدر الكوني المكتوب في اللوح المحفوظ والمقصد الأسنى من تلك الرهبانية في شريعة عيسى عليه السلام هو : تطهير ا لقلوب وتزكية النفوس حتى تعظم الباري سبحانه فتخلص له العبادة و لاتشرك به شرك ولد كما فعلت النصارى من بعد ذلك ولذلك جاءت سورة الإخلاص ثلث القرآن الكريم تقول لم يلد ولم يولد وكل الناس حتى الكافرين يعرفون أن الله لا يلد ولا يولد حقيقة بيولوجية ولكن المقصود منها ليس لفظها بل معناها اي لم يتخذ ولدا ولدته مريم عليه السلام
الأمر الثاني هو إذن تبيين عظمة النبي الأكرم عيسى عليه السلام وضرب لنا هنا مثلا من تلك العظمة وهو أنه عليه السلام كذب عينه ـ تكذيب مجاز لا حقيقة ـ ليبين لذلك السارق ولمن يتعلم من عيسى عليه السلام ونحن منهم بأن عظمة الله سبحانه في قلبه أكبر وأعظم من أن يقدم عليها عينا قد ترى فتصيب وقد تخطئ كما جاء في قتلته بعد ذلك " وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم " وكما جاء في السحر حين يزيف للعين المجردة الحقيقة فيراها على غير ما هي عليه
إنظر إلى دقة ألفاظ الحديث ودع المعاني بعد ذلك تتسلل إليك تسلل الأشعة النورانية العذبة : لم يقل له بأداة التأكيد سرقت بل صاغ ما رأت عينه بسؤال لئلا يقع في المحظور تحسبا لما قد تكون عليه إجابة السارق أو المفترض أن يكون سارقا. ذلك أدب من جهة وبلاغة من جهة أخرى
الملمح الثاني في ذلك هو : لم يقتصر يمين السارق على ذكر إسم الله سبحانه ولو فعل لكان كافيا عند عيسى عليه السلام لتصديقه أو تبرئته حتى مع تكذيبه في قلبه ولكنه أقسم بوحدانية الله سبحانه نافيا كل ألوهية عن غيره وتلك هي قضية عيسى عليه السلام أساسا التي يشترك فيها مع كل الأنبياء ولكنه يفوقهم فيها لكون قومه ولغوا في الشغب على التوحيد متذرعين به هو ذاته أي بطريقة ولادته فكان واجبه إذن حيال قضية الإسلام الأولى ـ الإسلام هو دين كل نبي وكل رسول من آدم حتى محمد عليهم السلام جميعا ـ أن يتحمل توضيح تلك القضية مرة أخرى أضافية زائدة عن كل نبي يأتي من قبله ومن بعده بسبب الخصوصية الذاتية له ولطريقة ميلاده عليه السلام
لم يكن أمام من وكلت إليه تلك القضية العظمي ـ لا بل أعظم قضية وجودية تمحضت لها كل الكتب والرسالات وآخرها وخاتمها وناسخها والمهيمن عليها ألقرآن الكريم ـ إلا تكذيب المادة ـ العين في صورة الحال تكذيبا مجازيا على الأقل إن لم تكذيبا حقيقا أو تكذيبا مقاصديا أي لخدمة مقصد أسنى من قضية سرقة إن لم تكذيبا لواقعة مادية ـ وتصديق الحقيقة الوجودية العظمى التي هي لب رسالته عليه السلام من أجل الإرتفاع بإيمان ذلك السارق إلى درجة لا يختل إيمانه فيه من بعد ذلك حتى لو عاود السرقة لإن السرقة فعل وعمل والعقيدة موقف عقلي وروحي وعاطفي ووجداني عام كلي يوجه الحياة والعبرة في وجهة الحياة لا في تفاصيل الحياة فالتفاصيل يخطي فيها ويصيب كل إنسان إلا المعصومين أما بوصلة الإتجاه الإسلامي فلا يخطئ فيها إلا شقي محروم.
ذلك هو المعنى العام للحديث .
طبعا لا بد من ملاحظات ختامية هنا منها :
ـــ التعويل هنا على التفاصيل الفقهية من مثل كيف يتأكد الإنسان من سرقة سارق يقسم له بالله العظيم الذي لا إله إلا هو ثم يعمل بما ذكره اللسان ويكذب ما رأت عينه وفي ذلك ضياع لحق الناس ؟ الجواب على ذلك هو أن ذلك إما هو خاص بشريعة من قبلنا ونحن مأمورون في ذلك بشريعة محمد عليه الصلاة والسلام وفيها الكافي والشافي في ضمان عدم ضياع حقوق الناس من سراق ومسروقين. وهي مفصلة في التشريع الجنائي الإسلامي ولينظر من شاء السفر الشافي والكتاب الكافي الذي ألفه فيها الشهيد عودة عليه الرحمة في مجلدين ضخمين.
ــ ومنها أن الحديث لا يقرر حكما فقهيا عمليا لا تكليفا ولا إقتضاء بلغة الأصوليين حتى نختلف عليه ولكن يقتصر على تأكيد قضية القرآن الأولى : التوحيد إخلاصا أما التوحيد غير المخلص فنشترك فيه مع اليهود والنصاري ومع كل مشرك وكافر
ــ الحديث الواحد حتى في مجال الفقه لا يؤخذ منه حكم مهما كانت قيمته التوثيقية سندا وصحة دلالته رسما ومتنا ولا بد من مراجعة كتاب مهم في هذا الموضوع للإمام القرضاوي إسمه : كيف نتعامل مع السنة النبوية ومن قبله كتاب آخر أشد أهمية منهجا علميا أي يجب أن يقرأ الكتاب الأول قبل كتاب القرضاوي وهو كتاب المرحوم السباعي : السنة النبوية ومكانتها في التشريع الإسلامي وهو كذلك يعتبر سفر عصره لم يكتب مثله في موضوعه.
درس آخر مهم في مجال العقيدة وهو :
عيسى عليه السلام يعلمنا منهج تشرب الإيمان وكسب العقيدة يقوم على تقديم الغيب على الشهادة فيما لا بد فيه من الإخبار وذلك في قوله " آمنت بالله وكذبت عيني ". وهو منهج علمي عظيم لا مناص لمن يريد فهم القضايا الوجودية الثلاث الكبرى التي يطرحها كل كائن حي عاقل على نفسه : من أين وإلى أين ولم .. من حسن فقهه.لابد في النهاية من أمرين لفهم الحديث :
ــ جمعه مع إخوته في مجاله : مجاله هو مجال العقيدة والإيمان وليس مجال القضاء والحكم والتكليف ثم جمعه بعد ذلك ضمن مجال شريعة من قبلنا ثم جمعه بعد ذلك إلى مجال فضائل الإنبياء سيما فيما يتعلق منهم بتقديم التوحيد وجهادهم لترسيخه في نفوس الناس
ــ فهم الحديث فهما يجمع بين دلالة اللفظ " كذبت عيني " وبين حقيقة الرسالة أي رسالة الحديث " آمنت بالله " و " الله الذي لا إله إلا هو ". اللغة فيها المجاز والحقيقة والمجاز فيه تسعة عشر نوعا يرجى مراجعتها في كتاب أصول فقه عظيم جدا رغم قدمه ـالقرن الرابع أو الخامس ـ للفقيه البغدادي. القرآن الكريم نفسه فضلا عن السنة حوى ما لا يحصى من المجاز
مواقع النشر (المفضلة)