+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 3 1 2 3 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 5 من 11
  1. #1
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي التربية الروحية في الإسلام

    بسم الله الرحمن الرحيم

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

    مقدمَّة:

    لم يقتصر دين الإسلام على مجرَّد الدعوة للإيمان بالله فحسب؛ بل جاء للناس بمنهج تربوي كامل وشامل، لشتَّى فروع التربية الَّتي تستند إليها المجتمعات الإنسانية، في عمليَّة التقدُّم والتطوُّر نحو الأفضل، وفي سـبيل تحقيق ما يصبو إليه أفرادها من سعادة ونجاح، وطمأنينة وسلام.

    إن التربية الروحيَّة نواة التربية الإسلامية وجوهرها، وقد قامت على قواعد قويَّة، وأسس متينة من شأنها توطيد أواصر الصلة بين المسلم وربِّه، وربط أسباب دنياه بأسباب آخرته. وقد رافقتها التربية الأخلاقية كظلِّها، ثمَّ أُكملتا بالتربية الاجتماعية، الَّتي كانت بمثابة الطابق الثالث في بناء التربية في الإسلام. وإن أهمَّ طاقة تنير هذا البناء : دوام ذكر الله وتسبيحه، وتلاوة كتابه، والاستقامة على عبادته، والتضرُّع إليه بالدعاء.

    إن من أبرز سمات تربية الإسلام الروحية، الاعتدال والتوازن بين مطالب الروح ومطالب الجسد، وأقرب مثال على ذلك العبادات الَّتي تُعنى بالجانبين الروحي والمادي في الإنسان، وقد جُعلت متنوِّعة ومتكرِّرة ليبقى المسلم على طهارة روحية متجدِّدة تقرِّبه من الله، وتجذبه إليه كلَّما نأت به ماديَّات الحياة بعيداً عن الحضرة الإلهية.

    وقد ظهرت ميزة الاعتدال بشكل أوضح في كثير من الآيات القرآنية؛ ففي طائفة منها نجد حضّاً للمؤمنين على طلب المنزلتين الروحيَّة والماديَّة معاً كقوله تعالى: {وابْتَغِ فيما آتاكَ الله الدَّارَ الآخرةَ ولا تنسَ نصيبكَ من الدُّنيا وأَحْسِن كما أَحْسَن الله إليك ولاتَبْغِ الفَسادَ في الأَرضِ إنَّ الله لا يحبُ المُفسِدينَ} (28 القصص آية 77).

    وفي طائفة أخرى من الآيات يرشد الله المؤمنين لكي يَجْمَعوا في دعائهم بين طلب الدنيا وطلب الآخرة وذلك في قوله جلَّ وعلا: {..فَمِنَ النَّاسِ من يقول ربَّنَا آتِنَا في الدُّنيا وما له في الآخرةِ من خَلاق * ومنهم من يقولُ ربَّنا آتِنَا في الدُّنيا حسنةً وفي الآخرةِ حسنةً وقِنا عذابَ النَّار * أولئك لهم نصيبٌ ممَّا كَسَبُوا والله سريعُ الحِساب} (2 البقرة آية 200ـ202). فالوسطيَّة بين الروحانيَّة المتطرِّفة، والماديَّة المفرطة الجامحة، أمر تستدعيه حياة المجتمع، والإسلام هو الَّذي تحقَّقت فيه هذه الميزة، وتفرَّد بها عن غيره، قال تعالى: {وكَذلكَ جَعَلنَاكُم أمَّة وَسَطاً..} (2 البقرة آية 143).



    وفي هذا الباب سنتناول أبرز الدعائم الَّتي قامت عليها تربية الروح في الإسلام، ونوجزها ضمن عدد من الفصول، ثمَّ ننتقل إلى التربية الأخلاقية في الإسلام بإذن الله.

     
  2. #2
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي رد: التربية الروحية في الإسلام

    الفصل الأوَّل:

    ذكر الله وحسن الصلة به

    سورة الأحزاب(33)

    قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اذكروا الله ذِكراً كثيراً(41) وسبِّحوه بُكْرَةً وأصيلا(42) هوَ الَّذي يُصلِّي عليكُمْ وملائِكَتُهُ ليخرجَكُم من الظُّلمات إلى النُّورِ وكان بالمؤمنين رحيماً(43) تحيَّتُهُمْ يومَ يَلْقَونَهُ سلامٌ وأَعدَّ لهم أجراً كريماً(44)}

    ومضات:

    ـ إن ذكر الله تعالى هو قوام الحياة الروحية، وهو العنصر الفعَّال الَّذي يتفاعل داخل كيان الذاكر، ويتَّحد مع ذرَّات القلب ليتحوَّل إلى طاقة نورانيَّة ربانيَّة، تولِّد في روح المؤمن القوَّة والنشاط، وتدفعه للقيام بالمزيد من الطاعات والعبادات والعمل المنتج، وهو عطاء مستمر لا ينقطع، ومن ثمراته خروج المؤمن من الظلمات النفسيَّة والماديَّة إلى رحاب الحقِّ والحكمة والعمل الصالح، وهذا من رحمة الله بعباده وهو أرحم الراحمين.

    ـ في الدار الآخرة ـ يوم اللقاء العظيم مع حضرة الله ـ يجد المؤمن كل سلام وتقدير ومحبَّة، مع التكريم في المُقَام، بما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.

    في رحاب الآيات:

    أعطيات الله تعالى سابقة لعباداتنا، فقد رزقنا العقل لندرك عظمته وقدراته الخلاَّقة، ووهبنا الحسَّ الروحي والفطرة السليمة، لنذوق حلاوة الإيمان، ومنحنا أجساماً قويَّة، كاملة البنية، لنستعين بها على القيام بالعمل المطلوب منَّا، ولنسخِّرها مع جملة الطاقات الَّتي أودعها الله فينا للتحرُّر من ظلمات الجهل والتقاليد، والخروج منها إلى نور العلم والمعرفة واليقين.

    ولما كان ذكر الله من أهم الأبواب الَّتي يَلِجُها المؤمن؛ للوصول إلى رحاب المعرفة الإلهيَّة، جاء الحضُّ عليه في آيات من القرآن الكريم، يفوق عددها عدد الآيات الَّتي تحضُّ على غيره من العبادات المحدَّدة بأوقات معيَّنة، كما جاء الأمر بالمداومة عليه في كل حين وعدم الانشغال عنه في أي حال من الأحوال، قال تعالى: {..فاذكروا الله قِياماً وقُعوداً وعلى جُنُوبكم..} (4 النساء آية 103) فهو مطلوب بالليل والنهار، وفي البَرِّ أو البحر، في السفر أو الحضر، في الغنى أو الفقر، في الصحَّة أو السُّقم، في السرِّ أو الجَهْر، وعلى كل الأحوال.

    وليس الذكر مجرَّد تحريك للِّسان؛ بل هو اتصال قلبي بالله، ونشاط روحي بنَّاء. والقلب الفارغ من الذكر يبقى لاهياً حائراً مظلماً، ما لم يحصل له الاتصال بالله والأنس بمجالسته، فإذا امتلأ من نور ذكره، صحا صاحبه من لهوه، واهتدى بعد حيرته، فأبصر طريقه وعلم من أين وإلى أين ينقل خطاه. ومن خير ما قيل في تصوير القلوب الخالية من الذكر والقلوب العامرة به، قول أحد العلماء العارفين:

    قلـوب إذا منـه خلت فنفوس لأَحْرُف وسواس اللعين طروس

    وإِن مُلِّئَت منه ومن نور ذكره فتلك بـدور أشـرقت وشـموس

    ولا يزال لسان العبد يلهج باسم الله حتَّى يحصل له الحضور الدائم معه، وحينها يفوز بالشـهود القلبي، فلا يفتر عن مراقبة الله وذكره، إلى أن يحظى باليقين والطمأنينة المطلقَيْن، قال تعالى: {الَّذين آمَنُوا وتَطْمَئِنُ قُلُوبُهم بذِكرِ الله ألاَ بذِكْرِ الله تَطمئِنُّ القُلوب} (13 الرعد آية 28) وإذا غلب الذكر على الذاكر امتزج حبُّ المذكور بروحه، حتَّى تزول الحجب بينه وبين ربِّه، ويلمس حقيقة وجوده بعين البصيرة، فيغدق عليه الحقُّ تعالى من العلوم والأنوار ما يليق بفضله وكرمه.

    ويجب أن يكون الذكر مقترناً بالتسبيح الَّذي هو تنزيه لله جلَّ وعلا عما لا يليق به من الصفات، وقد بيَّن رسول الله صلى الله عليه وسلم فضل التسبيح بقوله: «من قال سبحان الله العظيم نَبتَ له غرس في الجنَّة» (أخرجه ابن مردويه). كما أخرج ابن أبي شيبة عن مصعب بن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا قال العبد: سبحان الله قالت الملائكة: وبحمده، وإذا قال: سبحان الله وبحمده، صلُّوا عليه». وثواب الذكر هو صلاة الله وملائكته على العبد الذاكر المسبِّح لله {هُوَ الَّذي يُصَلِّي عَلَيْكُم ومَلائِكَتُهُ..}، وصلاة الله رعاية لعبده، وعناية بأمره، ورفع لدرجاته، وصلاة الملائكة استغفار له ودعاء. وهذا من شأنه أن يخرجه من ظلمات الضلالة إلى نور الله؛ ونور الله واحد متَّصل شامل، وهو يشرق في قلوب المؤمنين، ويغمر أرواحهم، ويهديهم إلى فطرة التَّوحيد الَّتي يقوم عليها الوجود كله، وذلك أجرهم في الدنيا دار العمل، أمَّا أجرهم في الآخرة دار الجزاء فهو الأمان من عذاب الله يوم القيامة، والفوز بالأجر العظيم. والله واسع الرحمة بالمؤمنين حيث يقبل القليل من أعمالهم، ويعفو عن الكثير من ذنوبهم إذا أخلصوا وصدقوا في إيمانهم.

    وتحيَّة المؤمنين الذاكرين يوم يلقون ربَّهم سلام؛ وهل هناك ما هو أجمل وأصفى من السَّلام؟ سلام من كلِّ خوف، ومن كلِّ تعب، ومن كلِّ كدٍّ، سلام يتلقَّونه من الله تحمله إليهم الملائكة، وهم يدخلون عليهم من كلِّ باب، يبلِّغونهم التحيَّة العلويَّة، إلى جانب ما أَعَدَّ الله لهم من أجر كريم، فياله من تكريم.

    سورة الزخرف(43)

    قال الله تعالى: {ومن يَعْشُ عن ذِكْرِ الرَّحمنِ نُقَيِّضْ له شيطاناً فهو له قرينٌ(36)}

    ومضات:

    ـ إن نور الله تعالى يحصِّن قلب المؤمن ويضرب حوله سوراً منيعاً يصعب على الشيطان أن يخترقه، ولا يزال هذا السور قائماً ما اسـتقام الذاكر على ذكر الله تعالى. أمَّا من غفل عن الله وقطع اتصاله به، فهو أعزل أجرد لا حول له ولا قوَّة، تغزوه نزغات الشيطان من شتَّى الاتجاهات.

    في رحاب الآيات:

    قضت سنَّة الله في الكون أن يطرد النور الظلام، فما إن يظهر النور حتَّى يختفي الظلام، وبمجرَّد أن ينحسر النور وينطفئ، يعود الظلام ليحلَّ من جديد. وبذرة النور الإلهي مزروعة في ساحة القلب الإنساني، وهي الفطرة الَّتي أودعها الله تعالى قلوب خلائقه، وهذه الساحة تُشِعُّ وتضيء، وتنبض بالحياة الإيمانيَّة كلَّما مَسَّتها النفحات الإلهية، وتبقى هكذا مضيئة مشرقة طالما بقي لها هذا الاتصال مع حضرة الله، فلا تكتنفها ظلمة أو غفلة.

    ولا يتحقَّق الاتصال بحضرة الله تعالى إلا بكثرة ذكره، الَّذي تدخل ضمن دائرته بعض العبادات كالصَّلاة والحجِّ، وتندرج في أنواعه المداومة على قراءة القرآن الكريم بوعي وتبصُّر، وعندها تصبح ساحة القلب مهبطاً للعلوم الربَّانية، وملتقى للأنوار الإلهيَّة، وبهذا يطمئنُّ القلب ويخشع، وينقاد لأوامر الله بكل محبَّة ورغبة. أمَّا إذا أُهمل هذا القلب، وأعرض به صاحبه عن عطاء الله وتجلِّياته، فإنه يغدو نفقاً للشيطان ينفذ من خلاله إلى أعماق نفسه، لينفث فيها سمومه وأفكاره، فيصبح أداة طيِّعة له، فقد أخرج مسلم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما منكم من أحد إلا وقد وَكَّل الله به قرينه من الجن، قالوا: وإيَّاك يارسول الله؟ قال: وإيَّاي، إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير». فكما أن الظلمات والنور لا يجتمعان في مكان واحد ووقت واحد، كذلك فإن الشيطان لا يمكن أن يدخل قلباً استقرَّ فيه النور الإلهي.

    فالقلب إمَّا عرش للرحمن، وإمَّا عشٌّ للشيطان، والشقيُّ المحروم من أهمل قلبه، حتَّى جعل منه بؤرة، ينفث فيها الشيطان وساوسه وشروره، والسعيد الموفَّق من نظَّف سريرته، وطهَّر قلبه فصار منزلاً لأنوار الله، وانتصر بذلك على شيطانه فابتعد عنه ولاذ بالفرار؛ كما كان شأن عمر بن الخطاب رضي الله عنه الَّذي قال في حقِّه النبي صلى الله عليه وسلم : «والله إن الشيطان ليفرُّ منك ياعمر» (رواه الشيخان).

    سورة الأنفال(8)

    قال الله تعالى: {إنَّما المؤمنونَ الَّذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قلوبُهُمْ وإذا تُلِيَتْ عليهِمْ آياتُهُ زادتْهُمْ إيماناً وعلى ربِّهِم يتوكَّلون(2)}

    سورة الرعد(13)

    وقال أيضاً: {الَّذين آمنوا وتَطْمَئِنُّ قُلوبُهُم بذكْرِ الله ألا بذكْرِ الله تَطمئِنُّ القلوبُ(28)}

    ومضات:

    ـ للإيمان علائم وإشارات تدلُّ على صدق الإنسان في ادِّعائه؛ إنه لا يهدأ باله، ولا تسكن نفسه إلا عندما يلزم محراب ذكر الله عزَّ وجل. وإذا ما سمع ذكره من غيره، وتليت عليه آياته انتابه شعور بعظمته وجلاله، وسيطر عليه خشوع يمتزج به رجاء مرضاته، والوجل والخوف من حرمان رتبة القبول عنده.

    ـ غريزة الخوف هي إحدى الغرائز الفطرية في النفس البشريَّة، إلا أن التربية الإيمانيَّة تهذِّبها وتوجِّهها نحو الله تعالى وحده، وتخلِّصها من الخوف ممَّا سواه، وليصبح الخوف من الله حافزاً للمؤمن وسبباً لطمأنينته، بدلاً من أن يكون عاملاً مثبِّطاً له.

    ـ يجب أن تظهر ثمـرات الذكر والخشـية ـ الَّتي هي خـوف ممزوجٌ بالحـبِّ ـ في سـائر أعمالنا الخاصَّة والعامَّة، كانعكاسات إيمانيَّة طيِّبة لجمال هذا الذكر وصفاته.

    في رحاب الآيات:

    غريزة الخوف بمعناها الواسع مزروعة في أعماق النفس البشريَّة، غير أن التربية الإيمانيَّة تنظِّم هذه الغريزة وتوجِّهها كغيرها من الغرائز، حتَّى تبقى ضمن إطارها الصحيح ليستفاد منها في إعمار قلب المؤمن بتقوى الله تعالى واستشعار عظمته وهيبته. والخوف من الله نوعٌ من السمو الروحي الَّذي يقرِّب الإنسان من خالقه سبحانه، فتراه كلَّما ازداد منه خوفاً ازداد قرباً إليه لا هروباً. فالمؤمن الوَجِل من الله يخشى أن يخالف أوامره، ولا يغترُّ بالكثير من الأعمال والقربات الَّتي يقوم بها ابتغاء وجهه؛ بل يبقى خائفاً من عدم رضا الله عنها، وعدم اختتامها بخاتمة القبول، وقد قال تعالى في حقِّ هذا المؤمن وحقِّ من كان على شاكلته: {والَّذين يُؤْتُون ما آتَوا وقُلوبُهُمْ وَجِلَةٌ أنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ راجعون * أولئك يُسَارِعُونَ في الخيراتِ وهُمْ لها سابقون} (23 المؤمنون آية 60ـ61) فكانت هذه الآيات أعظم شهادة لهم من الله، وأصدق تعبير عن حالهم، فهم يستصغرون كل عمل يعملونه من أجله، ويرون أنه أقلُّ بكثير ممَّا يتوجَّب عليهم من فروض الطاعة والولاء لخالقهم، فتراهم يتحرَّقون شوقاً للقيام بمزيد من الطاعات، والمسارعة في فعل الخيرات، ويتسابقون إلى الخير ولا يَدَعُون لحظة تمرُّ دون أن يشغلوها، بذكر أو عبادة أو عمل صالح، أو إصلاح بين الناس، أو أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، فمن أحبَّ الله أحبَّ مخلوقاته حُبّاً به، لا فرق في ذلك بين إنسان وحيوان ونبات.

    والمؤمنون الذاكرون صفوة مختارة من مخلوقات الله، تنتاب قلوبهم رعشة الإيمان المنعشة؛ كلَّما طرق سمعهم اسم الله، وتستيقظ فيهم عواطف متباينة لكنها سامية، نبيلة، أدناها الحبُّ والشوق، وأعلاها الخوف والخشية، لأنهم يستشعرون عظمة من يقفون على بابه بشكل جليٍّ، وذلك لقوَّة إيمانهم، وشدَّة قربهم منه وكأنهم ماثلون بين يديه، قال تعالى: {..وبَشِّر المُخْبِتِينَ * الَّذين إذا ذُكِرَ الله وَجِلَت قُلوبُهُم..} (22 الحج آية 34ـ35). وهؤلاء المخبتـون ـ أي المتواضعـون المذعنون لله ـ الخاشـعون قد شـفَّت أرواحهم فارتقت، وصفت قلوبهم فاطمأنت، وإذا ما تناهى إلى سمع أحدهم آية من آيات الله تتلى، تواضع وخشع، ولان قلبه وفاض دمعه، واستسلم بكليَّته إلى خالقه. وهذه صورة من صور إعجاز القرآن الكريم في سرعة تأثيره في النفوس، وقوَّة جاذبيته لها؛ إنه يتعامل مع القلب البشري بلا وساطة، فإذا دخل نوره إلى القلب ذاق حلاوته، ووجد في كلماته النورانيَّة المنسجمة، زيادة في الإيمان تبلغ درجة الاطمئنان. وقد وصف الله تعالى أحوال أهل المعرفة من أهل الكتاب عند سماع ذكره وتلاوة كتابه فقال: {وإذا سمعوا ما أُنْزِل إلى الرَّسُولِ ترى أعينَهُمْ تَفيضُ من الدَّمْعِ ممَّا عَرَفُوا من الحقِّ يقولونَ ربَّنا آمنَّا فاكْتُبْنَا مع الشَّاهِدِين} (5 المائدة آية 83) فمن عرف صغار شأنه أمام عظمة الله، آمن به وبما أرسله إيماناً نقيّاً خالياً من كلِّ شائبة، فلا تسوِّل له نفسه أن يحيد عن دربه، ولا يسوِّغ له قلبه أن يشرك معه شيئاً من مخلوقاته، أو أن يتوكَّل على أحد منها في تصريف شؤونه وأحواله، بل يتوكَّل على الله وحده، ويبذل الأسباب الَّتي يملكها تنفيذاً لتعاليمه سبحانه وتعالى، في حسن التوكُّل، ثمَّ يفوِّض أمره إليه.

    سورة الأعراف(7)

    قال الله تعالى: {واذكر ربَّكَ في نفْسِكَ تَضَرُّعاً وخِيفَةً ودون الجهرِ من القولِ بالغُدُوِّ والآصال ولا تكن من الغافلين(205) إنَّ الَّذين عندَ ربِّكَ لا يستكبِرونَ عن عبادَتِهِ ويُسبِّحونَهُ وله يَسجُدون(206)}

    ومضات:

    ـ خير الذكر وأفضله الذكر الممزوج بالخوف، الَّذي يصحبه التضرُّع والتذلُّل لله، مع السكينة والخشية منه عزَّ وجل.

    ـ ذكر الله عبادة تتَّصف بكونها دائمةً، ومطلقةً عن قيود الزمان والمكان، فأينما كان المؤمن يجب أن يكون مع الله، وأيُّ وقت يمرُّ عليه يجب أن لا يغفل فيه عن ذكره، لاسيَّما في أوَّل نهاره وفي آخره، بالغدوِّ والآصال.

    ـ إن الملائكة الأطهار لا يفترون عن هذه العبادة، ودأبهم التسبيح والسجود، شكراً لله على نعمائه، وتمجيداً لعظمته وكبريائه، وهكذا ينبغي أن يكون شأن المؤمن وحاله.

    في رحاب الآيات:

    في الآية الكريمة إرشاد وتوجيه إلى مداومة الذِّكر النابض بالخوف والتضرُّع، الخافت الخفي، ويؤيِّد ذلك ما رواه أحمد وابن حبان عن سعد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «خير الذِّكر الخفي». فيستحسن للذاكر أن يكثر من خلوته بربِّه بعيداً عن أعين الناس، استزادة في التأمُّل والتبتُّل، وابتعاداً عن الرِّياء والمفاخرة. والخلوةُ بالله هي حضانة روحيَّة، وانقطاع عن كل العلائق المادية والمشاغل الدنيوية، حتَّى إذا بلغت الروح درجة عالية في الصفاء والرقي؛ رجـع صاحبها إلى خوض غمار الدعوة إلى الله، والانتقال من مرحلة التأهُّل الذاتي إلى تأهيل الآخرين. وهذه الخلوة كانت سنَّة جميع المرسلين، ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر منها في غار حراء، الَّذي كان الاعتكاف فيه بمثابة الرَّحِمِ، الَّتي احتضنت روحه الشريفة، إلى أن اكتمل إعداده، وأصبح على استعداد لتلقِّي الوحي السماوي، والدعوة إلى دين الله.

    فإن لم يكن للمؤمن حظٌّ كبير من ذكر الله، الَّذي يمثِّل الغذاء الأساسي للروح، خرج من الدنيا ولم يكتمل نموُّه الإيماني ونضجه الروحي، فلا تنطلق روحه في ملكوت السموات، بل تبقى أسيرة العذاب والضيق والحرج، وفي ذلك قال السيِّد المسيح عليه السَّلام: (لا يدخل ملكوت السموات من لم يولد ولادتين) أي الولادة الجسدية، والولادة الروحية. وذِكْرُ الله تعالى بوعي وخشوع، طريق يسلكه الذاكرون، فتُفْتَح في وجوههم جميع الأبواب الموصدة، وتزول من أمامهم كلُّ الحُجب المانعة، فيزول الوَقْرُ من الأسماع، وينجلي العمى عن البصائر، وتنقشع الظلمة عن القلوب والعقول. وعلى النقيض من ذلك حال الغافلين الَّذين أهملوا تغذية أرواحهم، وأسرفوا في الاهتمام بمتطلَّبات أجسادهم، فصدق فيهم قول الله تعالى: {..لهم قلوبٌ لا يفقهون بها ولهم أعينٌ لا يُبْصرون بها ولهم آذانٌ لا يسمعون بها أولئك كالأنعامِ بل هم أضلُّ أولئك هُمُ الغافلون} (7 الأعراف آية 179).

    وعندما يستحضر الذاكر جلال الله وعظمته، ويهيمن عليه الشعور بالخوف من غضبه وعقابه، مع رجاء رحمته ومرضاته؛ تصفو روحه، ويرِّق قلبه فيتصل بالله، ويرتبط به برباط الحبِّ الَّذي يدفعه لمراقبته في جميع أحواله، وعدم الغفلة عنه ولو للحظة واحدة. وعندها يصل لأعلى مقامات القرب والشهود، ويتحقَّق بمقام الإحسان الَّذي عرَّفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (متفق عليه عن عمر رضي الله عنه ).

    والله جليس الذاكرين ما ذكروه منفردين أو مجتمعين، مُسرِّين أو معلنين، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله تعالى أنا عند ظنِّ عبدي بي وأنا معه إذا ذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم» (متفق عليه). وما من جماعة يجتمعون على ذكر الله إلا حفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، وعمَّهم بمغفرته ورحمته. روى الشيخان والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن لله تعالى ملائكة يطوفون في الطرق يلتمسون أهل الذِّكر فإذا وجدوا قوماً يذكرون الله عزَّ وجل، تنادَوْا: هلُمُّوا إلى حاجتكم، فيحفُّونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا قال: فيسألهم ربُّهم وهو أعلم بهم، ما يقول عبادي: قالوا: يسبِّحونك ويكبِّرونك ويحمدونك ويمجِّدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: كيف لو رأوني: قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادة وأشدَّ لك تمجيداً وأكثر لك تسبيحاً. قال: يقول: فما يسألونني؟ قال: يقولون: يسألونك الجنَّة، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ياربُّ ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدَّ عليها حرصاً وأشدَّ لها طلباً وأعظم فيها رغبة. قال: فممَّ يتعوَّذون؟ قال: يقولون: من النار، قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشدَّ منها فراراً وأشدَّ منها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. يقول ملك من الملائكة فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة، قال: هم الجلساء لا يشقى بهم جليسهم».

    وأفضل أوقات الذِّكر طرفا النهار، حيث يُحسُّ الذاكر شدَّة ارتباطه بما حوله، ومن ثمَّ شدَّة ارتباطه بخالقه. ومن افتتح نهاره بذكر الله، واختتمه به كان جديراً بأن يراقب الله ولا ينساه فيما بينهما، ولقد كثر في القرآن الكريم التوجيه إلى ذكر الله وتسبيحه، في الآونة الَّتي تشارك فيها ظواهر الكون، في التأثير على القلب البشري وترقيقه، وإرهافه، وتشويقه للاتصال بالله، قال تعالى: {فاصبرْ على ما يقولونَ وسَبِّح بحمدِ ربِّك قبل طُلوعِ الشَّمسِ وقبل الغروب} (50 ق آية 39) وقال: {واذكر اسمَ رَبِّك بُكْرَةً وأَصِيْلاً * ومن اللَّيلِ فاسجدْ له وسبِّحهُ ليلاً طويلاً} (76 الإنسان آية 25ـ26).

    وينبغي أن يقترن ذكر الله بالصحوة الفكريَّة واليقظة الروحيَّة، فلا يذكره اللسان، ويغفل عنه القلب، فالإنسان أحوج ما يكون للاتصال بربِّه ليتقوَّى على نزغات الشيطان. فالله تعالى يقوِّي عزيمة عباده المؤمنين، ويشحذ همَّتهم لإحسان عبادته، والتوجُّه إليه، والاتصال به، فيزوِّدهم بما يغنيهم عمَّن سواه. ويضرب الله لعباده مثلاً بالملائكة الأطهار الَّذين هم دائبون على عبادته، يسبِّحونه، ويقدِّسونه، ويسجدون لجلاله، وقد اختصَّ السجود بالذِّكر لأن العبد أقرب ما يكون إلى الله وهو ساجد. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي ويقول: ياويله! أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنَّة، وأُمرت بالسجود فأبيتُ فلي النار» (أخرجه مسلم وابن ماجه والبيهقي). وفي هذا قال أحد العارفين المحبِّين: [اعلم أنه لا شيء أنكأ على إبليس من ابن آدم في جميع أحواله في صلاته من سجوده، لأنه خطيئته، فكثرة السجود وتطويله يحزن الشيطان وليس الإنسان بمعصوم من إبليس في صلاته إلا في سجوده، لأنه حينئذ يذكر الشيطان معصيته فيحزن، فيشتغل بنفسه عنك]، ولذلك أصبح دأب الشيطان المستمر، وشغله الشاغل الترصُّد للمؤمنين، والحيلولة بينهم وبين الذِّكر، قال تعالى: {إنَّما يُرِيْدُ الشَّيطانُ أن يُوقِعَ بينَكُمُ العداوَةَ والبَغْضَاءَ في الخمر والميسرِ ويَصُدَّكُم عن ذكرِ الله وعن الصَّلاة فهل أنتم مُنْتَهُون} (5 المائدة آية 91).

    وتُخبرنا الآية الكريمة بأن الملائكة الأطهار دائبون على تسبيح الله وذكره، لا يستكبرون عن عبادته ولا يقصِّرون. وهم الَّذين لا ينزغ في أنفسهم شيطان، ولا تستبدُّ بهم نزوة، ولا تغلبهم شهوة لأنهم مبرَّؤون من ذلك. فما أحوج الإنسان إلى الاقتداء بهم في كثرة ذكر الله وتسبيحه؛ وهو المخلوق الَّذي فُطِرَ على حبِّ الخير ولديه القابليَّة للشر، وفيه لمَّة من المَلَكِ ونزعة من الشيطان؛ فإنْ أَكثر من ذكر الله، غلب عليه الخير واتَّصف بالصفات الملائكيَّة، وإن غفل عن ذكره تعالى، تحكَّم به الشرُّ وصار الشيطان له قريناً، يأمره بالسوء والفحشاء، حتَّى يرديه في أودية الشقاء.

    سورة الزُّمَر(39)

    قال الله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ الله صدرهُ للإسلامِ فهو على نُورٍ من رَبِّهِ فويلٌ للقاسيةِ قُلوبُهُم من ذكرِ الله أولئك في ضلالٍ مبين(22) الله نَزَّل أَحْسَن الحديثِ كتاباً متشابهاً مَثَانِيَ تقشَعِرُّ منه جلودُ الَّذين يخشونَ ربَّهُم ثمَّ تَلينُ جلودُهُمْ وقُلوبُهُمْ إلى ذكْرِ الله ذلك هُدى الله يهدي به من يشاءُ ومن يُضْلِلِ الله فما له من هَادٍ(23)}

    ومضات:

    ـ إن انشراح الصدر للإسلام يعني تفتُّح خلايا العقل والقلب والنفس، لاستقبال العلم الإلهي المودع في رسالة الإسلام، ومن ثمَّ هضمه واستيعابه ليتمثَّل عملاً وأخلاقاً.

    ـ مَثَلُ القلوب القاسية الَّتي تراكمت عليها الحجب، وحالت دون وصول نور الله وهدايته إليها، فأضحت صلدة ميتة كمثل البئر المهجورة الَّتي سدَّتها الصخور، فحالت دون نزول الغيث فيها، فجفَّت وغارت مياهها.

    ـ إن لذكر الله حلاوة وعذوبة ترتعش لها أوصال الذاكر، وتُسْتقى منها برودة اليقين، وإن حلاوتها لتزيد في كلِّ مرة أكثر من سابقتها.

    ـ من تعرَّض للهداية الإلهية وفتح لها مغاليق قلبه أخذ بقسط وافر منها، ومن أعرض عنها تشعَّبت به المسالك فلا هادي يرشده، ولا نور يضيء له الطريق.

    في رحاب الآيات:

    الكآبة والانقباض، والسرور والانشراح، حالات متباينة ومختلفة تعتري النفس البشرية، وتعود في أصلها لأسباب كثيرة، قد تكون ظاهرة يسهل على الإنسان تحديدها ومعالجتها، وقد تكون خفيَّة وغامضة يصعب عليه معرفتها وإدراكها. والقرآن الكريم يعطينا من خلال هذه الآيات، تفسيراً واضحاً لهذه الحالات، الَّتي تنتاب أحدنا فتجعله يشعر بالانشراح أو الانقباض؛ فالانشراح علامة من علامات دخول النور للقلب المتصل بالله، أمَّا الانقباض فهو أثر يخلِّفه البعد عن الله، والإعراض عن ذكره.

    وإن جوهر الإسلام نور إلهي يخترق حجب الصدور، ليشيع في القلوب أجواء الراحة والسعادة النفسيَّة، وهذا النور القدسي عندما لا يجد في القلب مستقراً، يعود من حيث أتى، تاركاً المُعرض عنه في ظلمات بعضها فوق بعض، ويصبح من العسير إزالتها. فالعاقل من يتفقَّد قلبه ويتأكَّد من سلامته من التلوُّث، ويراقب تقلُّباته خشية أن تتراكم عليه الآفات، فتحيله إلى قلب أجرد قاحل، لا ينبت إلا الشوك والضريع، كما يسعى جاهداً لوقايته والمحافظة عليه بكثرة الذِّكر، الَّذي يستمطر به أنوار الله، فتتفجَّر ينابيع الحكمة المودعة في أعماقه على لسانه، وتتندَّى تربة هذا القلب فيشدُّها الحنين والشوق إلى بارئها، ويطلب صاحبها الصلة والوصال بإرادة المحبِّ الظمآن، وبعزيمة العاشق الولهان!! فياحسرة على القاسية قلوبهم الَّذين إذا ذكر الله عندهم، وذُكِرَتْ دلائل قدرته وبدائع صنعته أمامهم، أعرضت نفوسهم، وازدادت قلوبهم قسوة، فحُرموا من تذوُّق حلاوة الإيمان، مثلهم في ذلك كمثل المريض الَّذي تعاف نفسه أطايب الطعام. أخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي»، وأخرج ابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تُوْرِثُ القسوةَ في القلب ثلاثُ خصال: حبُّ الطعام، وحبُّ النوم، وحبُّ الراحة». وكما أن للقسوة أسبابها، فللانشراح علاماته وأسبابه، أخرج الترمذي عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً قال: «يارسول الله! أيُّ المؤمنين أَكْيَس؟ قال: أكثرهم ذكراً للموت، وأحسنهم له استعداداً، وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع، فقال: وما آية ذلك يانبي الله؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور، والاستعداد للموت قبل نزول الموت».

    فالمؤمنون يتلقَّون القرآن الكريم بمحبَّة وقبول، لأنهم يوقنون أنه كتاب الله، الَّذي لا اختلاف في طبيعته، ولا في اتجاهاته، ولا في روحه، ولا في خصائصه، بل هو كلٌ متماسك، تتكرَّر مقاطعه وقصصه، وتوجيهاته ومشاهده، ولكنها لا تختلف ولا تتعارض، إنما تُعاد في مواضع متعددة، وفق حكمة تتحقَّق في الإعادة والتكرار في تناسق واستقرار، على أصول ثابتة متشابهة، لا تعارض فيها ولا اصطدام. والَّذين يخشون ربَّهم ويتَّقونه، ويعيشون في تطلُّع ورجاء، يتلقَّون هذا الذِّكر في وجل وارتعاش، وفي تأثُّر شديد تقشعرُّ له الجلود، ثمَّ تهدأ نفوسهم، وتأنس قلوبهم بهذا الذِّكر، قال زيد بن أسلم: قرأ أُبَيُّ بن كعب عند النبي صلى الله عليه وسلم ومعه أصحابه فرقُّوا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : «اغتنموا الدُّعاء عند الرِّقة فإنها رحمة» (أخرجه الديلمي في مسند الفردوس عن أُبي بن كعب)، وعن العباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إذا اقشعرَّ جلد المؤمن من مخافة الله تحاتَّت عنه خطاياه كما يتحاتُّ عن الشجرة البالية ورقُها» (أخرجه البيهقي في الشعب والخطيب والبزار). وقال أحد المحبِّين الذاكرين: [ما ضُرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة القلب، وما غضب الله تعالى على قوم إلا نزع منهم الرحمة].

    وإن القلوب الطاهرة لترتعش حين تحرِّكها النفحات الإلهية نحو الهدى والاستجابة والإشراق، وهي على النقيض من قلوب الضالِّين الَّتي لا تقبل الهدى، ولا تجنح إليه؛ فتغدو قاسية غافلة لا تستشعر الأنوار الإلهية، ولا تتحسَّس العطايا الربانية.

    سورة الحديد(57)

    قال الله تعالى: {ألم يَأْنِ للَّذين آمنوا أن تخشعَ قُلوبُهُم لِذكْرِ الله وما نَزَلَ من الحقِّ ولا يكونوا كالَّذين أُوتوا الكتابَ من قبلُ فَطَالَ عليهِمُ الأمَدُ فقَسَتْ قُلوبُهُم وكثيرٌ منهم فاسقون(16) اعلموا أنَّ الله يُحيي الأرضَ بعد موتِها قد بيَّنَّا لكُمُ الآياتِ لعلَّكم تَعقلون(17)}

    ومضات:

    ـ لابدَّ للمؤمنين من شحذ هممهم لاجتياز طريق الإيمان بمحبَّة الله تعالى وخشيته، حتَّى تمتزج خلاياهم الروحية بأنواره القدسية، وتتفجَّر ينابيع عواطفهم بذكره وتلاوة كتابه الكريم.

    ـ لقد ابتعد الكثير من الناس عن المنابع الروحية لرسالات أنبيائهم ردحاً طويلاً من الزمن، فتحجَّرت عواطفهم الإيمانية، وانحرفوا عن السلوك القويم الموصل إلى محبَّة الله تعالى ورضوانه.

    ـ إن الله تعالى قادر على أن يحيي أرض القلوب بعد مواتها.

    ـ تعاليم الله تعالى واضحة؛ فإذا تدبَّرناها أدركنا ما فيها من خير ورشاد للفرد والمجتمع.

    في رحاب الآيات:

    بعض الصحابة الكرام توهَّجت قلوبهم بمحبَّة الله بمجرد مبايعتهم للنبي عليه السَّلام على الإسلام، ولم تمضِ عليهم أيَّام قليلة حتَّى تعرضوا لمختلف أنواع الابتلاء والتعذيب الجسدي، فصبروا وصابروا، ومنهم من استشهد، فما وهنوا ولا تراجعوا. وبعضهم الآخر أعلن إسلامه ظاهراً، ولم تنبض قلوبهم بروح الإسلام، ولم تنصهر مشاعرهم بذكر الله، فكان عليهم أن يتنبَّهوا لحسن إسلامهم، وإعمار قلوبهم بمحبَّة الله سبحانه وعشقه. وهذه الآية تحمل لهم عتاباً مؤثِّراً من المولى الكريم، واستبطاءً لاستجابة قلوبهم الَّتي أفاض عليها من فضله، حيث بعث فيهم الرسول صلى الله عليه وسلم يدعوهم للإيمان، ونزَّل عليهم الآيات البيِّنات لتخرجهم من الظلمات إلى النور.

    إنه عتاب فيه ودٌّ ومحبَّة لاستثارة المشاعر بجلال الله والخشوع لذكره، وإلى جانب ذلك فيه تحذير من عاقبة التباطؤ والتقاعس عن الاستجابة، وبيان لما يغشى القلوب من الصدأ، حين يمتدُّ بها الزمن دون جلاء، وما تنتهي إليه من القسوة، حين تغفل عن ذكر الله، وما أشدَّ العذاب النفسي الَّذي يقع فيه من قسا قلبه بعد الإيمان! وما أخطر أن يقسوَ القلب فيفسق عن أمر الله، ويبتعد عن حوض عطائه النوراني الكريم. والعِبَرُ كثيرة في قسوة القلوب عند كثيرٍ من أتباع الرسالات السماوية، الَّذين تحوَّلت عباداتهم إلى طقوس جوفاء، لا تنعش الروح ولا تغذِّي القلب؛ وكان جدير بهم أن يلتجئوا إلى الله تعالى، الَّذي يليِّن أرض القلوب بعد قسوتها، كما يحيي التربة بعد موتها.

    فلنسرع إلى مجالس الذِّكر والإيمان، مجالس الحبِّ في الله مع الأولياء الصالحين، حيث تنتعش القلوب بالتجلِّيات الربَّانية والنفحات الإلهية، ولنسرع إلى صلوات الجماعة ففيها عطاء وبركة، وإلى كتاب الله نتدارس آياته بوعي وفهم، بعشق وحنين، ليتفتَّح ورد الإيمان، وتزهر أغصان العمل. عن مالك بن أنس أنه قال: بلغني أن عيسى عليه السَّلام قال لقومه: (لا تكثروا الكلام في غير ذكر الله تعالى، فتقسو قلوبكم، فإن القلب القاسي بعيد من الله ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أرباب، وانظروا فيها كأنكم عبيد، فإنَّما الناس رجلان معافى ومبتلى، فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية).

    سورة البقرة(2)

    قال الله تعالى: {ثُمَّ قَسَت قُلوبُكُم من بَعدِ ذلك فهي كالِحجارةِ أو أشَدُّ قَسوَةً وإنَّ من الحِجَارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنهُ الأَنهَارُ وإنَّ منها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخرُجُ مِنهُ الماءُ وإنَّ منها لَما يَهبِطُ من خَشيَةِ الله وما الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعمَلُونَ(74)}

    ومضات:

    ـ وصف الله تعالى قلوب الغافلين عن ذكره، بالصلابة والغلظة، بسبب ما تراكم عليها من ظلمات المعاصي والذنوب، فصارت لا تتأثر بالعظات والمعجزات الإلهية الَّتي تَلِيْنُ لها الصخور الصلدة.

    ـ إن قلوب الغافلين أكثر عقماً من الحجارة، بل الحجارة خير منها، إذ أن بعضها مكامن للماء، تتفجَّر منها الينابيع وتحمل الخير للجميع، وبعضها الآخر يلين ويتشقق لقلَّة صلابته، بينما قلوب هؤلاء صمَّاءُ قاسية، لا يرجى منها خير، وما كانوا كذلك إلا لانقطاعهم عن الله.

    ـ الله تعالى عليم بمخلوقاته، لا يغفل عن عمل مهما صغر شأنه.

    في رحاب الآيات:

    الإنسان مخلوق بديع التكوين، معقَّد التركيب، يتألَّف من عناصر مختلفة متباينة لكنها متكاملة منسجمة، تترك بَصَماتها الواضحة على سـلوكه وانفعالاته. فهو جسدٌ مادِّي ينتمي إلى الأرض، وروح تنتمي إلى ملكوت السموات وعالم الغيب، ومن جهة أخرى فهو يخضع لقوى يشدُّه بعضها إلى الأرض ـ منشأ جسده ـ وبعضها الآخر إلى الأعالي، حيث مصدر روحه، وفي خضمِّ ذلك تدور صراعات عنيفة في داخله، يديرها ويتحكم فيها طرفان هما العقل والقلب من جهة، والنفس والأهواء من جهة أخرى، وإن نتيجة هذا الصراع هي الَّتي تحدِّد الملامح الخاصَّة الَّتي تميِّز شخصية كلِّ إنسان.

    فالشخصية الإنسانية تُصَنَّفُ في أنماط مختلفة، وفقاً لما يعتلج في وجدانها من البواعث والانفعالات، الَّتي تؤثِّر وتتأثَّر من خلالها بما حولها. والناس يتدرَّجون في الرقي والسمو، تبعاً للكيفية والمقدار الَّذي تتجاوب فيه عقولهم وقلوبهم مع شريعة الله، فأدنى الناس درجةً هم أولئك الَّذين يكادون يتساوون مع الجماد لقسوة قلوبهم؛ الَّتي لا تلين أمام آلاء الله ومعجزاته العظيمة، فلا خير يرجى منهم، لأنفسهم أو لمن حولهم، وهم بذلك يضربون مثلاً سيِّئاً في التصلُّب والقسوة يفوق قسوة الحجارة؛ إذ أنَّ الحجارة ليست كلَّها صمَّاء عقيمة، بل إنَّ بعضها قد يكون مصدراً للخير والعطاء. ويُهيب تعالى بهؤلاء أن يتفكَّروا في خلق هذه الحجارة، الَّتي تتفاوت من حيث تكوينها والدور الَّذي خلقت من أجله، فإنَّ منها ما تتفجَّر منه العيون الصافية، جداول وأنهاراً وفيرة غزيرة، تحمل أسباب استمرار الحياة إلى سائر المخلوقات، ومنها ما تنساب منه المياه بشكل يسير ضئيل، لكنه يطفئ ظمأ العطشى ويلبِّي حاجاتهم، ومنها ما يمضي عليه ردحٌ من الزمن مثبت إلى الأرض كالجبال الشامخة، حتَّى إذا أراد الله بها أمراً تكسَّرت وهبطت من علو، كما أصاب الجبل حين تبدَّى له نور الله أثناء مناجاة موسى عليه السَّلام فخشع وتصدَّع من هيبة الله وجلاله.

    ولعـلَّ أولئـك يدركون ـ إذا ما تفكَّروا في ذلـك كلِّه ـ أنَّ مخلوقات الله جميعاً هي مصدر خير لهذا الكون، وإن تفاوت مقداره بينها، وحريٌّ بالإنسان أن يكون مصدراً للخير على الدوام، لأنه مؤهَّل بما لم يؤهَّل به غيره من سائر المخلوقات، فهو أكرم الخلق على الله عزَّ وجل، لذلك نجد بين الناس من هو منيب إلى الله، داعٍ إلى صراطه المستقيم، يضمُّ بين جوارحه نفساً لوَّامة توَّاقة إلى لقاء الله عزَّ وجل، وقلباً نابضاً بذكر الله يفيض بالخير والعطاء على من حوله، فتحيا قلوب الناس به، ومنهم أيضاً من لا يطيق الذنوب ويكثر من الاستغفار، فهو في عداد التائبين، تفيض عيناه بالدمع عند تذكُّرِ ضعفه أمام قوَّة الله، والتفكُّر في ذنبه أمام سعة رحمة الله وغفرانه، ومنهم من لا يتحرك قلبه بالإيمان، ولا تستكين جوارحه لعظمة الله وجبروته، إلا إذا واجهته المحن وضاقت به السبل، عندها تنطلق صيحة الرجاء من أعماقه لحضرة الله طالبة النجاة، لأنه إنسان غافل يحتاج إلى هزَّة عنيفة، توقظ مشاعره وتفتِّح بصيرته، ليستفيق ويعود إلى سبيل الرشاد.

    فمعيار الخير في ذات الإنسان إذن، هو مقدار الحبِّ والإيمان وذِكْر الله الَّذي يعمر قلبه، وقد شَبَّهَتِ الآية القلب بالنبع، لأنهما كلاهما يشتركان بخاصيَّة التدفُّق ونشر الحياة، فإذا تدفَّق القلب بالحبِّ والإيمان عمَّر ما حوله بالنور والخير، وإذا تدفَّق النبع بالمياه العذبة حوَّل الصحارى القاحلة إلى واحات خضراء. وإن جفاف القلب كذلك يشبه جفاف النبع، فمن جفَّ قلبه فقد نضب من ماء محبَّة الله تعالى، وماء محبَّة الخلق، فعاش بجسد حيٍّ وقلب ميت، فلا ينفع نفسه ولا ينفع غيره.

     
  3. #3
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي رد: التربية الروحية في الإسلام

    الفصل الثاني:

    التَّسبيح

    سورة الإسراء(17)

    قال الله تعالى: {تُسبِّحُ له السَّمواتُ السَّبعُ والأرضُ وَمَن فيهنَّ وإنْ من شيءٍ إلاَّ يُسبِّحُ بحمدهِ ولكن لا تفقهونَ تَسبيحَهُم إنَّه كان حليماً غَفوراً(44)}

    سورة النور(24)

    وقال أيضاً: {ألم تَرَ أنَّ الله يُسَبِّحُ له منْ في السَّمواتِ والأرضِ والطَّيرُ صافَّاتٍ كلٌّ قد عَلِمَ صلاتَهُ وتسبيحَهُ والله عليمٌ بما يفعلون(41)}

    سورة الروم(30)

    وقال أيضاً: {فسبحانَ الله حينَ تُمسونَ وحينَ تُصبحونَ(17) وله الحمدُ في السَّمواتِ والأرضِ وَعَشِيّاً وحينَ تُظْهِرُون(18)}

    ومضات:

    ـ إن التَّسبيح والتَّحميد لله هما لغةُ العاشقين لله، وترجمان قلوبهم الَّتي تشهد جماله في إبداع خلقه وجميل صنعته؛ فتلهج بالثناء عليه حمداً وشكراً، وعرفاناً وتنزيهاً له سبحانه عمَّا لا يليق بكماله.

    ـ لا تقتصر عبادة التَّسبيح على الإنسان؛ بل إن جميع الموجودات والعوالم، تتقرَّب إلى الله بهذه الصلة الروحية، وتستديم عليها، وتجد فيها حياتها واستمراريَّتها.

    ـ إن في تســبيح العوالم لله، وقيام جميـع الكائنـات به ـ ما عقل منهـا وما لا يعقل ـ تعليماً وإرشـاداً للإنسان بأن يعترف بفضل الله عليه؛ فيشكر نعماءه ويسبِّح بحمده، لئلا تكون تلك المخلوقات الَّتي فضَّله الله عليها أكثر ذكراً لله، وأفضل منه شكراً وعرفاناً بعظيم فضله عليها.

    ـ ينبغي على المؤمن أن يُكْثِرَ من التَّسبيح مع بداية كلِّ نهار، وعند إقبال كلِّ ليلة من ليالي عمره؛ وذلك لما في هذين الوقتين المتعاقبين من شهودٍ حسيٍّ لآثار القدرة الإلهية من جهة، وليبقى المؤمن دائم الصلة بربِّه من جهة أخرى.



    في رحاب الآيات:

    التَّسبيح تنزيهٌ لله تعالى عن كلِّ نقصٍ لا يليق بكمال ذاته وصفاته، ومعنىً من معاني تمجيد عظمته وقدسيته، وصورة من صور إفراده بالعبوديَّة والطاعة والمحبَّة.

    وهذه الآيات الكريمة تصوِّر لنا مشهداً فريداً للكون تحت عرش الله، يتوجَّه بالتَّسبيح إليه (عزَّ وجل) منزِّهاً إيَّاه، ومقدِّساً لعظمته عن كلِّ ما لا يليق بذاته العليَّة. فما من ذرَّة فيه ولا حصاة ولا حبَّة إلا وتنبض بالحمد والتَّسبيح، وما من حجر أو شجر أو ورقة أو زهرة، أو نبتة أو ثمرة إلا وتلهج بذكره والثناء عليه. فالكون الكبير الواسع المدى كلُّه حركة وحياة، وكلُّ دابَّة فيه، وكلُّ سابحة في الماء أو طائرة في الهواء، وكلُّ ساكن ومتحرِّك في الأرض والسماء يسبِّحون الله ويتوجَّهون إليه، ويشهدون بوحدانيَّة ربوبيَّته وألوهيَّته، وكلٌّ يضرعُ بطريقته ولغته البعيدة عن الفهم البشري.

    فالله جلَّ وعلا أثبت أن لكلِّ ذرَّة لساناً ناطقاً بالتَّسبيح والتَّحميد والتَّنزيه لصانعه وبارئه، وحامداً له على ما أولاه من نعمه، وبهذا اللسان تنطق الأرض يوم القيامة، كما قال تعالى: {يومئذ تُحدِّثُ أخبارها} (99 الزلزلة آية 4) وبهذا اللسان تشهد أجزاء الإنسان يوم القيامة: {يومَ تَشْهدُ عَليِهِمْ ألسِنَتُهُمْ وأَيديهِمْ وَأَرجُلُهُمْ بمَا كَانُوا يَعْمَلْونْ} (24 النور آية 24).

    وقد أثبتت الأبحاث العلميَّة وجود الحياة في كلِّ ذرَّات الوجود، وأن هذه الذرَّات مؤلَّفة من شوارد تعمل مع بعضها بعضاً، حسب الوظائف المنوطة بها، وكلُّها تعمل بأمر الله تعالى، حسب ما صمَّمه لها، من أجل استمرار الحياة في هذا الكون، وطالما أن فيها حياةً فمن البديهي أن تسبِّح الله تعالى الواحد القهَّار؛ يؤكد ذلك قوله تعالى: {ألم تَرَ أنَّ الله يُسَبِّحُ له منْ في السَّمواتِ والأرضِ والطَّيرُ صافَّاتٍ كلٌّ قد عَلِمَ صلاتَهُ وتسبيحَهُ والله عليمٌ بما يفعلون}.

    ومن الملاحظ أن هذه الآية جاءت لتقرِّر حقيقة تسبيح الموجودات لله سبحانه، ولكنها قد سُبقت بصيغة استفهام تقريري تَكرَّر ورودها كثيراً في القرآن الكريم وهي {ألم تر} والحقيقة أن هذه الرؤية الَّتي يريد الله لعباده أن يشهدوا بها ما ذُكر بعدها؛ لا يقصد بها الرؤية الَّتي تُشاهد بعين البصر، ولكنَّها الَّتي تُدرك بعين البصيرة. وهي رؤيةٌ لا تتحقَّق إلا لمن طهُرت قلوبهم من نجاسات الغفلة وملوِّثات المعاصي، وغدت كالمرآة صفاءً ونقاءً، فانعكس عليها قبس من نور الله، فأبصر أهلها الحقائق، وسمعوا ما لا يسمعه غيرهم. وأمثال هؤلاء يتمكَّنون من إدراك حقيقة تسبيح الكائنات لله تعالى، بل إنهم ما إن يسبِّحون الله ويذكرونه حتَّى يُسبِّح ما في الكون بتسبيحهم، ويذكر بذكرهم، كما قال تعالى في شأن نبيِّه داود عليه السَّلام: {إنَّا سخَّرنا الجِبَال معه يُسبِّحنَ بالعَشيِّ والإشراق} (38 ص آية 18). وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (كنَّا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل).

    فكلُّ مخلوق في السموات أو في الأرض قد علم صلاته وتسبيحه، وأرشده الله إلى طريقة معيَّنة، ومسلك خاص في عبادته. أخرج أحمد وابن مردويه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن نوحاً لما حضرته الوفاة قال لابْنَيْهِ: آمركما بسبحان الله وبحمده، فإنهما صلاة كلِّ شيء وبهما يرزق كلُّ شيء». وجاء في فضل التَّسبيح أحاديث كثيرة منها قوله صلى الله عليه وسلم لأبي ذر رضي الله عنه : «ألا أخبرك بأحبِّ الكلام إلى الله؟ قلت: أخبرني يارسول الله، قال: إن أحبَّ الكلام إلى الله سبحان الله وبحمده» (رواه مسلم والترمذي). ومعنى قولنا (سبحان الله): أي براءةً وتنزيهاً لله من كلِّ نقص. ومعنى قولنا (وبحمده): فهو شكر لله على نعمه واعتراف بها.

    والمراد من قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُون} الأمر بالتَّسبيح والتَّنزيه والحمد والصَّلاة له في جميع أوقات الليل والنهار. وقد أُمر المؤمن بالتَّسبيح في هذين الوقتين المتعاقبين، لأنهما آيتان حسِّيتان من آيات قدرة الله، وبإمكان المؤمن أن يشهدهما كلَّ يوم، فيستقبل نهاره بتنزيه الله عن جميع صفات النقص، ويصفه بجميع صفات الكمال، ويقرن تسبيحه هذا بالحمد والشكر على نعمائه سبحانه وتعالى، وكذلك يكون حاله عند إدبار النهار وإقبال الليل. وما الصلوات الخمس الَّتي يؤدِّيها المسلم في أوقات متعاقبة إلا بعض مظاهر التَّسبيح العملي لاشتمالها عليه وعلى الحمد أيضاً.

    ولعل السبب في تخصيص الطير بالتَّسبيح، في الآية الكريمة، مع أنها تدخل في عموم المخلوقات الَّتي تسبِّح لله في السموات والأرض؛ هو لفت الأنظار إلى كمال القدرة الإلهية في صنعها، ولأن وقوف الأشياء الثقيلة في الجو أثناء الطيران حجَّة واضحة على عظيم قدرة الخالق المبدع. فسبحان الله وبحمده؛ هو المُنزَّه والمحمود من جميع أهل السموات والأرض، وفي كلِّ الأحوال والأماكن والأزمان، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، سبحانه وتعالى عمَّا يصفون.

     
  4. #4
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي رد: التربية الروحية في الإسلام

    الفصل الثالث:

    الاستقامة والوفاء بعهد الله

    سورة فُصِّلَتْ(41)

    قال الله تعالى: {إنَّ الَّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا تَتَنزَّلُ عليهمُ الملائكَةُ ألاَّ تَخَافوا ولا تَحزنوا وأبشِرُوا بالجنَّة الَّتي كُنتم تُوعدون(30) نحن أولياؤُكُم في الحياة الدُّنيا وفي الآخرةِ ولكم فيها ما تشتهي أنفُسُكُمْ ولكم فيها ما تَدَّعُون(31) نُزُلاً من غفورٍ رحيم(32) ومن أحسَنُ قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمِلَ صالحاً وقال إنَّني من المسلمين(33)}

    سورة الأحقاف(46)

    وقال أيضاً: {إنَّ الَّذين قالوا ربُّنا الله ثمَّ استقاموا فلا خوفٌ عليهم ولا هم يحزنون(13) أولئك أصحابُ الجنَّةِ خالدينَ فيها جَزَاءً بما كانوا يعملون(14)}

    سورة الجن(72)

    وقال أيضاً: {وأَنْ لوِ استقاموا على الطَّريقَةِ لأسقيناهُم ماءً غَدَقاً(16)}

    ومضات:

    ـ الاستقامة تعني الالتزام الكامل بالتوجُّه نحو الله وبالله وفي سبيل الله.

    ـ إن من يُخلص العبوديَّة لله تعالى ويسير ضمن تعاليمه، يحصل على الدعم الروحي في رحلته الحياتيَّة، حيث تُظلُّه العناية الربانيَّة، وتُسخَّر له الملائكة لتيسير أموره وحفظه، وكذلك في رحلة الآخرة بدءاً من حفرة القبر، وحتَّى دخول جنان الخلد بإذن الله عزَّ وجل؛ حيث فيها ما تقرُّ به الأعين وتطرب له القلوب.

    ـ يتمايز الناس في الدنيا بأنسابهم وأحسابهم وأموالهم، أمَّا عند الله فإن أفضل الناس من حسن كلامه وصلح عمله، وطاب سلوكه وممشاه، وانتسب إلى مدرسة الإسلام بصدق وجدارة.

    في رحاب الآيات:

    أن يقول المرء (ربِّيَ الله) فهذا سهل على اللسان، ويكاد أهل الأرض يجمعون على ترداد هذا القول، ولكن قليلاً منهم من يشعر بالمسؤوليات والالتزامات الَّتي تترتب على الاعتراف بوجوده تعالى، وبكونه خالقهم ومقدِّر أمورهم، ويدركون أنَّ عليهم أن ينظِّموا برنامـج حياتهم وفق مخططاته عزَّ وجل. وسبيلهم إلى ذلك يتلخَّص في كلمة واحدة حيث يُتْبِعُ أحدهم القول بالعمل؛ إنها الاستقامة.

    فالاستقامة هي المسار الصحيح للإنسان في حياته العملية فيما يُرضي الله عنه تعبديّاً، وبما يُسْعِد مجتمعه فكريّاً أو ماديّاً أو جهداً عمليّاً. وأعضاء مجتمع الاستقامة هم أهل الله وخلفاؤه في الأرض، تحوطهم العناية الربَّانية في الدنيا والآخرة، وتحفُّ بهم ملائكة الرحمة بالبشائر والاستغفار، والرعاية الكريمة؛ قلوبهم واثقة بالله، مطمئنة به، لا تعرف الخوف إلا منه عزَّ وجل. جاء في صحيح مسلم عن سفيان بن عبد الله الثقفي رضي الله عنه قال: «قلت يارسول الله، قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك؛ قال: قل آمنت بالله، ثمَّ استقم».

    وبمجرَّد أن ينوي المؤمن الاستقامة، ويقرِّر السير عليها بصدق، فإن الله يُسخِّر له ملائكة الرحمة لتلهمه الحقَّ، وترشده إلى طريق الخير والصلاح، ولتكون معه في وحشة القبر تؤنسه، وتزيل عنه الروع من أهوال يوم القيامة، وتدخله معزَّزاً مكرَّماً إلى دار الخلود قائلة له: طبت وطاب محياك وطاب مماتك. قال بعض الصالحين: [إن الملائكة تتنزَّل حين الاحتضار على المؤمنين بهذه البشارة، ألا تخافوا من هول الموت ولا من هول القبر، وشدائد يوم القيامة، وإن المؤمن ينظر إلى حافظَيه قائمَين على رأسه يقولان له: لا تخف اليوم ولا تحزن، وأبشر بالجنَّة الَّتي كنت توعد، وإنك سترى اليوم أموراً لم تر مثلها، فلا تهولنَّك فإنما يُراد بها غيرك]. وقيل أيضاً: [البشرى للمؤمنين المستقيمين في ثلاثة مواطن: عند الموت وفي القبر وعند البعث].

    ولاشكَّ في أن الصبر على تكاليف الاستقامة أمر عسير، ولذلك يستحقُّ الصابرون عند الله هذا الإنعام الكبير، الَّذي هو صحبة الملائكة وولاؤهم ومودَّتهم، وبشائرهم بالجنَّة الَّتي فيها ما تشتهي أنفسهم وما يدَّعون، والَّتي اختارها تعالى داراً لإقامتهم: {نُزلاً من غفور رحيم} فهي من عند الله أنزلهم فيها بمغفرته ورحمته، فأيُّ نعيم بعد هذا النعيم؟.

    لقد استحقَّ المؤمنون هذا التكريم بسبب رفعهم لواء التَّوحيد، لذلك فإن أحسن كلمة تقال في الأرض، هي كلمة التَّوحيد، الَّتي تصعد في مقدِّمة الكلم الطَّيب إلى السَّماء، شريطة أن تقترن بالعمل الصالح الَّذي يصدِّقها، مع الاستسلام لله الَّذي تتوارى معه الذَّات، فتصبح الدعوة خالصة له سبحانه ليس للداعية فيها شأن إلا التبليغ.

    كان الحسن رضي الله عنه إذا تلا هذه الآية {ومن أَحسَنُ قولاً ممَّن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنَّني من المسلمين}، قال: (هذا الداعي إلى الله، هذا حبيب الله، هذا وليُّ الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا والله أحبُّ أهل الأرض إلى الله، أجاب الله دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب إليه).

    إذن، فالإسلام يجعل مركز الصدارة للدعاة الَّذين استقاموا على طريق الله عزَّ وجل، فهم أشرف الخلق، وأحبُّ الخلق إلى الله، يدعون الناس إلى الإيمان بأقوالهم وأفعالهم، بل إن أفعالهم لتسبق أقوالهم، فهم منارات للهدى، وبصائر للأفئدة، وهم المسلمون حقاً وصدقاً.

    سورة الأحزاب(33)

    قال الله تعالى: {من المؤمنينَ رِجَالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليهِ فمنهم من قضى نَحْبَهُ ومنهم من ينتظِرُ وما بدَّلُوا تبديلاً(23) ليجزي الله الصَّادقينَ بصدقِهِم ويُعذِّبَ المنافقينَ إن شاءَ أو يتوبَ عليهِمْ إنَّ الله كان غفوراً رحيماً(24)}

    ومضات:

    ـ المؤمن الصَّادق هو الَّذي يُكْمِل مسيرة العمل والخدمة والتضحية حتَّى نهايته، دون ملل أو كلل، متحمِّلا ما يعترضه من المتاعب والإيذاء.

    ـ المكافأة الَّتي يرجوها الصَّادق من عمله هي رضاء الله عنه، فهي وحدها الَّتي تبلِّغه طموحه وتروي ظمأه. وليست الجنَّة حافزه أو النار مفزعه فقط، لأنَّ صدقه الحقيقي لا ينبع من اهتمامات ماديَّة يطلبها جسده بل من إشراقات روحيَّة ومعنويَّة تستمدُّ زخمها من الصلة بالله عزَّ وجل.

    ـ الإيمان والنفاق لا يجتمعان في قلب واحد، ومن تعرَّض قلبه للإصابة بالنفاق أو صفة من صفاته، فأمره متروك إلى الله تعالى إمَّا أن يعذبه، أو يتوب عليه إذا أفاق من سباته قبل فوات الأوان واستدرك ما فاته، فمغفرة الله قائمة ورحمته واسعة وهو أرحم الراحمين.

    في رحاب الآيات:

    في خضمِّ معترك الحياة وأثناء مواجهة الأحداث أخذت الشخصية المؤمنة تتبلور بشكل جديد، ويوماً بعد يوم وحدثاً بعد حدث، كانت هذه الشخصية تنضج وتنمو وتتَّضح سماتها، وكانت الفئة المؤمنة الَّتي تتكوَّن من مجموع تلك الشخصيات تبرز إلى الوجود بمقوِّماتها الخاصَّة، وقيمها الأصيلة، وطابعها المتميِّز بين سائر الفئات. وكانت الأحداث تقسو على الجماعة الناشئة أحياناً، وتشتدُّ قسوتها فتبلغ درجة الفتنة، لكنَّها فتنة كأنَّها النار الَّتي تصوغ الذهب، فهي تفصل بين الجوهر الأصيل والزبد الزائف، وتكشف عن حقائق النفوس ومعادنها، فلا تبقى خليطاً مجهول القيم.

    لقد علِم الله جلَّ وعلا أن هذه الخليقة البشريَّة لا تُصاغ صياغة سليمة، ولا تنضج نضجاً حقيقيّاً، ولا تصحُّ ولا تستقيم على منهج إلا بذاك النوع من التربية التجريبيَّة الواقعيَّة، الَّتي تُحفر في القلوب، وتُنقش في الصدور وتأخذ من النفوس، وتعطي في معترك الحياة وملتقى الأحداث. لقد كانت مرحلة عجيبة حقاً تلك الَّتي قضاها المسلمون أثناء حياة الرسول صلى الله عليه وسلم ، مرحلة اتصال السماء بالأرض اتصالاً مباشراً ظاهراً، مُبَلْوَراً في أحداث وكلمات، فكان كلُّ مؤمن يبيت وهو يشعر أن عين الله ترقبه، وأن سمع الله يناله، وأن كلَّ كلمة منه وكلَّ حركة، بل وكلَّ خاطر قد يصبح مكشوفاً للناس ويتنزَّل في شأنه قرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان كلُّ مؤمن يُحِسُّ الصلة القوية الَّتي تربطه بربِّه، فإذا أصابه أمر أو واجهته معضلة انتظر أن تُفتح أبواب السماء ليتنزَّل منها حلٌّ لمعضلته، أو فتوى في أمره، أو قضاء في شأنه.

    والنصُّ القرآني هنا يُغفل أسماء الأشخاص، ليصوِّر نماذج البشر وأنماط الطباع، ويُغفل تفصيلات الحوادث وجزئيَّات الوقائع، ليصوِّر القيم الثابتة والسنن الباقية، الَّتي لا تنتهي بانتهاء الحدث، ولا تنقطع بذهاب الأشخاص، بل تبقى قاعدة ومثلاً لكلِّ جيل. فهو يهتمُّ بربط المواقف والحوادث بقدر الله المسيطر على الأحداث والأشخاص، ويُظهر فيها يد الله القادرة وتدبيره الحكيم، ويقف عند كلِّ مرحلة من مراحل الدعوة للتوجيه والتعقيب، والربط بالأصل الكبير. فالقرآن الكريم معدٌّ للعمل لا في وسط محدَّد ولا في تاريخ معيَّن، بل هو معدٌّ للعمل دائماً كلَّما واجه المرء مثل هذا الحدث أو شبهه مادامت الحياة، وفي مختلف البيئات، بالقوَّة نفسها الَّتي عمل بها في حياة المجموعة الأولى. والأحداث الَّتي مرَّ بها المسلمون الأوائل طبعتهم بطبائع مختلفة، لكنَّها إيجابية، وأوَّلها وأهمُّها الوفاء بالعهد مع الله. فكان كلُّ من يريد أن يرتقي سُلَّم الإيمان يعاهد الله تعالى عهداً لا ينكث فيه ولا يتراجع عنه، على أن يسخِّر إمكاناته الجسدية والفكرية والروحية جميعها، وكذلك وقته كلَّه للعمل البنَّاء الدائم والمستمر لما فيه سعادة الإنسانية، وبما يُرضي الله تعالى عنه. وقد صدقوا بعهدهم، فمنهم من قضى نحبه أي وفَّى بعهده وهلك في سبيل مبدئه، كأنس بن النضر رضي الله عنه الَّذي عاهد الله على قتال أعداء الحقِّ حتَّى الرمق الأخير في حياته؛ فوفَّى بعهده في معركة أُحد، حيث أخرج مسلم والترمذي وغيرهما عن أنس رضي الله عنه قال: (غاب عمِّي أنس بن النضر عن بدر، فكبُر عليه، فقال: أوَّل مشهد قد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غِبت عنه. لئن أراني الله مشهداً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرينَّ الله ما أصنع، فشهد يوم أحد فقاتل حتَّى قُتل، فَوُجِدَ في جسده بضع وثمانون من بين ضربة، وطعنة ورمية). ومنهم من ينتظر اللحظة المناسبة للوفاء بهذا النذر، وما تراجعوا عن عهدهم، ولا غيَّروا اتجاههم، خلافاً للمنافقين الَّذين قالوا لا نولِّي الأدبار فبدَّلوا قولهم، وتراجعوا عن العمل من أجل حماية العقيدة والدعوة إليها، وهذا شأنهم لأنهم كاذبون مع أنفسهم فكانوا كاذبين مع ربِّهم.

    والله جلَّ وعلا يختبر عباده ليُميِّز الخبيث من الطيب، ويُظْهِرَ أمر كلٍّ منهما واضحاً، ثمَّ يثيب أهل الصدق منهم بوفائهم فيما عـاهدوا الله عليه، ويعذِّب المنافقين الناقضين لعهدهم، المخالفين لأوامره إذا استمروا على نفاقهم حتَّى يلقَوْه، إلا إذا تابوا وأقلعوا عن نفاقهم، وعملوا صالح الأعمال، فإنه يغفر لهم ما أسلفوا من السيئات. فالله من شأنه الستر على ذنوب التائبين والرحمة بهم، فلا يعاقبهم بعد التوبة، وفي هذا حثٌّ عليها في كلِّ حين، وبيان نفعها للتائبين.

    سورة آل عمران(3)

    قال الله تعالى: {رَبَّنَا لا تُزِغ قُلُوبَنَا بعد إذ هَدَيتَنا وهَبْ لنا من لدُنكَ رحمَةً إنَّكَ أنتَ الوهَّابُ(8) ربَّنَا إنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ ليومٍ لا ريبَ فيه إنَّ الله لا يُخلِفُ المِيعَادَ(9)}

    ومضات:

    ـ ينبغي على المؤمن مهما بلغ من درجات العلم والمعرفة ألا يُفتتن بعلمه وعمله، وأن يُبقي قلبه في حالة اتصال بالله عزَّ وجل وتوكُّل مطلق عليه، ليثبِّته على الصراط المستقيم، فلا يخطئ طريق الحقِّ، لاسيَّما وأنه قد ذاق حلاوة الإيمان بالدِّين القويم، وعرف حكمة الشرع المستقيم. وعليه أن يسأل الله تعالى التَّفَضُّلَ عليه بنعمة الثبات على دينه الحقِّ، لأنه يدرك أنه لا يقدر على شيء إلا بفضل الله ورحمته، وأن قلبه بين أصابع الرحمن يُقلِّبه كيف يشاء.

    ـ على المؤمن أن يدرك أنه سائر لا محالة إلى يوم عظيم سيَجمَعُ فيه تعالى الخلائق للحساب، وأن يترجم إدراكه إلى عمل يوافقه، فهذا وعد الله الحقُّ، والله لا يخلف وعده.

    في رحاب الآيات:

    إن للإيمان حلاوة وعذوبة يعرفها من سلَّم جوارحه ووجدانه لله عزَّ وجل، ورقَّت مشاعره وأحاسيسه حتَّى صارت مرهفة تلتقط كلَّ الإشارات والدلالات الربَّانية. والقلب الَّذي صدق مع الله ومع نفسه ينعم بأمن الله وطمأنينته، لأن أجهزة الإنذار ضدَّ الزيغ أو الخطأ، جاهزة في أعماقه دائماً، لترسل تحذيرها موقظة منبِّهة.

    وهذه الآية هي بمثابة صيحة التحذير وجرس التنبيه والإنذار بالخطر، يُقرع في أعماق القلب المؤمن بشكل دائم، لئلا ينسى تربُّص الشيطان للميل به عن طريق الهدى، وإلقائه في مهاوي التهلكة. فالمؤمن حذر يقظ في مراقبة الثغرات الَّتي يمكن أن ينفذ الشيطان إليه من خلالها. ولما كانت استمرارية هذه المراقبة شاقَّة عسيرة عليه، كان لابدَّ له من طلب مدد إلهي يساعده ويُمِدُّه بالقوَّة لِيُثَبِّتَ أقدامه على الصراط المستقيم.

    وفي مواجهة خوفه من تسلُّل الشيطان إلى قلبه، وهدمه للصرح الإيماني فيه، يتوجَّه العبد إلى ربِّه بالدعاء خاشعاً متوسِّلاً، أن يثبِّته على دينه، لأن هذا عطاء لا يعدله عطاء، وهو في أمسِّ الحاجة إليه لأنه يدرك حقيقة ضعفه، وكونه عرضة للتقلُّب والنسيان والانحراف، ولأنه لا يملك قلبه، بل هو في يد الله يقلِّبه كيف يشاء، لذلك يدعوه ألا يزيغ قلبه، وأن يسبغ عليه من رحمته وفضله، ويعطيه القوَّة للاستمرار في عملية البناء الأخلاقي والحضاري، وهو يتذكَّر يوم الحساب الَّذي لا ريب فيه، حيث تُعرض عليه صحيفة أعماله، ويُحاسَبُ بدقَّة وتُقام عليه الحُجَّة في كلِّ ذنب قام به.

    وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كان رسول صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو: يا مُقَلِّبَ القلوب ثبِّت قلبي على دينك. قلت: يارسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء! فقال: ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن، إن شاء أن يقيمه أقامه، وإن شاء أن يزيغه أزاغه، أمَّا تسمعين قوله تعالى: {ربَّنا لا تُزِغْ قُلوبَنا بعد إذ هديتنا وهَبْ لنا من لدُنكَ رحمةً إنَّك أنت الوهَّاب}» (رواه ابن مردويه). وهذا هو حال الراسخين في الإيمان مع ربِّهم، الإيمان الَّذي يولِّد الطمأنينة المستمدَّة من الصلة بالله والثِّقة بوعده وعهده، والتَّقوى واليقظة ورقَّة الإحساس؛ الَّتي يفرضها على قلوب أهله، فلا تغفل ولا تنحرف عن سواء السبيل.

    سورة الزمر(39)

    قال الله تعالى: {وإذا مَسَّ الإنسانَ ضُرٌّ دعا ربَّهُ مُنيْباً إليه ثمَّ إذا خَوَّلَهُ نِعْمةً منه نسيَ ما كان يدعو إليه من قبلُ وجَعَلَ لله أنداداً ليُضِلَّ عن سبيلهِ قُلْ تمتَّعْ بكفرِكَ قليلاً إنَّك من أصحابِ النَّار(8) أمَّنْ هوَ قَانِتٌ آناءَ اللَّيلِ ساجداً وقائماً يَحْذرُ الآخرةَ ويرجوا رحمةَ ربِّهِ قُلْ هل يستوي الَّذين يعلمونَ والَّذين لا يعلمونَ إنَّما يتذكَّرُ أُولوا الألباب(9)}

    ومضات:

    ـ هذه صورة معبِّرة عن الإنسان الَّذي تُلِمُّ به مصيبة، أو يقع في ضائقة، فيطلب المساعدة الإلهية بإلحاح، حتَّى إذا تحقَّقت له نسي أو تناسى ما كان به بالأمس وكأنَّ شيئاً لم يكن، فيُعرِض عن الله. وقد يصل به الجحود إلى أكثر من ذلك حتَّى يلتفت عنه، ويَتَّبِع آلهة يبتدعها لنفسه، وأبغض هذه الآلهة المزيَّفة (الهوى). ولكن مهما طال الزمن بهذا الإنسان، وجرت به الريح فإن مصير سفينته إلى براثن الأعاصير والعذاب في الدنيا والآخرة.

    ـ كلَّما ازداد عطاء الله للمؤمن الحقيقي، ازداد من ربِّه قرباً وعبادة خشية أن تزِلَّ به قدم غرور أو فتنة.

    ـ أبواب العلم كثيرة، وكلها تزوِّد المؤمن بالقوَّة الروحية والإيمان العميق، وجميعها تدلُّ وتشهد على عظمة الله وقدرته. فمن صار له هذا الإحساس والشهود، صار من أولي الألباب أصحاب القلب والعقل المستنير بنور الله سبحانه وتعالى.

    في رحاب الآيات:

    للإنسان طاقة محدودة على تحمُّل الألم الناجم عن المصائب أو الأمراض الَّتي تصيب جسده، أو الناتج عن النكبات الَّتي يتعرض لها في ماله أو في أهله. وفي الأحوال جميعها فإن هذه الطاقة وشدَّة تحمُّلها تختلف من شخص لآخر. وعندما يزيد الألم تتَّجه قوى المرء الفكرية والروحية تلقائياً إلى حضرة الله تطلب منه العون والمدد، فتكون هذه المحنة امتحاناً، فهو إمَّا أن يتعرَّف الحقيقة فيدرك حاجته الدائمة إلى ربِّه، أو أن يتحوَّل عن خالقه بمجرَّد زوال الألم وكشفه الغمَّة عنه، وكأنَّ هذه العلاقة علاقة آنيَّة مرتبطة بالمصالح المؤقَّتة، والحاجة الطارئة، وبذلك يفشل وتزِلُّ قدمه.

    إن صلة المؤمن بخالقه صلة مستقيمة مرتبطة مع أنفاسه ونبضات قلبه، في السرَّاء والضرَّاء، في العُسر واليُسر، صلة تعطيه كوابح تضبط عواطفه، فلا طغيان في حال الفرح، ولا يأس في حال الحزن، بل اتزان وسكينة ورضاً بقدر الله تعالى خيره وشرِّه. وهذه الصلة لا يمكن أن تقوى وتتمتَّن إلا بالكثير من التعبُّد والخشوع والتقرُّب من الله عزَّ وجل، وخاصَّة في جوف الليل حين تهدأ حركة الأحياء، وترتاح الأعصاب، وتحنُّ القلوب، وتنسكب العبرات. فإذا قويت هذه الصلة، تذكًّر المؤمن خالقه في جميع الأحوال، قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن عباس رضي الله عنه : «تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدَّة» (رواه الترمذي والحاكم بإسناد صحيح) وقال الحسين رضي الله عنه : (من نسي الحقَّ عند العوافي لم يُجِبِ الله دعاءَه عند المحن والاضطرار).

    إن الجحود لا يقف بالضالِّ عند نسيان فضل ربِّه فحسب، بل يمتدُّ به حتَّى يجعل لربِّه أنداداً، إمَّا آلهة يعبدها كما كان في جاهليته الأولى، وإمَّا رموزاً وأشخاصاً وأوضاعاً يجعلها في نفسه شريكة مع الله، فإذا هو يعبد شهواته وميوله ومطامعه ومخاوفه وماله، ويتعلَّق بأولاده وأهله كما يتعلَّق بالله أو أشدَّ تعلُّقاً، فيطيعهم بمعصية الله ويرضيهم بسخطه، وتكون العاقبة هي الانحراف أكثر فأكثر عن سبيل الله. فسبيل الله واحد لا يتعدَّد، وإفراده بالعبادة والتوجُّه والحبِّ هو وحده الطريق إليه، والعقيدة في الله لا تحتمل معه شريكاً في القلب، كائناً من كان، لا مال ولا ولد ولا صديق ولا قريب، فأيُّما مشاركة قامت في القلب من هذا النوع وأمثاله، فهي من قبيل اتخاذ أنداد مع الله، وضلال عن سبيله، تؤول بصاحبها إلى النار بعد قليل من التمتُّع في هذه الأرض. وكلُّ متاع مهما طال قليل، وأيام الفرد على هذه الأرض معدودة مهما عُمِّر، بل إن حياة الجنس البشري كلِّه على الأرض، متاع قليل، إذا قيست بأعمار بقية مخلوقات الله الكونية. روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: (ياأيُّها الناس! ألا تستحون؟ إلى متى تؤمِّلون ما لا تبلغون، وتجمعون ما لا تأكلون، وتبنون ما لا تسكنون؟ إن من كان قبلكم أمَّلوا بعيداً، وبنَوْا مشيداً، وجمعوا كثيراً، فأصبح أملهم غروراً، وجمعهم بوراً، ومساكنهم قبوراً).

    وبعد الانتهاء من عرض الصورة المظلمة، للإنسان اللاهي المنصرف عن ربِّه، تعرض الآية الصورة المشرقة، للإنسان الواعي المتصل بالله اتصالاً سوياً مستقيماً، فهو قانت لربِّه، مطيع له، متوجِّه إليه، ساجد على أعتابه، قائم بين يديه، حَذِرٌ من عقابه، راجٍ لرحمته. وكلمة القانت لله فيها أربعة وجوه: فهو المطيع، وهو الخاشع، وهو القائم، وهو الداعي إلى الله. ومن ذلك كلِّه ندرك أن الصلة القويمة بالله يجب أن تكون في السرَّاء والضرَّاء، وأن الله لا يقبل إلا الإيمان الخالص من كل الشوائب.

    سورة يونس(10)

    قال الله تعالى: {هو الَّذي يُسيِّرُكُم في البرِّ والبحرِ حتَّى إذا كنتُمْ في الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهمْ بريحٍ طيِّبَةٍ وفرِحُوا بها جاءتها رِيْحٌ عاصفٌ وجاءهُمُ الموجُ من كلِّ مكان وظنُّوا أنَّهم أُحِيطَ بهم دَعَوا الله مُخلصينَ له الدِّينَ لَئِنْ أنجيتَنَا من هذه لنكوننَّ من الشَّاكرين(22) فلمَّا أنجاهُمْ إذا هم يَبْغُونَ في الأرضِ بغيرِ الحقِّ ياأيُّها النَّاسُ إنَّما بَغيُكُم على أنفسِكُمْ متاعَ الحياةِ الدُّنيا ثمَّ إلينا مَرْجِعُكُم فننبِّئُكُمْ بما كنتُمْ تعملون(23)}

    ومضات:

    ـ لا يمكن لسفينة الحياة أن تمضي في مسيرتها ما لم تعترضها الرياح الهادرة، وتحيط بها الأمواج العاصفة، ومهما كانت مهارة الربَّان وقدراته الفنية، فإن أعاصير القدر أشدُّ هولاً من أن يجتنبها بإمكاناته الفردية، لذا كان لابدَّ له من المساعدة الإلهية تمدُّه بالعون، وتنقذه من براثن الخوف والذعر. وإن كريم الصفات، وجميل الأخلاق، لا ينسى فضل الله حين يأتيه، بل يحمده ويشكره، ويرعى مخلوقاته بالعطف والرعاية. أمَّا لئيم النفس خبيث الصفات، فإنه سرعان ما ينسى فضل الله عليه ومدده في وقت حاجته، فيتابع مسيرة الحياة، بالظلم والبغي والاعتداء على حقوق الناس. وهذا العنت والصلف والتسلُّط سيرتدُّ عليه بالويل والثُّبور، إِنْ عاجلاً أو في يوم تنشر فيه صحائف الأعمال، ويلقى المرء كتاباً لا يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا أحصاها، ويفزع المجرم من سوء عمله، ويتمنَّى لو أنه كان ترابا.

    في رحاب الآيات:

    صفحة من صفحات الوجود تُنْشَر أمام أنظارنا بكلِّ غناها ورحابتها ونبضاتها الدافقة، بمدِّها وجزرها، تلهب خيال الإنسان، وتذكي نار القلب ليلتمس العون من الخالق العظيم، وتلفت الانتباه إلى حقيقة ربَّما غابت عن كثير من الناس، وهم مندفعون وراء تيَّار الحياة الصاخب، لعلَّهم يتوقَّفون قليلاً، يلتقطون أنفاسهم ولو للحظة وهم يقلِّبون كتاب الكون المفتوح، ويقرؤون صفحاته الزاخرة، ويأخذون منه العبرة الَّتي تنفعهم في رحلتهم القصيرة على الأرض.

    إنها صورة البحر بسعته ومهابته، بهوله ورعبه، بهدوئه ووداعته، ترسمها لنا ريشة مبدعة لا تستخدم من أدوات الرسم إلا الكلمة المعبِّرة، وما أفقرها من أداة إن لم تكن صادرة عن ذاتٍ قادرة، تُخضع ما في الوجود لسلطانها. وتبدأ الريشة بالرسم فترصد حياة الإنسان الوادعة الهانئة، فتبدو كمراكب في البحر تتهادى بِزَهْوٍ وخُيَلاء، وريح طيبة تحرِّك السفن بوداعة ورفق، وعلى حين غِرَّة تقطِّب السماء جبينها، وتسري رعدة على سطح البحر، وتهبُّ الريح الهوجاء، ويعلو الموج، وتتقلقل السفينة، ويحدق الموت بمن عليها فتراهم يترنَّحون وكأنَّهم سكارى وما هم بسكارى، ولكنَّه الخطب الشديد والغرق الوشيك.

    عندها، وبشكل فطري لا إرادي، تتَّجه أنظار القوم نحو السماء، وتَسْبَحُ في عالم الملكوت، ويدركون أن الله وحده هو المنقذ، فتعتريهم رعدة الرجوع إلى الحقِّ، وترتفع الأصوات بالدعاء والاستغاثة، مصطدمة بعويل الريح وعاتي الأمواج، وتتعرَّى فطرتهم ممَّا علاها من ركام البعد، ويخلع القلب حجاب الغفلة، فيتخذ عهداً عند الله أن يثوب إليه ويؤوب، وأن يحوِّل اتجاهه من الضلال إلى الهدى، ومن الغيِّ إلى الرشد. ويأتي الأمر إلى الريح من الله الرحيم بعباده فتهدأ، وإلى البحر فيسكن، ويسكن معه كلُّ شيء بما في ذلك القلوب الَّتي تستردُّ طمأنينتها، وتواصل السفينة رحلتها وكأنَّ شيئاً لم يحدث، حتَّى إذا وصلت إلى شاطئ الأمان، ولامست أقدام الناس الأرض اليابسة، تحرَّك وحش الغفلة والأنانية في أعماقهم، فإذا هم ينسون أو يتناسون ما قطعوه من عهد لله، فيعيثون في الأرض فساداً، ينشرون الجهل والجاهلية، ويحوِّلون فراديس العلم إلى مقابر للعقل والقلب والهداية، ويَلْبِسُون الحقَّ بالباطل ويشوِّهون كلَّ ما هو جميل، ويعتدون على حقوق الله وحقوق العباد، تحقيقاً لمصلحة عابرة لا تلبث أن تزول، ويبقى الظلم منقوشاً في صحائفهم بأحرف سوداء، وسيحصدون سوء ما زرعوا، ويجنون نتائج الخراب الَّذي صنعوه.

    وهذه الصورة ليست إلا تلخيصاً لرحلة الإنسان الغافل على الأرض، فتراه يتقلَّب في أحضان النعيم، لاهثاً وراء إرضاء أنانيته، متجاوزاً حقوق غيره، ناسياً الغاية الَّتي خُلق من أجلها، وهي عمارة الكون، وخلافة الله في الأرض، وإقامة ميزان العدل، وإعلاء كلمة الحقِّ، والإقبال على بارئ الخلق، فتراه يظلم ويبطش ويسرف على نفسه، ويعتدي على غيره، حتَّى إذا داهمته مصيبة لَجَّ بالشكوى، وتوجَّه إلى الخالق بالدعاء، وقطع العهود على نفسه ببذل البرِّ والخير والتَّقوى. فإذا كشف الله غُمَّته، رجع إلى أنانيَّته وغطرسته وظلمه، فيكون من الخاسرين الظالمين لأنفسهم، وتكون عاقبته الندم على ما فرَّط في جنب الله عزَّ وجل. وكان الأجدر به أن يغتنم الفرصة الَّتي منحها الله تعالى له ليستيقظ من غفلته، ويعود إلى رشده فيستقيم، ولكنَّها الغفلة تحيق بالقلوب اللاهية، وترمي بظلالها الثقيلة السوداء على العقول والأبصار. والله نسأل أن يحفَّنا باللطف والرحمة، ليثبِّت أقدامنا على صراطه المستقيم، وينوِّر قلوبنا بشرعه القويم، حتَّى نبقى عابدين مخلصين له الدِّين، ولحلاوة محبَّته ذائقين، ولساعات أعمارنا بطاعته مالئين، ولفرص السعادة الحقيقية مغتنمين آمين يا ربَّ العالمين.

     
  5. #5
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي رد: التربية الروحية في الإسلام

    الفصل الرابع:

    التَّقوى

    سورة الحشر(59)

    قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا اتَّقوا الله ولْتَنْظُرْ نفسٌ ما قدَّمت لِغَدٍ واتَّقوا الله إنَّ الله خبيرٌ بما تعملون(18) ولا تكونوا كالَّذين نَسُوا الله فأنساهُمْ أنفسَهُمْ أولئك همُ الفاسقون(19)}

    ومضات:

    ـ التَّقوى تعني العفَّة عن المحارم والشهوات، ومحاذرة ارتكاب ما يغضب الله، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه. وهي بمجملها الالتزام بشرع الله طاعةً ورغبةً.

    ـ في الآيات نداء للمؤمنين لينهلوا من معين التَّقوى، وليحاسبوا أنفسهم على ما قدَّموه من أعمال لرحلتهم الأبدية.

    ـ الإنسان اللاهي الغافل عن الله تعالى ضائع، وفاقد لمقوِّمات بناء الشخصية المؤمنة، وهو مفتقر للاستقرار النفسي، وبعيد عن أسس النجاح وفق ميزان الله.

    في رحاب الآيات:

    عندما ينوي المرء السفر إلى بلد ما، فإن أوَّل ما يفكر فيه هو كيفيَّة الحصول على العملة المتداولة في ذلك البلد، ومعرفة أسعارها، من أجل تيسير أموره وتمكينه من تحقيق قصده من هذا السفر. ويلفت الله تعالى نظر عباده إلى اليوم القريب، الَّذي تنطلق فيه رحلتهم الأبدية، تلك الرحلة ذات الاتجاه الواحد، والَّتي لا عودة بعدها، إنها الرحلة الَّتي يصل فيها المرء إلى مكانٍ؛ العملةُ المتداولة فيه هي أعماله فقط، تلك الأعمال الَّتي كان يقوم بها خلال مسيرة الحياة الجسدية. وفي هذه الرحلة يحقُّ له أن يحمل من حقائب السَّفر ما شاء، فلا قيود على الوزن، لأن محتويات هذه الحقائب هي محصِّلة أعماله، وزاده من الَّتقوى. التَّقوى الَّتي تجعل القلب، وهو يقطع رحلة الحياة يقظاً، حسَّاساً شاعراً بالله في كلِّ حالة، خائفاً متحرِّجاً، خجلاً من أن يطَّلع الله عليه في حالة يكرهها؛ وعين الله على كلِّ قلب، في كلِّ لحظة، لا تغفل ولا تنام، فمتى يأمن ألا يراه؟.

    ويحذِّر الله عباده من أن يكونوا كأولئك الَّذين نسوه فأنساهم أنفسهم، وهي حالة عجيبة، ولكَّنها حقيقية، فالَّذي ينسى الله يهيم في هذه الحياة بلا رابطة تشدُّه إلى أفق أعلى، وبلا هدف يرفعه عن السائمة الَّتي ترعى، وفي هذا نسيان لإنسانيته. وهذه الحقيقة تنشأ عنها حقيقة أخرى، هي نسيان هذا المخلوق لنفسه، فلا يدَّخر لها زاداً للحياة الأخروية الباقية، ولا ينظر فيما قدَّم لها للغد القريب من رصيد. وهذا كله يتطلَّب من المرء صحوة روحية وهو في عالم المادَّة، حيث ينسى نفسه في غمرة انشغاله بالدنيا لاهثاً وراءها، ومكثراً من تحصيل متاعها، ليعلم أن أعماله الخيِّرة والبنَّاءة تتحوَّل إلى حسابه الجاري في عالم الروح، وتُسجَّل له في رصيد الحسنات، وأن أعماله السيئة وذنوبه تُكْتَب في رصيد السيئات، فمن رجحت حسناته على سيئاته فقد فاز الفوز العظيم ونجا من العذاب الأليم، وإلا فهو من النادمين، ولاتَ حين مندم فلا ينفع الندم.

    سورة آل عمران(3)

    قال الله تعالى: {وسَارِعُوا إلى مَغفِرةٍ من ربِّكُم وجَنَّةٍ عَرضُها السَّمَواتُ والأرضُ أُعِدَّت للمُتَّقِينَ(133) الَّذين يُنفِقُونَ في السَّرَّاءِ والضَّرَّاء والكَاظِمِينَ الغَيظَ والعافينَ عن النَّاسِ والله يُحِبُّ المُحسِنِينَ(134) والَّذين إذا فَعَلُوا فَاحِشَةً أو ظَلَمُوا أنفُسَهُم ذَكَرُوا الله فَاستَغفَرُوا لِذُنُوبِهِم ومن يَغفِرُ الذُّنُوبَ إلاَّ الله ولم يُصِرُّوا على ما فَعَلُوا وهُم يَعلَمُونَ(135) أُولَئِكَ جَزاؤهُم مغفِرَةٌ من ربِّهِم وجَنَّاتٌ تَجري من تَحتِهَا الأَنهَارُ خَالِدِينَ فيها ونِعمَ أجرُ العامِلينَ(136)}

    ومضات:

    ـ تحمل هذه الآيات دعوة للمؤمنين ليدخلوا في ميدان التنافس في الخير وينالوا درجة المتَّقين، والجائزة الَّتي تُمنَح للفائزين هي جنان الخلد ونعيم لا يفنى.

    ـ المتَّقون هم أولئك الَّذين نذروا ما يملكونه؛ سواء كان قليلاً أم كثيراً، ومهما كان مقدار حاجتهم إليه، لمساعدة المحوجين والبائسين، وهم أيضاً الَّذين يملكون أنفسهم عند الغضب، ويتجاوزون عن أخطاء الناس.

    ـ المتَّقون المحسنون يملكون قلوباً طاهرة ومنوَّرة، فإذا شابها ذنب أو غفلة، سارَعُوا إلى الله بالإنابة والتوبة الصادقة، دون تباطؤ أو إصرار على التَّمادي في الذنب.

    ـ الجائزة الكبرى الَّتي ينالها الفائزون في هذا التنافس الحارِّ في تقوى الله، هي نيل مغفرته تعالى ورضاه، وخلود في أحضان الجنان وفي ظلال عرش الرحمن.

    في رحاب الآيات:

    الإسلام دين الواقعيَّة والمنطق السليم، والتَّقوى فيه عامل أساسي لشدِّ الهمم والعزائم، لأنها ترادف معنى الإخلاص، ولا تقاعس مع الإخلاص، ولا تسويف مع الحبِّ الصادق الَّذي أعطانا نبي الله موسى عليه السَّلام مثلاً رائعاً عنه، وصوَّره الله تعالى لنا بقوله: {وما أعجلَكَ عن قومِكَ ياموسى * قال هُمْ أُوْلاءِ على أثري وعَجِلْتُ إليك ربِّ لِتَرضى} (20 طه آية 83ـ84). فالمحبُّ العاشق لله يسارع إلى كلِّ عمل يوصله إلى رضاه تعالى ودخول جنَّته، تلك الجنَّة الرحبة الواسعة الَّتي أعدَّها الله لمن امتثل أوامره وترك نواهيه، وزكَّى نفسه ونمَّى عقله وأنار قلبه، وأمضى رحلة حياته في الإشادة والبناء وإسعاد الناس وخدمة الخلائق، إلى أن يصل إلى مرتبة المتقين الَّذين تصفهم الآيات بجملة من الصفات الجليلة.

    فهم ينفقون في السَّعة والضيق كلٌّ حسب حاله، وهذا أَدَلُّ على التَّقوى، لأنَّ المال عزيز على النفس، يشقُّ عليها بذله في طرق الخير والمنافع العامَّة، وحبُّ الخير هو الَّذي يحرِّك في الإنسان دافع البذل، فإن لم يتوافر هذا الدافع بقرار ذاتي، فالدِّين ينمِّيه ويقوِّيه، لأنه جاء لتعديل الأمزجة المعتلَّة، وإصلاح النفوس المريضة.

    وكذلك هم الَّذين يملكون زمام نفوسهم، فلا يظهرون غيظهم مع قدرتهم على الإيقاع بأعدائهم، ولا يُغلَب الغيظ إلا بتلك الشفافية اللطيفة المنبثقة من إشراقة التَّقوى، وبتلك القوَّة الروحية المنبعثة من التطلُّع إلى أفق أعلى وأسمى من أفق الذَّات وضروراتها. إن كظم الغيظ هو المرحلة الأولى فقط، وهو وحده لا يكفي، فقد يكظم الإنسان غيظه دون زوال حقده، لذلك تمضي الآيات لتشير إلى المرحلة الثانية الكفيلة بانتزاع الأحقاد من صدور المؤمنين، وهي العفو والسماحة والتجاوز، والله سبحانه لم يدعُ الناس إلى السماحة فيما بينهم، إلا بعد أن أطلعهم على جانب من سماحته معهم ليتذوَّقوا ويتعلَّموا. فهو غفَّار الذنوب؛ بل إنه جعل المغفرة الحقيقية بيده وحده جلَّ وعلا في قوله: {ومن يَغفِرُ الذنوبَ إلاَّ الله}، وهو يحبُّ أولئك العافين عن الناس، وحبُّه لهم من شأنه أن يطلق في نفوسهم حبَّ الإحسان والخير، ويبعث في قلوبهم الرغبة في عمل ما يقرِّبهم منه. ولكن الإنسان لا يخلو من لحظات ضعف تنتابه، فيزِلُّ أو يقع في ذنب، وعندها لا ينبذه الإسلام ولا يطرده الله من رحمته، بل يفتح أمامه باب الأمل للتواصل من جديد مع الله تعالى ونيل مغفرته؛ إنْ هو استغفر لذنبه وتاب، وندم على فعلته، قال النبي صلى الله عليه وسلم : «قال إبليس: يارب! وعزَّتك لاأزال أغوي بني آدم مادامت أرواحهم في أجسادهم، فقال تعالى: وعزَّتي وجلالي لاأزال أغفر لهم ما استغفروني» (رواه الإمام أحمد).

    فالإسلام يدرك ضعف المخلوق البشري، الَّذي قد تدفعه نزواته وشهواته إلى مخالفة أمر الله، فلا يقسو عليه، ولا يبادر إلى احتقاره، بل يفترض فيه الخير مادامت شعلة إيمانه متوقِّدة لم تخمد، وطالما عرف أنه مخطئ وأن له ربّاً يغفر، فاستغفر وعاد عن خطئه، ولا يزال هذا العبد الضعيف المذنب بخير، مادام ممسكاً بالعروة الوثقى الَّتي تربطه بحضرة الله، سائراً في الدرب لم يقع في دائرة اليأس، ومهما تعثَّر فإنه سيصل في النهاية، مادامت الشعلة مضيئة تنير دربه، والأمل يشدُّ عزيمته، ومادام يذكر الله ولا ينساه، ويستغفره مُقِرّاً له بالعبوديَّة.

    والإسلام لا يدعو بهذا إلى التهاون، ولا يمجِّد العاثر الهابط، إنما يتجاوز عن عثرة الضعيف ليستثير في النفس الرجاء، وليحضَّ على طلب المغفرة من الله، وأمَّا الَّذين يستهترون ويُصِرُّون على المعصية فقد ظلموا أنفسهم وتعدَّوا على حرمات الله. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لا كبيرة مع الاستغفار ولا صغيرة مع الإصرار» (رواه البيهقي والبزَّار)، فالله لم ينكر على الإنسان وقوعه في الذنب، ولكنَّه أنكر إصراره عليه. والإصرار هو امتلاك القوَّة الجسدية والعقلية عند تكرار ارتكاب الذنب مع معرفة أنه ذنب، ومع ذلك يكرِّر فعله من أجل مصلحة أو مكسب أو هوى. فالمرء قد يسرق لظرف ما ثمَّ يتوب، ويردُّ المال المسروق، لكنَّ في تكرار السرقة إصراراً عليها، وقد يكذب ثمَّ يتوب، لكنه إذا عاد إلى الكذب فهو مصرٌّ عليه. ولكن إذا تيقَّظ الضمير، وآبت النفس إلى جادَّة الصواب، وحاولت إصلاح الخطأ، كان ذلك توبة يفرح الله بها، ومدعاة لمغفرة الذنوب، جاء في الحديث القدسي فيما يرويه رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربِّه عزَّ وجل: «أنا عند ظنِّ عبدي بي وأنا معه حيث يذكرني، ومن تقرَّب إليَّ شبراً تقرَّبت إليه ذراعاً ومن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقرَّبت إليه باعاً وإذا أقبل إليَّ يمشي أقبلت إليه أهرول» (متفق عليه).

    والاستغفار هو طلب المرء المغفرة من الله على ما اقترفه من إثم أو ما قصَّر فيه من عمل، وهو يعجِّل بالخلاص إذا قصد به التوبة النصوح، قال صلى الله عليه وسلم : «من لزم الاستغفار جعل الله له من كلِّ ضيق مخرجاً، ومن كلِّ همٍّ فرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب» (رواه أبو داود).

    والتوبة النصوح تستلزم النَّدم على ما مضى، والإقلاع عن الذنب، والعزم الأكيد على استئناف حياة صالحة فيما يُستَقبَلُ من الزمان، فإن كان ثمَّةَ حقوق للعباد وجب ردُّها إلى أصحابها ما أمكن، وهذه التوبة هي الَّتي يقبلها الله ويفرح بها، وحسب التائب شرفاً أن يقول الله في شأنه: {..إنَّ الله يُحِبُّ التَّوَّابينَ ويُحِبُّ المُتَطهِّرين} (2 البقرة آية 222).

    والمتَّقون الَّذين وصفتهم الآيات بما تقدَّم، لهم ثواب عظيم وأمن من العقاب، وعفوٌ عما سلف من ذنوبهم، وجنَّات تجري من تحتها الأنهار، ماكثين فيها أبداً، فنعمت الجنَّة جزاءً لمن أطاع الله.

    سورة التحريم(66)

    قال الله تعالى: {ياأيُّها الَّذين آمنوا قُوا أنفسَكُم وأهلِيكُمْ ناراً وَقُودُها النَّاسُ والحجارَةُ عليها ملائكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يعصونَ الله ما أمرَهُمْ ويفعَلون ما يُؤمرون(6)}

    ومضات:

    ـ يأمر الله تعالى المؤمنين أن يوجِّهوا أزواجهم وأولادهم، ويعلِّموهم أسس الصلاح والحلال والحرام، وقاية لهم من نار رهيبة تشتعل بها أجسام الناس والحجارة.

    في رحاب الآيات:

    يوجِّهُ الله تعالى من خلال الآية نداء إنذار وإنقاذ إلى كلِّ مؤمن بل إلى كلِّ إنسان؛ أن يعمل صالحاً، ويأمر أهله بالطاعة، لتكون حجاباً له ولهم من نار جهنَّم، الَّتي وقودها الناس والحجارة، وهي الَّتي كان المشركون يعبدونها من دون الله، وهذا منتهى التحدِّي للإنسان الَّذي ظلم نفسه فعبد غير الله، والآن يُكَبُّ هو ومعبوده في النار، فهل يستطيع أحدهما أن ينقذ الآخر؟. أخرج ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {قُوا أنفسَكُم وأهلِيكُمْ ناراً} قال: (اعملوا بطاعة الله، واتَّقوا معاصيه، وَمُروا أهليكم بالذِّكر ينجيكم الله من النار). وأخرج عبد بن حميد عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله تعالى: {قُوا أنفسَكُم وأهلِيكُم ناراً} قال: (أدِّبوا أهليكم). وأخرج ابن مردويه عن زيد بن أسلم رضي الله عنه قال: «تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية {قوا أنفسكم...} فقالوا: يارسول الله كيف نقي أهلنا النار؟ قال: تأمرونهم بما يحبُّه الله وتنهونهم عما يكره الله».

    ففي الآية إرشاد إلى أنه يجب على الرجل تعلُّم ما يجب من فرائض الدِّين وتعليمها لأهله، لاسيَّما أولاده، مصداقاً لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الَّذي رواه ابن عمر رضي الله عنه : «كلُّكم راعٍ وكلُّكم مسؤول عن رعيَّته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيَّته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيَّته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيَّتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيَّته، وكلُّكم راعٍ ومسؤول عن رعيَّته» (متفق عليه). فالأبناء يُخلقون مزوَّدين بقوى فطرية تصلح أن توجَّه للخير، كما تصلح أن توجَّه للشر، وعلى الآباء أن يستغلوا هذه القوى ويوجِّهوها وجهة الخير، ويعوِّدوا أبناءهم العادات الحسنة، حتَّى ينشأ الطفل خيِّراً ينفع نفسه وينفع أمَّته.

    ووقاية النفس والأهل من النار لا تكون إلا بالتعليم والتربية، وتنشئتهم على الأخلاق الفاضلة، وإرشادهم إلى ما فيه نفعهم وفلاحهم. يقول الرسول صلى الله عليه وسلم : «الزموا أولادكم وأحسنوا أدبهم» (رواه ابن ماجه) وفي هذا الحديث دلالة على ما ينبغي أن يكون عليه الآباء من ملازمة أولادهم، ليكون تصرُّف الأبناء تحت نظر الآباء وإشرافهم، فإذا تصرَّف أحدهم أيَّ تصرُّف يحتاج إلى توجيه، كان ذلك التصرُّف موضع العناية والنظر. والإسلام لا يفرِّق بين الذكور والإناث في هذه الناحية، فلكلٍّ من الجنسين الحقُّ في التنشئة الصالحة، وتعلُّم العلم النافع، ودراسة المعارف الصحيحة، وأن تتاح له أسباب التأديب ووسائل التهذيب، لتكمل إنسانيته، ويستطيع النهوض بالأعباء الملقاة على عاتقه. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : «من كانت له ابنة فأدَّبها فأحسن تأديبها، وربَّاها فأحسن تربيتها، وغذَّاها فأحسـن غذاءها، كانت لـه وقـاية من النار» (رواه الخمسة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه ). والمقصود بالتربية: إعداد الطفل بدنيّاً وعقليّاً وروحيّاً حتَّى يكون عضواً نافعاً لنفسه ولأمَّته، وذلك بتهيئته ليكون سليم الجسم قويَّ البنية، قادراً على مواجهة الصعاب الَّتي تعترضه، بعيداً عن الأمراض والعلل الَّتي تشلُّ حركته وتعطِّل نشاطه. وأن يتهيَّأ عقله ليكون سليم التفكير، قادراً على النظر والتأمُّل، يستطيع أن يفهم البنية الَّتي تحيط به، ويُحْسِنَ الحكم على الأشياء، ويمكنه أن ينتفع بتجاربه وتجارب الآخرين. وأمَّا إعداده الروحي فيتمُّ بأن يُهَيَّأ ليكون متيقِّظ العواطف والمشاعر، ينبسط للخير ويفرح به، ويحرص عليه، وينقبض عن الشرِّ ويضيق به، وينفر منه. وأمَّا الوسائل الَّتي يمكن للأب أن يهيِّئ ابنه من خلالها فتتلخَّص بما يلي:

    1 ـ إبراز قيمة الفضائل وآثارها الفردية والاجتماعية، وإظهار مساوئ الرذائل وآثارها أمام الطفل بقدر ما يتسع له فهمه.

    2 ـ أن يكون الآباء أنفسهم مثلاً صالحاً لأبنائهم؛ فإن من عادة الأطفال أن يتشبَّهوا بآبائهم ويحاكوهم في أقوالهم وأفعالهم، والقدوة الصالحة ما هي إلا عَرْض مجسَّم للفضائل. وإن الطفل الَّذي يرى والديه يهتمَّان بأداء الشعائر والبعد عما يُخِلُّ بتعاليم الدِّين، مثل الكذب، والغيبة، والنميمة، والأثرة، والبخل، وغير ذلك من الصفات الذميمة، لابدَّ وأن يتأثَّر تأثُّراً بالغاً بهما وبما يصدر عنهما.

    3 ـ تلقين الطفل مبادئ الدِّين وتمرينه على العبادات، وتعويده على ممارسة فعل الخير، فإن ذلك يجعل منه نواة صالحة لمجتمع سليم راق.

    4 ـ على الآباء أن تكون معاملتهم لأولادهم قائمة على أساس الملاطفة والرفق واللين، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلِّم أصحابه أن يعاملوا أولادهم بالرفق واللين، ويضرب لهم المثل بما يمارسه هو بنفسه: «فكان يصلِّي صلى الله عليه وسلم يوماً إماماً، فارتحله الحسن؛ ابن بنته، فأطال السجود، فلمَّا فرغ قالت الصحابة: يارسول الله، أطلت السجود! فقال صلى الله عليه وسلم : إن ابني ارتحلني فكرهت أن أعجله» (أخرجه النسائي وأحمد والحاكم عن عبد الله بن شداد عن أبيه). «وقبَّل صلى الله عليه وسلم طفلاً من أبناء بناته، فقال رجل من الأعراب: أتقبِّلون أبناءكم؟ إن لي عشرة من الولد ما قبَّلت واحداً منهم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أَوَ أملك لك أن نزع الله الرحمة من قلبك» (متفق عليه) أي ما الَّذي أستطيع أن أفعله معك وقد غاض نبع الرحمة في قلبك؟.

    5 ـ ومن الضروري أن يحبِّب الآباء أبناءهم في اختيار الأصدقاء الأخيار ومزاملة أصحاب الخلق الفاضل، فإن الأطفال يحاكي بعضهم بعضاً، ويتشبَّه كلٌّ منهم بالآخر.

    يُستَخلَصُ ممَّا تقدَّم أهميَّة دور المؤمن في الإشراف على تربية أولاده وتوجيه سلوكهم، لوقايتهم من شرور أنفسهم، بالتعاون مع الأمِّ المؤمنة الصالحة. فإن كانت عاطفة الأبوين تدفعهما ألاَّ يقفا مكتوفي الأيدي عند رؤية أولادهما على وشك الوقوع في نار الدنيا، فالأَوْلى بهما أن يحفظوهم من نار الآخرة، الَّتي سبيلها المعاصي والفسق والجهل والتمرُّد، وأن يزرعا فيهم حبَّ الله ورسوله، وحبَّ الخير لأنفسهم وللناس أجمعين. فالأبناء أمانة وضعها الله بين يدي الآباء، وهم مسؤولون عنها، فإن أحسنوا إليهم بحسن التربية، كانت لهم المثوبة، وأنقذوهم من سوء الخاتمة، وإن أساؤوا تربيتهم استوجبوا العقوبة ورموا بهم وبأنفسهم إلى التهلكة.

    سورة الأعراف(7)

    قال الله تعالى: {ولو أنَّ أهلَ القُرَى آمَنُوا واتَّقَوا لفتحنا عليهِمْ بركاتٍ من السَّماءِ والأرضِ ولكِنْ كذَّبوا فأخذناهم بما كانوا يَكْسِبُون(96)}

    ومضات:

    ـ الإيمان والتَّقوى هما مفتاحا الرزق والخير لأنهما يقودان إلى حسن التعامل وتوثيق الصلات بين الناس.

    ـ هناك عوامل فعَّالة غير منظورة تؤثِّر على رزق الإنسان سلباً أو إيجاباً على الرغم من تعاطيه الأسباب للكسب، ولا تتوضح معالم هذه العوامل إلا لمن ربط فؤاده بموجد الأسباب والمسبَّبات، وأدرك أنه تعالى هو وحده القادر على بسط الرزق إنعاماً وتكريماً للمحسنين، أو حجبه وتضييقه جزاءً للغافلين والمكذِّبين.

    في رحاب الآيات:

    ينصح علماء الطبيعة والبيئة بالإكثار من التشجير، والمحافظة على الغابات من عبث الإنسان، ويؤكِّدون أهمية الأشجار في ترطيب أجواء الأرض واستقطاب الغيوم إليها؛ وهذا يدلُّ على وجود علاقة خاصَّة بين الشجر والغيوم. ويبدو من سياق الآية الكريمة أيضاً وجود علاقة بين تقوى الإنسان وورعه، وبين عوامل الطبيعة في الجو، وكأنَّ الأعمال الصالحة والاتجاه الروحي الصافي نحو حضرة الله، يستقطب الرزق من السماء والأرض، كما يستقطب الشجر ماء المطر ويمتصُّ غذاءه من الأرض.

    إذن: هناك علاقة وثيقة خفيَّة بين الإيمان وتقوى الله من جهة، وبين الرزق الإلهي الوفير من جهة أخرى، ويمكن أن يدركها أولو البصيرة ويستشفَّها أصحاب اليقين، كما يمكن للإنسان المؤمن أن يتلمَّسها من خلال تجاربه اليومية. وميزة هذه العلاقة أنها تعطي الإنسان الأمل والتفاؤل، وتدفعه للدعاء والتضرُّع، وتزرع في قلبه الثقة بالله، والتسليم بأنه الرازق الحقيقي بعد تعاطي الأسباب الَّتي تثمر عادةً المسببات المرغوبة.

    فالإيمان بالله قوَّة دافعة دافقة تُستَمَدُّ من قوَّة الله، وتعمل على تحقيق مشيئته في الأرض، بعمارتها ودفع الفساد والفتنة عنها. وتقوى الله يَقظةٌ واعية تصون الإنسان من التهوُّر والغرور، وتوجِّه الجهد البشري بعناية ليكمِّل رسالة البناء والإعمار. وهكذا يسير الإيمان والتَّقوى متناسقين متلازمين في طريق الخير، فيحدث بينهما لقاح خفيٌّ يومض بأنوار البركات الربَّانية، لينهمر العطاء الإلهي، وليتلاحم مع جود الأرض وكرمها، ويتفتَّح الخير في ذلك كله فيعمَّ البلاد والعباد.

    سورة الأعراف(7)

    قال الله تعالى: {يابني آدمَ قد أنزلنا عليكُمْ لِباساً يُواري سَوْءَاتِكُمْ وريشاً ولباسُ التَّقوى ذلك خيرٌ ذلك من آياتِ الله لعلَّهم يذَّكَّرون(26)}

    ومضات:

    ـ على الإنسان الواعي أن يَحذَرَ الحملة الموجَّهة لتمزيق برقع حيائه، وتهديم ركائزه الأخلاقية، والَّتي تدعوه إلى التخلِّي عن الأخلاق والفضائل باسم التحرُّر والمدنية، وأن يحارب هذه الحملات الهادفة إلى تعطيل طاقاته والسيطرة عليه، ليكون أداة طيِّعة لتحقيق الفساد والإفساد.

    ـ ربط الله سبحانه وتعالى بين الثياب والتَّقوى، لأن الأولى لباس الجسد والثانية لباس القلب والروح، وفي ذلك قال الشاعر:

    إذا المرء لم يلبس ثياباً من التُّقى تقلَّب عُريانا وإن كان كاسياً

    في رحاب الآيات:

    من الأدعية المأثورة: (اللهم استر عوراتنا، وآمن روعاتنا)، ولعل هناك رابطاً متيناً بين العورة والقلق الَّذي يروِّع الإنسان ويخرجه عن اتزانه وهدوء أعصابه وتفكيره. وهذا ما أدركه تجار الجنس وحاولوا أن يستغلُّوه، في محاولاتهم المستميتة، للتكسُّب من وراء تأجيج الغرائز الجنسية، بالأفلام الَّتي تتضمَّن مشاهد العري، وما أرفقوها من العنف الَّذي يولِّد القلق وتوتُّر الأعصاب، في أجواء تصيب النفس العفيفة بالغثيان. ذلك لأن الإنسان بشكل عام يخجل من كشف العورة، ويحاول جاهداً أن يسترها عن أعين الناس، ويرى في هتك الستر عنها شيئاً مخالفاً للآداب العامة. لذلك أتت الشريعة الإسلامية متوافقة مع المبادئ السليمة، محدِّدة ما يباح كشفه وما يجب ستره، وتناولت ما هو أشدُّ أهمية، وهو عيوب النفس وما يحاول الإنسان أن يخفيه منها عوضاً عن أن يعالجه بالتَّقوى ويتخلَّص منه.

    وهذا الكلام يقودنا إلى التمييز بين نوعين من العورة: العورة الجسدية، والعورة النفسية. فالأولى تكرَّم الله علينا بسترها فخلق لنا لباساً يكسوها ويحجبها، ليحفظ لنا ماء وجوهنا ويرفعنا عن مرتبة البهائم، وجعل لنا آداباً لشكره عليها، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لبس ثوباً جديداً قال: «الحمد لله الَّذي كساني من الرِّياش ما أواري به عورتي وأتجمَّل به في الناس» (رواه أحمد وابن أبي حاتم وابن مردويه عن علي رضي الله عنه ). أمَّا العورات النفسية فهي كلُّ عيب من العيوب الخُلقية أو النفسية، ومن حقِّ المسلم على أخيه المسلم أن يستر عورته، فمن سترها على أخيه ستر الله عليه، ومن بحث عنها وأفشاها كشف الله ستره وفضحه، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يستر عبد عبداً إلا ستره الله يوم القيامة» (رواه مسلم).

    إن اللباس الأجمل والأرقى الَّذي جعله الله لعباده المخلصين الَّذين حسُنت صلتهم بخالقهم، هو لباس التَّقوى الَّذي يؤهِّلهم لتلقِّي نور الله حيث يفيض على الجوارح، فَيُظهر في عيني صاحبه الصَّفاء والنَّقاء، وفي وجهه النور والبهاء، وفي معاملته الإخلاص والوفاء، وفي مشيته السكينة والوقار، وفي خلقه التسامي والنُّبْل، وفي غضبه الحلم والأناة، وفي لسانه الصدق والعدل، وفي سلوكه الصبر والسماح، وفي مشاعره التواضع والرحمة، لذلك كان الرسول صلى الله عليه وسلم يشير إلى صدره الشريف ويقول: «التَّقوى ههنا، التَّقوى ههنا» (رواه الترمذي ومسلم).

    وأجمل ثوب تكسو به التَّقوى صاحبها هو ثوب الحياء، الَّذي جاء فيه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «الإيمان بضع وسبعون شعبة والحياء شعبة من الإيمان» (متفق عليه) وكذلك ورد عن عمران بن حُصَيِن رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الحياء لا يأتي إلا بخير» (متفق عليه).

     

 
+ الرد على الموضوع
صفحة 1 من 3 1 2 3 الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك