+ الرد على الموضوع
صفحة 21 من 33 الأولىالأولى ... 11 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 31 ... الأخيرةالأخيرة
النتائج 101 إلى 105 من 162
  1. #101
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة الجمعة



    بعثة خاتم الرسل والرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم

    عدم استجابة اليهود لأوامر التوراة

    فريضة صلاة الجمعة

    بَين يَدَيْ السُّورَة

    * هذه السورة الكريمة مدنية وهي تتناول جانب التشريع، والمحور الذي تدور عليه السورة بيانُ أحكام "صلاة الجمعة" التي فرضها الله على المؤمنين.

    * تناولت السورة الكريمة بعثة خاتم الرسل محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم وبيَّنت أنه الرحمة المهداة، أنقذ الله به العرب من ظلام الشرك والضلال، وأكرم به الإِنسانية، فكانت رسالته بلسماً لأمراض المجتمع البشري، بعد أن كان يتخبط في الظلام.

    * ثم تحدثت السورة عن اليهود، وانحرافهم عن شريعة الله، حيث كُلِّفوا بالعمل بأحكام التوراة، ولكنهم أعرضوا عنها ونبذوها وراء ظهورهم، وضربت مثلاً لهم بالحمار، الذي يحمل على ظهره الكتب الكبيرة النافعة، ولكنه لا يناله منها إِلا العناء والتعب، وذلك نهاية الشقاء والتعاسة.

    * ثم تناولت أحكام "صلاة الجمعة" فدعت المؤمنين إِلى المسارعة لأداء الصلاة، وحرمت عليهم البيع وقت الأذان ووقت النداء لها، وختمت بالتحذير من الانشغال عن الصلاة بالتجارة واللهو كحال المنافقين، الذين إذا قاموا إِلى الصلاة قاموا كسالى متثاقلين.

    بعثة خاتم الرسل والرحمة المهداة صلى الله عليه وسلم

    {يُسبّح لله ما في السّماوات وما في الأرض الملِك القُدوس العزيز الحكيم(1)هو الذي بعثَ في الأُمِّيِّين رسولاً مِّنهم يتلوا عليهم ءاياته ويزكّيهم ويعلِّمهم الكتابَ والحكمة وإِن كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين(2)وآخرين منهم لمَّا يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم(3)ذلك فضلُ اللهِ يؤْتيه من يشاء واللهُ ذو الفضل العظيم(4)}

    {يُسبّح لله ما في السماوات وما في الأرض} أي ينزِّه الله ويمجده ويقدِّسه كلُّ شيء في الكون من إنسانٍ، وحيوان، ونبات، وجماد، وصيغةُ المضارع {يُسبحُ} لإِفادة التجدد والاستمرار، فهو تسبيحٌ دائم على الدوام {الملِك} أي هو الإِله المالك لكل شيء، المتصرف في خلقه بالإِيجاد والإِعدام {القُدوس} أي المقدَّس والمنزَّه عن النقائص، المتصف بصفات الكمال {العزيز الحكيم} أي العزيز في ملكه، الحكيم في صنعه {هو الذي بعثَ في الأُميّين رسولاً منهم} أي هو جل وعلا برحمته وحكمته الذي بعث في العرب رسولاً من جملتهم، أمياً مثلهم لا يقرأ ولا يكتب قال المفسرون: سُمي العرب أميّين لأنهم لا يقرأون ولا يكتبون، فقد اشتهرت فيهم الأمية كما قال عليه الصلاة والسلام (نحن أمةٌ أمية، لا نكتب ولا نحسب) الحديث والحكمةُ في اقتصاره على ذكر الأميين، مع أنه رسولٌ إِلى كافة الخلق، تشريفُ العرب حيث أُضيف صلوات الله عليه إِليهم، وكفى بذلك شرفاً للعرب {يتلوا عليهم ءاياته} أي يقرأ عليهم ءايات القرآن {ويزكّيهم} أي ويطهرهم من دنس الكفر والذنوب قال ابن عباس: أي يجعلهم أزكياء القلوب بالإِيمان {ويعلّمهم الكتابَ والحكمة} أي ويعلمهم ما يتلى من الآيات والسنة النبوية المطهرة {وإِنْ كانوا من قبلُ لفي ضلالٍ مبين} أي وإِنَّ الحال والشأن أنهم كانوا من قبل إِرسال محمد صلى الله عليه وسلم إِليهم لفي ضلالٍ واضح، عن النهج القويم، والصراط المستقيم قال ابن كثير: بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم على حين فترةٍ من الرسل، وطموسٍ من السُّبُل، وقد اشتدت الحاجة إِليه، فقد كان العرب متمسكين بدين إِبراهيم الخليل فبدلوه وغيَّروه، واستبدلوا بالتوحيد شركاً، وباليقين شكاً، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها اللهُ، وكذلك كان أهل الكتاب قد بدَّلوا كتبهم وحرفوها، فبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم بشرع عظيم، شامل كامل، فيه الهداية والبيان لكل ما يحتاج الناس إِليه من أمر معاشهم ومعادهم، وجمع له تعالى جميع المحاسن، وأعطاه ما لم يعط أحداً من الأولين والآخرين {وآخرين منهم لمَّا يلحقوا بهم} أي وبعث الرسول إِلى قومٍ آخرين، لم يكونوا في زمانهم وسيجيئون بعدهم، وهم جميع من أسلم إِلى يوم القيامة قال الصاوي: والمعنى أنه بعث إِلى المؤمنين الموجودين في زمانه، وإِلى الآتين منهم بعدهم، فليست رسالته خاصة بمن كان موجوداً في زمانه، بل هي عامة لهم ولغيرهم إِلى يوم القيامة، وفي الحديث عن أبي هريرة قال: كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزلت عليه سورة الجمعة {وآخرين منهم لمَّا يلحقوا بهم} قالوا: من هم يا رسول الله؟ قال: وفينا سلمان الفارسي، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان ثم قال: "لو كان الإِيمان عند الثريا لناله رجالٌ من هؤلاء" قال مجاهد: في تفسير الآية: هم الأعاجم وكلُّ من صدَّق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب {وهو العزيز الحكيم} أي القويُ الغالب في ملكه، الحكيم، في صنعه {ذلك فضلُ اللهِ يؤْتيه من يشاء} أي ذلك الشرف الذي امتاز به سيد البشر، وهو كونه مبعوثاً إِلى كافة الناس، وما شرَّف الله به العرب من نزول القرآن بلغتهم، وإِرسال خاتم الرسل إِليهم، هو فضلُ اللهِ يعطيه لمن يشاء من خلقه {واللهُ ذو الفضل العظيم} أي هو جل وعلا ذو الفضل الواسع على جميع خلقه في الدنيا والآخرة.

    عدم استجابة اليهود لأوامر التوراة

    {مثلُ الذين حُمِّلوا التوراة ثمَّ لم يحملوها كمثل الحمار يحملُ أسفاراً بِئس مثلُ القوم الَّذين كذَّبوا بآيات الله واللهُ لا يهدي القوم الظالمين(5)قل يا أيُّها الذين هادوا إن زعمتم أنَّكم أولياءُ لله من دون النَّاس فتمنَّوا الموتَ إِن كنتم صادقين(6)ولا يتمنونه أبداً بما قدَّمت أيديهم واللهُ عليمٌ بالظَّالمين(7)قل إِن الموت الَّذي تفروُّن منه فإِنَّه ملاقيكم ثم تردَّون إِلى عالم الغيب والشَّهادة فينبِّئكم بما كنتم تعملون(8)}.

    ثم شرع تعالى في ذم اليهود الذين أكرمهم الله بالتوراة، فلم ينتفعوا بها ولم يطبقوها، وشبَّههم بالحمار الذي يحمل الأسفار فقال {مثلُ الذين حُمِّلوا التوراة} أي مثل اليهود الذين أعطوا التوراة، وكُلفوا العمل بما فيها {ثم لم يحملوها} أي ثم لم يعملوا بها، ولم ينتفعوا بهديها ونورها {كمثل الحمار يحملُ أسفاراً} أي مثلهم كمثل الحمار الذي يحمل الكتب النافعة الضخمة، ولا يناله منها إِلا التعب والعناء وقال القرطبي: شبههم تعالى - والتوراة في أيديهم وهم لا يعملون بها - بالحمار يحمل كتباً، وليس له إلاّ ثقل الحمل من غير فائدة، فهو يتعب في حملها ولا ينتفع بما فيها وقال في حاشية البيضاوي: ذمَّ تعالى اليهود بأنهم قراءُ التوراة، عالمون بما فيها، وفيها ءاياتٌ دالة على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ووجوب الإِيمان به، ولكنهم لم ينتفعوا بها مما ينجيهم من شقاوة الدارين، وشبههم بالحمار الذي يحمل أسفار العلم والحكمة ولا ينتفع بها، ووجه التشبيه حرمان الانتفاع بما هو أبلغ شيء في الانتفاع، مع الكدِّ والتعب {بِئس مثلُ القوم الَّذين كذَّبوا بآيات الله} أي بئس هذا المثل الذي ضربناه لليهود، مثلاً للقوم الذين كذبوا بآيات الله، الدالة على نبوة محمد عليه الصلاة والسلام {واللهُ لا يهدي القوم الظالمين} أي لا يوفق للخير، ولا يرشد للإِيمان من كان ظالماً فاسقاً قال عطاء: هم الذين ظلموا أنفسهم بتكذيبهم للأنبياء، ثم كذَّب تعالى اليهود في دعوى أنهم أحبابُ الله فقال {قل يا أيها الذين هادوا} أي قل يا محمد لهؤلاء الذين تهودوا وتمسكوا بملة اليهودية {إن زعمتم أنكم أولياءُ لله من دون الناس} أي إن كنتم أولياء الله وأحباءه حقاً كما تدَّعون {فتمنوا الموتَ إِن كنتم صادقين} أي فتمنوا من الله أن يميتكم، لتنقلوا سريعاً إِلى دار كرامته المعدَّة لأوليائه، إِن كنتم صادقين في هذه الدعوى قال أبو السعود: كان اليهود يقولون: {نحن أبناءُ الله وأحباؤهُ} ويدَّعون أن الدار الآخرة لهم عند الله خالصة، ويقولون {لن يدخل الجنة إِلا من كان هوداً} فأمر الله رسوله أن يقول لهم إِظهاراً لكذبهم: إِن زعمتم ذلك فتمنوا الموت، لتنقلوا من دار البلاء إِلى دار الكرامة، فإِنَّ من أيقن بأنه من أهل الجنة، أحبَّ أن يتخلص إِليها من هذه الدار التي هي مقرُّ الأكدار، قال تعالى فاضحاً لهم، ومبيناً كذبهم {ولا يتمنونه أبداً بما قدَّمت أيديهم} أي ولا يتمنون الموت بحالٍ من الأحوال، بسبب ما أسلفوه من الكفر والمعاصي وتكذيب محمد عليه السلام وفي الحديث "والذين نفسي بيده، لو تمنوا الموتَ ما بقي على ظهرها يهودي إِلا مات" قال الألوسي: لم يتمنَّ أحدٌ الموت منهم، لأنهم كانوا موقنين بصدقه عليه السلام، فعلموا أنهم لو تمنوه لماتوا من ساعتهم، وهذه إِحدى المعجزات، وجاء في سورة البقرة نفيُ هذا التمني بلفظ {ولن} وهو من باب التفنن على القول المشهور {واللهُ عليمٌ بالظالمين} أي عالمٌ بهم وما صدر عنهم من فنون الظلم والمعاصي، وإِنما وضع الظاهر موضع الضمير "عليمٌ بهم" ذماً لهم، وتسجيلاً عليهم بأنهم ظالمون {قل إِن الموت التي تفرون منه} أي قل لهم يا محمد: إن هذا الموت الذي تهربون منه، وتخافون أن تتمنوه حتى بلسانكم {فإِنه ملاقيكم} أي فإِنه آتيكم لا محالة، لا ينفعكم الفرار منه كقوله تعالى {أينما تكونوا يدرككم الموتُ ولو كنتم في بروجٍ مشيدَّة} لأنه قدرٌ محتوم، ولا يغني حذرٌ عن قدر {ثم تردون إِلى عالم الغيب والشهادة} أي ثم ترجعون إِلى الله الذي لا تخفى عليه خافية {فينبئكم بما كنتم تعملون} أي فيجازيكم على أعمالكم، وفيه وعيدٌ وتهديد ..

    فريضة صلاة الجمعة

    {يا أيُّها الذين آمنوا إِذا نودي للصَّلاة من يوم الجمعة فاسْعوا إِلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خيرٌ لَّكم إن كنتم تعلمون(9)فإِذا قُضيت الصَّلاةُ فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضلِ الله واذكروا اللهَ كثيراً لَّعَّلكم تفلحون(10)وإِذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إِليها انفضُّوا إِليها وتركوك قائماً قل ما عند الله خيرٌ من اللَّهو ومن التِّجارة واللهُ خيرُ الرَّازقين(11)} .

    سبب النزول:

    نزول الآية (11):

    {وإذارأوا تجارة ..}: أخرج أحمد والشيخان (البخاري ومسلم) والترمذي عن جابر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة إذ أقبلت عِير قد قدمت، فخرجوا إليها حتى لم يبق معه إلا اثنا عشر رجلاً، فأنزل الله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائماً}.

    ثم شرع تعالى في بيان أحكام الجمعة فقال {يا أيها الذين آمنوا إِذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} أي يا معشر المؤمنين المصدّقين بالله ورسوله، إِذا سمعتم المؤذن ينادي لصلاة الجمعة ويؤذن لها {فاسْعوا إِلى ذكر الله وذروا البيع} أي فامضوا إِلى سماع خطبة الجمعة وأداء الصلاة، واتركوا البيع والشراء، اتركوا التجارة الخاسرة واسعوا إِلى التجارة الرابحة قال ابن جزي: والسعيُ في الآية بمعنى المشي لا بمعنى الجري لحديث "إِذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون، وأتوها وأنتم تمشون وعليكم السكينة" .. وقال الحسن: واللهِ ما هو بالسعي على الأقدام، ولقد نُهوا أن يأتوا الصلاة إِلا وعليهم السكينة والوقار، ولكنه سعيٌ بالقلوب، والنية، والخشوع {ذلكم خيرٌ لكم} أي ذلك السعي إِلى مرضاة الله، وتركُ البيع والشراء، خيرٌ لكم وأنفع من تجارة الدنيا، فإِن نفع الآخرة أجلٌّ وأبقى {إن كنتم تعلمون} أي إن كنتم من أهل العلم القويم، والفهم السليم {فإِذا قُضيت الصلاةُ} أي فإِذا أديتم الصلاة وفرغتم منها {فانتشروا في الأرض} أي فتفرقوا في الأرض وانبثوا فيه للتجارة وقضاء مصالحكم {وابتغوا من فضلِ الله} أي واطلبوا من فضل الله وإِنعامه، فإِن الرزق بيده جلَّ وعلا وهو المنعم المتفضل، الذي لا يُضيع عمل العامل، ولا يخيّب أمل السائل {واذكروا اللهَ كثيراً} أي واذكروا ربكم ذكراً كثيراً، باللسان والجنان، لا وقت الصلاة فحسب {لعلكم تفلحون} أي كي تفوزوا بخير الدارين قال سعيد بن جبير: ذكرُ الله طاعته، فمن أطاع اللهَ فقد ذكره، ومن لم يطعه فليس بذاكرٍ ولو كان كثير التسبيح .. ثم أخبر تعالى أنَّ فريقاً من الناس يؤثرون الدنيا الفانية على الآخرة الباقية، ويفضلون العاجل على الآجل فقال {وإِذا رأوا تجارةً أو لهواً انفضوا إِليها} هذا عتابٌ لبعض الصحابة الذين انصرفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وتركوه قائماً يخطب يوم الجمعة، والمعنى: إِذا سمعوا بتجارة رابحة، أو صفقةٍ قادمة، أو شيء من لهو الدنيا وزينتها، تفرقوا عنك يا محمد وانصرفوا إِليها، وأعاد الضمير إِلى التجارة دون اللهو {انفضُّوا إِليها} لأنها الأهم المقصود {وتركوك قائماً} أي وتركوا الرسول قائماً على المنبر يخطب قال المفسرون: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر يخطب يوم الجمعة، فأقبلت عيرٌ من الشام بطعام قدم بها "دحية الكلبي" - وكان أصاب أهل المدينة جوعٌ وغلاء سعر - وكانت عادتهم أن تدخل العير المدينة بالطبل والصياح سروراً بها، فلما دخلت العير كذلك انفضَّ أهل المسجد إِليها، وتركوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً على المنبر، ولم يبق معه إِلا اثني عشر رجلاً قال جابر بن عبد الله: أنا أحدهم فنزلت الآية قال ابن كثير: وينبغي أن يعلم أن هذه القصة كانت لمَّا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة كما هو الحال في العيدين، كما روى ذلك أبو داود {قل ما عند الله خيرٌ من اللهو ومن التجارة} أي قل لهم يا محمد: إِنَّ ما عند الله من الثواب والنعيم، خير مما أصبتموه من اللهو والتجارة {والله خير الرازقين} أي خير من رزق وأعطى، فاطلبوا منه الرزق، وبه استعينوا لنيل فضله وإِنعامه.

     
  2. #102
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة المنافقون

    الكذب من صفات المنافقين الذميمة

    دلائل كذب المنافقين

    تحذير المؤمنين من الأموال والأولاد، وحثهم على الإنفاق

    بَين يَدَيْ السُّورَة

    * سورة "المنافقون" مدنية، شأنها شأن سائر السور المدنية، التي تعالج "التشريعات والأحكام" وتتحدث عن الإِسلام من زاويته العملية وهي القضايا التشريعية.

    * والمحور الذي تدور عليه السورة الكريمة هو الحديث بإِسهاب عن النفاق والمنافقين، حتى سميت السورة بهذا الاسم الفاضح، الكاشف لأستار النفاق "سورة المنافقون".

    * تناولت السورة الكريمة في البدء أخلاق المنافقين، وصفاتهم الذميمة التي من أظهرها الكذب، ومخالفة الظاهر للباطن، فإِنهم يقولون بألسنتهم ما لا تعتقده قلوبهم، ثم تآمرهم على الرسول صلى الله عليه وسلم وعلى المسلمين، وقد فضحتهم السورة وكشفت عن مخازيهم وإِجرامهم، فهم بتظاهرهم بالإِسلام يصدُّون الناس عن دين الله وينالون من دعوة الإِسلام ما لا يناله الكفار المعلن لكفره، ولذلك كان خطرهم أعظم، وضررهم أكبر وأجسم {إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيراً}.

    * كما تحدثت السورة الكريمة عن مقالاتهم الشنيعة في حق الرسول صلى الله عليه وسلم، واعتقادهم بأنَّ دعوته ستضمحل وتتلاشى، وأنهم بعد عودتهم من "غزوة بني المصطلق" سيطردون الرسول والمؤمنين من المدينة المنورة، إِلى غير ما هنالك من أقوال شنيعة.

    * وختمت السورة الكريمة بتحذير المؤمنين من أن ينشغلوا بزينة الدنيا ولهوها ومتاعها عن طاعة الله وعبادته شأن المنافقين، وبيّنت أن ذلك طريق الخسران، وأمر بالإِنفاق في سبيل الله ابتغاء مرضاة الله، قبل أن يفوت الأوان بانتهاء الأجل، فيتحسر الإِنسان ويندم حيث لا تنفع الحسرة والندم.

    الكذب من صفات المنافقين الذميمة

    {إِذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إِنك لرسولُ الله والله يعلم إِنَّك لرسولُهُ واللهُ يشهد إِن المنافقين لكاذبون(1)اتخذوا أيمْانهم جُنَّةً فصدُّوا عن سبيل الله إنَّهُم ساءَ ما كانوا يعملون(2)ذلك بأنَّهُم آمنوا ثُمَّ كفروا فطُبع على قلوبهم فهم لا يفقهون(3)وإِذا رأيتهم تعجبك أجسامهم وإِن يقولوا تسمع لقولهم كأنَّهم خُشبٌ مُّسنَّدةٌ يحسبون كلَّ صيحةٍ عليهم هم العدوُّ فاحذرهم قاتلهم اللهُ أنَّى يُؤفكون(4)}.

    {إِذا جاءك المنافقون} أي إِذا أتاك يا محمد المنافقون وحضروا مجلسك كعبد الله بن سلول وأصحابه {قالوا نشهد إِنك لرسولُ الله} أي قالوا بألسنتهم نفاقاً ورياءً : نشهد بأنك يا محمد رسولُ الله، يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم قال أبو السعود : أكَّدوا كلامهم بإِنَّ واللام {إنك لرسول الله} للإِيذان بأنَّ شهادتهم هذه صادرة عن صميم قلوبهم، وخلوص اعتقادهم، ووفور رغبتهم ونشاطهم {واللهُ يعلم إِنك لرسوله} أي واللهُ جل وعلا يعلم أنك يا محمد رسولُه حقاً، لأنه هو الذي أرسلك، والجملةُ اعتراضية جيء بها لدفع توهم تكذيبهم في دعوى رسالته صلى الله عليه وسلم لئلا يتوهم السامع أن قولهم {إنك لرسولُ الله} كذبٌ في حدِّ ذاته قال ابن جزي : وقوله {واللهُ يعلم إِنك لرسوله} ليس من كلام المنافقين، وإِنما هو من كلام الله تعالى، ولو لم يذكره لكان يوهم أن قوله {واللهُ يشهد إِن المنافقين لكاذبون} إِبطالٌ للرسالة، فوسَّطه بين حكاية المنافقين وبين تكذيبهم ليزيل هذا الوهم وليحقق الرسالة ثم قال تعالى {واللهُ يشهدُ إِن المنافقين لكاذبون} أي يشهد بكذب المنافقين فيما أظهروه من شهادتهم وحلفهم بألسنتهم، لأنَّ من قال بلسانه شيئاً واعتقد خلافه فهو كاذب، والإِظهار في موضع الإِضمار {إن المنافقين} لذمهم وتسجيل هذه الصفة القبيحة عليهم، كما جاءت الصيغة مؤكدة بإِنَّ واللام زيادةً في التقرير والبيان {اتخذوا أيمْانهم جُنَّةً} أي اتخذوا أيمانهم الفاجرة وقاية وسُترةً يستترون بها من القتل قال الضحاك : هي حلفهم بالله إِنهم مسلمون {فصدُّوا عن سبيل الله} أي فمنعوا الناسَ عن الجهادِ، وعن الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم قال الطبري : أي أعرضوا عن دين الله الذي بعث به نبيه صلى الله عليه وسلم وشريعته التي شرعها لخلقه وقال ابن كثير: إِن المنافقين اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة، فاغترَّ بهم من لا يعرف جليَّة أمرهم، فاعتقدوا أنهم مسلمون، وهم في الباطن لا يألون الإِسلام وأهله خبالاً، فحصل بذلك ضررٌ كبير على كثير من الناس {إنهم ساء ما كانوا يعملون} أي قبح عملهم وصنيعهم لأنهم يظهرون بمظهر الإِيمان، وهم من أهل النفاق والعصيان، فبئست أعمالهم الخبيثة من نفاقهم وأيمانهم الكاذبة قال الصاوي: وساءَ كبئس في إرادة الذم، وفيها معنى التعجب وتعظيم أمرهم عند السامعين {ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا} أي ذلك الحلف الكاذب والصدُّ عن سبيل الله، بسبب أنهم آمنوا بألسنتهم وكفروا بقلوبهم قال أبو السعود: أي نطقوا بكلمة الشهادة عند المؤمنين، ثم نطقوا بالكفر عند شياطينهم المجرمين، وما فيه من الإِشارة بالبعيد "ذلك" للإِشعار ببعد منزلته في الشر {فطُبع على قلوبهم} أي ختم على قلوبهم فلا يصل إِليها هدى ولا نور {فهم لا يفقهون} أي فهم لا يعرفون الخير والإِيمان، ولا يفرقون بين الحسن والقبيح، لختم الله على قلوبهم {وإِذا رأيتهم تعجبك أجسامهم} أي وإِذا رأيتَ هؤلاء المنافقين، أعجبتك هيئاتهم ومناظرهم، لحسنها ونضارتها وضخامتها {وإِن يقولوا تسمع لقولهم} أي وإِن يتكلموا تُصغ لكلامهم، لفصاحتهم وذلاقة لسانهم قال ابن عباس: كان ابن سلول - رأس المنافقين - جسيماً، فصيحاً، ذلق اللسان، فإِذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم قوله، وكذلك كان أصحابه إِذا حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم يعجب الناس بهياكلهم {كأنَّهم خُشبٌ مُسندة} أي يشبهون الأخشاب المسنَّدة إِلى الحائط، في كونهم صوراً خالية عن العلم والنظر، فهم أشباحٌ بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام قال أبو حيان: شُبّهوا بالخشب لعزوب أفهامهم، وفراغ قلوبهم من الإِيمان، والجملة التشبيهية وصفٌ لهم بالجبن والخور، ولهذا قال {يحسبون كلَّ صيحةٍ عليهم} أي يظنون - لجبنهم وهلعهم - كل نداء وكل صوت، موجَّهاً إليهم، فهم دائماً في خوفٍ ووجل من أن يهتك الله أستارهم، ويكشف أسرارهم قال ابن كثير: كلما وقع أمر أو خوفٌ يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم قال مقاتل: إذا سمعوا نشدان ضالة، أو صياحاً بأي وجه كان، طارت عقولهم، وظنوا ذلك إيقاعاً بهم {هم العدوُّ فاحذرهم} أي هم الأعداء الكاملون في العداوة لك وللمؤمنين وإِن أظهروا الإِسلام، فاحذرهم ولا تأمنهم على سرّ، فإِنهم عيونٌ لأعدائك {قاتلهم اللهُ} جملة دعائية أي أخزاهم الله ولعنهم، وأبعدهم عن رحمته {أنَّى يُؤفكون} أي كيف يصرفون عن الهدى إِلى الضلال ؟ وكيف تضل عقولهم مع وضوح الدلائل والبراهين !؟ وفيه تعجيب من جهلهم وضلالهم، وانصرافهم عن الإِيمان بعد قيام البرهان، روى الإِمام أحمد عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إنَّ للمنافقين علامات يُعرفون بها: تحيتُهم لعنة، وطعامهم نُهبة، وغنيمتُهم غلول، لا يقربون المساجد إِلا هُجراً، ولا يأتون الصلاة إِلا دُبُراً، مستكبرين لا يألفون ولا يُؤْلفون، خشبٌ بالليل، صُخبٌ بالنهار).

    دلائل كذب المنافقين

    { وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسولُ الله لوَّوا رؤوسهم ورأيتهم يصدُّون وهم مُّستكبرون(5)سواءٌ عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر اللهُ لهم إنَّ الله لا يهدي القوم الفاسقين(6)هم الَّذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسولِ اللهِ حتى ينفضُّوا وللهِ خزائنُ السَّماواتِ والأرض ولكنَّ المنافقين لا يفقهون(7)يقولون لئن رَّجعنا إِلى المدينة ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ وللهِ العزَّة ولرسوله وللمؤمنين ولكنَّ المنافقين لا يعلمون(8)}.

    سبب النزول :

    نزول الآية (5) :

    {وإذا قيل لهم ..} : أخرج ابن جرير عن قتادة قال : قيل لعبد الله بن أبي : لو أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فاستغفر لك، فجعل يلوي رأسه، فنزلت فيه : {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله} الآية. وأخرج ابن المنذر عن عكرمة مثله.

    أن النبي صلى الله عليه وسلم غزا بني المصطِلق على ماء يقال له (الْمُرَيْسِيع) من ناحية (قُدَيد) إلى الساحل، فازدحم أجير لعمر يقال له (جَهْجاه) مع حَليف لعبد الله بن أُبي يقال له (سِنان) على ماء (بالْمُشَلِّل) فصرخ جهجاه بالمهاجرين، وصرخ سِنان بالأنصار، فلَطَم جهجاه سناناً، فقال عبد الله بن أُبي: أوَ قد فعلوها ! والله ما مثلنا ومَثَلُهم إلا كما قال الأول : سَمِّن كلبك يأكلْك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل - يعني محمداً صلى الله عليه وسلم - ثم قال لقومه: كُفُّوا طعامكم عن هذا الرجل، ولا تنفقوا على من عندّه حتى ينفضّوا ويتركوه، فقال زيد بن أرقم - وهو من رهط عبد الله -: أنت والله الذليل الْمُنْتَقَص في قومك، ومحمد صلى الله عليه وسلم في عز من الرحمن، ومودّة من المسلمين، والله لا أحبك بعد كلامك هذا أبداً، فقال عبد الله : اسكت إنما كنت ألعب. فأخبر زيد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، فأقسم بالله ما فعل ولا قال، فعذره النبي صلى الله عليه وسلم. قال زيد: فوجدت في نفسي ولامَني الناس، فنزلت سورة المنافقين في تصديق زيد وتكذيب عبد الله. فقيل لعبد الله: قد نزلت فيك ءايات شديدة، فاذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستغفر لك، فألوى برأسه، فنزلت الآيات. [متفق عليه].

    نزول الآية (6) :

    {استغفر لهم ..} : أخرج ابن جرير عن عروة قال : لما نزلت : {استغفرْ لهم أو لا تَسْتغفرْ لهم إنْ تَسْتغفِرْ لهم سبعين مرةً فلَنْ يَغْفِرَ الله لهم} [التوبة : 80] قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لأزيدن على السبعين"، فأنزل الله : {سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم ..} الآية.



    نزول الآيتين (7، 8) :

    أخرج البخاري كما تقدم وأحمد وغيرهما عن زيد بن أرقم قال : سمعت عبد الله بن أُبيْ يقول لأصحابه : {لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا} فلئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمِّي، فذكر ذلك عمي للنبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني النبي صلى الله عليه وسلم، فحدثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذَّبني، وصدّقه، فأصابني شيء لم يصبني مثله، فجلست في البيت، فقال عمي: ما أردتَ إلى أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقَتك، فأنزل الله : {إذا جاءك المنافقون} فبعث إِليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقرأها، ثم قال : "إن الله قد صدَّقك".

    {وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسولُ الله} أي وإِذا قيل لهؤلاء المنافقين : هلُمُّوا إِلى رسول الله حتى يطلب لكم المغفرة من الله {لوَّوا رؤوسهم} أي حركوها وهزوها استهزاءً واستكباراً {ورأيتهم يصدُّون وهم مستكبرون} أي وتراهم يعرضون عمَّا دُعوا إِليه، وهم متكبرون عن استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم، وجيء بصيغة المضارع ليدل على استمرارهم على الإِعراض والعناد قال المفسرون: لمَّا نزلت الآيات تفضح المنافقين وتكشف الأستار عنهم، مشى إِليهم أقرباؤهم من المؤمنين، وقالوا لهم: ويلكم لقد افتضحتم بالنفاق وأهلكتم أنفسكم، فائتوا رسول الله وتوبوا إِليه من النفاق واسألوه يستغفر لكم، فأبوا وحركوا رؤوسهم سخريةً واستهزاءً فنزلت الآية، ثم جاؤوا إِلى "ابن سلول" وقالوا له: امض إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم واعترفْ بذنبك يستغفر لك، فلوَّى رأسه إِنكاراً لهذا الرأي ثم قال لهم: لقد أشرتم عليَّ بالإِيمان فآمنتُ، وأشرتم عليَّ بأن أعطي زكاة مالي ففعلتُ، ولم يبق لكم إلاَّ أن تأمروني بالسجود لمحمد !! ثم بيَّن تعالى عدم فائدة الاستغفار لهم، لأنهم مردوا على النفاق فقال {سواءٌ عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم} أي يتساوى الأمر بالنسبة لهم، فإِنه لا ينفع استغفارك لهم شيئاً، لفسقهم وخروجهم عن طاعة الله ورسوله قال الصاوي: والآية للتيئيس من إِيمانهم أي إن استغفارك يا محمد وعدمه سواء، فهم لا يؤمنون لسبق الشقاوة لهم {لن يغفر اللهُ لهم} أي لن يصفح الله عنهم لرسوخهم في الكفر، وإِصرارهم على العصيان، ثم علَّله بقوله {إنَّ الله لا يهدي القوم الفاسقين} أي لا يوفق للإِيمان، من كان فاسقاً خارجاً عن طاعة الرحمن .. ثم زاد تعالى في بيان قبائحهم وجرائمهم فقال {هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسولِ اللهِ حتى ينفضُّوا} أي هم الفجرة الذين قالوا لا تنفقوا على المهاجرين حتى يتفرقوا عن محمد قال أبو حيّان: والإِشارة إِلى ابن سلول ومن وافقه من قومه، سفَّه أحلامهم في أنهم ظنوا أن رزق المهاجرين بأيديهم، وما علموا أن ذلك بيد الله تعالى، وقولهم {على من عندَ رسول الله} هو على سبيل الهزء، إذ لو كانوا مقرين برسالته ما صدر منهم ما صدر، والظاهر أنهم لم ينطقوا بنفس ذلك اللفظ، ولكنه تعالى عبَّر به عن رسوله إكراماً له وإِجلالاً {وللهِ خزائنُ السماواتِ والأرض} أي هو تعالى بيده مفاتيح الرزق يعطي من يشاء ويمنع من يشاء، ولا يملك أحدٌ أن يمنع فضل الله عن عباده {ولكنَّ المنافقين لا يفقهون} أي ولكنَّ المنافقين لا يفهمون حكمة الله وتدبيره، فلذلك يقولون ما يقولون من مقالات الكفر والضلال .. ثم عدَّد تعالى بعض قبائحهم وأقوالهم الشنيعة فقال {يقولون لئن رجعنا إِلى المدينة} أي يقولون لئن رجعنا من هذه الغزوة - غزوة بني المصطلق - وعدنا إِلى بلدنا "المدينة المنورة" {ليخرجنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ} أي لنجرجنَّ منها محمداً وصحبه، والقائل هو ابن سلول، وعنى بالأعز نفسه وأتباعه، وبالأذل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه قال المفسرون: لما قال ابن سلول ما قال ورجع إِلى المدينة، وقف له ولده "عبد الله" على باب المدينة واستلَّ سيفه، فجعل الناسُ يمرون به، فلما جاء أبوه قال له ابنه : وراءك، والله لا تدخل المدينة أبداً حتى تقول: إنَّ رسول الله هو الأعزُّ، وأنا الأذل فقالها، ثم جاء إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : بلغني أنك تريد أن تقتل أبي، فإِن كنت فاعلاً فمرني فأنا أحمل إِليك رأسه !! فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقى معنا {وللهِ العزَّة ولرسوله وللمؤمنين} أي لله جل وعلا القوة والغلبة ولمن أعزه وأيده من رسوله والمؤمنين لا لغيرهم، والصيغة تفيد الحصر قال القرطبي: توهموا أنَّ العزة بكثرة الأموال والأتباع، فبيَّن الله أن العزة والمنعة لله ولرسوله وللمؤمنين {ولكنَّ المنافقين لا يعلمون} أي ولكنَّ المنافقين لفرط جهلهم وغرورهم لا يعلمون أن العزة والغلبة لأوليائه دون أعدائه.

    تحذير المؤمنين من الأموال والأولاد، وحثهم على الإنفاق

    { يا أَيُّها الًّذين آمنوا لا تُلْهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون(9)وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدَكُم الموتُ فيقول ربِّ لولا أخَّرتني إِلى أجلٍ قريب فأصَّدَّق وأكنْ من الصَّالحين(10)ولن يُؤَخِّر اللهُ نفساً إِذا جاءَ أجلُها والله خبير بما تعملون(11)}.

    {يا أَيُّها الًّذين آمنوا لا تُلْهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله} لما ذكر قبائح المنافقين، نهى المؤمنين عن التشبه بهم في الاغترار بالأموال والأولاد ومعنى: لا تشغلكم أيها المؤمنون الأموال والأولاد عن طاعة الله وعبادته، وعن أداء ما ا فترضه عليكم من الصلاة، والزكاة، والحج، كما شغلت المنافقين قال أبو حيان: أي لا تشغلكم أموالكم بالسعي في نمائها، والتلذذ بجمعها، ولا أولادكم بسروركم بهم، وبالنظر في مصالحهم، عن ذكر الله وهو عام في الصلاة، والتسبيح، والتحميد، وسائر الطاعات {ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون} أي ومن تشغله الدنيا عن طاعة الله وعبادته، فأولئك هم الكاملون في الخسران، حيث آثروا الحقير الفاني على العظيم الباقي، وفضلوا العاجل على الآجل {وأنفقوا مما رزقناكم} أي وأنفقوا في مرضاة الله، من بعض ما أعطيناكم وتفضلنا به عليكم من الأموال {من قبل أن يأتي أحدَكُم الموتُ} أي قبل أن يحلَّ الموتُ بالإِنسان، ويصبح في حالة الاحتضار {فيقول ربِّ لولا أخرتني إِلى أجلٍ قريب} أي فيقول عند تيقنه الموت: يا ربِّ هلاَّ أمهلتني وأخرت موتي إِلى زمنٍ قليل !! {فأصَّدق وأكنْ من الصالحين} أي فأتصدق وأحسن عملي، وأصبح تقياً صالحاً قال ابن كثير: كلُّ مفرطٍ يندم عند الاحتضار، ويسأل طول المدة ليستدرك ما فات، ولكن هيهات {ولن يُؤَخر اللهُ نفساً إِذا جاء أجلُها} أي ولن يمهل الله أحداً أياً كان إِذا انتهى أجله، ولن يزيد في عمره، وفيه تحريضٌ على المبادرة بأعمال الطاعات، حذراً أن يجيء الأجل وقد فرَّط ولم يستعد للقاء ربه {والله خبير بما تعملون} أي مطلع وعالم بأعمالكم من خير أو شر، ومجازيكم عليها.

     
  3. #103
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة التغابن

    عظمة الله وآثار قدرته

    الإخبار عن البعث، وأحوال الأمم المكذبة

    الأمر بالاعتصام بالإيمان والتمسك بالقرآن

    كل الأمور لا تخرج عن قضاء الله وقدره

    التحذير من فتنة الأزواج والأولاد، والأمر بالإنفاق في سبيل الله

    بَين يَدَيْ السُّورَة

    * سورة التغابن من السور المدنية التي تعنى بالتشريع، ولكنَّ جوَّها جو السور المكية التي تعالج أصول العقيدة الإِسلامية.

    * تحدثت السورة الكريمة عن جلال الله وعظمته وآثار قدرته، ثم تناولت موضوع الإِنسان المعترف بربه، والإِنسان الكافر الجاحد بآلاء الله.

    * وضربت الأمثال بالقرون الماضية، والأمم الخالية، التي كذبت رسل الله، وما حلَّ بهم من العذاب والدمار، نتيجةً لكفرهم وعنادهم وضلالهم.

    * وأقسمت السورة على أن البعث حقٌّ لا بدَّ منه، أقرَّ به المشركون أو أنكروه.

    * وأمرت بطاعة الله وطاعة رسوله، وحذَّرت من الإِعراض عن دعوة الله.

    * كما حذَّرت من عداوة بعض الزوجات والأولاد، فإِنهم كثيراً ما يمنعون الإِنسان عن الجهاد والهجرة.

    * وختمت السورة بالأمر بالإِنفاق في سبيل الله لإِعلاء دينه، وحذرت من الشح والبخل، فإِن من صفات المؤمن الإِنفاق في سبيل الله ابتغاء مرضاته، وهو شطر الجهاد في سبيل الله.

    عظمة الله وآثار قدرته

    {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(1)هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ(2)خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ(3)يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ(4)}

    {يُسبّح للهِ ما في السماوات وما في الأرض} أي ينزه الله تعالى ويمجده جميع ما في السماوات والأرض من مخلوقات، تنزيهاً دائماً مستمراً بدون انقطاع، وصيغة المضارع تفيد التجدد والاستمرار {له المُلكُ وله الحمدُ} أي له جل وعلا المُلك التام والتصرف الكامل في خلقه، وهو المستحق للثناء وحده، لأن جميع النعم منه سبحانه وتعالى، وقدَّم الجار والمجرور فيهما لإِفادة حصر الملك والحمد فيه سبحانه {وهو على كل شيءٍ قدير} أي قادر على كل شيء، يغني ويفقر، ويعز ويذل، وإذا أراد شيئاً فإِنما يقول له كن فيكون، وهو كالدليل لما تقدم من أنَّ الملك والحمد له سبحانه {هو الذي خلقكم فمنكم كافرٌ ومنكم مؤمن} هذا تفصيلٌ لبعض آثار قدرته أي هو الذي خلقكم أيها الناس بهذا الشكل البديع المحكم، فكان يجب على كل واحدٍ منكم الإِيمان به، لكنْ منكم من كفر بربه، ومنكم من آمن وصدَّق بخالقه، قال الطبري: أي منكم كافرٌ بخالقه وأنه هو الذي خلقه، ومنكم مصدِّق به موقنٌ أنه خالقه وبارئه، وقدَّم الكافر على المؤمن، لكثرة الكفار وقلة المؤمنين {وإِن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله} {وقليلٌ من عبادي الشكور} {واللهُ بما تعملون بصير} أي عالمٌ بأحوالكم، مطَّلعٌ على أعمالكم، لا تخفى عليه خافية من شؤونكم وسيجازيكم عليها .. ثم فصَّل تعالى آثار قدرته ودلائل وحدانيته فقال {خلق السَّماوات والأرض بالحقِّ} أي خلقهما بالحكمة البالغة، المتضمنة لمصالح الدنيا والدين، لا عبثاً ولا لهواً {وصوَّركم فأحسن صُوركم} أي خلقكم في أحسن صورة وأجمل شكل، فأتقن وأحكم خلقكم وتصويركم كقوله تعالى {لقد خلقنا الإِنسان في أحسن تقويم} فإِن من نظر في شكل الإِنسان وهيئته وتناسب أعضائه، علم أن صورته أحسن صورة بالنسبة لسائر أنواع الحيوان، ومن حسن صورته أنه خلق منتصباً غير منكب على وجهه {وإِليه المصيرُ} أي وإِليه تعالى وحده المرجع والمآب، فيجازي كلاً بعمله {يعلم ما في السماوات والأرض} أي يعلم ما في الكائنات من أجرامٍ ومخلوقات {ويعلم ما تسرون وما تعلنون} أي ويعلم ما تخفونه وما تظهرونه من نواياكم وأعمالكم {واللهُ عليمٌ بذات الصدور} أي عالم بما في الصدور من الأسرار والخفايا، فكيف تخفى عليه أعمالكم الظاهرة؟ قال أبو حيّان: نبَّه تعالى بعلمه بما في السماواتِ والأرض، ثم بعلمه بما يخفيه العباد وما يعلنونه، ثم بعلمه بما أكنَّته الصدور، على أنه تعالى لا يغيب عن علمه شيء، لا من الكليات ولا من الجزئيات، فابتدأ بالعلم الشامل، ثم بسرِّ العباد وعلانيتهم، ثم بما تنطوي عليه صدورهم، وهذا كله في معنى الوعيد، إِذ هو تعالى المجازي عليه بالثواب والعقاب ..

    الإخبار عن البعث، وأحوال الأمم المكذبة

    {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(5)ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ(6)زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ(7)}

    ثم ذكَّرهم تعالى بما حلَّ بالكفار قبلهم فقال {ألم يأتكم نبأ الذين كفروا من قبل} أي ألم يأتكم يا معشر قريش خبر كفار الأمم الماضية كقوم عاد وثمود، ماذا حلَّ بهم من العذاب والنكال!! {فذاقوا وبال أمرهم} أي فذاقوا العقوبة الوخيمة على كفرهم في الدنيا {ولهم عذابٌ أليم} أي ولهم في الآخرة عذاب شديد موجع {ذلك بأنه كانت تأتيهم رسلهم بالبينات} أي ذلك العذاب الذي ذاقوه في الدنيا وما سيذوقونه في الآخرة، بسبب أنه جاءتهم رسلهم بالمعجزات الواضحات، والبراهين الساطعات، الدالة على صدقهم {فقالوا أبشرٌ يهدوننا}؟ أي فقالوا على سبيل الاستغراب والتعجب: أرسلٌ من البشر يصيرون هداةً لنا، قال الرازي: أنكروا أن يكون الرسول بشراً، ولم ينكروا أن يكون معبودهم حجراً، وذلك لقلة عقولهم وسخافة أحلامهم {فكفروا وتولَّوا} أي فكفروا بالرسول، وأعرضوا عن الإِيمان واتباع هدى الرحمن {واستغنى اللهُ} أي استغنى الله عن طاعتهم وعبادتهم، قال الطبري: أي استغنى اللهُ عنهم، وعن إِيمانهم به وبرسله {واللهُ غنيٌ حميد} أي غنيٌ عن خلقه، محمودٌ في ذاته وصفاته، لا تنفعه طاعة، ولا تضره معصية، لأنه مستغنٍ عن العالمين.. ثم أخبر تعالى عن إِنكارهم للبعث بعد تكذيبهم للرسالة فقال {زعم الذين كفروا أنْ لنْ يُبعثوا} أي ادعى كفار مكة وظنوا أن الله لن يبعثهم من قبورهم بعد موتهم أبداً {قل بلى وربي لتبعثُنَّ} أي قل لهم يا محمد: ليس الأمر كما زعمتم، وأقسم بربي لتخرجن من قبوركم أحياء ولتبعثنَّ {ثم لتنبؤُنَّ بما عملتم} أي ثم لتخبرنَّ بجميع أعمالكم، صغيرها وكبيرها، جليلها وحقيرها، وتُجزون بها {وذلك على اللهِ يسيرٌ} أي وذلك البعث والجزاء، سهلٌ هينٌ على الله، لأن الإِعادة أسهل من الابتداء، قال الرازي: أنكروا البعث بعد أن صاروا تراباً، فأخبر تعالى أن إِعادتهم أهونُ في العقول من إنشائهم ..

    الأمر بالاعتصام بالإيمان والتمسك بالقرآن

    {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ(8)يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(9)وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(10)}

    ولما بالغ في الإِخبار عن البعث، وذكر أحوال الأمم المكذبة، أمر بالاعتصام بالإِيمان والتمسك بالقرآن فقال {فآمنوا باللهِ ورسوله والنور الذي أنزلنا} أي فصدِّقوا بالله وبرسوله وبهذا القرآن الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم فإِنه النور الوضاء، المبدّد للشبهات، كما يبدد النور الظلمات {واللهُ بما تعملون خبير} أي لا تخفى عليه خافية من أعمالكم {يوم يجمعكم ليوم الجمع} أي واذكروا ذلك اليوم الرهيب - يوم القيامة - الذي يجمع الله فيه الخلائق كلها في صعيد واحد للحساب والجزاء، قال ابن كثير: سُمي "يوم الجمع" لأن الله تعالى يجمع فيه الأولين والآخرين في صعيد واحد، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر، كقوله تعالى {ذلك يومٌ مجموع له الناس وذلك يومٌ مشهود} {ذلك يومُ التَّغابن} أي ذلك هو اليوم الذي يظهر فيه غبن الكافر وخسارته بتركه الإِيمان، وذلك أن المؤمنين اشتروا الجنة بترك الدنيا، واشترى الكفار النار بترك الآخرة، فظهر غبن الكافرين، قال الخازن: وأصله من الغبن وهو أخذ الشيء بدون قيمته، والمغبونُ من غُبن أهله ومنازله في الجنة، وذلك لأن كل كافر له أهلٌ ومنزل في الجنة لو أسلم، فيظهر يومئذٍ غبن كل كافرٍ بتركه الإِيمان، ويظهر غبن كل مؤمن بتقصيره في الإِحسان {ومن يؤمنْ بالله ويعمل صالحاً يكفِّر عنه سيئاته} أي ومن يصدِّق بالله ويعمل عملاً صالحاً، يمح الله تعالى عنه ذنوبه {ويدخله جناتٍ تجري من تحتها الأنهار} أي ويدخله جنات النعيم، التي تجري من تحت أشجارها وقصورها أنهارُ الجنة {خالدين فيها أبداً} أي مقيمين في تلك الجنات أبد الحياة، لا يموتون ولا يُخرجون منها {ذلك الفوزُ العظيم} أي ذلك هو الفوز الذي لا فوز وراءه، والسعادة التي لا سعادة بعدها {والذينَ كفروا وكذبوا بآياتنا} أي والذين جحدوا بوحدانية الله وقدرته، وكذبوا بالدلائل الدالة على البعث وبآيات القرآن الكريم {أُولئك أصحابُ النار خالدين فيها} أي أولئك مآلهم جهنم، ماكثين فيها أبداً {وبئس المصير} أي وبئست النار مرجعاً ومستقراً لأهل الكفر والضلال ..

    كلالأمور لا تخرج عن قضاء الله وقدره

    {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ(11)وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ(12)اللَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ(13)}

    ثم أخبر تعالى بأن كل ما يحدث في الكون بقضائه وإِرادته فقال {ما أصاب من مُصيبةٍ إِلاَّ بإِذنِ الله} أي ما أصاب أحداً مصيبةٌ في نفسه أو ماله أو ولده، إِلا بقضاء الله وقدره {ومن يؤمن بالله يهد قلبه} أي ومن يصدِّق بالله ويعلم أن كل حادثةٍ بقضائه وقدره، يهدِ قلبه للصبر والرضا ويثبته على الإِيمان، قال ابن عباس: يهدِ قلبه لليقين، حتى يعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه وقال علقمة: هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى بها ويُسلم لقضاء الله {واللهُ بكل شيءٍ عليم} أي هو تعالى عالمٌ بكل الأشياء، لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، قال القرطبي: أي لا يخفى عليه تسليم من انقاد وسلَّم لأمره، ولا كراهة من كرهه ولم يرض بقضائه {وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول} أي أطيعوا أمر الله وأمر رسوله في كل ما شرع لكم من الأوامر والنواهي، وكرَّر الأمر للتأكيد ولبيان أن طاعة الرسول واجبة كطاعة الله {فإِن توليتم فإِنما على رسولنا البلاغُ المبين} أي فإِن أعرضتم عن إجابة الرسول فيما دعاكم إِليه من الهداية والإِيمان فليس عليه ضرر إِنما ضرر ذلك عليكم، إِذ ليس على الرسول إِلا تبليغ الرسالة وقد أدى ما عليه، والله ينتقم ممن عصاه وخالف أمره {اللهُ لا إِله إِلا هوَ} أ ي اللهُ جل وعلا لا معبود سواه، ولا خالق غيره، عليه الاعتماد وإِليه المرجع والمآب {وعلى الله فليتوكل المؤمنون} أي فعليه وحده توكلوا أيها المؤمنون في جميع أموركم، قال الصاوي: وهو تحريضٌ وحثٌ للنبي صلى الله عليه وسلم على التوكل على الله، والالتجاء إِليه، وفيه تعليمٌ للأمة ذلك، بأن يلتجئوا إِلى الله ويثقوا بنصره وتأييده.

    التحذير من فتنة الأزواج والأولاد، والأمر بالإنفاق في سبيل الله

    {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ(14)إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ(15)فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ(16)إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ(17)عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ(18)}

    سبب النزول:

    نزول الآية (14):

    {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم}: أخرج الترمذي والحاكم وابن جرير عن ابن عباس قال: نزلت هذه الآية: {يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم} في قوم من أهل مكة، أسلموا، فأبى أزواجهم وأولادهم أن يَدَعوهم، فأتوا المدينة، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، رأوا الناس قد فَقُهوا، فهمُّوا أن يعاقبوهم، فأنزل الله: {إن تعفوا وتصفحوا} الآية.

    سبب نزول الآية (16):

    {فاتقوا الله}: أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت: {اتقوا الله حق تقاته} اشتد على القوم العمل، فقاموا حتى وَرِمتْ عراقيبهم، وتقرحتْ جِباهم، فأنزل الله تخفيفاً على المسلمين: {فاتقوا الله ما استطعتم}.

    {يا أيها الذين آمنوا إِنَّ من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحْذروهم} أي يا معشر المؤمنين إِن بعض الزوجات والأولاد أعداء لكم، يصدونكم عن سبيل الله، ويثبطونكم عن طاعة الله، فاحذروا أن تستجيبوا لهم وتطيعوهم، قال المفسرون: إِن قوماً أسلموا وأرادوا الهجرة، فثبطهم أزواجهم وأولادهم عن الهجرة، فلم يهاجروا إِلا بعد مدة، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين، فندموا وأسفوا وهمُّوا بمعاقبة أزواجهم وأولادهم فنزلت الآية الكريمة، والآية تعم كلَّ من انشغل عن طاعة الله بالأزواج والأولاد {وإِنْ تعفوا وتصفحوا وتغفروا} أي وإِن عفوتم عنهم في تثبيطكم عن الخير، وصفحتم عما صدر منهم، وغفرتم لهم زلاتهم {فإِنَّ اللهَ غفورٌ رحيم} أي فإِن الله واسع المغفرة عظيم الرحمة، يعاملكم بمثل ما عاملتم {إنما أموالكم وأولادكم فتنةٌ} أي ليست الأموالُ والأولادُ إِلاّ اختباراً وابتلاءً من الله تعالى لخلقه، ليعلم من يطيعه ومن يعصيه، وقدَّم المال لأن فتنته أشدُّ {واللهُ عنده أجرٌ عظيمٌ} أي وما عند الله من الأجر والثواب أعظم من متاع الدنيا، فلا تشغلكم الأموال والأولاد عن طاعة الله، والآية ترغيبٌ في الآخرة وتزهيدٌ في الدنيا، وفي الأموال والأولاد التي فتن الناسُ بها {فاتقوا اللهَ ما استطعتم} أي ابذلوا أيها المؤمنون في طاعة الله جهدكم وطاقتكم، ولا تكلفوا أنفسكم ما لا تطيقون، قال المفسرون: هذا في المأمورات وفضائل الأعمال يأتي الإِنسان منها بقدر طاقته، وأما في المحظورات فلا بدَّ من اجتنابها بالكلية ويدل عليه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إذا أمرتكم بأمرٍ فائتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فاجتنبوه) {واسمعوا وأطيعوا} أي واسمعوا ما توعظون به، وأطيعوا فيما تُؤْمرون به وتُنهون عنه {وأنفقوا خيراً لأنفسكم} أي وأنفقوا في سبيل الله من أموالكم، يكنْ خيراً لأنفسكم {ومن يُوق شُحَّ نفسه فأولئك هم المفلحون} أي ومن سلم من البخل والطمع الذي تدعو إِليه النفس، فقد فاز بكل مطلوب {إنْ تقرضوا الله قرضاً حسناً يُضاعفه لكم} أي إِذا تصدقتم في سبيل الله عن طيب نفس، فإِن الله يضاعف لكم الأجر والثواب، وفي تصوير الصدقة بصورة القرض تلطفٌ بليغ في الإِحسان إِلى الفقراء {ويغفر لكم} أي ويمحُ عنكم سيئاتكم {والله شكورٌ حليم} أي شاكرٌ للمحسن إِحسانه حليمٌ بالعباد حيث لا يعاجلهم بالعقوبة مع كثرة ذنوبهم {عالم الغيبِ والشَّهادة} أي هو تعالى العالم بما غاب وحضر، لا تخفى عليه خافية {العزيز الحكيم} أي الغالب في ملكه الحكيم في صنعه.

     
  4. #104
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة الطلاق

    أحكام الطلاق والعدة وثمرات تقوى الله

    عدة المطلقة التي لا تحيض: كبيرة أو صغيرة أو حاملاً

    السكنى والنفقة للمعتدة، وأجرة الرضاع

    التحذير من عصيان الله وتعدي حدوده

    بَين يَدَيْ السُّورَة

    * سورة الطلاق مدنية وقد تناولت بعض الأحكام التشريعية المتعلقة بأحوال الزوجين، كبيان أحكام الطلاق السني وكيفيته، وما يترتب على الطلاق من العدة، والنفقة، والسكنى، وأجر المرضع إِلى غير ما هنالك من أحكام.

    * وتناولت السورة الكريمة في البدء أحكام الطلاق - الطلاق السُني، والطلاق البدعي - فأمرت المؤمنين بسلوك أفضل الطرق، عند تعذر استمرار الحياة الزوجية، ودعت إِلى تطليق الزوجة في الوقت المناسب وعلى الوجه المشروع، وهو أن يطلقها طاهراً من غير جماع، ثم يتركها إِلى انقضاء عدتها.

    * وفي هذا التوجيه الإِلهي دعوةٌ للرجال أن يتمهلوا ولا يسرعوا في فصل عرى الزوجية، فإِن الطلاق أبغض الحلال إِلى الله، ولولا الضرورات القسرية لما أُبيح الطلاق لأنه هدم للأسرة,

    * ودعت السورة إِلى إِحصاء العدة لضبط انتهائها، لئلا تختلط الأنساب، ولئلا يطول الأمد على المطلَّقة فيلحقها الضرر، ودعت إِلى الوقوف عند حدود الله، وعدم عصيان أوامره.

    * وتناولت السورة أحكام العدة، فبينت عدة اليائس التي انقطع عنها دم الحيض لكبرٍ أو مرض، وكذلك عدة الصغيرة، وعدة الحامل فبينته أوضح بيان مع التوجيه والإِرشاد.

    *وفي خلال تلك الأحكام التشريعية تكررت الدعوة إِلى "تقوى الله" بالترغيب تارةً، وبالترهيب أُخرى، لئلا يقع حيفٌ أو ظلم من أحد الزوجين، كما وضحت أحكام السكنى والنفقة.

    * وختمت السورة بالتحذير من تعدي حدود الله، وضربت الأمثلة بالأمم الباغية التي عتت عن أمر الله، وما ذاقت من الوبال والدمار، ثم أشارت إِلى قدرة الله في خلق سبع سماوات طباق، وخلق الأرضين، وكلها براهين على وحدانية رب العالمين.

    أحكام الطلاق والعدة وثمرات تقوى الله

    {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا(1)فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(2)وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(3)}

    سبب النزول:

    نزول الآية (1):

    أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني عن ابن عمر: "أنه طلّق امرأته، وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ منه، ثم قال: ليراجعْها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، فتطهر، فإن بدا له أن يطلِّقها فليطلّقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل".

    سبب نزول الآية (2):

    أخرج ابن مردويه والخطيب عن ابن عباس قال: "جاء عَوْف بن مالك الأشجعي، فقال: يا رسول الله، إن ابني أسره العدو، وجزعت أمه، فما تأمرني؟ قال: آمرك وإياها أن تستكثروا من: {لا حول ولا قوة إلا بالله} فقالت المرأة: نعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها، فتغفل عنه العدو، فاستاق غنمهم، فجاء بها إلى أبيه، فنزلت: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}".

    {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم والحكم عام له ولأمته، وخصَّ هو بالنداء صلى الله عليه وسلم تعظيماً له، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم يا فلان افعلوا أي افعل أنت وقومك، فهو نداء على سبيل التكريم والتعظيم، قال القرطبي: الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم خوطب بلفظ الجماعة {طلقتم} تعظيماً وتفخيماً والمعنى: يا أيها النبي ويا أيها المؤمنون إِذا أردتم تطليق النساء {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي فطلقوهن مستقبلات لعدتهن، وذلك في الطهر، ولا تطلقوهن في الحيض، قال مجاهد: أي طاهراً من غير جماع لقوله صلى الله عليه وسلم: (فليطلقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يُطلَّق لها النساء) قال المفسرون: وإِنما نُهي عن طلاق المرأة وقت الحيض لئلا تطول عليها العدة فتتضرر، ولأن حالة الحيض منفِّرة للزوج، تجعله يتسرع في طلاقها بخلاف ما إِذا كانت طاهراً، وكونه لم يجامعها في ذلك الطهر، لئلا يحصل من ذلك الوطء حملٌ، فتنتقل العدة من الحيض لوضع الحمل وفي ذلك ضرر ظاهر {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء كاملة لئلا تختلط الأنساب {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} أي خافوا الله ربَّ العالمين، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} أي لا تخرجوهن من مساكنهن، بعد فراقكم لهن إِلى أن تنقضي عدتهن {وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي ولا يخرجن من البيوت حتى تنقضي عدتهن، إلا إذا قارفت المطلقة عملاً قبيحاً كالزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها، قال ابن جزي: نهى الله سبحانه وتعالى أن يُخرج الرجلُ المرأة المطلَّقة من المسكن الذي طلقها فيه، ونهاها هي أن تخرج باختيارها، فلا يجوز لها المبيت خارجاً عن بيتها، ولا أن تغيب عنه نهاراً إِلا لضرورة التصرف، وذلك لحفظ النسب وصيانة المرأة، واختلف في الفاحشة التي تبيح خروج المعتدة فقيل: إِنها الزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها، وقيل إِنه سوء الكلام مع الأصهار وبذاءة اللسان فتخرج ويسقط حقها من السكنى، ويؤيده قراءة "إلا أن يفحشن عليكم" {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي وهذه الأحكام هي شرائع الله ومحارمه {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي ومن يخرج عن هذه الأحكام، ويتجاوزها إِلى غيرها ولا يأتمر بها، فقد ظلم نفسه بتعريضها للعقاب، وأضرَّ بها حيث فوَّت على نفسه إِمكان إِرجاع زوجته إِليه، قال الرازي: وهذا تشديدٌ فيمن يتعدى طلاق السنة، ومن يطلق لغير العدة {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} أي لا تعرف أيها السامع ماذا يُحدِث اللهُ بعد ذلك الطلاق من الأمر؟ فلعل الله يقلّب قلبه من بغضها إِلى محبتها، ومن الرغبة عنها إِلى الرغبة فيها، فيجعله راغباً في زوجته بعدما كان كارهاً لها، قال ابن عباس: يريد الندم على طلاقها، والمحبة لرجعتها في العدة {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي فإِذا شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي فراجعوهنَّ إِلى عصمة النكاح مع الإِحسان في صحبتهن كما أمر الله، أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن، قال المفسرون: الإِمساك بالمعروف هو إِحسان العشرة وتوفية النفقة، من غير قصد المضارة في الرجعة لتطول عليها العدة، والفراق بالمعروف هو أداء الصَّداق، والمتعة عند الطلاق، والوفاء بالشروط مع توفية جميع حقوقها {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي وأشهدوا عند الطلاق أو الرجعة، شخصين من أهل العدالة والاستقامة ممن تثقون في دينهما وأمانتهما، قال أبو حيّان: وهذا الإِشهاد مندوبٌ إِليه عند أبي حنيفة كقوله تعالى {وأشهدوا إِذا تبايعتم} وعند الشافعية واجبٌ في الرجعة، مندوبٌ إِليه في الفرقة {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} أي اشهدوا بالحق دون تحيز لأحد، خالصاً لوجه الله تعالى من غير تبديل ولا تغيير، ودون مراعاةٍ للمشهود له أو المشهود عليه {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي هذا الذي شرعناه من الأحكام، إِنما ينتفع ويتعظ به المؤمن الذي يخشى الله، ويخاف الحساب والعقاب في الدار الآخرة {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} أي ومن يراقب الله ويقف عند حدوده، يجعل له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يعلمه، قال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاءه رجلٌ فقال: إِنه طلَّق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه رادها إِليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب أحموقته ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس!! والله تعالى يقول {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} وإِنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجاً، عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وقال المفسرون: الآية عامة وقد نزلت في "عوف بن مالك الأشجعي" أسر المشركون ابنه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إِليه الفاقة وقال: إن العدوَّ أسر ابني وجزعتْ أمه فما تأمرني؟ فقال صلى الله عليه وسلم له: اتق الله واصبر، وآمرك وإِياها أن تستكثروا من قول "لا حول ولا قوة إلا بالله" ففعل هو وامرأته، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب، ومعه مائة من الإِبل غفل عنها العدو فاستاقها فنزلت {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} {وَمَنْ يتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي ومن يعتمد على الله، ويثقْ به فيما أصابه ونابه، فإِن الله كافيه، قال الصاوي: أي من فوَّض إِليه أمره كفاه ما أهمَّه، والأخذُ بالأسباب لا ينافي التوكل، لأنه مأمور به ولكنْ لا يعتمد على تلك الأسباب، وفي الحديث (لو توكلتم على الله حقَّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) {إنَّ اللهَ بالغُ أمرهِ} أي نافذُ أمره في جميع خلقه، يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء، قال ابن جزي: وهذا حض على التوكل وتأكيدٌ له،لأنالعبد إِذا تحقق أن الأمور كلها بيدالله، توكَّل عل الله وحده ولم يعوِّل على سواه {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أي قد جعل الله لكلِّ أمرٍ من الأمور، مقداراً معلوماً ووقتاً محدوداً، حسب الحكمة الأزلية، قال القرطبي: أي جعل لكلِّ شيءٍ من الشدة والرجاء أجلاً ينتهي إِليه.

    عدة المطلقة التي لا تحيض: كبيرة أو صغيرة أو حاملاً

    {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا(4)ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا(5)}

    سبب النزول:

    نزول الآية (4):

    أخرج ابن جرير وإِسحاق بن راهويه والحاكم والبيهقي عن اُبيْ بن كعب قال: لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عَدَد من عِدَد النساءَ، قالوا : قد بقي عدد من عِدَد النساء لم يذكرن: الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض، وأولات الأحمال، فأنزلت: {واللائي يئسن من المحيض} الآية.

    ثم بيَّن سبحانه حكم المطلَّقة التي لا تحيض لصغرها أو لكبر سنها فقال {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ} أي والنسوة اللواتي انقطع حيضهن لكبر سنهنَّ، إِن شككتم وجهلتم كيف تكون عدتهن؟ فهذا حكمهن {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} أي فعدةُ الواحدة منهن ثلاثة أشهر، كل شهرٍ يقوم مقام حيضة {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} أي وكذلك اللواتي لم يحضن لصغرهن عدتهن ثلاثة أشهر {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي والمرأة الحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل، سواءً كانت مطلقة، أو متوفى عنها زوجها {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} أي ومن يخشى الله في أقواله وأفعاله، ويجتنب ما حرَّم الله عليه، يسهِّل عليه أمره ويوفقه لكل خير {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} أي ذلك هو حكم الله وشرعه الحكيم، أنزله عليكم أيها المؤمنون لتأتمروا به، وتعملوا بمقتضاه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} أي ومن يتَّق ربه يمح عنه ذنوبه، ويضاعف له الأجر والثواب، قال الصاوي: كرر التقوى لعلمه سبحانه وتعالى أن النساء ناقصات عقلٍ ودين، فلا يصبر على أمورهن إِلا أهل التقوى، وقال أبو حيّان: لمَّا كان الكلام في أمر المطلقات، وكنَّ لا يطلَّقن إِلا عن بغض أزواجهنَّ لهنَّ، وقد ينسب الزوج إِليها ما يشينها وينفِّر الخُطَّاب عنها، فلذلك تكرر الأمر بالتقوى، وجاء مبرزاً في صورة شرط وجزاء {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ } الآية.

    السكنى والنفقة للمعتدة، وأجرة الرضاع

    {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى(6)لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا(7)}

    {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} أي أسكنوا هؤلاء المطلقات في بعض مساكنكم التي تسكنونها، على قدر طاقتكم ومقدرتكم، فإِن كان موسراً وسَّع عليها في المسكن والنفقة، وإِن كان فقيراً فعلى قدر الطاقة {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} أي ولا تضيقوا عليهن في السكنى والنفقة، حتى تضطروهن إِلى الخروج أو الافتداء {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ} أي وإِن كانت المطلَّقة حاملاً {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي فعلى الزوج أن ينفق عليها - ولو طالت مدة الحمل - حتى تضع حملها {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} أي فإِذا ولدت ورضيت أن ترضع له ولده {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي فعلى الرجل أن يدفع لها أجر الرضاعة، لأن الأولاد ينسبون إِلى الآباء، قال ابن جزي: والمعنى إِن أرضع هؤلاء الزوجات المطلقات أولادكم، فآتوهنَّ أجرة الرضاع وهي النفقة وسائر المؤن {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي وليأمر كلٌ منهما صاحبه بالخير، من المسامحة والرفق والإِحسان، قال القرطبي: أي ولْيقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل، والمعروف منها: إِرضاعُ الولد من غير أجرة، والمعروف منه، توفيرُ الأجرة عليها للإِرضاع {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} أي تضايقتم وتشددتم، وعسر الاتفاق بين الزوجين، فأبى الزوج أن يدفع لها ما تطلب، وأبت الزوجة أن ترضعه بأنقص من ذلك الأجر {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} أي فليستأجر لولده مرضعةً غيرها، وهو خبرٌ بمعنى الأمر أي فليسترضعْ لولده مرضعةً أُخرى، قال أبو حيان: وفيه عتابٌ للأم لطيف كما تقول لمن تطلب منه حاجة فيتوانى عنها: سيقضيها غيرك، تريد أنها لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم، قال الضحاك: إِن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإِن لم يقبل أُجبرت أمه على الرضاع بالأجر {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} هذا بيانٌ لقدر الإِنفاق والمعنى: لينفقْ الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير، على قدر وسعه وطاقته، قال ابن جزي: وهو أمرٌ بأن ينفق كل واحد على مقدار حاله، فلا يكلف الزوج ما لا يطيق، ولا تُضيَّع الزوجة بل يكون الحال معتدلاً، وفي الآية دليلٌ على أن النفقة تختلف باختلاف أحوال الناس يسراً أو عسراً {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ومن ضُيّق عليه رزقه فكان دون الكفاية {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} أي فلينفق على مقدار طاقته، وعلى قدر ما آتاه الله من المال {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} أي لا يكلف الله أحداً إِلا بقدر طاقته واستطاعته، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني، قال أبو السعود: وفيه تطييبٌ لقلب المعسر، وترغيبٌ له في بذل مجهوده، وقد أكد ذلك الوعد بقوله {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} أي سيجعل الله بعد الضيق الغنى، وبعد الشدة السعة والرخاء، وفيه بشارة للفقراء بفتح أبواب الرزق عليهم.

    التحذير من عصيان الله وتعدي حدوده

    {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا(8)فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا(9)أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءاياتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا(11)اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12)}

    ثم حذَّر تعالى من عصيانه وتعدي حدوده، وضرب الأمثال بالأمم السابقة فقال {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} أي وكثير من أهل قرية من الأمم السالفة {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} أي طغت وتمردت على أوامر الله وأوامر رسله {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} أي فجازيناها على عصيانها وطغيانها بأنواع العذاب الأليم، من الجوع والقحط وعذاب الاستئصال {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} أي عذاباً منكراً عظيماً يفوق التصور {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أي فذاقت عاقبة كفرها وطغيانها وتمردها على أوامر الله {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} أي وكانت نتيجة بغيها الهلاك والدمار، والخسران الذي ما بعده خسران .. ولمّا ذكر ما حلَّ بالأمم الطاغية، أمر المؤمنين بتقوى الله، تحذيراً من عقابه لئلا يصيبهم ما أصاب أولئك المجرمين فقال {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} أي هيأ الله لهم في الآخرة عذاب جهنم الشديد المؤبد {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} أي فخافوا الله واحذروا بطشه وانتقامه يا أصحاب العقول السليمة {الَّذِينَ آمَنُوا} أي أنتم يا معشر المؤمنين الذين صدقتم بالله ورسوله {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} أي قد أنزل الله إِليكم وحياً يتلى وهو القرآنُ الحكيم {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءاياتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} أي وأرسل إِليكم رسولاً وهو محمد صلى الله عليه وسلم يقرأ عليكم ءاياتِ الله، واضحات جليات، تبيِّن الحلال والحرام وما تحتاجون إِليه من الأحكام، قال أبو حيّان: والظاهر أن الذكر هو القرآن، وأن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي ليخرج المؤمنين المتقين، من الضلالة إِلى الهدى، ومن ظلمة الكفر والجهل إِلى نور الإِيمان والعلم {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا} أي ومن يُصدق بالله ويعمل بطاعته {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي يدخله في الآخرة جنات النعيم، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي ماكثين في تلك الجنان - جنان الخلد - أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} أي قد طيَّب الله رزقهم في الجنة ووسَّعه لهم، لأن نعيمها دائم لا ينقطع، قال الطبري: أي وسَّع لهم في الجنات الرزق، وهو ما رزقهم من المطاعم والمشارب وسائر ما أعدَّ لأوليائه فيها فطيَّبه لهم، وفي الآية معنى التعجب والتعظيم لما رزق الله المؤمن من الثواب .. ثم أشار تعالى إِلى آثار قدرته، وعظيم سلطانه وجلاله فقال {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي اللهُ العظيم الكبير هو الذي خلق بقدرته سبع سماواتٍ طباقاً، ومن الأرض كذلك خلق سبع أرضين بعضها فوق بعض بدون فتوق بخلاف السماوات {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} أي يتنزل وحيُ الله ويجري أمره وقضاؤه بين السماوات والأرضين {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لتعلموا أن من قدر على خلق ذلك قادر على كل شيءٍ {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي ولتعملوا أنه تعالى عالم بكل شي، لا تخفى عليه خافية.

     
  5. #105
    توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future توفيق has a brilliant future الصورة الرمزية توفيق
    تاريخ التسجيل
    11 / 09 / 2006
    الدولة
    فلسطين
    العمر
    52
    المشاركات
    4,013
    معدل تقييم المستوى
    4400

    افتراضي رد: تفسير القران الكريم

    سورة التحريم أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض نسائه التحذير من النار، والأمر بالتوبة النصوح نماذج من النساء المؤمنات والكافرات بَين يَدَيْ السُّورَة * سورة التحريم من السور المدنية التي تتناول الشؤون التشريعية، وهي هنا تعالج قضايا وأحكاماً تتعلق "ببيت النبوة" وبأُمهات المؤمنين أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم الطاهرات، وذلك في إِطار تهيئة البيت المسلم، والنموذج الأكمل للأسرة السعيدة. * تناولت السورة الكريمة في البدء الحديث عن تحريم الرسول صلى الله عليه وسلم لجاريته ومملوكته "مارية القبطية" على نفسه، وامتناعه عن معاشرتها إِرضاءً لرغبة بعض زوجاته الطاهرات، وجاء العتاب له لطيفاً رقيقاً، يشف عن عناية الله بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يُضيّق على نفسه ما وسَّعه الله له {يا أيها النبيُ لم تُحرّمُ ما أحلَّ اللهُ لك تبتغي مرضاة أزواجك ..} الآية. * ثم تناولت السورة أمراً على جانب كبير من الخطورة ألا وهو "إِفشاء السر" الذي يكون بين الزوجين، والذي يهدِّد الحياة الزوجية، وضربت المثل على ذلك برسول الله صلى الله عليه وسلم حين أسرَّ إِلى حفصة بسرٍّ واستكتمها إِياه، فأفشته إِلى عائشة حتى شاع الأمر وذاع، مما أغضب الرسول حتى همَّ بتطليق أزواجه {وإِذْ أسرَّ النبي إِلى بعض أزواجه حديثاً ..} الآية. * وحملت السورة الكريمة حملة شديدةً عنيفة، على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم حين حدث ما حدث بينهن من التنافس، وغيرة بعضهن من بعض لأمورٍ يسيرة، وتوعدتهن بإِبدال الله لرسوله عليه السلام بنساءٍ خير منهنَّ، انتصاراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم {عسى ربه إِن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، مسلماتٍ، مؤمنات، قانتات، تائبات ..} الآية. * وختمت السورة بضرب مثلين: مثل للزوجة الكافرة في عصمة الرجل الصالح المؤمن، ومثلاً للزوجة المؤمنة في عصمة الرجل الفاجر الكافر، تنبيهاً للعباد على أنه لا يغني في الآخرة أحدٌ عن أحد، ولا ينفع حسب ولا نسب، إِذا لم يكن عمل الإِنسان صالحاً {ضرب الله مثلاً للذين كفروا امرأة نوح وامرأة لوط، كانتا تحت عبدين من عبادنا صالحين فخانتاهما - أي كفرتا بالله ولم تؤمنا - فلم يغنيا عنهما من الله شيئاً وقيل ادخلا النار مع الداخلين * وضرب الله مثلاً للذين آمنوا امرأة فرعون إِذ قالت رب ابن لي عندك بيتاً في الجنة ..} الآيات. وهو ختم رائع يتناسق مع جوّ السورة وهدفها في ترسيخ دعائم الفضيلة والإيمان. أحوال النبي صلى الله عليه وسلم مع بعض نسائه {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(1)قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ(2)وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ(3)إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ(4)عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا(5)} سبب النزول: نزول الآية (1، 2): أخرج البخاري ومسلم في الصحيحين عن عائشة أنها قالت : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الْحَلْواء والعسل، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه، يمكث عند زينب بنت جحش، فيشرب عندها عسلاً، فتواطأتُ أنا وحفصة أنَّ أيّتنا دخل النبي صلى الله عليه وسلم عليها، فلتقل له : إني أجد منك ريح مَغَافير، أكلتَ مغافير، فقال : لا، بل شربت عسلاً عند زينب بنت جحش، ولن أعود إليه، وقد حلفتُ، لا تخبري بذلك أحداً". نزول الآية (5): {عسى ربّه ..}: أخرج البخاري عن أنس قال: قال عمر: اجتمع نساء النبّي صلى الله عليه وسلم في الغَيْرة عليه، فقلت: عسى ربّه إن طلقكنّ أن يبدله أزواجاً خيراً منكن، فنزلت هذه الآية. {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} الخطاب بلفظ النبوة مشعرٌ بالتوقير والتعظيم، والتنويه بمقامه الرفيع الشريف، فلم يخاطبه باسمه العلم كما خاطب سائر الرسل بقوله "يا إِبراهيم، يا نوحُ، يا عيسى بن مريم" وإِنما خاطبه بلفظ النبوة أو الرسالة، وذلك أعظم دليلٍ وبرهانٍ على أنه - صلوات الله عليه - أفضل الأنبياء والمرسلين ومعنى الآية: يا أيها الموحى إِليه من السماء، المنبأ بواسطة الأمين جبريل عليه السلام، لماذا تمنع نفسك ما أحلَّ الله لك من النساء؟‍ قال المفسرون: إِن رسول الله صلى الله عليه وسلم خلا بأم ولده "مارية" في بيت حفصة وعلمت بذلك فقال لها: اكتمي عليَّ وقد حرمت مارية على نفسي فنزلت الآية {يا أيها النبيُ لم تُحرّم ما أحلَّ الله لك} وفي افتتاح العتاب من حسن التلطف ما لا يخفى، فقد عاتبه على إِتعاب نفسه والتضييق عليها من أجل مرضاة أزواجه، كأنه يقول: لا تتعب نفسك في سبيل أزواجك، وأزواجك يسعين في مرضاتك، فأرح نفسك من هذا العناء {تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ}؟ أي تطلب رضا أزواجك بتحريم ما أحلَّ الله لك؟ قال ابن جزي: يعني تحريمه للجارية ابتغاء رضا حفصة، وهذا يدل على أنها نزلت في تحريم الجارية، وأما تحريم العسل فلم يقصد فيه رضا أزواجه وإِنما تركه لرائحته {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي والله واسع المغفرة، عظيم الرحمة، حيث سامحك في امتناعك عن مارية، وإِنما عاتبك رحمة بك، وفي هذا إِشارة إِلى أن عتابه في ذلك إِنما كان كرامةً له، وإِنما وقع العتاب لتضييقه عليه السلام على نفسه، وامتناعه مما كان له فيه أُنسٌ ومتعة، وبئس ما قاله الزمخشري في أن هذا كان منه صلى الله عليه وسلم زلة لأنه حرَّم ما أحل الله له الخ فإِن هذا القول قلة أدب مع مقام النبوة، وجهل بصفات المعصوم، فلم يكن منه صلوات الله عليه تحريمٌ للحلال كما زعم حتى تعتبر مخالفة ومعصية، وإِنما امتنع عن بعض إِمائه تطييباً لخاطر بعض أزواجه، فعاتبه الله تعالى عليه رفقاً به، وتنويهاً بقدره، وإِجلالاً لمنصبه عليه السلام أن يراعي مرضاة أزواجه بما يشق عليه، جرياً على ما أُلف من لطف الله تعالى به {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أي قد شرع الله لكم يا معشر المؤمنين ما تتحللون به من أيمانكم وذلك بالكفارة {وَاللَّهُ مَوْلاكُمْ} أي واللهُ وليُكم وناصركم {وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ} أي وهو العليم بخلقه الحكيم في صنعه، فلا يأمر ولا ينهى إلا بما تقتضيه الحكمة والمصلحة .. ثم شرع تعالى في بيان القصة التي حدثت لرسول الله صلى الله عليه وسلم مع بعض زوجاته فقال {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} أي واذكر حين أسرَّ النبي محمد صلى الله عليه وسلم إِلى زوجته حفصة خبراً واستكتمها إِياه، قال ابن عباس: هو ما أسرَّ إِلى حفصة من تحريم الجارية على نفسه، كما أخبرها بأن الخلافة بعده تكون في أبي بكر وعمر، وطلب منها ألا تخبر بذلك أحداً {فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ} أي فلما أخبرت بذلك السرِّ عائشة وافشته لها {وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ} أي وأطلع الله نبيه بواسطة جبريل الأمين على إفشائها للسرِّ {عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} أي أعلمها وأخبرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الحديث الذي أفشته معاتباً لها، ولم يخبرها بجميع ما حصل منها حياءً منه وكرماً، فإِن من عادة الفضلاء التغافل عن الزلات، والتقصير في اللوم والعتاب، قال الحسن: ما استقصى كريمٌ قط، وقال سفيان: ما زال التغافل من شيم الكرام، قال الخازن: المعنى أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر حفصة ببعض ما أخبرت به عائشة وهو تحريم مارية على نفسه، وأعرض عن ذكر الخلافة لأنه صلى الله عليه وسلم كره أن ينتشر ذلك في الناس {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ} أي فلما أخبر الرسول حفصة بأنها قد أفشت سرِّه {قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} أي قالت: من أخبرك يا رسول الله بأني أفشيتُ سرك؟ قال أبو حيان: ظنت حفصة أن عائشة فضحتها -وكانت قد استكتمتها - فقالت من أنبأك هذا على سبيل التثبت، فأخبرها أن الله جل وعلا هو الذي نبأه به فسكتت وسلَّمت {قَالَ نَبَّأَنِي الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} أي فقال عليه السلام: أخبرني بذلك ربُّ العزة، العليم بسرائر العباد، الخبير الذي لا تخفى عليه خافية {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} الخطاب لحفصة وعائشة، خاطبهما بطريق الالتفات ليكون أبلغ في معاتبتهما وحملهما على التوبة مما بدر منهما من الإِيذاء لسيد الأنبياء، وجوابه محذوف تقديره أي إِن تبتما كان خيراً لكما من التعاون على النبي صلى الله عليه وسلم بالإِيذاء {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي فقد زاغت ومالت قلوبكما عما يجب عليكما من الإِخلاص لرسول الله، بحب ما يحبه، وكراهة ما يكرهه {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} أي وإِن تتعاونا على النبي صلى الله عليه وسلم بما يسوؤه، من الوقيعة بينه وبين سائر نسائه {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ} أي فإِنَّ الله تعالى هو وليُّه وناصره، فلا يضره ذلك التظاهر منكما {وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} أي وجبريل كذلك وليه وناصره، والصالحون من المؤمنين، قال ابن عباس: أراد بصالح المؤمنين أبا بكر وعمر فقد كانا عوناً له عليه الصلاة والسلام عليهما، قال ابن جزي: معنى الآية: إِن تعاونتما عليه صلى الله عليه وسلم بما يسوؤه من إِفراط الغيرة، وإِفشاء سره ونحو ذلك، فإِنَّ له من ينصره ويتولاه، وقد ورد في الصحيح أنه لما وقع ذلك جاء عمر إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: ما يشقُّ عليك من شأن النساء؟ فإِن كنت طلقتهنَّ فإِنَّ الله معك وملائكته وجبريل، وأبو بكرٍ وعمر معك فنزلت الآية موافقة لقول عمر {وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} أي والملائكة الأبرار بعد حضرة الله، وجبريل، وصالح المؤمنين أعوانٌ لرسول الله صلى الله عليه وسلم على من عاداه، فماذا يفيد تظاهر امرأتين على من هؤلاء أعوانه وأنصارهُ؟ ‍‌ أفرد {جبريل} بالذكر تعظيماً له، وإِظهاراً لمكانته عند الله تعالى فيكون قد ذُكر مرتين: مرةً بالإِفراد، ومرةً في العموم، ووسَّط {صالح المؤمنين} بين جبريل والملائكة تشريفاً لهم، واعتناءً بهم، وإِشادةً بفضل الصلاح، وختم الآية بذكر {الملائكة} أعظم المخلوقات وجعلهم ظهراء للنبي عليه الصلاة و السلام ليكون أفخم بالنبي صلوات الله عليه، وعظم مكانته، والانتصار له، إِذ هم بمثابة جيشٍ جرارٍ، يملأ القفار، نصرةً للنبي المختار، فمن ذا الذي يستطيع أن يناوئ الرسول صلى الله عليه وسلم بعد ذلك؟ ثم خوَّف تعالى نساء النبي بقوله {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ} قال المفسرون: {عسى} من الله واجبٌ أي حقٌ واجب عل الله إِن طلقكنَّ رسوله {أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} أي أن يعطيه عليه السلام بدلكُنَّ زوجاتٍ صالحاتٍ خيراً وأفضل منكنَّ، قال القرطبي: هذا وعدٌ من الله تعالى لرسوله لو طلقهن في الدنيا أن يزوجه نساءً خيراً منهن، والله عالمٌ بأنه لا يطلقهن، ولكنْ أخبر عن قدرته، على أن رسوله لو طلقهن، لأبدله خيراً منهن، تخويفاً لهن .. ثم وصف تعالى هؤلاء الزوجات اللواتي سيبدله بهنَّ فقال {مُسْلِمَاتٍ} أي خاضعات مستسلماتٍ لأمر الله تعالى وأمر رسوله {مُؤْمِنَاتٍ} أي مصدقاتٍ بالله وبرسوله {قَانِتَاتٍ} أي مطيعاتٍ لما يُؤمرن به، مواظباتٍ على الطاعة {تائِبَاتٍ} أي تائباتٍ من الذنوب، لا يصررن على معصية {عَابِدَاتٍ} أي متعبداتٍ لله تعالى يكثرن العبادة، كأنَّ العبادة امتزجت، بقلوبهن، حتى صارت سجيةً لهن {سَائِحَاتٍ} أي مسافراتٍ مهاجراتٍ إلى الله ورسوله {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} أ ي منهنَّ ثيباتٍ، ومنهن أبكاراً، قال ابن كثير: قسمهن إِلى نوعين ليكون ذلك أشهى إِلى النفس، فإِنَّ التنوع يبسط النفس، وإِنما دخلت واو العطف هنا {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} للتنويع والتقسيم، ولو سقطت لاختل المعنى، لأن الثيوبة والبكارة لا يجتمعان، فتدبر سرَّ القرآن . التحذير من النار، والأمر بالتوبة النصوح {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ(6)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ(7)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ(8)يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ(9)}. ولما وعظ نساء الرسول موعظةً خاصة، أتبع ذلك بموعظةٍ عامةٍ للمؤمنين فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} أي يا من صدقتم بالله ورسوله وأسلمتم وجوهكم لله، احفظوا انفسكم، وصونوا أزواجكم وأولادكم، من نارٍ حامية مستعرة، وذلك بترك المعاصي وفعل الطاعات، وبتأديبهم وتعليمهم، قال مجاهد: أي اتقوا الله، وأوصوا أهليكم بتقوى الله، وقال الخازن: أي مروهم بالخير، وانهوهم عن الشر، وعلموهم وأدبوهم حتى تقوهم بذلك من النار، والمراد بالأهل النساءُ والأولاد وما ألحق بهما {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} أي حطبها الذي تُسعَّر به نار جهنم هو الخلائق والحجارة، قال المفسرون: أراد بالحجارة حجارة الكبريت، لأنها أشد الأشياء حراً، وأسرع اتِّقاداً، وعنى بذلك أنها مفرطة الحرارة، تتقد بما ذكر، لا كنار الدنيا تتقد بالحطب ونحوه، قال ابن مسعود: حطبها الذي يلقى فيها بنو آدم، وحجارةٌ من كبريت، أنتن من الجيفة {عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ} أي على هذه النار زبانيةٌ غلاظ القلوب، لا يرحمون أحداً، مكلفون بتعذيب الكفار، قال القرطبي: المراد بالملائكة الزبانية، وهم غلاظ القلوب لا يرحمون إِذا استرحموا، لأنهم خلقوا من الغضب، وحُبّب إِليهم عذاب الخلق كما حُبب لبني آدم أكل الطعام والشراب { لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ } أي لا يعصون أمر الله بحالٍ من الأحوال {وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} أي وينفِّذون الأوامر بدون إِمهال ولا تأخير .. ثم يقال للكفار عند دخولهم النار {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} أي لا تعتذروا عن ذنوبكم وإِجرامكم، فلا ينفعكم اليوم الاعتذار، لأنه قد قُدّم إِليكم الإِنذار والإِعذار {إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي إِنما تنالون جزاء أعمالكم القبيحة، ولا تظلمون شيئاً كقوله تعالى {اليوم تُجزى كلُّ نفسٍ بما كسبت لا ظلم اليوم إِن الله سريع الحساب} ثم دعا المؤمنين إِلى التوبة الصادقة الناصحة فقال {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} أي توبوا إِلى الله من ذنوبكم توبةً صادقةً خالصة، بالغةً في النصح الغاية القصوى، سئل عمر عن التوبة النصوح فقال: هي أن يتوب ثم لا يعود إِلى الذنب، كما لا يعود اللبن إِلى الضَّرْع، قال العلماء: التوبة النصوح هي التي جمعت ثلاثة شروط: الإِقلاع عن الذنب، والندم على ما حدث، والعزم على عدم العودة إِليه، وإِن كان الحق لآدمي زيد شرط رابع وهو: ردُّ المظالم لأصحابها {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} أي لعل الله يرحمكم فيمحو عنكم ذنوبكم، قال المفسرون: "عسى" من الله واجبة بمنزلة التحقيق، وهذا إِطماعٌ من الله لعباده في قبول التوبة، تفضلاً منه وتكرماً، لأن العظيم إذا وعد وفّى، وعادة الملوك أنهم إذا أرادوا فعلا قالوا "عسى" فهو بمنزلة المحقق {وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي ويدخلكم في الآخرة حدائق وبساتين ناضرة، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} أي يوم لا يفضح الله النبي وأتباعه المؤمنين أمام الكفار، بل يعزهم ويكرمهم، قال أبو السعود: وفيه تعريضٌ بمن أخزاهم اللهُ تعالى من أهل الكفر والفسوق {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} أي نور هؤلاء المؤمنين يضيء لهم على الصراط، ويسطع أمامهم وخلفهم وعن أيمانهم وشمائلهم، كإِضاءة القمر في سواد الليل {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا} أي يدعون الله قائلين: يا ربنا أكمل علينا هذا النور وأدمه لنا، ولا تتركنا نتخبط في الظلمات، قال ابن عباس: هذا دعاء المؤمنين حين أطفأ الله نور المنافقين، يدعون ربهم به إِشفاقاً حتى يصلوا إِلى الجنة {وَاغْفِرْ لَنَا} أي وامح عنا ما فرط من الذنوب {إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي إِنك القادر على كل شيء، من المغفرة والعقاب، والرحمة والعذاب .. ثم أمر تعالى بجهاد أعداء الله من الكفرة والمنافقين فقال {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدْ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} أي جاهد الكفار بالسيف والسِّنان، والمنافقين بالحجة والبرهان، لأن المنافقين يظهرون الإِيمان، فهم مسلمون ظاهراً فلذلك لم يؤمر عليه الصلاة والسلام بقتالهم {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} أي وشدِّد عليهم في الخطاب، ولا تعاملهم بالرأفة واللين، إِرعاباً وإِذلالاً لهم، لتنكسر صلابتهم وتلين شكيمتهم {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي ومستقرهم في الآخرة جهنم {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي وبئست جهنم مستقراً ومصيراً للمجرمين. نماذج من النساء المؤمنات والكافرات {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ(10)وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلا لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ(12)} ثم ضرب تعالى مثلاً للكفار في عدم انتفاعهم بصلة القرابة أو المصاهرة أو النكاح، لأن الأسباب كلها تنقطع يوم القيامة ولا ينفع إِلا العمل الصالح فقال {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ} أي مثَّل تعالى للكفار في عدم استفادتهم بقرابة المؤمنين، بحال امرأة نوحٍ وامرأة لوط {كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ} أي كانتا في عصمة نبيين عظيمين هما "نوح" و "لوط" عليهما السلام، وإِنما وصفهما بالعبودية تشريفاً وتكريماً لهما بإِضافتهما إِليه تعالى {فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} أي فخافت كل واحدة زوجها بالكفر وعدم الإِيمان، فلم يدفعا عن امرأتيهما - مع نبوتهما - شيئاً من عذاب الله {وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} أي وتقول لهما خزنة النار يوم القيامة: ادخلا نار جهنم مع سائر الداخلين، من الكفرة المجرمين قال القرطبي : ضرب تعالى هذا المثل تنبيهاً على أنه لا يغني في الآخرة أحدٌ عن قريب ولا نسيب، إِذا فرَّق بينهما الدين، كما لم يدفع نوح ولوط - مع كرامتهما على الله تعالى - عن زوجتيهما لما عصتا شيئاً من عذاب الله {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ} وهذا مثلٌ آخر للمؤمن في عدم تضرره ببقاء قريبه على الكفر إِذا كان هو مؤمناً، قال أبو السعود: أي جعل حالها مثلاً لحال المؤمنين في أن وصلة الكفر لا تضرهم، حيث كانت في الدنيا تحت أعدى أعداء الله "فرعون" وهي في أعلى غرف الجنة، قال المفسرون: واسمها "آسية بنت مزاحم" آمنت بموسى عليه السلام، فبلغ ذلك فرعون فأمر بقتلها، فنجَّاها الله من شره، فلم يضر امرأة فرعون اتصالها به وهو من أكفر الكافرين، ولم ينفع امرأة نوح ولوط اتصالهما بهما وهما رسولا ربِّ العالمين {إِذْ قَالَتْ رَبِّ} أي حين دعت ربها قائلةً: يا ربِّ اجعل لي قصراً مشيداً بجوار رحمتك في جنة النعيم، قال بعض العلماء: ما أحسن هذا الكلام فقد اختارت الجار قبل الدار حيث قالت {ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} فهي تطمع في جوار الله قبل طمعها في القصور، وفي الآية دليل على إِيمانها وتصديقها بالبعث {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} أي وأنقذني من كفر فرعون وطغيانه {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} أي وأنقذني من الأقباط، أتباع فرعون الطاغين، قال الحسن: لما دعت بالنجاة نجَّاها الله تعالى أكرم نجاة، فرفعها إِلى الجنة تأكل وتشرب وتتنعم {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ} أي ومريم ابنة عمران مثلٌ آخر في الإِيمان {الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} أي حفظت فرجها وصانته عن مقارنة الفواحش، فهي عفيفةٌ شريفة طاهرة، لا كما زعم اليهود عليهم لعنة الله، أنها زنت وأن ولدها عيسى ابن زنى {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} أي فنفخ رسولنا جبريل في فتحة جيبها، فوصل أثر ذلك إِلى فرجها فحملت بعيسى قال ابن كثير: إِن الله بعث جبريل فتمثل لها في صورة بشر، وأمره أن ينفخ بفيه في جيب درعها، فنزلت النفخة فولجت في فرجها فكان منه الحمل بعيسى عليه السلام {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} أي وآمنت بشرائع الله القدسية، وكتبه السماوية {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} أي وكانت من القوم المطيعين، العابدين لله عز وجل، وهو ثناءٌ عليها بكثرة العبادة والطاعة، والخشوع، وفي الحديث (كمل من الرجل كثير، ولم يكمل من النساء إِلا آسية امرأة فرعون، ومريم ابنة عمران، وخديجة بنت خويلد، وفضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام).

     

 
+ الرد على الموضوع
صفحة 21 من 33 الأولىالأولى ... 11 13 14 15 16 17 18 19 20 21 22 23 24 25 26 27 28 29 31 ... الأخيرةالأخيرة

معلومات الموضوع

الأعضاء الذين يشاهدون هذا الموضوع

الذين يشاهدون الموضوع الآن: 1 (0 من الأعضاء و 1 زائر)

     

مواقع النشر (المفضلة)

مواقع النشر (المفضلة)

ضوابط المشاركة

  • لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
  • لا تستطيع الرد على المواضيع
  • لا تستطيع إرفاق ملفات
  • لا تستطيع تعديل مشاركاتك