أما سورة الناس فقد تضمنت أيضا: مستعاذا به و مستعاذا منه و مستعيدا،
فأما المستعاذ به: فهو رب الناس ملك الناس إله الناس،
فذكر ربوبيته للناس و مُلكَه إياهم و إلهيته لهم، و لا بد من مناسبة في ذكر ذلك في الاستعاذة من الشيطان.
فأضافهم في الكلمة الأولى إلى ربوبيته المتضمنة لخلقهم و تربيتهم و تدبيرهم و إصلاحهم مما يُفسدهم. هذا معنى ربوبيته لهم و ذلك يتضمن قدرتَه التامة، و رحمتَه الواسعة، و علمَه بتفاصيل أحوالهم، و بإجابة دعواتهم و كشف كرباتهم.
و أضافهم في الكلمة الثانية إلى ملكه، فهو ملكُهم الحق، الذي إليه مفزَعهم في الشدائد و النوائب، فلا صلاح و لا قيام إلا به.
و أضافهم في الكلمة الثالثة إلى إلهيته، فهو إلههم الحق و معبودهم الذي لا إله سواه، و لا معبود لهم غيره، فكما أنه وحدَه هو ربهم و مليكهم لم يُشاركه في ربوبيته و لا في ملكه أحد، فكذلك هو وحده إلههم و معبودهم، فلا ينبغي أن يجعلوا معه شريكا في إلهيته، كما لا شريك معه في ربوبيته و ملكه.
و هذه طريقة القرآن يحتج عليهم بإقرارهم بهذا التوحيد على ما أنكروه من توحيد الإلهية و العبادة.
فإذا كان هو ربنا و مليكنا، فلا مفزع لنا في الشدائد سواء، و لا ملجأ لنا منه إلا إليه، و لا معبودَ لنا غيره، فلا ينبغي أن يُدعى و لا يُخافَ و لا يُرجى و لا يُحَب سواه، و لا يُذَل لغيره، و لا يُخضَع لسواه، و لا يُتوكل إلا عليه، لأن من ترجوه و تخافه و تدعوه إما أن يكون مربيك و القيمَ بأمورك، فهو ربك فلا رب سواه، أو تكونَ مملوكَه و عبَه الحق، فهو ملك الناس حقا و كلهم عبيده و مماليكه، أو يكون معبودَك و إلهك الذي لا تستغني عنه طرفة عين، بل حاجتك إليه أعظم من حاجتك إلى روحك و حياتك، و هو الإله الحق، إله الناس الذي لا إله لهم سواه، فهم جديرون أن لا يستعيذوا بغيره، و لا يستنصروا بسواه، فظهرت مناسبة هذه الإضافات الثلاث للإستعاذة من أعدى الأعداء و أعظمهم عداوة.
ثم إنه سبحانه كرر الإسم الظاهر و لم يوقع المُضمَرَ موقعه، فيقول: رب الناس و مليكهم و إلههم، تحقيقا لهذا المعنى، فأعاد ذكرهم عند كل اسم من أسمائه، و لم يعطف بالواو لما فيها من معنى المغايرة.
و قدم الربوبية؛ لعمومها و شمولها لكل مربوب، و أخر الإلهية لخصوصها، لأنه سبحانه إنما هو إله من عَبَدَه و وحده، و اتخذه إلها دون غيره، فمن لم يعبده و يوحده فليس بإلهه، و إن كان في الحقيقة لا إله سواه و لكن ترك إلهه الحق و اتخذ إلها غيره.
و وَسطَ صفة الملك بين الربوبية و الإلهية، لأن المَلٍكَ هو المتصرف بقوله و أمره، المطاعُ إذا أمر، فملكه لهم تابع لخلقه إياهم، فملكهم من كمال ربوبيته، و كونه إلههم الحق من كمال ملكه، فربوبيته تستلزم ملكه، و ملكه يستلزم إلهيته، فهو الرب الملك الإله، خلقهم بالربوبية و قهرهم بالملك و استعبدهم بالإلهية.
فتأمل هذه الجلالة و هذه العظمة التي تضمنتها هذه الألفاظ الثلاثة على أبدع نظام، و أحسن سياق: { رب الناس، ملك الناس، إله الناس} وقد اشتملت هذه الإضافات الثلاث على جميع قواعد الإيمان، و تضمنت معنى جميع أسمائه الحسنى لأن الإله هو الجامع لصفات الكمال و نعوت الجلال، فيدخل في هذا الاسم جميع الأسماء الحسنى؛ و لهذا كان القول الصحيح أن الله أصله الإله، و أن اسم الله تعالى هو الجامع لجميع معاني الأسماء الحسنى، و الصفات العليا، و أسرار كلام الله تعالى أجل و أعظم من أن تُدركها عقول البشر، و إنما غاية أولي العلم الاستدلال بما يظهر منها على ما وراءه.
..... يتبع ان شاء الله: الفرق بين استعاذة سورة الناس و سورة الفلق
مواقع النشر (المفضلة)